![]() |
أُخرج بالتي هي أحسن
نزل أبو الأغر، وهو شيخ أعرابي من بني نهشل، ضيفا على بنت أختٍ له تسكن البصرة، وذلك في شهر رمضان. فخرج الناس إلى ضياعهم، وخرج النساء يصلِّين في المسجد، ولم يبقى في الدار غير الإماء وأبي الأغرّ. ودخل كلب من الطريق إلى الدار، ثم إلى حجرة فيها، فانصفق باب الحجرة ولم يتمكن من الخروج. وسمع الإماءُ الحركة في الحجرة فَظَنَنَّ لصّا دخلها، فذهبت إحداهن إلى أبي الأغر فأخبرته، فأخذ عصا ووقف على باب الحجرة وقال: يا هذا إنك بي لعارف. أنت من لصوص بني مازن، وشربتَ نبيذًا حامضا خبيئا حتى إذا دارت الأقداح في رأسك مَنَّتْكَ نفسُك الأماني، فقلتَ: أَطْرُقُ دُورَ بني عمرو والرجال في ضياعهم والنساء يصلين في المسجد فأسرِقهن. سَوْءةً لك! والله ما يفعل هذا رجلٌ حر! وبِئْسَمَا مَنَّتْك نفسُك! فاخرج بالتي هي أحسن وأنا أعفو عنك وأسامحك وإلا دخلتُ بالعقوبة عليك. وأيم الله لتخرجنّ أو لأهتفن هَتْفَةً فيجيء بنو عمرو بعدد الحصى، وتسأل عليك الرجال من ها هنا، وها هنا ولئن فعلتُ لتكوننَّ أشأم مولود في بني مازن. فلما رأى أنه لا يجيبه أخذ باللين فقال: أخرج بأبي أنت منصورا مستورا. إني والله ما أراك تعرفني، ولئن عرفتني لوثقت بقولي، واطمأننت إليّ. أنا أبو الأغر النهشلي، وأنا خالُ القوم وقُرّة أعينهم، لا يعصون لي رأيا، وأنا كفيلٌ بأن أحميك منهم وأن أدافع عنك. فاخرج وأنت في ذمتي، وعندي فطيرتان أهداهما إليّ ابن أختي البار، فخذ إحداهما حلالا من الله ورسوله، بل وأعطيك بعض الدراهم تستعين بها على قضاء حوائجك. وكان الكلبُ إذا سمع الكلام أطرق، فإذا سكت أبو الأغرّ وثب الكلب وتحرّك يريد الخروج. فلما لم يسمع أبو الأغرّ ردّا قال: يا ألأم الناس! أراني في وادٍ وأنت في آخر. والله لتخرجن أو لأدخلن عليك. فلما طال وقوفه جاءت جاريةٌ وقالت لأبي الأغرّ: أعرابي جبان! والله لأدخلنَّ أنا عليه! ودفعت الباب، فوقع أبو الأغر على الأرض من فرط خوفه، وخرج الكلبُ مبادرا فهرب من الدار. واجتمعت الجواري حول أبي الأغرّ فقُلْن له: قم ويحك! فإنه كلب! فقام وهو يقول: الحمد لله الذي مسخه كلبا وكفى العربَ شرَّ القتال! من كتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبة. |
أخـلاق الخـوارج
قال أبو الحسن علّي بن لطيف: كنتُ مجتازاً بناحية قُزدار في الهند، وهي بلد الخوارج ودارهم. فانتهيت إلى قرية لهم. ورأيت خيّاطا شيخاً في مسجد فسلّمت إليه رزمة ثيابي وقلت: تحفظها لي؟ فقال: دَعْها في المحراب. فتركتها ومضيت. فلما أتيت من الغد عُدْتُ إلى المسجد فوجدته مفتوحاً ولم أرَ الخياط، ووجدّت الرّزمة بِشَدِّها في المحراب. فقلت: ما أجهلَ هذا الخياط! ترك ثيابي وحدها وخرج! ولم أشكّ في أنه قد حملها بالليل إلى بيته وردّها من الغد إلى المسجد. فجلست أفتحها وأخرج شيئاً فشيئاً منها. فإذا أنا بالخياط. فقلت له: كيف خلَّفت ثيابي؟ فقال: أفقدْت منها شيئاً؟ قلت: لا. قال: فما سؤالك؟ قلت: أحببت أن أعلم. فقال: تركتُها البارحة في موضعها ومضيتُ إلى بيتي. فأقبلتُ أخاصمه وهو يضحك. ثم قال: أنتم تعوّدتم أخلاق الأراذل، ونشأتم في بلاد الكفر التي فيها السرقة والخيانة وهذا لا نعرفه ههنا. لو بقيت ثيابك مكانها إلى أن تبلى ما أخذها غيرُك، ولو مضيتَ إلى المشرق والمغرب ثم عدت لوجدتها مكانها. فإنّا لا نعرف لصاً ولا فساداً ولا شيئاً مما عندكم، ولكن ربما لحقنا في السنين الكثيرة شيء من هذا، فنعلم انه من جهة غريب قد اجتاز بنا فنركب وراءه فندركه ونقتله، إما نتأوّل عليه بكفره وسعيه في الأرض بالفساد فنقتله، أو نقطّعه من المرفق. وسألتُ عن سيرة أهل البلد بعد ذلك، فإذا الأمر على ما ذكره، وإذا هم لا يغلقون أبوابهم بالليل، وليس لأكثرهم أبواب، وإنما ستارة من القصب تردُّ الوَحْشَ والكلاب. من كتاب "معجم البلدان" لياقوت. |
أخلـص قلبـك لله
قال مالك بن دينار، رضي الله عنه: خرجت إلى الحج، وفيما أنا سائر في البادية، إذ رأيت غراباً في فمه رغيف، فقلت: هذا غراب يطير وفي فمه رغيف، إن له لشأناً، فتبعته حتى نزل عند غار، فذهبت إليه، فإذا بي أرى رجلاً مشدوداً لا يستطيع فكاكا، والرغيف بين يديه، فقلت للرجل: من تكون؟ ومن أي البلاد أنت؟ فقال: أنا من الحجاج، أخذ اللصوص مالي ومتاعي، وشدوني وألقوني في هذا الموضع كما ترى، فصبرت على الجوع أياما، ثم توجهت إلى ربي بقلبي وقلت: يا من قال في كتابه العزيز: "أمـّن يجيب المضطر إذا دعاه" فأنا مضطر فارحمني، فأرسل الله إليّ هذا الغراب بطعامي. قال مالك: فحللته من الوثاق، ثم مضينا فعطشنا، وليس معنا ماء، فنظرنا في البادية فرأينا عليه ظباء، فدنونا منه فنفرت الظباء، وأقامت غير بعيد، فلما وصلنا إلى البئر كان الماء في قعره، فاحتلنا حتى استقينا وشربنا، وعزمت ألا نبرح حتى نسقي الظباء، فحفرت وصاحبي حفرة وملأناها بالماء، وتنحينا فأقبلت الظباء فشربت حتى رويت، فإذا هاتف يهتف بي ويقول: يا مالك، دعانا صاحبك وتوجه إلينا بقلبه ونفسه فأجبناه وأطعمناه، وحللنا وثاقه وسقيناه، وتوكلت علينا الظباء فسقيناها |
أدعيــة
كان سيدنا علي رضي الله عنه، يـُفرِّغ نفسه للعبادة في أربع ليال في السنة، أول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلة الفطر، وليلة الأضحى. وكان من دعائه فيها: اللهم صل على محمد وآله، مصابيح الحكمة، وموالي النعمة، ومعادن العصمة، واعصمني من كل سوء، ولا تأخذني على غـِرَّة، ولا على غفلة. ولا تجعل عواقب أمري حسرة وندامة. وارض عني، فإن مغفرتك للظالمين، وأنا من الظالمين، اللهم اغفر لي ما لا يضرُّك. وأعطني ما لا ينقصك، فإنك الواسع رحمته، البديعة حكمته، فأعطني السعة والدعة والأمن والصحة والشكر والمعافاة والتقوى. وأفرغ الصبر والصدق عليَّ وعلى أوليائك، وأعطني اليـُسر، ولا تجعل معه العسر، وأعمم بذلك أهلي وولدي وإخواني فيك، من المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات. |
أذان بـــلال
رُوي أن بلالاً رأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال، أما آن لك أن تزورني يا بلال، فانتبه حزيناً وجلا خائفاً، فركب راحلته، وقصد المدينة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يبكي عنده، ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا له: نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فعلا سطح المسجد، ووقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلما أن قال: الله أكبر الله أكبر، ارتجت المدينة، فلما أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ازدادت رجتها، فلما أن قال: أشهد أن محمداً رسول الله، خرجت العواتق من خدورهن وقلن: أبـُعـِثَ الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: فما رأيت يوماً أكثر باكياً ولا باكية بالمدينة، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم. |
أطبـاق الفستـق
شكا الحجاجُ إلى تياذوق الطبيب تعباً في معدته وكبده. فوصف له العبثَ بالفستق. فذكر الحجاجُ ذلك لجواريه، فلم يبق له جارية إلا قشرت له طبقاً عظيماً من الفستق وبعثت به إليه. وجلس الحجاج مع مسامريه، فأقبل يستفّ الفستق سفَّاً، فأصابه إسهال كاد يأتي على نفسه فشكا ذلك إلى تياذوق، فقال: إنما أمرتك أن تعبث بالفستق، وأردتُ بذلك الفستقَ الذي بقشره لتتولى أنت كسرَ الواحدة بعد الواحدة. ومصُّ قشر الفستق يُصلح معدة مثلك من الشباب الممرورين، وأكل بعض الفستق نفسه يصلح الكبد. وكان قصدي أنك إذا أكلت ما في الفستقة وحاولت كسر أخرى، لم يتم لك كسرها إلا وقد هضمت الفستقة التي قبلها. فأما ما فعلته أنت فليس بعجيب أن ينالك معه أكثر مما أنت فيه! من كتاب "طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة. |
أعيتـه الحيلــة
يعتبر أبو جعفر المنصور، رجل بني العباس، والمؤسس الثاني لدولتهم، بعد أن انتقلت إليهم الخلافة من بني أمية، وكان إذا دخل البصرة أيام الأمويين، دخل متنكراً متكتمـاً، وكان يجلس في حلقة أزهر السمان العالم الثبت المتحدث؛ فلما أفضت الخلافة إليه، قدم عليه أزهر فرحب به وقربه وقال: ما حاجتك يا أزهر؟ فقال: يا أمير المؤمنين، داري متهدمة، وعليّ أربعة آلاف درهم، وأريد أن أزوج ابني محمداً، فوصله باثني عشر ألف درهم، وقال له: قد قضينا حاجتك يا أزهر، فلا تأتنا بعد اليوم طالباً، فأخذها وارتحل. فلما كان بعد سنة أتاه، فقال له أبو جعفر: ما حاجتك يا أزهر؟ فقال: جئت مسلماً، فقال: لا والله بل جئت طالباً، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفاً، فاذهب ولا تأتنا بعد اليوم طالباً ولا مسلماً. فأخذها ومضى؛ فلما كان بعد سنة أتاه، فقال له: ما حاجتك يا أزهر فقال: أتيت عائداً. فقال: لا والله بل جئت طالباً، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفاً، فاذهب ولا تأتنا بعد اليوم طالباً ولا مسلماً ولا عائداً، فأخذها، وانصرف. فلما مضت السنة أقبل، فقال له: ما حاجتك يا أزهر؟ فقال: يا أمير المؤمنين، دعاء كنت سمعتك تدعو به جئت لأكتبه. فضحك أبو جعفر وقال: الدعاء الذي تطلبه مني غير مستجاب، فإني دعوت الله به ألا أراك، فلم يستجب لي. وقد أمرنا لك باثني عشر ألفاً، وتعال إذا شئت، فقد أعيتنا الحيلة فيك. |
أكثرُ الناس يقرأها بالفَتْح
قرأ الخليفة المتوكل يومًا، وبحضرته وزيره الفتح بن خاقان: (وما يُشْعِرُكُم أَنَّها إذا جاءت). فقال له الفتح: يا سيدي، (إنّها إذا جاءت) بالكسر. ووقعت المشاجرة، فتراهنا على عشرة آلاف دينار، وتحاكما إلى يزيد بن محمد المهلَّبي الشاعر ـ وكان صديقًا للمبرّد ـ فلما وقف يزيد على ذلك خاف أن يَسْقُطَ أحدهما، فقال: واللّه ما أعرف الفرق بينهما. وما رأيت أعجب من أن يكون باب أمير المؤمنين يخلو من عالم متقدم. فقال المتوكل: فليس ها هنا من يُسأَل عن هذا؟ قال: ما أعرف أحدًا يتقدم فتى بالبصرة يُعرف بالمبّرد. فقال: ينبغي أن يُشْخَص. فلما أُدْخِل المبّرد على الفتح بن خاقان، قال له: يا بصريّ، كيف تقرأ هذا الحرف (وما يُشْعِرُكم إنها إذا جاءت لا يؤمنون) بالكسر، أو (أنها إذا جاءت) بالفتح؟ قال المبرد: (إنها) بالكسر. وذلك أن أول الآية: (وأَقْسَموا باللّه جَهْد أَيمانهم لئن جاءَتهم آية لَيُؤْمِنُنَّ بها، قُل إِنما الآيات عند اللّه وما يُشْعِرُكم)، ثم قال تبارك وتعالى: يا محمد .إنّها إذا جاءت لا يؤمنون) باستئناف جواب الكلام المتقدم) قال الفتح: صدقت ثم ركب إلى دار أمير المؤمنين، وعرّفه بقدوم المبرّد، وطالبه بدفع ما تخاطرا عليه فأمر المتوكل بإحضار المبرد. فلما وقعت عينه عليه قال: يا بصريّ، كيف تقرأ هذه الآية: (وما يُشْعِرُكم إنها إذا جاءت) بالكسر، أو (أَنَّها إذا جاءت) بالفتح؟ قال المبّرد: يا أمير المؤمنين، أكثر الناس يقرأها بالفتح. فضحك المتوكل وضرب برجله اليسرى، وقال: أَحضر يا فتحُ المال. فقال: إنه واللّه يا سيدي قال لي خلاف ما قال لك. فقال المتوكل: دعني من هذا. أحضر المال! وخرج المبرّد، فلم يصل إلى الموضع الذي كان أُنْزِلَه حتى أتته رُسُل الفتح. فلما أتاه قال له: يا بصريّ، أوّل ما ابتدأنا به الكذب! قال المبرّد: ما كذبتُ. فقال: كيف وقد قلتَ لأمير المؤمنين إن الصواب: (وما يُشْعِرُكم أَنها إذا جاءت) بالفتح؟ فقال: أيها الوزير، لم أقل هكذا، وإنما قلت: أكثر الناس يقرأها بالفتح. وأكثرهم على الخطأ. وإنما تخلَّصتُ من اللائمة، وهو أمير المؤمنين. فقال الفتح: أحسنت! من كتاب "طبقات النحويين واللغويين" للزُّبيدي الأندلسي. |
ألا تغـزو العــدوّ
قيل لأعرابي: ألا تغزو العدوّ؟ قال: وكيف يكونون لي عدوا وما أعرفهم ولا يعرفوني! وقيل لآخر: ألا تغزو العدوّ؟ قال: والله إني لأُبغض الموت على فراشي، فكيف أمضي إليه رَكـْضا! وكان عـُبيد الله بن زياد قد وجـّه أسلم بن زُرْعـَة في ألفين لحرب أبي بلال الخارجي، وأبو بلال في أربعين رجلاً. فشدَّ الأربعون عليه شدّة رجل واحد ففرّ أسلم بن زرعة هو وأصحابه. فلما دخل على ابن زياد عنـّفه في ذلك وقال: أتمضي في ألفين وتهرب من أربعين؟ فخرج أسلم عنه وهو يقول: لأن يَذُمـّني ابن زياد وأنا حيّ، خيرٌ من أن يمدحني وأنا ميّت! من كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه. |
أمانـي
مرض أحد الصحابة يوماً، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه الرسول، فقيل له: إنه انتقل إلى رحمة الله، فقال ألم يقل شيئاً، فقيل له إنه حين وفاته قال: ليتها كانت كثيرة، ليتها كانت الجديدة، ليته كان كاملاً، فلم ندر ماذا يعني بذلك، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام، إن هذا الصحابي كان يسعى ذات يوم جمعة، مهرولاً إلى المسجد، فوجد في الطريق رجلاً ضريراً، وليس معه من يقوده، فأخذ بيده إلى المسجد، فعند الموت رأى ثواب ذلك فقال: ليتها كانت كثيرة. وكان في يوم من أيام الشتاء القارس، يسعى إلى صلاة الصبح، فوجد رجلاً بالطريق، يكاد يموت من شدة البرد، وكان يلبس حـُلتين إحداهما جديدة، والأخرى قديمة، فأعطى الرجل القديمة، وعند الموت رأى ثواب ذلك، فقال ليتها كانت الجديدة. وفي أحد الأيام، رجع إلى داره، فسأل امرأته عما لديها من طعام، فقدمت له رغيفاً من خبز الشعير، فلما هم بتناوله، إذا بطارق بالباب يقول: إني جائع، فأعطاه نصف الرغيف، وعند موته رأى ثواب هذا فقال ليته كان كاملاً. |
إن جاء عبد الملك فأذَنوا له
قال إسحاق الموصلي: لم أر قطّ مثل جعفر البرمكي، كانت له فتوة وظَرْف وأدب وحسن غناء وضرب بالطّبل، وكان يأخذ بأجزل حظ من كل فن. حضرتُ يومًا باب أمير المؤمنين الرشيد، فقيل لي: إنه نائم. فانصرفت، فلقيني جعفر فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: أمير المؤمنين نائم. فقال: فسرْ بنا إلى منزلي حتى نخلو بقية يومنا وتغنّيني وأغنّيك. قلت: نعم. فصرنا إلى منزله فطرحنا ثيابنا، ودعا بالطعام فطعمنا، وأمر بإخراج الجواري وقال: ليس عندنا من تحتشمن منه. فلما وُضِع الشراب دعا بقميص حرير فلبسه ودعا بخلوق فتخلق به، ثم دعا لي بمثل ذلك، وجعل يغنيني وأغنيه، ثم دعا بالحاجب وأمره بألا يأذن لأحد من الناس، وإن جاء رسول أمير المؤمنين أعلمه أنه مشغول، ثم قال: أما إن جاء عبد الملك فأذَنوا له. (يعني رجل كان يأنس به ويمازحه ويحضرُ خلواته). ثم أخذْنا في شأننا. فوالله إنّا لعلى حال سارّة، إذ رُفع السِّتر، وإذا عبد الملك بن صالح الهاشمي قد أقبل، وقد غلط الحاجب ولم يفرّق بينه وبين عبد الملك الذي يأنَس به جعفر. وكان عبد الملك بن صالح الهاشمي من جلالة القدر والتقشف وفي الامتناع عن منادمة أمير المؤمنين على أمر جليل، وكان هارون الرشيد قد اجتهد به أن يشرب معه أو عنده قدحًا، فلم يفعل رَفْعَا لنفسه. فلما رأيناه مقبلاً، أقبل كل واحد منا ينظر إلى صاحبه، وكاد جعفر أن ينشقّ غيظًا. وفهم الرجل حالنا، فأقبل نحونا، ورما طيْلسانَه جانبًا ثم قال: أطعمونا شيئا. فدعا له جعفر بالطعام وهو منتفخ غضبا. فطعم، ثم دعا برطل من النبيذ فشربه، ثم قال أشركونا فيما أنتم فيه! ودعا بقميص حرير وخَلوق فلبس وتخلق، ثم دعا برطل ورطل حتى شرب عدة أرطال من النبيذ، ثم اندفع ليغنينا، فكان والله أحسننا جميعًا غناء. فلما طابت نفس جعفر وسُرِّي عنه ما كان به، التفت إليه فقال له: ارْفَع حوائجك. فقال: ليس هذا موضع حوائج. فقال :لتفعلنّ. ولم يزل يُلحّ عليه حتى قال له: أمير المؤمنين عليّ غاضب، فأحبّ أن تترضّاه. قال جعفر: فإن أمير المؤمنين قد رَضِيَ عنك، فهات حوائجك. فقال: هذه كانت حاجتي. قال: ارفع حوائجك كما أقول لك. قال: عَلَيَّ دَيْنُ فادِح. قال جعفر: تُحمل إليك من مال أمير المؤمنين غدًا أربعة آلاف ألف درهم. فَسلْ أيضا. قال: ابني، تكلِّم أمير المؤمنين حتى يُنَوِّه باسمه. قال: قد ولاه أميرُ المؤمنين مصر وزَوَّجَه ابنته العالية، ومَهرَهَا ألفي ألف درهم. فقلت في نفسي: قد سَكِرَ الرجل (أعني جعفرا). فلما أصبحت لم تكن لي هِمَّة إلا حضور دار الرشيد، وإذا جعفر البرمكي قد بكّر، ووجدتُ في الدار جلبة وإذا أبو يوسف القاضي ونُظراؤه قد دُعِيَ بهم، ثم دُعِيَ بعبد الملك بن صالح وابنه فأُدخلا على الرشيد. فقال الرشيد لعبد الملك: إن أمير المؤمنين كان واجدًا عليك وقد رَضِيَ عنك، وأمر لك بأربعة آلاف درهم، وزَوَّج ابنَك العاليةَ بنت أمير المؤمنين، وأمهرتُها عنه ألفيْ ألف درهم، ووليتُه مصر. فلما خرج جعفر سألتُه عن الخبر، فقال: بكّرت على أمير المؤمنين فحكيتُ له ما كان منا وما كُنّا فيه حرفًا حرفًا، فعجب لذلك وسُرّ به، ثم قلت له: قد ضَمِنْتُ له عنك يا أمير المؤمنين ضمانا. فقال: ما هو؟ فأعلمتُه. فقال: أوْفِ له بضمانك. وأمر بإحضاره، فكان ما رأيت. من كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني. |
أنــا!
دخل الحسن بن أبي المشرف على الفضل وزير الخليفة المعتصم. فقال له الفضل: يا حسن، نحتاج إلى رجل جزلٍ في رأيه، متوفّر لأمانته، متصرّف في الأمور بتجربته، مستقدرٍ على الأعمال بعلمه، تصف لنا مكانَه، وتشير علينا به فنقلـّده جسيمـًا من عملنا. فأجابه الحسن سريعـًا قال: وجدتُه لك، أصلحك اللّه. قال: من هو؟ قال: أنا. فتبسـّم الفضل وقال: هذا القول من غيرك فيك أحسنُ منه بلسانك لك. نعود وننظر إن شاء اللّه! من رسالة "ذم أخلاق الكُتـّاب" للجاحظ. |
أنـت لهـا!
استعمل معاويةُ عبدَ الرحمن بن خالد بن الوليد على الجيش وقد جاشت الروم، وكتب له عهدًا، ثم قال له: ما تصنع بعهدي هذا؟ قال: أَتَّخذه إمامًا فلا أَتجاوزه. قال معاوية: ردَّ عليَّ عهدي. وعزله. ثم بعث إلى سفيان بن عوف الغامدي، فقال له: قد ولّيتك الجيش وهذا عهدي، فما أنت صانع به؟ قال: أَتَّخِذه إمامًا ما وافق الحَزْم، فإذا خالفَه خالفتُه وأعملتُ رأيي. قال معاوية: أنت لها! من كتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر العسقلاني. |
أنحـس مركــوب
اشترى رجل دابة من دميرة، فوجد بها عيوباً كثيرة، فحضر إلى القاضي يشكو البائع فقال: أيها القاضي، إني بحكمك راض. اشتريت من هذا الغريم دابة، ادعى فيها الصحة والسلامة، فوجدت بها عيوباً، أعقبتني ندامة. فقال القاضي ما عيوبها؟ فقال: كلها عيوب وذنوب، وهي أنحس مركوب، إن ركبتها رفست، وإن سقتها رقدت، وإن نزلت عنها شردت، حدباء جرباء. لا تقوم حتى تحمل على الخشب. ولا تنام حتى تكبل بالسلب. إن قربت من الجرار كسرتها. وإن دنت من الصغار رفستهم، وإن دار حولـَها أهل الدار كدمتهم. تمشي في سنة أقل من مسافة يوم، الويل لراكبها إن وثب عليه القوم. متى حملتها لا تنهض، تقرض حبلها، وتجفل من ظلها، ولا تعرف منزل أهلها. حرونة ملعونة مجنونة. تقلع الوتد، وتمرض الجسد، وتفتت الكبد، ولا تركن إلى أحد. واقعة الصدر، محلولة الظهر، عمشاء العينين. قصيرة الرجلين. مقلـَّعة الأضراس. كثيرة النعاس. مشيها قليل، وجسمها نحيل، وراكبها بين الأعزاء ذليل، تجفل من الهوى، وتعثر بالنوى، تحشر صاحبها في كل ضيق. وتنقطع به في الطريق، وتعض ركبة الرفيق. فإن قبلها فأكرم جانبه ولا تحوجني أن أضاربه. فضحك القاضي وحكم برَدّها. |
إنـّا أعطيناك الجـَماهـِر
ادعى رجل النبوة في زمن خالد بن عبد الله القـَسري، وعارض القرآن. فأتى به خالد، فقال له: ما تقول؟ قال: عارضتُ في القرآن ما يقول الله تعالى: (إنـّا أعطيناك الكوثر. فصلِّ لربك وانحر. إن شانـِئك هو الأبتر)، فقلت أنا ما هو أحسن من هذا: إنـّا أعطيناك الجماهـِر، فصلِّ لربك وجاهـِر، ولا تـُطع كل ساحر وكافر. فأمر به خالد فضـُربت عنقه وصـُلب على خشبة. فمر به خـَلف بن خليفة الشاعر فقال: إنا أعطيناك العـَمود. فصلِّ لربك على عود. وأنا ضامن عنك ألا تعود! من كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه. |
إني أرى في الكتاب ما لا ترون
كان سديدُ المُلك، وهو أول من ملك قلعة شَيْزَر من بني منقذ، موصوفًا بقوّة الفطنة. وتُنقل عنه حكاية عجيبة، وهي أنه كان يتردد إلى حَلَب قبل تملّكه شيزر، وصاحب حلب يومئذ تاج الملوك محمود بن صالح بن مرداس. فجرى أمرٌ خاف سديد الملك على نفسه منه، فخرج من حلب إلى طرابلس الشام. فتقدّم محمود بن صالح إلى كاتبه أن يكتب إلى سديد الملك كتابًا يتشوّقه ويستدعيه إليه. ففهم الكاتب أنه قصد له شرّا، وكان صديقًا لسديد الملك. فكتب الكتاب كما أُمِر إلى أن بلغ إلى "إن شاء الله تعالى"، فشدَّد النون وفَتَحَها. فلما وصل الكتاب إلى سديد الملك عَرَضَه على من بمجلسه من خواصه، فاستحسنوا عبارة الكتاب، واستعظموا ما فيه من رغبة محمود فيه وإيثاره لقربه. فقال سديد الملك: إني أرى في الكتاب ما لا ترَوْن. ثم أجابه عن الكتاب بما اقتضاه الحال، وكتب في جملة الكتاب: أنا "الخادم المقرّ بالإنعام"، وكسر الهمزة من أنا، وشدَّد النون. فلما وصل الكتاب إلى محمود، ووقف عليه الكاتب، سُرَّ الكاتب بما فيه، وقال لأصدقائه: قد علمتُ أن الذي كتبتُه لا يخفى على سديد الملك، وقد أجاب بما طَيـَّبَ نفسي. وكان الكاتب قد قصد قول الله تعالى: "(إِنَّ المَلأَ يأتمرون بك ليقتلوك)، فأجاب سديد الملك بقوله تعالى: (إِنـَّا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها)! من كتاب "وفيات الأعيان" لابن خلّكان. |
أهـل القِبـلة
مذاهب أهل جرجان مختلفة: أكثرهم حنفيون، والباقون حنابلة وشافعيون وشيعة ونجّارية وكرّامية. فإن قال قائل: "ألم تقل من قبل إنه ليس بها مبتدع؟ فها أنت تقول إن بها كرامية!" قلت له: "الكرامية أهل زهد وتعبد، ومرجعهم إلى أبي حنيفة، وكل من رجع إلى أبي حنيفة أو إلى مالك أو إلى الشافعي أو إلى أئمة الحديث الذين لم يغلوا فيه ولم يشبّهوا الله ويصفوه بصفات المخلوقين، فليس بمبتدع." وأنا عازم على أن لا أطلق لساني في أمة محمد، ولا أشهد عليهم بالضلالة ما وجدتُ إلى ذلك طريقا. قال مِسْعَر بن كِدام: ما أدركتُ من الناس من له عقلٌ كعقل ابن مُرَّة. جاءه رجل فقال: عافاك الله. جئتك مسترشدا، فقد دخلتُ في جميع الفرق والأهواء، فما دخلتُ في إحداها إلا كان القرآن هو الذي أدخلني فيها، ولم أخرج منها إلا كان القرآن هو الذي أخرجني، حتى صرتُ وليس في قلبي يقين. فقال عمرو بن مُرَّة: جئتني مسترشدا أم مجادلا؟ قال الرجل: جئتك مسترشدا. قال: أرأيت أهل هذه الفرق والأهواء اختلفوا في أن محمدا رسول الله، وأن ما أتى به الحق؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في القرآن أنه كتاب الله؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في دين الله أنه الإسلام؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الكعبة أنها القِبلة؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الصلوات أنها خمس؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في رمضان أنه شهرهم الذي يصومونه؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الحج أنه بيت الله الذي يحجّونه؟ قال: لا. قال: فهل اختلفوا في الزكاة أنها من مائتي درهم خمسة؟ قال: لا. فقرأ ابن مُرَّة: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات مُحْكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وأُخَرُ مُتَشابِهات). ثم قال: فهل تدري ما المُحْكَم؟ قال: لا. قال: المُحْكم ما اجتمعوا عليه، والمتشابه ما اختلفوا فيه. فَشُدّ نيتك في المحكم، وكفّ لسانك عن الغلوّ في الدين. فإن هذا التعصب الذي ترى إنما هو من فعل الجُهّال. وكل من صلّى إلى هذه القبلة فهم إخواننا المسلمون. من كتاب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" للمقدسي البشاري. |
أهلـي.. أهلــي
وفد أعرابي على كسرى أنو شروان، فسأله عن اسمه وصناعته، فأجابه، أنا الحارث بن كـِلدة، طبيب العرب، فقال كسرى: ما يصنع العرب بالطبيب، مع سوء أغذيتهم؟ قال: إن كان هذا حالهم، فهم أجدر بالطبيب، فقال: وكيف يعرفون من يسلمون إليه أمرهم، مع ما هم عليه من شدة الجهل، قال: إن الله عز وجل قسم العقول بين العباد، كما قسم الأرزاق، وأخذ القوم نصيبهم، ففيهم ما في غيرهم من جاهل وعالم، وعاجز وحازم وغير ذلك، فقال: ما هو المحمود من صفاتهم، قال: هو أكثر من أن يـُحصر، فإن لهم أنفساً سخية، وقلوباً جريـَّة، وعقولاً صحية، وأنساباً نقية، لغتهم أفصح اللغات، وأوسعها في التراكيب والكلمات، ألسنتهم طليقة، وعباراتهم رقيقة، يمرُق الكلام من أفواههم مروق السهام من أوتارهم، أعذب من الماء وألين من الهواء، يطعمون الطعام، ويواسون الأيتام، عزهم لا يرام، وجارهم لا يضام، فاستوى كسرى على كرسيه، وجرى ماء الحلم في وجهه، وقال لجلسائه مشيراً إلى ابن كلدة: إني وجدته راجحاً، ولقومه مادحاً، وبفضلهم ناطقاً، ولما يورده من لفظه صادقاً، وكذا العاقل، من أحكمته التجارب، ولا يكون حاطباً مع كل حاطب، ثم بشَّ في وجهه قائلاً، لله درك من عربي، لقد أعطيت علماً، وخـُصصت فطنة وفهماً، وأحسن صلته، وقضى جميع حوائجه. |
أهنـا عيــش
حج عبد الله بن عباس بالناس، ونزل ذات يوم منزلاً، وطلب من غلمانه طعاماً فلم يجدوا شيئاً، فقال لهم: اذهبوا إلى هذه البرية، لعلكم تجدون راعياً أو خيمة فيها لبن أو خبز، فمضوا حتى وقفوا على عجوز في فناء خبائها، فسلموا عليها، وقالوا لها: أعندك طعام نبتاعه؟ قالت: أما للبيع فلا، ولكن عندي ما يكفيني أنا وأبنائي، فقالوا: وأين بنوك؟ قالت: في مرعى لهم، وهذا أوان أوبـَتهم، قالوا: وما أعددت لهم؟ قالت: خبزة تحت المـَلـَّة، قالوا: أوليس عندك شيء آخر؟ قالت: لا، قالوا: فجودي لنا بشطرها، قالت: أما الشطر فلا أجود به، وأما الكل، فخذوه، فقالوا: تمنعين النصف، وتجودين بالكل، قالت: نعم، لأن إعطاء الشطر نقيصة، وإعطاء الكل فضيلة، فأنا أمنع ما يضعني، وأمنح ما يرفعني ثم أعطتهم الخبز، ولم تسألهم من هم؛ ولا من أين جاءوا؟ فرجعوا إلى ابن عباس وأخبروه بخبر هذه المرأة، فعجب منها وقال: احملوها إليَّ الساعة، فبادروا إليها، وقالوا لها: إن صاحبنا يريد أن يراك، فقالت: ومن صاحبكم؟ قالوا: عبد الله بن عباس، قالت: وأبيكم هذا هو الشرف الأعلى، وماذا يريد مني، قالوا: إكرامـَك ومكافأتك، فقالت: والله لو كان ما فعلته معروفاً، ما كنت لآخذ عنه بديلاً، فكيف وهو شيء يجب أن يشارك فيه الناس بعضهم بعضاً، وألحـُّوا عليها حتى ذهبوا بها، فلما وصلت إلى عبد الله سلمت عليه، فرد عليها السلام، وقرب مجلسها، وقال لها: ممن أنت يا خالة؟ قالت: من قبيلة بني كلب، قال: وكيف حالك؟ قالت: آكل الخبز المليل وأكتفي منه بالقليل، وأشرب الماء من عين صافية وأبيت ونفسي من الهموم خالية، فازداد منها استغراباً، وقال: لو جاء بنوك الآن وهم جياع، ما كنت تصنعين لهم؟ قالت: يا هذا لقد عظمت عندك خبزتي حتى أكثرت فيها الكلام، أشغل فكرك عن هذا فإنه يفسد المروءة ويورث الخسة، فقال لغلمانه: أحضروا أولادها، فأحضروهم فقربهم إليه وقال: إني لم أطلبكم لمكروه، وإنما أحب مساعدتكم بمال، فقالوا: نحن في كفاف من الرزق، فوجـِّه مالك نحو من يستحقه، فقال: لا بد أن يكون لي عندكم شيء تذكروني به، وأمر لهم بعشرة آلاف درهم، وعشرين ناقة مع فحلها. |
أوارث أنـت لبنـي أميـة
رُفع إلى أمير المؤمنين المنصور أن رجلاً يـُخفي عنده ودائع وأموالاً لبني أمية، فأمر بإحضاره، فلما دخل عليه قال له: قد رُفع إلينا خبر الودائع والأموال التي عندك لبني أمية. فأَخرجها إلينا. فقال: يا أمير المؤمنين، أوارثٌ أنت لبني أمية؟ قال: لا. قال: فوصيّ لهم في أموالهم؟ قال: لا. قال: فما مسألتك عما في يدي من ذلك؟ فأطرق المنصور ساعة ثم رفع رأسه وقال: إن بني أمية ظلموا المسلمين فيها، وأنا وكيل المسلمين في حقهم، وأريد أن آخذ ما ظلموا فيه المسلمين فأجعله في بيت مالهم. فقال الرجل: تحتاج يا أمير المؤمنين إلى إقامة البيـّنة العادلة على أن ما في يدي لبني أمية مما خانوا وظلموا فيه دون غيره، فقد كان لبني أمية أموال غير أموال المسلمين. فصمت المنصور برهة ثم قال: صدقت. ما يجب عليك شيء.. هل لك من حاجة؟ قال: حاجتي يا أمير المؤمنين أن تبعث بكتاب إلى أهلي ليطمئنوا على سلامتي، فقد راعهم طلبك إياي.. وقد بقيت لي حاجة أخرى. قال: وما هي؟ قال: تجمع بيني وبين من سعى بي إليك، فوالله ما لبني أمية في يدي مال ولا وديعة، ولكني لما مـَثـَلتُ بين يديك وسألتني عما سألتني عنه، علمتُ أنه ما يـُنجيني منك إلا هذا القول، لما اشتهر من عدلك. فقال المنصور: يا ربيع، اجمع بينه وبين من سعى به. فلما جاء به الربيع عرفه الرجل، وقال: هذا غلامي سرق مني ثلاثة آلاف دينار وهرب مني، وخاف من طلبي له فسعى بي عند أمير المؤمنين. فشدّ المنصور على الغلام حتى أقرّ بكل ما ذكره سيـّده. وقال المنصور للشيخ: نسألك أن تصفح عنه. قال: قد صفحتُ عنه وأعتقتهُ ووهبتُ له الثلاثة آلاف التي أخذها وثلاثة آلاف أخرى. وانصرف. فكان المنصور يتعجـّب منه كلما ذكره ويقول: ما رأيتُ مثلَ ذلك الشيخ قط. من كتاب "المستجاد من فعلات الأجواد" للتنـُّوخي |
أَيُباعُ الرُّطَبُ، بالخُطَب؟
أخذتُ أُسْهبُ في مدح الأدب، وأفضِّل رَبَّه على ذي النَّشَب، وأبو زيد ينظر إليّ نَظَرَ المُسْتَجهِل، ويغْضي عني إغضاء المتمهِّل فلمّا أفرطتُ في العصبية، للعُصْبة الأدبية، قال لي: فأمــا الفقــير فخيـر لـه من الأدب القرص والكامخ ثم قال: سيتضح لك صدق لهجتي، واستنارة حُجّتي.. ودخلنا قرية للارتياد، وكلانا مُنْـفِضٌ من الزاد. فلـَقِينا غلامٌ حيّاه أبو زيد تحيّة المُسْلم، وسأله وَقـْفَةَ المُفْهِم. فقال: وعَمَّ تسأل وفـّقك الله ؟ قال أبو زيد: أيُباعُ ها هُنا الرُّطـَب، بالخُطـَب؟ قال الغلام: لا والله! قال: ولا البلح، بالمُلَح؟ قال: كلا والله! قال: ولا الثـَمَر، بالسَّمَر؟ قال: هيهاتَ والله! قال: ولا العصائد، بالقصائد؟ قال: اسكت عافاك الله. قال: ولا الثرائد، بالفرائد؟ قال: أين يُذْهَبُ بك، أرشدك الله؟ قال: ولا الدقيق، بالمعنى الدقيق؟ قال: عَدِّ عن هذا أصلحك الله! أمّا بهذا المكان فلا يُشتـَرى الشِّعر بشعيرة، ولا النثر بنثارة، ولا القصص بقُصاصة. ولا الرسالة بغسالة ولا حِكم لقمان بلـُقْمة، ولا أخبار الملاحم بلحمة. وأما جيلُ هذا الزمان فما منهم من يميح، إذا صيغ له المديح، ولا من يُجيز، إذا أُنشِدَ له الأراجيز، ولا مَنْ يُغيث، إذا أطربه الحديث. وعندهم أن مَثلَ الأديب، كالرَّبْع الجَديب إنْ لم تُجد الرَّبْعَ دِيمةٌ، لم تكن له قيمة. فقال أبو زيد: أعلمتَ الآن أن الأدب قد بار، وولـَّت أنصارُه الأدبار؟ وأن الأسجاع، لاتُشْبع مَنْ جاع؟ من مقامات الحريري. |
أيسر محفوظاته كتاب الأغاني
حدّث الوزير الأندلسي أبو بكر محمد ابن الوزير أبي مروان عبد الملك ابن زهر، قال: بينما أنا قاعد في دهليز دارنا وعندي رجل ناسخ أمرته أن يكتب لي "كتاب الأغاني" لأبي الفرج الإصفهاني، إذ جاء الناسخ بالكراريس التي كتبها، فقلت له: أين الأصل الذي كتبتَ منه لأُقابل معك به؟ قال: ما أتيت به معي. فبينا أنا معه في ذلك إذ دخل الدهليز علينا رجل بذُّ الهيئة، عليه ثياب غليظة أكثرُها صوف، وعلى رأسه عمامة قد لاثها من غير إتقان لها. فحسبته لما رأيته من بعض أهل البادية. فسلـَّم وقعد، وقال لي: يا بنيّ، استأذن لي على الوزير أبي مروان. فقلت له: هو نائم. هذا بعد أن تكلـّفتُ جوابه غاية التكلـّف؛ حملني على ذلك نزوةُ الصبا، وما رأيتُ من خشونة هيئة الرجل. ثم سكت عني ساعة وقال: ما هذا الكتاب الذي بأيديكما؟ فقلت له: ما سؤالك عنه؟ فقال: أحب أن أعرف اسمه، فإني كنت أعرف أسماء الكتب! فقلت: هو كتاب الأغاني. فقال: إلى أين بلغ الكاتب منه؟ قلت: بلغ موضع كذا. وجعلت أتحدث معه على طريق السخرية به. فقال: وما لكاتبك لا يكتب؟ قلت: طلبتُ منه الأصل الذي يكتب منه لأُعارض به هذه الأوراق، فقال: لم أجئ به معي. قال: يا بنيّ، خُذ كراريسك وعارض. قلت: بماذا؟ وأين الأصل؟ قال: كنت أحفظ هذا الكتاب في مدة صباي. فتبسـَّمتُ من قوله، فلما رأى تبسـُّمي قال: يا بنيّ، أمسك عليّ. فأمسكت عليه، وجعل يقرأ، فواللّه إن أخطأ واوًا ولا فاءً، قرأ هكذا نحواً من كراستين، ثم أخذت له في وسط السـِّفر وآخره، فرأيت حفظه في ذلك كله سواء. فاشتدَّ عجبي، وقمت مسرعاً حتى دخلت على أبي فأخبرته بالخبر، ووصفت له الرجل، فقام كما هو من فـَوْره، وكان ملتفـّا برداء ليس عليه قميص، وخرج حاسر الرأس، حافي القدمين، لا يرفـُقُ على نفسه، وأنا بين يديه، وهو يـُوسعني لومـاً، حتى ترامى على الرجل وعانقه، وجعل يقبـّل رأسه ويديه ويقول: يا مولاي اعذرني، فواللّه ما أعلمني هذا الجـِلـْفُ إلا الساعة. وجعل يسبـّني، والرجل يُخَفِّض عليه ويقول: ما عرفني. وأبي يقول: هـَبْه ما عرفك، فما عـُذره في حسن الأدب؟ ثم أدخله الدار وأكرم مجلسه، وخلا به فتحدّثا طويلاً. ثم خرج الرجل وأبي بين يديه حافياً حتى بلغ الباب. وأمر بدابته التي يركبها فأُسـْرِجتْ، وحلف عليه لَيَرْكـَبَنَّها ثم لا ترجع إليه أبداً. فلما انفصل قلت لأبي: من هذا الرجل الذي عظَّمته هذا التعظيم؟ قال لي: اسكت ويحك! هذا أديب الأندلس وإمامها وسيّدها في علم الآداب. هذا ابن عبدون، أيسرُ محفوظاته كتاب الأغاني! من كتاب "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" لعبد الواحد المراكشي. |
أيـن التّيـن؟
استأذن مزبد على بعض البخلاء وقد أُهْدِي له تينٌ مع أول أوانه. فلما أحسّ البخيل بدخوله تناول الطبق فوضعه تحت السرير وبقيت يده معلّقة. ثم قال لمزبد: ما جاء بك هذا الوقت؟ قال: يا سيدي، مررت الساعة بدار فلان، فسمعت جاريته تقرأ لحناً ما سمعتُ قط أحسن منه. فَلِمَا علمتُ من شدة محبتك للقرآن وسماعك للألحان، حفظته وجئت لأقرأه عليك. قال: فهاته. فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، والزيتون، وطور سينين. فقال: ويلك! أين التين؟ قال: تحت السرير! من كتاب "نثر الدّرّ" لمنصور بن الحسين الآلي. |
أين عِلـْمُه من عِلْم الناس اليوم؟
سئل يونس بن حبيب عن ابن أبي إسحاق الحضرميّ: أين عـِلـْمه من عـِلـْم الناس اليوم؟ فقال: لو كان اليوم في الناس أحدٌ لا يعلم إلا عـِلـْمه لـَضـُحـِك منه، ولو كان فيهم من له ذهنه ونـَفاذُه ونظره كان أعـْلـَم الناس. من كتاب "إنباه الرواة على أنباه النحاة" للقفطي |
أيّهما أفْضَـل؟
تنازع اثنان في أيّ الخَلْق أفضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: عليّ بن أبي طالب، وقال الآخر: أبو بكر الصديق. ثم تراضيا أن يحتكما إلى أوّل مَن يطلع عليهما. فطلع عليهما الشاعر الشيعي المشهور السيد الحِمْيَري. فقال له القائل بفضل عليّ: قد تنَافَرتُ أنا وهذا إليك في أفضل الخلق بعد رسول الله، فقلت أنا: عليّ بن أبي طالب. فقال السيد الحميري: وما قال ابن الكلب هذا؟ فقال الثاني: لم أقل شيئاً! من كتاب "فوات الوفيات" لابن شاكر الكتبي. |
ابـن أبيــه
رُوي أن رجلاً بلغ من البخل غايته، حتى صار إماماً، وكان إذا وقع في يده درهم، خاطبه وناجاه فكان يقول: كم من أرض قطعت، وكم من كيس فارقت، وكم من خامل رفعت، وكم من رفيع أخملت، فالآن، استقر بك القرار، واطمأنت بك الدار، لك عندي ألا تـَعـْرى ولا تضحى، ثم يلقيه في كيسه ويقول له: اسكن اسكن على اسم الله، في مكان لا تهان ولا تـُذلُّ فيه، ولا تـُزعج منه. وألح أهله عليه مرة في إنفاق درهم، فدافعهم ما أمكن، ثم أخرج درهما، فبينما هو ذاهب، إذ رأى حوَّاء قد أرسل على نفسه أفعى لدرهم يأخذه، فقال في نفسه: أتـْلف شيئاً تـُبذل فيه النفس بأكلة أو شربة!! والله ما هذا إلا موعظة لي من الله، فرجع إلى بيته، ورد الدرهم إلى كيسه، فكان أهله منه في بلاء، وكانوا يتمنوْن له موتاً عاجلاً، فلما مات، وظنوا أنهم استراحوا منه، جاء ابنه، فاستولى على ماله وداره ثم سأل: ما كان أُدم أبي؟ فقال: كان يأتدِم بجبن عنده، قال: أرونيه، فإذا فيه حزُّ كالجدول، من أثر مسح اللقمة، فقال: ما هذه الحفرة؟ قالوا: كان لا يقطع الجبن، وإنما كان يمسح اللقمة على ظهره، فيـُحفر كما ترى، قال: بهذا أهلكني وأقعدني هذا المقعد، لو علمت ذلك ما صليت عليه يوم مات، قالوا: فكيف أنت تريد أن تصنع؟ قال: أضعها من بعيد، فأشير إليها باللقمة. |
ابن القاسم الأنبـاري
كان محمد بن القاسم الأنباري من أعلم الناس بالنحو والأدب وأكثرهم حفظا له. وكان يُمْلِي مصنفاته في ناحية من المسجد و أبوه يُمْلي في ناحية أخرى. وكان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت من الشعر. فإن أَمْلَى أملى من حفظه لا من كتاب، وكذا كانت عادته في كل ما يُكتب عنه من العلم. مرض مرّة فانزعج عليه أبوه انزعاجا شديدا. فلما قيل له في ذلك قال: وكيف لا أجزع لمرض من يحفظ جميع ما ترون ـ وأشار لهم إلى حجرة مملوءة كتبًا! ورأى يوما في النخاسين جارية تُعرض حسنة كاملة الوصف. فوقعتْ في قلبه. ومضى إلى دار أمير المؤمنين الراضي فقال له: أين كنتَ إلى الساعة؟ فعرّفه. فأمر الخليفة أحد غلمانه فمضى فاشتراها وحملها إلى منزل ابن الأنباري. واشتغل قلب ابن الأنباري بالجارية، فقال للخادم: خذها وامض بها إلى النخّاس، فليس لها أن تشغل قلبي عن علمي. فأخذها الغلام، فقالت له: دعني أكلمه بحرفين. ودخلت على ابن الأنباري فقالت: أنت رجل لك عقل، وإذا أخرجتني إلى النخّاس ولم تبيّن لي ذنبي لم آمن أن يظنّ الناسُ بي ظنًا قبيحا. فعرِّفني ذنبي قبل أن تخرجني. فقال لها: مالك عندي عيب غير أنك شغلتني عن علمي. فقالت: هذا أسهل عندي. وبلغ أمير المؤمنين الخبر، فقال: لا أظن العلم في قلب أحد أحلى منه في صدر هذا الرجل. وكان ابن القسم الأنباري رحمة الله عليه مع علمه وحفظه متواضعًا. حكى أبو الحسن الدارقطني أنه حضره في مجلسين يوم جمعة، وجعل يُملي، فصحَّفَ اسما أورده في إسناد حديث ( كان "حيان" فقال "حبان") قال الدارقطني: فأعظمتُ أن يحمل عن مثله في فضله وجلالته وهْمٌ، وهبْتُه أن أنبِّهه إلى غلطة. فلما انقضى الإملاء تقدمت إلى صاحبه وذكرت له خطأ ابن الأنباري وعرّفته صواب القول فيه، وانصرفت. ثم حضرتُ الجمعة الثانية مجلسه، فقال ابن الأنباري لصاحبه: عرِّف جماعة الحاضرين أننا صحّفنا اسم "حبان" لمّا أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية، ونبهنا ذلك الشّاب على الصواب وهو"حيان"، وعرِّف ذلك الشاب أننا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قال. من كتاب "إنباه الرواة على أنباه النحاة" للقفطي. |
ابـن الهيثــم
لما صنّف ابن الهيثم كتابه الذي بيّن فيه حيلَة إجراء نيل مصر عند نُقصانه في المزارع، قصد القاهرة حاملاً كتابه، فنزل في خان. فلما ألقى عصاه قيل له إن صاحب مصر الملقب بالحاكم بأمر اللّه على الباب يطلبك. فخرج ابن الهيثم ومعه كتابه، وكان ابن الهيثم قصير القامة، فصعد على دكـّة عند باب الخان ودفع الكتاب إلى الحاكم، والحاكم راكب حمارًا مصريـًا. فلما نظر في الكتاب قال له: أخطأت! إن مؤنة هذه الحيلة أكثر من منافع الزرع! ومضى! ورحل ابن الهيثم إلى الشام، وأقام عند أمير من أمرائها. وإذ أجرى ذلك الأمير عليه أموالاً كثيرة، قال له ابن الهيثم: يكفيني قوتُ يومي. فما زاد على قوت يومي إنْ أمسكتُه كنتُ خازنَك، وإن أنفقتُه كنت وكيلـَك، وإذا اشتغلت بهذين الأمرين فمن ذا الذي يشتغل بعلمي؟! وقد قصده أمير من أمراء سـِمنان يطلب عنده العلم. فقال له ابن الهيثم: أَطلبُ منك للتعليم أجرة، وهي مائة دينار في كل شهر. فقبـِل الأمير، وأقام عنده ثلاث سنين. فلما عزم الأمير على الانصراف قال ابن الهيثم: خـُذْ أموالك بأسرها فلا حاجة لي فيها. وإنما قد جـَرَّبْتـُك بهذه الأجرة، فلما رأيتك قابلاً لبذل الأموال الجمّة في طلب العلم، بذلتُ مجهودي في تعليمك وإرشادك. من كتاب "تاريخ حكماء الإسلام" لظهير الدين البيهقي. |
ابن بهيـّة
كان بالأهواز رجل يُعرف بابن واصل، تمّت عليه حيلةٌ في تزوير، فطالبه صاحب ديوان الأهواز بالمال، فأدّى بعضَه وعجز عن تأدية باقيه. وكان أبو عبيد الله صاحب الديوان له عادة في سجع الكلام دائمة، وله فيها أخبار وحكايات عجيبة. فكان إذا ذُكِر في مجلسه ابن واصل يقول: هاتوا ابن واصل، وطالبوه بما عليه من الحاصل. فيُحضَر ذلك المسكين ويُحبس، ويُطالب بما عليه بسبب السجع المشئوم، ثم يؤخذ منه بعض المال، ويستعطف البعضُ صاحبَ الديوان فيفرج عنه، ثم يعيد السجع فيعود القبض والحبس! ثم جيء به يوماً إلى صاحب الديوان، فقال له: يا سيدنا، أنا أُعرف بابن بهية (اسم والدته)، وأسألك أن تعفيني من الدعاء باسم أبي وتنقل ذكري إلى اسم أمي. فقال أبو عبيد الله: حُبًّا وكرامة. وصار بعد ذلك يقول في مجالسه: يُحضر ابن بهيّة، ويُطالَبُ بالبقية. فيُحضَر ويُحبَس. من كتاب "الهفوات النادرة" لابن هلال الصابي. |
ابن حـزم والجـارية
ألفْتُ في أيام صباي ألفة المحبة جاريةً نشأتْ في دارنا، وكانت في ذلك الوقت بنت ستة عشر عاما. وكانت غاية في حسن وجهها وعقلها وعفافها وخفرها ودماثتها، عديمة الهزل، منيعة البذل، قليلة الكلام، مغضوضة البصر، دائمة القطوب، حلوة الإعراض، مليحة الصدود، كثيرة الوقار، لا تُوَجَّه الأراجي نحوها، ولا تقف المطامع عليها. فوجهها جالبٌ كل القلوب، وحالها طاردٌ من أَمَّها. تزدان في المنع والبخل ما لا يزدان غيرها بالسماحة والبذل. وكانت تحسن العود إحسانًا جيدًا، فجنحت إليها وأحببتُها حبًا مفرطًا. وسعيتُ عامين أو نحوهما أن تجيبني بكلمة وأسمع من فيها لفظة غير ما يقع في الحديث الظاهر إلى كل سامع، فما وصلتُ من ذلك إلى شيء البتة. وأذكر حفلا كان في دارنا تَجَمَّعَت فيه نساء كثيرات، ثم انتقلن إلى مكان في الدار يُشرف على بستاننا وعلى جميع قرطبة وبيوتها. وأذكر أني كنت أقصد نحو الباب الذي هي عنده، أنسًا بقُربها، متعرّضًا للدنو منها، فما هي إلا أن تراني في جوارها فتترك ذلك الباب وتقصد غيره في لطف الحركة. فأتعمد أنا القصد إلى الباب الذي صارت إليه، فتعود إلى مثل ذلك الفعل من الانتقال إلى غيره. وكانت قد علمت كلفي بها، ولم يشعر سائر النسوان بما كنا فيه، لأنهن كن عددًا كثيرًا. ثم نزلن إلى البستان. فرغب عجائزنا وكرائمنا إلى سيدتها في سماع غنائها. فَأمَرتْها، فأخذت العود وسوّته بخفر وخجل لا عهد لي بمثله، وإن الشيء يتضاعف حسنُه في عين مستحسنه. ثم اندفعت تغني بأبيات العباس بن الأحنف حيث يقول: ليست من الأنس إلا في مناسبة ولا من الجـن إلا في التصـاوير فالوجه جوهرة، والجسم عبهرة والريـح عنبره، والكل من نـور فلعمري لكأن المضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيت ذلك اليوم ولا أنساه إلا يوم مفارقتي الدنيا. وهذا أكثر ما وصلتُ إليه من التمكن من رؤيتها وسماع كلامها. ثم انتقل أبي رحمه الله من دارنا بالجانب الشرقي من قرطبة، إلى دارنا القديمة في الجانب الغربي منها. وانتقلتُ أنا بانتقاله، ولم تنتقل هي بانتقالنا لأمور أوجبت ذلك. ثم شُغلنا بعد قيام أمير المؤمنين هشام بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتُحِنّا بالاعتقال والمراقبة والغرامات الفادحة و الاستتار. وتوفى أبي الوزير رحمه الله واتّصلت بنا تلك الحال بعده، إلى أن كانت عندنا جنازة لبعض أهلنا فرأيتها. رأيتها في المأتم وسط نساء في جملة البواكي والنوادب، فأثارت وجدا دفينًا وحرّكتْ ساكنًا، وذكّرتني عهدًا قديمًا وحبًا تليدًا ودهرًا ماضيًا، فجدّدت أحزاني. ثم ضرب الدهر ضرباته، وأُجلينا عن منازلنا، وتغلّب علينا جند البربر، فخرجت من قرطبة، وغابت عن بصري بعد تلك الرؤية الواحدة ستة أعوام. ثم دخلتُ قرطبة في شوال سنة تسع وأربعمائة، فنزلتُ على بعض نسائنا، فرأيتها هنالك، ولم أميّزها حتى قيل لي هذه فلانة. فإذا هي وقد تغيرت محاسنها، وذهبت نضارتها، وفنيت تلك البهجة، وخاض الماء الذي كان يُرى كالسيف الصقيل، ولم يبق إلا البعض المُميز من الكل، وذلك لقلة اعتنائها بنفسها، وافتقادها الصيانة التي كانت غذّيت بها أيام دولتنا وامتداد ظلنا، واضطرارها إلى الخروج فيما لا بدّ لها منه مما كانت تُصان عنه قبل ذلك. وإنما النساء رياحين متى لم تتعاهد نقصت، وبناءً متى لم يُصن تهدّم. ولو أني كنت قد نلتُ منها أقلّ وصل، أو كانت أنست لي بعض الأنس لطربتُ وفرحتُ لرؤيتها. غير أن ذلك الصد منها هو الذي صبّرني وأسلاني. وهذا الوجه من أسباب السلو صاحبه معذور وغير ملوم، إذا لم تنشأ علاقة توجب الوفاء، ولا وقع عهد يقتضي المحافظة ويُلام المرء على تضييعه ونسيانه. من كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم. |
ابن حمدون النديم ووزير المعتضد
قال عبد اللّه بن حمدون: قلتُ للخليفة المعتضد: إِلامَ أُضْحِكُكَ ولا تضحكُني؟ قال: خـُذ! وأعطاني دينارًا. قلت: خليفة يُجيز نديمَه بدينار واحد؟! قال: لا أجد لك في بيت المال حقـّا أكثر من هذا. ولكني أحتال لك بحيلة تأخذ فيها خمسة آلاف دينار. فقبَّلتُ يده. فقال: إذا كان غذًا وجاء القاسم بن عبيد اللّه، أسارّك حين تقع عيني عليه سرارًا طويلاً وألتفتُ إليه كالمُغضَب، وانظُرْ أنت إليه في خلال ذلك نظر المشفق. فإذا انقطع السرار فاخرجْ ولا تبرح الدهليز حتى يخرج. فإذا خرج خاطبك بجميل وسألك عن حالك، فاشك الفقر والحاجة وثقل ظهرك بالدَّين والعيال، وخذ ما يعطيك. فإذا أخذتَها فسيسألك عما جرى فحدّثه بالحديث كله وإيّاك أن تكذبه. وليكن إخبارك إيّاه بذلك بعد امتناع شديد، وبعد أن تأخذ كل ما يعطيك إيّاه. فلما كان من غد حضر القاسم. فحين رآه المعتضد بدأ يسارني، وجرت القصة على ما وصفني. فخرجت، فإذا القاسم في الدهليز ينتظرني. فقال لي: يا أبا محمد، ما هذا الجفاء؟ ما تجيئني ولا تزورني ولا تسألني حاجة؟ فاعتذرتُ إليه باتصال الخدمة عليّ، فقال: ما تقنعني إلا أن تزورني اليوم. فقلت: أنا خادم الوزير. ومضيت معه وجعل يسألني عن حالي وأخباري وأشكو إليه الدَّين والبنات، فيتوجَّع ويقول: مالي لك، ولو عرَّفتني لعاونتك على إزالة هذا كله عنك. وبلغنا داره فصعدنا، وخلا بي في دار الخلوة، وجعل يحادثني ويبسطني. وقـُدّمت الفاكهة فجعل يلقمني بيده. ثم وقّع لي بثلاثة آلاف دينار فأخذتها، وأحضرني ثيابًا وطيبًا، .وكانت بين يديّ صينية فضّة وقدح بلور فأمر بحملهما إلى داري وقال: هذا للبنات. فلما انفرط المجلس قال: يا أبا محمد. أنت عالم بحقوق أبي عليك، ومودتي لك. فقلت: أنا خادم الوزير. فقال: أريد أن أسألك عن شيء وتحلف أنك تصدقني عنه. فقلت: السمع والطاعة. قال: بأي شيء سارك الخليفة اليوم في أمري؟ فأخبرته بكل ما جرى، وشكرتُه وانصرفت! من كتاب "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي. |
ابـن سـُرَيـج والغنــاء
قال ابن سـُريج: دعاني فتية من بني مروان، فدخلتُ إليهم وأنا في ثياب الحجاز الغلاظ الجافية، وهم يرفـُلون في الوَشـْي كأنهم الدنانير الهـِرَقـْليـّة. فغنـّيتهم - وأنا محتقر لنفسي عندهم - لحنـاً لي. فلما رأيت إعظامهم لي تضاءلوا في عيني حتى ساويتـُهم في نفسي. ثم غنيتهم لحنـاً آخر، فطربوا وعظـّموني وتواضعوا لي حتى صرتُ في نفسي بمنزلتهم، وصاروا في عيني بمنزلتي. ثم غنيتهم لحنـاً ثالثـاً، فمثلوا بين يديّ ورمـَوْا بحـُللهم كلها عليّ حتى غـَطـَّوْني بها، وحتى حسبت أني الخليفة وأنهم لي عبيد، فما رفعتُ طرْفي إليهم بعد ذلك تـِيهـاً. وقال مالك بن أبي السـَّمـْح: سألتُ ابن سريج عن قول الناس في المغنين: فلان يـُحسن وفلان يسيء. فقال: المصيب المحسن من المغنين هو الذي يـُشبع الألحان، ويملأ الأنفاس ويـُعدّل الأوزان، ويـُفخـّم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويـُقيم الإعراب، ويستوفي النغمَ الطـِّوال، ويـُحسـِّن مقاطيع النغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواقع النـَّبـَرات، ويستوفي ما يشاكلها في الضرب من النـّقرات. فعرضتُ ما قال ابن سريج على مـَعـْبـَد، فقال: لو جاء في الغناء قرآن ما جاء إلا هكذا. من كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني |
ابن صبيح والفضل بن يحيى
اعتلّ الفضلُ بن يحيى. فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا أتاه عائداً لم يـَزد على السلام عليه والدُّعاء له. ويخفـّف في الجلوس، ثم يلـْقـَى حاجبـَه فيسأله عن حاله ومأكله ومشربه ونومه. وكان غيره يـُطيل الجلوس. فلما أفاق من علـَّته، قال: ما عادني في علـّتي هذه إلا إسماعيل بن صبيح. |
ادفعوهن إلى الطبـّاخ
كتب أَسد بن جهور، وكان ممن تصرّف في الأعمال الجليلة، إلى بعض العمال، أن احمل لنا مائتي جوانبيرة (وهي كلمة فارسية المراد بها النـّصـَف من النساء التي بين الشابـّة والمسنـّة). فقال العامل: ما يصنع بهؤلاء العجائز!! ثم حصـَّل منهن ما أمكن، وأنفذهنّ طـَوْعـًا أو كرهـًا. فلما وصلن إلى بابه، وقرأ كتاب العامل بإنفاذهن، قال: ادفعوهنّ إلى الطبـّاخ، وتقدَّموا إليه بأن يذبح لنا في كل يوم ما نحتاج إليه! فقيل له: إنهن نساء! فقال: إنـّا للّه! إنما أردت الجوامركات (وهو نوع من الدّجاج طيب اللحم) فغلطت! من كتاب "الهفوات النادرة" لمحمد بن هلال الصابئ. |
استـمرُّوا!
ضاع لرجلٍ ولدُ، فجاءوا بالنوائح ولطموا عليه، وبقوا على ذلك أياماً. فصعد أبوه يوماً غرفةً بسطح البيت فرأى ولده جالساً في زاوية من زواياها. فصاح به: ولدي؟! أنت بالحياةِ! ماذا تصنع هنا؟ أما ترى ما نحن فيه؟! قال الغلام: قد علمتُ وسمعت. ولكن هاهنا بيض قد قعدتُ مثلَ الدجاجة عليه، وما يمكنني أن أتركه حتى يفقس، فأنا أريد فُرَيخاتٍ لأني أحبّها! فأشرف أبوه من السطح على النوائح وصاح بهم: قد وجدتُ ابني حياً، ولكن لا تقطعوا اللّطمَ عليه. أُلطُموا كما كنتم! من كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن الجوزي. |
الإخلاص في السـر والعلن
كان أحد الخلفاء يجول ليلاً بالمدينة، ومعه خادمه، فأعياه التعب، فاتكأ إلى جدار بيت، وإذا امرأة تقول لابنتها: قومي إلى اللبن فامزجيه بالماء، فقالت: يا أماه، أو ما سمعت منادي الخليفة ينادي: لا يشاب اللبن. فقالت: إنك بموضع لا يراك الخليفة ولا مناديه. فقالت الصبية: والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء. فلما سمع الخليفة كلامها، قال لخادمه: اعرف الموضع، ثم مضى في جولاته. فلما أصبح قال للخادم: امض إلى الموضع فانظر من القائلة، ومن المقول لها؟ وهل لها من عائل؟ قال: فأتيت الموضع فعلمت أن ليس لها من يعولها، فعدت إليه، فأخبرته الخبر فجمع أولاده وقال لهم: هل فيكم من يحتاج إلى الزواج فأزوجه، إذ لو كان لأبيكم حاجة إليه لما سبقه أحد منكم إلى هذه الصبية، فتزوجها واحد من أولاده. |
الأخـوان والحيـّة
حجّ الخليفة عبد الملك بن مروان في بعض أعوامه، فخطب في أهل المدينة وقال: مَثَلـُنَا ومَثـَلُكم أنّ أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين، فنزلا في ظلّ شجرة. فلما دنا الرّواح خرجت إليهما حيـّة تحمل دينارًا فألقته إليهما، فقالا: إن هذا لَمِنْ كنز. فأقاما عليها ثلاثة أيام، كل يوم تُخرج إليهما دينارًا. فقال أحدهما لصاحبه: إلى متى ننتظر هذه الحية؟ ألا نقتلها ونحفر هذا الكنز فنأخذه؟ فنهاه أخوه وقال له: ما تدري لعلك تعطب ولا تدرك المال. فأبى عليه، وأخذ فأسًا معه، ورَصَد الحية حتى خرجت فضربها ضربة جرحت رأسها ولم تقتلها. فثارت الحية فقتلته، ورجعت إلى حجرها. فقام أخوه فدفنه، وأقام حتى إذا كان من الغد، خرجت الحية معصوبًا رأسها ليس معها شيء. فقال لها: يا هذه، إني واللّه ما رضيتُ ما أصابك، ولقد نهيتُ أخي عن ذلك. فهل لكِ أن نجعل اللّه بيننا أن لا تضرّيني ولا أضرّك، وترجعين إلى ما كنتِ عليه؟ قالت الحيّة: لا. قال: ولم ذلك؟ قالت: إني لأعلم أن نفسك لا تطيب لي أبدًا وأنت ترى قبر أخيك، ونفسي لا تطيب لك أبدًا وأنا أذكر هذه الشَّجَّة. فيا أهل المدينة، وَلِيَكُم عمر بن الخطاب فكان فظـّا غليظًا مُضَيِّقـًا عليكم، فسمعتم له وأطعتم. ثم وليكم عثمان فكان سهلاً ليّنـًا كريمًا فَعَدَوْتم عليه فقتلتموه. وبعثْنا عليكم مُسْلمًا يوم الحَرَّة فَقَتل منكم مَنْ قتل. فنحن نعلم أنكم لا تحبوننا أبدًا وأنتم تذكرون يوم الحَرَّة، ونحن لا نحبّكم أبدًا ونحن نذكر مقتل عثمان. من كتاب "مروج الذهب" للمسعودي. |
الأسـد والخنزيـر
لما حاصر أبو جعفر المنصورُ ابنَ هبيرة، قال: إن ابن هبيرة يُخَنْدِقُ على نفسه مثل النساء! فبلغ ذلك ابن هبيرة، فأرسل إلى المنصور: "أنت القائلُ كذا وكذا؟ فاخرج إليّ لتبارزني حتى ترى." فكتب إليه المنصور: "ما أجد لي ولك مثلاً في ذلك إلا كأسد لقى خنزيراً، فقال له الخنزير: بارِزْني! فقال الأسد: ما أنت لي بكفء، فإن نالني منك سوء كان ذلك عاراً عليّ وإن قتلتُك قَتَلْتُ خنزيراً فلم أحصل على حَمْد ولا في قتلي لك فخر. فقال له الخنزير: إن لم تبارزني لأعَرِّفَنَّ السباعَ أنك جَبُنْتَ عني. فقال الأسد: احتمالُ عارِ كَذِبِك أيسرُ من تلويث راحتي بدمك. من كتاب "حياة الحيوان الكبرى" للدميري. |
الأصمعي والبقّـال
عن الأصمعي قال: كنت بالبصرة أطلب العلم، وأنا فقير. وكان على باب زقاقنا بقّال، إذا خرجتُ باكرا يقول لي إلى أين؟ فأقول إلى فلان المحدّث. وإذا عدت مساء يقول لي: من أين؟ فأقول من عند فلان الإخباريّ أو اللغويّ. فيقول البقال: يا هذا، اقبل وصيّتي، أنت شاب فلا تضيّع نفسك في هذا الهراء، واطلب عملا يعود عليك نفعه وأعطني جميع ما عندك من الكتب فأحرقها. فوالله لو طلبت مني بجميع كتبك جزرة، ما أعطيتُك! فلما ضاق صدري بمداومته هذا الكلام، صرت أخرج من بيتي ليلا وأدخله ليلا، وحالي، في خلال ذلك، تزداد ضيقا، حتى اضطررت إلى بيع ثياب لي، وبقيت لا أهتدي إلى نفقة يومي، وطال شعري، وأخلق ثوبي، واتّسخ بدني. فأنا كذلك، متحيّرا في أمري، إذ جاءني خادم للأمير محمد بن سليمان الهاشمي فقال لي: أجب الأمير. فقلت: ما يصنع الأمير برجل بلغ به الفقر إلى ما ترى؟ فلما رأى سوء حالي وقبح منظري، رجع فأخبر محمد بن سليمان بخبري، ثم عاد إليّ ومعه تخوت ثياب، ودرج فيه بخور، وكيس فيه ألف دينار، وقال: قد أمرني الأمير أن أُدخلك الحمام، وأُلبِسك من هذه الثياب وأدع باقيها عندك، وأطعِمك من هذا الطعام، وأبخّرك، لترجع إليك نفسك، ثم أحملك إليه. فسررت سرورا شديدا، ودعوتُ له، وعملتُ ما قال، ومضيت معه حتى دخلت على محمد بن سليمان. فلما سلّمتُ عليه، قرّبني ورفعني ثم قال: يا عبد الملك، قد سمعت عنك، واخترتك لتأديب ابن أمير المؤمنين، فتجهّز للخروج إلى بغداد. فشكرته ودعوت له، وقلت: سمعا وطاعة. سآخذ شيئا من كتبي وأتوجّه إليه غدا. وعدت إلى داري فأخذت ما احتجت إليه من الكتب، وجعلتُ باقيها في حجرة سددتُ بابها، وأقعدت في الدار عجوزا من أهلنا تحفظها. فلما وصلت إلى بغداد دخلت على أمير المؤمنين هارون الرشيد. قال: أنت عبد الملك الأصمعي؟ قلت: نعم، أنا عبد أمير المؤمنين الأصمعي. قال أعلم أن ولد الرجل مهجة قلبه. وها أنا أسلم إليك ابني محمدا بأمانة الله. فلا تعلمه ما يُفسد عليه دينه، فلعله أن يكون للمسلمين إماما. قلت: السمع والطاعة. فأخرجه إليّ، وحُوِّلْتُ معه إلى دار قد أُخليت لتأديبه، وأجرى عليّ في كل شهر عشرة آلاف درهم. فأقمت معه حتى قرأ القرآن، وتفقّه في الدين، وروي الشعر واللغة، وعلم أيام الناس وأخبارهم. واستعرضه الرشيد فأُعجب به وقال: أريد أن يصلي بالناس في يوم الجمعة، فاختر له خطبة فحفِّظْه إياها. فحفّظتُه عشرا، وخرج فصلى بالناس وأنا معه، فأعجب الرشيد به وأتتني الجوائز والصلات من كل ناحية، فجمعت مالا عظيما اشتريت به عقارا وضياعا وبنيت لنفسي دارا بالبصرة. فلما عمرت الدار وكثرت الضياع، استأذنتُ الرشيد في الانحدار إلى البصرة، فأذن لي. فلما جئتها أقبل عليّ أهلها للتحية وقد فَشَتْ فيهم أخبار نعمتي. وتأمّلت من جاءني، فإذا بينهما البقال وعليه عمامة وسخة، وجبّة قصيرة. فلما رآني صاح: عبد الملك! فضحكت من حماقته ومخاطبته إيّاي بما كان يخاطبني به الرشيد ثم قلت له: يا هذا! قد والله جاءتني كتبي بما هو خير من الجَزَرَة! من كتاب "الفرج بعد الشدة" للتنوخي. |
الأعمش وإمام المسجد
خرج الأعمش ذات يوم من منزله بسحر، فمرَّ بمسجد بني أسد وقد أقام المؤذّن الصلاة، فدخل يصلّي، فافتتح الإمام الركعة الأولى بسورة البقرة، ثم في الركعة الثانية سورة آل عمران. فلما انصرف قال له الأعمش: أما تتقي الله؟ أما سمعت حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: "مَنْ أَمَّ الناسَ فَلْيُخَفِّف، فإن خلفه الكبير والضعيف وذا الحاجة"؟ فقال الإمام: قال الله عزَّ وجَلّ: "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين". فقال الأعمش: فأنا رسول الخاشعين إليك بأنك رجل ثقيل الظل! من كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن الجوزي. |
الساعة الآن 04:58 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |