منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب تاريخ ابن خلدون (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8921)

ميارى 4 - 8 - 2010 12:31 AM

الباب الرابع من الكتاب الأول في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق الفصل الأول في أن الدول أقدم من المدن والأمصار وأنها إنما توجد ثانية عن الملك وبيانه أن البناء واختطاط المنازل إنما هو من منارع الحضارة التي يدعو إليها الترف والدعة كما قدمناه‏.‏ وذلك متآخر عن البداوة ومنازعها‏.‏ وأيضا فالمدن والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير‏.‏ وهي موضوعة للعموم لا للخصوص فتحتاج إلى اجتماع الأيدي وكثرة التعاون‏.‏ وليست من الأمور الضرورية للناس التى تعم بها البلوى حتى يكون نزوعهم إليها اضطراراً بل لا بد من إكراههم على ذلك وسوقهم إليه مضطهدين بعصا الملك أو مرغبين في الثواب والأجر الذي لا يفي بكثرته إلا الملك والدولة‏.‏ فلا بد في تمصير الأمصار واختطاط المدن من الدولة والملك‏.‏ ثم إذا بنيت المدينة وكمل تشييدها بحسب نظر من شيدها وبما اقتضته الأحوال السماوية والأرضية فيها فعمر الدولة حينئذ عمر لها‏.‏ فإن كان عمر الدولة قصيراً وقف الحال فيها عند انتهاء الدولة وتراجع عمرانها وخربت وإن كان أمد الدولة طويلاً ومدتها منفسحة فلا تزال المصانع فيها تشاد والمنازل الرحيبة تكثر وتتعدد ونطاق الأسواق يتباعد وينفسخ إلى أن تتسع الخطة وتبعد المسافة وينفسح ذرع المساحة كما وقع ببغداد وأمثالها‏.‏ ذكر الخطيب في تاريخه أن الحمامات بلغ عددها ببغداد لعهد المأمون خمسة وستين ألف حمام وكانت مشتملة على مدن وأمصار متلاصقة ومتقاربة تجاوز الأربعين ولم تكن مدينة وحدها يجمعها سور واحد لإفراط العمران‏.‏ وكذا حال القيروان وقرطبة والمهدية في الملة الأسلامية وحال مصر القاهرة بعدها فيما يبلغنا لهذا العهد‏.‏ وأما بعد انقراض الدولة المشيدة للمدينة‏:‏ فإما أن يكون لضواحي تلك المدينة وما قاربها من الجبال والبسائط بادية يمدها العمران دائماً فيكون ذلك حافظاً لوجودها ويستمر عمرها بعد الدولة كما تراه بفاس وبجاية من المغرب وبعراق العجم من المشرق الموجود لها العمران من الجبال لأن أهل البداوة إذا انتهت أحوالهم إلى غاياتها من الرفه والكسب تدعو إلى الدعة والسكون الذي في طبيعة البشر فينزلون المدن والأمصار ويتأهلون‏.‏ وأما إذا لم يكن لتلك المدينة المؤسسة مادة تفيدها العمران بترادف الساكن من بدوها فيكون انقراض الدولة خرقاً لسياجها فيزول حفظها ويتناقص عمرانها شيئاً فشيئاً إلى أن يبذعر ساكنها وتخرب كما وقع بمصر وبغداد والكوفة بالمشرق والقيروان والمهدية وقلعة بني حماد بالمغرب وأمثالها فتفهمه‏.‏ وربما ينزل المدينة بعد انقراض مختطيها الأولين ملك آخر ودولة ثانية يتخذها قراراً وكرسياً يستغني بها عن اختطاط مدينة ينزلها‏.‏ فتحفظ تلك الدولة سياجها وتتزايد مبانيها ومصانعها بتزايد أحوال الدولة الثانية وترفها وتستجد بعمرانها عمراً آخر كما وقع بفاس والقاهرة لهذا العهد‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏

الفصل الثاني في أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار
وذلك أن القبائل والعصائب إذا حصل لهم الملك اضطروا للاستيلاء على الأمصار لأمرين‏:‏ أحدهما ما يدعو إليه الملك من الدعة والراحة وحط الأثقال واستكمال ما كان ناقصاً من أمور العمران في البدو والثاني دفع ما يتوقع على الملك من أمر المنازعين والمشاغبين‏.‏ لأن المصر الذي يكون في نواحيهم ربما يكون ملجأ لمن يروم منازعتهم والخروج عليهم وانتزاع ذلك الملك الذي سموا إليه من أيديهم فيعتصم بذلك المصر ويغالبهم‏.‏ ومغالبة المصر على نهاية من الصعوبة والمشقة‏.‏ والمصر يقوم مقام العساكر المتعددة لما فيه من الأمتناع ونكاية الحرب من وراء الجدران من غير حاجة إلى كثير عدد ولا عظيم شوكة‏.‏ لأن الشوكة والعصابة إنما احتيج إليهما في الحرب للثبات لما يقع من بعد كرة القوم بعضهم على بعض عند الجولة وثبات هؤلاء بالجدران فلا يضطرون إلى كبير عصابة ولا عدد‏.‏ فيكون حال هذا الحصن ومن يعتصم به من المنازعين مما يفت في عضد الأمة التي تروم الأستيلاء ويخضد شوكة استيلائها‏.‏ فإذا كانت بين أجنابهم أمصار انتظموها في استيلائهم للأمن من مثل هذا الأنخرام وإن لم يكن هناك مصر استحدثوه ضرورة لتكميل عمرانهم أولاً وحط أثقالهم وليكون شجاً في حلق من يروم العزة والامتناع عليهم من طوائفهم وعصائبهم‏.‏ فتعين أن الملك يدعو إلى نزول الأمصار والاستيلاء عليها‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق لا رب سواه‏.‏

الفصل الثالث في أن المدن العظيمة
والهياكل المرتفعة إنما يشيدها الملك الكثير قد قدمنا ذلك في آثار الدولة من المباني وغيرها وأنها تكون على نسبتها‏.‏ وذلك أن تشييد المدن إنما يحصل باجتماع الفعلة وكثرتهم وتعاونهم‏.‏ فإذا كانت الدولة عظيمة متسعة الممالك حشر الفعلة من أقطارها وجمعت أيديهم على عملها‏.‏ وربما استعين في ذلك في أكثر الأمر بالهندام الذي يضاعف القوى والقدر في حمل أثقال البناء لعجز القوة البشرية وضعفها عن ذلك كالمخال وغيره‏.‏ وربما يتوهم كثير من الناس إذا نظر إلى آثار الأقدمين ومصانعهم العظيمة مثل إيوان كسرى وأهرام مصر وحنايا المعلقة وشرشال بالمغرب إنما كانت بقدرتهم متفرقين أو مجتمعين فيتخيل لهم أجساماً تناسب ذلك أعظم من هذه بكثير في طولها وقدرها لتناسب بينها وبين القدر التي صدرت تلك المباني عنها‏.‏ ويغفل عن شأن الهندام والمخال وما اقتضته في ذلك الصناعة الهندسية‏.‏ وكثيرمن المتغلبين في البلاد يعاين في شأن البناء واستعمال الحيل في نقل الأجرام عند أهل الدولة المعتنين بذلك من العجم ما يشهد له بما قلناه عيانا‏.‏ وأكثر آثار الأقدمين لهذا العهد تسميها العامة عادية نسبة إلى قوم عاد لتوهمهم أن مباني عاد مصانعهم إنما عظمت لعظم أجسامهم وتضاعف قدرهم وليس كذلك فقد نجد آثاراً كثيرة من آثار الذين تعرف مقادير أجسامهم من الأمم وهي في مثل ذلك العظم أو أعظم كإيوان كسرى ومباني العبيديين من الشيعة بإفريقية والصنهاجيين وأثرهم باد إلى اليوم في صومعة قلعة بني حماد‏.‏ وكذلك بناء الأغالبة في جامع القيروان وبناء الموحدين في رباط الفتح ورباط السلطان أبي سعيد لعهد أربعين سنة في المنصورة بإزاء تلمسان‏.‏ وكذلك الحنايا التي جلب إليها أهل قرطاجنة الماء في القناة الراكبة عليها ماثلة أيضاً لهذا العهد‏.‏ وغير ذلك من المباني والهياكل التي نقلت إلينا أخبار أهلها قريباً وبعيداً تيقنا أنهم لم يكونوا بإفراط في مقادير أجسامهم‏.‏ وإنما هذا رأي ولع به القصاص عن قوم عاد وثمود والعمالقة‏.‏ ونجد بيوت ثمود في الحجر منحوتة إلى هذا العهد‏.‏ وقد ثبت في الحديث الصحيح أنها بيوتهم يمر بها الركب الحجازي أكثر السنين ويشاهدونها لا تزيد في جوها ومساحتها وسمكها على المتعاهد‏.‏ وإنهم ليبالغون فيما يعتقدون من ذلك‏.‏ حتى إنهم ليزعمون أن عوج بن عناق من جيل العمالقة كان يتناول السمك من البحر طرياً فيشويه في الشمس‏.‏ يزعمون بذلك أن الشمس حارة فيما قرب منها ولا يعلمون أن الحر فيما لدينا هو الضوء لانعكاس الشعاع بمقابلة سطح الأرض والهواء‏.‏ وأما الشمس في نفسها فغير حار ولا باردة‏.‏ وإنما هي كوكب مضيء لا مزاج له‏.‏ وقد تقدم شيء من هذا في الفصل الثاني حيث ذكرنا أن آثار الدولة على نسبة قوتها في أصلها‏.‏ والله يخلق مايشاء ويحكم مايريد‏.‏ في أن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة والسبب في ذلك ما ذكرناه من حاجة البناء إلى التعاون ومضاعفة القدر البشرية‏.‏ وقد تكون المباني في عظمها أكثر من القدر مفردة أو مضاعفة بالهندام كما قلناه فيحتاج إلى معاودة قدر أخرى مثلها في أزمنة متعاقبة إلى أن تتم‏.‏ فيبتدىء الأول منهم بالبناء ويعقبه الثاني والثالث وكل واحد منهم قد استكمل شأنه في حشر الفعلة وجمع الأيدي حتى يتم القصد من ذلك ويكمل ويكون ماثلاً للعيان‏.‏ يظنه من يراه من الأخرين أنه بناء دولة واحدة‏.‏ وانظر في ذلك ما نقله المؤرخون في بناء سد مأرب وأن الذي بناه سبأ بن يشجب وساق إليه سبعين وادياً‏.‏ وعاقه الموت عن إتمامه فأتمه ملوك حمير من بعده‏.‏ ومثل هذا ما نقل في بناء قرطاجنة وقناتها الراكبة على الحنايا العادية‏.‏ وأكثر المباني العظيمة في الغالب هذا شأنها‏.‏ ويشهد لذلك المباني العظيمة لعهدنا نجد الملك الواحد يشرع في اختطاطها وتأسييسها فإذا لم يتبع أثره من بعده من الملوك في إتمامها بقيت بحالها ولم يكمل القصد فيها‏.‏ ويشهد لذلك أيضاً أنا نجد آثاراً كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها وتخبريبها مع أن الهدم أيسرمبن البناء بكثير لأن الهدم رجوع إلى الأصل الذي هو العدم والبناء على خلاف الأصل‏.‏ فإذا وجدنل بناء تضعف قوتنا البشرية عن هدمه مع سهولة الهدم علمنا أن القدرة التي أسسته مفرطة القوة وأنها ليست أثر دولة واحدة‏.‏ وهذا مثل ماوقع للعرب في إيوان كسرى لما اعتزم الرشيد على هدمه وبعث إلى يحيى بن خالد وهو في مجلسه يستشيره في ذلك فقال‏:‏ يا أمير المومنين لا تفعل واتركه ماثلاً يستدل به على عظيم ملك آبائك الذين سلبوا الملك لأهل ذلك الهيكل فاتهمه في النصيحة وقال‏:‏ أخذته النعرة للعجم‏.‏ والله لأصرعنه‏.‏ وشرع في هدمه وجمع الأيدي عليه واتخذ له الفؤوس وحماه بالنار وصب عليه الخل حتى إذا أدركه العجز بعد ذلك كله وخاف الفضيحة بعث إلى يحيى يستشيره ثانياً في التجافي عن الهدم فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين لا تفعل واستمر على ذلك لئلا يقال‏:‏ عجز أمير المؤمنين وملك العرب عن هدم مصنع من مصانع العجم فعرفها الرشيد وأقصر عن هدمه‏.‏ وكذلك اتفق للمأمون في هدم الأهرام التي بمصر وجمع الفعلة لهدمها فلم يحل بطائل‏.‏ وشرعوا في نقبه فانتهوا إلى جو بين الحائط الظل وما بعده من الحيطان وهنالك كان منتهى هدمهم‏.‏ وهو إلي اليوم فيما يقال منفذ ظاهر‏.‏ وبزعم الزاعمون أنه وجد ركازاً بين تلك الحيطان‏.‏ والله أعلم‏.‏ وكذلك حنايا المعلقة إلى هذا العهد تحتاج أهل مدينة تونس إلى انتخاب الحجارة لبنائهم وتستجيد الصناع حجارة تلك الحنايا فيحاولون على هدمها الأيام العديدة‏.‏ ولا يسقط الصغير من جدرانها إلا بعد عصب الريق وتجتمع له المحافل المشهورة‏.‏ شهدت منها فى أيام صباي كثيراً‏.‏ ‏"‏ والله خلقكم وما تعملون ‏"‏‏.‏

الفصل الخامس فيما يجب مراعاته في أوضاع المدن وما يحدث إذا غفل عن تلك المراعاة
اعلم أن المدن قرار تتخذه الأمم عند حصول الغاية المصللوبة من الترف ودواعيه فتؤثر الدعة والسكون وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار‏.‏ ولما كان ذلك للقرار والمأوى وجب أن يراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها‏:‏ فأما الحماية من المضار فيراعى لها أن يدار على منازلها جميعاً سياج الأسوار وأن يكون وضع ذلك في ممتنع من الأمكنة إما على هضبة متوعرة من الجبل وأما باستدارة بحر أو نهر بها حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو ويتضاعف امتناعها وحصنها‏.‏ ومما يراعى في ذلك للحماية من الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض‏.‏ فإن الهواء إذا كان راكداً خبيثاً أو مجاوراً للمياه الفاسدة أو لمناقع متعفنة أو لمروج خبيثة أسرع إليها العفن من مجاورتها فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محالة وهذا مشاهد‏.‏ والمدن التي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب‏.‏ وقد اشتهر بذلك في قطر المغرب بلد قابس من بلاد الجريد بإفريقية فلا يكاد ساكنها أو طارقها يخلص من حمى العفن بوجه‏.‏ ولقد يقال أن ذلك حادث فيها ولم تكن كذلك من قبل‏.‏ ونقل البكري في سبب حدوثه أنه وقع فيها حفر ظهر فيه إناء من نحاس مختوم بالرصاص‏.‏ فلما فض ختانه صعد منه دخان إلى الجو وانقطع‏.‏ وكان ذلك مبدأ أمراض الحميات فيه‏.‏ وأراد بذلك أن الأناء كان مشتملاً على بعض أعمال الطلسمات لوبائه وأنه ذهب سره بذهابه فرجع إليها العفن والوباء‏.‏ وهذه الحكاية من مذاهب العامة ومباحثهم الركيكة‏.‏ والبكري لم يكن من نباهة العلم واستنارة البصيرة بحيث يدفع مثل هذا أو يتبين خرقه فنقله كما سمعه‏.‏ والذي يكشف لك الحق في ذلك أن هذه الأهوية العفنة أكثر ما يهيئها لتعفين الأجسام وأمراض الحميات ركودها‏.‏ فإذا تخللتها الريح وتفشت وذهبت بها يميناً وشمالاً خف شأن العفن والمرض البادي منها للحيوانات‏.‏ والبلد إذا كان كثير الساكن وكثرت حركات أهله فيتموج الهواء ضرورة وتحدث الريح المتخللة للهواء الراكد ويكون ذلك معيناً له على الحركة والتموج‏.‏ وإذا خص الساكن لم يجد الهواء معيناً على حركته وتموجه وبقي ساكناً راكداً وعظم عفنه وكثر ضرره‏.‏ وبلد قابس هذه كانت عندما كانت إفريقية مستجدة العمران كثيرة الساكن تموج بأهلها موجاً‏.‏ فكان ذلك معيناً على تموج الهواء واضطرابه وتخفيف الأذى منه فلم يكن فيها كثير عفن ولا مرض‏.‏ وعندما خف ساكنها ركد هواؤها المتعفن بفساد مياهها فكثر العفن والمرض‏.‏ فهذا وجهه لا غير‏.‏ وقد رأينا عكس ذلك في بلاد وضعت ولم يراع فيها طيب الهواء‏.‏ وكانت أولاً قليلة الساكن فكانت أمراضها كثيرة‏.‏ فلما كثر ساكنها انتقل حالها عن ذلك‏.‏ وهذا مثل دار الملك بفاس لهذا العهد المسمى بالبلد الجديد وكثير من ذلك في العالم‏.‏ فتفهمه تجد ما قلته لك‏.‏ وأما جلب المنافع والمرافق للبلد فيراعى فيه أمور‏:‏ منها الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائها عيون عذبة ثرة‏.‏ فإن وجود الماء قريباً من البلد يسهل على الساكن حاجة الماء وهي ضرورية فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة‏.‏ ومما يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم إذ صاحب كل قرار لا بد له من دواجن الحيوان للنتاج والضرع والركوب ولا بد لها من المرعى‏.‏ فإذا كان قريباً طيباً كان ذلك أرفق بحالهم لما يعانون من المشقة في بعده‏.‏ ومما يراعى أيضاً المزارع فإن الزروع هي الأقوات‏.‏ فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها كان ذلك أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله‏.‏ ومن ذلك الشجر للحطب والبناء فإن الحطب مما تعم البلوى في اتخاذه لوقود النيران للاصطلاء والطبخ‏.‏ والخشب أيضاً ضروري لسقفهم وكثير مما يستعمل فيه الخشب من ضرورياتهم‏.‏ وقد يراعى أيضاً قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النائية‏.‏ إلا أن ذلك ليس بمثابة الأول‏.‏ وهذه كلها متفاوتة بتفاوت الحاجات وما تدعو إليه ضرورة الساكن‏.‏ وقد يكون الواضع غافلاً عن حسن الاختيار الطبيعي أو إنما يراعي ما هو أهم على نفسه وقومه ولا يذكر حاجة غيرهم كما فعله العرب لأول الإسلام في المدن التي اختطوها بالعراق وإفريقية فإنهم لم يراعوا فيها إلا الأهم عندهم من مراعي الإبل وما يصلح لها من الشجر والماء الملح‏.‏ ولم يراعوا الماء ولا المزارع ولا الحطب ولا مراعي السائمة من ذوات الظلف ولا غير ذلك كالقيروان‏.‏ والكوفة والبصرة وأمثالها‏.‏ ولهذا كانت أقرب إلى الخراب لما لم تراع فيها الأمور الطبيعية‏.‏ ومما يراعى في البلاد الساحلية التي على البحر أن تكون في جبل أو تكون بين أمة من الأمم موفورة العدد تكون صريخاً للمدينة متى طرقها طارق من العدو‏.‏ والسبب في ذلك أن المدينة إذا كانت حاضرة البحر ولم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيات ولا موضعها متوعر من الجبل كانت في غرة للبيات وسهل طروقها في الأساطيل البحرية على عدوها وتحيفه لها لما يأمن من وجود الصريخ لها‏.‏ وأن الحضر المتعودين للدعة قد صاروا عيالاً وخرجوا عن حكم المقاتلة‏.‏ وهذه كالإسكندرية من المشرق وطرابلس من المغرب وبونة وسلا‏.‏ ومتى كانت القبائل أو العصائب موطنين بقربها بحيث يبلغهم الصريخ والنعير وكانت متوعرة المسالك على من يرومها باختطاطها في هضاب الجبال وعلى أسنمتها كان لها بذلك منعة من العدو ويئسوا من طروقها لما يكابدونه من وعرها وما يتوقعونه من إجابة صريخها‏.‏ كما في سبتة وبجاية وبلد القل على صغرها‏.‏ فافهم ذلك واعتبره في اختصاص الأسكندرية باسم الثغر من لدن الدولة العباسية مع أن الدعوة من ورائها ببرقة وإفريقية وإنما اعتبر في ذلك المخافة المتوقعة فيها من البحر لسهولة وضعها‏.‏ ولذلك والله أعلم كان طروق العدو للإسكندرية وطرابلس في الملة مرات متعددة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:32 AM

الفصل السادس في المساجد والبيوت العظيمة في العالم
إعلم أن الله سبحانه وتعالى فضل من الأرض بقاعاً اختصها بتشريفه وجعلها مواطن لعبادته يضاعف فيها الثواب وينمي بها الأجور‏.‏ وأخبرنا بذلك على ألسن رسله وأنبيائه لطفاً بعباده وتسهيلاً لطرق السعادة لهم‏.‏ وكانت المساجد الثلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسبما ثبت فى الصحيحين وهي مكة والمدينة وبيت المقدس‏.‏ أما البيت الحرام الذي بمكة فهو بيت إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه‏.‏ أمره الله ببنائه وأن يؤذن في الناس بالحج إليه فبناه هو وابنه إسماعيل كما نصه القرآن وقام بما أمره المله فيه‏.‏ وسكن إسماعيل به مع هاجر ومن نزل معهم من جرهم إلى أن قبضهما الله ودفنا بالحجر منه‏.‏ وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام‏.‏ أمرهما الله ببناء مسجده ونصب هياكله‏.‏ ودفن كثير من الأنبياء من ولد إسحق عليه السلام حواليه‏.‏ والمدينة مهاجر نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه آمره الله تعالى بالهجرة إليها وإقامة دين الإسلام بها فبنى مسجده الحرام بها وكان ملحده الشريف في تربتها‏.‏ فهذه المساجد الثلاثة قرة عين المسلمين ومهوى أفئدتهم وعظمة دينهم‏.‏ وفي الأثار من فضلها ومضاعفة الثواب فى مجاورتها والصلاة فيها كثير معروف‏.‏ فلنشر إلى شيء من


الخبر عن أولية هذه المساجد الثلاثة وكيف تدرجت أحوالها إلى أن كفل ظهورها في العالم
فأما مكة فأوليتها - فيما يقال - أن آدم صلوات الله عليه بناها قبالة البيت المعمور ثم هدمها الطوفان بعد ذلك‏.‏ وليس فيه خبر صحيح يعول عليه‏.‏ وإنما اقتبسوه من مجمل الآية في قوله‏:‏ ‏"‏ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ‏"‏‏.‏ ثم بعث الله إبراهيم وكان من شأنه وشأن زوجته سارة وغيرتها من هاجر ماهو معروف‏.‏ وأوحى الله إليه أن يترك ابنه إسماعيل وأمه هاجر بالفلاة فوضعهما في مكان البيت وسار عنهما‏.‏ وكيف جعل الله لهما من اللطف في نبع ماء زمزم ومرور الرفقة من جرهم بهما حتى احتملوهما وسكنوا إليهما ونزلوا معهما حوالي زمزم كما عرف في موضعه‏.‏ فاتخذ إسماعيل بموضع الكعبة بيتاً يأوي إليه وأدار عليه سياجاً من الردم وجعله زرباً لغنمه‏.‏ وجاء إبراهيم صلوات الله عليه مراراً لزيارته من الشام أمر في آخرها ببناء الكعبة مكان ذلك الزرب فبناه واستعان فيه بابنه إسماعيل ودعا الناس إلى حجه وبقي إسماعيل ساكناً به‏.‏ ولما قبضت أمه هاجر وقام بنوه من بعده بأمر البيت مع أخوالهم من جرهم ثم العماليق من بعدهم‏.‏ واستمر الحال على ذلك والناس يهرعون إليها من كل أفق من جميع أهل الخليقة لا من بني إسماعيل ولا من غيرهم ممن دنا أو نأى‏.‏ فقد نقل أن التبابعة كانت تجج البيت وتعظمه وأن تبعاً كساها الملاء والوصائل وأمر بتطهيرها وجعله لها مفتاحاً‏.‏ ونقل أيضاً أن الفرس كانت تحجه وتقرب إليه وأن غزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم كانا من قرابينهم‏.‏ ولم يزل لجرهم الولاية عليه من بعد ولد إسماعيل من قبل خؤولتهم حتى إذا خرجت خزاعة وأقاموا بها بعدهم ما شاء الله ثم كثر ولد إسماعيل وانتشروا وتشعبوا إلى كنانة ثم كنانة إلى قريش وغيرهم‏.‏ وساءت ولاية خزاعة فغلبتهم قريش على أمره‏.‏ وأخرجوهم من البيت وملكوا عليهم يومئذ قصي بن كلاب فبنى البيت وسقفه بخشب الدوم وجريد النخل‏.‏ وقال الأعشى‏:‏ خلفت بثوبي راهب الدور والتي بناها قصي والمضاض بن جرهم ثم أصاب البيت سيل ويقال حريق وتهدم وأعادوا بناءه وجمعوا النفقة لذلك من أموالهم‏.‏ وانكسرت سفينة بساحل جدة فاشتروا خشبها للسقف‏.‏ وكانت جدرانه فوق القامة فجعلوها ثمانية عشر ذراعاً‏.‏ وكان الباب لاصقاً بالأرض فجعلوه فوق القامة لئلا تدخله السيول‏.‏ وقصرت بهم النفقة عن إتمامه فقصروا عن قواعده وتركوا منه ستة أذرع وشبراً أداروها بجدار قصير يطاف من ورائه وهو الحجر‏.‏ وبقي البيت على هذا البناء إلى أن تحصن ابن الزبير بمكة حين دعا لنفسه وزحفت إليه جيوش يزيد بن معاوية مع الحصين بن نمير السكوني‏.‏ ورمى البيت سنة أربع وستين فأصابه حريق‏.‏ يقال من النفط الذي رموا به على ابن الزبير فتصدعت حيطانه فهدمه ابن الزبير وأعاد بناءه أحسن ما كان بعد أن اختلفت عليه الصحابة في بنائه واحتج عليهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها‏:‏ لولا قومك حديثو عهد بكفم لرددت البيت على قواعد إبراهيم ولجعلت له بابين‏:‏ شرقياً وغربياً فهدمه وكشف عن أساس إبراهيم عليه السلام‏.‏ وجمع الوجوه والأكابر حتى عاينوه‏.‏ وأشار عليه ابن عباس بالتحري في حفظ القبلة على الناس فأدار على الأساس الخشب ونصب من فوقها الأستار حفظاً للقبلة‏.‏ وبعث إلى صنعاء في الفضة والكلس فحملها وسأل عن قطع الحجارة الأول فجمع منها ما احتاج إليه‏.‏ ثم شرع في البناء على أساس إبراهيم عليه السلام‏.‏ ورفع جدرانها سبعاً وعشرين ذراعاً وجعل لها بابين لاصقين بالأرض كما روى في حديثه‏.‏ وجعل فرشها وأزرها بالرخام وصاغ لها المفاتيح وصفائح الأبواب من الذهب‏.‏ ثم جاء الحجاج لحصاره أيام عبد الملك ورمى على المسجد بالمنجنيقات إلى أن تصدعت حيطانه‏.‏ ثم لما ظفر بابن الزبير شاورعبد الملك فيما بناه وزاده في البيت فأمره بهدمه ورد البيت على قواعد قريش كما هي اليوم‏.‏ ويقال‏:‏ إنه ندم على ذلك حين علم صحة رواية ابن الزبير لحديث عائشة وقال‏:‏ وددت أني كنت حملت أبا حبيب من أمر البيت وبنائه ما تحمل فهدم الحجاح منها ستة أذرع وشبراً مكان الحجر وبناها على أساس قريش وسد الباب الغربي وما تحت عتبة بابها اليوم من الباب الشرقي‏.‏ وترك سائرها لم يغير منه شيئاً‏.‏ فكل البناء الذي فيه اليوم بناء ابن الزبير‏.‏ وبين بنائه وبناء الحجاج في الحائط صلة ظاهرة للعيان لحمة ويعرض ههنا إشكال قوي لمنافاته لما يقوله الفقهاء في أمر الطواف‏.‏ ويحذر الطائف أن يميل على الشاذروان الدائر على أساس الجدر من أسفلها فيقع طوافه داخل البيت بناء على أن الجدار إنما قام على بعض الأساس وترك بعضه وهو مكان الشاذروان‏.‏ وكذا قالوا في تقبيل الحجر الأسود لا بد من رجوع الطائف من التقبيل حتى يستوي قائماً لئلا يقع بعض طوافه داخل البيت‏.‏ وإذا كانت الجدران كلها من بناء ابن الزبير وهو إنما بني على أساس إبراهيم فكيف يقع هذا الذي قالوه‏.‏ ولا مخلص من هذا إلا بأحد أمرين‏:‏ إما أن يكون الحجاج هدمه جميعه وأعاده وقد نقل ذلك جماعة إلا أن العيان في شواهد البناء بالتحام ما بين البناءين وتمييز أحد الشقين من أعلاه عن الآخر في الصناعة يرد ذلك وأما أن يكون ابن الزبير لم يرد البيت على أساس إبراهيم من جميع جهاته وإنما فعل ذلك في الحجر فقط ليدخله‏.‏ فهي الآن مع كونها من بناء ابن الزبير ليست على قواعد إبراهيم‏.‏ وهذا بعيد ولا محيص من هذين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ ثم إن ساحة البيت وهو المسجد كان فضاء للطائفين ولم يكن عليه جدار أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر من بعده‏.‏ ثم كثر الناس فاشترى عمر رضي الله عنه دوراً هدمها وزادها في المسجد وأدار عليها جداراً دون القامة‏.‏ وفعل مثل ذلك عثمان ثم ابن الزبير ثم الوليد بن عبد الملك‏.‏ وبناه بعمد الرخام‏.‏ ثم زاد فيه المنصور وابنه المهدي من بعده ووقفت الزيادة واستقرت على ذلك لعهدنا‏.‏ وتشريف الله لهذا البيت وعنايته به أكثر من أن يحاط به‏.‏ وكفى من ذلك أن جعله مهبطاً للوحي والملائكة ومكاناً للعبادة وفرض شعائر الحج ومناسكه وأوجب لحرمه من سائر نواحيه من حقوق التعظيم والحق مالم يوجبه لغيره فمنع كل من خالف دين الإسلام من دخول ذلك الحرم‏.‏ وأوجب على داخله أن يتجرد من المخيط إلا إزاراً يستره‏.‏ وحمى العائذ به والراتع في مسارحه من مواقع الأفات فلا يراع فيه خائف ولا يصاد له وحش ولا يحتطب له شجر‏.‏ وحد الحرم الذي يختص بهذه الحرمة من طريق المدينة ثلاثة أميال إلى التنعيم ومن طريق العراق سبعة أميال إلى الثنية من جبل المنقطع ومن طريق الجعرانة تسعة أميال إلى الشعب ومن طريق الطائف سبعة أميال إلى بطن نمرة ومن طريق جدة سبه أميال إلى منقطع العشائر‏.‏ هذا شأن مكة وخبرها وتسمى أم القرى وتسمى الكعبة لعلوها من اسم الكعب ويقال لها أيضاً بكة‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ لأن الناس يبك بعضهم بعضاً إليها أي يدفع‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إنما هي باء بكة أبدلوها ميماً كما قالوا لازب ولازم لقرب المخرجين‏.‏ وقال ا لنخعي‏:‏ بالباء للبيت - وبالميم للبلد‏.‏ وقال الزهري‏:‏ بالباء للمسجد كله وبالميم للحرم‏.‏ وقد كانت الأمم منذ عهد وقصة الأسياف وغزالي الذهب اللذين وجدهما عبد المطلب حين احتفر زمزم معروفة‏.‏ وقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة في الجب الذي كان فيها سبعين ألف أوقية من الذهب مما كان الملوك يهدون للبيت قيمتها ألف ألف دينار مكررة مرتين بمائتي قنطار وزناً‏.‏ وقال اله علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك فلم يفعل‏.‏ ثم ذكر لأبي بكر فلم يحركه‏.‏ هكذا قال الأزرقي‏.‏ وفي البخاري بسنده إلى أبي وائل قال‏:‏ جلست إلى شيبة بن عثمان وقال جلس إلي عمر بن الخطاب فقال‏:‏ هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين‏.‏ قلت ما أنت بفاعل قال‏.‏ ‏:‏ ولم قلت‏:‏ فلم يفعله صاحباك‏.‏ فقال‏:‏ هما اللذان يقتدى بهما‏.‏ وخرجه أبو داود وابن ماجة وأقام ذلك المال إلى أن كانت فتنة الأفطس وهو الحسن بن الحسين بن علي بن علي زين العابدين سنة تسع وتسعين ومائة حين غلب على مكة عمد إلى الكعبة فأخذ ما في خزائنها وقال‏:‏ ما تصنع الكعبة بهذا المال موضوعاً فيها لا ينتفع به نحن أحق به نستعين به على حربنا وأخرجه وتصرف فيه وبطلت الذخيرة من الكعبة من يومئذ‏.‏ وأما بيت المقدس وهو المسجد الأقصى فكان أول أمره أيام الصابئة موضعاً لهيكل الزهرة وكانوا يقربون إليه الزيت فيما يقربونه ويصبونه على الصخرة التي هناك‏.‏ ثم دثر ذلك الهيكل واتخذها بنو إسرائيل حين ملكوها قبلة لصلاتهم‏.‏ وذلك أن موسى صلوات الله عليه لما خرج ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم بيت المقدس كما وعد الله أباهم إسرائيل وأباه إسحق ويعقوب من قبله وأقاموا بفرض التيه أمره الله باتخاذ قبة من خشب السنط عين بالوحي مقدارها وصفتها وهياكلها وتماثيلها وأن يكون فيها التابوت ومائدة بصحافها ومنارة بقناديلها وأن يصنع مذبحاً للقربان وصف ذلك كله في التوراة أكمل وصف فصنع القبة ووضع فيها تابوت العهد وهو التابوت الذي فيه الألواح المصنوعة عوضاً عن الألواح المنزلة بالكلمات العشر لما تكسرت ووضع المذبح عندها‏.‏ وعهد الله إلى موسى بأن يكون هرون صاحب القربان ونصبوا تلك القبة بين خيامهم في التيه يصلون إليها ويقربون في المذبح أمامها ويتعرضون للوحي عندها‏.‏ ولما ملكوا أرض الشام أئزلوها بكلكال من بلاد الأرض المقدسة ما بين قسم بني يامين وبني أفراييم‏.‏ وبقيت هنالك أربع عشرة سنة‏:‏ سبعاً مئة الحرب وسبعاً بعد الفتح أيام قسمة البلاد ولما توفي يوشع عليه السلام نقلوها إلى بلد شيلو قريباً من كلكال وأداروا عليها الحيطان‏.‏ وأقامت على ذلك ثلاثمائة سنة حتى ملكها بنو فلسطين من أيديهم كما مر وتغلبوا عليهم‏.‏ ثم ردوا عليهم القبة ونقلوها بعد وفاة عالي الكوهن إلى نوف‏.‏ ثم نقلت أيام طالوت إلى كنعان في بلاد بني يامين‏.‏ ولما ملك داود عليه السلام نقل القبة والتابوت إلى بيت المقدس وجعل عليها خباء خاصاً ووضعها على الصخرة‏.‏ وبقيت تلك القبة قبلتهم ووضعوها على الصخرة ببيت المقدس وأراد داود عليه السلام بناء مسجده على الصخرة مكانها فلم يتم له ذلك وعهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه ولخمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السلام‏.‏ واتخذ عمده من الصفر وجعل به صرح الزجاج وغشى أبوابه وحيطانه بالذهب وصاغ هياكله وتماثيله وأوعيته ومنارته ومفتاحه من الذهب وجعل فى ظهره قبراً ليضع فيه تابوت العهد وهو التابوت الذي فيه الألواح‏.‏ وجاء به من صهيون بلد أبيه داود نقله إليها أيام عمارة المسجد فجيء به تحمله الأسباط والكهنوتية حتى وضعه في القبر ووضعت القبة والأوعية والمذبح كل واحد حيث أعد له من المسجد‏.‏ وأقام كذلك ما شاء الله‏.‏ ثم خربه بختنصر بعد ثمانمائة سنة من بنائه وأحرق التوراة والعصا وصاغ الهياكل ونثر الأحجار‏.‏ ثم لما أعادهم ملوك الفرس بناه عزير نبي إسرائيل لعهده بإعانة بهمن ملك الفرس الذي كانت الولادة لبني إسرائيل عليه من سبي بختنصر‏.‏ وحد لهم في بنيانه حدوداً دون بناء سليمان بن داود عليهما السلام فلم يتجاوزوهما‏.‏ وأما الأواوين التي تحت المسجد يركب بعضها بعضاً عمود الأعلى منها على قوس الأسفل في طبقتين‏.‏ ويتوهم كثير من الناس أنها إصطبلات سليمان عليه السلام وليس كذلك‏.‏ وإنما بناها تنزيهاً للبيت المقدس عما يتوهم من النجاسة لأن النجاسات في شريعتهم وإن كانت في باطن الأرض وكان ما بينها وبين ظاهر الأرض محشواً بالتراب بحيث يصل ما بينها وبين الظاهر خط مستقيم ينجس ذلك الظاهر بالتوهم والمتوهم عندهم كالمحقق فبنوا هذه الأواوين على هذه الصورة بعمود الأواوين السفلية تنتهي إلى أقواسها وينقطع خطه فلا تتصل النجاسة بالأعلى على خط مستقيم‏.‏ وتنزه البيت عن هذه النجاسة المتوهمة ليكون ذلك أبلغ في الطهارة والتقديس‏.‏ ثم تداولتهم ملوك يونان والفرس والروم‏.‏ واستفحل الملك لبني إسرائيل في هذه المدة‏:‏ لبني حشمناي من كهنتهم ثم لصهرهم هيرودس ولبنيه من بعده‏.‏ وبنى هيرودس بيت المقدس على بناء سليمان عليه السلام وتأنق فيه حتى أكمله في ست سنين‏.‏ فلما جاء طيطش من ملوك الروم وغلبهم وملك أمرهم خرب بيت المقدس ومسجدها وأمر أن يزرع مكانه‏.‏ ثم أخذ الروم بدين المسيح عليه السلام ودانوا بتعظيمه‏.‏ ثم اختلف حال ملوك الروم في الأخذ بدين النصرانية تارة وتركه أخرى إلى أن جاء قسطنطين وتنصرت أمه هيلانة وارتحلت إلى القدس في طلب الخشبة التي صلب عليها المسيح بزعمهم فأخبرها القمامصة بأنه رمي بخشبته على الأرض وألقي عليها القمامات والقاذورات‏.‏ فاستخرجت الخشبة وبنت مكان تلك القمامات كنيسة القمامة كأنها على قبره بزعمهم وخربت ما وجدت من عمارة البيت وأمرت بطرح الزبل والقمامات على الصخرة حتى غطاها وخفي مكانها جزاء بزعمها عما فعلوه بقبر المسيح‏.‏ ثم بنوا بإزاء القمامة بيت لحم وهو البيت الذي ولد فيه عيسى عليه السلام وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام والفتح وحضر عمر لفتح بيت المقدس وسأل عن الصخرة فأري مكانها وقد علاها الزبل والتراب فكشف عنها وبنى عليها مسجداً على طريق البداوة‏.‏ وعظم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه وما سبق من أم الكتاب في فضله حسبما ثبت‏.‏ ثم احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال كما فعل في المسجد الحرام وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفي مسجد دمشق وكانت العرب تسميه بلاط الوليد‏.‏ وألزم ملك الروم أن يبعث الفعلة والمال لبناء هذه المساجد وأن ينمقوها بالفسيفساء فأطاع لذلك وتم بناؤها على ما اقترحه‏.‏ ثم لما ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في آخرها وكانت في ملكة العبيديين خلفاء القاهرة من الشيعة واختل أمرهم زحف الفرنجة إلى بيت المقدس فملكوه وملكوا معه عامة ثغور الشام‏.‏ وبنوا على الصخرة المقدسة منه كنيسة كانوا يعظمونها ويفتخرون ببنائها حتى إذا استقل صلاح الدين ابن أيوب الكردي بملك مصر والشام ومحا أثر العبيديين وبدعهم زحف إلى الشام وجاهد من كان به من الفرنجة حتى غلبهم على بيت المقدس وعلى ما كانوا ملكوه من ثغور الشام‏.‏ وذلك لنحو ثمانين وخمسائة من الهجرة‏.‏ وهدم تلك الكنيسة وأظهر الصخرة وبنى المسجد على النحو الذي هو عليه اليوم لهذا العهد‏.‏ ولا يعرض لك الإشكال المعروف في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أول بيت وضع فقال‏:‏ مكة‏.‏ قيل‏:‏ ثم أي قال‏:‏ بيت المقدس قيل‏:‏ فكم بينهما قال‏:‏ أربعون سنة‏.‏ فإن المدة بين بناء مكة وبين بناء بيت المقدس بمقدار ما بين إبراهيم وسليمان‏.‏ لأن سليمان بانيه وهو ينيف على الألف بكثير‏.‏ واعلم أن المراد بالوضع في الحديث ليس البناء وإنما المراد أول بيت عين للعبادة‏.‏ ولايبعد أن يكون بيت المقدس عين للعبادة قبل بناء سليمان بمثل هذه المدة‏.‏ وقد نقل أن الصابئة بنوا على الصخرة هيكل الزهرة فلعل ذلك لأنها كانت مكاناً للعبادة كما كانت الجاهلية تضع الأصنام والتماثيل حوالي الكعبة وفي جوفها‏.‏ والصابئة الذين بنوا هيكل الزهرة كانوا على عهد إبراهيم عليه السلام فلا تبعد مئة الأربعين سنة بين وضع مكة للعبادة ووضع بيت المقدس وإن لم يكن هناك بناء كما هو المعروف‏.‏ وإن أول من بنى بيت المقدس سليمان عليه السلام فتفهمه ففيه وأما المدينة المنورة - وهي المسماة بيثرب - فهي من بناء يثرب بن مهلائل من االعمالقة وبه سميت‏.‏ وملكها بنو إسرائيل من أيديهم فيما ملكوه من أرض الحجاز‏.‏ ثم جاورهم بنو قيلة من غسان وغلبوهم عليها وعلى حصونها‏.‏ ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها لما سبق من عناية الله بها فهاجر إليها ومعه أبو بكر وتبعه أصحابه ونزل بها وبنى مسجده وبيوته في الموضع الذي كان الله قد أعده لذلك وشرفه في سابق أزله‏.‏ وأواه أبناء قيلة ونصروه فلذلك سموا الأنصار‏.‏ وتمت كلمة الإسلام من المدينة حتى علت على الكلمات وغلب على قومه وفتح مكة وملكها‏.‏ وظن الأنصار أنه يتحول عنهم إلى بلده‏!‏ فأهمهم ذلك فخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنه غير متحول‏.‏ حتى إذا قبض صلى الله عليه وسلم كان ملحده الشريف بها‏.‏ وجاء في فضلها من الأحاديث الصحيحه ما لا خفاء به‏.‏ ووقع الخلاف بين العلماء في تفضيلها على مكة وبه قال مالك رحمه الله لما ثبت عنده في ذلك من النص الصريح عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ المدينة خير من مكة ‏"‏‏.‏ نقل ذلك عبد الوهاب في المعونة إلى أحاديث أخرى تدل بظاهرها على ذلك‏.‏ وخالف أبو حنيفة والشافعي‏.‏ وأصبحت على كل حال ثانية المسجد الحرام‏.‏ وجنح إليها الأمم بأفئدتهم من كل أوب‏.‏ فانظر كيف تدرجت الفضيلة في هذه المساجد المعظمة لما سبق من عناية الله‏.‏ لها وتفهم سر الله وأما غير هذه المساجد الثلاثة فلا نعلمه في الأرض إلا ما يقال من شأن مسجد آدم عليه السلام بسرنديب من جزائر الهند‏.‏ لكنه لم يثبت فيه شيء يعول عليه‏.‏ وقد كانت للأمم في القديم مساجد يعظمونها على جهة الديانة بزعمهم‏.‏ منها بيوت النار للفرس وهياكل يونان وبيوت العرب بالحجاز التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدمها في غزواته‏.‏ وقد ذكر المسعودي منها بيوتاً لسنا من ذكرها في شيء إذ هي غير مشروعة ولا هي على طريق ديني ولا يلتفت إليها ولا إلىالخبر عنها ويكفي في ذلك ما وقع في التواريخ‏.‏ فمن أراد معرفة الأخبار‏.‏ فعليه بها‏.‏ والله يهدي من يشاء سبحانه‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:34 AM

الفصل السابع في أن المدن والأمصار بإفريقية والمغرب قليلة
والسبب في ذلك أن هذه الأقطار كانت للبربر منذ آلاف من السنين قبل الإسلام وكان عمرانها كله بدوياً ولم تستمر فيهم الحضارة حتى تستكمل أحولها‏.‏ والدول التي ملكتهم من الإفرنجة والعرب لم يطل أمد ملكهم فيهم حتى ترسخ الحضارة منها فلب تزل عوائد البداوة وشؤونها فكانوا إليها أقرب فلم تكثر مبانيهم‏.‏ وأيضاً فالصنائع بعيدة عن البربر لأنهم أعرق في البدو‏.‏ والصنائع من توابع الحضارة وإنما تتم المباني بها فلا بد من الحذق في تعلمها‏.‏ فلما لم يكن للبربرانتحال لها لم يكن لهم تشوف إلى المباني فضلاً عن المدن‏.‏ وأيضاً فهم أهل عصبيات وأنساب لا يخلو عن ذلك جمع منهم‏.‏ والأنساب والعصبية أجنح إلى البدو‏.‏ وإنما يدعو إلى المدن الدعة والسكون ويصير ساكنها عيالاً على حاميتها فتجد أهل البدو لذلك يستنكفون عن سكنى المدينة أو الإقامة بها‏.‏ ولا يدعوهم إلي ذلك إلا الترف والغنى وقليل ما هو في الناس‏.‏ فلذلك كان عمران إفريقية والمغرب كله اوأكثره بدوياً أهل خيام وظواعن وقياطن وكنن في الجبال‏.‏ وكان عمران بلاد العجم كله أو أكثره قرى وأمصاراً ورساتيق من بلاد الأندلس والشام ومصر وعراق العجم وأمثالها لأن العجم في الغالب ليسوا بأهل أنساب يحافظون عليها ويتناغون في صراحتها والتحامها إلا في الأقل‏.‏ وأكثر ما يكون سكنى البدو لأهل الأنساب لأن لحمة النسب أقرب وأشد‏.‏ فتكون عصبيته كذلك وتنزع بصاحبها إلى سكنى البدو والتجافي عن المصر الذي يذهب بالبسالة ويصيره عيالاً على غيره فافهمه وقس عليه‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏

الفصل الثامن بالنسبة إلى قدرتها وإلى من كان قبلها من الدول
والسبب في ذلك‏.‏ ما ذكرنا مثله في البربر بعينه إذ العرب أيضاً أعرق في البدو وأبعد عن الصنائع‏.‏ وأيضاً فكانوا أجانب من الممالك التي استولوا عليها قبل الإسلام‏.‏ ولما تملكوها لم ينفسح الأمد حتى تستوفي رسوم الحضارة مع أنهم استغنوا بما وجدوا من مباني غيرهم‏.‏ وأيضاً فكان الدين أول الأمر مانعاً من المغالاة في البنيان والإسراف فيه في غير القصد كما عهد لهم عمر حين استأذنوه في بناء الكوفة بالحجارة وقد وقع الحريق في القصب الذي كانوا بنوا به من قبل فقال‏:‏ افعلوا ولا يزيدن أحد على ثلاثة أبيات‏.‏ ولا تطاولوا في البنيان والزموا السنة تلزمكم الدولة‏.‏ وعهد إلى الوفد وتقدم إلى الناس أن لا يرفعوا بنياناً فوق القدر‏.‏ قالوا‏:‏ وما القدر قال‏:‏ ما لا يقربكم من السرف ولا يخرجكم عن القصد‏.‏ فلما بعد العهد بالدين والتحرج في أمثال هذه المقاصد وغلبت طبيعة الملك والترف واستخدم العرب أمة الفرس وأخذوا عنهم الصنائع والمباني ودعتهم إليها أحوال الدعة والترف فحينئذ شيدوا المباني والمصانع وكان عهد ذلك قريباً بانقراض الدولة ولم ينفسح الأمد لكثرة البناء واختطاط المدن والأمصار إلا قليلاً وليس كذلك غيرهم من الأمم‏.‏ فالفرس طالت مدتهم آلافاً من السنين وكذلك القبط والنبط والروم وكذلك العرب الأولى من عاد وثمود والعمالقة والتبابعة طالت آمادهم ورسخت الصنائع فيهم فكانت مبانيهم وهياكلهم أكثر عدداً وأبقى على الأيام أثراً‏.‏ واستبصر في هذا تجده كما قلت لك‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏ http://www.al-eman.com/Islamlib/images/up.gif الفصل التاسع في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل
والسبب في ذلك شأن البداوة والبعد عن الصنائع كما قدمناه فلا تكون المباني وثيقة في تشييدها‏.‏ وله والله أعلم وجه آخر وهو أمس به وذلك قلة مراعاتهم لحسن الاختيار في اختطاط المدن كما قلناه‏:‏ من المكان وطيب الهواء والمياه والمزارع والمراعي فإنه بالتفاوت في هذه تتفاوت جودة المصر ورداءته من حيث العمران الطبيعي‏.‏ والعرب بمعزل عن هذا وإنما يراعون مراعي إبلهم خاصة لا يبالون با لماء طاب أو خبث ولا قل أو كثر ولا يسألون عن زكاء المزارع والمنابت والأهوية لانتقالهم في الأرض ونقلهم الحبوب من البلد البعيد‏.‏ وأما الرياح فالقفر مختلف للمهاب كلها‏.‏ والظعن كفيل لهم بطيبها لأن الرياح إنما تخبث مع القرار والسكنى وكثرة الفضلات‏.‏ وانظر لما اختطوا الكوفة والبصرة والقيروان كيف لم يراعوا في اختطاطها إلى مراعي إبلهم‏.‏ وما يقرب من القفر ومسالك الظعن فكانت بعيدة عن الوضع الطبيعي للمدن ولم تكن لها مادة تمد عمرانها من بعدهم كما قدمنا بأنه يحتاج إليه في حفظ العمران‏.‏ فقد كانت مواطنها غير طبيعية للقرار ولم تكن في وسط الأمم فيعمرها الناس‏.‏ فلأول وهلة من انحلال أمرهم وذهاب عصبيتهم التي كانت سياجاً لها أتى عليها الخراب والانحلال كأن لم تكن‏.‏ ‏"‏ والله يحكم لا معقب لحكمه ‏"‏‏.‏

الفصل العاشر في مبادىء الخراب في الأمصار
اعلم أن الأمصار إذا اختطت أولاً تكون قليلة المساكن وقليلة آلات البناء من الحجر والجير وغيرهما مما يعالى على الحيطان عند التأنق‏:‏ كالزلج والرخام والربج والزجاج والفسيفساء والصدف فيكون بناؤها يومئذ بدوياً وآلاتها فاسدة‏.‏ فإذا عظم عمران المدينة وكثر ساكنها كثر الآلات بكثرة الأعمال حينئذ وكثر الصناع إلى أن تبلغ غايتها من ذلك كما سبق بشأنها‏.‏ فإذا تراجع عمرانها وخف ساكنها قلت الصنائع لأجل ذلك ففقدت الأجادة في البناء والإحكام والمعالاة عليه بالتنميق‏.‏ ثم تقل الأعمال لعدم الساكن فيقل جلب الآلات من الحجر والرخام وغيرهما فتفقد ويصير بناؤهم وتشييدهم من الآلات التي في مبانيهم فينقلونها من مصنع إلى مصنع لأجل خلاء أكثر المصانع والقصور والمنازل لقلة العمران وقصوره عما كان أولاً‏.‏ ثم لا تزال تنقل من قصر إلى قصر ومن دار إلى دار إلى أن يفقد الكثير منها جملة فيعودون إلى البداوة فى البناء واتخاذ الطوب عوضاً عن الحجارة والقصور عن التنميق بالكلية‏.‏ فيعود بناء المدينة مثل بناء القرى والمدر‏.‏ ويظهر عليها سيما البداوة‏.‏ ثم تمر في التناقص إلى غايتها من الخراب إن قدر لها به‏.‏ سنه الله في خلقه‏.‏

الفصل الحادي عشر في أن تفاضل الأمصار
والمدن في كثرة الرفه لأهلها ونفاق الأسواق إنما هو في تفاضل عمرانها في الكثرة والقلة والسبب في ذلك أنه قد عرف وثبت أن الواحد من البشر غير مستقل بتحصيل حاجاته في معاشه‏:‏ وأنهم متعاونون جميعاً في عمرانهم على ذلك‏.‏ والحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تسد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافاً‏.‏ فالقوت من الحنطة مثلاً لا يستقل الواحد بتحصيل حصته منه‏.‏ وإذا انتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حداد ونجار للآلات وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السنبل وسائر مؤن الفلح وتوزعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنه حينئذ قوت لأضعافهم مرات‏.‏ فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم‏.‏ وأهل مدينة أو مصر إذا وزعت أعمالهم كلها على مقدار ضروراتهم وحاجاتهم اكتفي فيها بالأقل من تلك الأعمال وبقيت الأعمال كلها زائدة على الضرورات فتصرف في حالات الترف وعوائده‏.‏ وما يحتاج إليه غيرهم من أهل الأمصار ويستجلبونه منهم بأعواضه وقيمه فيكون لهم بذلك حظ من الغنى‏.‏ وقد تبين لك في

الفصل الخامس في باب الكسب والرزق
أن المكاسب إنما هي قيم الأعمال‏.‏ فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم فكثرت مكاسبهم ضرورة‏.‏ ودعتهم أحوال الرفه والغنى إلى الترف وحاجاته من التأنق في المساكن والملابس واستجادة الأنية والماعون واتخاذ الخدم والمراكب‏.‏ وهذه كلها أعمال تستدعى بقيمها ويختار المهرة في صناعتها والقيام عليها فتنفق أسواق الأعمال والصنائع ويكثر دخل المصر وخرجه ويحصل اليسار لمنتحلي ذلك من قبل أعمالهم‏.‏ ومتى زاد العمران زادت الأعمال ثانية‏.‏ ثم زاد الترف تابعاً للكسب وزادت عوائده وحاجاتة‏.‏ واستنبطت الصنائع لتحصيلها فزادت قيمها وتضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانية ونفقت سوق الأعمال بها أكثر من الأول‏.‏ وكذا في الزيادة الثانية والثالثة‏.‏ لأن الأعمال الزائدة كلها تختص بالترف والغنى بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش‏.‏ فالمصر إذا فضل بعمران واحد ففضله بزيادة كسب ورفه وبعوائد من الترف لا توجد في الآخر‏.‏ فما كان عمرانه من الأمصار أكثر وأوفر كان حال أهله في الترف أبلغ من حال المصر الذي دونه على وتيرة واحدة في الأصناف‏:‏ القاضي مع القاضي والتاجر مع التاجر والصانع مع الصانع والسوقي مع السوقي والأمير مع الأمير والشرطي مع الشرطي‏.‏ واعتبر ذلك في المغرب مثلاً بحال فاس مع غيرها من أمصاره الآخرى مثل بجاية وتلمسان وسبتة تجد بينهما بوناً كثيراً على الجملة‏.‏ ثم على الخصوصيات فحال القاضي بفاس أوسع من حال القاضي بتلمسان وكذا كل صنف مع أهل صنفه‏.‏ وكذا أيضاً حال تلمسان مع وهران والجزائر وحال وهران والجزائر مع ما دونهما إلى أن تنتهي إلى المدر الذين اعتمالهم في ضروريات معاشهم فقط أو يقصرون عنها‏.‏ وما ذاك إلا لتفاوت الأعمال فيها فكأنها كلها أسواق للأعمال‏.‏ والخرج في كل سوق على نسبته فالقاضي بفاس دخله كفاء خرجه وكذا القاضي بتلمسان‏.‏ وحيث الدخل والخرج أكثر تكون الأحوال أعظم‏.‏ وما بفاس أكثر لنفاق سوق الأعمال بما يدعو إليه الترف فالأحوال أضخم‏.‏ ثم هكذا حال وهران وقسنطينة والجزائر وبسكرة حتى تنتهي كما قلناه إلى الأمصار التي لا توفي أعمالها بضروراتها ولا تعد في الأمصار إذ هي من قبيل القرى والمدر‏.‏ فلذلك تجد أهل هذه الأمصار الصغيرة ضعفاء الأحوال متقاربين في الفقر والخصاصة لما أن أعمالهم لا تفي بضروراتهم‏.‏ ولا يفضل ما يتأثلونه كسباً فلا تنمو مكاسبهم‏.‏ وهم لذلك مساكين محاويح إلا في الأقل النادر‏.‏ واعتبر ذلك حتى في أحوال الفقراء والسؤال‏.‏ فإن السائل بفاس أحسن حالاً من السائل بتلمسان أو وهران‏.‏ ولقد شاهدت بفاس السؤال يسألون أيام الأضاحي أثمان ضحاياهم ورأيتهم يسألون كثيراً من أحوال الترف واقتراح المآكل مثل سؤال اللحم والسمن وعلاج الطبخ والملابس والماعون كالغربال والآنية‏.‏ ولو سأل السائل مثل هذا بتلمسان أو وهران لاستنكر وعنف وزجر‏.‏ ويبلغنا لهذا العهد عن أصوال أهل القاهرة ومصر من الترف والغنى في عوائدهم ما نقضي منه العجب‏.‏ حتى إن كثيراً من الفقراء بالمغرب ينزعون إلى النقلة إلى مصر لذلك ولما يبلغهم من أن شأن الرفه بمصر أعظم من غيرها‏.‏ وتعتقد العامة من الناس أن ذلك لزيادة إيثار في أهل تلك الآفاق على غيرهم أو أموال مختزنة لديهم‏.‏ وأنهم أكثر صدقة وإيثاراً من جميع أهل الأمصار وليس كذلك‏.‏ وإنما هو لما تعرفه من أن عمران مصر والقاهره أكثر من عمران هذه الأمصار التي لديك فعظمت لذلك أحوالهم‏.‏ وأما حال الدخل والخرج فمتكافىء في جميع الأمصار‏.‏ ومتى عظم الدخل عظم الخرج وكل شيء يبلغك من مثل هذا فلا تنكره واعتبره بكثرة العمران وما يكون عنه من كثرة المكاسب التي يسهل بسببها البذل والإيثار على مبتغيه‏.‏ ومثله بشأن الحيوانات العجم مع بيوت المدينة الواحدة وكيف تختلف أحوالها في هجرانها أو غشيانها‏.‏ فإن بيوت أهل النعم والثروة والموائد الخصبة منها تكثر بساحتها وأفنييها نثير الحبوب وسواقط الفتات فيزدحم عليها غواشي النمل والخشاش‏.‏ ويكثر في سربها الجرذان وتأؤي إليه السنانير وتحلق فوقها عصائب الطيور حتى تروح بطاناً وتمتلىء شبعاً ورياً‏.‏ وبيوت أهل الخصاصة والفقر الكاسدة أرزاقهم لا يسري بساحتها دبيب ولا يحلق بجوها طائر ولا تأوي إلى زوايا بيوتهم فأرة ولا هرة كما قال الشاعر‏:‏ يسقط الطير حيث ينتثر الحب وتغشى منازل الكرماء فتأمل سر الله تعالى في ذلك واعتبر غاشية الأناسي بغاشية العجم من الحيوانات وفتات الموائد بفضلات الرزق والترف وسهولتها على من يبذلها لاستغنائهم عنها في الأكثر بوجود أمثالها لديهم‏.‏ واعلم أن اتساع الأحوال وكثرة النعم في العمران تابع لكثرته‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وهو غني عن العالمين‏.‏ في أسعار المدن اعلم أن الأسواق كلها تشتمل على حاجات الناس‏:‏ فمنها الضروري وهي الأقوات من الحنطة والشعير وما في معناهما كالباقلا والحمص والجلبان وسائر حبوب الأقوات ومصلحاتها كالبصل والثوم وأشباهه ومنها الحاجي والكمالي مثل الأدم والفواكه والملابس والماعون والمراكب وسائر المصانع والمباني‏.‏ فإذا استبحر المصر وكثر ساكنه رخصت أسعار الضروري من القوت وما في معناه وغلت أسعار الكمالي من الأدم والفواكه وما يتبعها وإذا قل ساكن المصر وضعف عمرانه كان الأمر بالعكس من ذلك‏.‏ والسبب في ذلك أن الحبوب من ضرورات القوت فتتوفر الدواعي على اتخاذها إذ كل واحد لا يهمل قوت نفسه ولا قوت منزله لشهره أو سنته فيعم اتخاذها أهل المصر أجمع أو الأكثر منهم في ذلك المصر أو فيما قرب منه لا بد من ذلك‏.‏ وكل متخذ لقوته تفضل عنه وعن أهل بيته فضلة كثيرة تسد خلة كثيرين من أهل ذلك المصر فتفضل الأقوات عن أهل المصر من غير شك فترخص أسعارها في الغالب إلا ما يصيبها في بعض السنين من الآفات السماوية‏.‏ ولولا احتكار الناس لها لما يتوقع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن ولا عوض لكثرتها بكثرة العمران‏.‏ وأما سائر المرافق من الأدم والفواكه وما إليها فإنها لا تعم فيها البلوى ولا يستغرق اتخاذها أعمال أهل المصر أجمعين ولا الكثير منهم‏.‏ ثم إن المصر إذا كان مستبحراً موفور العمران كثير حاجات الترف توفرت حينئذ الدواعي على طلب تلك المرافق والاستكثار منها كل بحسب حاله فيقصر الموجود منها عن الحاجات قصوراً بالغاً‏.‏ ويكثر المستامون لها وهي قليلة في نفسها فتزدحم أهل الأغراض ويبذل أهك الرفه والترف أثمانها بإسراف في الغلاء لحاجتهم إليها أكثر من غيرهم فيقع فيها الغلاء كما تراه‏.‏ وأما الصنائع والأعمال أيضاً في الأمصار الموفورة العمران فسبب الغلاء فيه أمور ثلاثة‏:‏ الأول كثرة الحاجة لمكان الترف في المصر بكثرة عمرانه والثاني اعتزاز أهل الأعمال بخدمتهم وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها والثالث كثرة المترفين وكثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم وإلى استعمال الصناع في مهنهم فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة ومنافسة في الاستئثار بها فيعتز العمال والصناع وأهل الحرف وتغلو أعمالهم وتكثر نفقات أهل المصر في ذلك‏.‏ وأما الأمصار الصغيرة القليلة الساكن فأقواتهم قليلة لقلة العمل فيها وما يتوقعونه لصغر مصرهم من عدم القوت فيتمسكون بما يحصل منه في أيديهم ويحتكرونه فيعز وجودة لديهم ويغلو ثمنه على مستامه‏.‏ وأما مرافقهم فلا تدعو إليها أيضاً حاجة لقلة الساكن وضعف الأحوال فلا تنفق لديهم سوقه فيختص بالرخص في سعره‏.‏ وقد يدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة ما يفرض عليها من المكوس والمغارم للسلطان في الأسواق وأبواب المصر وللجباة في منافع يفرضونها على البياعات لأنفسهم‏.‏ وبذلك كانت الأسعار في الأمصار أغلى من الأسعار في البادية إذ المكوس والمغارم والفرائض قليلة لديهم أو معدومة‏.‏ وبالعكس كثيرة في الأمصار لا سيما في آخر الدولة‏.‏ وقد تدخل أيضاً في قيمة الأقوات قيمة علاجها في الفلح ويحافظ على ذلك في أسعارها كما وقع بالأندلس لهذا العهد‏.‏ وذلك أنهم لما ألجأهم النصارى إلى سيف البحر وبلاده المتوعره الخبيثة الزراعة النكدة النبات وملكوا عليهم الأرض الزاكية والبلد الطيب فاحتاجوا إلى علاج المزارع والفدن لإصلاح نباتها وفلحها وكان ذلك العلاج بأعمال ذات قيم ومواد من الزبل وغيره لها مؤونة وصارت في فلحهم نفقات لها خطر فاعتبروها في سعرهم‏.‏ واختص قطر الأندلس بالغلاء منذ اضطرهم النصارى إلى هذا المعمور بالإسلام مع سواحلها لأجل ذلك‏.‏ ويحسب الناس إذا سمعوا بغلاء الأسعار في قطرهم أنها لقلة الأقوات والحبوب في أرضهم وليس كذلك فهم أكثر أهل المعمور فلحاً فيما علمناه وأقومهم عليه وقل أن يخلو منهم سلطان أو سوقة عن فدان أو مزرعة أو فلح إلا قليلاً من أهل الصناعات والمهن أو الطراء على الوطن من الغزاة المجاهدين‏.‏ ولهذا يختصهم السلطان في عطائهم بالعولة وهي أقواتهم وعلوفاتهم من الزرع‏.‏ وإنما السبب في غلاء سعر الحبوب عندهم ما ذكرناه‏.‏ ولما كانت بلاد البربر بالعكس من ذلك في زكاء منابتهم وطيب أرضهم ارتفعت عنهم المؤن جملة في الفلح مع كثرته وعمومه فصار ذلك سبباً لرخص الأقوات ببلدهم‏.‏ والله مقدر الليل والنهار وهو الواحد القفار لا رب سواه

ميارى 4 - 8 - 2010 12:35 AM

الفصل الثالث عشر في قصور أهل البادية عن سكنى المصر الكثير العمران
والسبب في ذلك أن المصر الكثير العمران يكثر ترفة كما قدمناه وتكثر حاجات ساكنه من أجل الترف وتعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها فتنقلب ضرورات وتصير الأعمال فيه كلها مع ذلك عزيزة والمرافق غالية بازدحام الأغراض عليها من أي الترف وبالمغارم السلطانية التي توضع على الأسواق والبياعات وتعتبر في قيم المبيعات ويعظم فيها الغلاء في المرافق والأقوات والأعمال فتكثر لذلك نفقات ساكنه كثرة بالغة على نسبة عمرانه‏.‏ ويعظم خرجه فيحتاج حينئذ إلى المال الكثير للنفقة على نفسه وعياله في ضرورات عيشهم وسائر مؤنهم‏.‏ والبدوي لم يكن دخله كثيراً إذ كان ساكناً بمكان كاسد الأسواق في الأعمال التي هي سبب الكسب فلم يتأثل كسباً ولا مالاً فيتعذرعليه من أجل ذلك سكنى المصر الكبير لغلاء مرافقه وعزة حاجاته‏.‏ وهو في بدوه يسد خلته بأقل الأعمال لأنه قليل عوائد الترف في معاشه وسائر مؤنه فلا يضطر إلى المال‏.‏ وكل من يتشوف إلى المصر وسكناه من أهل البادية فسريعاً ما يظهر عجزه ويفتضح في استيطانه إلا من تقدم منهم تأثل المال ويحصل له منه فوق الحاجة ويجري إلى الغاية الطبيعية لأهل العمران من الدعة والترف‏.‏ فحينئذ ينتقل إلى المصر وينتظم حاله مع أحوال أهله في عوائدهم وترفهم‏.‏ وهكذا شأن بداية عمران الأمصار‏.‏ والله بكل شيء محيط‏.‏

الفصل الرابع عشر في أن الأقطار في اختلاف أحوالها
بالرفه والفقر مثل الأمصار اعلم أن ما توفر عمرانه من الأقطار وتعددت الأمم في جهاته وكثر ساكنه اتسعت أحوال أهله وكثرت أموالهم وأمصارهم وعظمت دولهم وممالكهم‏.‏ والسبب في ذلك كله ما ذكرناه من كثرة الأعمال وما يأتي ذكره من أنها سبب للثروة بما يفضل عنها بعد الوفاء بالضروريات في حاجات الساكن من الفضلة البالغة على مقدار العمران وكثرته فيعود على الناس كسباً يتأثلونه حسبما نذكر ذلك في فصل المعاش وبيان الرزق والكسب‏.‏ فيزيذ الرفه لذلك وتتسع الأحوال ويجيء الترف والغنى وتكثر الجباية للدولة بنفاق الأسواق فيكثر مالها ويشمخ سلطانها ويتفنن في اتخاذ المعاقل والحصون واختطاط المدن وتشييد الأمصار‏.‏ واعتبر ذلك بأقطار المشرق مثل مصر والشام وعراق العجم والهند والصين وناحية الشمال كلها وأقطارها وراء البحر الرومي لما كثر عمرانها كيف كثر المال فيهم وعظمت دولهم وتعددت مدنهم وحواضرهم وعظمت متاجرهم وأحوالهم‏.‏ فالذي نشاهده لهذا العهد من أحوال تجار الأمم النصرانية الواردين على المسلمين بالمغرب في رفههم واتساع أحوالهم أكثر من أن يحيط به الوصف‏.‏ وكذا تجار أهل المشرق وما يبلغنا عن أحوالهم وأبلغ منها أحوال أهل المشرق الأقصى من عراق العجم والهند والصين فإنه يبلغنا عنهم في باب الغنى والرفه غرائب تسير الركبان حديثها وربما تتلقى بالإنكار في غالب الأمر‏.‏ ويحسب من يسمعها في العامة أن ذلك زياده في أموالهم أو لأن المعادن الذهبية والفضية أكثر بأرضهم أو لأن ذهب الأقدمين من الأمم استأثروا به دون غيرهم وليس كذلك‏.‏ فمعدن الذهب الذي نعرفه في هذه الأقطار إنما هو ببلاد السودان وهي إلى المغرب أقرب‏.‏ وجميع ما في أرضهم من البضاعة فإنما يجلبونه إلى غير بلادهم للتجارة‏.‏ فلو كان المال عتيداً موفوراً لديهم لما جلبوا بضائعهم إلى سواهم يبتغون بها الأمواك ولاستغنوا عن أموال الناس بالجملة‏.‏ ولقد ذهب المنجمون لما رأوا مثل ذلك واستغربوا ما في المشرق من كثرة الأحوال واتساعها ووفورأموالها فقالوا بأن عطايا الكواكب والسهام في مواليد أهل المشرق أكثر منها حصصاً في مواليد أهل المغرب‏.‏ وذلك صحيح من جهة المطابقة بين الأحكام النجومية والأحوال الأرضية كما قلناه‏.‏ وهم إنما أعطوا في ذلك السبب النجومي وبقي عليهم أن يعطوا السبب الأرضي وهو ما ذكرناه من كثرة العمران واختصاصه بأرض المشرق وأقطاره‏.‏ وكثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة الأعمال التي هي سببه فلذلك اختص المشرق بالرفه من بين الآفاق لا أن ذلك لمجرد الأثر النجومي‏.‏ فقد فهمت مما أشرنا لك أولاً أنه لا يستقل بذلك فإن المطابقة بين حكمه وعمران الأرض وطبيعتها أمرلا بد منه‏.‏ واعتبر حال هذا الرفه من العمران في قطر إفريقية وبرقة لما خف ساكنها وتناقص عمرانها كيف تلاشت أحوال أهلها وانتهوا إلى الفقر والخصاصة‏.‏ وضعفت جباياتها فقلت أموال دولها بعد أن كانت دول الشيعة وصنهاجة بها على ما بلغك من الرفه وكثرة الجبايات واتساع الأحوال في نفقاتهم وأعطياتهم‏.‏ حتى لقد كانت الأموال ترفع من القيروان إلى صاحب مصر لحاجاته ومهماته في غالب الأوقات‏.‏ وكانت أموال الدولة بحيث حمل جوهر الكاتب في سفره إلى فتح مصر ألف حمل من المال يستعدها لأرزاق الجنود وأعطياتهم ونفقات الغزاة‏.‏ وقطر المغرب وإن كان في القديم دون إفريقية فلم يكن بالقليل في ذلك‏.‏ وكانت أحواله في دول الموحدين متسعة وجباياته موفورة‏.‏ وهو لهذا العهد قد أقصر عن ذلك لقصور العمران فيه وتناقصه فقد ذهب من عمران البربر فيه أكثره ونقص عن معهوده نقصاً ظاهراً محسوساً وكاد أن يلحق في أحواله بمثل أحوال إفريقية بعد أن كان عمرانه متصلاً من البحر الرومي إلى بلاد السودان في طول ما بين السوس الأقصى وبرقة‏.‏ وهي اليوم كلها أو أكثرها قفار وخلاء وصحارى إلا ما هو منها بسيف البحر أو ما يقاربه من التلول‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏

الفصل الخامس عشر في تأثل العقار والضياع في الامصار وحال فوائدها ومستغلاتها

اعلم أن تأثل العقار والضياع الكثيرة لأهل الأمصار والمدن لا يكون دفعة واحدة ولا في عصر واحد إذ ليس يكون لأحد منهم من الثروة ما يملك به الأملاك التي تخرج قيمها عن الحد ولو بلغت أحوالهم في الرفه ما عسى أن تبلغ‏.‏ وإنما يكون ملكهم وتأثلهم لها تدريجاً إما بالوراثة من آبائه وذوي رحمه حتى تتأذى أملاك الكثيرين منهم إلى الواحد وأكثر كذلك أو أن يكون بحوالة الأسواق‏.‏ فإن العقار في أواخر الدولة وأول الأخرى عند فناء الحامية وخرق السياج وتداعي المصر إلى الخراب تقل الغبطة به لقلة المنفعة فيها بتلاشي الأحوال فترخص قيمها وتتملك بالأثمان اليسيرة وتتخطى بالميراث إلى ملك الآخر وقد استجد المصر شبابه باستفحال الدولة الثانية وانتظمت له أحوال رائقة حسنة تحصل معها الغبطة في العقار والضياع لكثر الغبطة في العقار والضياع لكثرة منافعها حينئذ فتعظم قيمها ويكون لها خطر لم يكن في الأول‏.‏ وهذا معنى الحوالة فيها‏.‏ ويصبح مالكها من أغنى أهل المصر وليس ذلك بسعيه واكتسابه إذ قدرته تعجز عن مثل ذلك‏.‏ وأما فوائد العقار والضياع فهي غير كافية لمالكها في حاجات معاشه إذ هي لا تفي بعوائد الترف وأسبابه وإنما هي في الغالب لسد الخلة وضرورة المعاش‏.‏ والذي سمعناه من مشيخة البلدان أن القصد باقتناء الملك من العقار والضياع إنما هو الخشية من يترك خلفه من الذرية الضعفاء ليكون مرباهم به ورزقهم فيه ونشؤهم بفائدته ماداموا عاجزين عن الاكتساب‏.‏ فإذا اقتدروا على تحصيل المكاسب سعوا فيها بأنفسهم‏.‏ وربما يكون من الولد من يعجز عن التكسب لضعف في بدنه أو آفة في عقله المعاشي فيكون ذلك العقار قواماً لحاله‏.‏ هذا قصد المترفين في اقتنائه‏.‏ وأما التمول وإجراء أحوال المترفين فلا‏.‏ وقد يحصل ذلك منه للقليل أو النادر بحوالة الأسواق حصول الكثرة البالغة منه والعالي في جنسه وقيمته في المصر‏.‏ إلا أن ذلك إذا حصل فربما امتدت إليه أعين الأمراء والولاة واغتصبوه في الغالب أو أرادوه على بيعه منهم ونالت أصحابه منه مضار ومعاطب‏.‏ والله غالب على أمره وهو رب العرش العظيم‏.‏

الفصل السادس عشر في حاجات المتمولين من أهل الأمصار إلى الجاه والمدافعة
وذلك أن الحضري إذا عظم تموله وكثر للعقار والضياع تأثله وأصبح أغنى أهل المصر ورمقته العيون بذلك وانفسحت أحواله في الترف والعوائد زاحم عليها الأمراء والملوك وغصوا به‏.‏ ولما في طباع البشر من العدوان تمتد أعينهم إلى تملك ما بيده وينافسونه فيه ويتحيلون على ذلك بكل ممكن حتى يحصلونه في ربقة حكم سلطاني وسبب من المؤاخذة ظاهر ينتزع به ماله وأكثر الأحكام السلطانية جائرة في الغالب إذ العدل المحض إنما هو في الخلافة الشرعية وهي قليلة اللبث‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تعود ملكاً عضوضاً ‏"‏‏.‏ فلا بد حينئذ لصاحب المال والثروة الشهيرة في العمران من حامية تذود عنه وجاه ينسحب عليه من ذي قرابة للملك أو خالصة له أو عصبية يتحاماها السلطان فيستظل هو بظلها ويرتع فى أمنها من طوارق التعدي‏.‏ وإن لم يكن له ذلك أصبح نهباً بوجوه التحيلات وأسباب الحكام‏.‏ والله يحكم لامعقب لحكمه‏.‏

http://www.al-eman.com/Islamlib/images/up.gif الفصل السابع عشر في أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول
وإنما ترسخ باتصال الدولة ورسوخها والسبب في ذلك أن الحضارة هي أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتاً غير منحصر‏.‏ ويقع فيها عند كثرة التفنن في أنواعها وأصنافها فتكون بمنزلة الصنائع ويحتاج كل صنف منها إلى القومة عليه المهرة فيه‏.‏ وبقدر ما يتزيد من أصنافها تتزيد أهل صناعتها ويتلون ذلك الجيل بها‏.‏ ومتى اتصلت الأيام وتعاقبت تلك الصناعات حذق أولئك الصناع في صناعتهم ومهروا في معرفتها‏.‏ والأعصار بطولها وانفساح أمدها وتكرر أمثالها تزيدها استحكاماً ورسوخاً‏.‏ وأكثر ما يقع ذلك في الأمصار لاستبحار العمران وكثرة الرفه في أهلها‏.‏ وذلك كله إنما يجيء من قبل الدولة لأن الدولة تجمع أموال الرعية وتنفقها في بطانتها ورجالها‏.‏ وتتسع أحوالهم بالجاه أكثر من اتساعها بالمال فيكون دخل تلك الأموال من الرعايا وخرجها في أهل الدولة ثم فيمن تعلق بهم من أهل المصر وهم الأكثر فتعظم لذلك ثروتهم ويكثر غناهم وتتزيد عوائد الترف ومذاهبه وتستحكم لديهم الصنائع في سائر فنونه وهذه هي الحضارة‏.‏ ولهذا نجد الأمصار التي في القاصية ولوكانت موفورة العمران تغلب عليها أحوال البداوة وتبعد عن الحضارة في جميع مذاهبها بخلاف المدن المتوسطة في الأقطار التي هي مركز الدولة ومقرها‏.‏ وما ذاك إلا لمجاورة السلطان لهم وفيض أمواله فيهم كالماء يخضر ما قرب منه مما قرب من الأرض إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد‏.‏ وقد قدمنا أن السلطان والدولة سوق للعالم‏.‏ فالبضائع كلها موجودة في السوق وما قرب منه وإذا بعدت عن السوق افتقدت البضائع جملة‏.‏ ثم إنه إذا اتصلت تلك الدولة وتعاقب ملوكها في ذلك المصر واحدا بعد واحد استحكمت الحضارة فيهم وزادت واعتبر ذلك في اليهود لما طال ملكهم بالشام نحواً من ألف وأربعمائة سنة رسخت حضارتهم وحذقوا في أحوال المعاش وعوائده والتفنن في صناعاته من المطاعم والملابس وسائر أحوال المنزل‏.‏ حتى إنها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم‏.‏ ورسخت الحضارة أيضاً وعوائدها في الشام منهم ومن دولة الروم بعدهم ستمائة سنة فكانوا في غاية الحضارة‏.‏ وكذلك أيضاً القبط دام ملكهم في الخليقة ثلاثة آلاف من السنين فرسخت عوائد الحضارة في بلدهم مصر وأعقبهم بها ملك اليونان والروم ثم ملك الإسلام الناسخ للكل‏.‏ فلم تزل عوائد الحضارة بها متصلة‏.‏ وكذلك أيضاً رسخت عوائد الحضارة باليمن لاتصال دولة العرب بها منذ عهد العمالقة والتبابعة آلافاً من السنين‏.‏ وأعقبهم ملك مضر‏.‏ وكذلك الحضارة بالعراق لاتصال دولة النبط والفرس بها من لدن الكلدانيين والكينية والكسروية والعرب بعدهم آلافاً من السنين فلم يكن على وجه الأرض لهذا العهد أحضر من أهل الشام والعراق ومصر‏.‏ وكذا أيضاً رسخت عوائد الحضارة واستحكمت بالأندلس لاتصال الدولة العظيمة فيها للقوط ثم ما أعقبها من ملك بني أمية - آلافاً من السنين‏.‏ وكلتا الدولتين عظيمة‏.‏ فاتصلت فيها عوائد الحضارة واستحكمت‏.‏ وأما إفريقية والمغرب فلم يكن بها قبل الإسلام ملك ضخم‏.‏ إنما قطع الروم والإفرنجة إلى إفريقية البحر وملكوا الساحل وكانت طاعة البربر أهل الضاحية لهم طاعة غير مستحكمة‏.‏ فكانوا على قلعة أو فاز‏.‏ وأهل المغرب لم تجاورهم دولة وإنما كانوا يبعثون بطاعتهم إلى القوط من وراء البحر‏.‏ ولما جاء الله بالإسلام وملك العرب إفريقية والمغرب ولم يلبث فيهم ملك العرب إلا قليلاً أول الإسلام وكانوا لذلك العهد في طور البداوة ومن استقر منهم بإفريقية والمغرب لم يجد بهما من الحضارة ما يقلد فيه من سلفه إذ كانوا برابر منغمسين في البداوة‏.‏ ثم انتقض برابرة المغرب الأقصى لأقرب العهود على يد ميسرة المظفري أيام هشام بن عبد الملك ولم يراجعوا أمر العرب بعد واستقلوا بأمر أنفسهم وإن بايعوا لإدريس فلا تعد دولته فيهم عربية لأن البرابر هم الذين تولوها ولم يكن من العرب فيها كثير عدد‏.‏ وبقيت إفريقية للأغالبة ومن إليهم من العرب فكان لهم من الحضارة بعض الشيء بما حصل لهم من ترف الملك ونعيمه وكثرة عمران القيروان‏.‏ وورث ذلك عنهم كتامة ثم صنهاجة من بعدهم‏.‏ وذلك كله قليل لم يبلغ أربعمائة سنة‏.‏ وانصرمت دولتهم واستحالت صبغة الحضارة بما كانت غير مستحكمة‏.‏ وتغلب بدو العرب الهلالين عليها وخربوها وبقي أثر خفي من حضارة العمران فيها‏.‏ وإلى هذا العهد يؤنس فيمن سلف له بالقلعة أو القيروان أو المهدية سلف فتجد له من أحوال الحضارة في شؤون منزله وعوائد أحواله آثاراً ملتبسة بغيرها يميزها الحضري البصير بها وكذا في أكثر أمصار إفريقية‏.‏ وليس ذلك في المغرب وأمصاره لرسوخ الدولة بإفريقية أكثر أمداً منذ عهد الأغالبة والشيعة وصنهاجة‏.‏ وأما المغرب فانتقل إليه منذ دولة الموحدين من الأندلس حظ كبير من الحضارة‏.‏ واستحكمت به عوائدها بما كان لدولتهم من الاستيلاء على بلاد الأندلس‏.‏ وانتقل الكثير من أهلها إليهم طوعاً وكرهاً‏.‏ وكانت من اتساع النطاق ما علمت فكان فيها حظ صالح من الحضارة واستحكامها ومعظمها من أهل الأندلس‏.‏ ثم انتقل أهل شرق الأندلس عند جالية النصارى إلى إفريقية فأبقوا فيها وبأمصارها من الحضارة آثاراً معظمها بتونس امتزجت بحضارة مصر وما ينقله المسافرون من عوائدها فكان بذلك للمغرب وإفريقية حظ صالح من الحضارة عفى عليه الخفا ورجع على أعقابه‏.‏ وعاد البربر بالمغرب إلى أديانهم من البداوة والخشونة‏.‏ وعلى كل حال فآثار الحضارة بإفريقية أكثر منها بالمغرب وأمصاره لما تداول فيها من الدول السالفة أكثر من المغرب ولقرب عوائدهم من عوائد أهل مصر بكثرة المترددين بينهم‏.‏ فتفطن لهذا السر فإنه خفي عن الناس‏.‏ واعلم أنها أمور متناسبة وهي حال الدولة في القوة والضعف وكثرة الأمة أو الجيل وعظم المدينة أو المصر وكثرة النعمة واليسار‏.‏ وذلك أن الدولة والملك صورة الخليقة والعمران وكلها مادة لها من الرعايا والأمصار وسائر الأحوال‏.‏ وأحوال الجباية عائدة عليه ويسارهم في الغالب من أسواقهم ومتاجرهم‏.‏ وإذا أفاض السلطان عطاءه وأمواله في أهلها انبثت فيهم ورجعت إليه ثم إليهم منه‏.‏ فهي ذاهبة عنهم في الجباية والخراج عائدة عليهم في العطاء‏.‏ فعلى نسبة حال الدولة يكون يسار الرعايا وعلى نسبة يسار الرعايا أيضاً وكثرتهم يكون مال الدولة‏.‏ وأصله كله العمران وكثرته‏.‏ فاعتبره وتأمله في الدول تجده‏.‏ والله سبحانه وتعالى يحكم لا معقب لحكمه‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:36 AM

الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساده
قد بينا لك فيما سلف أن الملك والدول غاية للعصبية وأن الحضارة غاية للبداوة وأن العمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقة له عمر محسوس‏.‏ كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمراً محسوساً‏.‏ وتبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموها وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط‏.‏ فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضاً كذلك لأنه غاية لا مزيد وراءها‏.‏ وذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها‏.‏ والحضارة كما علمت هي التفنن في الترف واستجادة أحواله والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه كالصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية ولسائر أحوال المنزل‏.‏ وللتأنق في كل واحد من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنق فيها‏.‏ وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها‏:‏ أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد ويعجز الكسب عن الوفاء بها‏.‏ وبيانه أن المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل‏.‏ وقد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمران يختص بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجاته‏.‏ ثم تزيدها المكوس غلاء لأن كمال الحضارة إنما تكون عند نهاية الدولة في استفحالها وهو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة خرجها حينئذ كما تقدم‏.‏ والمكوس تعود على البياعات بالغلاء لأن السوقة والتجار كلهم يحتسبون على سلعهم وبضائعهم جميع ماينفقونه حتى في مؤونة أنفسهم فيكون المكس لذلك داخلاً في قيم المبيعات وأثمانها‏.‏ فتعظم نفقات أهل الحاضرة وتخرج عن القصد إلى الإسراف‏.‏ ولا يجدون وليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد وطاعتها وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات ويتتابعون في الإملاق والخصاصة ويغلب عليهم الفقر‏.‏ ويقل المستامون للبضائع فتكسد الأسواق وتفسد حال المدينة‏.‏ وداعية ذلك كله إفراط الحضارة والترف‏.‏ وهذه مفسدتها في المدينة على العموم في الأسواق والعمران‏.‏ وأما فساد أهلها في ذاتهم واحداً واحداً على الخصوص فمن الكد والتعب في حاجات العوائد والتلون بألوان الشر في تحصيلها وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها‏.‏ فلذلك يكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه‏.‏ وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوض عليه واستجماع الحيلة له فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة والغش والخلابة والسرقة والفجور في الأيمان والرباء في البياعات‏.‏ ثم تجدهم لكثرة الشهوات والملاذ الناشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق ومذاهبه والمجاهرة به وبدواعيه واطراح الحشمة في الخوض فيه حتى بين الأقارب وذوي الأرحام والمحارم الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك‏.‏ وتجدهم أيضاً أبصر بالمكر والخديعة يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر وما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح حتى يصير ذلك عادة وخلقاً لأكثرهم إلا من عصمه الله‏.‏ ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة‏.‏ ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم ممن أهمل عن التأديب وأهملته الدولة من عدادها وغلب عليه خلق الجوار والصحابة وإن كانوا أصحابه أهل أنساب وبيوتات‏.‏ وذلك أن الناس بشر متماثلون وإنما تفاضلوا وتمايزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل‏.‏ فمن استحكمت فيه صبغة الرذيلة بأي وجه كان وفسد خلق الخير فيه لم ينفعه زكاء نسبه ولاطيب منبته‏.‏ ولهذا تجد كثيراً من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدول منطرحين في الغمار منتحلين للحرف الدنية في معاشهم بما فسد من أخلاقهم وما تلونوا به من صبغة الشر والسفسفة‏.‏ وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن الله بخرابها وانقراضها وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ‏"‏‏.‏ ووجهه أن مكاسبهم حينئذ لا تفي بحاجاتهم لكثرة العوائد ومطالبة النفس بها فلا تستقيم أحوالهم‏.‏ وإذا فسدت أحوال الأشخاص واحداً واحداً اختل نظام المدينة وخربت‏.‏ وهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواصي‏:‏ أن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنت بالخراب حتى إن كثيراً من العامة يتحامى غرس النارنج بالدور تطيراً به وليس المراد ذلك ولا أنه خاصة في النارنج وإنما معناه أن البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة‏.‏ ثم إن النارنج والليم والسرو وأمثال ذلك مما لا طعم فيه ولا منفعه هو من غايات الحضارة إذ لا يقصد بها في البساتين إلا أشكالها فقط ولا تغرس إلا بعد التفنن في مذاهب الترفة وهذا هو الطور الذي يخشى معه هلاك المصر وخرابه كما قلناه‏.‏ ولقد قيل مثل ذلك في الدفلى وهو من هذا الباب إذ الدفلى لا يقصد بها إلا تلون البساتين بنورها ما بين أحمر وأبيض وهو من مذاهب الترف‏.‏ ومن مفاسد الحضارة أيضاً الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذ والمشارب وطيبها‏.‏ ويتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح من الزنا واللواط فيفضي ذلك إلى فساد النوع‏:‏ إما بواسطة اختلاط الأنساب كما في الزنا فيجهل كل واحد ابنه إذ هو لغير رشدة لأن المياه مختلطة في الأرحام فتفقد الشفقة الطبيعية على البنين والقيام عليهم فيهلكون ويؤدي ذلك إلى انقطاع النوع أو يكون فساد النوع بغير واسطة كما في اللواط إلى انقطاع النوع أو يكون فساد النوع بغير واسطة كما في اللواط المؤدي إلى عدم النسل رأساً وهو أشد في فساد النوع إذ هو يؤدي إلى أن لا يوجد النوع‏.‏ والزنا يؤدي إلى عدم ما يوجد منه‏.‏ ولذلك كان مذهب مالك رحمه الله في اللواط أظهر من مذهب غيره ودل على أنه أبصر بمقاصد الشريعة واعتبارها للمصالح‏.‏ فافهم ذلك واعتبر به أن غاية العمران هي الحضارة والترف وأنه إذا بلغ غايتة انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم كالأعمار الطبيعية للحيوانات‏.‏ بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك‏.‏ والحضري لا يقدر على مباشرة حاجاته إما عجزاً لما حصل له من الدعة أو ترفعاً لما حصل له من المربى في النعيم والترف‏.‏ وكلا الأمرين ذميم‏.‏ وكذلك لا يقدر على دفع المضار واستقامة خلقه للسعي في ذلك‏.‏ والحضري بما قد فقد من خلق البأس بالترف والمربى في قهر التأديب والتعليم فهو لذلك عيال على الحاميه التي تدافع عنه‏.‏ ثم هو فاسد أيضاً في دينه غالباً بما أفسدت منه العوائد وطاعتها وما تلونت به النفس من ملكاتها كما قررناه إلا في الأقل النادر‏.‏ وإذا فسد الإنسان فى قدرته ثم في أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة‏.‏ وبهذا الاعتبار كان الذين يتقربون من جند السلطان إلى البداوة والخشونة أنفع من الذين يتربون على الحضارة وخلقها‏.‏ وهذا موجود في كل دولة‏.‏ فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم من العمران والدول‏.‏ والله سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن

ميارى 4 - 8 - 2010 12:37 AM

الفصل التاسع عشر في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانتقاضها
قد استقرينا في العمران أن الدولة إذا اختلت وانتقضت فإن المصر الذي يكون كرسياً لسلطانها ينتقض عمرانه وربما ينتهي في انتقاضه إلى الخراب ولا يكاد ذلك يتخلف‏.‏ والسبب فيه أمور‏:‏ الأول‏:‏ أن الدولة لا بد في أولها من البداوة المقتضية للتجافي عن أموال الناس والبعد عن التحذيق‏.‏ ويدعو ذلك إلى تخفيف الجباية والمغارم التي منها مادة الدولة فتقل النفقات ويقصر الترف‏.‏ فإذا صار المصر الذي كان كرسياً للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة ونقصت أحوال الترف فيها نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر لأن الرعايا تبع للدولة فيرجعون إلى خلق الدولة‏:‏ إما طوعاً لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم أو كرهاً لما يدعو إليه خلق الدولة من الانقباض عن الترف في جميع الأحوال وقلة الفوائد التي هي مادة العوائد فتقصر لذلك حضارة المصر ويذهب منه كثير من عوائد الترف‏.‏ وهي معنى ما نقول في خراب الأمر الثاني‏:‏ أن الدولة إنما يحصل لها الملك والاستيلاء بالغلب وإنما يكون بعد العداوة والخروب‏.‏ والعداوة تقتضي منافاة بين أهل الدولتين وتكثر إحداهما على الأخرى في العوائد والأحوال‏.‏ وغلب أحد المتنافيين يذهب بالمنافي الأخر فتكون أحوال الدولة السابقة منكرة عند أهل الدولة الجديدة ومستبشعة وقبيحة‏.‏ وخصوصاً أحوال الترف فتفقد في عرفهم بنكير الدولة لها حتى تنشأ لهم بالتدريج عوائد أخرى من الترف فتكون عنها حضارة مستأنفة‏.‏ ‏.‏ وفيما بين ذلك قصور الحضارة الأولى ونقصهما ومعنى اختلال العمران في المصر‏.‏ الأمر الثالث‏:‏ أن كل أمة لا بد لهم من وطن هو منشأهم ومنه أولية ملكهم‏.‏ وإذا ملكوا وطناً آخر تبعاص للأول وأمصاره تابعة لأمصار الأول‏.‏ واتسع نطاق الملك عليهم‏.‏ ولابد من توسط الكرسي بين تخوم الممالك التي للدولة لأنه شبه المركز للنطاق فيبعد مكانه عن مكان الكرسي الأول وتهوي أفئدة الناس إليه من أجل الدولة والسلطان فينتقل إليه العمران ويخف من مصر الكرسي الأول‏.‏ والحضارة إنما هي بوفور العمران كما قدمنا فتنتقص حضارته وتمدنة وهو معنى اختلاله‏.‏ وهذا كما وقع للسلجوقية في عدولهم بكرسيهم عن بغداد إلى أصبهان وللعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة والبصرة ولبني العباس في العدول عن دمشق إلى بغداد ولبني مرين بالمغرب في العدول عن مراكش إلى فاس‏.‏ وبالجملة فاتخاذ الأمر الرابع‏:‏ أن الدولة المتجددة إذا غلبت على الدولة السابقة لا بد فيها من تتبع أهل الدولة السابقة وأشياعها بتحويلهم إلى قطر آخر تؤمن فيه غائلتهم على الدولة‏.‏ وأكثر أهل المصر الكرسي أشياع الدولة‏.‏ إما من الحامية الذين نزلوا به أول الدولة أو من أعيان المصر لأن لهم في الغالب مخالطة للدولة على طبقاتهم وتنوع أصنافهم‏.‏ بل أكثرهم ناشىء في الدولة فهم شيعة لها‏.‏ وإن لم يكونوا بالشوكة والعصبية فهم بالميل والمحبة والعقيدة‏.‏ وطبيعة الدولة المتجددة محو آثار الدولة السابقة فتنقلهم من مصر الكرسي إلى وطنها المتمكن في ملكتها‏.‏ فبعضهم على نوع التغريب والحبس وبعضهم على نوع الكرامة والتلطف بحيث لا يؤدي إلى النفرة حتى لا يبقى في مصر الكرسي إلا الباعة والهمل من أهل الفلح والعيارة وسواد العامة‏.‏ وينزل مكانهم في حاميتها وأشياعها من يشتد به المصر‏.‏ وإذا ذهب من مصر أعيانه على طبقاتهم نقص ساكنه وهو معنى اختلال عمرانه‏.‏ ثم لا بد أن يستجد عمران آخر في ظل الدولة الجديدة وتحصل فيه حضارة أخرى على قدر الدولة‏.‏ وإنما ذلك بمثابة من يملك بيتاً داخله البلى والكثير من أوضاعه في بيوته ومرافقه لا توافق مقترحه وله قدرة - على أوصاف مخصوصة على تغيير تلك الأوضاع وإعادة بنائها على ما يختاره ويقترحه فيخرب ذلك البيت ثم يعيد بناءه ثانياً‏.‏ وقد وقع من ذلك كثير في الأمصار التي هي كراسي لذلك وشاهدناه‏.‏ وعلمناه‏.‏ والسبب الطبيعي الأول في ذلك على الجملة أن الدولة والملك للعمران بمثابة الصورة للمادة وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها‏.‏ وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر‏.‏ فالدولة دون العمران لا تتصور والعمران دون الدولة والملك متعذر بما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع فتتعين السياسة لذلك‏.‏ أما الشريعة أو الملكية وهو معنى الدولة وإذا كانا لا ينفكان فاختلال أحدهما مؤثر في اختلال الآخر كما كان عدمه مؤثراً في عدمه‏.‏ والخلل العظيم إنما يكون من خلل الدولة الكلية مثل دولة الروم أو الفرس أو العرب على العموم أو بني أمية أو بني العباس كذلك‏.‏ وأما الدول الشخصية مثل دولة أنو شروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد فأشخاصها متعاقبة على العمران حافظة لوجوده وبقائه وقريبة الشبه بعضها من بعض فلا تؤثر كثير اختلال‏.‏ لأن الدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران إنما هي العصبية والشوكة وهي مستمرة مع أشخاص الدول‏.‏ فإذا ذهبت تلك العصبية ودفعتها عصبية أخرى مؤثرة في العمران فأذهبت أهل الشوكة بأجمعهم عظم الخلل كما قررناه أولاً‏.‏ والله قادر على ما يشاء‏.‏ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز‏.‏

الفصل العشرون دون بعض
وذلك أنه من البين أن أعمال أهل المصر يستدعي بعضها بعضاً لما في طبيعة العمران من التعاون‏.‏ وما يستدعي من الأعمال يختص ببعض أهل المصر فيقومون عليه ويستبصرون في صناعته ويختصون بوظيفته ويجعلون معاشهم فيه ورزقهم منه لعموم البلوى به في المصر والحاجة إليه وما لا يستدعي في المصر يكون غفلاً إذ لا فائدة لمنتحله في الاحتراف به‏.‏ وما يستدعي من ذلك لضرورة المعاش فيوجد في كل مصر كالخياط والحداد والنجار وأمثالها‏.‏ وما يستدعي لعوائد الترف وأحواله فإنما يوجد في المدن المستبحرة في العمارة الآخذة في عوائد الترف والحضارة مثل الزجاح والصائغ والدهان والطباخ والصفار والسفاج والفراش والذباح وأمثال هذه وهي متفاوتة‏.‏ قدر ما تريد عوائد الحضارة وتستدعي أحوال الترف تحدث صنائع لذلك النوع فتوجد بذلك المصر دون غيره‏.‏ ومن هذا الباب الحمامات لأنها إنما توجد في الأمصار مستحضرة المستبحرة العمران لما يدعو إليه الترف والغنى من التنعم‏.‏ ولذلك لا يكون في المدن المتوسطة‏.‏ وإن نزع بعض الملوك والرؤساء إليها فيختطها ويجري أحوالها‏.‏ إلا أنها إذا لم تكن لها داعيه من كافة الناس فسرعان ما تهجر وتخرب وتفر عنها القومة لقلة فائدتهم ومعاشهم منها‏.‏ والله يقبض ويبسط‏.‏ في وجود العصبية في الأمصار وتغلب بعضهم علي بعض من البين أن الالتحام والاتصال موجود في طباع البشر وإن لم يكونوا أهل نسب واحد إلا أنه كما قدمناه أضعف مما يكون بالنسب وأنه تحصل به العصبية بعضاً مما تحصل بالنسب‏.‏ وأهل الأمصار كثير منهم ملتحمون بالصهر يجذب بعضهم بعضاً إلى أن يكونوا لحماً لحماً وقرابة قرابة تجد بينهم من العداوة والصداقة ما يكون بين القبائل والعشائر مثله فيفترقون شيعاً وعصائب‏.‏ فإذا نزل الهرم بالدولة وتقلص ظل الدولة عن القاصية احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم والنظر في حماية بلدهم ورجعوا إلى الشورى وتميز العلية عن السفلة‏.‏ والنفوس بطباعها متطاوله على الغلب والرياسة فتطمح المشيخة - لخلاء الجو من السلطان والدولة القاهرة - إلى لاستبداد وينازع كل صاحبه ويستوصلون بالأتباع من الموالي والشيع والأحلاف‏.‏ ويبذلون ما في أيديهم للأوغاد والأوشاب فيعصوصب كل لصاحبه ويتعين الغلب لبعضهم فيعطف على أكفائه ليغض من أعنتهم‏.‏ ويتتبعهم بالقتل أو التغريب حتى يخضد منهم الشوكات النافذة ويقلم الأظفار الخادشة‏.‏ ويستبد بمصره أجمع‏.‏ ويرى أنه قد استحدث ملكاً يورثه عقبه وربما يسمو بعض هؤلاء إلى منازع الملوك الأعاظم أصحاب القبائل والعشائر والعصبيات والزحوف والحروب والاقطار والممالك فيتحلون بها من الجلوس على السرير واتخاذ الآلة وإعداد المواكب للسير في أقطار البلد والتختم والتحية والخطاب بالتهويل وما يسخر منه من يشاهد أحوالهم لما انتحلوه من شارات الملك التي ليسوا لها بأهل‏.‏ إنما دفعهم إلى ذلك تقلص الدولة والتحام بعض القرابات حتى صارت عصبية‏.‏ وقد يتنزه بعضهم عن ذلك ويجري على مذاهب السذاجة فراراً من التعريض بنفسه للسخرية والعبث‏.‏ وقد وقع هذا بإفريقية لهذا العهد في آخر الدولة الحفصية لأهل بلاد الجريد من طرابلس وقابس وتؤزر ونفطة وقفصة وبسكرة والزاب وما إلى ذلك‏.‏ سموا إلى مثلها عند تقلص ظل الدولة عنهم منذ عقود من السنين فاستغلبوا على أمصارهم واستبدوا بأمرها على الدولة في الأحكام والجباية وأعطوا طاعة معروفة وصفقة ممرضة وأقطعوها جانباً من الملاينة والملاطفة والانقياد وهم بمعزل عنه‏.‏ وأورثوا ذلك أعقابهم لهذا العهد‏.‏ وحدث في خلقهم من الغلظة والتجبر ما يحدث لأعقاب الملوك وخلفهم‏.‏ ونظموا أنفسهم في عداد السلاطين على قرب عهدهم بالسوقة حتى محا ذلك مولانا أمير المؤمنين أبو العباس وانتزع ما كان بأيديهم من ذلك كما نذكرة في أخبار الدولة‏.‏ وقد كان مثل ذلك وقع في آخر الدولة الصنهاجية واستقل بأمصار الجريد أهلها واستبدوا على الدولة حتى انتزع ذلك منهم شيخ الموحدين وملكهم عبد المؤمن بن علي ونقلهم كلهم من إمارتهم بها إلى المغرب ومحا من تلك البلاد آثارهم كما نذكر في أخباره‏.‏ وكذا وقع بسبتة لآخر دولة بني عبد المؤمن‏.‏ وهذا التغلب يكون غالباً في أهل السروات والبيوتات المرشحين للمشيخة والرياسة فى المصر وقد يحدث التغلب لبعض السفلة من الغوغاء والدهماء‏.‏ وإذا حصلت له العصبية والالتحام بالأوغاد لأسباب يجرها له المقدار فيتغلب على المشيخة والعلية إذا كانوا فاقدين للعصابة‏.‏ والله سبحانه وتعالى غالب على أمره‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:38 AM

الفصل الثاني والعشرون في لغات أهل الأمصار
إعلم أن لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة أو الجيل الغالبين عليها أو المختطين لها ولذلك كانت لغات الأمصار الإسلامية كلها بالمشرق والمغرب لهذا العهد عربية وإن كان اللسان العربي المضري قد فسدت ملكته وتغير إعرابه‏.‏ والسبب في ذلك ما وقع للدولة الإسلامية من الغلب على الأمم والدين والملة صورة للوجود وللملك‏.‏ وكلها مواد له والصورة مقدمة على المادة والدين إنما يستفاد من الشريعة وهي بلسلن العرب لما أن النبي صلى الله عليه وسلم عربي فوجب هجر ما سوى اللسان العربي من الألسن في جميع ممالكها‏.‏ واعتبرذلك في نهي عمر رضي الله عنه عن رطانة الأعاجم وقال‏:‏ إنها خب أي مكر وخديعة‏.‏ فلما هجر الدين اللغات الأعجمية وكان مان القائمين بالدولة الإسلامية عربياً هجرت كلها في جميع ممالكها لأن الناس تبع للسلطان وعلى دينه فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب‏.‏ وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك‏.‏ وصار اللسان العربي لسانهم حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم وصارت الألسنة العجمية دخيلة فيها وغريبة‏.‏ ثم فسد اللسان العربي بمخالطتها في بعض أحكامه وتغير أواخره إن كان بقي فى الدلالات على أصله وسمي لساناً حضرياً في جميع أمصار الإسلام‏.‏ وأيضاً فأكثر أهل الأمصار في الملة لهذا العهد من أعقاب العرب المالكين لها الهالكين في ترفها بما كثروا العجم الذين كانوا بها وورثوا أرضهم وديارهم‏.‏ واللغات متوارثة فبقيت لغة الأعقاب على حيال لغة الآباء وإن فسدت أحكامها بمخالطة الأعجام شيئاً فشيئاً‏.‏ وسميت لغتهم حضرية منسوبة إلى أهل الحواضر والأمصار بخلاف لغة البدو من العرب فإنها كانت أعرق في العروبية‏.‏ ولما تملك العجم من الديلم والسلجوقية بعدهم بالمشرق وزناتة والبربر بالمغزب وصار لهم ملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية فسد اللسان العربي لذلك وكاد يذهب لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنة اللذين بهما حفظ الدين وصار ذلك مرجحاً لبقاء اللغة المضرية من الشعر والكلام إلا قليلاً بالأمصار عربية‏.‏ فلما ملك التتر والمغول بالمشرق ولم يكونوا على دين الإسلام ذهب ذلك المرجح وفسدت اللغة العربية على الإطلاق ولم يبق لها رسم في الممالك الإسلامية بالعراق وخراسان وبلاد فارس وأرض الهند والسند وما وراء النهر وبلاد الشمال وبلاد الروم وذهبت أساليب اللغة العربية من الشعر والكلام إلا قليلاً يقع تعليمه صناعياً بالقوانين المتدارسة من علوم العرب وحفظ كلامهم لمن يسره الله تعالى لذلك‏.‏ وربما بقيت اللغة العربية المضرية بمصر والشام والأندلس والمغرب لبقاء الدين طالباً لها فانحفظت بعض الشيء‏.‏ وأما في ممالك العراق وما وراءه فلم يبق له أثر ولا عين حتى إن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي وكذا تدريسه في المجالس‏.‏ والله أعلم بالصواب‏.‏ والله مقدر الليل والنهار‏.‏ صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين‏.‏

الباب الخامس من الكتاب الأول في المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مسائل

الفصل الأول في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما
وأن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية اعلم أن الإنسان مفتقر بالطبع إلى ما يقوته ويمونه في حالاته وأطواره من لدن نشوئه إلى أشده إلى كبره ‏"‏ والله الغني وأنتم الفقراء ‏"‏‏.‏ والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان وامتن به عليه في غير ما آية من كتابه فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه ‏"‏ وسخر لكم الشمس والقمر وسخر لكم البحر وسخر لكم الفلك وسخر لكم الأنعام‏.‏ وكثير من شواهده‏.‏ ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف‏.‏ وأيدي البشر منتشرة فهي مشتركة في ذلك‏.‏ وما حصل عليه يد هذا امتنع عن الآخر إلا بعوض‏.‏ فالإنسان متى اقتدر على نفسه وتجاوز طور الضعف سعى في اقتناء المكاسب لينفق ما آتاة الله منها في تحصيل حاجاته وضروراته بدفع الأعواض عنها‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فابتغوا عند الله الرزق ‏"‏‏.‏ وقد يحصل له ذلك بغير سعي كالمطر المصلح للزراعة وأمثاله‏.‏ إلا أنها إنما تكون معينة ولا بد من سعيه معها كما يأتي فتكون له تلك المكاسب معاشاً إن كانت بمقدار الضرورة والحاجة ورياشاً ومتمولاً إن زادت على ذلك‏.‏ ثم إن ذلك الحاصل أو المقتنى إن عادت منفعته على العبد وحصلت له ثمرته من إنفاقه في مصالحه وحاجاته سمي ذلك رزقاً‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ‏"‏‏.‏ وإن لم ينتفع به في شيء من مصالحه ولا حاجاته فلا يسمى بالنسبة إلى المالك رزقاً والمتملك منه حنيئذ بسعي العبد وقدرته يسمى كسباً‏.‏ وهذا مثل التراث فإنه يسمى بالنسبة إلى الهالك كسباً ولا يسمى رزقاً إذ لم يحصل له به منتفع وبالنسبة إلى الوارثين متى انتفعوا به يسمى رزقاً‏.‏ وهذا حقيقة مسمى الرزق عند أهل السنة‏.‏ وقد اشترط المعتزلة في تسميته رزقاً أن يكون بحيث يصح تملكه وما لا يتملك عندهم فلا يسمى رزقاً‏.‏ وأخرجوا الغصوبات والحرام كله عن أن يسمى شيء منها رزقاً‏.‏ والله تعالى يرزق الغاصب والظالم والمؤمن والكافر ويختص برحمته وهدايته من يشاء‏.‏ ولهم في ذلك حجج ليس هذا موضع ثم اعلم أن الكسب إنما يكون بالسعي في الاقتناء والقصد إلى التحصيل فلا بد في الرزق من سعي وعمل ولو في تناوله وابتغائه من وجوهه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ فابتغوا عند الله الرزق ‏"‏‏.‏ والسعي إليه إنما يكون بأقدار الله تعالى وإلهامه فالكل من عند الله‏.‏ فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول‏.‏ لأنه إن كان عملاً بنفسه مثل الصنائع فظاهر وإن كان مقتنى من الحيوان أو النبات أو المعدن فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع‏.‏ ثم إن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متمول وهما الذخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب‏.‏ وإن اقتنى سواهما في بعض الأحيان فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق التي هما عنها بمعزل فهما أصل المكاسب والقنية والذخيرة‏.‏ وإذا تقرر هذا كله فاعلم أن ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه هو قيمة عمله وهو القصد بالقنية إذ ليس هنالك إلا العمل وليس بمقصود بنفسه للقنية‏.‏ وقد يكون مع الصنائع في بعضها غيرها‏.‏ مثل النجارة والحياكة معهما الخشب والغزل إلا أن العمل فيهما أكثر فقيمته أكثر‏.‏ وإن كان من غير الصنائع فلا بد في قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها‏.‏ وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها فتجعل له حصة من القيمة عظمت أو صغرت‏.‏ وقد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين الناس فإن اعتبار الأعمال والنفقات فيها ملاحظ فى أسعار الحبوب كما قدمناه لكنه خفي في الأقطار التي علاج الفلح فيها ومؤونته يسيرة فلا يشعر به إلا القليل من أهل الفلح‏.‏ فقد تبين أن المفادات والمكتسبات كلها أو أكثرها إنما هي قيم الأعمال الإنسانية وتبين مسمى الرزق وأنه المنتفع به‏.‏ فقد بان معنى الكسب والرزق وشرح مسماهما‏.‏ واعلم أنه إذا فقدت الأعمال أو قلت بانتقاص العمران تأذن الله برفع الكسب‏.‏ ألا ترى إلى الأمصار القليلة الساكن كيف يقل الرزق والكسب فيها أو يفقد لقلة الأعمال الإنسانية‏.‏ وكذلك الأمصار التي يكون عمرانها أكثر يكون أهلها أوسع أحوالاً وأشد رفاهية كما قدمناه قبل‏.‏ ومن هذا الباب تقول العامة في البلاد إذا تناقص عمرانها إنها قد ذهب رزقها حتى أن الأنهار والعيون ينقطع جريها في القفر لما أن فور العيون إنما يكون بالإنباط والامتراء الذي هو بالعمل الإنساني كالحال في ضروع الأنعام فما لم يكن إنباط ولا امتراء نضبت وغارت بالجملة كما يجف الضرع إذا ترك امتراؤه‏.‏ وانظره في البلاد التي تعهد فيها العيون لأيام عمرانها ثم يأتي عليها الخراب كيف تغور مياهها جملة كأنها لم تكن‏.‏ ‏"‏ والله يقدر الليل والنهار ‏"‏‏.‏ في وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه اعلم أن المعاش هو عبارة عن ابتغاء الرزق والسعي في تحصيله وهو مفعل من العيش‏.‏ كأنه لما كان العيش الذي هو الحياة لا يحصل إلا بهذه جعلت موضعاً له على طريق المبالغة‏.‏ ثم إن تحصيل الرزق وكسبه‏:‏ إما أن يكون بأخذه من يد الغير وانتزاعه بالاقتدار عليه على قانون متعارف ويسمى مغرماً وجباية وإما أن يكون من الحيوان الوحشي باقتناصه وأخذه برميه من البر أو البحر ويسمى اصطياداً وإما أن يكون من الحيوان الداجن باستخراج فضوله المتصرفة بين الناس في منافعهم كاللبن من الأنعام والحرير من دوده والعسل من نحله أو يكون من النبات في الزرع والشجر بالقيام عليه وإعداده لاستخراج ثمرته‏.‏ ويسمى هذا كله فلحاً‏.‏ وإما أن يكون الكسب من الأعمال الإنسانئة‏:‏ إما في مواد بعينها وتسمى الصنائع من كتابة وتجارة وخياطة وحياكة وفروسية وأمثال ذلك أو في مواد غير معينة وهي جميع الامتهانات والتصرفات وإما أن يكون الكسب من البضائع وإعدادها للأعواض إما بالتقلب بها في البلاد أو احتكارها وارتقاب حوالة الأسواق فيها‏.‏ ويسمى هذا تجارة‏.‏ فهذه وجوه المعاش وأصنافه وهي معنى ما ذكره المحققون من أهل الأدب والحكمة كالحريري وغيره فإنهم قالوا‏:‏ ‏"‏ المعاش إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة ‏"‏‏:‏ فأما الإمارة فليست بمذهب طبيعي للمعاش فلا حاجة بنا إلى ذكرها وقد تقدم شيء من أحوال الجبايات السلطانية وأهلها في

الفصل الثاني وأما الفلاحة والصناعة والتجارة فهي وجوه طبيعية للمعاش
أما الفلاحة فهي متقدمة عليها كلها بالذات إذ هي بسيطة وطبيعية فطرية لا تحتاج إلى نظر ولا علم ولهذا تنسب قي الخليقة إلى آدم أبي البشر وأنه معلمها والقائم عليها إشارة إلى أنها أقدم وجوه المعاش وأنسبها إلى الطبيعة‏.‏ وأما الصنائع فهي ثانيتها ومتأخرة عنها لأنها مركبة وعلمية تصرف فيها الأفكار والأنظار ولهذا لا توجد غالباً إلا في أهل الحضر الذي هو متأخر عن البدووثان عنه‏.‏ ومن هذا المعنى نسبت إلى إدريس الأب الثاني للخليقة فإنه مستنبطها لمن بعده من البشر بالوحي من الله تعالى‏.‏ وأما التجارة وإن كانت طبيعية في الكسب فالأكثر من طرقها ومذاهبها إنما هي تحيلات في الحصول على ما بين القيمتين في الشراء والبيع لتحصل فائدة الكسب من تلك الفضلة‏.‏ ولذلك أباح الشرع فيه المكاسبة لما أنه من باب المقامرة إلا أنه ليس أخذاً لمال الغير مجاناً فلهذا اختص بالمشروعية‏.‏ والله أعلم‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:42 AM

الفصل الثالث في أن السلطان لا بد له من اتخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة
اعلم أن السلطان لا بد له من اتخاذ الخدمة في سائر أبواب الإمارة والملك الذي هو بسبيله من الجندي والشرطي والكاتب‏.‏ ويستكفي في كل باب بمن يعلم غناءه فيه ويتكفل بأرزاقهم من بيت ماله‏.‏ وهذا كله مندرج في الإمارة ومعاشها إذ كلهم ينسحب عليهم حكم الإمارة والملك الأعظم هو ينبوع جداولهم‏.‏ وأما ما دون ذلك من الخدمة فسببها أن أكثر المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته أو يكون عاجزاً عنها لما ربي عليه من خلق التنعم والترف فيتخذ من يتولى ذلك له ويقطعه عليه أجراً من ماله‏.‏ وهذه الحالة غير محمودة بحسب الرجولية الطبيعية للإنسان إذ الثقة بكل أحد عجز ولأنها تزيد في الوظاثف والخرج وتدل على العجز والخنث اللذين ينبغي في مذاهب الرجولية التنزه عنهما‏.‏ إلا أن العوائد تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها فهو ابن عوائده لا ابن نسبه‏.‏ ومع ذلك فالخديم الذي يستكفى به ويوثق بغنائه كالمفقود إذ الخديم القائم بذلك لا يعدو أربع حالات‏:‏ إما مضطلع بأمره وموثوق فيما يحصل بيده وإما بالعكس فيهما وهو أن يكون غيرمضطلع بأمره ولا موثوق فيما يحصل بيده وإما بالعكس في إحداهما فقط مثل أن يكون مضطلعاً غير موثوق أو موثوقاً غير مضطلع‏.‏ فأما الأول المضطلع الموثوق فلا يمكن أحد استعماله بوجه إذ هو باضطلاعه وثقته غني عن أهل الرتب الدنية ومحتقر لمنال الأجر من الخدمة لاقتداره على أكثر من ذلك فلا يستعمله إلا الأمراء أهل الجاه العريض لعموم الحاجة إلى الجاه‏.‏ وأما الصنف الثاني‏.‏ من ليس بمضطلع ولا موثوق فلا ينبغي لعاقل استعماله لأنه يجحف بمخدومه في الأمرين معاً فيضيع عليه لعدم الاصطناع تارة ويذهب ماله بالخيانة أخرى فهو على كل حال كل على مولاه‏.‏ فهذان الصنفان لا يطمع أحد في استعمالهما‏.‏ ولم يبق إلا استعمال الصنفين الآخرين‏:‏ موثوق غير مضطلع ومضطلع غير موثوق‏.‏ وللناس الترجيح بينهما مذهبان ولكل من الترجيحين وجه‏.‏ إلا أن المضطلع ولو كان غير موثوق أرجح لأنه يؤمن من تضييعه ويحاول على التحرز عن خيانته جهد الاستطاعة‏.‏ وأما المضيع ولو كان مأموناً فضرره بالتضييع أكثر من نفعه‏.‏ فاعلم ذلك واتخذه قانوناً في الاستكفاء بالخدمة‏.‏ والله سبحانه وتعالى قادر على ما يشاء‏.‏

الفصل الرابع في أن ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي
اعلم أن كثيراً من ضعفاء العقول في الأمصار يحرصون على استخراج الأموال من تحت الأرض ويبتغون الكسب من ذلك‏.‏ ويعتقدون أن أموال الأمم السالفة مختزنة كلها تحت الأرض مختوم عليها كلها بطلاسم سحرية لا يفض ختامها ذلك إلا من عثر على علمه واستحضر ما يحله من البخور والدعاء والقربان‏.‏ فأهل الأمصار بإفريقية يرون أن الإفرنجة الذين كانوا قبل الإسلام بها دفنوا أموالهم كذلك وأودعوها في الصحف بالكتاب إلى أن يجدوا السبيل إلى استخراجها‏.‏ وأهل الأمصار بالمشرق يرون مثل ذلك في أمم القبط والروم والفرس‏.‏ ويتناقلون في ذلك أحاديث تشبه حديث خرافة من انتهاء بعض الطالبين لذلك إلى حفر موضع المال ممن لم يعرف طلسمه ولا خبره فيجدونه خالياً أو معموراً بالديدان‏.‏ أو يشارف الأموال والجواهر موضوعة والحرس دونها منتضين سيوفهم‏.‏ أو تميد به الارض حتى يظنه خسفاً أو مثل ذلك من الهذر‏.‏ ونجد كثيراً من طلبة البربر بالمغرب العاجزين عن المعاش الطبيعي وأسبابه يتقربون إلى أهل الدنيا بالأوراق المتخرمة الحواشي إما بخطوط عجمية أو بما ترجم بزعمهم منها من خطوط أهل الدفائن بإعطاء الأمارات عليها في أماكنها يبتغون بذلك الرزق منهم بما يبعثونهم على الحفر والطلب ويموهون عليهم بأنهم إنما حملهم على الاستعانة بهم طلب الجاه في مثل هذا من منال الحكام والعقوبات‏.‏ وربما تكون عند بعضهم نادرة أو غريبة من الأعمال السحرية يموه بها على تصديق ما بقي من دعواه وهو بمعزل عن السحر وطرقه فتولع كثير من ضعفاء العقول بجمع الأيدي على الاحتفار والتستر فيه بظلمات الليل مخافة الرقباء وعيون أهل الدول‏.‏ فإذا لم يعثروا على شيء ردوا ذلك إلى الجهل بالطلسم الذي ختم به على ذلك المال يخادعون به أنفسهم عن إخفاق مطامعهم‏.‏ والذي يحمل على ذلك في الغالب زيادة على ضعف العقل إنما هو العجز عن طلب المعاش بالوجوه الطبيعية للكسب من التجارة والفلح والصناعة فيطلبونه بالوجوه المنحرفة وعلى غير المجرى الطبيعي من هذا وأمثاله عجزاً عن السعي في المكاسب وركوناً إلى تناول الرزق من غير تعب ولا نصب في تحصيله واكتسابه‏.‏ ولا يعلمون أنهم يوقعون أنفسهم بابتغاء ذلك من غير وجهه في نصب ومتاعب وجهد شديد أشد من الأول ويعرضون أنفسهم مع ذلك لمنال العقوبات‏.‏ وربما يحمل على ذلك في الأكثر زيادة الترف وعوائده وخروجها عن حد النهاية حتى تقصر عنها وجوه الكسب ومذاهبه ولا تفي بمطالبها‏.‏ فإذا عجز عن الكسب بالمجرى الطبيعي لم يجد وليجة في نفسه إلا التمني لوجود المال العظيم دفعة من غير كلفة ليفي له ذلك بالعوائد التي حصل في أسرها فيحرص على ابتغاء ذلك ويسعى فيه جهده‏.‏ ولهذا فأكثر من تراهم يحرصون على ذلك هم المترفون من أهل الدولة ومن سكان الأمصار الكثيرة الترف المتسعة الأحوال مثل مصر وما في معناها‏.‏ فنجد الكثير منهم مغرمين بابتغاء ذلك وتحصيله ومساءلة الركبان عن شواذه كما يحرصون على الكيمياء‏.‏ هكذا يبلغنا عن أهل مصر في مفاوضة من يلقونه من طلبة المغاربة لعلهم يعثرون منه على دفين أو كنز ويزيدون على ذلك البحث عن تغوير المياه لما يرون أن غالب هذه الأموال الدفينة كلها في مجاري النيل وأنه أعظم ما يستر دفيناً أو مختزناً في تلك الآفاق‏.‏ ويموه عليهم أصحاب تلك الدفاتر المفتعلة في الاعتذار عن الوصول إليها بجرية النيل تستراً بذلك من الكذب حتى يحصل على معاشه فيحرص سامع ذلك منهم على نضوب الماء بالأعمال السحرية لتحصيل مبتغاه من هذه كلفاً بشأن السحر متوارثاً في ذلك القطر عن أوليه‏.‏ فعلومهم السحرية وآثارها باقية بأرضهم في البراري وغيرها‏.‏ وقصة سحرة فرعون شاهدة باختصاصهم بذلك وقد تناقل أهل المغرب قصيدة ينسبونها إلى حكماء المشرق تعطى فيها كيفية العمل بالتغوير بصناعة سحرية حسبما تراه فيها وهي هذه‏:‏ يا طالباً للسر في التغوير إسمع كلام الصدق من خبير دع عنك ما قد صنفوا في كتبهم من قول بهتان ولفظ غرور واسمع لصدق مقالتي ونصيحتي إن كنت ممن لا يرى بالزور فإذا أردت تغور البئر التي حارت لها الأوهام في التدبير صور كصورتك التي أوقفتها والرأس رأس الشبل في التقوير وبصدره هاء كما عاينتها عدد الطلاق احذر من التكرير ويطا على الطاءات غير ملامس مشي اللبيب الكيس النحرير ويكون حول الكل خط دائر تربيعه أولى من التكوير واذبح عليه الطير والطخه به واقصده عقب الذبح بالتبخير بالسندروس وباللبان وميعة والقسط والبسه بثوب حرير من أحمر أو أصفر لا أزرق لا أخضر فيه ولا تكدير ويشده خيطان صوف أبيض أو أحمر من خالص التحمير والطالع الأسد الذي قد بينوا ويكون بدء الشهر غير منير والبدر متصل بسعد عطارد في يوم سبت ساعة التدبير يعني أن تكون الطا آت بين قدميه كأنه يمشي عليها وعندي أن هذه القصيدة من تمويهات المتخرفين فلهم في ذلك أحوال غريبة واصطلاحات عجيبة وتنتهي التخرفة والكذب بهم إلى أن يسكنوا المنازل المشهورة والدور المعروفة بمثل هذه ويحفرون بها الحفر ويضعون فيها المطابق والشواهد التي يكتبونها في صحائف كذبهم ثم يقصدون ضعفاء العقول بأمثال هذه الصحائف ويطالبونه بالمال لاشتراء العقاقير والبخورات لحل الطلاسم ويعدونه بظهور الشواهد التي قد أعدوها هنالك بأنفسهم ومن فعلهم فينبعث لما يراه من ذلك وهو قد خدع ولبس عليه من حيث لا يشعر وبينهم في ذلك اصطلاح في كلامهم يلبسون به عليهم ليخفى عند محاورتهم فيما يتناولونه من حفر وبخور وذبح حيوان وأمثال ذلك‏.‏ وأما الكلام في ذلك على الحقيقة فلا أصل له في علم ولا خببر‏.‏ واعلم أن الكنوز وإن كانت توجدة لكنها في حكم النادر على وجه الاتفاق لا على وجه القصد إليها‏.‏ وليس ذلك بأمر تعم به البلوى حتى يدخر الناس غالباً أموالهم تحت الأرض ويختمون عليها بالطلاسم لا في القديم ولا في الحديث‏.‏ والركاز الذي ورد في الحديث وفرضه الفقهاء وهو دفين الجاهلية إنما يوجد بالعثور والاتفاق لا بالقصد والطلب‏.‏ وأيضاً فمن اختزن ماله وختم عليه بالأعمال السحرية فقد بالغ في إخفائه فكيف ينصب عليه الأدلة والأمارات لمن يبتغيه‏.‏ ويكتب ذلك في الصحائف حتى يطلع علي ذخيرته أهل الأمصار والأفاق هذا يناقض قصد الإخفاء‏.‏ وأيضاً فأفعال العقلاء لا بد وأن تكون لغرض مقصود في الانتفاع‏.‏ ومن اختزن المال فإنما يختزنه لولده أو قريبه أو من يؤثره‏.‏ وأما أن يقصد إخفاءه بالكلية عن كل أحد وإنما هو للبلا والهلاك أو لمن لا يعرفه بالكلية ممن سيأتي من الأمم فهذا ليس من مقاصد العقلاء بوجه‏.‏ وأما قولهم‏:‏ أين أموال الأمم من قبلنا وما علم فيها من الكثرة والوفور فاعلم أن الأموال من الذهب والفضة والجواهر والأمتعة إنما هي معادن ومكاسب مثل الحديد والنحاس والرصاص وسائر العقارات والمعادن‏.‏ والعمران يظهرها بالأعمال الإنسانية ويزيد فيها أو ينقصها‏.‏ وما يوجد منها بأيدي الناس فهو متناقل متوارث‏.‏ وربما انتقل من قطر إلى قطر ومن دولة إلى اخرى بحسب أغراضه والعمران الذي يستدعيه‏.‏ فإن نقص المال في المغرب وإفريقية فلم ينقص ببلاد الصقالبة والإفرنج وإن نقص في مصر والشام فلم ينقص في الهند والصين‏.‏ وإنما هي الآلات والمكاسب والعمران يوفرها أو ينقصها مع أن المعادن يدركها البلاء كما يدرك سائر الموجودات ويسرع إلى اللؤلؤ جوهر أعظم مما يسرع إلى غيره‏.‏ وكذا الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير ينالها من البلاء والفناء ما يذهب بأعيانها لأقرب وقت‏.‏ وأما ما وقع في مصر من أمر المطالب والكنوز فسببه أن مصر كانت في ملكة القبط منذ آلاف أو يزيد من السنين وكان موتاهم يدفنون بموجودهم من الذهب والفضة والجواهر واللآلىء على مذهب من تقذم من أهل الدول‏.‏ فلما انقضت دولة القبط وملك الفرس بلادهم نقروا على ذلك في قبورهم وكشفوا عنه فأخذوا من قبورهم ما لا يوصف‏:‏ كالأهرام من قبور الملوك وغيرها‏.‏ وكذا فعل اليونانيون من بعدهم وصارت قبورهم مظنة لذلك لهذا العهد‏.‏ ويعثر على الدفين فيها في كثير من الأوقات‏.‏ أما ما يدفنونه من أموالهم أو ما يكرمون به موتاهم في الدفن من أوعية وتوابيت من الذهب والفضة معدة لذلك فصارت قبور القبط منذ آلاف من السنين مظنة لوجود ذلك فيها‏.‏ فلذلك عني أهل مصر بالبحث عن المطالب لوجود ذلك فيها واستخراجها‏.‏ حتى إنهم حين ضربت المكوس على الأصناف آخر الدولة ضربت على أهل المطالب‏.‏ وصارت ضريبة على من يشتغل بذلك من الحمقى والمهوسين فوجد بذلك المتعاطون من أهل الأطماع الذريعة إلى الكشف عنه والذرع باستخراجه‏.‏ وما حصلوا إلا على الخيبة في جميع مساعيهم نعوذ بالله من الخسران فيحتاج من وقع له شيء من هذا الوسواس أو ابتلي به أن يتعوذ بالله من العجز والكسل في طلب معاشه كما تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وينصرف عن طرق الشيطان ووسواسه ولا يشغل نفسه بالمحالات والكاذب من الحكايات‏.‏ ‏"‏ والله يرزق من يشاء بغير حساب ‏"‏‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:44 AM

الفصل الخامس في أن الجاه مفيد للمال
وذلك أنا نجد صاحب المال والحظوة في جميع أصناف المعاش أكثر يساراً وثروة من فاقد الجاه‏.‏ والسبب في ذلك أن صاحب الجاه مخدوم بالأعمال يتقرب بها إليه في سبيل التزلف والحاجة إلى جاهه‏.‏ فالناس معينون له بأعمالهم في جميع حاجاته من ضروري أو حاجي أو كمالي فتحصل قيم تلك الأعمال كلها من كسبه‏.‏ وجميع ما شأنه أن تبذل فيه الأعواض من العمل يستعمل فيها الناس من غير عوض فتتوفر قيم تلك الأعمال عليه‏.‏ فهو بين قيم للأعمال يكتسبها وقيم أخرى تدعوه الضرورة إلى إخراجها فتتوفر عليه‏.‏ والأعمال لصاحب الجاه كثيرة فتفيد الغنى لأقرب وقت ويزداد مع الأيام يساراً وثروة‏.‏ ولهذا المعنى كانت الإمارة أحد أسباب المعاش كما قدمناه‏.‏ وفاقد الجاه بالكلية ولو كان صاحب مال فلا يكون يساره إلا بمقدار ماله وعلى نسبة سعيه وهؤلاء هم أكثر التجار‏.‏ ولهذا تجد أهل الجاه منهم يكونون أيسر بكثير‏.‏ ومما يشهد لذلك أنا نجد كثيراً من الفقهاء وأهل الدين والعبادة إذا اشتهروا حسن الظن بهم واعتقد الجمهور معاملة الله في إرفادهم فأخلص الناس في إعانتهم على أحوال دنياهم والاعتمال في مصالحهم‏.‏ أسرعت إليهم الثروة وأصبحوا مياسير من غير مال مقتنى إلا ما يحصل لهم من قيم الأعمال التي وقعت المعونة بها من الناس لهم‏.‏ رأينا من ذلك أعداداً في الأمصار والمدن‏.‏ وفي البدو يسعى لهم الناس في الفلح والنجر وكل قاعد بمنزله لا يبرح من مكانه فينمو ماله ويعظم كسبة ويتأثل الغنى من غير سعي‏.‏ ويعجب من لا يفطن لهذا السر

الفصل السادس في أن السعادة والكسب إنما يحصل غالباً
لأهل الخضوع والتملق وإن هذا الخلق من أسباب السعادة قد سبق لنا فيما سلف أن الكسب الذي يستفيده البشر إنما هو قيم أعمالهم‏.‏ ولو قدر أحد عطل عن العمل جملة لكان فاقد الكسب بالكلية‏.‏ وعلى قدر عمله وشرفه بين الأعمال وحاجة الناس إليه يكون قدر قيمته‏.‏ وعلى نسبة ذلك نمو كسبه أو نقصانه‏.‏ وقد بينا آنفاً أن الجاه يفيد المال لما يحصل لصاحبه من تقرب الناس إليه بأعمالهم وأموالهم في دفع المضار وجلب المنافع‏.‏ وكان ما يتقربون به من عمل أو مال عوضاً عما يحصلون عليه بسبب الجاه من الأغراض في صالح أو طالح‏.‏ وتصير تلك الأعمال في كسبه وقيمها أموال وثروة له فيستفيد الغنى واليسار لأقرب وقت‏.‏ ثم إن الجاه متوزغ في الناس ومترتب فيهم طبقة بعد طبقة ينتهي في العلو إلى الملوك الذين ليس فوقهم يد عالية وفي السفل إلى من لا يملك ضراً ولا نفعاً بين أبناء جنسه‏.‏ وبين ذلك طبقات متعددة‏.‏ حكمة الله في خلقه‏.‏ بما ينتظم معاشهم وتتيسر مصالحهم ويتم بقاؤهم لأن النوع الإنساني لما كان لا يتم وجوده وبقاؤه إلا بتعاون أبنائه على مصالحهم لأنه قد تقرر أن الواحد منهم لا يتم وجوده‏.‏ وأنه وإن ندر ذلك في صورة مفروضة لا يصح بقاؤه‏.‏ ثم إن هذا التعاون لا يحصل إلا بالإكراه عليه لجهلهم في الأكثر بمصالح النوع ولما جعل الله لهم من الاختيار وأن أفعالهم إنما تصدر بالفكر والروية لا بالطبع‏.‏ وقد يمتنع من المعاونة فيتعين حمله عليها فلا بد من حامل يكره أبناء النوع على مصالحهم لتتم الحكمة الإلهية في بقاء هذا النوع‏.‏ وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ‏"‏ ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون ‏"‏‏.‏ فقد تبين أن الجاه هو القدرة الحاملة للبشر على التصرف فيمن تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن والمنع والتسلط بالقهر والغلبة ليحملهم على دفع مضارهم وجلب منافعهم في العدل بأحكام الشرائع والسياسة وعلى أغراضه فيما سوى ذلك ولكن الأول مقصود في العناية الربانية بالذات والثاني داخل فيها بالعرض كسائر الشرور الداخلة في القضاء الإلهي‏.‏ لأنه قد لا يتم وجود الخير الكثير إلا بوجود شر يسير من أجل المواد فلا يفوت الخير بذلك بل يقع على ما ينطوي عليه من الشر اليسير‏.‏ وهذا معنى وقوع الظلم في الخليقة فتفهم‏.‏ ثم إن كل طبقة من طباق أهل العمران من مدينة أو إقليم لها قدرة على من دونها من الطباق‏.‏ وكل واحد من الطبقة السفلى يستمد هذا الجاه من أهل الطبقة التي فوقه ويزداد كسبه تصرفاً فيمن تحت يده على قدر ما يستفيد منه‏.‏ والجاه على ذلك داخل على الناس في جميع أبواب المعاش ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه‏.‏ فإن كان الجاه متسعاً كان الكسب الناشئ عنه كذلك وإن كان ضيقاً وقليلاً فمثله‏.‏ وفاقد الجاه وإن كان له مال فلا يكون يساره إلا بمقدار عمله أو ماله وعلى نسبة سعيه ذاهباً وآيباً في تنميته كأكثر التجار‏.‏ وأهل الفلاحة في الغالب وأهل الصنائع كذلك إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم فإنهم يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر ولا تسرع إليهم ثروة وإنما يرمقون العيش ترميقاً ويدفعون ضرورة الفقر مدافعة‏.‏ وإذا تقرر ذلك وأن الجاه متفرع وأن السعادة والخير مقترنان بحصوله علمت أن باذله وإفادته من أعظم النعم وأجلها وأن باذله من أجل المنعمين‏.‏ وإنما يبذله لمن تحت يديه فيكون بذله بيد عالية وعن عزة فيحتاج طالبه ومبتغيه إلى خضوع وتملق كما يسأل أهل العز والملوك وإلا فيتعذر حصوله‏.‏ فلذلك قلنا إن الخضوع والتملق من أسباب حصول هذا الجاه المحصل للسعادة والكسب وإن أكثر أهل الثروة والسعادة بهذا الخلق‏.‏ ولهذا نجد الكثير ممن يتخلق بالترفع والشمم لا يحصل لهم غرض من الجاه فيقتصرون في التكسب على أعمالهم ويصيرون إلى الفقر والخصاصة‏.‏ واعلم أن هذا الكبر والترفع من الأخلاق المذمومة إنما يحصل من توهم الكمال وأن الناس يحتاجون إلى بضاعته من علم أو صناعة كالعالم المتبخر في علمه أو الكاتب المجيد في كتابته أو الشاعر البليغ في شعره‏.‏ وكل محسن في صناعته يتوهم أن الناس محتاجون لما بيده فيحدث له ترفع عليهم بذلك ويهذا يتوهم أهل الأنسات ممن كان في آبائه ملك أو عالم مشهور أو كامل في طور يعبرون بما رأوه أو سمعوه من حال آبائهم في المدينة ويتوهمون أنهم استحقوا مثل ذلك بقرابتهم إليهم ووراثتهم عنهم‏.‏ فهم متمسكون في الحاضر بالأمر المعدوم إذ الكمال لا يورث وكذلك أهل الحيلة والبصر والتجارب بالأمور قد يتوهم بعضهم كمالاً في نفسه بذلك واحتياجاً إليه‏.‏ وتجد هؤلاء الأصناف كلهم مترفعين لا يخضعون لصاحب الجاه ولا يتملقون لمن هو أعلى منهم‏.‏ ويستصغرون من سواهم لاعتقادهم الفضل على الناس فيستنكف أحدهم عن الخضوع ولو كان للملك ويعده مذلة وهواناً وسفهاً‏.‏ ويحاسب الناس في معاملتهم إياه بمقدار مما يتوهم في نفسه ويحقد على من قصر له في شيء مما يتوهمه من ذلك‏.‏ وربما يدخل على نفسه الهموم والأحزان من تقصيرهم فيه ويستمر في عناء عظيم من إيجاب الحق لنفسه أو إباية الناس له من ذلك‏.‏ ويحصل له المقت من الناس لما في طباع البشر من التأله‏.‏ وقل أن يسلم أحد منهم لأحد في الكمال والترفع عليه إلا أن يكون ذلك بنوع من القهر والغلبة والاستطالة‏.‏ وهذا كله في ضمن الجاه‏.‏ فإذا فقد صاحب هذا الخلق الجاه وهو مفقود له كما تبين لك مقته الناس بهذا الترفع ولم يحصل له حظ من إحسانهم‏.‏ وفقد الجاه لذلك من أهل الطبقة التي هي أعلى منه لأجل المقت وما يحصل له بذلك من القعود من تعاهدهم وغشيان منازلهم ففسد معاشه وبقي في خصاصة وفقر أو فوق ذلك بقليل‏.‏ وأما الثروة فلا تحصل له أصلاً‏.‏ ومن هذا اشتهر بين الناس أن الكامل في المعرفة محروم من الحظ وأنه قد حوسب بما رزق من المعرفة واقتطع له ذلك من الحظ وهذا معناه‏.‏ ومن خلق لشيء يسر له‏.‏ والله المقدر لا رب سواه‏.‏ ولقد يقع في الدول أضراب في المراتب من أهل هذا الخلق ويرتفع فيها كثير من السفلة وينزل كثير من العلية بسبب ذلك‏.‏ وذلك أن الدول إذا بلغت نهايتها من التغلب والاستيلاء انفرد منها منبت الملك بملكهم وسلطانهم ويئس من سواهم من ذلك‏.‏ وإنما صاروا في مراتب دون مرتبة الملك وتحت يد السلطان وكأنهم خول له‏.‏ فإذا استمرت الدولة وشمخ الملك تساوى حينئذ في المنزلة عند السلطان كل من انتمى إلى خدمته وتقرب إليه بنصيحته واصطنعه السلطان لغنائه في كثير من مهماته‏.‏ فتجد كثيراً من السوقة يسعى في التقرب من السلطان بجده ونصحه ويتزلف إليه بوجوه خدمته ويستعين على ذلك بعظيم من الخضوع والتملق له ولحاشيته وأهل نسبه‏.‏ حتى يرسخ قدمه معهم وينظمه السلطان في جملته فيحصل له بذلك حظ عظيم من السعادة وينتظم في عدد أهل الدولة‏.‏ وناشئة الدولة حينئذ من أبناء قومها الذين ذللوا صعابها ومهدوا أكنافها مغترين بما كان لآبائهم في ذلك من الآثار وتشمخ به نفوسهم على السلطان ويعتدون بآثاره ويجرون في مضمار الدالة بسببه فيمقتهم السلطان لذلك ويباعدهم‏.‏ ويميل إلى هؤلاء المصطنعين الذين لا يعتدون بقديم ولا يذهبون إلى دالة ولا ترفع‏.‏ إنما دأبهم الخضوع له والتملق والاعتمال في غرضه متى ذهب إليه فيتسع جاههم وتعلو منازلهم وتنصرف إليهم الوجوه‏.‏ والخواص بما يحصل لهم من ميل السلطان والمكانة عنده‏.‏ ويبقى ناشئة الدولة فيما هم فيه من الترفع والاعتداد بالقديم لا يزيدهم ذلك إلا بعداً من السلطان ومقتاً وإيثاراً لهؤلاء المصطنعين عليهم إلى أن تنقرض الدولة‏.‏ وهذا أمر طبيعي في الدول‏.‏ ومنه جاء شأن المصطنعين في الغالب‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق لا رب سواه‏.‏

الفصل السابع في أن القائمين بأمور الدين
من القضاء والفتيا والتدريس والإمامة والسبب في ذلك أن الكسب كما قدمناه قيمة الأعمال وأنها متفاوتة بحسب الحاجة إليها‏.‏ فإذا كانت الأعمال ضرورية في العمران عامة البلوى فيه كانت قيمتها أعظم وكانت الحاجة إليها أشد‏.‏ وأهل هذه الصنائع الدينية لا تضطر إليهم عامة الخلق وإنما يحتاج إلى ما عندهم الخواص ممن أقبل على دينه‏.‏ وإن احتيج إلى الفتيا والقضاء في الخصومات فليس على وجه الاضطرار والعموم فيقع الاستغناء عن هؤلاء‏.‏ في الأكثر‏.‏ وإنما يهتم بهم وبإقامة مراسمهم صاحب الدولة بما له من النظر في المصالح فيقسم لهم حظاً من الرزق على نسبة الحاجة إليهم على النحو الذي قررناه‏.‏ لا يساويهم بأهل الشوكة ولا بأهل الصنائع الضرورية وإن كانت بضاعتهم أشرف من حيث الدين والمراسم الشرعية لكنه يقسم بحسب عموم الحاجة وضرورة أهل العمران فلا يصح في قسمتهم إلا القليل‏.‏ وهم أيضاً لشرف بضائعهم أعزة على الخلق وعند نفوسهم فلا يخضعون لأهل الجاه حتى ينالوا منه حظاً يستدرون به الرزق بل ولا تفرغ أوقاتهم لذلك لما هم فيه من الشغل بهذه الصنائع الشريفة المشتملة على أعمال الفكر والتدبر‏.‏ بل ولا يسعهم ابتذال أنفسهم لأهل الدنيا لشرف صنائعهم فهم بمعزل عن ذلك‏.‏ فلذلك لا تعظم ثروتهم في الغالب‏.‏ ولقد باحثت بعض الفضلاء فأنكر ذلك علي فوقع بيدي أوراق مخرقة من حسابات الدواوين بدار المأمون تشتمل على كثير من الدخل والخرج يومئذ‏.‏ وكان فيما طالعت فيه أرزاق القضاة والأئمة والمؤذنين فوقفته عليه‏.‏ وعلم منه صحة ما قلته ورجع إليه‏.‏ وقضينا العجب من أسرار الله في خليقته وحكمته في عوالمه‏.‏ والله الخالق القادر لارب سواه‏.‏

الفصل الثامن في أن الفلاحة من معاش المستضعفين وأهل العافية من البدو
وذلك لأنه أصيل في الطبيعة وبسيط في منحاه‏.‏ ولذلك لا تجده ينتحله أحد من أهل الحضر في الغالب ولا من المترفين‏.‏ ويختص منتحله بالمذلة‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم وقد رأى السكة ببعض دور الأنصار‏:‏ ‏"‏ ما دخلت هذه دار قوم إلا دخله الذل ‏"‏‏.‏ وحمله البخاري على الاستكثار منه‏.‏ وترجم عليه باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو تجاوز الحد الذي أمر به‏.‏ والسبب فيه والله أعلم ما يتبعها من المغرم المفضي إلى التحكم واليد العالية فيكون الغارم ذليلاً بائساً بما تتناوله أيدي القهر والاستطالة‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى تعود الزكاة مغرماً ‏"‏ إشارة إلى الملك العضوض القاهر للناس الذي معه التسلط والجور ونسيان حقوق الله تعالى في المتمولات واعتبار الحقوق كلها مغرماً للملوك

الفصل التاسع في معني التجارة ومذاهبها وأصنافها
اعلم أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السلع بالرخص وبيعها بالغلاء أياً ما كانت السلعة من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش‏.‏ وذلك القدر النامي يسمى ربحاً‏.‏ فالمحاول لذلك الربح‏:‏ إما أن يختزن السلعة ويتحين بها حوالة الأسواق من الرخص إلى الغلاء فيعظم ربحه وإما بأن ينقله إلى بلد آخر تنفق فيه تلك السلعة أكثر من بلده الذي اشتراها فيه فيعظم ربحه‏.‏ ولذلك قال بعض الشيوخ من التجار لطالب الكشف عن حقيقة التجارة‏:‏ أنا أعلمها لك في كلمتين اشتراء الرخيص وبيع الغالي‏.‏ فقد حصلت التجارة إشارة منه بذلك إلى المعنى الذي قررناه‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق لا رب سواه‏.‏

الفصل العاشر في أي أصناف الناس ينتفع بالتجارة
وأيهم ينبغي له اجتناب حرفها قد تقدم لنا أن معنى التجارة تنمية المال بشراء البضائع ومحاولة بيعها بالغلاء بأغلى من ثمن الشراء‏.‏ اما بانتظار حوالة الأسواق أو نقلها إلى بلد هي فيه أنفق وأغلى أو بيعها بالغلاء على الآجال‏.‏ وهذا الربح بالنسبة إلى أصل المال نزر يسير لأن المال إن كان كثيراً عظم الربح لأن القليل في الكثير كثير‏.‏ ثم لا بد في محاولة هذه التنمية الذي هو الربح من حصول هذا المال بأيدي الباعة في شراء البضائع وبيعها ومعاملتهم في تقاضي أثمانها‏.‏ وأهل النصفة قليل فلا بد من الغش والتطفيف المجحف بالبضائع ومن المطل في الأثمان المجحف بالربح‏.‏ كتعطيل المحاولة في تلك المدة وبها نماؤه‏.‏ ومن الجحود والإنكار المسحت لرأس المال إن لم يتقيد بالكتاب والشهادة‏.‏ وغناء الحكام في ذلك قليل لأن الحكم إنما هو على الظاهر فيعاني التاجرمن ذلك أحوالاً صعبة‏.‏ ولا يكاد يحصل على ذلك التافه من الربح إلا بعظم العناء والمشقة أو لا يحصل أو يتلاشى رأس ماله‏.‏ فإن كان جريئاً على الخصومة بصيراً بالحسبان شديد المماحكة مقداماً على الحكام كان ذلك أقرب له إلى النصفة منهم بجراءته ومماحكته وإلا فلا بد له من جاه يدرع به فيوقع له الهيبة عند الباعة ويحمل الحكام على إنصافه من غرمائه فيحصل له بذلك النصفة واستخلاص ماله منهم طوعاً في الأول وكرهاً في الثاني‏.‏ وأما من كان فاقداً للجراءة والإقدام من نفسه وفاقد الجاه من الحكام فينبغي له أن يجتنب الاحتراف بالتجارة لأنه يعرض ماله للضياع والذهاب ويصيره مأكلة للباعة ولا يكاد ينتصف منهم لأن الغالب في الناس وخصوصاً الرعاع والباعة شرهون إلى ما في أيدي الناس سواهم متوثبون عليه‏.‏ ولولا وازع الأحكام لأصبحت أموال الناس نهباً‏.‏ ‏"‏ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ‏"‏‏.‏

ميارى 4 - 8 - 2010 12:45 AM

الفصل الحادي عشر في أن خلق التجار نازلة
عن خلق الأشراف والملوك وذلك أن التجار في غالب أحوالهم إنما يعانون البيع والشراء ولا بد فيه من المكايسة ضرورة‏.‏ فإن اقتصر عليها اقتصرت به على خلقها وهي أعني خلق المكايسة بعيدة عن المروءة التي تتخلن بها الملوك والأشراف‏.‏ وأما إن استرذل خلقه بما يتبع ذلك في أهل الطبقة السفلى منهم من المماحكة والغش والخلابة وتعاهد الأيمان الكاذبة على الأثمان رداً وقبولاً فأجدر بذلك الخلق أن يكون في غاية المذلة لما هو معروف‏.‏ ولذلك تجد أهل الرئاسة يتحامون الاحتراف بهذه الحرفة لأجل ما يكسب من هذا الخلق‏.‏ وقد يوجد منهم من يسلم من هذا الخلق ويتحاماه لشرف نفسه وكرم جلاله إلا أنه في النادر بين الوجود‏.‏ والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه وهو رب الأولين والآخرين‏.‏ في نقل التاجر للسلع التاجر البصير بالتجارة لا ينقل من السلع إلا ما تعم الحاجة إليه من الغني والفقير والسلطان والسوقة إذ في ذلك نفاق سلعته‏.‏ وأما إذا اختص نقله بما يحتاج إليه البعض فقط فقد يتعذر نفاق سلعته حينئذ بأعواز الشراء من ذلك البعض لعارض من العوارض فتكسد سوقه وتفسد أرباحه‏.‏ وكذلك إذا نقل السلعة المحتاج إليها فإنما ينقل الوسط من صنفها فإن الغالي من كل صنف من السلع إنما يختص به أهل الثروة وحاشية الدولة وهم الأقل‏.‏ وإنما يكون الناس أسوة في الحاجة إلى الوسط من كل صنف فليتحر ذلك جهده ففيه نفاق سلعته أو كسادها‏.‏ وكذلك نقل السلع من البلد البعيد المسافة أو شدة الخطر في الطرقات يكون أكثر فائدة للتجار وأعظم أرباحاً وأكفل بحوالة الأسواق‏.‏ لأن السلع المنقولة حينئذ تكون قليلة معوزة لبعد مكانها أو شدة الغرر في طريقها فيقل حاملوها ويعز وجودها‏.‏ وإذا قلت وعزت غلت أثمانها‏.‏ وأما إذا كان البلد قريب المسافة والطريق سابل بالأمن فإنه حينئذ يكثر ناقلوها فتكثر وترخص أثمانها‏.‏ ولهذا تجد التجار الذين يولعون بالدخول إلى بلاد السودان أرفه الناس وأكثرهم أموالاً لبعد طريقهم ومشقته واعتراض المفازة الصعبة المخطرة بالخوف والعطش‏.‏ لا يوجد فيها الماء إلا في أماكن معلومة يهتدي إليها أدلاء الركبان فلا يرتكب خطر هذا الطريق وبعده إلا الأقل من الناس‏.‏ فتجد سلع بلاد السودان قلية لدينا فتختض بالغلاء وكذلك سلعنا لديهم‏.‏ فتعظم بضائع التجار من تناقلها وويسرع إليهم والثروة من أجل ذلك‏.‏ وكذلك المسافرون من بلادنا إلى المشرق لبعد الشقة‏.‏ وأما المترددون في الأفق الواحد ما بين أمصاره وبلدانه ففائدتهم قليلة وأرباحهم تافهة لكثرة السلع وكثرة ناقليها‏.‏ و ‏"‏ الله هو الرزاق ذو القوة المتين ‏"‏‏.‏

الفصل الثالث عشر في الاحتكار
ومما اشتهر عند ذوي البصر والتجربة في الأمصار أن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤوم‏.‏ وأنه يعود على فائدته بالتلف والخسران‏.‏ وسببه والله أعلم أن الناس لحاجتهم إلى الأقوات مضطرون إلى ما يبذلون فيها من المال اضطراراً فتبقى النفوس متعلقة به‏.‏ وفي تعلق النفوس بمالها سر كبير في وباله على من يأخذه مجاناً‏.‏ ولعله الذي اعتبره الشارع في أخذ أموال الناس بالباطل‏.‏ وهذا وإن لم يكن مجاناً فالنفوس متعلقة به لإعطائه ضرورة من غير سعة في العذر فهو كالمكره‏.‏ وما عدا الأقوات والمأكولات من المبيعمات لا إضطراراً للناس إليها وإنما يبعثهم عليها التفنن في الشهوات فلا يبذلون أموالهم فيها إلا باختيار وحرص‏.‏ ولا يبقى لهم تعلق بما أعطوه‏.‏ فلهذا يكون من عرف بالاحتكار تجتمع القوى النفسانية على متابعته لما يأخذه من أموالهم فيفسد ربحه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ وسمعت فيما يناسب هذا حكاية ظريفة عن بعض مشيخة المغرب‏.‏ أخبرني شيخنا أبو عبد الله الآبلي قال‏:‏ حضرت عند القاضي بفاس لعهد السلطان أبي سعيد وهو الفقيه أبو الحسن المليلي وقد عرض عليه أن يختار بعض الألقاب المخزنية لجرايته قال فأطرق ملياً ثم قال لهم‏:‏ من مكس الخمر‏.‏ فاستضحك الحاضرون من أصحابه وعجبوا وسألوه عن حكمة ذلك‏.‏ فقال‏:‏ إذا كانت الجبايات كلها حراماً فأختار منها ما لا تتابعه نفس معطيه‏.‏ والخمر قل أن يبذل فيها أحد ماله إلا وهو طرب مسرور بوجدانه غير أسف عليه ولا متعلقة به نفسه‏.‏ وهذه ملاحظة غريبة‏.‏ والله سبحانه وتعالى يعلم ما تكن الصدور‏.‏

الفصل الرابع عشر في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخيص
وذلك أن الكسب والمعاش كما قدمناه إنما هو بالصنائع أو التجارة‏.‏ والتجارة هي شراء البضائع والسلع وادخارها‏.‏ يتحين بها حوالة الأسواق بالزيادة في أثمانها ويسمى ربحاً‏.‏ ويحصل منه الكسب والمعاش للمحترفين بالتجارة دائماً‏.‏ فإذا استديم الرخص في سلعة أو عرض من مأكول أو ملبوس أو متمول على الجملة ولم يحصل للتاجرحوالة الأسواق فيه فسد الربح والنماء بطول تلك المدة وكسدت سوق ذلك الصنف ولم يحصل التاجر إلا على العناد فقعد التجارعن السعي فيها وفسدت رؤوس أموالهم‏.‏ واعتبر ذلك أولاً بالزرع فإنه إذا استديم رخصه كيف تفسد أحوال المحترفين به بسائر أطواره من الفلح والزراعة لقلة الربح فيه ونزارته أو فقده‏.‏ فيفقدون النماء في أموالهم أو يجدونه على قلة ويعودون بالإنفاق على رؤوس أموالهم وتفسد أحوالهم ويصيرون إلى الفقر والخصاصة‏.‏ ويتبع ذلك فساد حال المحترفين أيضاً بالطحن والخبز وسائر ما يتعلق بالزراعة من الحرف من لدن زراعته إلى صيرورته مأكولاً‏.‏ وكذا يفسد حال الجند إذا كانت أرزاقهم من السلطان عند أهل الفلح زرعاً فإنها تقل جبايتهم من ذلك ويعجزون عن إقامة الجندية التي هم بسببها ويرتزقون من السلطان عليها ويقطع عنهم الرزق فتفسد أحوالهم‏.‏ وكذا إذا استديم الرخص في العسل والسكر فسد جميع ما يتعلق به وقعد المحترفون به عن التجارة فيه‏.‏ وكذا حال الملبوسات إذا استديم فيها الرخص أيضاً‏.‏ فإذا الرخص المفرط مجحف بمعاش المحترفين بذلك الصنف الرخيص وكذا الغلاء المفرط أيضاً‏.‏ وربما يكون في النادر سبباً لنماء المال بسبب احتكاره وعظم فائدته‏.‏ وإنما معاش الناس وكسبهم في التوسط من ذلك وسرعة حوالة الأسواق وعلم ذلك يرجع إلى العوائد المتقررة بين أهل العمران‏.‏ وإنما يحمد الرخص في الزرع من بين المبيعات لعموم الحاجة إليه واضطرار الناس إلى الأقوات من بين الغني والفقير‏.‏ والعالة من الخلق هم الأكثر في العمران فيعم الرفق بذلك ويرجح جانب القوت على جانب التجارة في هذا الصنف الخاص‏.‏ و ‏"‏ الله هو الرزاق ذو القوة المتين ‏"‏‏.‏ والله سبحانه وتعالى رب العرش العظيم‏.‏

الفصل الخامس عشر في أن خلق التجار نازلة عن خلق الرؤساء وبعيدة من المروءة
قد قدمنا في الفصل قبله أن التاجر مدفوع إلى معاناة البيع والشراء وجلب الفوائد والأرباح ولا بد في ذلك من المكايسة والمماحكة والتحذلق وممارسة الخصومات واللجاج وهي عوارض هذه الحرفة‏.‏ وهذه الأوصاف تغض من الذكاء والمروءة وتخدج فيها لأن الأفعال لا بد من عود آثارها على النفس‏.‏ فأفعال الخير تعود بآثار الخير والذكاء وأفعال الشر والسفسفة تعود بضد ذلك فتتمكن وترسخ إن سبقت وتكررت‏.‏ وتنقص خلال الخير إن تأخرت عنها بما ينطبع من آثارها المذمومة في النفس شأن الملكات الناشئة عن الأفعال‏.‏ وتتفاوت هذه الآثار بتفاوت أصناف التجار في أطوارهم‏.‏ فمن كان منهم سافل الطور مخالفاً لشرار الباعة أهل الغش والخلابة والخديعة والفجور في الأيمان على البياعات والأثمان إقراراً وإنكاراً كانت رداءة تلك الخلق عنده أشد وغلبت عليه السفسفة وبعد عن المروءة واكتسابها بالجملة‏.‏ وإلا فلا بد له من تأثير المكايسة والمماحكة في مروءته‏.‏ وفقدان ذلك فيهم في الجملة‏.‏ ووجود الصنف الثاني منهم الذي قدمناه في الفصل قبله أنهم يدرعون بالجاه ويعوض لهم من مباشرة ذلك فيهم نادر وأقل من النادر‏.‏ وذلك أن يكون المال قد توفر عنده دفعة بنوع غريب أو ورثه عن أحد من أهل بيته فحصلت له ثروة تعينه على الاتصال بأهل الدولة وتكسبه ظهوراً وشهرة بين أهل عصره فيترفع عن مباشرة ذلك بنفسه ويدفعه إلى من يقوم له به من ولائه وحشمه‏.‏ ويسهل له الحكام النصفة في حقوقهم بما يؤنسونه من بره وإتحافه فيبعدونه عن تلك الخلق بالبعد عن معاناة الأفعال المقتضية لها كما مر‏.‏ فتكون مروءتهم أرسخ وأبعد عن المحرجات إلا ما يسري من آثار تلك الأفعال من وراء الحجاب فإنهم يضطرون إلى مشارفة أحوال أولئك الوكلاء ووفاقهم أو خلافهم فيما يأتون أو يذرون من ذلك إلا أنه قليل ولا يكاد يظهر أثره‏.‏ ‏"‏ والله خلقكم وما تعملون ‏"‏‏.‏

الفصل السادس عشر في أن الصنائع لا بد لها من العلم
إعلم أن الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري وبكونه عملياً هو جسماني محسوس‏.‏ والأحوال الجسمانية المحسوسة نقلها بالمباشرة أوعب لها وأكمل لأن المباشرة في الأحوال الجسمانية المحسوسة أتم فائدة والملكة صفة راسخة تحصل عن استعمال ذلك الفعل وتكرره مرة بعد أخرى حتى ترسخ صورته‏.‏ وعلى نسبة الأصل تكون الملكة‏.‏ ونقل المعاينة أو عب وأتم من نقل الخبر والعلم‏.‏ فالملكة الحاصلة عنه أكمل وأرسخ من الملكة الحاصلة على الخبر‏.‏ وعلى قدر جودة التعليم وملكة المعلم يكون حذق المتعلم في الصناعة وحصول ملكته‏.‏ ثم إن الصنائع منها البسيط ومنها المركب‏.‏ والبسيط هو الذي يختص بالضروريات والمركب هو الذي يكون للكماليات‏.‏ والمتقدم منها في التعليم هو البسيط لبساطته أولاً ولأنه مختص بالضروري الذي تتوفر الدواعي على نقله فيكون سابقاً في التعليم ويكون تعليمه لذلك ناقصاً‏.‏ ولا يزال الفكر يخرج أصنافها ومركباتها من القوة إلى الفعل بالاستنباط شيئاً فشيئاً على التدريج حتى تكمل‏.‏ ولا يحصل ذلك دفعة وإنما يحصل في أزمان وأجيال إذ خروج الأشياء من القوة إلى الفعل لا يكون دفعة لا سيما في الأمور الصناعية‏.‏ فلا بد له إذن من زمان‏.‏ ولهذا تجد الصنائع في الأمصار الصغيرة ناقصة ولا يوجد منها إلا البسيط فإذا تزايدت حضارتها ودعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع خرجت من القوة إلى الفعل‏.‏ وتنقسم الصنائع أيضاً‏:‏ إلى ما يختص بأمر المعاش ضرورياً كان أو غير ضروري وإلى ما يختص بالأفكار التي هي خاصية الإنسان من العلوم والصنائع والسياسة‏.‏ ومن الأول الحياكة والجزارة والنجارة والحدادة وأمثالها‏.‏ ومن الثاني الوراقة وهي معاناة الكتب بالانتساخ والتجليد والغناء والشعر وتعليم العلم وأمثال ذلك‏.‏ ومن الثالث الجندية وأمثالها‏.‏ والله أعلم‏.‏

الفصل السابع عشر في أن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري وكثرته
والسبب في ذلك أن الناس وما لم يستوف العمران الحضري وتتمدن المدينة إنما همم في الضروري من المعاش وهو تحصيل الأقوات من الحنطة وغيرها‏.‏ فإذا تمدنت المدينة وتزايدت فيها الأعمال ووفت بالضروري وزادت عليه صرف الزائد حينئذ إلى الكمالات من المعاش‏.‏ ثم إن الصنائع والعلوم إنما هي للإنسان من حيث فكره الذي يتميز به عن الحيوانات والقوت له من حيث الحيوانية والغذائية فهو مقدم لضرورته على العلوم والصنائع وهي متأخرة عن الضروري‏.‏ وعلى مقدار عمران البلد تكون جودة الصنائع للتأنق فيها حينئذ واستجادة ما يطلب منها بحيث تتوفر دواعي الترف والثروة‏.‏ وأما العمران البدوي أو القليل فلا يحتاج من الصنائع إلا البسيط خاصة المستعمل في الضروريات من نجار أو حداد أو خياط أو حائك أو جزار‏.‏ وإذا وجدت هذه بعد فلا توجد فيه كاملة ولا مستجادة‏.‏ وإنما يوجد منها بمقدار الضرورة إذ هي كلها وسائل إلى غيرها وليست مقصودة لذاتها‏.‏ إذا زخر بحر العمران وطلبت فيه الكمالات كان من جملتها التأنق في الصنائع واستجادتها فكملت بجميع متمماتها وتزايدت صنائع أخرى معها مما تدعو إليه عوائد الترف وأحواله من جزار ودباغ وخراز وصائغ وأمثال ذلك‏.‏ وقد تنتهي هذه الأصناف إذا استبحر العمران إلى أن يوجد فيها كثير من الكمالات ويتأنق فيها في الغاية وتكون من وجوه المعاش في المصر لمنتحلها‏.‏ بل تكون فائدتها من أعظم فوائد الأعمال لما يدعو إليه الترف في المدينة مثل الدهان والصفار والحمامي والطباخ والسفاج والهراس ومعلم الغناء والرقص وقرع الطبول على التوقيع ومثل الوراقين الذين يعانون صناعة انتساخ الكتب وتجليدها وتصحيحها فإن هذه الصناعة إنما يدعو إليها الترف في المدينة من الاشتغال بالأمور الفكرية وأمثال ذلك‏.‏ وقد تخرج عن الحد إذا كان العمران خارجاً عن الحد كما بلغنا عن أهل مصر أن فيهم من يعلم الطيور العجم والحمر الإنسية ويتخيل أشياء من العجائب بإيهام قلب الأعيان وتعليم الحداء والرقص والمشي على الخيوط في الهواء ورفع الأثقال من الحيوان والحجارة وغير ذلك من الصنائع التي لا توجد عندنا بالمغرب‏.‏ لأن عمران أمصاره لم يبلغ عمران مصر والقاهرة‏.‏ أدام الله عمرانها بالمسلمين‏.‏ والله الحكيم العليم‏.‏


الساعة الآن 04:56 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى