![]() |
11 ـ السمات العامة لحركات الخوارج في خلافة معاوية رضي الله عنه كالتالي:
أ ـ اتسمت بالعشوائية والارتجال وقلة التنظيم . ب ـ كانت أشبه ما تكون بعمليات انتحار جماعي، لأنهم يخرجون بفئات قليلة لا تلبث أن تستأصل. جـ ـ افتقارهم إلى قيادة واعية ومحنكة تستطيع استثمار شجاعتهم وفروسيتهم لتحقيق أهدافهم . ح ـ تكرارهم لأخطاء بعضهم وعدم استفادة كل حركة من تجربة سابقتها. خ ـ استبعادهم لأسلوب الحوار والمناظرة في عودتهم، ومحاولة فرض فكرهم على المجتمع المسلم بالقوة. س ـ اختلاط الدوافع الدينية التي دعتهم للخروج ـ بزعمهم ـ مع دوافع العصبية الجاهلية في حركاتهم، والمتمثلة بخروج بعضهم ثأراً لمن قتل من أصحابهم. ع ـ شعورهم بالغربة داخل المجتمع المسلم، ونفورهم منه، واقتناعهم أن قتال أهل القبلة أولى من جهاد الكفار. ل ـ عدم بحثهم عن أرض جديدة لنشر دعوتهم، واقتصارهم على بعض مدن العراق، وخاصة الكوفة والبصرة. ك ـ سلوكهم طريقة منكرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي طريقة الاستعراض، ومرد ذلك إلى الجهل بالدين وقلة العلم، لأن كثرة العبادة ليست دليلاً على فقه الرجل، وإلا لكان الخوارج أفقه أهل زمانهم[1]، ولكنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، بمروق من الدين كما يمرق السهم من الرمية[2] و ـ وافتقارهم لطول النفس والصبر في مشروعهم التغييري. 12 ـ شفاعة أبي بكرة الثقفي لبعض الخوارج عند معاوية ونصيحته له: في عام 41هـ وثب حمران بن ابان على البصرة، فأخذها وتغلب عليها، فبعث معاوية إليه جيشاً ليقتلوه ومن معه، فجاء أبو بكرة الثقفي إلى معاوية، فسأله في الصفح عنهم والعفو، فعفا عنهم وأطلقهم وولّى على البصرة بسر بن أبي أرطأة[3].. وقد قال معاوية لأبي بكرة: هل من عهد تعهده إلينا؟ قال: نعم، أعهد إليك يا أمير المؤمنين أن تنظر لنفسك ورعيّتك وتعمل صالحاً، فإنك قد تقلَّدت عظيماً، خلافة الله في خلقه، فاتق الله، فإن لك غاية لا تعدوها، ومن ورائك طالب حثيث، وأوشك أن تبلغ المدى، فيلحق الطالب، فتصير إلى من يسألك عمّا كنت فيه، وهو أعلم به منك، وإنما هي محاسبة وتوقيف، فلا تُوثرن على رضا الله شيئاً[4] 13 ـ استخدام العواطف في حرب الخوارج: خرج حوثرة بن وداع بن مسعود الأسدي على الدولة الأموية، فدعا معاوية أبا حوثرة فقال له: اخرج إلى ابنك فلعله يرق إذا رآك فخرج إليه وكلمه وناشده وقال: ألا أجيئك بابنك فلعلّك إذا رأيته كرهت فراقه؟ فقال: أنا إلى طعنة بيد كافر برمح أتقلّب فيه ساعة أشوق مني إلى ابني. فرجع أبوه فأخبر معاوية بقوله، فسير معاوية إليهم عبد الله بن عوف الأحمر في ألفين، وخرج أبو حوثرة فيمن خرج فدعا ابنه إلى البراز، فقال: يا أبة لك في غيري سعة. وقاتلهم ابن عوف وصبروا، وبارز حوثرة عبد الله بن عوف فطعنه ابن عوف فقتله وقتل أصحابه إلا خمسين رجلاً دخلوا الكوفة، وذلك في جمادي الأخرة سنة إحدى وأربعين، ورأى ابن عوف بوجه حوثرة أثر السجود، وكان صاحب عبادة، فندم على قتله، وقال: قتلت أخا بني أسدٍ سفاهاً لعمرُ أبي فما لُقّيتُ رُشدي قتلـت مصلياً محِيـاءَ لَيْلٍ طـويل الحزن ذابرٍ وقصد قتلت أخا تُقىً لأنال دنيـا وذاك لشِقوَتي وعِثارِ جَدّي فهب لي توبة يا رب واغفر لما قارفت من خطاءٍ وعمد[5] رابعاً : من قصائد الخوارج في عهد معاوية رضي الله عنه: 1 ـ ما قاله معاذ بن جوين بن الحصين في سجن المغيرة بن شعبة: ألا أيها الشارون قد حان لأمريء شرى نفسه لله أن يترحلا أقمتم بدار الخاطئين جهالة وكل امرىءٍ منكم يُصادُ لُيقَلاَ فشدوا على القوم العُداة فإنما أقامتكم للذبح رأياً مضَلَّلا ألا فاقصدوا يا قوم للغاية التي إذا ذكرت كانت أبرّ وأعدلا فيا ياليتني فيكم على ظهر سابح شديد القصيرى دارعاً غير أعزلا ويا ليتني فيكم أُعادي عدوّكم فيسقيني كأس المنية أوّلا يعزّ عليّ أن تخافوا وتُطردوا ولما أُجرِّد في المُحِلِّين مُنصُلا ولما يفرق جمعهم كلُّ ماجد إذا قلت ولىَّ وأدبر أقبَلا مُشيحاً بنصل السيف في حمس الوغى يرى العبر في بعض المواطن أمثلا وعّز عليّ أن تصابوا وتُنقصوا وأُصبح ذا بتٍّ أسيراً مكبلاً ولو أنني فيكم وقصدوا لكم أثرت إذا بين الفريقين قَسْطَلا فيا رُبّ جمعٍ قد فَللتُ وغارة شهدت وقرْنٍ قد تركت مُجدَّلا[6] 2ـ ماقال رجل من بني تيم الله بن ثعلبة عندما انتصر مرداس أبو بلال بن أدية من بني ربيعة وكان في اربعين رجلاً على جيش لعبيد الله بن زياد حيث قال : أألفا مؤمن منكم زعمتم ويقتلهم بآسَكَ[7] أربعونا كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ولكنّ الخوارج مؤمنونا هي الفئة القليلة قد علمتم على الفئة الكثيرة ينصرونا[8] وفي رواية أخرى نسبت قصيدة إلى عيس بن فاتك قال فيها : فلما أصبحوا صلوا وقاموا إلى الجُرْد العِتاق مسوَّمينا[9] فلما استجمعوا حملوا عليهم فظل ذوو الجعائل يقتلونا[10] بقية يومهم حتى أتاهم سوادُ الليل فيه يراوغونا يقول بصيرهم لما أتاهم بأن القوم ولوا هاربينا أألفاً مؤمن فيما زعمتم ويهزمهم بآسك أربعونا[11] |
المبحث الخامس : النظام المالي في عهد معاوية رضي الله عنه :
أولا : مصادر دخل الدولة : 1ـ الزكاة : وهي أهم مكونات النظام المالي الإسلامي وذلك لكونها ثابتة بالكتابة والسنة, إذ يقول عنها سبحانه: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" (البينة, اية 5), كما أجمع المسلمون على وجوبها باعتبارها أحد أركان الإسلام الخمسة, ومن ذلك اتفاق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال ما نعيها في عهد أبي بكر الصديق[1], وقد أسند إلى السلطان مهمة تحصيلها وإنفاقها, فقد كان رسول الله يجمعها ويقوم على تفريقها, وكذلك فعل أبو بكر وعمر أما في عهد عثمان لما كثرت الأموال فقد رأى أن يفوض الممولين فيما يتعلق بالأموال الباطنة كالوكلاء عن الإمام[2], أما الأموال الظاهرة كالزروع والمواشي ونحوها، فقد استمرت الدولة في جبايتها وإنفاقها، وقد ورد عن أبي أبكر وعثمان بن عفان أنهما كانا يأخذان زكاة المال من عطاء الرجل[3]. ثم اختلف بعد مقتل عثمان هل تدفع الزكاة إلى الولاة أم لا[4]، وهذا الخلاف بشأن الأموال الباطنة أما الأموال الظاهرة ظلت تحصلها الدولة، وهذا يدل على سبب نقص حصيلة الزكاة بشكل عام في العصر الأموي، لامتناع جماعة من الناس عن دفعها للولاة، وتفريقها بمعرفتهم، عدا عهد عمر بن عبد العزيز الذي ما إن سمع الناس بولايته حتى سارعوا إلى دفعها للدولة[5]. كما أعاد كذلك أخذ الزكاة من العطاء[6]، أي بالخصم عند المنبع، وهكذا يعكس تعاظم دور الزكاة كأحد المكونات الإيرادات العامة إبان عهد عمر بن عبد العزيز، ولا يعني هذا إغفال دورها الهام طيلة العصر الأموي، فبالرغم من عدم توافر أرقام عنه إلا أن الدلائل تشير إلى كبر أهميتها وذلك لأنها كانت تحصل من قطاعين رئيسيين من قطاعات الاقتصاد الأموي، هما الزراعة وقطاع التجارة خاصة في ظل نظام العشور[7]، ومنها أيضاً وجود ديوان خاص يسمى ديوان الصدقات[8]، وهو الديوان الذي يتولى النظر في أمور الزكاة والصدقات التي تجبي من القادرين والمتمكنين مالياً ليتم توزيعها على مستحقيها في الوجوه الشرعية التي ذكرها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة[9]، وأشار إليه الجهشياري أول مرة في خلافة هشام بن عبد الملك، ويذكر أن: إسحاق بن قبيصة بن ذؤيب كان يتقلد ديوان الصدقة للخليفة هشام بن عبد الملك، وقد يعود عدم وجود أرقام عن حصيلة الزكاة لعدم تسجيل مقادير تلك الصدقات، إذ كانت تدفع جميعها أو معظمها في الحال إلى مستحقيها[10]، وبصفة عامة يمكن القول إن نظام الزكاة كان مطبقاً في العهد الأموي وفقاً للأسس الشرعية الخاصة به، وأن قمة التطور بالنسبة لحصيلة الزكاة كان في عهد عمر بن عبد العزيز حيث وثق الشعب في الدولة نتيجة حرصها على تطبيق الإسلام كواقع عملي ـ فسارع إلى دفع الزكاة إليها وكذلك أخذ الزكاة من العطاء فيه تخفيف لتكاليف جباية الزكاة فزيادة الموارد مع قلة التكاليف أحدثت نمواً ملحوظاً في حصيلة الزكاة[11]. 2 ـ الجزية: ما يؤخذ من أهل الذمة، وهي ضريبة على الذمي المستوفي لشروطها مقابل الدفاع عنه، وكانت تمثل أحد الموارد الثابتة للدولة الأموية، عملاً بقوله تعالى: ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة ، الآية : 29). وهي ثابتة في السنة لما قاله المغيرة بن شعبة لترجمان عامل كسرى:.. فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤتوا الجزية[12]. وهي ثابتة أيضاً بالإجماع[13]، ولم يضف الأمويون شيئاً يذكر بالنسبة لتنظيم الجزية، ويمكن القول بأن جبايتها خضعت لما استقر عليه تنظيمها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمن حيث ضوابطها تمثلت في أربعة هي: تحديد الشريحة التي تؤخذ منها الجزية متمثلة في الذكور العقلاء البالغين[14]، ثم تحديد الفئات المعفاة منها: وهم: الصبيان والنساء، المرضى المزمنون، العبيد، المجانين، العميان، الشيوخ، الرهبان الذين لا مورد لهم[15]، وكذلك مراعاة مستوى دخل الممول يساراً وإعساراً، حيث كانت تفرض على الفرد الغني (48) درهماً سنوياً، وعلى المتوسط (24) درهماً سنوياً وعلى ما دون ذلك (12) درهماً سنوياً بشرط أن يكون ذا حرفة[16]، وأما عن تصنيفها فيمكن تقسيم الجزية وفق المعيارين التاليين: أ ـ معيار المسؤولية : وطبقاً له تنقسم الجزية إلى فردية وجماعية، فالجزية الفردية هي التي تفرض على كل ذمي مستوف لشروطها في صورة مبلغ محدد يسقط عنه حالة إسلامه، أما الجماعية أو المشتركة فكانت تتم بوضع مبلغ إجمالي معين على أهل القرية أو المدينة، ثم يتولون هم توزيعه بين أفرادهم، ومثالها من عهد النبي صلى الله عليه وسلم صلحه صلى الله عليه وسلم لأهل أذرح على مائة دينار في كل رجب[17]، وكان غالب الجزية في العصر الأموي من هذا النوع[18]. ب ـ معيار النقدية والعينية: وطبقاً له انقسمت الجزية إلى ثلاثة أقسام: جزية نقدية، جزية عينية، جزية مشتركة، وكانت جميع أصناف الجزية معمولاً بها في العصر الأموي، ولم يوجد ما يشير إلى الخروج عن ذلك، وخاصة وأن الشريعة الإسلامية تقتضي بالالتزام بعقود الصلح، والوفاء بها، لكن هذا لم يمنع من خروج بعض الولاة أحياناً عن الضوابط الشرعية[19]، وبالنسبة لحجم غلة الجزية ونسبتها إلى إجمالي الإيراد الكلي للدولة فهذا مما يصعب تحديده، لكن هناك مؤثرات تدل على عظم حجم إيراد الجزية وما يتضح من الدور الكبير الذي قامت به الدولة الأموية في نشر الإسلام في بلدان كثيرة تم فتحها وفرض الجزية على من لم يسلم من أهلها[20]. 3 ـ الخراج : كبقية المصادر المالية للدولة التي كان لعمر بن الخطاب الريادة في تنظيمها، فقد استفادت الدولة الأموية من تنظيم عمر له، إذ سارت في أغلب أقاليمها عليه، إلا ما طرأ من تعديلات سوف يتم التعرض لها[21]، وللخراج معنى خاص: وهو إيراد الأراضي التي افتتحها المسلمون عنوة وأوقفها الإمام لمصالح المسلمين على الدوام كما فعل عمر بأرض السواد من العراق والشام[22]، والخراج كما قال ابن رجب الحنبلي: لا يقاس بإجارة ولا ثمن، بل هو أصل ثابت بنفسه لا يقاس بغيره[23]، وكان للخراج أهمية كبرى بالنسبة للدولة الأموية وكانت غلة الخراج في منطقة السواد على سبيل المثال في عهد ابنه عبيد الله سنة 54هـ ـ 66هـ بلغ 135 مليون درهماً[24]، وأما منطقة الجزيرة والشام: فقد استمر الخراج في هذه المنطقة وفقاً لما وضعه معاوية بن أبي سفيان، الذي فرض ضرائب على أهل المدن ذات شقين، شق منه جزية والآخر خراج وهو كما يلي: أ ـ على أهل قنسرين حوالي مليون وخمسمائة ألف درهماً . ب ـ على الأردن ستمائة ألف درهماً . جـ ـ على فلسطين حوالي ستمائة ألف درهماً[25]. وقد حدثت بعض الانحرافات في تحصيل الخراج في عدة صور أهمها: ـ فرض الخراج على أرض مستثناة منه بنص عقود الصلح[26]، فقد حدث ذلك في عهد يزيد بن معاوية(60 ـ 64) حيث فرض الخراج على أرض السامرة[27]، بالأردن وفلسطين. ـ استخدام العنف في تحصيل الخراج، في بعض الأقاليم ـ باستثناء عهد عمر بن عبد العزيز ، حيث استخدمت الشدة في تحصيل الإيرادات بأنواعها[28]. ـ تحميل نفقات جباية الخراج على الممول، ومن تلك النفقات قيمة الورق الذي يكتب عليه مقادير الخراج، قيمة إيجار المستودعات التي يتم تخزين حصيلة الخراج العينية فيها، أجرة الجابي الذي يقوم بالجباية وبقية نفقات تحصيل الخراج[29]، وقد حدث ذلك خاصة في إقليم العراق وكان قبل عهد عمر بن عبد العزيز، فلما ولي الخلافة أبطلها ثم عادت بعد موته[30]، وكان للخراج في عهد الدولة الأموية ديوان خاص به، يسمى ديوان الخراج: وهو الذي يتولى النظر في جباية ضريبة الخراج، ويقوم بجمعها وتسجيلها، ووضع تقديرات لها، لأنها أعظم واردات الدولة[31]، وكان الأمويون قد فصلوا بين الولاية والجباية وعينوا مسؤولين عنها لكي يحصروا المسؤولية، وقد ذكرت المصادر قائمة بأسماء الذين أسندت إليهم مهمة الجباية والإشراف على أعمال الديوان، فمعاوية رضي الله عنه عين على خراج دمشق ـ سرجون بن منصور[32]، وعلى خراج فلسطين: سليمان المشجعي[33]، وعلى خراج حمص بن أثال النصراني[34]، وفي خلافة يزيد بن معاوية استمر على الديوان: سرجون بن منصور، كما بقي عليه طوال حكم معاوية الثاني، ومروان بن الحكم، وعبد الملك، حتى عزله[35]، وقد أولى معاوية رضي الله عنه ولاته في الأقاليم الأرض ومن عليها عناية متزايدة فاستصلح البطائح وهي أرض واسعة مغمورة بالمياه، بقطع القصب وعلب الماء بالمسنيات مما أدّى إلى عمارة البلاد وزيادة الوارد العام بمقدار خمسة آلاف ألف درهم وراعى معاوية حالة السكان وسعى لتطمينهم والتخفيف عن كاهلهم بمجموعة من الإجراءات يتعلق بعضها بضريبة الخراج ذاتها، وبعضها الآخر يتعلق بالقائمين على الضريبة [36]. ومن ناحية أخرى، فقد عمل معاوية على إنصاف دافعي الضريبة باختيار عماله ومتابعته لهم، وإن كانوا من المقربين، فقد عزل ابن أم الحكم وهو عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي ـ وهو ابن اخته ـ لأنه اشتد في أمر الخراج ولم يقبل من عامل خراجه جباية الخراج قبل موعده الموجود[37]. وفي الفترة الأموية تكثر الإشارة إلى استعمال الأعاجم في الخراج، وصلاحهم لذلك لأسباب عبر عنها زياد بن أبيه بوضوح منها معرفتهم بأمور الخراج ودورهم في إعمار الأرض[38]، حيث يقول: وينبغي أن يكون كتاب الخراج من رؤساء الأعاجم العالمين بأمور الخراج[39]، ودعا زياد إلى مراعاة الدهاقين والإحسان إليهم: أحسنوا إلى الدهاقين[40]، فإنكم لن تزالوا سماناً ما سمنوا[41] 4 ـ العشور : هي الأموال التي يتم تحصيلها على التجارة التي تمر عبر حدود الدولة الإسلامية سواء داخلة أو خارجة من أرض الدولة وهي أشبه ما تكون بالرسوم الجمركية في العصر الحاضر، ويقوم بتحصيلها موظف يقال له العاشر أي الذي يأخذ العشور[42]، وأول من وضعها في الإسلام هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد فرضها على الحربي بنسبة العشر، وعلى الذمي نصف العشر، وعلى المسلم ربع العشر[43]، وقد استمر هذا النظام في العهد الأموي وفق القواعد التالية: أ ـ إعفاء الحد الأدنى لرأس المال، والذي قدر بالنسبة للمسلم بمائتي درهماً[44]، أما بالنسبة للحربي والذمي فقد اختلف فيه[45]. ب ـ لا تحصل العشور إلا مرة واحدة في السنة . جـ ـ يشترط لتحصيل العشر من النعم التي للمسلم أن تكون سائمة. ح ـ لا تؤخذ العشور من عبد ولا مكاتب ولا مضارب ولا بضاعة، وإنما من رب المال نفسه[46]. خ ـ أن يكتب للتاجر سند بالمبلغ الذي دفعه، وبمقتضاه لا تأخذ منه العشور إلا في السنة التالية[47]. س ـ أن لا يتم تفتيش التاجر ولا تعنيفه[48]. ش ـ أن من ادعى ديناً يستغرق ما معه من التجارة، صدق إن كان مسلماً، وإن ارتاب في أمره استحلفه (على خلاف ذلك)[49]، وأما الذمي فأقرب الأقوال فيه أن يشهد له شاهدان من المسلمين حتى يعفى[50]. ع ـ أن العشور التي تأخذ من المسلمين هي الزكاة فلا يجمع على المال زكاة وعشور[51]. غ ـ أن غير المسلم إذا مر بما يوصف بالمالية عندهم وليس بمال عند المسلمين كالخمر والخنزير ونحوها، يقومه أناس من غير المسلمين، ويضاف إلى قيمة ما معه من تجارة ويؤخذ منه العشور[52]. وهناك من الدلائل ما يشير إلى أن العشور كانت تشكل جزءاً مهماً في إيرادات الدولة، من ذلك ما لمسه ابن الزبير من نقص في مواد الدولة حينما منع تحصيل العشور لمدة عام واحد مما حمله على التراجع على ذلك القرار[53]. 5 ـ الصوافي : هو ما اصطفاه الإمام لبيت المال من أرض الفيء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من البلاد المفتوحة عنوة بحق الخمس أو باستطابة نفوس الغانمين، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه[54].. ثم أقطعت أجزاء منها إلى بعض من كان يتولى إستثمارها، على أن يؤدي لبيت المال ما عليها، وأول من أقطع عثمان بن عفان رضي الله عنه[55]، وذلك بدافع زيادة غلتها، وقد اشترط على من يقطعه إياها حق الفيء[56]، فبلغت غلتها آنذاك خمسين مليون درهماً[57]، وانتبه معاوية بن أبي سفيان للصوافي في وقت مبكر، وكتب إلى الخليفة عثمان سأله أن يقطعه إياها، ليقوى بها على ما وصف في كتابه يقول ابن عساكر: حتى كتب معاوية في إمرته على الشام إلى عثمان أن الذي أجراه عليه من الرزق في عمله ليس يقوم بمؤن من يقدم عليه من وفود الأجناد ورسل أمرائهم، ومن يقدم عليه من رسل الروم ووفودها. ووصف في كتابه هذه المزارع الصافية وسماها له، وسأله أن يقطعه إياها ليقوى بها على ما وصف له وأنها ليست من قرى أهل الذمة ولا الخراج، فكتب إليه عثمان بذلك كتاباً[58]، يضاف إلى تلك المزارع، مزارع وأراضي بني فوقا الذين لا وراث لهم، فأخذ معاوية ما يليهم[59]. ولما أفضى الأمر إليه، جعل هذه الأراضي حبساً[60] على فقراء أهل بيته والمسلمين[61]، وأشار المؤرخ الشيعي اليعقوبي إلى أن معاوية جعل هذه الأراضي، وضياع الملوك في الشام والجزيرة واليمن والعراق خالصة لنفسه عندما أفضى الأمر إليه[62] . فاقطع منها فقراء أهل بيته وخاصته، واعتبر بذلك: أول من كانت له الصوافي في جميع أرجاء الدنيا[63]، وهذه الإشارة من اليعقوبي تلفت الإنتباه نظر إلى الالتباس الواضح في لغتها، فقد ذكرت صوافي في الجزيرة واليمن علماً بأن عمر بن الخطاب كان قد أصفى مجموعات خاصة في أراضي السواد وأراضي الشام لم يدخل فيها صوافي الجزيرة واليمن[64]. كما أشار اليعقوبي إلى أن معاوية جعل هذه الأراضي خالصة لنفسه، فأقطع منها فقراء أهل بيته وخاصته، وبمقارنة هذا النص، بنص ابن عساكر عن الموضوع نفسه، يظهر مدى المبالغة في تلك الرواية يقول ابن عساكر عن تلك الأراضي: فلم تزل بيد معاوية حتى قتل عثمان وأفضى إلى معاوية الأمر، فأقرّها على حالها ثم جعل من بعده حبساً على فقراء أهل بيته والمسلمين إي أن معاوية لم يتصرف فيها ابتداء بل تركها على حالها[65] ولكن يبدو أن هناك ضرورات سياسية نشأت في الشام دفعت الدولة إلى اتخاذ ضرب جديد من التنظيم والسعي لخدمة مصالح الدولة، ومن هذه الضرورات محاولة إقامة توازن قبلي في بلاد الشام بين اليمانية وبين القيسية ولذلك أقطع معاوية اقطاعات واسعة في هذا المجال[66]، ولقد أسي فهم هذا الإجراء وفسر بعض المؤرخين كاليعقوبي، موضوع مصالح الدولة بأنه يعني مصالح الأسرة الأموية وبالتحديد معاوية[67]، ولا شك أن معاوية استخدم هذه الأموال في تثبيت دعائم الدولة، وحفظ وحدة الأمة، فكان يتصرف وفق ما يراه مناسباً للصالح العام[68]، ولا يمنع ذلك الإحسان إلى أسرته والمقربين إليه بالمعروف،وقد أمر معاوية بإعادة مسح للصوافي في أمصار الدولة الأموية وأضاف أراضي واسعة بعد العثور على سجل الضياع الساسانية[69] أصبحت تحت تصرف معاوية المباشر فكان يسد منها بعض حالات العجز في النفقات العامة، فقد بلغ غلة صوافيه بالعراق وما يتبعه مائة مليون درهماً[70] وكذلك فعل بصوافي أرض الشام والجزيرة واليمن حتى فدك اصطفاها لنفسه ثم أقطعها لمروان بن الحكم[71]، وظلت كذلك طيلة العهد الأموي، باستثناء عصر عمر بن عبد العزيز الذي أعادها للملكية العامة وشجع القطاع الخاص على استثمارها[72]، كما رد فدك لبيت المال ووضع ما يأتي منها في أبناء السبيل، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده[73]، كما أمر باستثمار أراضي الصوافي حين كتب إلى واليه على العراق: انظر ما قبلكم من أرض الصافية، فاعطوه حتى تبلغ العشر فإن لم يزرعها أحد فامنحها فإن لم تزرع فانفق عليها من بيت مال المسلمين، ولا تبتزن قبلك أرضاً[74]، ونلاحظ من هذا النص اهتمام عمر بن عبد العزيز بأمر الصوافي مما يدل على أهميته في موارد الدولة.. لكن أمر الصوافي عاد إلى ما كان عليه الأمر بعد عهد عمر بن عبد العزيز[75]، 6 ـ خمس الغنائم : تعرّف الغنيمة : ما غلب عليه المسلمون بالقتال حتى يأخذوه عنوة[76]، وقد نص عليها القرآن الكريم، وفي العصر الأموي ازدادت حركة الفتوحات وبالتالي زادت الغنائم كأحد موارد بيت المال، وقد اتبع الأمويون نفس النهج العمري بالنسبة للغنائم والأراضي المفتوحة، فكان تخميس الغنائم وتقسيمها بين الفاتحين وترك الأرض فيئاً لمجموع المسلمين مع ضرب الخراج عليها[77]، هذه أهم المصادر المالية للدولة مع وجود مصادر أخرى كنظام خمس الركاز، ومال من لا ورث له إذ ظل في العصر الأموي على ما كان عليه عهد رسول الله والخلفاء الراشدين إضافة إلى أن نسبة هذين العنصرين بسيطة جداً بالنسبة لغيرها من المصادر[78]. |
[align=justify]
ثانياً : النفقات العامة: 1 ـ النفقات العسكرية: حملت الدولة الأموية على عاتقها مهمة مواصلة نشر الإسلام في أرجاء المعمورة، ولذلك اتسعت الدولة الإسلامية في العصر الأموي اتساعاً كبيراً، وقد تم لها ذلك على الرغم مما كانت تعانيه من فتن وقلاقل داخلية تتطلب أموالاً طائلة لإخمادها، وتتضح معالم النفقات العسكرية في العصر الأموي من خلال نفقات الجند والصناعات الحربية[1] . أ ـ رواتب الجند : ويشرف عليها ديوان الجند، وتجمع المصادر على أن أول من وضعه ورتبه هو الخليفة عمر بن الخطاب سنة 20هـ[2]، وقد بقي هذا الديوان على الأساس نفسه من حيث تحفظ سجلات بأسماء المقاتلين وأوصافهم، وأنسابهم ومقدار أعطياتهم[3]، وقد عمل معاوية بن أبي سفيان على تحسين حالة الجند المعاشية فزاد في أعطياتهم، بسبب الظروف المستجدة وتحسن الأحوال الاقتصادية في الدولة، وكان أمير المؤمنين معاوية: يتفقد أحوال القبائل، كجزء من سياسته في حفظ التوازن بين قبائل اليمن والقبائل القيسية، وكان قد جعل على كل قبيلة من قبائل العرب بمصر رجلاً يصبح كل يوم فيدور على المجالس فيقول هل ولد الليلة فيكم مولود وهل نزل بكم نازل فيقال ولد لفلان غلام ولفلان جارية، فيقال سموهم فيكتب ويقال نزل بنا رجل من أهل اليمن بعياله فيسمونه وعياله فإذا فرغ من القبائل كلها أتى الديوان[4]، وكان للجند ديوان مركزي في دمشق في حين وجدت دواوين فرعية في مراكز الولايات: كالكوفة والبصرة والفسطاط[5]، وكان سلم رواتب الجند في عهد معاوية كالآتي: على درجات: شرف العطاء والمرتب 2000 درهم، عطاء العرب فئة(أ) 300 درهم، فئة (ب) 1000 درهم، فئة (جـ) 1500 درهم، وأدخل الموالي في العطاء[6]، وكانت نفقات رواتب الجند في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كالآتي: ـ في منطقة مصر : كان عدد المسجلين في الديوان 40000 ألف جندي منهم أربعة آلاف مسجلين بشرف العطاء[7]، وبالتلي يكون مجمل عطاؤهم 8000000 درهماً، أما بقية المسجلين في الديوان فكان عددهم 36000 جندياً وعلى فرض أن عطاء الجندي سنوياً هو 300 درهماً يصبح إجمالي عطاؤهم 10800000 درهماً[8] ـ في منطقة الشام: كان عدد الجند المسجلين في ديوان الشام ستون ألف جندي، كان الدخل السنوي لكل جندي ألف درهماً، أما إجمالي نفقات جند الشام فبلغ ستين مليون درهم[9]. ـ في العراق نأخذ مثالاً ديوان البصرة: حيث بلغ عدد المسجلين به ثمانين ألف مقاتل[10]، وبلغت مرتباتهم في عهد زياد 36000000 درهماً ، فإذا أخرجنا منهم نسبة 10% مسجلين في شرف العطاء، (قياساً على ديوان مصر) يكون المتبقي20000000 درهماً، وعليه يكون متوسط الدخل للجندي في ديوان البصرة حوالي 278 درهماً ويمكن قياس بقية منطقة العراق على هذا[11]. وقامت الدولة الأموية بتطوير ديوان الجند، وهو الجهة المسؤولة عن نفقات ورواتب الجند وكان من أبرز صور هذا التطوير ما يلي: * ـ فقد قام مندوب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه المكلف بتوزيع عطاء المدينة بدفع عطاء كل رجل في يده مباشرة وكان النظام السابق هو أن يدفع العطاء إلى العرفاء. لكن هؤلاء العرفاء لم يكونوا يغيبون غائباً ولا يميتون ميتاً[12]. * ـ وفي عهد معاوية قام واليه على العراق زياد بن أبيه، بتخفيض النفقات الإدارية لديوان الجند، حيث اختصر عدد العرافاء المسئولين عن توزيع العطاء ليصبح لكل قبيلة عريف واحد[13] . ب ـ نفقات الصناعات الحربية: على الرغم من عدم وجود أرقام محددة في نفقات الدولة على الصناعات الحربية، إلا أن هناك ما يدل على اتجاه هذه النفقة نحو التزايد، فقد كان اهتمام الدولة الأموية منصباً على تطوير سلاح البحرية، وقد بلغ عدد قطع الأسطول البحري الإسلامي في بداية تكوينه مائتي مركب[14]، ثم تطور على يد الدولة الأموية ليبلغ في عهد سليمان بن عبد الملك ألف وثمانمئة سفينة كبيرة[15]. 2 ـ النفقات الإدارية : تقسم هذه النفقات إلى قسمين، رواتب الموظفين ونفقات المستلزمات الإدارية، وكانت هذه الأخيرة ضئيلة للغاية، ومتمثلة في الشموع وأوراق الكتابة، وغيرها من الأدوات البسيطة التي لا تشكل شيئاً يذكر بالنسبة لما هو عليه الأمر اليوم ومع ذلك فقد تميز عهد عمر بن عبد العزيز بالحساسية للمال العام، فكانت هذه النفقات في عهده أقل من غيره من العهود[16]، وسنركز الحديث عن رواتب الموظفين، ويبدو أن رواتب الموظفين كان متروكاً إلى والي الإقليم، يحدد لنفسه ولعماله رواتبهم حسب ما يرى، وقد ساعدت هذه اللامركزية على ظهور مرتبات كبيرة نسبياً ـ إذا ما قورنت بالمرتبات في عهد عمر بن الخطاب وبمتوسط مستوى المعيشة المتواضع نسبياً في الدولة الأموية ـ حيث بلغ مرتب والي العراق زياد بن أبيه خمسة وعشرين ألف درهماً شهرياً[17]، وظهرت أيضاً إلى جانب المرتبات الكبيرة مخصصات إضافية، فهذا زياد بن أبيه يجعل لأحد الولاة التابعين لإدارته مائة ألف درهم سنوياً عدا مرتبه[18] وهذه بعض النماذج من رواتب الموظفين خلال فترات من العصر الأموي، يمكن اعتبارها مؤثراً على مستوى رواتب ومكافآت موظفي الدولة، وذلك لعدم العثور على معلومات تفصيلية عنها. أ ـ كان الحد الأقصى لرواتب الكتاب طوال العصر الأموي وطرفاً من العباسي حتى عهد المأمون هو 3600 درهماًَ سنوياً، وكان حدها الأدني 720 درهماً سنوياً[19]. ب ـ يرجح أن أكبر مرتب لصاحب الشرطة في العصر الأموي بلغت مائة ألف درهماً سنوياً[20]. جـ ـ مرتبات القضاة كانت عبارة عن رزق يجري عليهم من بيت المال ليتفرغوا للقضاء[21]، وكان حده الأدنى ألف ومائتي درهماً سنوياً[22]، وأما الحد الأقصى فقد بلغ ثلاثة آلاف درهماً سنوياً[23]. 3 ـ مصارف الزكاة : حيث يقول الله سبحانه وتعالى: ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) (التوبة ، الآية :60) . 4 ـ مصارف الفي : قال سبحانه وتعالى: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ... )) (الحشر ، الآية : 7) . 5 ـ معظم مصارف العشور: التي تأخذ من المسلمين هي نفقات تحويلية لأنها تعتبر في حقهم زكاة فتصرف في مصارف الزكاة . 6 ـ نفقات الضمان الاجتماعي: تطورت نفقات الضمان الاجتماعي في الدولة الأموية كانت في صورة عينية، وكمثال على ذلك ما ورد من أن الفقراء في إقليمي الحجاز والعراق خلال الفترة (45هـ ـ 53هـ) كانوا يحملون بطاقات محدد لهم فيها الكمية المخصصة لكل فرد منهم من المعونة العينية[24] ثم أصبحت في عهد عمر بن عبد العزيز (99هـ ـ 101هـ) مزيجاً من النفقات النقدية والعينية، وكمثال على المعونات النقدية قضاء دين من أدان في غير سفه، ولا سرف، وتزويج الرجل الذي ليس له مال وله رغبة في الزواج[25]، ومثال النفقات العينية، أنه أمر لكل أعمى بقائد، ولكل خمسة من اليتامى بخادم[26]، وشملت في عهده نفقات الضمان الاجتماعي إلى غير المسلمين[27]، ثم تطور الأمر حتى مثلت نفقات الضمان الاجتماعي بنداً محدداً من بنود النفقات العامة للدولة، ومثال ذلك يوجد ضمن بنود النفقات العامة السنوية في إقليم العراق خلال الفترة (120 ـ 126هـ) مبلغ عشرة آلاف درهم[28]، مخصصاً لبيوت رعاية الأحداث[29]، والعواتق[30]. [/align] |
ثالثاً : اهتمام الدولة بالزراعة :
مع بداية الدولة الأموية ظهرت الملكيات الزراعية الكبيرة وذلك نتيجة لدخول الولاة والخلفاء في هذا الميدان، ولذلك اهتموا بإحياء الأرض الموات من أراضي الصوافي وغيرها، من الأراضي المفتوحة الخصبة، وبالذات إقليم العراق وما شابهه، وقد ساعدهم في ذلك حجم السيولة التي يملكونها، فقد أحيا والي معاوية رضي الله عنه على خراج العراق أرضين من البطائح لمعاوية، حيث قام بقطع الماء عنها وتجفيفها وزراعتها، وقد بلغت غلتها خمسة ملايين درهم[1]، وهذا مما يدل على عظم مساحتها، ولم يكن معاوية رضي الله عنه يجعل ريعها كله داخلاً في نفقاته الخاصة، وإنما كان يتدارك منها شيء من النقص في النفقات العامة[2]، ولم يدخل تلك الأرضين في ملكه يتوارثها من بعده، بدلالة أن الأرض التي أحياها الحجاج فيما بعد لعبد الملك هي نفس الأرض التي أحياها معاوية رضي الله عنه، إلا أنها عادت مواتاً لغلبة الماء عليها[3]. ومن الناحية الشرعية فإن أحياء الأرض بصفة عامة مباح، بل هو سبب من أسباب الملك لها وذلك استناداً على الأحاديث الواردة في ذلك، وهي إباحة عامة يستوي فيها الحاكم، والمحكوم، إلا أنه في حق الحاكم ينبغي أن تكون هناك قيود إضافية لعل من أبرزها: ـ عدم استغلال الحاكم لسلطته ومكانته، وإنما يدخل في عملية الاحياء كأي فرد من أفراد الشعب. ـ عدم استخدام أموال المسلمين في عملية الاحياء، بل يقوم بإحيائها من ماله الخاص. ـ ألا يترتب على تملكه للأرض بطريق الإحياء ضرر على المسلمين، الأفراد أو جماعة المسلمين، وكذا من له ذمة[4]، وقد ساهم الاقطاع ـ أي الاقطاع يقصد الإحياء والإعمار ـ في تكوين الملكيات الزراعية الكبيرة، فقد أقطع معاوية رضي الله عنه بعض أخوته الجزيرة التي بين النهرين، فأرسل زياد بن أبيه الماء، فلما نظر إليها المقطوعة له ظن أنها بطيحة، فاشتراها منه زياد بمائتي درهم، وقد أقطع زياد بعد ذلك من تلك الأرض غيره، مما يدل على عظم حجمها، حتى أنه أيضاً حفر لها أنهاراً وليس نهراً واحداً[5]، وأقطع زياد بن أبيه مرّة مائة جيب[6] على نهر الأبلة فحفر لها نهراً فسمي باسمه، كما أقطع أيضاً كل بنت من بناته ـ أي بنات زياد ـ ستين جريباً[7] واستمرت الملكيات الزراعية بالتوسع مع مجيء الخلفاء الأمويين بعد معاوية رضي الله عنه، ولم ينحصر الإقطاع للأراضي على الأسرة الأموية وبعض وجهاء قريش، وإن كان هو الغالب[8]، إذ كانت هناك إقطاعات لعامة الشعب، ومثال ذلك أن زياداً كان يقطع الرجل القطعية ويتركه سنتين فإن لم يعمرها أخذها منه[9]، وقد كانت تقدر مساحات تلك الاقطاعات بين (60 ـ 100) جريب[10]، وقد كانت إقطاعات الدولة الأموية من الصوافي أو من الأراضي الموات ولكن بصفة عامة يؤخذ على القطاع في العصر الأموي عنصر المحاباة، إذ أن أصحاب الملكيات الكبيرة كانوا إما من الأسرة الأموية أو من أشراف قريش، وبحثت الدولة عن أصحاب السيولة النقدية القادرين على استثمار تلك الأراضي، لكن ترتب على ذلك السلوك تركز الثروة الكبيرة في أيدي قلة من أفراد المجتمع[11]، كانت الزراعة في العصر الأموي تعتمد بصفة رئيسية على مياه الأنهار، ولذا نجد أن مراكز الإنتاج الزراعي الرئيسية كانت هي العراق ومصر والشام، وبالذات حول الأنهار[12]، وكان للقطاع الخاص دوره في تطوير الزراعة في العهد الأموي، وقد قام القطاع الخاص باستصلاح أراضي زراعية جديدة بمساحات واسعة ومثال ذلك أراضي البطائح التي كانت منذ عهد الفرس وحتى عهد الدولة الأموية أراضي مغمورة بالمياه، فبدأت من بداية الدولة الأموية حركة استصلاحها بحجز المياه عنها وتجفيفها، وقد خرجت منها أراضي واسعة وخصبة وفيرة الإنتاج[13]، وقد توسعت الملكيات الزراعية الخاصة، وترتب عليها زيادة في الإنتاج الزراعي، مما أدى إلى وجود أراضي بعيدة عن مصدر الري وهو النهر الأساسي، فحدث تطور في تقنية الري حيث ظهرت حركة حفر الأنهار والقنوات الفرعية وفق طرق هندسية تسمح لتلك الأراضي بالاستفادة من ماء النهر دون أن يؤدي ذلك إلى إغراقها، وقد توسع القطاع الخاص في حفر هذه الأنهار والقنوات، فحدثت تنمية زراعية نتيجة استفادة الأراضي التي كانت تمر بجوارها تلك الأنهار والقنوات الفرعية[14]، وقد تمّ نقل التقنية الزراعية من البلاد المفتوحة حديثة إلى مراكز الإنتاج الزراعي الرئيسية في الدولة الأموية[15]إلا أن القطاع الزراعي تعرض للتدهور في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية بسبب عوامل متعددة منها: 1 ـ الاضطراب السياسي ، وفقدان الأمن بالمنطقة، فانعكس ذلك على مستوى الإنتاجية الزراعية، ويبدأ هذا الاضطراب مع مجيئ يزيد بن معاوية، ومعاوية الثاني، ومروان بن الحكم.. الخ. 2 ـ تركز الثروة في يد قلة من سكان المنطقة، حيث كانت معظم التركيبة السكانية من الموالي[16]، مما ترتب عليه ضعف حركة النقود داخل المنطقة، فضعفت حركة تبادل السلع، أي حدوث كساد اقتصادي بالمنطقة. 3 ـ إعادة ضريبة النيروز والمهرجان التي روي أنها بدأت مع عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه[17]، وكان السبب في إعادتها أن الناس اعتادوا دفعها على الرغم من منع الإسلام لها[18]، فأراد معاوية رضي الله عنه سحب مبالغها من غير المسلمين من الدهاقنة المسئولين عن الجباية، حتى لا يكونوا مراكز ثروة يتقوون بها ضد الدولة الإسلامية، وكان ينفقها رضي الله عنه في مصالح الأمة الإسلامية، لكن الدهاقنة والأمراء المحليين أخذوا فيما بعد في إبتكار ضرائب إضافية عديدة[19]، أرهقت كاهل المزارعين، بالإضافة إلى ما صاحب تلك الضرائب من عنف في الجباية[20]. 4 ـ إخضاع المشاريع الزراعية للضغوط السياسية، فقد أدت محاربة الدولة لخصومها السياسيين إلى تخرب أو تحجيم مشاريعهم الزراعية، فانعكس ذلك بنتائج سلبية على اقتصاد الدولة ككل، ومن صور ذلك ما حدث في عهد الحجاج من أن بثوق انبثقت على الأرض المحيا من أرض البطائح فلم يعمل الحجاج ـ بوصفه والي المنطقة ـ على سد تلك البثوق مضارة لأهلها (لاتهامهم بمساعدة ابن الأشعث في الخروج عليه). فغرقت أراضيهم الزراعية وتحولت إلى موات[21]. 5 ـ معاناة الدولة الأموية في بداية نشأتها من مجموعة من المهاجرين الذين قدموا إلى إقليم العراق، وكانوا يعانون من البطالة، حيث لم يكونوا مسجلين بالعطاء، وليس لديهم أراضي يقومون بزراعتها، فبدلاً من أن يقوموا بالعمل في مجال من المجالات الأخرى قامت فئة منهم بإحداث بثوق في نظام الري، فأدى ذلك إلى تخريب المزارع وإغراقها، فلما ولي زياد العراق قام بالقضاء على مثل تلك الأعمال[22]. 6 ـ حدوث مواجهة عسكرية بين المزارعين المهاجرين من الأرياف إلى المدن من الموالي والدولة الأموية، وذلك حينما حاول والي العراق ـ الحجاج بن يوسف ـ إعادتهم إلى أراضيهم بالقوة وإعادة فرض الجزيرة عليهم، وقد وافق ذلك خروج ابن الأشعث على الدولة الأموية، فانضموا تحت لوائه[23]. ونتيجة لتلك العوامل وغيرها، فقد بدت علامات تدهور القطاع الزراعي العام في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية[24]. ومع ذلك فقد كانت خلال تلك الفترة مجموعة من الإجراءات والمشاريع التي خففت من حدة التدهور الزراعي بالمنطقة خلال هذه الفترة، وكان من أبرزها ما يلي: أ ـ إنشاء زياد بن أبيه جسراً يمنع طغيان الماء على الكوفة[25] مما وفر الفرصة لاستغلال أراضي كانت تعطل فترة من السنة نتيجة فيضان الماء عليها، وينتظر حتى تنتهي فترة الفيضان، وتجف الأرض حتى يمكن إعادة زراعتها مرة أخرى، كما أعطى هذا المشروع فرصة إدخال زراعة النباتات المعمرة إلى تلك الأراضي بدلاً من افتقار الزراعة فيها على المحاصيل الموسمية، وبلغ من أهمية هذا الجسر أن الولاة ظلوا يتعاهدونه طيلة فترة العصر الأموي[26]. ب ـ عملية نقل الأيدي العاملة الزراعية من منطقة إلى منطقة أخرى، بهدف إحداث تنمية زراعية في الجهة المنقول إليها ومن أمثلة ذلك ما يلي: ـ نقل زياد خمسين ألف أسرة من البصرة والكوفة من ذوي الخبرة الزراعية المشهورة إلى خراسان لتعميرها[27]. هذا وقد كانت الدولة الأموية تتولى مسؤولية إقامة منشآت الري الكبرى والعمل على صيانتها وتطهيرها، كحفر الآبار ومجاري الأنهار، وسد البثوق (التصدع)، وفتح البريدات (مفاتيح الماء)، وإقامة المسنيات (السدود)، أما أصحاب الأراضي فكانوا يشاركون أحياناً في نقطة تطهير الأقنية الكبيرة، وكذلك الأمر فإنه كان يقع على عاتقهم، بطبيعة الحال مسؤولية إقامة الأقنية ووسائل الري داخل ممتلكاتهم الخاصة[28]، وقد حاول الحكام الأمويون استغلال ما أمكنهم من الأراضي، فعملوا على توسيع نطاق الأراضي الزراعية، وبخاصة تجاه بداية الشام، عن طريق استصلاحها وتأمين المياه، ووسائل الري لها[29]، حتى أن قصور الأمويين في الصحراء كانت مراكز مهمة للاستثمار الزراعي حيث أقيمت حولها منشآت الري، من قنوات وصهاريج، ومجاري وتوسعوا بذلك في استصلاح الأراضي بواسطة توفير الري لها[30]، وكان الخليفة معاوية بن أبي سفيان يبدي اهتماماً كبيراً بتنمية الزراعة ورفع مستوى إنتاجها، فكان يولي عنايته لتطوير وسائل الري، وإخصاب الأراضي عن طريق الاستعانة بأصحاب الخبرة والاختصاص من السكان المحليين[31]، كما أن يزيد بن معاوية كان يلقب بالمهندس نظراً لخبرته الهامة في الشؤون الزراعية، وإبداء اهتمامه بإصلاح أنظمة الري والعناية بها، فقد أمر بحفر قناة سميت باسمه بنهر يزيد، وكانت هذه القناة في الأساس رافداً صغيراً بالكاد يروي ضيعتين بالغوطة، فقام يزيد بتوسيعها وتعميقها حتى أصبحت بعرض ستة أشبار، وبعمق ستة أشبار كذلك، الأمر الذي أدى إلى زيادة تدفق المياه وغزارتها، بحيث أصبحت تكفي لري أراضي واسعة في الغوطة[32] ، وبذلك أتيح المجال أمام المزارعين للقيام باستصلاح بعض أراضيهم المتروكة والعمل على استغلالها[33]، وكانت غالبية الأراضي في بلاد الشام تعتمد في ريها على مياه الأمطار التي تتساقط عليها خلال الفترة الممتدة بين تشرين الأول ونيسان، إلا أن أراضي واسعة[34] كانت تروي سيحاً، أي من المياه الجارية على سطح الأرض حيث تأتي من مياه بعض الأنهار ومن مياه العيون في الجداول والقنوات وكذلك فإن قسماً آخر من الأراضي كانت تروى بواسطة الآلات التي ترفع المياه من منخفضات بعض الأنهر إلى سواقي أعلى لري الأراضي التي يعلو مستواها عن مجاري الأنهر، أو التي ترفع المياه من الآبار والخزانات[35]، وتعتبر مياه العيون مهمة في ري المزروعات، حيث كانت تروي قسماً كبيراً من الأراضي في أنحاء الشام[36]وكانت الغلات والمزروعات المتوفرة، القمح والشعير والرز والزيتون، والنخيل والعنب والتين والفواكه والقطن، وقصب السكر، والبقول، والسمسم، والرياحين، وغير ذلك[37]. |
رابعاً : اهتمام الدولة بالتجارة الداخلية والخارجية :
يتوسط موقع الدولة الأموية بين دول الشرق الأقصى من ناحية مثل الصين والهند ونحوهما وبين الدولة البيزنطية من ناحية أخرى، ومعنى ذلك بالضرورة وطبقاً لمعايير ذلك العصر ـ أن أهم علاقاتها التجارية ارتبطت بهاتين الدولتين[1]، وبعد تولي معاوية الخلافة استقرت الأمور وبدأت حركة التجارة الداخلية تزدهر كما كانت عليه قبل ذلك، واهتم معاوية بمصالح التجار وعمل على توسيع نطاق التجارة، وتميز أهل الشام في حرفة التجارة وفتحوا علاقات تجارية مع غربي أوربا واستفادوا من الأسطول الإسلامي ومن بين العوامل التي ساعدت على نشاط حركة التجارة الثراء العريض الذي نعمت به طبقة الحكم وحاشيتهم، حيث نمّا في نفوسهم حب البذخ والرفاهية، وبالتالي توفر عندهم الميل والحاجة إلى اقتناء المنتوجات الكمالية، فأقبلوا على شراء السلع التجارية الباهظة الثمن، مما زاد في فعالية التجار وازدهار التجارة[2]، وكان الأمويون يقومون بدور كبير في عالم التجارة وخصوصاً أن الخليفة معاوية رضي الله عنه والده كان من كبار تجار قريش، كما أن معاوية نفسه لما كان والياً في عهد عثمان بن عفان على بلاد الشام كان يرسل بقوافله التجارية من الشام إلى حاضرة الجزيرة العربية[3]، وكان التجار يحتلون مكانة اجتماعية عالية في العصر الأموي وكانوا يقومون بتأسيس الشركات في سبيل زيادة فعالية التجارة، حيث كانوا يساهمون في الشركة بتقديم المال وممارسة العمل كذلك، أو بواحد منهما، فإذا أقدم صاحب المال على تقديم ماله لآخر ليتاجر به لقاء حصة من الربح يتفق عليها، فيسمى ذلك الاتفاق بالمضاربة[4]. وقد ازدهرت شركات المضاربة وأصبحت وسيلة مهمة في مجال العمل التجاري[5]، وكانت تجارة الأسواق المحلية مليئة بالحركة والنشاط، وقد أصبحت عاصمة الدولة دمشق مركزاً تجارياً مهماً يعود إلى الظروف السياسية الجديدة التي نشأت، فغيرت من سبل واتجاهات حركة التجارة عما كانت عليه سابقاً في العصر البيزنطي، حيث أصبحت دمشق عاصمة للخلافة الأموية، ومحط للتجارة الشرقية[6]، وبالتالي مركزاً لتوزيع البضائع إلى الجهات المختلفة، بعد أن كانت القوافل المحملة بالبضائع الشرقية تتجه مباشرة إلى إنطاكية على ساحل الشام الشمالي، وهكذا كان لأهمية تجارة دمشق التي تتكدّس في أسواقها البضائع المتنوعة، المنتجة محلياً والمستوردة أن قال ياقوت بأنه يستحيل أن يطلب شيء في الأسواق دمشق غير موجود، حتى إن السلع الغالية الثمن التي تستورد من جميع أنحاء العالم المتمدن موجودة فيها[7]. ثم إن دمشق كانت بحكم موقعها الجغرافي المتاخم للبادية المركز التجاري الهام الذي يقصده البدو والمقيمين في الصحراء[8]، وقد اشتهرت مدن الشام كحلب والرصافة، وحمص، والرملة والقدس وإنطاكية بأهميتها التجارية، ونشاط أسواقها[9] وكانت عاصمة الشام، محط رحال القوافل التجارية الآتية من الشرق، ولا شك أن الكوفة والبصرة والموصل، ومدن الحجاز، ونجد وغيرها قد ازدهرت حركة التجارة فيها أيضاً إلا أن مدن الشام كانت تزدهر فيها التجارة أكثر من غيرها، حيث أنها تعتبر مراكز تجارية كبرى وأسواقاً هامة، كما أن الأسواق الموسمية التي كانت تقام في بعض المدن، تعرض فيها البضائع المتنوعة بكثرة، كانت توفر مجالاً أوسع لتأمين كافة متطلبات واحتياجات سكان المدن والقرى كذلك، بالإضافة إلى أن هذه الأسواق كانت مناسبة هامة للتجار الذين يأتون إليها من أماكن مختلفة تستفيد من كل ذلك. وقد كان من هذه الأسواق التي كانت قائمة في العصر البيزنطي واستمر قيامها في العصر الأموي سوق بصري الذي كانت تطول مدة إقامته، حيث كان يستمر من ثلاثين إلى أربعين يوماً وكذلك فقد كان هناك سوق أذرعات الذي استمر قيامه حتى ما بعد العصر الأموي[10]. وأما بالنسبة للتجارة الخارجية في عهد معاوية رضي الله عنه وابنه، فقد ازدهرت التجارة مع الدولة البيزنطية، وازدادت نمواً وقوة، وقد ساهمت عدة عوامل في هذا الازدهار منها : 1 ـ كثرة الاضطرابات والحروب في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية، مما خفض من حجم المبادلات التجارية بينها وبين دول المشرق ولو بشكل جزئي، وبالتالي زيادة حجم المبادلات التجارية مع دولة بيزنطة بالغرب. 2 ـ الاستقرار الأمني من الدولة الأموية، دفع بكثير من رؤوس الأموال للهجرة من مناطق التوتر في الشرق إلى إقليم الشام، بحثاً عن فرص استثمار تجارية آمنة. 3 ـ الاعتماد الكلي لكل من الدولتين على الأخرى في مجال هام وحيوي بالنسبة لها، فكما كانت الدولة البيزنطية تعتمد كلياً على أوراق البردي، كانت الدولة الأموية تعتمد كلياً في حجم النقد الذهبي داخلها على ما يردها من الدولة البيزنطية. ومن العلامات التي تدل على ازدهار التجارة بين الطرفين في عهد معاوية ومن بعده ما يلي: أ ـ كمية الدنانير الذهبية البيزنطية التي كانت موجودة في داخل الدولة الأموية تتم بها عمليات التداول الداخلية . ب ـ استمرار مصانع إنتاج البردي في مصر في إنتاجه على النهج البيزنطي للتصدير حتى عهد عبد الملك بن مروان[11]. خامساً : الحرف والصناعات : تأثرت الحرف والصناعات في العصر الأموي بالبيئة الاقتصادية المحيطة بها، كما تأثرت الصناعات والحرف بطبيعة الاقتصادي الأموي، حيث كان النشاط الزراعي هو النشاط الرئيسي فيه، فظهرت وتطورت صناعات تعتمد في موادها الخام على القطاع الزراعي، مثل صناعة النسيج وصناعة المعاصر والمطاحن، كما واكبت الصناعة حركة التطور العمراني بالدولة الأموية، فظهرت وتطورت صناعة مستلزمات البناء، إضافة إلى تأثر الصناعة بالجو العسكري السائد في معظم فترات العصر الأموي، حيث تطورت صناعة السفن التجارية[12]، وقد اهتمت الدولة الأموية ببناء أسطول حربي، ليقف في وجه الأسطول الحربي البحري البيزنطي، والذي كان يهدد سلامة الشواطئ الغربية للدولة الإسلامية، فتطورت صناعة السفن الحربية في العصر الأموي بشكل كبير ومتلاحق، فقد كان الإنتاج في بداية العصر الأموي مقتصراً على السفن، التي كانت تنفرد مصر بصنعها حتى عام 49هـ، حيث أمر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، بإنشاء دار لصناعة السفن بالشام بمدينة عكا، وقد استقدم من مصر الخبراء للاستفادة منهم في دار الصناعة الجديدة، والتي تميزت بسهولة حصولها على الأخشاب من جبال لبنان[13]. ثم تطورت هذه الصناعة، فأنشأت في مصر منطقة صناعية جديدة، خاصة بصناعة السفن الحربية، وذلك عام (54هـ)[14]واستمرت الدولة الأموية في تطوير صناعة السفن فيما بعد عهد معاوية رضي الله عنه وقد أصبحت مناطق دور صناعة السفن الحربية مناطق جذب سكاني، كما أصبحت مناطق جذب وتوطن صناعي، فأصبحت أماكن استثمار خصبة، حيث أنشأت فيها الفنادق، والمطاحن، ونحوها من الأنشطة الأخرى وساعد على نمو وتطور هذه الصناعة، ما اتسمت به منذ بداية نشأتها، من دقة التنظيم، ومن صورة هذه الدقة ابتكار وظيفة المشرف العام على دار الصناعة ويسمى متولي الصناعة، ومن أبرز مهامه جمع الطاقات البشرية الفنية العاملة في هذا المجال من نجارين وحدادين وعمال ونحوهما، سواء من الأقاليم المجاورة للصناعة، أو من مختلف أقاليم الدولة، ومن مهامه أيضاً توفير الأدوات الخام، مثل الأخشاب والمسامير وغيره من مستلزمات دار الصناعة، وعليه يمكن القول أن التنظيم كعنصر من عناصر الإنتاج في العصر الحديث ترجع جذوره إلى القطاع العام الصناعي في العصر الأموي، أو ((متولي الصناعة))، ومن صور دقة تنظيم هذه الصناعة، الاهتمام بتحديد أجور العمال، وتوفير الكميات الغذائية اللازمة لهم، كما حرصت الدولة على توفير سبل الراحة للعاملين في هذه الصناعة، وكان من بين ذلك رفعها كل ظلم يقع على العامل، وتوفير وحدات سكنية للعمال، والمشرفين على هذه الصناعة بداخل دور الصناعة، وكذا وحدات لتموين السفن الحربية بالسرعة والدقة المطلوبة[15]، ونتج عن ذلك كله تطور هائل في حجم الأسطول البحري إبان العهد الأموي[16]: لقد كانت الدولة البيزنطية متفوقة على الدولة الإسلامية الأموية في ميادين البحر، فاتخذ معاوية الوسائل المناسبة لإضعافها ثم القضاء عليها فيما بعد وفي هذا الفقه درس عظيم لقادة الأمة في معرفة عوامل قوة العدو، وجوانب تفوقه ثم السعي للوصول لنقطة تساوي ثم تفوق على الخصوم، سواء في الميادين العسكرية، أو السياسية، أو الاقتصادية أو الإعلامية، ومما نلاحظه الآن القوى العسكرية الهائلة التي تميز بها عدونا سواء على مستوى السلاح الجوي أو النووي والذري، فواجب على الأمة أن تسعى لإيجاد حلول حتى تستطيع أن تقاوم أعداءها وعلى علماء الأمة ومفكريها ألا يخضعوا للضغوط النفسية والسياسية والإعلامية التي يمارسها الأعداء علينا، وعليهم أن يبينوا أحكام الله في امتلاك لما يسمى بأسلحة الدمار الشامل. إن استمرار الأعداء في امتلاك الأسلحة الرادعة والتي لها قدرة بإذن الله على حسم المعارك العسكرية، جعلهم يتجبرون ويتغطرسون ويعملون على إفساد عقائدنا وثقافتنا وديننا، ويستولون على خيراتنا وثرواتنا وديننا يوجب علينا أن نعد لأعدائنا ما استطعنا من قوة، فلذلك وجب علينا أن نسعى لامتلاك الأسلحة الرادعة لكي نحمي بها أمننا وديننا ونقيم العدل وندفع الظلم عن البشرية. ومن الصناعات التي اشتهرت في العهد الأموي، صناعة السفن التجارية، ولم تكن السفن الحربية تختلف كثيراً عن السفن التجارية، ومع ذلك كانت مناطق تصنيعها مختلفة، فقد اختصت منطقة البحرين أكثر من غيرها بإنتاج السفن التجارية، في حين كانت مصر، وعكا، وتونس مواطن تصنيع السفن الحربية، وساعد البحرين على ذلك وقوعها على الخليج العربي، والذي كان يعد من أهم طرق المواصلات التجارية البحرية بين الشرق والغرب وكذا ما اكتسبه أهلها من خبرة ملاحية نتيجة احتكاكهم بشعوب لديها خبرات ملاحية كشعوب الهند، والصين[17]. ولم تقتصر صناعة السفن على البحرين، بل امتدت إلى مدينة واسط بالعراق وقد تطورت هذه الصناعة في عهد ولاية الحجاج بصفة خاصة[18]، فقد أدخل تحسينات على صناعة السفن التجارية لتستطيع السير في عرض البحر، فأمر بتكبير حجمها، واستخدام المسامير لتقويتها، والاهتمام بهيكلها العظمي[19]، وكانت السفن التي تصنع في واسط تسمى الواسطية، وكانت تنتج مدينة واسط القوارب الصغيرة، والتي كانت تستخدم للنزهة والسفر ونقل السلع التجارية بين واسط والبصرة لضحالة الطريق النهري بينهما وعدم قدرة السفن على السير فيه[20]، ولم تكن مراكز إنتاج السفن الشرقية بالدولة الأموية متخصصة في إنتاج السفن التجارية فقط وإن كان هو الغالب عليها، بل كان لديها القدرة المزدوجة، فقد قام الحجاج أيضاً ببناء قوة عسكرية بحرية بالخليج العربي وبحر الهند[21]. |
سادسا : شبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية :
أثار بعض المؤرخين شبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية رضي الله عنه، وذكروا عدة مصارف وسموها بأنها جائرة وغير شرعية منها: 1 ـ التفريط في خراج بعض الأقاليم والتفرقة في العطاء: أ ـ إعطاء مصر طعمة لعمرو بن العاص: تتعدد الروايات التي تنص على أن معاوية أعطى مصر طعمة لعمرو بن العاص لقاء تأييد الأخير له في حربه ضد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجل هذه الأخبار تحوي روحاً عدائية لعمرو ومعاوية وتصور اتفاقهما على حرب علي كما لو كانت مؤامرة دَنيئة أو صفقة مريبة، خان فيها الرجلان ربهما ودينهما، وتاريخهما مقابل عرض زائل أو نصر سريع، وكأنه من المستحيل أن يبذل ابن العاص نصره لقضية اجتمع حولها آلاف الرجال في الشام وغيرها ـ وهي الطلب بدم عثمان ـ إلا إذ نال ولاية مصر وخراجها لنفسه، وبعض هذه الروايات تحوي سباباً لهذين الصحابيين، كأن تزعم أن عمرو فضل ولاية مصر على حسنى الآخرة وصرح بذلك فقال: إنما أردنا هذه الدنيا[1]، أو أنه قال لمعاوية: لا أعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك[2]، أو قوله: إنما أبايعك بها ديني ((أي بمصر[3]، أو قوله لمعاوية: ولولا مصر وولايتها لركبت المنجاة منها، فإني أُعلم أن علي بن أبي طالب على الحق وأنت على ضده[4]، إلى غير ذلك من الروايات[5]، وهكذا روايات باطلة وموضوعة عند المسعودي وكتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة وغيرها تمسخ عمرو بن العاص إلى رجل مصالح، وصاحب مطامع وراغب دنيا، وقد تأثر بالروايات الضعيفة والموضوعة والسقيمة مجموعة من الكتّاب والمؤرَّخين، فأهووا بعمرو إلى الحضيض، كالذي كتبه محمود شيت خطاب[6]وعبد الخالق سيِّد أبو رابية[7]، وعباس محمود العقَّاد الذي يتعالى عن النَّظر في الإسناد، ويستخفُّ بقارئه، ويظهر له صورة معاوية وعمرو رضي الله عنهما بأنَّهما: انتهازيَّان، صاحبا مصالح، ولو أجمع الناَّقدون التاريخيون على بطلان الرِّوايات التي استند إليها في تحليله فهذا لا يعني للعقَّاد شيئاً، فقد قال بعد أن ذكر روايات ضعيفة، واهية، لا تقوم بها حجة:... وليقل الناقدون التاريخيون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار، وصحَّة هذه الكلمات، وما ثبت نقلة، ولم يثبت منه سنده، ولا نصُّه فالذي لا ريب فيه، ولو أجمعت التواريخ قاطبة على نقضه: أن الاتفاق بين الرجلين، كان اتفاق مساومة، ومعاونة على الملك، والولاية، وأن المساومة بينهما كانت على النصَّيب الذي آل على كلِّ منهما، ولولاه لما كان بينهما اتفاق[8]. وهناك عدة دلائل ترد على الروايات الضعيفة والموضوعة والسقيمة التي لاقت رواجاً واستقرار في تشويه عمرو بن العاص ومعاوية بالظلم والبهتان منها ما عرف من صحة إسلام وتقوى معاوية وعمرو، وتاريخهما المضيء في خدمة دين الله منذ أسلما[9]، ففي معاوية يكفي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: اللهم اجعله هادياً مهدياً، واهد به[10]، وقوله صلى الله عليه وسلم اللّهمّ علِّم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب[11]، وأما عمرو بن العاص رضي الله عنه فقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان حيث قال: أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص[12] وفي حديث آخر قال: ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام[13]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :.. وصدق عمرو، إن لعمرو عند الله لخيراً كثيراً[14]. ـ كانت بيعة عمرو لمعاوية في عهد علي على الطلب بدم عثمان، فقد كان تأثر عمرو بمقتل عثمان عظيماً، فعندما سمع خبر مقتل عثمان... ارتحل راجلاً يبكي، ويقول: يا عثماناه: أنعي الحياء والدين... حتَّى قدم دمشق[15]، فقد كان من أقرب أصحابه، وخلانه، ومستشاريه، وكان يدخل في الشُّورى ـ في عهد عثمان ـ من غير ولاية، ومضى إلى معاوية رضي الله عنهما ليتعاونا معاً على الاقتصاص من قتلة عثمان والثأر للخليفة الشهيد[16]، لقد كان مقتل عثمان كافياً لأن يحرِّك كلَّ غضبه على أولئك المجرمين السَّفَّاكين، وكان لابدَّ من اختيار مكان غير المدينة للثأر من هؤلاء الذين تجرَّؤوا على حرم رسول الله، وقتلوا خليفته على أعين النَّاس، وأيُّ غرابة أن يغضب عمرو لعثمان؟ وإن كان هناك من يشك في هذا الموضوع، فمداره على الرِّوايات المكذوبة التي تصوِّر عمراً: كلُّ همه السُّلطة والحكم[17]. ـ ومن الدلائل على بطلان فرية إعطاء مصر طعمة لعمرو بن العاص ، ما ذكره أبو مخنف أحد رواة الفرية السابقة، أن دفع معاوية جيشه إلى فتح مصر وأخذها من يد أنصار علي بن أبي طالب سنة 38هـ ـ وكان عمرو قائده في هذه الحملة ـ أنه كان: يرجو أن يكون إذا ظهر عليها ظهر على حرب علي لعظم خراجها[18]... فكيف يهب معاوية ذلك الخراج كله لعمرو وهو في مسيس الحاجة إليه؟ ـ ومن الدلائل أيضاً: أن معاوية كتب بعد استخلافه إلى عامله على خراج مصر ـ وردان ـ أن زد على كل امرئ من القبط قيراطاً، فرد عليه: كيف وفي عهدهم أن لا يزاد عليهم[19]؟ ولم يل وردان خراج مصر لمعاوية إلا في ولاية عمرو بن العاص لأن من ولوا مصر بعد موت عمرو ـ وهم عتبة بن أبي سفيان وعقبة بن عامر ومسلمة بن خالد ـ كانوا يتولون صلاتها وخراجها، وهذه الرواية صريحة قاطعة في الدلالة على اهتمام معاوية بزيادة حصيلة الخراج في مصر، وفي ولاية عمرو بن العاص عليها، وهذا الاهتمام لا معنى له إلا إذا كان فائض الخراج في مصر يحمل إلى معاوية في دمشق ليواجه به وجوه الإنفاق المتنوعة[20]. كما أن معاوية لم يكن يستحل أن يتنازل عن خراج مصر ـ وهي من أغنى أقاليم الدولة الإسلامية آنذاك ـ لفرد واحد وهو يعلم أنه حق الأمة كلها، وأنه لا يملك التنازل عنه، وقد روى ابن تيمية عن عطية بن قيس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: إن في بيت مالكم فضلاً بعد أعطياتكم وإني قاسمه بينكم، فإن كان يأتينا فضل عاماً قابلاً قسمناه عليكم، وإلا فلا عتبة علي، فإنه ليس بمالي وإنما هو مال الله الذي أفاءه عليكم[21]، وإذا أضفنا إلى ذلك ما نعرفه من تنافس الأمصار الإسلامية مع بعضها، ووجود معارضة للأمويين في مصر كانت حديثة العهد منذ تبعية مصر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى ـ دخلها ـ عمرو بن العاص سنة 38هـ، لازددنا يقيناً أن أهلها لم يكونوا يقبلون ما يزعمه الرواة حول إعطائها طعمة لابن العاص وعلى ذات السبيل نذكر أن من رجال مصر من بذل في سبيل نصرة معاوية مثلما بذل عمرو بن العاص، إن لم يفقه، كمعاوية بن حديج وأصحابه من العثمانية، وهؤلاء لا يقبلون بحال أن يمتاز عمرو عليهم كل هذا الامتياز، قد مر بنا فيما مضى أن معاوية بن حديج هذا قد أرجع ابن أخت معاوية ـ عبد الرحمن بن أم الحكم ـ الذي ولاه معاوية مصر، من قبل أن يدخلها، ورفض أن يتولى إمارتهم ورده إلى الشام على نحو غير كريم، فما استطاع معاوية أن يغضب بن حديج[22]. ب ـ التنازل عن خراج ((دارابجرد)) للحسن بن علي: زعم بعض المؤرخون أن معاوية تنازل للحسن بن علي رضي الله عنهما عن خراج ((دارابجرد)) وأن يعطيه مما في بيت مال الكوفة مبلغ خمسة آلاف ألف درهم مقابل تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية، وأن الحسن قد أخذ ما في بيت مال الكوفة ولكنه لم يستطع الحصول على خراج ((دارابجرد)) إذ إن أهل البصرة قد منعوه منه، ويزعمون أن ذلك كان بتحريض معاوية أو بمبادرة من البصريين على أن هذه الرواية تغض من شأن الحسن ومعاوية معاً وتجعلهما في موقف التواطؤ على أكل أموال المسلمين بالباطل[23]وهذا باطل ولا يصح والصحيح مثبت في البخاري بأن الحسن قال لوفد معاوية عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال.. فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به[24]، فالحسن يتحدث عن أموال سبق أن أصابها هو وغيره من بني عبد المطلب، يريد الحسن أن لا يطالبهم معاوية، ولا ذكر لأموال يطلب من معاوية أن يدفعها إليه قادم[25]، وذكر ابن أعثم أن الحسن قال: أما المال فليس لمعاوية أن يشترط لي فيء المسلمين[26]، والمعلوم أن جباية الخراج من مهام الدولة، ولا علاقة مباشرة بين الحسن وأهل البصرة في هذا الجانب، ولكن الرواية أشارت إلى أن خراج دار بجرد لم يكن في الأموال التي صيرت إلى الحسن[27]، ورُوي أن الحسن قال لمعاوية: إن عليَّ عِدَّات ودُيوناً، فأطلق له من بيت المال نحو أربعمائة ألف أو أكثر[28]، وذكر ابن عساكر: يُسلَّم له بيت المال فيقضي منه ديونه ومواعيده التي عليه، ويتحمل منه هو ومن معه عيال أهل أبيه وولده وأهل بيته[29]، وذهب بعض المؤرخين إلى أن إبقاءه ما في بيت المال معه (خمسة ملايين درهم)، استبقاه لأولئك المحاربين الذين كانوا معه، يوزِّعه بينهم، ويبقى لمعيشته له ولأهل بيته ولأصحابه[30]. ولا شك أن توزيع الأموال على بعض الجنود يساعد في تخفيف شدة التوتر . إن الذي جاء في رواية البخاري هو الذي أميل إليه فالأمر لا يكون تجاوز طلب العفو عن الأموال التي أصابها الحسن وآله في الأيام الخالية. وأما الروايات التي تشير بأن يجري معاوية للحسن كل عام مليون درهم وأن يحمل إلى أخيه الحسين مليوني درهم في كل عام ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس[31]، وكأن الحسن باع الخلافة لمعاوية، فهذه الروايات وما قيل حولها من تحليل وتفسير لا تقبل ولا يعتمد عليها، لأنها تصور إحساس الحسن بمصالح الأمة يبدو ضعيفاً أمام مصالحه الخاصة[32]. وأما حقه في العطاء فليس الحسن فيه بواحد من دون المسلمين، ولا يمنع أن يكون حظه منه أكثر من غيره، ولكنه لا يصل إلى عشرة معشار ما ذكرته الروايات[33]. جـ ـ التفرقة في العطاء: أول من سن ديوان العطاء في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه أما قبل ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت غنائم الحرب توزع على المسلمين فور إنتهاء المعارك[34]، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين، وكان شيئاً كثيراً[35]، فتقرر بذلك أن تفضيل بعض الناس في توزيع الغنائم أمر مباح وقد يكون مستحباً إذا اقتضت مصلحة المسلمين ذلك[36]، وإن كان ذلك يزيد في غنائمهم عن بقية المسلمين، ثم كثرت بعد ذلك الغنائم المجلوبة إلى حاضرة المسلمين نتيجة اتساع نطاق الغزو زمن عمر بن الخطاب فاستشار أصحابه وانتهى أمره إلى تدوين ديوان العطاء ليكفل توزيعه على نحو معروف، وفضل أصحاب السابقة والقرابة من النبي صلى الله عليه وسلم على من عداهم[37]،.. ولما جاء الأمويون فضلوا أهل الشام على من عداهم، فقد كانوا أنصارهم المخلصين، وهم عماد الجيوش المجاهدة سواء في الشمال في جهاد الروم أو في الغرب في فتوح إفريقية والأندلس، وهم المحافظون على سلامة الدولة وقمع مخالفيها، وكم استنجد بهم ولاة الأمصار حين خرج عليهم خارجون وعجز جند المصر في الدفاع عن أنفسهم ونظامهم كما حدث في قتال ابن الأشعث[38]، ومواجهة ثورة يزيد بن المهلب زمن يزيد بن عبد الملك[39]، وكما حدث في انتقاض البربر الخوارج بإفريقية في عهد هشام[40]. |
2 ـ التوسع في إنفاق الأموال لتأليف القلوب واكتساب الأنصار:
أنفق معاوية رضي الله عنه أموال كبيرة ليتألف بها قلوب الزعماء والأشراف ويوطد أركان الدولة الإسلامية التي قامت بعد فترات من الصراع والتطاحن، فقد رأى معاوية رضي الله عنه أن إراقة بعض المال خير من إراقة كثير من دماء المسلمين.. فأعطى هؤلاء الرجال المال يستميل به قلوبهم، قلوب أتباعهم وأنصارهم، ويعلي به مكانتهم ويسد خلة من وراءهم، ولعله قد فهم من إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم بعد فتح مكة ليستميلهم نحو الدين ويسيل سخائم نفوسهم، أنه يجوز أن يعطي أمثال هؤلاء الرجال ليتألف قلوبهم ويضمن ولاءهم، والولاء للدين والدولة يختلطان في فهم معاوية وبني أمية حيث قامت دولتهم فيما اعتقدوا لنصرة الدين وجمع شمل أهله[1]، وأخيراً فإن كان معاوية مخطئاً في ذلك فما القول في هؤلاء السادة الذين قبلوا عطاياه وجوائزه وفيهم من اشتهر بالتقوى والورع والخوف من الله تعالى؟ إن من الحق أن نقول إن المجتمع الإسلامي في ذلك العهد كان يشهد تغيراً كبيراً عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين حتى صارت بعض فعالياته السياسية ترى أن من حقها التميز في العطاء[2]. 3 ـ مظاهر النزف عند الأمويين: هذا ويحتل الحديث عن ترف الأمويين وبذخهم مكانة واسعة عند مؤرخينا، والحق أنه كان عندهم لون من ألوان البذخ في سكناهم وفي لباسهم وفي عطائهم ونفقاتهم، وقد لفت معاوية نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنهم إليه وهو بعد أحد ولاة الشام، يغدو في موكب ويروح في آخر، ولكن من الحق أيضاً ألا ننظر إلى حياة الأمويين بمعزل عن حياة المجتمع العربي والإسلامي آنذاك، فهي جزء منه، تتأثر به، كما تؤثر فيه، وفي ذلك العصر كان التطور الاجتماعي يتلاحق، ومظاهر الغنى وانثيال الأموال والرغبة في التمتع الحلال به تصبح أمراً ظاهراً يدفع الذوق العام والقيم الاجتماعية الحاكمة آنذاك إلى مزيد من التفتح والاتساع.. وأن هذه السمة الظاهرة لا تنفيها ورود أخبار مؤكدة في زهد معاوية ورقة ثيابه[3]، أو زهد عامله زياد ولباسه المرقوع[4]، فلا تناقض بين هذه الروايات وما عرف من التلبس بمظاهر الملك، بل هي دليل على نفوس عالية لا ترى الزهادة نقصاً ولا ترى التنعم حراماً[5]، وهكذا إذا نظرنا نظرة شاملة في وجوه الإنفاق المالي في ذلك العصر لا نجد مظاهر الترف والبذخ قصراً على بني أمية، خلفائهم وولاتهم، فبعض بني هاشم وبني الزبير وغيرهم من معارضي الأمويين لم يكونوا أقل سماحة بالمال من بني أمية ولا أكثر حرصاً عليه[6]، وإذا كان بنو أمية قد ابتنوا القصور فقد بنى رجال من أشراف العرب قصوراً كان لها ذكر وبهاء وكان العرب يعدون ذلك كرماً، ويتفاخرون به، ويتوقعون مثله من كل شريف من أشرافهم وإن لم يكن حاكماً[7]، والترف في المجتمعات الإسلامية ظاهرة سلبية لها ما بعدها، إن بحبحة الأمويين في الإنفاقات المالية أدت إلى ظهور الترف ثم تعمق وتجذر في الأمة حتى أصبح ترفاً مدمراً، ظهرت معالمه وآثاره في سقوط بلاد الشام في الصليبيين ثم سقوط بغداد في يد المغول وزوال الدولة العباسية، لذلك يكره الإسلام الترف ويحذر منه أشد التحذير: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)) (الإسراء ، الآية : 16). إنه كالحمض الأكال الذي ينخر في جسم المادة فيذهب بصلابتها، فتصبح هشة سهلة القصف، أو تصبح لينة لا قوام لها في الصدام، وقد كانت وفرة المال في أيدي الناس هي الباب المؤدي إلى الترف بطبيعة الحال ـ ولكن هذا ـ يفسر ولا يبرر، فإنه لا يوجد تبرير لمعصية الله، وقد جاء المال بوفرة نسبية على أيام عمر رضي الله عنه ولكنه تصرف بشأنه بمنع الفساد، فمنع الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ من الخروج من المدينة ـ للضياع والتجارة ـ حتى لا تتكون منهم طبقة تملك المال في أيديها وتملك السلطان ((الأدبي)) على الناس، فيحدث التميز وتفسد الأحوال، فضلاً عن احتمال إصابتهم هم أنفسهم بالترف وهم هيئة المشورة إلى جانب الخليفة، فتفسد مشورتهم حين تترهل نفوسهم ـ وإلى جانب ذلك ـ وقبل ذلك، أخذ عمر رضي الله عنه نفسه وأهل بيته بالشدة الحازمة، حتى لا يكونوا قدوة سيئة أمام الناس، فيفسد الناس، أما حين يترك المال بدون تصرف معين من ولي الأمر، يسمح بالنفع ويمنع الضرر، فإنه لا بد أن يؤدي إلى نتائجه المحتومة حسب السنة الإلهية، لا لأن المال في ذاته هكذا يضع، ولكن لأن الجهد البشري المطلوب لإصلاح الآفة لم يبذل فتنفرد الآفة وحدها بالسلطان، وآفة المال الترف، وعلاجها في يد ولي الأمر... بنشر روح الجد في المجتمع وبإعطاء القدوة من نفسه لبقية الناس. أما حين يترك في أيدي الناس بلا ضابط ـ مع وجود فئة تعمل جاهدة في إفساد أخلاق المجتمع وروحه كما فعل الفرس، فالنتيجة هي ما قررته السنة الربانية التي جاء بيانها في كتاب الله: ((ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) (الروم ، الآية : 41). والترف مُعْد ككل آفة.. فحين لا يعالج، ولا يوقف فإنه ينتشر ولا بد.. وحين يكون مبتدؤه في قصور الخلافة فأمهر أسوأ، لأن الحكام دائماً قدوة، وقد كان الأمويون ـ برغم وجود الترف بينهم ـ أقل فساداً بالمال من العباسيين، لأنهم كانوا أكثر انشغالاً بتثبيت دولتهم من ناحية، وبالجهاد في سبيل الله من ناحية أخرى، فأما العباسيون فبعد أن استتب لهم الملك أخذ الترف يسري بينهم سريعاً، خاصة بفعل الحاشية الفارسية المفسدة المتعمدة للفساد ومن قصور الخلافة انتقل الترف بالعدوى إلى قصور الأمراء والوزراء، ثم قصور التجار الذين وصل دخلهم في التجارة العالمية إلى ملايين الدنانير، وشيئاً فشيئاً غلب الفساد على عاصمة الخلافة بغداد ثم العواصم الإسلامية الأخرى[8]. |
المبحث السادس : القضاء في عهد معاوية رضي الله عنه والدولة الأموية :
يعتبر القضاء في العهد الأموي من الدرجة الثالثة بعد القضاء في العهد النبوي والقضاء في العهد الراشدي، لأن العصر الأموي كان زاهياً وفيه كثير من آثار العهد الراشدي، وكانت كثير من الأعمال امتداداً للعهد الراشدي، وخاصة في جانب الفتوحات الإسلامية، وانتشار الدعوة في المشارق والمغارب ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وازدهار الحضارة الإسلامية[1]. أولاً : صلة العهد الأموي بالعهد الراشدي : كان العهد الأموي وخصوصاًَ عهد معاوية امتداداً للعهد الراشدي في عدة جوانب، فبقي كثير من الصحابة إلى العهد الأموي، وشاركهم في العلم والفقه والقضاء وغيرها كبار التابعين، ثم صغار التابعين، كما بقي بعض قضاة العهد الراشدي يمارسون القضاء في العهد الأموي، وبعدهم طال قضاؤهم كشريح بن الحارث رحمه الله، وبقيت في العهد الأموي آثار التربية الدينية وسمو العقيدة، وآثار الإيمان، والالتزام بأهداب الدين، والتقيد بالأحكام الشرعية، وظهر في العهد الأموي عدد كبير من المجتهدين الذين كانوا صلة الوصل بين الصحابة والمذاهب الفقهية، وكان العلماء والمجتهدون في العهد الأموي أساتذة لأئمة المذاهب التي ظهرت في العهد العباسي، وكان لهذه الصورة الفقهية الزاهية أثرها الكبير والمحمود على حسن سير القضاء والعدالة في العهد الأموي، وزهر التوسع بالاجتهاد، كما بدأت حركة تدوين العلوم الإسلامية، والانفتاح على الحضارات الأخرى، وترجمة الثقافات والعلوم من الأمم المجاورة[2]. ثانياً : تخلي الخلفاء عن ممارسة القضاء، وفصل السلطات: كان الخلفاء الراشدون يتولون القضاء بأنفسهم، ويفصلون في القضايا والدعاوى والمنازعات، وصدرت عنهم أقضية كثيرة، وكان الولاة في الأمصار يتمتعون بنفس السلطات والصلاحيات الممنوحة للخليفة لأنهم نواب عنه، إلا إذا قيدت سلطتهم ومنعوا من القضاء، وعين معهم القضاة للفضل بين الناس، ومن هؤلاء الولاة معاوية بن أبي سفيان الذي بقي والياً على الشام عشرين سنة، وكان يتولى القضاء والحكم بنفسه[3]، ولما تولى معاوية الخلافة تخلى عن ممارسة القضاء، وعين القضاة في حاضرة الدولة الإسلامية بدمشق وفوَّض إليهم السلطة القضائية، وخولهم الصلاحيات الكاملة في الدعاوى، وسار ولاته في الأمصار على هذا النهج، وابتعد الولاة عن أعمال القضاء، وسار خلفاء بني أمية على هذه الخطة طوال العهد الأموي، سواء في عاصمة الدولة الأموية، أم في سائر الأمصار والمدن والولايات وانقطعت صلة خلفاء بني أمية عن القضاء الإسلامي إلا في ثلاثة أمور: 1 ـ تعيين القضاة مباشرة بالعاصمة دمشق. 2 ـ الإشراف على أعمال القضاة وأحكامهم، ومتابعة شؤونهم الخاصة في التعيين والعزل، والرزق، وحسن السيرة، ومراقبة الأحكام القضائية التي تصدر عنهم، للتأكد من مطابقتها للحق والعدل، والشرع والدين، والالتزام بالسلوك القضائي القويم. 3 ـ ممارسة قضاء المظالم، وقضاء الحسبة. وقد أولى خلفاء بني أمية أهمية خاصة ورعاية كاملة لقضاء المظالم حتى وقف على قدميه، وأصبح له جهاز كامل مستقل. ومن ذلك نرى أن القضاء في العهد الأموي كان مستقلاً عن أي سلطة أخرى حتى سلطة الخليفة أو الوالي الذي كانت سلطته تنتهي عند تولية القاضي أو عزله، دون أن يكون لهم تدخل في أعمال القاضي واجتهاده وحكمه، وما على الخلفاء والولاة إلا تنفيذ الأحكام التي يصدرها القضاة[4]. قال النُباهي: ولما أفضى الأمر إلى معاوية بن صخر جرى بجهده على سنن من تقدّمه من ملاحظة القضاة، وبقي الرسم على حذو ترتُّبه زماناً[5]. فقد كان معاوية رضي الله عنه أول خليفة امتنع من القضاء تماماً، ودفعه إلى غيره، فكان له قضاة في قاعدة ملكه، فضلاً عن قضاته في الأمصار[6]. ثالثاً : رزق القضاة : من المعلوم أن عمر بن الخطاب هو الذي فصل القضاء عن الولاية، وهو أول من رتب أرزاق القضاة، وأمَّا أمير المؤمنين علي وهو المعروف بالزهد والقناعة فقد قال لعامله على مصر في شأن القضاة:... وافسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس[7]، واستمر الحال على ذلك في العهد الأموي، فكانت تجري على القضاة أرزاقهم من بيت المال[8]، مع التوسع عليهم، واختلاف المقدار بحسب البلدان والظروف[9]، وروى الشعبي عن شريح أنه كان يأخذ على القضاء خمسمائة درهم كل شهر ويقول: استوفي لهم، وأوفيهم ويقول أيضاً: أجلس لهم على القضاء وأحبس نفسي ولا أرزق؟؟ ولما قدم عبد الملك بن مروان النخيلة سنة 72هـ، وسأل عن شريح، فعلم أنه امتنع عن القضاء في ـ عهده ـ ابن الزبير، فاستدعاه وقال له: وفقك الله، عُدْ إلى قضائك، فقد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم، وثلاثمائة جريب، فأخذهما وقضى إلى سنة ثمان وسبعين[10]، وكان بعض القضاة لا يأخذون على القضاء أجراً ويحتسبون أجرهم عند الله تعالى في إقامة شرعه، منهم مسروق بن الأجدع القاضي والمفتي ت 63هـ وكان أعلم بالفتيا من شريح، وشريح أبصر منه في القضاء، وقالت امرأة مسروق: كان مسروق لا يأخذ على القضاء رزقاً، وقال القاسم: كان مسروق يقول: لأن أقضي يوماً فأقول فيه الحق أحب إلي من أن أرابط سنة في سبيل الله[11]. رابعاً : تسجيل الأحكام والإشهاد عليها : ظهر في العهد الأموي لأول مرة تسجيل الأحكام القضائية التي يصدرها القاضي في سجله، وديوان المحكمة ليرجع إليه القاضي عند الحاجة، وأول من سجل الأحكام سُليَم بن عنز التجيبي قاضي مصر في عهد معاوية، لما تخاصم إليه أشخاص في توزيع ميراث، فحكم بينهم، فغابوا مدة، واختلفوا وتناكروا وتجاحدوا الحكم، وعادوا يطلبون فصل الخلاف ثانية، فتذكر القاضي قصتهم، وكاشفهم بها، فاعترفوا، فأعادوا الحكم بينهم، وطلب من كاتبه أن يُسجل الأحكام القضائية وكتب لهم كتاباً بقضائه، وأشهد عليه[12]. وقال الكندي: فكان سليم أول القضاة بمصر سجّل سجلاً بقضائه[13] وكان سُليم ـ فيما وصل إلينا ـ أول من أشهد على الأحكام القضائية لتوثيقها، ومنع جحودها أو إنكارها، ثم توسع الأمر في العهد العباسي[14]. خامساً : أعوان القضاة : يحتاج القضاة عادة إلى أعوان يساعدونهم في حسن التقاضي وسير القضاء، منهم كاتب القاضي أو كاتب المحكمة، أو كاتب الضبط، وأول ما ظهر في العهد الراشدي[15] ثم شاع استعماله فيما بعد، وظهر أعوان جدد في العهد الأموي بحسب الحاجة، وتطور الحياة، واتساع أعمال القاضي، وكثرة الدعاوي، ونذكر أهمهم: 1 ـ المنادي : وهو الذي يجلس عند القاضي، لبيان مكانة القاضي، ومعرفته، والمناداة على الخصوم، وكان يطلق عليه ((الذي على رأس القاضي)) أو ((صاحب المجلس)) وأول ما ظهر ذلك في عهد شريح، قال وكيع: عن عمرو بن قيس الماضي، قال: رأيت رجلاً كان يقوم على رأس شريح، وكان إذا تقدم إليه خصمان، فيقول: أيكما المدعي فليتكلم))، وروى وكيع أيضاً ((كان شريح إذا جلس للقضاء لم يقم حتى: يُنادي: هل من خصم أو مستثبت؟ أو مستفت[16]؟ 2 ـ الحاجب : وهو الذي يقف على باب القاضي، ليحجب عنه الناس أثناء النظر في الدعاوي، ويرتب دخول المتداعين عليه عند تزاحمهم وتعددهم، وقد يكون الحاجب هو المنادي الذي يقف على رأس القاضي، ويقوم بالعملين معاً، وقد يكون هو نفسه الجلواز ((التابع للشرطي ، أو أحد الشرطة القضائية))، وقد يكلفه القاضي القيام ببعض الأعمال في المحكمة، أو أداء بعض المهمات خارجها[17]، وذكر وكيع أن إبراهيم النخعي كان جلواذاً للقاضي شريح[18]، وكان على رأس شريح شرطي بيده سوط[19]. 3 ـ الترجمان أو المترجم : اتخذ القضاة الترجمان لكثرة الشعوب غير العربية التي دخلت في الإسلام، وتعارفت هذه الشعوب واختلطت مع بعضها، تحقيقاً لقوله تعالى: ((وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)) (الحجرات ، الآية : ) فإذا حصل نزاع أو اختلاف، أو دعوى، استعان القاضي بالترجمان الثقة المقبول لينقل أقوال الخصوم له[20]. سادساً : المراقبة والمتابعة : إن تخلي الخلفاء والولاة عن ممارسة القضاء، والاقتصار على التعيين والعزل لم يمنع الخلفاء من مراقبة أعمال القضاة ومراجعة أحكامهم ومتابعة الدعاوة والأقضية التي تصدر عنهم، لأن الخليفة هو المسؤول عن القضاء، وجميع ما يخص الأمة والأفراد في سياسة الدين والدنيا، وتفويض القضاء للقضاة لا ينجي الخليفة من المسؤولية في الدنيا والآخرة، لذلك كان الخلفاء يراقبون أعمال القضاة، ويتابعون ما يصدر عنهم، فإن وجدوا فيه خللاً أو انحرافاً، أو تقصيراً، تصدوا للتقويم والتصحيح[21]، وهذا ما نقلناه سابقاً عن النباهي قال: ((ولما أفضى الأمر إلى معاوية بن صخر جرى بجهده على سنن من تقدَّمه من ملاحظة القضاة، وبقي الرسم حذو ترتبه زماناً[22]. سابعاً : مصادر الأحكام القضائية في العهد الأموي : اعتمد القضاة على المصادر نفسها التي جرى عليها القضاة في العهد الراشدي، وذلك بالالتزام بالكتاب والسنة، والإجماع، والسوابق القضائية والاجتهاد مع الاستشارة، وكان الالتزام بالقرآن والسنة هو الأساس، وهو ما تلتزم به الخلافة، وتتم عليه البيعة، وتطور الأمر في السوابق القضائية على الإشادة بقول الصحابة رضوان الله عليهم والتقيد غالباً بما صدر عنهم، لأنهم أقرب عهداً وصلة بمدرسة النبوة، ونزول الوحي، وخصوصاً أقضية الخلفاء الراشدين، كما بدأ يظهر في هذا العهد أثر العرف والعادة على أقضية الحكام، نظراً لاختلاف الأعراف والعادات في أصقاع الخلافة الأموية المترامية الأطراف، فكان القضاة ينظرون في الأقوال والدعاوى والأيمان والتهم بحسب الأعراق التي تظلهم وتحدد المراد من الألفاظ والمصطلحات[23]، وكان الفقهاء والقضاة والخلفاء يحرصون على التثبت من نقل النصوص، وصحة الأحاديث للاعتماد عليها، وحذر معاوية رضي الله عنه من الاعتماد على الأحاديث المكذوبة، فخطب في وفد من قريش، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد، فإنه قد بلغني أن رجالاً فيكم يتحدثون بأحاديث ليست في كتاب الله، ولا تُؤْثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولئكم جهالكم[24]، وكان القضاة يعينون من الخلفاء والولاة، وتطلق يد القضاة يتقيدون برأي اجتهادي معين من أحكامهم، إلا ما ورد في النصوص والإجماع، وإلى حد ما إلى السوابق القضائية وقول الصحابة، ولم تكن المذاهب الفقهية قد ظهرت، ولم تدن الأحكام، فكان الأمر راجعاً إلى القضاة أنفسهم، وبما يصلون إليه مع استشارة الفقهاء والعلماء والمجتهدين في كل مصر على حده[25]. ثامناً: اختصاص القضاة، وتخصيص القضاء: كان لاتساع الدولة الإسلامية في العهد الأموي، وكثرة الناس، وانشغال الخلفاء بالفتوحات، وإدارة الدولة، وإخماد الفتن الداخلية أن انصرفوا عن القضاء، وفوضوا جميع اختصاصاته إلى القضاة، وتنازلوا عن النظر في الجنيات والحدود، وكلفوا القضاة النظر فيها، وكان معاوية بن أبي سفيان أول من تنازل عن النظر في الجراح والقتل والقصاص إلى القضاة، فكتب إلى القاضي سُلَيم بن عِتر ((قاضية على مصر)) يأمره بالنظر في الجراح، وأن يرفع ذلك إلى صاحب الديوان، وكان سُليم أول قاض نظر في الجراح، وحكم بها، فكان الرجل إذا أصيب فجرح أتى إلى القاضي، وأحضر بينته على الذي جرحه، فيكتب القاضي بذلك الجُرح قصته علىعاقلة الجارح ويرفعها إلى صاحب الديوان، فإذا حضر العطاء اقتص من أعطيات عشيرة الجارح ما وجب للمجروح، وينجَّم ((يقسَّط)) ذلك في ثلاث سنين، فكان الأمر على ذلك[26]، وكان القاضي في العهد الأموي عام النظر في الحقوق والأموال، وأحكام الأسرة، والمواريث والقصاص والحدود، ويظهر ذلك جلياً في من سيرة القضاة وأقضيتهم التي ذكرها وكيع في كتابه، أخبار القضاة، والكندي في كتابةه((الولاة والقضاة))[27] وفي العهد الأموي ضُم إلى القاضي أعمال أخرى بعضها شبه قضائية، وبعضها إدارية، فمن أهم هذه الأعمال في ذلك العصر، النظر في أموال الأيتام، الإشراف على الأوقاف، الإفتاء[28]. تاسعاً : القضاة والأعمال المختلفة : نظراً لما يتمتع به القضاة من الثقة، وما يتصفون به من العدل والنزاهة، والورع والتقوى، فقد أسند لهم الخلفاء في العهد الأموي عدة أعمال هي: 1 ـ الشرطة : تولى القضاة رئاسة الشرطة بالإضافة إلى أعمالهم القضائية، فجمعوا بين ولاية القضاء وولاية الشرطة وذلك في عدة مدن إسلامية، فقد روى وكيع أن معاوية عزل سعيد بن العاص عن المدينة سنة ثلاث وخمسين، ويقال سنة أربع وخمسين في شهر ربيع، وأعاده مروان بن الحكم، فعزل مروان أبا سلمة، واستقضى أخاه مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وضم إليه الشُرَط مع القضاء أخذ الناس بالشدة[29]، وقال الكندي عن مسلمة بن الحكم، فعزل مروان أبا سلمة، واستقضى أخاه مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وضم إليه الشُرَط مع القضاء، وكان شديداً صلباً في ولايته، ولما ولي الشُرَط أخذ الناس بالشدة[30]، قال الكندي عن مسلمة بن مخلَّدَ أنه: قدم مسلمة الفُسطاط، فعزل السائب بن هشام بن كنانة العامري عن شُرطَه، وولّى عليها عابس بن سعيد، وعزل سُليمان بن عنز عن القضاء وجعله إلى عابس، فجمع له القضاء والشّرط، وهو أول من جمع له سنة ستين[31]، ولما تولى مسلمة سنة 62هـ، بعد أن مكث والياً على مصر أكثر من 15 سنة وليها سعيد بن يزيد الأزدي في رمضان سنة 62هـ،فاقر عابس بن سعيد على القضاء والشُرط جميعاً، ولما جاء عبد الرحمن بن عتبة بن جَحْدم الفهري أميراً على مصر أقر عابساً على الشُرط والقضاء وذكر الكندي أن مسلمة بن مخلِّد والي مصر عين عابس بن سعيد على شُرطته، ثم جمع له الشُرط والقضاء[32]، وذلك في أول سنة إحدى وستين[33]. 2 ـ الإمارة : استعمل بعض القضاة ولاة في بعض الأحيان، كما كان الخليفة أحياناً ينيب القاضي مكانه في الإمارة إذا خرج عن دمشق، وكان كثير من الولاة يستخلفون القاضي على إدارة الأمور، وتصريف شؤون المصر أثناء غيابهم، أو خروجهم لمهمة، قال أبو زرعة: لما خرج معاوية إلى صفين استخلف القاضي فضالة بن عُبيد على دمشق[34]. يتبع |
|
[align=justify]عاشراً : أسماء القضاة في عهد معاوية :
1 ـ أشهر قضاة دمشق : أ ـ فضالة بن عُبيد الذي ولاه معاوية القضاء في الشام بترشيح أبي الدرداء رضي اله عنه، وبقي فضالة على القضاء حتى مات في خلافة معاوية سنة 53هـ وحضر معاوية جنازته وحمل بجانب السرير، وكان معاوية يستخلفه على دمشق عندما يخرج منها[1]، وقضى فضالة بدر الحد عندما أتاه رجل بسارق يحمل سرقته، فقال له فضالة: لعلك وجدتها، لعلك التقطتها، فقال له الرجل: إنّا لله وإنا إليه راجعون، إنه ليلقنه، قال: إي والله، أصلحك الله، وجدتها، فخلا سبيله، وأجاز الفقهاء تلقين المتهم في الحدود، كما فعل رسول الله صلى اله عليه وسلم مع ماعز[2]. ب ـ النعمان بن بشير بن سعد ، أبو إدريس الأنصاري الخزرجي، الصحابي الذي ولي القضاء بالشام بعد فضالة وتوفي سنة 64هـ قتلاً بقرب حمص[3]. 2 ـ قضاة المدينة : أ ـ أبو هريرة الصحابي المشهور رضي الله عنه : قضى بالمدينة، لما رواه وكيع عن نعيم قال: شهدت أبا هريرة يقضي.. وأمر بالتسوية بين الخصوم، ورفض حبس مدين معسر، وحكم على قاذف بثمانين جلدة، وكان أبو هريرة يسكن المدينة حتى توفي فيها سنة 59هـ[4]، ولعله استقضى قبل عبد الله بن الحارث ب ـ عبد الله بن الحارث بن نوفل ، أبو عبد الله بن نوفل بن الحارث: وهو أول قاض في المدينة لواليها مروان بن الحكم في خلافة معاوية، وكان أول ما قضى حقاً على آل مروان، فزاده ذلك عند مروان بن الحكم خيراً، وكان يقضي باليمين مع الشاهد، وتوفي سنة 84هـ، وكان من صلحاء المسلمين وفقهائهم[5]. جـ ـ أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف (94هـ ت) وهو من كبار التابعين، وكان يزعم عن نفسه أنه أفقه الناس، واستعمله سعيد بن العاص والي معاوية على قضاء المدينة، وكان يستحلف صاحب الحق مع الشاهد الواحد[6]. س ـ مصعب بن عبد الرحمن بن عوف (64هـ) توفي استقضاه مروان بن الحكم سنة 53هـ أو 54هـ وضمَّ إليه الشُرط مع القضاء، وكان شديداً صلباً في ولايته، ولما ولي الشُرط أخذ الناس بالشدة في جرائم القتل التي انتشرت في المدينة[7]، ولما مات معاوية واستخلف يزيد استعمل على المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان، فاستقضى طلحة بن عبد الله بن عوف، وهو أحد الأجواد، ويقال له طلحة الجواد[8]. 3 ـ قضاة البصرة: تولى القضاة في البصرة كثيرون، نذكر منهم:عُميرة بن يثربي الضِّبي الذي استقضاه عبد الله بن عامر بن كُريز عامل معاوية على البصرة، وكان عميرة يحكم بضمان العارية، وبقي في القضاء حتى سنة 45هـ، فعزله زياد الذي ولي إمارة البصرة، وولي القضاء عمران بن حصين فاستعفاه بطلبه، وولي عبد الله بن فضالة ثم أخاه عاصم بن فضالة، ثم زرارة بن أوفى[9] . 4 ـ قضاة الكوفة: كانت الكوفة من أنشط المدن العلمية وكانت مركز النشاط والحركة والعلم منذ أسست في عهد عمر رضي الله عنه واتخذها علي رضي الله عنه عاصمة وكان من أشهر قضاة الكوفة شريح القاضي فقد كان من عهد عمر واستمر في القضاء طوال العهد الراشدي، ومدة طويلة في العهد الأموي تزيد عن خمس وثلاثين سنة وتوقف (في عهد بن الزبير) ثم عاد إلى القضاء حتى استعفى من الحجاج فأعفاه سنة 78هـ[10]، ومن قضاة الكوفة في عهد معاوية رضي الله عنه، مسروق بن الأجدع الهمداني، ولي لمعاوية في إمرة زياد القضاء، وكان من الفضلاء[11]. 5 ـ قضاة مصر : ومن اشهر قضاة مصر في عهد معاوية سُلَيْم بن عنز التجيبي وهو أول من ولي القضاء بمصر في أيام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سنة أربعين هـ[12]، وعابس بن سعيد المرادي الذي عينه مسلمة بن مخلد على الشرطة، ثم عزل سُليم بن عنز عن القضاء، وجعله إلى عابس فجمع له القضاء والشُّرط[13]، هؤلاء هم أشهر القضاة في عهد معاوية رضي الله عنه. [/align] |
الساعة الآن 12:46 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |