منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   صفحات من التاريخ وحضارات الأمم (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=201)
-   -   معارك وحروب (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=12267)

صائد الأفكار 6 - 12 - 2010 09:41 PM

41

فتح سمرقند
في سنة 93هـ وبعد أن فتح قتيبة بن مسلم الباهلي بخارى وما حولها، قال المجشر بن مزاحم السلمي لقتيبة : إن لي حاجة فأخلني ، فأخلاه ، فقال : إن أردت الصغد يوماً من الدهر فالآن ، فإنهم آمنون من أن تأتيهم من عامك هذا وإنما بينك وبينهم عشرة أيام ، قال: أشار بهذا عليك أحد ؟ قال : لا ، قال : فأعلمته أحداً ؟ قال :لا ، قال : والله لئن تكلم به أحد لأضربن عنقك .

فأقام يومه ذلك ، فلما أصبح من الغد دعا أخاه عبد الرحمن بن مسلم الباهلي فقال : سر في الفرسان والرماة ، وقدم الأثقال إلى مرو . فوجهت الأثقال إلى مرو يومه كله ، فلما أمسى كتب إليه : إذا أصبحت فوجه الأثقال إلى مرو ، وسر في الفرسان والرماة نحو الصغد ، واكتم الأخبار ، فإني بالأثر .

عبر عبد الرحمن ومن معه النهر ، وسار إلى سمرقند ، وعبر قتيبة بالأثر ، وعبر ومن معه نهر جيحون ، وحوصرت سمرقند .

استنجد ( غورك ) ملك الصغد بعد خوفه من طول الحصار بملك الشاش وبملك فرغانة ، وكتب إليهما : إن العرب إن ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أتونا به فانظروا لأنفسكم . فأجمع ملك الشاش وفرغانة على نجدة الصغد ، وأرسلا أن شاغلوا قتيبة ومن معه كي نفاجئهم على حين غرة .

انتخب أهل الشاش وفرغانة كل شديد السطوة من أبناء الملوك والأمراء والأشداء الأبطال وأمروهم أن يسيروا إلى قتيبة ليفاجئوه ، ولكن استطلاع قتيبة يقظ فجاءته الأخبار ، فانتخب ستمائة من أهل النجدة وجعل عليهم أخاه صالح بن مسلم أميراً ، ووضع على العدو عيوناً حتى إذا قربوا منه قدر ما يصلون إلى عسكره من الليل أدخل الذين انتخبهم فكلمهم وحضهم ، فخرجوا من العسكر عند المغرب ، فساروا ، فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم الذين وصفوا لهم ، ففرق صالح خيله، وأكمن كميناً عن يمينه ، وكميناً عن يساره ، وأقام هو وبعض فرسانه على قارعة الطريق ، حتى إذا مضى نصف الليل أو ثلثاه ، جاء العدو باجتماع وإسراع وصمت ، وصالح واقف في خيله ، فلما رأوه شدوا عليه ، حتى إذا اختلفت الرماح ، شد الكمينان عن يمين وعن شمال ، فلم نسمع إلا الاعتزاء ، فلم نر قوماً كانوا أشد منهم .

لم يفلت من هذه النجدات إلا النفر اليسير ، وغنم المسلمون أسلحتهم ، وقال بعض الأسرى : تعلمون أنكم لم تقتلوا في مقامكم هذا إلا ابن ملك ، أو بطل من الأبطال المعدودين بمئة فارس ، أو بألف فارس .

وقال فارس مسلم من الجند الذين كانوا في كمين صالح : إنا لنختلف عليهم بالطعن والضرب إذ تبينت تحت الليل قتيبة ، وقد ضربت ضربة أعجبتني وأنا أنظر إلى قتيبة ، فقلت : كيف ترى بأبي أنت وأمي ! قال: اسكت دق الله فاك ! قال: فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا الشريد ، وأقمنا نحوي الأسلاب ونحتز الرؤوس حتى أصبحنا ، ثم أقبلنا إلى العسكر ، فلم أر جماعة قط جاؤوا بمثل ما جئنا به ، ما منا رجل إلا معلق رأساً معروفاً باسمه ، وأسير في وثاقه.

لقد منع قتيبة بهذا الكمين وصول النجدات إلى ميدان المعركة ، مع إشغال النجدات قبل وصولها بكمين ليلي ، ريثما يتسنى له سحب قطعاته من حوالي أسوار سمرقند ، والقيام بحركة خاطفة ليلية للقضاء على أرتال النجدات في معركة ليلية ، في الوقت الذي يكون الكمين قد أوقف تقدمها.

نصب قتيبة المجانيق حول سمرقند ، ورمت بتركيز دقيق على سور المدينة ، فثلمت فيها ثملة ، فرممها المدافعون عنها بسرعة كبيرة ، وجاء رجل قام على الثلمة ، فشتم قتيبة ( بعربية فصيحة ) ، وكان مع قتيبة قوم رماة ، يُسمون ( رماة الحدق) لدقة تصويبهم ، فقال لهم قتيبة : اختاروا منكم رجلين ، فاختاروا ، فقال : أيكما يرمي هذا الرجل ، فإن أصابه فله عشرة آلاف ، وإن أخطأه قطعت يده ، فتلكأ أحدهما وتقدم الآخر ، فرماه فلم يخطئ عينه ، فأمر له بعشرة آلاف.

قال خالد مولى مسلم بن عمرو : كنت في رماة قتيبة ، فلما افتتحنا المدينة صعدت السُّور ، فأتيت مقام ذلك الرجل الذي كان فيه ، فوجدته ميتاً على الحائط ، ما أخطأت النشابة عينه حتى خرجت من قفاه.

قال غوزك( ملك الصُّغد) لقتيبة: إنما تقاتلني بإخواني وأهل بيتي ، فاخرج إليّ في العرب ، فغضب قتيبة عند ذلك ، وميز العرب من العجم ، وأمر العجم باعتزالهم ، وقدم الشجعان من العرب ، وأعطاهم جيد السلاح ، وزحف بالأبطال على المدينة ، ورماها بالمجانيق ، فثلم فيها ثلمة ، وقال قتيبة: ( ألحوا عليها حتى تعبروا الثلمة ) ، فقاتلوهم حتى صاروا على ثلمة المدينة ، عندها قال غوزك لقتيبة : ارجع عنا يومك هذا ونحن نصالحك غداً ، فقال قتيبة : لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثلمة ، ومجانيقنا تخطر على رؤوسهم ومدينتهم.

وسمع قسم من المسلمين قتيبة يناجي نفسه: حتى متى يا سمرقند يعشعش فيك الشيطان ، أما والله لئن أصبحت لأُحاولن من أهلك أقصى غاية.

وفي اليوم التالي ، والمسلمون على الثلمة ، عاود غوزك يطالب بالصلح ، فصالحه قتيبة على : الجزية ، وتحطيم الأصنام وما في بيوت النيران ، وإخلاء المدينة من المقاتلة ، وبناء مسجد في المدينة ووضع منبر فيه.

وتم الصلح ، وأخلوا المدينة ، وبنوا المسجد ، واستلم قتيبة ما صالحهم عليه ، وصلى في المسجد وخطب فيه ، وأتى بالأصنام ، وألقيت بعضها فوق بعض . حتى صارت كالقصر العظيم ، ثم أمر بتحريقها ، فتصارخ الأعاجم وتباكوا ، وقالوا: إن فيها أصناماً قديمة ، من أحرقها هلك ، فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي ، وجاء غوزك فنهى عن ذلك ، وقال لقتيبة: أيها الأمير ، إني لك ناصح ، وإن شكرك عليّ واجب ، لا تعرض لهذه الأصنام ، فقام قتيبة ، ودعا بالنار ، وأخذ شعلة بيده ، وقال : أنا أحرقها بيدي ، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون ، وسار إليها وهو يكبر الله عز وجل ، وألقى فيها النار ، فاحترقت ، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال.

وصنع غوزك طعاماً ، ودعا قتيبة ، فأتاه غي عدد من أصحابه، فلما تغدى ، استوهب منه المدينة ، فقال قتيبة: إني لا أريد منكم أكثر مما صالحتكم عليه ، ولكن لا بد من جند يقيمون عندكم من جهتنا ، وأن ينتقل عنها غوزك ، فانتقل عنها ملكها غوزك ، فتلا قتيبة ( وأنه أهلك عاداً الأولى ، وثمود فما أبقى ) ، ثم ارتحل قتيبة راجعا إلى مرو ، مستخلفاً على سمرقند أخاه عبد الله بن مسلم ، وخلّف عنده عدداً من الجند كبيراً ، وآلة من آلة الحرب كثيرة ، مع تعليمات حازمة تتعلق بالداخلين إلى سمرقند ، والخارجين منها.

وكان أهل خراسان يقولون : إن قتيبة غدر بأهل سمرقند ، فملكها غدراً .

صائد الأفكار 6 - 12 - 2010 09:42 PM

42

معركة الأرك
تولى أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي خلافة الموحدين بعد استشهاد أبيه مجاهدا ً ضد النصارى في الأندلس ، وذلك في جمادى الأولى سنة 580هـ.

وانشغل بإخماد الثورات التي قامت ضده في أفريقية ، حتى كتب ألفونسو السادس خطاباً يدعوه فيه إلى القتال فيه سخرية واستهانة بالمسلمين ، فلما قرأ أبو يوسف الخطاب كتب على ظهر رقعة منه : { ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون } الجواب ما ترى لا ما تسمع .


واشتد حنق أبي يوسف ، وأمر بالتأهب للحرب في الأندلس ، وأن يذاع الخطاب في جنود الموحدين ليثير غيرتهم ، فثار الناس للجهاد ودوت صيحة الجهاد في جميع أنحاء المغرب ضد النصارى ، وسير قواته إلى الأندلس ، وعبر إلى الجزيرة الخضراء في 20/7/591هـ ، ولم يسترح بها إلا قليلاً ، ثم بادر بالسير إلى قشتالة ، ولكنه لما علم أن ملك قشتالة قد حشد قواه شمال قلعة رباح على مقربة من قلعة الأرك – الأرك نقطة الحدود بين قشتالة والأندلس في حينه - اتجه بجيشه إلى ذلك المكان ، ولما وصل إلى قيد مسيرة يومين من جيش النصارى ضرب معسكره وعقد مجلساً من القادة والأشياخ للبحث في خطط المعركة .

مرت أيام عديدة لم يقع فيها اشتباك ، وسأل أبو يوسف مجلسه الاستشاري عن الخطة المناسبة ، وطلب رأي أبي عبد الله بن صناديد الذي كان من أعقل وأخبر زعماء الأندلس بمكائد الحروب ، الذي كان من آرائه أن توضع خطة موحدة لتسيير دفة الحرب ، وأن يجب اختيار قائد عام للجيش كله فاختار أبو يوسف كبير وزرائه أبا يحيى بن أبي حفص الذي امتاز بالفطنة والشجاعة .

وأن يتولى قيادة الأندلسيين زعماؤهم حتى لا تضعف حماستهم حينما يتولى الأجانب قيادتهم ، وأن يتولى الأندلسيون والموحدون لقاء العدو ومواجهة هجومه الأول ، وأما بقية الجيش المكون من قبائل البربر غير النظاميين وجمهرة كبيرة من المجاهدين والمحاربين فإنهم يكونون قوة احتياطية تقوم بالعون والإمداد ، وأما أبو يوسف المنصور فيستطيع بحرسه أن يرجح كفة الموقعة كلها ، ويجب أن يرابط بقواته وراء التلال على مسافة قريبة منا ، ثم ينقض فجأة على العدو ، كل هذه الآراء أبداها الزعيم الأندلسي ووافق عليها أبو يوسف المنصور وأمر بتنفيذها .

وحشد ألفونسو قوات هائلة من مملكته ، وقدم إليه فرسان قلعة رباح ، وفرسان الداوية ، واستطاع أن يحشد مائة ألف مقاتل في رواية ، وأكر عدد ذكرته الروايات ثلاثمائة ألف مقاتل ، ومع ذلك طلب مساعدة ملكي ليون ونافار النصرانيين اللذين جمعا حشوداً ولكنهما تباطآ في المجيء للمساعدة .

وفي 9 شعبان 591هـ كانت موقعة الأرك الفاصلة ، وأعد أبو يوسف المنصور جيشه الذي يساوي على الأغلب عدد جيش النصارى ، فاحتل الموحدون القلب ، واحتل الجناح الأيسر الجند العرب – أعقاب فاتحي المغرب المسلمين - ، ومعهم بعض القبائل البربرية تحت ألويتهم الخاصة ، واحتل الجناح الأيمن قوى الأندلس بقيادة عبد الله بن صناديد ، وتولى أبو يوسف قيادة القوة الاحتياطية مكونة من صفوة الجند ومن الحرس الملكي ، ودفعت صفوف المتطوعين ، ومعظمها مكون من الجنود الخفيفة إلى المقدمة لتفتتح القتال .

وقام خطيب وحرض المؤمنين على الجهاد وفضله ومكانته ، وأخذت الناس مواقعهم ، ونظم ملك قشتالة جنده ، وكانت قلعة الأرك تحمي موقعه من جانب ، وتحميه من الجانب الآخر بعض التلال ، ولا يمكن الوصول إليه إلا بواسطة طرق ضيقة وعرة ، و كان الجيش القشتالي يحتل موقعاً عالياً ، وكانت هذه ميزة له في بدء القتال .

ولما تقدمت صفوف المسلمين المهاجمة إلى سفح التل الذي يحتله ملك قشتالة ، واندفعت إليه تحاول اقتحامه ، انقض زهاء سبعة آلاف أو ثمانية آلاف من الفرسان القشتاليين كالسيل المندفع من عل ، فتزحزح قوم من المطّوّعة ، فصعد غبارها في الجو ، فقال أبو يوسف المنصور لخاصته : جددوا نياتكم وأحضروا قلوبكم ، ثم تحرك وحده ، وسار منفرداً ، ومر على القبائل والصفوف ، وحثهم على الثبات .

لقد رد المسلمون هجمات القشتاليين مرتين ، ولكن العرب والبربر استنفدوا جميع قواهم لرد هذا الهجوم العنيف ، وعززت قوات القشتاليين بقوى جديدة وهجموا للمرة الثالثة ، وضاعفوا جهودهم ، واقتحموا صفوف المسلمين وفرقوها ، وقتلوا قسماً منها ، وأرغم الباقون على التراجع ، واستشهد آلاف من المسلمين في تلك الصدمة ، منهم القائد العام أبو يحيى بن أبي حفص ، الذي سقط وهو يقاتل بمنتهى البسالة .

واعتقد النصارى أن النصر قد لاح لهم بعد أن حطموا قلب جيش الموحدين ، ولكن الأندلسيين وبعض بطون زناته ، وهم الذين يكونون الجناح الأيمن ، هجموا عندئذ بقيادة أبي عبد الله بن صناديد على قلب الجيش القشتالي ، وقد أضعفه تقدم الفرسان القشتاليين ، وكان يتولى قيادته ملك قشتالة نفسه ، يحيط به عشرة آلاف فارس فقط ، منهم فرسان الداوية وفرسان قلعة رباح ، فلقي ألفونسو المسلمين بقيادة ابن صناديد دون وجل ، ونشبت بين الفريقين معركة حامية استمرت سويعات ، واستبدل النقص في العدد بالإقدام والشجاعة ، حتى أنه لما زحف زعيم الموحدين في حرسه وقواته الاحتياطية ، ورد تقدم الفرسان القشتاليين ، واضطرهم إلى الفرار في غير انتظام ، لم يغادر ألفونسو وفرسانه العشرة آلاف مكانهم في القلب ، ذلك لأنهم أقسموا جميعاً بأن يموتوا ولا يتقهقروا ، فاستمرت المعركة على اضطرامها المروع ، والفريقان يقتتلان .

وأيقن الموحدون بالنصر حينما انحصرت المقاومة في فلول من النصارى التفت حول ملك قشتالة ، وهجم أمير الموحدين في مقدمة جيشه لكي يجهز على هذه البقية ، أو يلجئها إلى الفرار ، فنفذ إلى قلب الفرسان النصارى .

ولم يشأ ألفونسو بالرغم من اشتداد ضغط المسلمين عليه من كل صوب ، ومواجهته لخطر الهلاك ، أن ينقذ نفسه بالفرار ، وأن يتحمل عار الهزيمة ، وتساقط معظم الفرسان النصارى حول ملكهم مخلصين لعهدهم ، ولكن بقية قليلة منهم استطاعت أن تنجو وأن تقتاد الملك بعيداً عن الميدان ، وأن تنقذ بذلك حياته .

وانتهى يوم الأرك بهزيمة النصارى على نحو مروع ، وسقط منهم في القتال ثلاثون ألف قتيل ، وأسروا عشرين ألفاً ، وغنم المسلمون معسكر الأسبان بجميع ما فيه من المتاع والمال ، واقتحموا عقب المعركة حصن الأرك ، وقلعة رباح المنيعتين .

صائد الأفكار 6 - 12 - 2010 09:43 PM

43

فتح عمورية
كتب بابك الخرمي إلى حليفه إمبراطور الروم البيزنطيين تيوفيل بن ميخائيل بن جورجس عندما ضيقت عليه جيوش المعتصم الحصار قائلاً : ( إن ملك العرب – المعتصم – قد جهز إلي جمهور جيشه ولم يبق في أطراف بلاده من يحفظهاp فإن كنت تريد الغنيمة فانهض سريعاً إلى ما حولك من بلاده فخذها ، فإنك لا تجد أحداً يمانعك عنها .. فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك ) .

كل ذلك طمعاً من بابك في أن يتحرك الروم للتخفيف عنه وكشف بعض ما هو فيه ، فخرج تيوفيل في سنة 223هـ بعد سنتين من رسالة بابك ، وانقض تيوفيل على مدينة زبطرة وأعمل بها السيف ، وقتل الصغير والكبير بلا إنسانية ولا رحمة ، وسبى من النساء أكثر من ألف امرأة بعد ذبح أطفالهن ، ومثل بمن صار في يده من المسلمين ، وسمل أعينهم ، وقطع آذانهم وآنافهم ، ثم أغار على ملطية فأصابها ما أصاب زبطرة ، فضج المسلمون في مناطق الثغور كلها ، واستغاثوا في المساجد والطرقات ، وبلغ الخبر المعتصم فاستعظمه ، وبلغه أن هاشمية صاحت وهي في أيدي الروم : وامعتصماه ، فأجاب وهو على سريره : لبيك لبيك ، ونادى بالنفير العام ، ونهض من ساعته .

وأورد أحد المؤرخين : أن صاحب عمورية من ملوك الروم كانت عنده شريفة من ولد فاطمة رضي الله عنها ، مأسورة في خلافة المعتصم بن الرشيد فعذبها فصاحت الشريفة فعذبها ، فصاحت الشريفة : وامعتصماه ، فقال لها الملك : لا يأتي لخلاصك إلا على أبلق – فرس فيه سواد وبياض – فبلغ ذلك المعتصم فنادى في عسكره بركوب الخيل البلق ، وخرج وفي مقدمة عسكره أربعة آلاف أبلق ، وأتى عمورية وفتحها ، وخلص الشريفة وقال : ( اشهدي لي عند جدك أني أتيت لخلاصك ، وفي مقدمة عسكري أربعة آلاف أبلق ) .

ولما انتهى الخبر بما جرى في الثغور إلى المعتصم فصاح في قصره : النفير النفير ، وأحضر القاضي عبد الرحمن بن إسحاق وشعيب بن سهل ومعهما ثلاث مئة وثمانية وعشرون رجلاً من أهل العدالة ، فأشهدهم على ما وقف من ضياع ، فجعل ثلثاً لولده ، وثلثاً لله ، وثلثاً لمواليه ، ثم أرسل نجدة لأهل الثغور يؤمنون الناس حتى عادوا إلى قراهم .

وعندما سار المعتصم باتجاه الثغور تساءل : أي بلاد الروم أمنع وأحصن ؟ فقيل : عمورية ، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام ، وهي عين النصرانية وبنكها ، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية ، فسار باتجاهها ، بجهاز عظيم من السلاح والعدد وآلات الحصار والنفط ، وعندما وصل الجيش الإسلامي بلاد الروم أقام على نهر اللامس – الحد الفاصل بين الخلافة العباسية والدولة البيزنطية ، على ضفتيه كانت تتم مبادلة الأسرى – ومن ضفاف نهر اللامس سير المعتصم الأفشين شمالاً وهدفه أنقرة ، وسير خلفه أشناس ، ثم سار خلفهما ، فكان معهما قبالة أنقرة في 25 شعبان 223هـ ، ففتحها بسهولة ، اتجه بعدها إلى عمورية .

واجتمعت كل العساكر بقيادة المعتصم عند عمورية ، فركب ودار حولها دورة كاملة ، وقسمها بين القواد ، جاعلاً لكل واحد منهم أبراجاً من سورها ، وذلك على قدر كثرة أصحابه وقلتهم ، وصار لكل قائد منهم ما بين البرجين إلى عشرين برجاً .

أما أهل عمورية فقد تحصنوا داخل أسوار مدينتهم ، متخذين ما استطاعوا من الحيطة والاحتراز .

وعلم المعتصم من عربي متنصر ، تزوج في عمورية وأقام بها ، أن موضعاً من المدينة جاءه سيل شديد ، فانهار السور في ذلك الموضع فكتب ملك الروم إلى ياطس عامله على عمورية أن يعيد ذلك الموضع ويعيد تشييده ، تحسباً لنتائج فعلته في زبطرة والثغور الإسلامية ، فتوانى باطس في بنائه وترميمه ، وعندما علم أن تيوفيل خرج من القسطنطينية إلى بعض المواقع متفقداً ، تخوف ياطس أن يمر تيوفيل على عمورية فيرى جانباً من سورها لم يرمم ، فوجه باطس الصناع والبنائين فبنوا وجه السور بالحجارة حجراً حجراً ، وتركوا وراءه من جانب المدينة حشواً ثم عقدوا فوقه الشرف ، فبدأ كما كان .

ولما علم المعتصم بذلك أمر بضرب خيمته تجاه هذا الموضع ، ونصب المجانيق عليه ، وبدأت المجانيق الضخمة مع آلات الحصار الأخرى تعمل عملها ، فانفرج السور من ذلك الموضع ، فلما رأى أهل عمورية انفراج السور دعموه بالأخشاب الضخمة كل واحدة إلى جانب الأخرى لا فرجة بينهما ، فكان الحجر إذا وقع على الخشب تكسر فيهرع المحاضرون لتدعيم السور بأخشاب ضخمة جديدة ليحموا السور من الانهيار .

وعندما توالت قذائف المجانيق على هذا الموضع الواهن انصدع السور فكتب ياطس إلى تيوفيل كتاباً يعلمه فيه بأمر السور وحرج الموقف وقوة الحصار ، ووجه الكتاب مع رجل يتقن العربية ومعه غلام رومي ، فانكشف أمر الرجلين للمعتصم ، واستمر جند المعتصم يبيتون بالتناوب على ظهور الدواب في السلاح ودوابهم بسروجها حتى انهدم السور ما بين برجين ، من الموضع الذي وصف للمعتصم أنه لم يحكم عمله .

ودوى في فضاء عمورية صوت اهتزت له جنباتها ، إثر تهدم جانب السور ، فطاف رجال المسلمين يبشرونهم أن الصوت الذي سمع ، صوت السور فطيبوا نفساً بالنصر .

لقد فعلت المجانيق فعلتها في السور وتنبه المعتصم إلى سعة الخندق المحيط بعمورية وطول سورها ، فأمر ببناء مجانيق ضخمة كبيرة يعمل على كل منها أربعة رجال ، وللوصول إلى السور كان لا بد من ردم أجزاء من الخندق ، فدفع لكل جندي شاة لينتفع من لحمها وليحشو جلدها تراباً ، ثم جمـع (سلاح المهندسين ) الجلود المملوءة تراباً وطرحها في الخندق .

كما أمر المعتصم مفارز الفعلة بأن تردم جوانب من الخندق المحيط بسور عمورية مستفيدة من جلود الغنم المملوءة تراباً ، كي يمكن الدبابات من الوصول إلى السور، وكلف مفارز من الرجالة بحماية العاملين وبردم الخندق ، وحماية العاملين في الدبابات أثناء قيامها بالواجبات المترتبة على كل منها .

وطرح العاملون من الفعلة الجلود فلم تقع مستوية منضدة بسبب تكثيف الروم رميهم الحجارة على العاملين بردم الخندق فجاءت الجلود في الخندق غير مستوية فطرحوا فوقها التراب حتى أصبحت مستوية .

وفي صباح يوم جديد من الحصار بدأ القتال على الثلمة التي فتحت في السور ولكن الموضع كان ضيقاً لم يمكنهم من اختراق الثلمة فأمر المعتصم بالمنجنيقات الكبار التي كانت متفرقة حول السور فجمع بعضها إلى بعض ، وجعلها تجاه الثلمة ، وأمر أن يرمى ذلك الموضع لتتسع الثلمة ، ويسهل العبور ، وبقي الرمي ثلاثة أيام فاتسع لهم الموضع المنثلم ، واستخدمت أكباش الدبابات أيضاً لتوسيع الثلمة .

وركب المعتصم حتى جاء فوقف حذاء البرج الذي يقاتل فيه ياطس فصاح بعض الجند العرب : يا ياطس ، هذا أمير المؤمنين ، فصاح الروم من فوق البرج : ليس ياطس هاهنا ، فغضب المعتصم لكذبهم وتوعد فصاحوا : هذا ياطس ، هذا ياطس ، فصعد جندي على أحد السلالم التي هيئت أثناء الحصار ، وقال لياطس : هذا أمير المؤمنين فانزل على حكمه ، فخرج ياطس من البرج متقلداً سيفاً حتى وقف على البرج والمعتصم ينظر إليه فخلع سيفه من عنقه ، ودفعه إلى الجندي العربي الذي صعد إليه ، ثم نزل ياطس ليقف بين يدي المعتصم ، معلناً سقوط عمورية بيد المعتصم وجنده .

لقد سقطت عمورية بعد أهم معركة عربية استخدمت فيها أدوات الحصار الضخمة الكبيرة كالدبابات والمجانيق والسلالم والأبراج على اختلاف أشكالها وأنواعها ، وذلك بعد حصار دام خمسة وخمسين يوماً ، من سادس رمضان إلى أواخر شوال سنة 223هـ .

ثم أمر المعتصم بطرح النار في عمورية من سائر نواحيها ، فأحرقت وهدمت ، وجاء ببابها الرئيسي إلى سامراء ، وعاد بعدها المعتصم بغنائم كبيرة جـداً إلى ( طرسوس ) ، ومنها إلى (سامراء ) منتصراً ظافراً ، راداً على تيوفيل فعلته كاسراً مخالبه التي تطاولت على( زبطرة ) ، ومستجيباً لصيحة الهاشمية الحـرة ( وامعتصماه ) ، جاءها على خيل بلق ، فخلصها وقتل الرومي الذي لطمها ، ثم أمر ببناء زبطرة وشحنها بالرجال والعتاد والميرة ، فرامها الروم بعد ذلك فلم يقدروا عليها .

صائد الأفكار 6 - 12 - 2010 09:43 PM

44

معركة حطين
يعتقد بعض الناس أن معركة حطين نهاية الفرنج في المنطقة ، والحقيقة أنها بداية النهاية ، إذ استمرت الحروب بعدها قرابة القرن انتهت أخيراً باقتلاع الممالك الإفرنجية من ساحل الشام وفلسطين ، فحطين لم تحطم ممالك الفرنج ولم تقض عليها نهائياً ، بل أسست بداية جديدة لموازين القوى ، وأكدت أن قوة الفرنج يمكن أن تقهر ، فقد كانت معركة فاصلة بين حدين ، أي أنها ختمت مرحلة التراجع والهزائم وأسست مرحلة الانتصارات والتقدم .


لقد بدأ صلاح الدين بداية حكمه مصر عام 564 هـ ، وأول مواجهة جدية كانت له مع الصليبيين هي حطين وذلك عام 583هـ ، وبين هذين التاريخين مناوشات محدودة مع الصليبيين ، فصلاح الدين لم يستل سيفه منذ اليوم الأول وبدأ هجومه المعاكس على الممالك الإفرنجية بل أخذ وقته في الإعداد والتنظيم والدراسة والمراقبة وتفحص مواقع القوة والضعف .

بدأ فيها تثبيت الأوضاع في مصر ، وأسقط فيها الدولة الفاطمية فيها ، وأقام الخطبة والحكم للخلافة العباسية ، فلما توفي نور الدين سنة 568هـ بدأ صلاح الدين ببلاد الشام ليضمها تحت إمرته ففتح دمشق وحمص وحلب وحماة وحلب وغيرها ، وفتح اليمن ، وأمن الطريق للحجاج إلى مكة والمدينة ، وأسقط المكوس ، ونشر العدل ، وأعد الجيوش ، حتى كانت المعركة الفاصلة في حطين ، فماذا جرى في حطين ؟

قال ابن كثير : ( برز السلطان من دمشق يوم السبت مستهل محرم في جيشه ، فسار إلى رأس الماء فنزل ولده الأفضل هناك في طائفة من الجيش ، وتقدم السلطان ببقية الجيش إلى بصرى فخيم على قصر أبي سلام ، ينتظر قدوم الحجاج ليسلموا من معرة برنس الكرك ، فلما جاز الحجيج سالمين سار السلطان فنزل على الكرك وقطع ما حوله من الأشجار ، ورعى الزرع وأكلوا الثمار ، وجاءت العساكر المصرية وتوافت الجيوش المشرقية ، فنزلوا عند السلطان على رأس الماء ، وبعث الأفضل سرية نحو بلاد الفرنج فقتلت وغنمت وسلمت ورجعت ، فبشر بمقدمات الفتح والنصر .

وجاء السلطان بجحافله فالتفت عليه جميع العساكر ، فرتب الجيوش وسار قاصداً بلاد الساحل ، وكان جملة من معه من المقاتلة اثني عشر ألفاً غير المتطوعة ، فتسامعت الفرنج بقدومه فاجتمعوا كلهم وتصالحوا فيما بينهم ، وصالح قومس طرابلس وبرنس الكرك الفاجر ، وجاءوا بحدهم وحديدهم ، واستصحبوا معهم صليب الصلبوت يحمله منهم عباد الطاغوت وضلال الناسوت ، في خلق لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل ، يقال :كانوا خمسين ألفاً ، وقيل : ثلاثاً وستين ألفاً ، وقد خوفهم صاحب طرابلس من المسلمين فاعترض عليه البرنس صاحب الكرك ، فقال له : لا أشك أنك تحب المسلمين وتخوفنا كثرتهم ، وسترى غب ما أقول لك ، فتقدموا نحو المسلمين .

وأقبل السلطان ففتح طبرية و تقوى بما فيها من الأطعمة والأمتعة وغير ذلك ، وتحصنت منه القلعة فلم يعبأ بها ، وحاز البحيرة في حوزته ومنع الله الكفرة أن يصلوا منها إلى قطرة ، حتى صاروا في عطش عظيم ، فبرز السلطان إلى سطح الجبل الغربي من طبرية عند قرية يقال لها حطين ، التي يقال إن فيها قبر شعيب عليه الصلاة والسلام ، وجاء العدو المخذول ، وكان فيهم صاحب عكا وكفر نكا وصاحب الناصرة وصاحب صور وغير ذلك من جميع ملوكهم ، فتواجه الفريقان وتقابل الجيشان ، وأسفر وجه الإيمان واغبر وأقتم وأظلم وجه الكفر والطغيان ، ودائرة دائرة السوء على عبدة الصلبان ، وذلك عشية يوم الجمعة ، فبات الناس على مصافهم .

وأصبح صباح يوم السبت الذي كان يوماً عسيراً على أهل الأحد وذلك لخمس بقين من ربيع الآخر ، فطلعت الشمس على وجوه الفرنج واشتد الحر وقوي بهم العطش ، وكان تحت أقدام خيولهم حشيش قد صار هشيماً ، وكان ذلك عليهم مشؤوماً ، فأمر السلطان النفاطة أن يرموه بالنفط ، فرموه فتأجج ناراً تحت سنابك خيولهم ، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال ، وتبارز الشجعان ، ثم أمر السلطان بالتكبير والحمل الصادقة فحملوا وكان النصر من الله عز وجل ، فمنحهم الله أكتافهم فقتل منهم ثلاثون ألفاً في ذلك اليوم ، وأسر ثلاثون ألفاً من شجعانهم وفرسانهم ، وكان في جملة من أسر جميع ملوكهم سوى قومس طرابلس فإنه انهزم في أول المعركة ، واستلبهم السلطان صليبهم الأعظم ، وهو الذي يزعمون أنه صلب عليه المصلوب ، وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفيسة ، ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله ، ودمغ الباطل وأهله ، حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفاً وثلاثين أسيراً من الفرنج ، وقد ربطهم بطنب خيمة ، وباع بعضهم أسيراً بنعل ليلبسها في رجله ، وجرت أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين ، فلله الحمد دائماً كثيراً طيباً مباركاً ).

هذا وقد كان البرنس أرناط البيزنطي صاحب الكرك كان قد نذر أنه إن ظفر به قتله ، وذلك أنه كان عبر به قافلة راجعة من الديار المصرية في حالة الصلح بينه وبين المسلمين ، فنزلوا عنده بالأمان فغدر بهم وقتلهم ، فناشدوه الله والصلح الذي بينه وبين المسلمين فقال ما يتضمن الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال : قولوا لمحمدكم يخلصكم ، وبلغ السلطان فحمله الدين والحمية على أنه نذر إن ظفر به قتله .

قال ابن كثير : ( فلما تمت هذه الوقعة ووضعت الحرب أوزارها أمر السلطان بضرب مخيم عظيم ، وجلس فيه على سرير المملكة وعن يمينه أسرة وعن يساره مثلها ، وجيء بالأسارى تتهادى بقيودها ، فأمر بضرب أعناق جماعة من مقدمي الداوية – الداوية :فرقة دينية عسكرية شديدة البأس – صبراً ، ولم يترك أحداً منهم ممن كان يذكر الناس عنه شراً .

ثم جيء بملوكهم فأجلسوا عن يمينه ويساره على مراتبهم ، فأجلس ملكهم الكبير عن يمينه ، وأجلس أرناط برنس الكرك وبقيتهم عن شماله ، ثم جيء إلى السلطان بشراب من الجلاب مثلوجاً ، فشرب ثم ناول الملك فشرب ، ثم ناول أرناط صاحب الكرك فغضب السلطان وقال له : إنما ناولتك ولم آذن لك أن تسقيه ، هذا لا عهد له عندي ، ثم تحول السلطان إلى خيمة داخل تلك الخيمة واستدعى بأرناط صاحب الكرك ، فلما أوقف بين يديه قام إليه بالسيف ودعاه إلى الإسلام فامتنع ، فقال له : نعم أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتصار لأمته ، ثم قتله وأرسل برأسه إلى الملوك وهم في الخيمة ، وقال : إن هذا تعرض لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قتل السلطان جميع من كان من الأسارى من الداوية والاسبتارية – الاسبتارية كالداوية :فرقة دينية عسكرية شديدة البأس – صبراً وأراح المسلمين من هذين الجنسين الخبيثين .

ولم يسلم ممن عرض عليه الإسلام إلا القليل ، فيقال إنه بلغت القتلى ثلاثين ألفاً ، والأسارى كذلك كانوا ثلاثين ألفاً ، وكان جملة جيشهم ثلاثة وستين ألفاً ، وكان من سلم مع قلتهم وهرب أكثرهم جرحى فماتوا ببلادهم ، وممن مات كذلك قومس طرابلس ، فإنه انهزم جريحاً فمات بها بعد مرجعه ، ثم أرسل السلطان برؤوس أعيان الفرنج ومن لم يقتل من رؤوسهم ، وبصليب الصلبوت إلى دمشق ليودعوا في قلعتها ، فدخل بالصليب منكوساً وكان يوماً مشهوداً .

ثم سار السلطان إلى قلعة طبريا فأخذها ، ثم سار السلطان إلى حطين فزار قبر شعيب ، ثم ارتفع منه إلى إقليم الأردن ، فقسم تلك البلاد كلها ، ثم سار إلى عكا ، فنزل عليها يوم الأربعاء سلخ ربيع الآخر ، فافتتحها صلحاً يوم الجمعة ، وأخذ ما كان بها من حواصل الملوك وأموالهم وذخائرهم ومتاجر وغيرها ، واستنقذ من كان بها من أسرى المسلمين ، فوجد فيها أربعة آلاف أسير ، وأمر بإقامة الجمعة بها ، وكانت أول جمعة أقيمت بالساحل بعد أخذه الفرنج نحواً من سبعين سنة ، ثم سار منها إلى صيدا وبيروت وتلك النواحي من السواحل يأخذها بلداً بلداً ، لخلوها من المقاتلة والملوك ، ثم رجع سائراً نحو غزة وعسقلان ونابلس وبيسان وأراضي الغور، فملك ذلك كله ، وكان من جملة ما افتتحه السلطان في هذه المدة القريبة خمسين بلداً كباراً كل بلد له مقاتلة وقلعة ومنعة ، وغنم الجيش والمسلمون من هذه الأماكن شيئاً كثيراً ، وسبوا خلقاً .

وذكر محمد بن القادسي أنه ورد كتاب إلى بغداد في وصف هذه الوقعة فيه : ( .. واستغنى عسكر الإسلام من الأسرى والأموال والغنائم بحيث لا يقدر أحد يصف ذلك ، وما سلم من عسكر الفرنج سوى قمّص طرابلس مع أربعة نفر ، وهو مجروح ثلاث جراحات – مات بعدها بقليل – وأخذ جميع أمراء الفرنج ، وكم قد سبي من النساء والأطفال ، يباع الرجل وزوجته وأولاده ثلاث بين وابنتان بثمانين ديناراً .. وأخذ من البقر والغنم والخيل والبغال مالم يجيء من يشتريها من كثرة السبي والغنائم ) .


صائد الأفكار 6 - 12 - 2010 09:44 PM

45

معركة ملاذكرت
لقد قامت الدولة السلجوقية التركية في القرن الخامس للهجرة لتشمل خراسان وما وراء النهر وإيران والعراق وبلاد الشام وآسيا الصغرى .


وأسسها طغرل بك السلجوقي الذي استطاع أن يسقط الدولة البويهية التي كانت مسيطرة على الخلافة العباسية ببغداد عام 447 هـ ، وأن يؤسس دولته السنية ، ثم توفي سنة 455 هـ وتولى السلطنة من بعده ابن أخيه ألب أرسلان الذي كان قائدا ًماهراً وشجاعاً كعمه ، فنشر الأمن في سلطنته الواسعة ، ثم التفت نحو توحيد العالم الإسلامي تحت راية الخلافة العباسية ونفوذ السلاجقة .

وأغضبت فتوحاته هذه ( دومانوس ديوجينس ) إمبراطور الروم ، فصمم على القيام بمعركة مضادة للدفاع عن إمبراطوريته ، ودخلت قواته في مناوشات ومعارك كان أهمها ملاذكرت عام 463 هـ ، فماذا جرى في هذه المعركة ؟

قال ابن كثير : ( وفيها أقبل ملك الروم أرمانوس في جحافل أمثال الجبال من الروم والرخ والفرنج ، وعدد عظيم وعُدد ، ومعه خمسة وثلاثون ألفاً من البطارقة ، مع كل بطريق مائتا ألف فارس ، ومعه من الفرنج خمسة وثلاثون ألفاً ، ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية خمسة عشر ألفاً ، ومعه مائة ألف نقّاب وخفار .. ومعه أربعمائة عجلة تحمل النعال والمسامير ، وألفا عجلة تحمل السلاح والسروج والمناجيق، منها منجنيق عدة ألف ومائتا رجل ، ومن عزمه قبحه الله أن يبيد الإسلام وأهله ، وقد أقطع بطارقته البلاد حتى بغداد ، واستوصى نائبها بالخليفة خيراً ، فقال له : ارفق بذلك الشيخ فإنه صاحبنا ، ثم إذا استوثقت لهم ممالك العراق وخراسان لهم مالوا على الشام وأهله ميلة واحدة ..

فالتقاه السلطان ألب أرسلان في جيشه وهم قريب من عشرين ألفاً ، بمكان يقال له الزهوة ، في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة ، وخاف السلطان من كثرة جند الروم ، فأشار عليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري بأن يكون من وقت الوقعة يوم الجمعة بعد الزوال حين يكون الخطباء يدعون للمجاهدين ، فلما كان ذلك الوقت وتواقف الفريقان وتواجه الفئتان نزل السلطان عن فرسه وسجد لله عز وجل ، ومرغ وجهه في التراب ودعا الله واستنصره ، فأنزل نصره على المسلمين ، ومنحهم أكتافهم فقتلوا منهم خلقاً كثيراً ، وأسر ملكهم أرمانوس ، أسره غلام رومي ، فلما أوقف بين يدي الملك أرسلان ضربه بيده ثلاثة مقارع وقال : لو كنت أنا الأسير بين يديك ما كنت تفعل ؟ قال : كل قبيح ، قال : فما ظنك بي ؟ فقال : إما أن تقتل وتشهرني في بلادك ، وإما أن تعفو وتأخذ الفداء وتعيدني ، قال : ما عزمت على غير العفو والفداء ، فافتدى منه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار ، فقام بين يدي الملك وسقاه شربة من ماء وقبل الأرض بين يديه ، وقبل الأرض إلى جهة الخليفة إجلالاً وإكراماً ، وأطلق له الملك عشرة ألف دينار ليتجهز بها ، وأطلق معه جماعة من البطارقة وشيعه فرسخاً ، وأرسل معه جيشاً يحفظونه إلى بلاده ، ومعهم راية مكتوب عليها : لا إله إلا الله محمد رسول الله ) .

لم يكن جيش ألب أرسلان يعادل إلا 1/10 من جيش البيزنطيين ، ولقد أطلق سراح الإمبراطور البيزنطي مع جماعة من أمرائه مقابل أن يطلق الإمبراطور سراح كل مسلم أسير ، وأن يرسل إليه عساكر الروم لتقاتل معه في أي وقت يطلبها .

ويا لله ما أروع نصيحة العالم الرباني أبي نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي في المعركة عندما قال للسلطان : إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان ، وأرجو أن يكون الخطباء على المنابر ، فإنهم يدعون للمجاهدين . فلما كان تلك الساعة صلى بهم ، وبكى السلطان ، فبكى الناس لبكائه ، ودعا فأمنوا ، فقال لهم : من أراد الانصراف فلينصرف فما هاهنا سلطان يأمر ولا ينهى . وألقى القوس والنشاب وأخذ السيف ، وعقد ذنب فرسه بيده ، وفعل عسكره مثله ، ولبس البياض وتحنط ، وقال : إن قتلت فهذا كفني .

صائد الأفكار 6 - 12 - 2010 09:44 PM

46

معركة بلاط الشهداء
معركة بلاط الشهداء أو معركة تورز وقعت 10 أكتوبر عام 732 م بين قوات المسلمين بقيادة عبد الرحمن الغافقي وقوات الإفرنج بقيادة تشارلز مارتل. هُزم المسلمون في هذه المعركة وقتل قائدهم وأوقفت هذه الهزيمة الزحف الإسلامي تجاه قلب أوروبا وحفظت المسيحية كديانة سائدة فيها.

التسمية

البلاط في اللغة العربية تعني القصر، وسميت هذه المعركة ببلاط الشهداء في التاريخ الإسلامي لأن المعركة وقعت بالقرب من قصر مهجور وأضيفت كلمة الشهداء لكثرة ما وقع في تلك المعركة من قتلى للمسلمين. أما الأوروبيون فينسبون المعركة لمدينة تورز التي وقعت المعركة بالقرب منها فيسمونها معركة تورز وتسمى كذلك معركة بواتييه لوقوعها أيضا بالقرب من بلدة بواتييه في فرنسا.


ما قبل المعركة

بعد أن فتح المسلمون الأندلس ووطدوا حكمهم فيها عبروا جبال البرانس وبدأوا في فتح الأراضي الإفرنجية (فرنسا في الوقت الحاضر) على يد قائدهم في ذلك الوقت السمح بن مالك الخلواني وتم على يده فتح مدن منطقة سبتمانيا أربونة وبيزارس وآجده ولوديفيه وماغيولون ونييمس. رجع السمح إلى الأندلس ليجمع جيشا يحاصر به مدينة طولوشة (أو تولوز) ويقال أنه جمع أكثر من 100 ألف شخص من الفرسان والمشاة. قام المسلمون بحصار تولوز طويلا حتى كاد أهلها أن يستسلموا إلا إن الدوق أودو دوق أقطانيا (أكوينتين) باغته بإرسال جيش ضخم فقامت هنالك معركة عرفت في التاريخ باسم معركة طولوشة وقاوم المسلمون فيها قليلا بالرغم من قلة عددهم واستشهد قائدهم السمح بن مالك فاضطرب الجيش وانسحب المسلمون لقاعدتهم في بلاد الإفرنج مدينة أربونة وكان ذلك في 9 يونيو 721 م.

كان السمح هو والي الأمويين في بلاد الأندلس وبعد وفاته قام الأندلسيون بتعيين عبد الرحمن الغافقي كوال مؤقت حتى ينظر الخليفة في من سيعين عليهم.

عين عنبسة بن سحيم الكلبي كوال للأندلس فقام بإكمال ما بدأ به السمح بن مالك وقد توغل كثيرا في الأراضي الفرنسية حتى بلغ مدينة أوتون في شرق فرنسا وفي طريق عودته إلى الأندلس فاجأته قوات إفرنجية فأصيب إصابة بليغة لم يلبث أن مات على إثرها في ديسمبر 725 م. ثم جاء 4 ولاة للأندلس لم يحكم أغلبهم أكثر من 3 سنين حتى عين عبد الرحمن الغافقي عام 730 م.

قام عبد الرحمن بإخماد الثورات القائمة في الأندلس بين العرب والبربر وعمل على تحسين وضع البلاد الأمني والثقافي. وفي تلك الأثناء قام الدوق أودو بالتحالف مع حاكم إقليم كاتلونيا المسلم عثمان بن نيساء وعقد صلحا بينه وبين المسلمين وتوقفت الفتوحات الإسلامية في بلاد الإفرنج. كان الدوق أودو يعلم أن عدوه الأبرز هو تشارلز مارتل -وخاصة بعد معركة طولوشة- وأنه إذا صالح المسلمين فإنه سيأمن هجماتهم من جهة وسيشكلون قوة ورادعا في وجه تشارلز مارتل من جهة أخرى إذ لن يفكر تشارلز في مهاجمته خوفا من المسلمين.

قام عثمان بن نيساء في مالم يكن في الحسبان فقد قام بإعلان استقلال إقليم كاتلونيا عن الدولة الأموية فما كان من عبد الرحمن الغافقي إلا أن أعلن الحرب ضده بصفته خائنا ولم يستثن عبد الرحمن الدوق أودو من هذا الأمر فجهز جيشه وأخضع كاتلونيا لدولته ثم اتجه صوب أراض أودو وحاصر مدينة البردال (بوردو) وفتحها المسلمون وقتلوا من جيش أودو الكثير حتى قال المؤرخ إسيدورس باسينسيز "إن الله وحده يعرف عدد القتلى".

المعركة

وجد تشارلز مارتل الوضع في بلاده مناسبا لإخضاع الأقاليم الجنوبية التي طالما استعصت عليه وكان يعلم أن العقبة الوحيدة في طريقه هي جيش المسلمين. كان الجيش الإسلامي قد انتهى بعد زحفه إلى السهل الممتد بين مدينتي بواتييه وتور بعد أن استولى على المدينتين، وفي ذلك الوقت كان جيش تشارلز مارتل قد انتهى إلى نهر اللوار دون أن ينتبه المسلمون بقدوم طلائعه، وحين أراد الغافقي أن يقتحم نهر اللوار لملاقاة خصمه على ضفته اليمنى قبل أن يكمل استعداده فاجأه مارتل بقواته الجرارة التي تفوق جيش المسلمين في الكثرة، فاضطر عبد الرحمن إلى الرجوع والارتداد إلى السهل الواقع بين بواتييه وتور، وعبر تشارلز بقواته نهر اللوار وعسكر بجيشه على أميال قليلة من جيش الغافقي [1]. لقد اختار مارتل بحنكته مكان المعركة وتوقيتها أي أنه أجبر المسلمين على التواجد في المكان الذي يريده لهم.

حصلت بعض المناوشات بين الجيشين وكأن المعركة حرب استنزاف، من يصمد أكثر من الطرفين ينتصر. ومكث الطرفين على هذه الحال من 6 إلى 9 أيام (هناك اختلاف بين المؤرخين على مدة المعركة) وفي اليوم الأخير للمعركة قامت معركة قوية بين الجيشين ولاح النصر للمسلمين. رأى مارتل شدة حرص جنود المسلمين على الغنائم التي جمعوها فأمر بعض أفراد جيشه بالتوجه لمخيم المسلمين والإغارة عليه لسلب الغنائم فارتدت فرقة كبيرة من الفرسان من قلب المعركة لرد الهجوم المباغت وحماية الغنائم، فاضطربت صفوف المسلمين واستطاع الإفرنج النفاذ في قلب الجيش الإسلامي. ثبت عبد الرحمن مع قلة من جيشه وحاولوا رد الهجوم بلا جدوى وقتل عبد الرحمن فازداد اضطراب المسلمين وانتظروا نزول الليل حتى ينسحبوا لقاعدتهم أربونة قرب جبال البرانس.

ومع صباح اليوم التالي قام الإفرنج لمواصلة القتال إلا أنهم فوجئوا بانسحاب المسلمين ولم يجرؤ مارتل على اللحاق بهم وعاد بجيشه لبلاده.


ما بعد المعركة

أدت المعركة إلى توقف الزحف الإسلامي في أوروبا الغربية وقد أعطي تشارلز لقب مارتل (أي المطرقة) بعد المعركة. وقد اختلف المؤرخون، قديمون أو معاصرون، مسلمون أو مسيحيون في أهمية تلك المعركة فالبعض وصفها بأنها حفظت المسيحية من الفناء وأنقذت أوروبا من الإسلام فيقول المؤرخ إدوارد جيبون في كتابه اضمحلال الإمبراطورية الرومانية:

خط انتصار (المسلمين) طوله ألف ميل من جبل طارق حتى نهر اللوار كان غير مستبعد أن يكرر في مناطق أخرى في قلب القارة الأوروبية حتى يصل بالساراكنز (يقصد المسلمين) إلى حدود بولندا ومرتفعات أسكتلندا، فالراين ليس بأصعب مرورا من النيل والفرات وإن حصل ما قد ذكرت كنا اليوم سنرى الأساطيل الإسلامية تبحر في التايمز بدون معارك بحرية ولكان القرآن يدرس اليوم في أوكسفورد ولكان وعاظ الجامعة اليوم يشرحون للطلاب المختونين قداسة وصدق الوحي النازل على محمد.

يختلف العديد من المؤرخين مع وجهة نظر جيبون فيخبرون عن فتوحات المسلمين أنها لم تكن تتوقف لهزيمة أو خسارة معركة فللمسلمين العديد من المحاولات لفتح القسطنطينية قبل أن فتحت في عهد العثمانيين وقد هزم المسلمون أكثر من مرة في الهند وبلاد ما وراء النهرين إلا أن ذلك لم يكن ليمنعمهم من مواصلة القتال. ويشير أولئك المؤرخون أن المسلمين لم يكونوا طامحين في مواصلة القتال في القارة الأوروبية لأن تلك الأراضي كانت تعيش في وضع اجتماعي وثقافي وحضاري منحط.

كما أن الأمويون في الأندلس عانوا الأمرين بسبب وجود جيوب المقاومة المسيحية في شمال البلاد والتي أرهقتهم وأشغلتهم عن مواصلة القتال في القلب الأوروبي وعانوا كذلك بسبب العباسيين الذين كانوا يتحينون الفرصة لإزالة دولتهم والحصول على أراضيها وبلغ الأمر لحد تعاون الخليفة العباسي هارون الرشيد مع الفرنجة ضد الأمويين في الأندلس [2] الأمر الذي أدى لجعل حروب الدولة الأموية الأندلسية حروب دفاع لا حروب فتح وتحرير.

صائد الأفكار 6 - 12 - 2010 09:45 PM

47

معركة نهاوند
عن السائب بن الأقرع قال : زحف للمسلمين زحف لم يُرَ مثله قط ، رجف له أهل ماه و أصبهان و همذان و الري وقومس ونهاوند و أذريبجان ، قال : فبلغ ذلك عمر فشاور المسلمين .

فقال علي رضي الله عنه : أنت أفضلنا رأياً و أعلمنا بأهلك . فقال : لأستعملن على الناس رجلاً يكون لأول أسنّة يلقاها ،-أي أول من يتلقى الرماح بصدره ،كناية عن شجاعته- ياسائب اذهب بكتابي هذا إلى النعمان بن مُقرِّن ، فليسر بثلثي أهل الكوفة ، وليبعث إلى أهل البصرة ، و أنت على ما أصابوا من غنيمة ، فإن قُتل النعمان فحذيفة الأمير ، فإن قُتل حذيفة فجرير بن عبد الله ، فإن قُتل ذلك الجيش فلا أراك .


لما انتصر المسلمون في القادسية على الفرس كاتب يزدجرد أهل الباب والسند وحلوان ليجتمعوا فيوجهوا ضربة حاسمة للمسلمين ، فتكاتبوا واجتمعوا في نهاوند .

وأرسل سعد بن أبي وقاص إلى عمر : ( بلغ الفرس خمسين ومائة ألف مقاتل ، فإن جاؤونا قبل أن نبادرهم الشدة ازدادوا جرأة وقوة ، وإن نحن عاجلناهم كان لنا ذلك ).

وأرسل عمر إلى سعد محمد بن مسلمة ليخبره أن يستعد الناس لملاقاة الفرس ، فغادر سعد الكوفة إلى المدينة ليخبر عمر بخطورة الموقف شفاهة ، فجمع عمر المسلمين في المدينة ، وخطب فيهم وشرح لهم خطورة الوضع ، واستشارهم ، وأشاروا عليه أن يقيم هو بالمدينة ، وأن يكتب إلى أهل الكوفة فليخرج ثلثاهم لمساعدة الجيش الإسلامي وأهل البصرة بمن عندهم . ثم قال عمر : أشيروا عليّ برجل يكون أوليه ذلك الثغر غداً، فقالوا : أنت أفضل رأياً وأحسن مقدرة ، فقال : أما والله لأولين أمرهم رجلاً ليكونن أول الأسنة – أي : أول من يقابل الرماح بوجهه – إذا لقيها غداً ، فقيل : من يا أمير المؤمنين ؟ فقال : النعمان بن مقرن المزني ، فقالوا : هو لها .

ودخل عمر المسجد ورأى النعمان يصلي ،فلما قضى صلاته بادره عمر : لقد انتدبتك لعمل ، فقال : إن يكن جباية للضرائب فلا ، وإن يكن جهاداً في سبيل الله فنعم . وانطلق النعمان عام (21) للهجرة يقود الجيش ، وبرفقته بعض الصحابة الكرام .

وطرح الفرس حسك الحديد – مثل الشوك يكون من الحديد – حول مدينة نهاوند ، فبعث النعمان عيوناً فساروا لايعلمون بالحسك ، فزجر بعضهم فرسه فدخلت في يده حسكة ، فلم يبرح الفرس مكانه ، فنزل صاحبه ونظر في يده فإذا في حافره حسكة ، فعاد وأخبر النعمان بالخبر ، فاستشار جيشه فقال : ماترون؟ فقالوا : انتقل من منزلك هذا حتى يروا أنك هارب منهم ، فيخرجوا في طلبك ، فانتقل النعمان من منزله ذلك ، وكنست الأعاجم الحسك فخرجوا في طلبه ، فرجع النعمان ومن معه عليهم ، وقد عبأ الكتائب ونظم جيشه وعدده ثلاثون ألفاً ، وجعل علىمقدمة الجيش نعيم بن مقرن ، وعلى المجنبتين : حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن ، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو ، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود ، ونظم الفرس قواتهم تحت إمرة (الفيرزان) ، وعلى مجنبتتيه (الزردق) و(بهمن جاذويه) الذي ترك مكانه ل( ذي الحاجب ) .

أنشب النعمان القتال يوم الأربعاء ، ودام على شكل مناوشات حادة إلى يوم الخميس ، والحرب سجال بين الفريقين ، وكان الفرس خلالها في خنادق .

وخشي المسلمون أن يطول الأمر فاستشار النعمان أصحابه ، فتكلم قوم فردت آراؤهم ، ثم تكلم طليحة فقال :أرى أن تبعث خيلاً مؤدبة ، فيحدقوا بهم ، ثم يرموا لينشبوا القتال ، ويحمشوهم – أي يغضبوهم – ، فإذا أحمشوهم واختلطوا بهم وأرادوا الخروج أرزوا – أي انضموا- إلينا استطراداً – أي خديعة - .. وأقر الجميع هذا الرأي فأمر النعمان القعقاع أن ينشب القتال فأنشبه ، فخرج الفرس من خنادقهم ، فلما خرجوا نكص القعقاع بجنده ، ثم نكص ثم نكص ، وخرج الفرس جميعاً فلم يبق أحد إلا حرس الأبواب ،حتى انضم القعقاع إلى الناس ، والنعمان والمسلمون علىتعبيتهم في يوم جمعة في صدر النهار ، وأقبل الفرس على الناس يرمونهم حتى أفشوا فيه الجراحات ، والمسلمون يطلبون من النعمان الإذن بالقتال ، وبقي النعمان يطلب منهم الصبر .

فلما جاء الزوال وتفيأت الأفياء وهبت الرياح أمر بالقتال ، كل ذلك إحياء لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يختار هذا الوقت للقتال ، وعندئذ ركب فرسه وبدأ يحرض المسلمين على القتال ، ثم قال : فإن قتلت فلأمير بعدي حذيفة ، وإن قتل فلان .. وعد سبعة .

وكبر النعمان التكبيرة الأولى ثم الثانية ، ثم قال : اللهم اعزز دينك وانصر عبادك ، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك ، اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عزالإسلام ، أمنوا رحمكم الله . فبكى الناس .

وكبر النعمان التكبيرة الثالثة ، وبدأ القتال ، وأثناء تقدم القائد بدأ الفرس يتركون الساحة وزلق بالقائد فرسه من كثرة الدماء في أرض المعركة ، فصرع بين سنابك الخيل ، وجاءه سهم في جنبه ، فرآه أخوه نعيم فسجاه بثوب ، وأخذ الراية قبل أن تقع وناولها حذيفة بن اليمان فأخذها ، وقال المغيرة : اكتموا مصاب أميركم حتى ننتظر ما يصنع الله فينا وفيهم ؛ لئلا يهن الناس .

ولما زلق فرس النعمان به لمحه معقل بن يسار فجاءه بقليل من الماء ، فغسل عن وجهه التراب ، فقال النعمان : من أنت ؟ قال : أنا معقل بن يسار ، قال : ما فعل الناس ؟ قال : فتح الله عليهم ، قال : الحمد لله ، اكتبوا بذلك إلى عمر ، وفاضت روحه .

ولما أظلم الليل انهزم الفرس وهربوا دون قصد فوقعوا في واد ، فكان واحدهم يقع فيقع معه ستة ، فمات في هذه المعركة مائة ألف أو يزيد ، قتل في الوادي فقط ثمانون ألفاً ، وقتل ذو الحاجب ، وهرب الفيرزان ، وعلم بهربه القعقاع فتبعه هو ونعيم بن مقرن فأدركاه في واد ضيق فيه قافلة كبيرة من بغال وحمير محملة عسلاً ذاهبة إلى كسرى ، فلم يجد طريقاً فنزل عن دابته وصعد في الجبل ليختفي ، فتبعه القعقاع راجلاً فقتله .

وحزن المسلمون على موت أميرهم وبايعوا بعد المعركة أميرهم الجديد حذيفة ، ودخلوا نهاوند عام 21هـ بعد أن فتحوها.

صائد الأفكار 6 - 12 - 2010 09:46 PM

48

غزوة خيبر
لم يبد يهود خيبر عداء سافراً للمسلمين حتى لحق بهم زعماء بني النضير عندما أجلوا عن المدينة. وكما سبق وأن ذكرنا فقد كان أبرز زعماء بني النضير الذين غادروا المدينة ونزلوا خيبر : سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب ، فلما نزلوها دان لهم أهلها.

لقد نزلوا بأحقادهم ضد المسلمين ، ولذا كانوا كلما وجدوا فرصة للانتقام من المسلمين انتهزوها ، ووجدوا في قريش وبعض قبائل العرب حصان طروادة الذي سيدخلون به المدينة مرة أخرى ، فألبوهم ضد المسلمين ، ثم جروهم إلى غزوة الخندق ، وسعوا في إقناع بني قريظة للانضمام إليهم والغدر بالمسلمين. ولذا كانت تلك العقوبة الرادعة التي أنزلها المسلمون بهم عندما صرف الله الأحزاب ، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية عبد الله بن عتيك للقضاء على رأس من رؤوسهم أفلت من العقاب يوم قريظة ، وهو سلام ابن أبي الحقيق ، فقتلوه.

وكانت هدنة الحديبية فرصة أمام المسلمين لتصفية هذا الجيب الذي يشكل خطورة على أمن المسلمين ، وقد وعد الله المسلمين بمغانم كثيرة يأخذونها إذا هزموا يهود خيبر ، وإلى ذلك أشارت سورة الفتح التي نزلت في طريق العودة من الحديبية ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ، ومغانم كثيرة يأخذونها ، وكان الله عزيزاً حكيماً ، وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطاً مستقيماً ، وأخرى لم تقدروا عليها ، قد أحاط الله بها ، وكان الله على كل شيء قديراً).

تاريخ الغزوة :

ذكر ابن إسحاق أنها كانت في المحرم من السنة السابعة الهجرية ، وذكر الواقدي أنها كانت في صفر أو ربيع الأول من السنة السابعة بعد العودة من غزوة الحديبية ، وذهب ابن سعد إلى أنها في جمادى الأولى سنة سبع ، وقال الإمامان الزهري ومالك إنها في المحرم من السنة السادسة. وظاهر أن الخلاف بين ابن إسحاق والواقدي يسير ، وهو نحو الشهرين ، وكذلك فإن الخلاف بينهما وبين الإمامين الزهري ومالك مرجعه إلى الاختلاف في ابتداء السنة الهجرية الأولى كما سبق الإشارة إلى ذلك. وقد رجح ابن حجر قول ابن إسحاق على قول الواقدي.

أحداث الغزوة :

سار الجيش إلى خبير بروح إيمانية عالية على الرغم من علمهم بمنعة حصون خيبر وشدة وبأس رجالها وعتادهم الحربي. وكانوا يكبرون ويهللون بأصوات مرتفعة ، فطلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفقوا بأنفسهم قائلاً : (إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم). وسلكوا طريقا بين خيبر وغطفان ليحولوا بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر لأنهم كانوا أعداء للمسلمين.

ونزل المسلمون بساحة اليهود قبل بزوغ الفجر ، وقد صلى المسلمون الفجر قرب خيبر ، ثم هجموا عليها بعد بزوغ الشمس ، وفوجئ أهلها بهم وهم في طريقهم إلى أعمالهم ، فقالوا : محمد والخميس !! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).

وهرب اليهود إلى حصونهم وحاصرهم المسلمون. وقد حاولت غطفان نجدة حلفائهم يهود خيبر ، حتى إذا ساروا مرحلة سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حساً فظنوا أن المسلمين قد خالفوا إليهم فرجعوا ، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر ، فأخذ المسلمون في افتتاح حصونهم واحداً تلو الآخر.

وكان أول ما سقط من حصونهم ناعم والصعب بمنطقة النطاة وأبي النزار بمنطقة الشق ، وكانت هاتان المنطقتان في الشمال الشرقي من خيبر ، ثم حصن القموص المنيع في منطقة الكتيبة ، وهو حصن ابن أبي الحقيق ، ثم اسقطوا حصني منطقة الوطيح والسلالم.

وقد واجه المسلمون مقاومة شديدة وصعوبة كبيرة عند فتح بعض هذه الحصون ، منها حصن ناعم الذي استشهد تحته محمود بن مسلمة الأنصاري ، حيث ألقى عليه مرحب رحى من أعلى الحصن ، والذي استغرق فتحه عشرة أيام ، فقد حمل راية المسلمين عند حصاره أبو بكر الصديق ، ولم يفتح الله عليه ، وعندما جهد الناس ، قال رسول الله إنه سيدفع اللواء غداً إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله و رسوله ، ولا يرجع حتى يفتح له ، فطابت نفوس المسلمين ، فلما صلى الفجر في اليوم التالي دفع اللواء إلى علي ، ففتح الله على يديه.

وكان علي يشتكي من رمد في عينيه عندما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له ، فبرئ.

ولقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم علياً بأن يدعو اليهود إلى الإسلام قبل أن يداهمهم ، وقال له : ( فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم). وعندما سأله علي : يا رسول الله ، على ماذا أقاتل الناس ؟ قال : ( قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله).

وعند حصار المسلمين لهذا الحصن برز لهم سيده وبطلهم مرحب ، وكان سبباً في استشهاد عامر بن الأكوع ، ثم بارزه علي فقتله ، مما أثر سلبياً في معنويات اليهود ومن ثم هزيمتهم.

وقد أبلى علي بلاء حسناً في هذه الحرب. ومن دلائل ذلك : روى ابن إسحاق من حديث أبي رافع – مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم – أن علياً عندما دنا من الحصن خرج إليه أهله ، فقاتلهم ، فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده ، فتناول علي باباً كان عند الحصن فترس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ، ثم ألقاه من يده حين فرغ.

قال الراوي – أبو رافع : فلقد رأيتني في نفر سبعة معي ، أنا ثامنهم ، نجهد على أن نقلب ذلك الباب ، فما نقلبه.

وروى البيهقي من طريقين مرفوعين إلى جابر رضي الله عنه قصة علي والباب ويوم خيبر. ففي الطريق الأول أن عليا رضي الله عنه حمل الباب حتى صعد عليه المسلمون فافتتحوها ، ولم يستطع أربعون رجلاً أن يحملوا هذا الباب. وفي الطريق الثانية أنه اجتمع عليه سبعون رجلاً ، فأعادوه إلى مكانه بعد أن أجهدهم.

وتوجه المسلمون إلى حصن الصعب بن معاذ بعد فتح حصن ناعم ، وأبلى حامل رايتهم الحباب بن المنذر بلاء حسناً حتى افتتحوه بعد ثلاثة أيام ، ووجدوا فيه الكثير من الطعام والمتاع ، يوم كانوا في ضائقة من قلة الطعام ، ثم توجهوا بعده إلى حصن قلعة الزبير الذي اجتمع فيه الفارون من حصن ناعم والصعب وبقية ما فتح من حصون يهود – فحاصروه وقطعوا عنه مجرى الماء الذي يغذيه ، فاضطروهم إلى النزول للقتال ، فهزموهم بعد ثلاثة أيام ، وبذلك تمت السيطرة على آخر صحون منطقة النطاة التي كان فيها أشد اليهود.

ثم توجهوا إلى حصون الشق ، وبدأوا بحصن أبيّ ، فاقتحموه ، وأفلت بعض مقاتلته إلى حصن نزار ، وتوجه إليهم المسلمون فحاصروهم ثم افتتحوا الحصن ، وفر بقية أهل الشق من حصونهم وتجمعوا في حصن القَمُوص المنيع وحصن الوطيح وحصن السلالم ، فحاصرهم المسلمون لمدة أربعة عشر يوماً حتى طلبوا الصلح.

نتائج الغزوة :

وهكذا فتحت خيبر عنوة ، استناداً إلى النظر في مجريات الأحداث التي سقناها ، وما روى البخاري ، ومسلم وأبو داود من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر وافتتحها عنوة.

فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك فقبل ذلك منهم. فكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.

وقتل من اليهود في معارك خيبر ثلاثة وتسعون رجلاً. وسبيت النساء والذراري ، منهن صفيه بنت حيي بن أخطب ، التي اشتراها الرسول صلى الله عليه وسلم من دحية حيث وقعت في سهمه فأعتقها وتزوجها. وقد دخل عليها في طريق العودة إلى المدينة ، وتطوع لحراسته في تلك الليلة أبو أيوب الأنصاري.

واستشهد من المسلمين عشرون رجلاً فيما ذكر ابن إسحاق وخمسة عشر فيما ذكر الواقدي.

وممن استشهد من المسلمين راعي غنم أسود كان أجيراً لرجل من يهود. وخلاصة قصته أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر ومعه غنم يرعاها لبعض يهود خيبر ، فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليه الإسلام ، فعرضه عليه ، فأسلم ، ثم استفتاه في أمر الغنم ، فطلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضرب وجوهها ، فسترجع إلى أصحابها ، فأخذ الراعي حفنة من الحصى فرمى بها في وجوهها ، فرجعت إلى أصحابها ، وتقدم ليقاتل فأصابه حجر فقتله ، وما صلى لله صلاة قط ، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجي بشملة ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعرض عنه ، وعندما سئل عن إعراضه قالhttp://www.watanynews.com/forum/imag...lies/frown.gifإن معه الآن زوجتيه من الحور العين).

واستشهد أعرابي له قصة دلت على وجود نماذج فريدة من المجاهدين. وخلاصة قصته أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ، وطلب أن يهاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما كانت غزوة خيبر – وقيل حنين – غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج له سهمه ، وكان غائباً حين القسمة ويرعى ظهرهم ، فلما جاء دفعوا إليه سهمه ، فأخذه وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ما هذا يا محمد؟ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قسم قسمته لك). قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أرمى ها هنا ، وأشار إلى حلقه بسهم ، فأدخل الجنة ، قال : (إن تصدق الله يصدقك) ، ولم يلبث قليلاً حتى جيء به وقد أصابه سهم حيث أشار ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (صدق الله فصدقه) ، فكفنه الرسول صلى الله عليه وسلم في جبة للنبي صلى الله عليه وسلم ودفنه.


وبعد الفراغ من هذه الغزوة حاول اليهود قتل الرسول صلى الله عليه وسلم بالسم. فقد أهدته امرأة منهم شاة مشوية مسمومة ، وأكثرت السم في ذراع الشاة عندما عرفت أنه يحبه ، فلما أكل من الذراع أخبرته الذراع أنه مسموم فلفظ اللقمة ، واستجوب المرأة ، فاعترفت بجريمتها ، فلم يعاقبها في حينها ، ولكنه قتلها عندما مات بشر بن البراء بن معرور من أثر السم الذي ابتلعه مع الطعام عندما أكل مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

وتم الصلح في النهاية بين الطرفين وفق الأمور الآتية :

- بالنسبة للأراضي والنخيل – أي الأموال الثابتة : دفعها لهم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يعملوا عليها ولهم شطر ما يخرج منها.
- أن ينفقوا من أموالهم على خدمة الأرض.
- أما بالنسبة لوضعهم القانوني فقد تم الاتفاق على أن بقاءهم بخيبر مرهون بمشيئة المسلمين ، فمتى شاؤوا أخرجوهم منها.

وقد أخرجهم عمر بن الخطاب إلى تيماء وأريحاء ، استناداً إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في مرض موته : (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وتكرر منهم الاعتداء على المسلمين. ففي المرة الأولى اتهمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في قتل عبد الله بن سهل ، فأنكروا فلم يعاقبهم ، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده. وفي هذه المرة الثانية أكدت الأولى – كما أشار عمر – أنهم اعتدوا على عبد الله بن عمر ، وفدعوا يديه.

- واتفقوا على إيفاد مبعوث من قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل خيبر ليخرص ويقبض حصة المسلمين.

أما بالنسبة للأموال المنقولة ، فقد صالحوه على أن له الذهب والفضة والسلاح والدروع ، لهم ما حملت ركائبهم على ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً ، فإن فعلوه فلا ذمة لهم ولا عهد. فغيبوا مسكاً لحيي بن أخطب ، وقد كان قتل في غزوة خيبر ، وكان قد احتمله معه يوم بني النظير حين أجليت.

وعندما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم سعية – عم حيي – عن المسك ، قال : (أذهبته الحروب والنفقات) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (العهد قريب المال أكثر من ذلك) ، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب ، فاعترف بأنه رأى حيياً يطوف في خربة ها هنا ، فوجدوا المسك فيها ، فقتل لذلك ابني أبي الحقيق ، وسبى نساءهم وذراريهم ، وقتل محمد بن مسلمة ابن عم كنانة هذا الذي دل على المال ، قتله بأخيه محمود بن مسلمة.

وبالنسبة للطعام فقد كان الرجل يأخذ حاجته منه دون أن يقسم بين المسلمين أو يخرج منه الخمس ما دام قليلاً ، وكانت غنائم خيبر خاصة بمن شهد الحديبية من المسلمين ، كما في قوله تعالى : ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم ، يريدون أن يبدلوا كلام الله. قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ، فسيقولون بل تحسدوننا ، بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً ).

ولم يغب عن فتح خيبر من أصحاب بيعة الرضوان أحد سوى جابر بن عبد الله ، ومع ذلك أعطي سهماً مثل من حضر الغزوة – غزوة الحديبية.

وأعطى أهل السفينة من مهاجرة الحبشة الذين عادوا منها إلى المدينة ، ووصلوا خيبر بعد الفتح ، أعطاهم من الغنائم. وكانوا ثلاثة وخمسين رجلاً وامرأة بقيادة جعفر بن أبي طالب. وتقول الرواية : إنه لم يقسم لأحد لم يشهد الفتح سواهم. وهم الذين فرح الرسول صلى الله عليه وسلم بقدومهم ، وقبل جعفر بين عينيه والتزمه ، وقال : (ما أدري بأيهما أنا أسر ، بفتح خيبر أو بقدوم جعفر).

وربما يرجع سبب استثنائهم إلى أنهم حبسهم العذر عن شهود بيعة الحديبية ، ولعله استرضى أصحاب الحق من الغانمين في الإسهام لهم ، ولعله رأى ما كانوا عليه من الصدق وما عانوه في الغربة ، وهم أصحاب الهجرتين.

وأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم أبا هريرة وبعض الدوسيين من الغنائم برضاء الغانمين ، حيث قدموا عليه بعد فتح خيبر.

وشهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء مسلمات فأعطاهن من الفيء ولم يضرب لهن بسهم.

وكذلك أعطى من شهدها من العبيد ، فقد أعطى عميرًا ، مولى أبي اللحم ، شيئاً من الأثاث.

وأوصى صلى الله عليه وسلم من مال خيبر لنفر من الداريين ، سماهم ابن إسحاق.

وكان كفار قريش يتحسسون أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر ، ويسألون الركبان عن نتيجة المعركة ، وقد فرحوا عندما خدعهم الحجاج بن علاط السلمي وقال لهم : إن المسلمين قد هزموا شر هزيمة وإن اليهود أسرت محمداً ، وستأتي به ليقتل بين ظهراني أهل مكة ثأراً لمن كان أصيب من رجالهم ، وما لبثوا قليلا حتى علموا بأن الأمر خدعة من الحجاج بن علاط ليحرز ماله الذي بمكة ويهاجر مسلماً. فحزنوا لتلك النتيجة التي كانوا يراهنون على عكسها.

وبعد الفراغ من أمر خيبر توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى ، وحاصرهم ، ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم أنهم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم ، وحسابهم على الله ، فبرز رجل منهم ، فبرز له الزبير فقتله ، ثم برز آخر فبرز إليه علي فقتله ، ثم برز آخر فبرز إليه أبو دجانة فقتله ، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً ، ثم قاتلهم حتى أمسوا ، وفي الصباح استسلموا ، ففتحت عنوة. وأقام فيها ثلاثة أيام ، وقسم ما أصاب على أصحابه ، وترك الأرض والنخل بأيدي يهود ، وعاملهم عليها.

فلما بلغ يهود تيماء ما حدث لأهل فدك ووادي القرى ، صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية ، وأقاموا بأيديهم أموالهم. فلما كان عهد عمر أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى لأنهما داخلتان في أرض الشام ، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز ، وأن ما وراء ذلك من الشام.

وثبت في الصحيح أن مدعماً – مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم – أصابه سهم فقتله وذلك حين كان يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وصلوا وادي القرى ، فقال الناس : هنيئاً له بالجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلمhttp://www.watanynews.com/forum/imag...lies/frown.gif كلا والذي نفسي بيده ، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم ، لتشتعل عليه ناراً . فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين ، فقال : هذا شيء كنت أصبته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( شراك أو شراكان من نار).

بعض فقه وحكم ودروس غزوة خيبر :

1- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغلول : وأن من يموت وهو غال يدخل النار. وقد جاء ذلك في خبر الرجل الذي قال عنه الصحابة إنه شهيد ، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : (كلا ! إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة …) وخبر مدعم مع الشملة.

2- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية.

3- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم البغال.

4- النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن أكل كل ذي مخلب من الطير.

5- النهي عن وطء الحبالي من السبايا حتى يضعن.

6- النهي عن ركوب الجلالة والنهي عن أكل لحمها وشرب لبنها.

7- النهي عن النهبة من الغنيمة قبل قسمتها.

8- وأجرى الله على نبيه بعض المعجزات دليلاً على نبوته وعبرة لمن يعتبر ، فإضافة إلى ما ذكرنا من قصة بصقه على عيني علي فصحتا ، وإخبار ذراع الشاة المسمومة إياه بأنها مسمومة ، فقد ثبت أنه نفت ثلاث نفثات في موضع ضربة أصابت ركبة سلمة بن الأكوع يوم خيبر ، فما اشتكى بعدها.

9- وفي خبر الإسهام لأهل السفينة أنه إذا لحق مدد الجيش بعد انقضاء الحرب ، فلا سهم لهم إلا بإذن الجيش ورضاه.

10- جواز المساقاة والمزارعة بجزء مما يخرج من الأرض من تمر أو زروع ، كما عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على ذلك ، وهو من باب المشاركة ، وهو نظير المضاربة ، فمن أباح المضاربة ، وحرم ذلك ، فقد فرق بين متماثلين.

11- عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع إليهم الأرض على أن يعملوها من مالهم.

12- خرص الثمار على رؤوس النخيل وقسمتها كذلك ، وأن القسمة ليست بيعاً ، والاكتفاء بخارص واحد وقاسم واحد.

13- جواز عقد المهادنة عقداً جائزاً للإمام فسخه متى شاء.

14- جواز تعليق عقد الصلح والأمان بالشرط ، كما عقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط ألا يغيبوا ولا يكتموا ، كما في قصة مسك حيي.

15- الأخذ في الأحكام بالقرائن والإمارات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكنانة : (المال كثير والعهد قريب) ، فاستدل بذلك على كذبه في قوله : (أذهبته الحروب والنفقة).

16- جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استغنى عنهم ، وقد أجلاهم عمر رضي الله عنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.

17- لم يكن عدم أخذ الجزية من يهود خيبر لأنهم ليسوا أهل ذمة ، بل لأنها لم تكن نزل فرضها بعد.

18- سريان نقض العهد في حق النساء والذرية ، وجعل حكم الساكت والمقر حكم الناقض والمحارب كما في حالة كنانة وابني ابن الحقيق ، على أن يكون الناقضون طائفة لهم شوكة ومنعة ، أم إذا كان الناقض واحداً من طائفة لم يوافقه بقيتهم ، فهذا لا يسري النقض إلى زوجته وأولاده.

19- جواز عتق الرجل أمته ، وجعل عتقها صداقها ، ويجعلها زوجته بغير إذنها ولا شهود ولا ولي غيره ، ولا لفظ نكاح ولا تزويج ، كما فعل صلى الله عليه وسلم بصفية.

20- جواز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره ، إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير ، إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه ، كما كذب الحجاج بن علاط على المسلمين والمشركين حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت بالمسلمين من ذلك بالكذب.

21- إن من قتل غيره بسم يقتل مثله قصاصاً ، كما قتلت اليهودية ببشر بن البراء.

22- جواز الأكل من ذبائح أهل الكتاب وحل طعامهم وقبول هديتهم ، كما في حادثة الشاة المسمومة.

23- الإمام مخير في الأرض التي تفتح عنوة إن شاء قسمها وإن شاء وقفها وإن شاء قسم البعض ووقف البعض الآخر ، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنواع الثلاثة ، فقسم قريظة والنضير ، ولم يقسم مكة ، وقسم شطراً من خيبر وترك شطرها الآخر.


صائد الأفكار 6 - 12 - 2010 09:47 PM

49

صلح الحديبية
المبحث الأول: أحداث الحديبية:

خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأداء العمرة في يوم الاثنين هلال ذي القعدة من السنة السادسة الهجرية .

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخشى أن تعرض له قريش بحرب أو يصدوه عن البيت الحرام ، لذلك استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، فأبطؤوا عليه ، فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار وبمن لحق به من العرب.

وقد كشف القرآن عن حقيقة نوايا الأعراب، فقال: { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا. يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أردا بكم نفعاً ، بل كان الله بما تعملون خبيراً. بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا).

وقد ذكر مجاهد أن الأعراب الذي عنتهم الآية هم أعراب جهينة ومزينة ، وذكر الواقدي أن الأعراب الذي تشاغلوا بأموالهم وأولادهم وذراريهم هو بنو بكر ومزينة وجهينة.

ويفهم من رواية البخاري أن المسلمين كانوا يحملون أسلحتهم استعداد للدفاع عن أنفسهم في حالة الاعتداء عليهم.

لقد اتفق خمسة من الذين كانوا في هذه الغزوة على أن عدد من خرج فيها كانوا ألفا وأربعمائة رجل.

ولقد صلى المسلمون وأحرموا بالعمرة عندما وصلوا إلى ذي الحليفة ، وقلد الرسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره ، وعددها سبعون بدنة. وبعث بين يديه بسر بن سفيان الخزاعي الكعبي عينا له إلى قريش ليأتيه بخبرهم.

وعندما وصل المسلمون الروحاء جاءه نبأ عدو بضيقة ، فأرسل إليهم طائفة من أصحابه ، فيهم أبو قتادة الأنصاري ، ولم يكن محرماً ، فرأى حماراً وحشياً ، فحمل عليه فطعنه ، ورفض أصحابه أن يعينوه عليه ، ولكنهم أكلوا منه وهم حرم ، ثم شكوا في حل ذلك ، فعندما التقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في السقيا ، استفتوه في الأمر ، فأذن لأصحابه بأكل ما جاؤوه به من بقية اللحم ما داموا لم يعينوا على صيده.

وعندما وصلوا عسفان جاءهم بسر بن سفيان الكعبي بخبر قريش فقال: ( يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور ، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قدموا كراع الغميم). فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أن يغيروا على ديار الذين ناصروا قريشاً واجتمعوا معها ليدعوا قريشاً ويعودوا للدفاع عن ديارهم ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ( يا رسول الله ، خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد ، فتوجه له ، فمن صدنا عنه قاتلناه). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( امضوا على اسم الله).

وعندما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرب خيل المشركين منهم صلى بأصحابه صلاة الخوف بعسفان.

ولتفادي الاشتباك مع المشركين ، سلك الرسول صلى الله عليه وسلم طريقاً وعرة عبر ثنية المرار ، وهي مهبط الحديبية ، وقال عندما وصلها : (من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل) ، فكان أول من صعدها خيل بني الخزرج ، ثم تتام الناس.

وعندما أحس بتغيير المسلمين خط سيرهم رجع إلى مكة ، وخرجت قريش للقاء المسلمين ، فعسكرت ببلدح ، وسبقوا المسلمين إلى الماء هنا.

وعندما اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية بركت ناقته القصواء ، فقال الصحابة رضي الله عنهم : (خلأت القصواء) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل). ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت، ثم عدل عن دخول مكة وسار حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد – بئر – قليل الماء، ما لبثوا أن نزحوه ثم اشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فجاش لهم بالري فارتووا جميعاً ، وفي رواية أنه جلس على شقة البئر فدعا بماء فمضمض ومج في البئر. ويمكن الجمع بأن يكون الأمران معا وقعاً ، كما ذكر ابن حجر. ويؤيده ما ذكره الواقدي وعروة من أن الرسول صلى الله عليه وسلم تمضمض في دلو وصبه في البئر ونزع سهماً من كنانته فألقاه فيها ودعا ففارت.

ولخصائص قريش ومكانتها بين العرب ، وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إسلامهم ، وتحسر على عنادهم وخسارة أرواحها في الحروب مع المسلمين ، فها هو يعبر عن هذه الحسرة بقوله : ( يا ويح قريش ، أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس ، فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهو وافرون ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فماذا تظن قريش ، والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة …).

بذل الرسول صلى الله عليه وسلم ما في وسعه لإفهام قريش أنه لا يريد حرباً معهم، وإنما يريد زيارة البيت الحرام وتعظيمه، وهو حق المسلمين، كما هو حق لغيرهم، وعندما تأكدت قريش من ذلك أرسلت إليه من يفاوضه ويتعرف على قوة المسلمين ومدة عزمهم على القتال إذا ألجئوا إليه، وطمعاً في صد المسلمين عن البيت بالطرق السليمة من جهة ثالثة.

فأتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، وبينوا أن قريشاً تعتزم صد المسلمين عن دخول مكة، فأوضح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب مجيئه وذكر لهم الضرر الذي وقع على قريش من استمرار الحرب، واقترح عليهم أن تكون بينهم هدنة إلى وقت معلوم حتى يتضح لهم الأمر، وإن أبوا فلا مناص من الحرب ولو كان في ذلك هلاكه، فنقلوا ذلك إلى قريش، وقالوا لهم: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، إن محمداً لم يأت لقتال وإنما جاء زائراً هذا البيت، فاتهموهم وخاطبوهم بما يكرهون، وقالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فلا والله ولا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تتحدث بذلك العرب.

وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤكد هدفه من هذه الزيارة ويشهد على ذلك كل العرب،لذا أرسل إلى قريش خراش بن أمية الخزاعي على جمله( الثعلب) ولكنهم عقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، لأنهم من قومه.

ثم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال عمر : (يا رسول الله ، إني أخاف قريشاً على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها ، وغلظتي عليها ، ولكن أدلك على رجل أعز بها مني ، عثمان بن عفان).

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فبعثه إليهم. فنزل عثمان في حماية وجوار أبان بن سعيد بن العاص الأموي حتى أدى رسالته ، وأذنوا له بالطواف بالبيت ، فقال : (ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم) واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل. ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للبيعة تحت شجر سمرة ، فبايعوه جميعاً على الموت ، سوى الجد بن قيس ، وذلك لنفاقه.و في رواية أن البيعة كانت على الصبر ، وفي رواية على عدم الفرار ، ولا تعارض في ذلك لأن المبايعة على الموت تعنى الصبر عند اللقاء وعدم الفرار.

وكان أول من بايعه على ذلك أبو سنان عبد الله بن وهب الأسدي ، فخرج الناس بعده يبايعون على بيعته ، فأثنى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( أنتم خير أهل الأرض) ، وقال : ( لا يدخل النار إن شاء الله ، من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها).

وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يده اليمنى ، وقال (هذه يد عثمان) ، فضرب بها على يده اليسرى ، وقال : (هذه لعثمان). فنال عثمان بذلك فضل البيعة.
وقبل أن تتطور الأمور عاد عثمان رضي الله عنه بعد البيعة مباشرة.

وعرفت هذه البيعة بـ (بيعة الرضوان) ، لأن الله تعالى أخبر بأنه رضي عن أصحابها ، في قوله : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}.

أرسلت قريش عدداً من السفراء للتفاوض مع المسلمين ، بعد سفارة بديل بن ورقاء. فقد أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي ، وقبل أن يتحرك خشي أن يناله من التعنيف وسوء المقالة ما نال من سبقه ، فبين لهم موقفه منهم ، وأقروا له بأنه غير متهم عندهم ، وذكر لهم أن الذي عرضه عليهم محمد هو خطة رشد. ودعاهم إلى قبولها، فوافقوا على رأيه.

وعندما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال له ما قال لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد ، أرأيت إن استأصلت أمر قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى ، فإني والله لا أرى وجوهاً وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ … وكان كلما تكلم كلمة أخذ بلحية الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس البني صلى الله عليه وسلم ومعه السيف ، فيضربه بنعل السيف ويقول : أخّر عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم … ولحظ عروة تعظيم الصحابة للرسول صلى الله عليه سلم وحبهم له وتفانيهم في طاعته ، فلما رجع إلى قريش ، قال لهم : (أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمداً).

ثم بعثوا الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه) ، فلما رأى الحليس الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، رجع إلى قريش قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك إعظاماً لما رأى ، وقال لقريش : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، فما أرى أن يصدوا عن البيت ، فقالوا : اجلس ، إنما أنت أعرابي لا علم لك. فغضب وقال : يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له !! والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، قالوا : مه ، كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( هذا مكرز وهو رجل فاجر) … فجعل يكلم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو رسولاً من قبل قريش ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم متفائلاً : ( لقد سهل لكم أمركم). وقال : ( قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل) ، وكانت قريش قد قالت لسهيل بن عمرو : ائت محمداً فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً . فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام ، وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح.

وعندما بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في إملاء شروط الصلح على علي بن أبي طالب ، كاتب الصحيفة ، اعترض سهيل على كتابة كلمة (الرحمن) في البسملة ، وأراد بدلاً عنها أن يكتب (باسمك اللهم) ، لأنها عبارة الجاهليين ، ورفض المسلمون ذلك ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وافق على اعتراض سهيل. ثم اعترض سهيل على عبارة (محمد رسول الله) ، وأراد بدلاً عنها عبارة : ( محمد بن عبد الله) ، فوافقه أيضاً على هذا الاعتراض.

وعندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) اعترض سهيل قائلاً : لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة قهراً ولكن ذلك في العام المقبل ، فنخرج عنك فتدخلها بأصحابك فأقمت فيها ثلاثاً معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب . فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الشرط .

ثم قال سهيل : وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله ! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟! فبينما هو كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنا لم نقض الكتاب بعد) ، فقال سهيل : والله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً.

وألح الرسول صلى الله عليه وسلم على سهيل أن يستثني أبا جندل ، فرفض على الرغم من موافقة مكرز على طلب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم بداً من إمضاء ذلك لسهيل.

ثم بعد هذا تم الاتفاق على بقية الشروط وهي : ( على وضع الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، وأن بينهم عيبة مكفوفة ، فلا إسلال - سرقة - ولا إغلال – خيانة- ، وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ). فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن مع عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم.

لقد تبرم كثير من الصحابة من معظم هذه الشروط. ومن الأدلة على ذلك أن علياً اعتذر عن محو كلمة ( رسول الله) التي اعترض عليها سهيل بن عمرو ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أرني مكانها) ، فأراه مكانها فمحاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتب على مكانها (ابن عبد الله). وغضبوا لشرط رد المسلمين الفارين من قريش إلى المسلمين ، فقالوا : ( يا رسول الله ، نكتب هذا؟ ) قال : ( نعم إنه من ذهب إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً).

ويحكي عمر بن الخطاب مجيئه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غاضباً عند كتابة ذلك الصلح ، قال : ( فأتيت نبي الله ، فقلت : ألست نبي الله حقاً ؟ قال : بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى ، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال: بلى. أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قال : قلت : لا . قال: فإنك آتيه ومطوف به). وأتى عمر أبا بكر وقال له مثل ما قال للرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال له أبو بكر : إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه ، فوالله إنه على الحق ، وقال عمر : ما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيراً ) ولم تطب نفس عمر إلا عندما نزل القرآن مبشراً بالفتح.

وعندما كان أبو جندل يستنجد بالمسلمين قائلاً : يا معشر المسلمين ، أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني ؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( يا أبا جندل ، اصبر واحتسب فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجاً) ، كان عمر يمشي بجنب أبي جندل يغريه بأبيه ويقرب إليه سيفه ، لكن أبا جندل لم يفعل ، فأعيد إلى المشركين ، وذلك لحكمة تجلت للناس فيما بعد ، يوم كان أبو جندل وأصحابه سبباً في إلغاء شرط رد المسلمين إلى الكفار ، وفي إسلام سهيل وموقفه يوم كاد أهل مكة أن يرتدوا عندما مات الرسول صلى الله عليه وسلم فثبتهم على الإسلام بكلام بليغ.

وقال سهل بن حنيف يوم صفين : (اتهموا رأيكم ، رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته).

وعندما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ينحروا الهدي ويحلقوا رؤوسهم ، لم يقم منهم أحد إلى ذلك ، فكرر الأمر ثلاث مرات ، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها وحكى لها ما حدث من المسلمين ، فأشارت إليه بأن يبدأ هو بما يريد ، ففعل ، فقاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غماً ، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم لمن حلق منهم ثلاثاً ولمن قصر لمرة واحدة. وكان عدد ما نحروه سبعين بدنة ، كل بدنة عن سبعة أشخاص.

وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ جملاً لأبي جهل من غنائم بدر ، نحره ليغيظ بذلك المشركين . ونحروا بعض الهدي في الحديبية في الحل والبعض الآخر نحره ناجية بن جندب داخل منطقة الحرم.

ولا شك أن هذا التصرف من عمر وغيره من المسلمين ما هو إلا اجتهاد منهم ورغبة في إذلال المشركين.

ولم تتوقف قريش عن التحرش بالمسلمين واستفزازهم خلال مفاوضات كتابة الصلح وبعد كتابته ، وقد تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة بانضباط شديد إزاء هذه الأفعال. فعندما حاول ثمانون من رجال مكة مهاجمة معسكر المسلمين في غرة ، أسرهم المسلمين وعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكرر المحاولة ثلاثون آخرون من قريش أثناء إبرام الصلح ، فأسروا ، وأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا سراحهم.

وبعد إبرام الصلح حاول سبعون من المشركين استفزاز المسلمين، فأسروهم وقبض سلمة بن الأكوع على أربعة من المشركين أساءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، بعد إبرام الصلح ، فعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد نزلت في ذلك الآية { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم}.

ثم رجع المسلمون إلى المدينة بعد أن غابوا عنها شهراً ونصف الشهر ، منها بضعة عشر يوماً ، ويقال عشرين يوماً ، مكثوها بالحديبية.

وفي طريق العودة تكررت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام والماء ، مثلما حدث في طعام جابر يوم الخندق ، وتكثير ماء بئر الحديبية ، فقد ذكر سلمة بن الأكوع أنهم عندما أصابهم الجوع وكادوا أن يذبحوا رواحلهم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بأزواد الجيش ، فلم يتجاوز ربضة العنز ، وهم أربع عشرة مائة ، فأكلوا حتى شبعوا جميعاً وحشوا جربهم ، ثم جيء له بأداوة وضوء فيها نطفة ماء فأفرغها في قدح ، فتوضأ منها كل الجيش.

ونزلت سورة الفتح ، وهم في طريق العودة : {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} وقال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس). وقال عمر متعجباً: أو فتح هو ؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ( نعم) ، فطابت نفسه ورجع ، وفي رواية : ( نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح) وفرح المسلمون بذلك فرحاً غامراً ، وانجلت تلك السحابة من الغم ، وأدركوا قصورهم عن إدراك كل الأسباب والنتائج ، وأن الخير في التسليم لأمر الله ورسوله.

وعندما جاءته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة لم يردها إلى أهلها عندما طلبوها لما أنزل الله في النساء { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن … ولا هم يحلون لهن) فكان الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا يختبرهن ، فإن كن خرجن بسبب الإسلام استبقاهن مع دفع مهورهن لأزواجهن ، وكان قبل الصلح لا يعيد إليهم مهور الزوجات.

وهذه الآية الواردة في عدم رد المهاجرات المسلمات إلى الكفار هي التي استثنت من شرط الرد وحرمت المسلمات على المشركين { ولا تمسكوا بعصم الكوافر}.


المبحث الثاني : فقه وحكم ودروس في صلح الحديبية:

1- عندما وجد سبب مانع من أداء المسلمين لعمرتهم التي أحرموا لها تحللوا ، وبذلك شرع التحلل للمعتمر وأنه لا يلزمه القضاء.

2- أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة أن يحلق رأسه وهو محرم ، لأذى أصابه ، على أن يذبح شاة فدية أو يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين ونزلت الأية { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}.

3- إذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالصلاة في منازلهم عندما نزل المطر.

4- وقعت تطبيقات عملية لمبدأ الشورى في الإسلام ، حيث استشارهم في الإغارة على ذراري المشركين الذين يساندون قريشاً ، واستشار أم سلمة في أمر الناس عندما أبطؤوا في التحلل ، وأخذ برأيها.

5- ويستنتج من مدة الصلح أن الحد الأعلى لمهادنة الكفار عشر سنين ، لأن أصل العلاقة معهم الحرب وليس الهدنة.

6- جواز مصالحة الكفار على رد من جاء من قبلهم مسلماً.

7- استحباب التفاؤل لقوله صلى الله عليه وسلم : ( سهل أمركم) وذلك عندما قدم عليهم سهيل بن عمرو مفاوضاً.

8- كفر من يقول : ( مطرنا بنوء كذا وكذا) والصواب أن يقول : ( مطرنا بفضل الله ورحمته ). قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة عندما صلى بهم الصبح إثر مطر هطل ليلاً.

9- جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم مثل التوضؤ بماء وضؤئه صلى الله عليه وسلم ، وهو خاص به خلافاً لآثار الصالحين من أمته.

10- السنة لمن نام عن صلاته أو نسيها أن يصليها وإن خرج وقتها ، وذلك لأن المسلمين ناموا عن صلاة الفجر وهم في طريق عودتهم من الحديبية ولم يوقظهم إلا حر الشمس ، ونام حارسهم بلال ، فصلوها حين استيقظوا.

11- في الصلح اعتراف من قريش بكيان المسلمين لأول مرة ، فعاملتهم معاملة الند للند.

12- ذهاب هيبة قريش ، بدليل مبادرة خزاعة الانضمام إلى حلف المسلمين دون خشية من قريش كما كان في السابق.

13- أتاح الصلح للمسلمين التفرغ ليهود خيبر خاصة ويهود تيماء وفدك بصفة عامة.

14- أتيح للمسلمين مضاعفة جهودهم لنشر الإسلام ، وفي ذلك قال الزهـري : ( فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس ، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب ، وآمن الناس بعضهم بعضاً ، والتقوا فتفاضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل إلا دخل فيه ، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك) وعلق ابن هشام على هذا قائلاً http://www.watanynews.com/forum/imag...lies/frown.gifوالدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر ، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف).

15- جاءت نتائج بعض الشروط في مصالح المسلمين من ذلك أن أبا بصير عندما فر من المشركين ولجأ إلى المسلمين رده الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم عندما طلبوه ، فعدا على حارسيه فقتل أحدهما ، وفر الآخر ، وعاد أبو بصير إلى المدينة ، وقال للرسول صلى الله عليه وسلم : ( قد والله أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ويل أمه مِسْعر حرب لو كان له أحد) ، ففهم أبو بصير نية الرسول صلى الله عليه وسلم في رده إلى المشركين ، فلجأ إلى سيف البحر، وفهم المستضعفون المسلمون في مكة إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مسعر حرب ولو كان له أحدا) ، ففروا من مكة ولحقوا بأبي بصير ، وعلى رأسهم أبو جندل. وتكونت منهم عصابة ، أخذت تتعرض لقوافل قريش ، فأرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تناشده أن يعطيهم الأمان بالمدينة ، فأرسل إليهم ، وهم بناحية العيص ، فجاؤوا ، وكانوا قريبا من الستين أو السبعين رجلاً.

16- في قصة أبي بصير وأبي جندل ورفقائهم في العيص ، نموذج يقتدى به في الثبات على العقيدة وبذل الجهد في نصرتها وعدم الاستكانة للطغاة.


صائد الأفكار 6 - 12 - 2010 09:47 PM

50

غزوة بني قريظة
وقعت هذه الغزوة بعد غزوة الأحزاب مباشرة ، في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة الهجرية.

وواضح من سير الأحداث أن سبب الغزوة كان نقض بني قريظة العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، بتحريض من حيي بن أخطب النضري.

وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الزبير لمعرفة نيتهم ، ثم أتبعه بالسعدين وابن رواحة وخوات لذات الهدف ليتأكد من غدرهم.

ولأن هذا النقض وهذه الخيانة قد جاءت في وقت عصيب ، فقد أمر الله تعالى نبيه بقتالهم بعد عودته من الخندق ووضعه السلاح ، وامتثالاً لأمر الله أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتوجهوا إلى بني قريظة ، وتوكيدا لطلب السرعة أوصاهم قائلاً : ( لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة ) كما في رواية البخاري ، أو الظهر كما في رواية مسلم.

وعندما أدركهم الوقت في الطريق ، قال بعضهم : لا نصلى حتى نأتي قريظة ، وقال البعض الآخر : بل نصلى ، لم يرد منا ذلك ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم. وهذا اجتهاد منهم في مراد الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال ابن حجر : ( … وقد جمع بعض العلماء بين الروايتين – البخاري ومسلم – باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان صلى الظهر ، وبعضهم لم يصلها ، فقيل لمن لم يصلها : لا يصلين أحد الظهر ، ولمن صلاها : لا يصلين أحد العصر. وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة فقيل للطائفة الأولى الظهر وقيل للطائفة التي بعدها العصر ، وكلاهما جمع لا بأس به …).

خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف مقاتل معهم ستة وثلاثون فرساً وضرب الحصار على بني قريظة لمدة خمس وعشرين ليلة على الأرجح ، وضيق عليهم الخناق حتى عظم عليهم البلاء ، فرغبوا أخيرا في الاستسلام ، وقبول حكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم. واستشاروا في ذلك حليفهم أبا لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه ، فأشار إلى أن ذلك يعني الذبح. وندم على هذه الإشارة، فربط نفسه إلى إحدى سواري المسجد النبوي ، حتى قبل الله توبته.

وعندما نزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم أحب أن يكل الحكم عليهم إلى واحد من رؤساء الأوس ، لأنهم كانوا حلفاء بني قريظة ، فجعل الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ ، فلما دنا من المسلمين قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار : ( قوموا إلى سيدكم أو خيركم ، ثم قال : إن هؤلاء نزلوا على حكمك ). قال : تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتقسم أموالهم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( قضيت بحكم الله تعالى .

ونفذ الرسول صلى الله عليه وسلم حكم الله فيهم ، وكانوا أربعمائة على الأرجح . و لم ينج إلا بعضهم ، وهم ثلاثة ، لأنهم أسلموا ، فأحرزوا أموالهم ، وربما نجا اثنان آخران منهم بحصولهم على الأمان من بعض الصحابة ، أو لما أبدوه من التزام بالعهد أثناء الحصار. وربما نجا آخرون لا يتجاوزن عدد أفراد أسرة واحدة ، إذ يفهم من رواية عند ابن إسحاق وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهب لثابت بن قيس بن الشماس ولد الزبير بن باطا القرظي ، فاستحياهم ، منهم عبد الرحمن بن الزبير ، الذي أسلم ، وله صحبة.

وجمعت الأسرى في دار بنت الحارث النجارية ، ودار أسامة بن زيد ، وحفرت لهم الأخاديد في سوق المدينة ، فسيقوا إليها المجموعة تلو الأخرى لتضرب أعناقهم فيها. وقتلت امرأة واحدة منهم ، لقتلها خلاد بن سويد رضي الله عنه، حيث ألقت عليه ، جرحى ، ولم يقتل الغلمان ممن لم يبلغوا سن البلوغ. ثم قسم الرسول صلى الله عليه وسلم أموالهم وذراريهم بين المسلمين.

مصير بعض سيي بني قريظة :
ذكر ابن إسحاق وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن زيد الأنصاري بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد ، فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا.

وذكر الواقدي في المغازي في شأن بيع سبايا بني قريظة قولين آخرين إضافة إلى ما ذكره ابن إسحاق ، والقولان هما :
1- بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة إلى الشام بسبايا ليبيعهم ويشتري بهم سلاحاً وخيلاً.
2- اشترى عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما جملة من السبايا … إلخ. ويمكن الجمع بين هذه الأقوال الثلاثة بأن ذلك كله قد حدث.

واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة ، وأسلمت. وقد توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في ملك يمينه ، وكان ذلك باختيارها.

أحكام وحكم ودروس وعبر من غزوة بني قريظة :

1- جواز قتل من نقض العهد. ولا زالت الدول تحكم بقتل الخونة الذين يتواطؤون مع الأعداء حتى زماننا هذا.

2- جواز التحكيم في أمور المسلمين ومهامهم. كما في تحكيم ابن معاذ.

3- مشروعية الاجتهاد في الفروع ، ورفع الحرج إذا وقع الخلاف فيها. فقد اجتهد الصحابة في تفسير قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (ألا لا يصلين أحد العصر أو الظهر إلا في بني قريظة) ، ولم يخطئ الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا منهم.

4- ذكر النووي أن جماهير العلماء احتجوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( قوموا إلى سيدكم أو خيركم) وغيره على استحباب القيام لأهل الفضل ، وليس هذا من القيام المنهي عنه ، وإنما ذلك فيمن يقومون عليه هو جالس ويمثلون قياما طوال جلوسه ، وقد وافق النووي جماهير العلماء في هذا ، ثم قال : ( القيام للقادم من أهل الفضل مستحب ، وقد جاء في أحاديث ، ولم يصح في النهي عنه شيء صريح. وقد جمعت كل ذلك مع كلام العلماء عليه في جزء وأجبت فيها عما توهم النهي عنه).

5- قال الدكتور البوطي : واعلم أن هذا كله لا يتنافى مع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار) ، لأن مشروعية إكرام الفضلاء لا تستدعي السعي منهم إلى ذلك أو تعلق قلوبهم بمحبته ، بل إن من أبرز صفات الصالحين أن يكونوا متواضعين لإخوانهم زهادا في طلب هذا الشيء … (غير أن من أهم ما ينبغي أن تعلمه في هذا الصدد أن لهذا الإكرام المشروع حدود إذا تجاوزها ، انقلب الأمر محرما ، واشترك في الإثم كل من مقترفة والساكت عليه. فمن ذلك ما قد تجده في مجالس بعض المتصوفة من وقوف المريدين عليهم وهم جلوس ، يقف الواحد منهم أمام شيخه في انكسار وذل … ومنه ما يفعله بعضهم من السجود على ركبة الشيخ أو يده عند قدومه عليه ، أو ما يفعله من الحبو إليه عندما يغشى المجلس … فالإسلام قد شرح مناهج للتربية وحظر على المسلمين الخروج عليها ، وليس بعد الأسلوب النبوي في التربية من أسلوب يقر).


الساعة الآن 05:21 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى