منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب تاريخ ابن خلدون (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8921)

ميارى 6 - 8 - 2010 08:38 PM

خبر ابن الحر ومقتله
كـان عبيـد اللـه بـن الحـر الجعفـي مـن خيار قومه صلاحاً وفضلاً ولما قتل عثمان حزن عليه وكان مـع معاويـة علـى علـي وكانت له زوجة بالكوفة فتزوجت لطول مغيبه‏.‏ فأقبل من الشام وخاصم زوجهـا إلـى علـي فعـدد عليـه شهـوده صفين‏.‏ فقال‏:‏ أيمنعني ذلك من عدلك‏.‏ قال‏:‏ لا‏.‏ ورد إليه امرأتـه‏.‏ فرجـع إلـى الشـام وجـاء إلـى الكوفـة بعـد مقتـل علـي ولقـي إخوانـه وتفاوضـوا فـي النكير على علـي ومعاويـة‏.‏ ولمـا قتـل الحسيـن تغيـب علـى ملحمتـه وسـأل عنـه ابـن زيـاد فلـم يـره‏.‏ ثم لقيه فأساء عذله وعرض له بالكون مع عدوه فأنكر وخرج مغضباً‏.‏ وراجع ابن زياد رأيه فيه فطلبه فلم يجـده فبعث عنه فامتنع وقال‏:‏ أبلغوه أني لا آتيه طائعاً أبداً‏.‏ وأتى منزل أحمد بن زياد الطائي فاجتمع إليه أصحابه وخرج إلى المدائن‏.‏ ومضى لمصارع الحسين وأصحابه فاستغفر لهم ولما مات يزيد ووقعت الفتنة اجتمع إليه أصحابه وخرج بنواحي المدائن ولم يعترض للقتل ولا للمال إنما كان يأخذ مال السلطان متى لقيه فيأخذ منه عطاءه وعطاء أصحابه ويرد الباقي ويأخذ لصاحب المال بما أخذ‏.‏ وحبـس المختـار امرأتـه بالكوفة وجاء فأخرجها من الحبس وأخرج كل من فيه‏.‏ وأراد المختـار أن يسطـو بـه فمنعـه إبراهيـم بـن الأشتر إلى الموصل لقتال ابن زياد‏.‏ ثم فارقه ولم يشهد معـه وشهـد مـع مصعـب قتـال المختـار وقتله‏.‏ ثم أغرى به مصعب فحبسه وشفع فيه رجال من وجـوه مذحج فشفعهم وأطلقه وأتى إليه الناس يهنؤونه فصرح بأن أحداً لا يستحق بعد الأربعة ولا يحل أن يعقد لهم بيعة في أعناقنا فليس لهم علينا من الفضل ما يستحقون به ذلك وكلهم عاص مخالف قوي الدنيا ضعيف الآخرة ونحن أصحاب الأيام مع فارس ثم لا يعرف حقنـا وفضلنا وإني قد أظهرت لهم العداوة‏.‏ وخـرج للحـرب فأغـار فبعث إليه مصعب سيف بن هانىء المرادي يعرض عليه الطاعة على أن يعطيه قطعة من بلاد فارس فأبى فسرح إليه الأبرد بن فروة الرياحي في عسكر فهزمه عبيد اللـه فبعـث إليه حريث بن زيد فهزمه فقتله فبعث إليه الحجاج حارثة الخثعمي ومسلم بن عمر فقاتلهما بنهر صرصر وهزمهما فأرسل إليه مصعب بالأمان والولاية فلم يقبل‏.‏ وأتى إلى فرس فهرب دهقانها بالمال وتبعه ابن الحر إلى عين التمر وعليه بسطام بن معلقة بن هبيرة الشيباني فقاتل عبيد الله‏.‏ ووافاهم الحجاج حارثة فهزمهما عبيد الله وأسرهما وأخذ المال الذي مع الدهقان‏.‏ وأقام بتكريت ليجبي الخراج فسرح مصعب لقتاله الأبرد بن فروة الرياحي والجون بن كعب الهمداني في ألف وأمدهم المهلب بيزيد بن المعقل في خمسمائة وقاتلهم عبيد الله يومين في ثلاثمائـة‏.‏ ثـم تحاجـزوا وقـال لأصحابـه إنـي سائـر بكـم إلـى عبـد الملك فتجهزوا ثم قال‏:‏ إني خائف أن أموت ولم أذعر مصعباً وقصد الكوفة وجاءته العساكر من كل جهة‏.‏ ولم يزل يهزمهم ويقتل منهم بنواحي الكوفة والمدائن وأقام يغير بالسواد ويجبي الخراج‏.‏ ثم لحق بعبد الملك فأكرمه وأجلسه معه على سريره وأعطاه مائة ألف درهم وقسم في أصحابه الأعطيات وسأل من عبـد الملـك أن يوجه معه عسكراً لقتال مصعب فقال‏:‏ سر بأصحابك وادع من قدرت عليه وأنا ممدك بالرجال فسار نحو الكوفة ونزل بناحية الأنبار وأذن لأصحابه في إتيان الكوفة ليخبروا أصحابه بقدومه‏.‏ وبعث الحارث بن أبي ربيعة إليه جيشاً كثيفاً فقاتلهم وتفرق عنه أصحابه وأثخنه الجراح فخاض البحر إلى سفينة فركبها حتى توسط الفرات فأشرفت خيالـة علـى السفينة وتبادروا به فقام يمشي في البحر فتعلقوا به فألقى نفسه في الماء مع بعضهم فغرقوه‏.‏ حروب الخوارج مع عبد الملك والحجاج ولما استمر عبد الملك بالكوفة بعد قتل مصعب بعث على البصرة خالد بن الله وكان المهلب يحارب الأزارقة فولاه على خراج الأهواز‏.‏ وبعث أخاه عبد العزيز بن عبد إلى قتال الخوارج ومعـه مقاتـل بـن مسمـع وأتـت الخوارج من ناحية إلى دارابجرد وبعث قطري بن الفجاءة صالح بن مخراق في تسعمائة فاستقبل عبد العزيز ليلاً على غير تعبية فانهزم‏.‏ وقتل مقاتل بن مسمع وأسرت بنت المنذر بن الجارود امرأة عبد العزيز فقتلها الخوارج‏.‏ وتغيـر عبـد العزيـز إلـى رامهرمـز‏.‏ وكتـب خالـد بالخبر إلى عبد الملك فكتب إليه على ولاية أخيه الحرب وولاية المهلب جباية الخراج وأمره بأن يسرح المهلب بحربهم‏.‏ وكتب إلى بشر بالكوفة بإمـداده بخمسـة آلـاف مع من يرضاه فإذا فرغوا من قتال الخوارج ساروا إلى الري فكانوا هنالك مسلحةً فأنفذ بشر العسكر وعليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وكتب له عهده على الري وخرج خالد بأهل البصرة ومعه المهلب واجتمعوا بالأهواز‏.‏ وجاءت الأزارقة فأحرقـوا السفن‏.‏ ومر المهلب بعبد الرحمن بن الأشعث وأمره أن يخندق عليـه وأقامـوا كذلـك عشريـن ليلة‏.‏ ثم زحف الخوارج بالناس فهال الخوارج كثرتهم وانصرفوا‏.‏ وبعث خالد داود بن قحدم في آثارهم وانصرف إلى البصرة وكتب بالخبر إلى عبد الملك‏.‏ فكتـب إلـى أخيـه بشـر أن يبعـث أربعـة آلـاف مـن أهل الكوفة إلى فارس ويلحقوا بداود بن قحدم فـي طلـب الأزارقـة‏.‏ فبعـث بهـم بشـر بـن عتـاب ولحقـوا بـداود واتبعـوا الخـوارج حتـى أصابهـم الجهد ورجع عامتهم مشاة إلى الأهواز‏.‏ ثـم خـرج أبـو فديـك مـن بنـي قيـس بن ثعلبة فغلب على البحرين وقتل نجدة بن عامر الحنفي كما مـر‏.‏ وهـزم خالـداً فكتب إلى عبد الملك بذلك وأمر عبد الملك عمر بن عبيد الله بن معمر أن ينـدب النـاس مـن أهل الكوفة والبصرة ويسير لقتال أبي فديك‏.‏ فانتدب معه عشرة آلاف وسار بهـم وأهـل الكوفـة علـى ميمنتـه عليهـم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله وأهل البصرة في ميسرته عليهم عمر بن موسى أخيه وهو في القلب‏.‏ وانتهوا إلى البحرين واصطفـوا للقتـال وحملوا على أبي فديك وأصحابه فكشفوا ميسرته حتى أبعدوا إلا المغيرة بن المهلب ومجاعة وعبد الرحمن وفرسان الناس فإنهم مالوا إلى أهل الكوفة بالميمنة ورجع أهل الميسرة‏.‏ وحمل أهل الميمنة على الخوارج فهزموهم واستباحوا عسكرهم وقتلوا أبا فديك وحصروا أصحابه ثم ولى عبد الملك أخاه بشراً على البصرة فسـار إليهـا وأمـره أن يبعـث المهلـب إلـى حـرب الأزارقة وأن ينتخب من أهل البصرة من أراد ويتركه ورأيه في الحرب ويمده بعسكر كثيف من أهل الكوفة مع رجل معروف بالنجدة‏.‏ فبعث المهلب لانتخاب الناس جديع بن سعيد بن قبيصة وشق على بشر ولاية المهلب من عبد الملك وأوغرت صدره‏.‏ فبعث على عسكر الكوفة عبد الرحمن بن مخنف وأغراه بالمهلب في ترك مشورته وتنغصه‏.‏ وسار المهلب إلى رامهرمز وبها الخوارج وأقبل ابن مخنف في أهل الكوفة فنزل على ميل منه بحيـث يتـراءى العسكـران‏.‏ ثـم أتاهـم نبـأ بشـر بـن مـروان وأنـه استخلـف خالـد بن عبد الله بن خالد على البصرة وخليفته على الكوفة عمر بن حريث فافترق ناس كثيرة من أهل البصرة وأهل الكوفة فنزلوا الأهـواز وكتـب إليهـم خالـد بـن عبـد الله يتهددهم فلم يلتفتوا إليه‏.‏ وأقبل أهل الكوفة إلى الكوفة وكتب إليهم عمر بن حريث بالنكير والعود إلى المهلب ومنعهم الدخول فدخلوا ليلاً إلى بيوتهم‏.‏ ثـم قدم الحجاج أميراً على العراقين سنة خمس وسبعين فخطب بالكوفة خطبته المعروفة كان منهـا‏:‏ ولقـد بلغني رفضكم المهلب وإقبالكم إلى مصركم عاصين مخالفين وأيم الله لا أجد أحداً متخلفاً عن عسكره بعد ثلاثة إلا ضربت عنقه وأنهب داره‏.‏ ثم دعا العرفاء وقـال‏:‏ ألحقـوا الناس بالمهلب وأتوني بالبراءة بموافاتهم ولا تغلقن أبواب الجسر‏.‏ ووجد عمر بن ضابىء من المتخلفين وأخبر أنه من قتلة عثمان فقتله‏.‏ فأخرج جند المهلب وازدحموا على الجسر وجاء العرفاء إلى المهلب برامهرمز فأخـذوا كتابـه بموافـاة النـاس وأمرهـم الحجـاج بمناهضـة الخـوارج فقاتلوهم شيئاً ثم انزاحوا إلى كازرون وسار المهلب وابن مخنف فنزلوا بهم‏.‏ وخندق المهلب ولم يخندق ابن مخنف وبيتهم الخوراج فوجدوا المهلب حذراً فمالوا إلى ابن مخنف فانهزم عنه أصحابه وقاتل حتى قتل‏.‏ وفي حديث أهل الكوفة أنهم لما ناهضوا الخوارج مالوا إلى المهلب واضطروه إلى معسكره وأمده عبد الرحمن بعامة عسكره وبقي في خف من الجند فمال إليه الخوارج فنزل ونزل معه الفراء وواحد وسبعون مـن أصحابـه فقتلـوا وجـاء المهلـب مـن الغـد فدفنـه وصلـى عليـه وكتـب بالخبـر إلى الحجاج فبعث على عتاب بن ورقاء وأمره بطاعة المهلب فأجـاب لذلـك وفـي نفسـه منـه شيء وعاتبه المهلب يوماً ورفع إليه القضيب فرده ابنه المغيرة عن ذلـك‏.‏ وكتـب عتـاب يشكـو المهلـب إلـى الحجـاج ويسألـه العـود وصـادف ذلـك أمـر شبيب فاستقدمه وبقي المهلب‏.‏

حروب الصفرية وشبيب مع الحجاج
ثم خرج صالح بن مسرح التميمي من بني امرىء القيس بن زيد مناة وكان يرى رأي الصفرية وكان عابداً ومسكنه أرض الموصل والجزيرة وله أصحاب يقرئهم القرآن والفقه وكان يأتي الكوفة ويلقى أصحابه ويعد ما يحتاج إليه‏.‏ فطلبه الحجاج فترك وجاء إلى أصحابه بالموصل ودار فدعاهم إلى الخروج وحث الناس عليه‏.‏ وجاءه كتاب شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني من رؤوسهم يحثه علـى مثـل ذلـك‏.‏ فكتـب إليـه فـي انتظـارك فأقـدم‏.‏ فقـدم شبيـب فـي نفـر مـن أصحابـه منهم أخوه المضاد والمحلل بن وائل اليشكري ولقيه بدارا وأجمع صالح الخـروج‏.‏ وبعـث إلـى أصحابه في صفر سنة ست وسبعين‏.‏ وأمر بالدعاء قبل القتال وخير في الدماء والأموال‏.‏ وعرضت له دواب لمحمد بن مروان بالجزيرة فأخذوها وحملوا عليها أصحابهم‏.‏ وبلـغ محمـد بـن مـروان وهـو أميـر الجزيـرة خروجهم فسرح إليهم عدي بن عدي في ألف فسار من حران وكان ناسكاً فكره حروبهم وبعث إليهم بالخروج فحبسوا الرسول‏.‏ فساروا إليه فطلعوا عليه وهو يصلي الضحى وشبيب في الميمنة وسويد بن سليم في الميسرة‏.‏ وركب عدي علـى غيـر تعبيـة فانهـزم واحتـوى الخـوارج على معسكره ومضوا إلى آمد‏.‏ وسرح محمد بن مروان خالد بن حر السلمي في ألف وخمسمائة والحارث بن جعونة العامري في مثلها وقال‏:‏ أيكما سبق فهو أمير على صاحبه‏.‏ وبعث صالـح شبيبـاً إلـى الحـارث وتوجـه هـو نحـو خالـد وقاتلوهـم أشـد القتـال‏.‏ واعتصـم أصحاب محمد بخندقهم فسارت الخوارج عنهم وقطعوا أرض الجزيرة والموصل إلى الدسكرة‏.‏ فسـرح إليهـم الحجـاج الحـارث بـن عميـرة بـن ذي الشعـار فـي ثلاثـة آلـاف مـن أهـل الكوفة فلقيهم على تخـم ما بين الموصل وصرصر والخوارج في تسعين رجلاً‏.‏ فانهزم سويد بن سليم وقتل صالح وصرع شبيب‏.‏ ثم وقف على صالح قتيلاً فنادى بالمسلمين فلاذوا به ودخلوا حصناً هنالك وهـم سبعـون‏.‏ وعاث الحارث بهم وأحرق عليهم الباب ورجع حتى يصبحهم من الغداة‏.‏ فقال لهـم شبيـب‏:‏ بايعـوا مـن شئتـم مـن أصحابكـم واخرجـوا بنا إليهم‏.‏ فبايعوه وأطفؤوا النار بالماء في اللبود وخرجوا إليه فبيتوا وسرح الحارث فحملوا على أصحابه وانهزموا نحو المدائن وحـوى شبيب عسكرهم‏.‏ وسار شبيب إلى أرض الموصل فلقي سلامة بن سنان التميمي من تميم شيبان أوخاه فضالة من أكابر الخـوارج‏.‏ وكـان خـرج قبـل صالـح فـي ثمانيـة عشـر رجـلاً ونـزل علـى مـاء لبنـي عنـزة فقتلوهـم وأتوا برؤوسهم إلى عبـد الملـك يتقربـون لـه بهـم‏.‏ فلمـا دعـا شبيـب سلامـة إلـى الخـروج شـرط عليـه أن ينتخـب ثلاثيـن فارسـاً ويسيـر بهم إلى عنزة‏.‏ فيثأر منهم بأخيه فقبل شرطه‏.‏ وسار إلى عنزة فأثخـن فيهـم وجعـل يقتـل الحلـة بعـد الحلـة‏.‏ ثـم أقبـل شبيـب إلـى داران فـي نحـو سبعيـن رجـلاً ففرت منهم طائفة من بني شيبان نحو ثلاثة آلاف فنزلوا ديراً خراباً وامتنعوا منه وسار في بعض حاجاتـه واستخلف أخاه مضاد بن يزيد بجماعة من بني شيبان في أموالهم مقيمين فقتل منهم ثلاثين شيخاً فيهم حوثرة بن أسد‏.‏ وأشرف بنو شيبان على مضاد وأصحابه وسألوا الأمان ليخرجوا إليهم ويسمعوا دعوتهم فأخرجوا وقبلوا ونزلوا إليهم واجتمعـوا بهـم‏.‏ وجـاء شبيـب فاستصوب فعلهم‏.‏ وسار بطائفة أذربيجان‏.‏ وكـان الحجـاج قـد بعـث سفيـان بن أبي العالية الخثعمي إلى طبرستان يحاصرها في ألف فارس وكتب إليه الحجاج أن يرجع‏.‏ فصالح أهل طبرستان ورجع فأقـام بالدسكـرة يطلـب المـدد‏.‏ وبعـث الحجاج أيضاً إلى الحارث بن عميرة الهمداني قاتل صالح أن يأتيه بجيش الكوفة والمدائن وإلـى سـورة بـن أبجـر التميمـي فـي خيل المناظر‏.‏ ويعجل سفيان في طلب شبيب فلحقه بخانقين فاستطردهـم وأكمـن كمينـاً لهـم مـع أخيـه واتبعـوه فـي سفـح الجبـل فخـرج عليهـم الكمين فانهزموا بغير قتـال وثبت سفيان وقاتل‏.‏ ثم حمل شبيب فانكشف ونجا إلى بابل مهرود وكتب إلى الحجاج بالخبـر وبوصـول العساكـر إلا سـورة بـن أبجـر‏.‏ فكتب الحجاج إلى سورة يتهمله ويأمره أن يتخذ من المدائن خمسمائة فارس ويسير إلى شبيب فسار‏.‏ وانتهى شبيب إلى المدائن ثم إلى الهندوان فترحـم أصحابـه هنالـك‏.‏ وبيتهـم سورة هنالك وهم حذرون فلم يصب منهم الغرة‏.‏ ورجع نحو المدائن وشبيب في اتباعه‏.‏ وخـرج ابـن أبـي عصيفير عامل المدائن فقاتلهم وهرب كثير من جنده إلى الكوفة ومضى شبيب إلـى تكريـت‏.‏ ووصـل سـورة إلـى الكوفـة بالفـل فحبسـه الحجـاج ثـم أطلقـه‏.‏ وسـرح عثمـان بـن سعيد بـن شرحبيـل الكنـدي ويلقـب الجزل في أربعة آلاف ليس فيهم من المنهزمين أحد وساروا لحرب شبيـب وأصحابـه‏.‏ وقـدم بيـن يديـه عيـاض بـن أبـي لينـة الكنـدي وجعلـوا يتبعـون شبيباً من رستاق إلـى رستـاق وهـو علـى غيـر تعبيـة والجـزل علـى التبعيـة ويخندق على نفسه متى نزل‏.‏ وطال ذلك علـى شبيـب وكـان فـي مائـة وستيـن فقسمـه علـى أربـع فـرق وثبـت الجـزل ومشايخه فلم يصب منهم فرجع عنهم‏.‏ ثم صبحهم فلم يظهر منهم بشيء‏.‏ وسار الجـزل فـي التبعيـة كمـا كـان وشبيـب يسيـر فـي أرض الخـوارج وغيرهـا يكسـب الخـراج‏.‏ وكتـب الحجاج إلى الجزل ينكر عليه البطء ويأمره بالمناهضة‏.‏ وبعث سعيد بن المجالدي على جيش الجزل فجاءهم بالهندوان ووبخهم وعجزهم‏.‏ وجاءهم الخبر بأن قد دخل قطيطيا والدهقان يصلح لهم الغداء فنهض سعيد في الناس وترك الجزل مع العسكر وقد صف بهـم خـارج الخنـدق‏.‏ وجـاء سعيد إلى قطيطيا وعلم به شبيب فأكل وتوضأ وصلى‏.‏ وخرج فحمل على سعيد وأصحابه مستعرضاً فانهزموا وثبت سعيد فقتله وسار في اتباعهم إلى الجزل فقاتلهم الجـزل حتـى وقـع بيـن القتلـى جريحـاً‏.‏ وكتـب إلـى الحجـاج بالخبـر وأقام بالمدائن‏.‏ وانتهى شبيب إلى الكرخ وعبر دجلة إليه وأرسل إلى سوق بغداد فأتاهم في يوم سوقهم واشترى منه حاجاته وسار إلى الكوفة‏.‏ فلما قرب منها بعث الحجاج سويد بن عبد الرحمن السعدي في ألفي رجل فساروا إلـى شبيـب‏.‏ وأمـر عثمـان بـن قطن فعسكر في السبخة‏.‏ وخالفه شبيب إلى أهل السبخة فقاتلوه‏.‏ وجـاء سويد في آثاره فمضى نحو الحيرة وسويد في اتباعه‏.‏ ثم رحل من الحيرة وجاء كتاب الحجاج إلى سويد يأمره باتباعه‏.‏ فمضى في إتيانه وشبيب يغير في طريقه‏.‏ وأخذ على القطقطانة ثم على قصر بني مقاتل ثم على الأنبار ثم ارتفع على أدنى أذربيجان‏.‏ ولما أبعد سـار الحجاج إلى البصرة واستعمل على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة فجاءه كتاب دهقان بابل مهرود يخبره بقصد شبيب الكوفة فبعث بالكتاب إلى الحجاج‏.‏ وأقبل شبيب حتى نزل عقرقوبا ونزل وسار منها يسابق الحجاج إلى الكوفة‏.‏ وطوى الحجاج المنازل فوصل الكوفة عند العصر ووصل شبيب عند المغـرب‏.‏ فـأراح وطعمـوا ثـم ركبـوا ودخلـوا إلـى السـوق‏.‏ وضـرب شبيـب القصـر بعمـوده‏.‏ ثم اقتحموا المسجد الأعظم فقتلوا فيه من الصالحيـن ومـروا بـدار صاحـب الشرطة فدعوه إلى الأمير ونكرهم فقتلوا غلامه‏.‏ ومروا بمسجد بني ذهل فقتلوا ذهل بن الحارث وكان يطيل الصلاة فيه‏.‏ ثم خرجوا من الكوفة واستقبلهم النضر بن القعقاع بن شور الذهلي وكان ممن أقبل مع الحجاج من البصرة فتخلف عنه‏.‏ فلما رآه قال‏:‏ السلام عليك أيها الأمير فقال له شبيب‏:‏ قل أمير المؤمنين ويلك فقالها‏.‏ وأراد شبيب أن يلقنه للقرابة بينهما‏.‏ وكان النضر ناحية بيت هانىء بن قبيصة الشيباني فقال له‏:‏ يا نضر لا حكم إلا لله ففطن بهم وقال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون وشد عليه أصحاب شبيب فقتلوه‏.‏ ونـادى منـادي الحجـاج بالكوفة يا خيل الله اركبي وهو بباب القصر وكان أول من أتاه عثمان بن قطـن بـن عبـد اللـه بـن الحسيـن ذي القصـة‏.‏ ثم جاء الناس من كل جانب فبعث الحجاج خالد بن الأسدي وزائدة بن قدامة الثقفي وأبا الضريس مولى بني تميم وعبد الأعلى بن عبد الله بن عامـر وزيـاد بـن عبـد الله العتكي في ألفين ألفين وقال‏:‏ إن كان حرب فأميركم زائدة بن قدامة‏.‏ وبعث معهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله من سجستان وكان عبد الملك قد ولاه عليهـا وأمر الحجاج أن يجهزه ويبعثه في آلاف من الجنود إلى عمله فجهزه وحدث أمر شبيب‏.‏ فقال له الحجاج تجاهد ويظهر اسمك ثم تمضي إلى عملك فساروا جميعاً ونزلوا أسفل الفرات‏.‏ وأخـذ شبيب نحو القادسية وجرد الحجاج ألفاً وثمانمائة من نقاوة الجند مغ ذخر بن قيس وأمره بمواقعة شبيب أينما أدركه وإن ذهب فاتركه‏.‏ فأدركه بالسلخين وعطف عليه شبيب فقاتل ذخر حتى صرع وفيه بضعة عشر جرحاً‏.‏ وانهزم أصحابه يظنون أنه قتل‏.‏ ثم أفاق من برد السحر فدخل قرية وسار إلى الكوفة‏.‏ ثم قصد شبيب وأعوانه وهم على أربعة وعشرين فرسخاً من الكوفة فقال‏:‏ إن هزمناهم فليس دون الحجاج والكوفة مانع‏.‏ وانتهى إليهم وقد تعبؤوا للحرب وعلى الميمنة زياد بن عمر العتكي وعلى الميسرة بشر بن غالب الأسدي وكل أمير بمكانه‏.‏ وعبى شبيب أصحابه ثلاثة كتائب فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمر فانكشفوا وثبت زياد قليلاً ثم حمل الثانية فانهزمـوا وانهـزم جريحـاً عنـد المسـاء‏.‏ ثـم حملـوا علـى عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فانهزم ولم يقاتل ولحق بزياد بن عمر وحملـت الخـوارج حتـى انتهـت إلـى محمـد بـن موسـى بـن طلحـة عنـد الغـروب فقاتلـوه وصبر لهم‏.‏ ثم حمل مضاد أخو شبيب على بشر بن غالـب فـي الميسـرة فصبـر ونـزل فـي خمسيـن رجـلاً فقاتلـوه حتـى قتلـوا وحملـت الخـوارج علـى أبي الضريس مولى بني تميم فهزموه حتى انتهى إلى أعين ثم حملوا عليـه وعلـى أعيـن فهزموهمـا إلـى زائـدة بـن قدامـة‏.‏ فلمـا انتهـوا إليـه نـادى نـزال وقاتلهـم إلى السحر ثم حمل شبيب عليه فقتله وقتل أصحابه ودخل أبو الضريس مع الفل إلى الجوسق بإزائهم‏.‏ ورفـع الخـوارج عنهـم السيـف ودعوهـم إلـى البيعـة لشبيـب عند الفجر فبايعوه وكان فيمن بايعه أبو بردة وبقي محمد بن موسى لم ينهزم فلما طلع الفجرة سمع شبيب أذانهم وعلم مكانهم فأذن وصلى ثم حمل عليهم فانهزمت طائفة منهم وثبتت أخرى وقاتل محمد حتـى قتـل‏.‏ وأخـذ الخـوارج مـا فـي العسكـر وانهـزم الذيـن بايعـوا شبيباً فلم يبق منهم أحد وجاء شبيب إلى الجوسق الـذي فيـه أعيـن وأبو الضريس فتحصنوا منه فأقام يوماً عليهم وسار عنهم وأراده أصحابه على الكوفة وإزاءهم خوخى فتركها وخرج على نفر‏.‏ وسمـع الحجـاج بذلك فظن أنه يريد المدائن وهي باب الكوفة وأكثر السواد لها فهاله ذلك وبعث عثمـان بـن قطـن أميـراً علـى المدائـن وخوخـى والأنبـار وعـزل منها عبد الله بن أبي عصيفير‏.‏ وقيل فـي مقتـل محمـد بـن موسـى غيـر هـذا وهـو أنـه كـان شهد مع عمر بن عبد الله بن معمر قتال أبي فديك فزوجه عمر ابنته وكانت أخته تحت عبد الملك فولاه سجستان فمـر بالكوفـة وقيـل للحجـاج إن جـاء إلـى هـذا أحـد ممـن تطلبـه منعـك منـه فمـره بقتـال شبيـب فـي طريقه لعل الله يريحك منه ففعل الحجاج وعدل محمد‏.‏ إلى قتال شبيب وبعث إليه شبيب بدهاء الحجاج وخديعته إيـاه وأن يعـدل عنـه فأبـى شبيبـاً فبارزه وقتله شبيب ولما انهزم الأمراء وقتل موسى بن محمد بن طلحـة دعـا الحجـاج عبـد الرحمـن بـن الأشعـث وأمـره أن ينتخـب ستـة آلـاف فـارس ويسيـر في طلب شبيـب أيـن كـان فسـار لذلـك‏.‏ ثم كتب إليه وإلى أصحابه يتهددهم إن انهزموا ومر ابن الأشعث بالمدائن وعاد الجزل من جراحته فوصاه وحفره وحمله على فرسه وكانت لا تجارى‏.‏ وسار شبيـب على دقوقا وشهرزور وابن الأشعث في اتباعه إلى أن وقف على أرض الموصل وأقام فكتب إليه الحجاج‏:‏ أما بعد فاطلب شبيباً واسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فاقتله أو تنفيه فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده‏.‏ فجعل ابن الأشعث يتبعه وشبيب يقصد به الأرض الخشنة الغليظة وإذا دنا منه رجع يبيته فيجده علـى حـذره حتـى أتعـب الجيش وأحفى دوابهم ونزل بطن أرض الموصل ليس بينه وبين السواد إلا نهر حولايا في دادان الأعلـى مـن الـأرض خوخـى‏.‏ ونـزل عبـد الرحمـن فـي عواقيـل النهر وكانت أيام النحر وطلب شبيب الموادعـة فيهـا فأجابـه قصـداً للمطاولـة‏.‏ وكتـب عثمـان بـن قطـن بذلـك إلـى الحجاج فنكر وبعث إلى عثمان بن قطن بإمارة العسكر وأمره بالمسير وعزل عبد الرحمن بن الأشعث‏.‏ وبعث على المدائن مطرف بن المغيرة مكان ابن قطن وقدم ابن قطن على عسكر الكوفة عشية يوم التروية وناداهم إلى الحرب فاستمهلوه وأنزله عبد الرحمن بن الأشعث‏.‏ وأصبحوا إلى القتال ثالث يومهم على تعبية وفي الميمنة خالد بن نهيك بن قيس وفي الميسرة عقيل بن شداد السلولي وابن قطن في الرجالـة وعبـر إليهـم شبيـب فـي مائـة وثلاثيـن رجـلاً فوقـف فـي الميمنـة وأخـوه مضـاد فـي القلـب وسويـد بـن سليـم فـي الميسـرة وحمـل شبيـب على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل وقتل معه مالك بن عبد الله الهمداني‏.‏ وحمل سويد على ميمنة عثمان فهزمها وقاتل خالد بن نهيك فجاء شبيب من ورائه فقتله وتقدم عثمان إلى مضاد في القلب فاشتد القتال وحمل شبيب من وراء عثمان وعطف عليه سويد بن سليم ومضاد من القلب حتى أحاطوا بـه فقتلـوه‏.‏ وانهزمـت العساكـر ووقـع عبـد الرحمن‏.‏ بن الأشعث فأتاه ابن أبي شثبة الجعفي وهو على بغلة فأردفه ونادى في الناس باللحاق بدير أبي مريم‏.‏ ورفـع شبيـب السيـف عـن النـاس ودعاهم إلى البيعة فبايعوه ولحق ابن الأشعث بالكوفة فاختفى حتـى أمنـه الحجاج‏.‏ ومضى شبيب إلى ماه نهرادان فأقام فيه فصل الصيف فلحق به من كان للحجاج عليه تبعة‏.‏ ثم أقبـل إلـى المدائـن فـي ثمانمائـة رجـل وعليهـا مطـرف بـن المغيـرة‏.‏ وبلـغ الخبـر إلـى الحجاج فقـام فـي النـاس وتسخـط وتوعـد‏.‏ فقـال زهـرة بـن حويـة وهـو شيـخ كبيـر لا يستطيـع القيـام إلا معتمـداً‏.‏ أنـت تبعث الناس متقطعين فيصيبون منهم فاستنفر الناس جميعاً وابعث عليهم رجلاً شجاعـاً مجربـاً يـرى الفـرار عـاراً والصبـر مجداً وكرماً‏.‏ فقال الحجاج‏:‏ أنت ذلك الرجل‏!‏ فقال‏:‏ إنما يصلح من يحمل الدرع والرمح ويهز السيف ويثبت على الفرس ولا أطيق من هذا شيئاً وقد ضعف بصري ولكن أكون مع أمير وأشير عليه‏.‏ فقال له‏:‏ جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله أول أمرك وآخره‏.‏ ثم قال للناس‏:‏ سيروا فتجهزوا بأجمعكم فتجهزوا وكتب الحجاج إلى عبد الملك بأن شبيباً شارف المدائن يريد الكوفة وهم عاجزون عن قتاله بما هزم جندهم وقتل أمراءهم ويستمده مـن جنـد الشـام فبعـث إليـه عبـد الملـك سفيـان بـن الأبـرد الكلبي في أربعة آلاف وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي في ألفين وذلك سنة ست وسبعين‏.‏ وكتـب الحجـاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي يستقدمه من عند المهلب وقد وقع بينهما كما مر فقدم عتاب وولاه على الجيش فشكر زهرة بن حوية له وقال‏:‏ رميتهم بحجرهم والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل‏.‏ وبعث الحجاج إلى جند الشام يحذرهم البيات ويوصيهم الاحتياط وأن يأتـوا علـى عيـن التمـر‏.‏ وعسكـر عتاب بجماع أعين ثم قطع شبيب دجلة إلى المدائن وبعت إليـه مطـرف أن يأتيـه رجـال مـن وجوههـم ينظـر في دعوتهم فرجا منه وبعث إليه بغيث بن سويد في جماعـة مكثـوا عنـده أربعـاً ولـم يرجعـوا مـن مطـرف بشـيء ونـزل عتـاب الصـراة وخـرج مطـرف إلـى الجبال خوفاً أن يصل خبره مع شبيب إلى الحجاج‏.‏ فخـلا لهـم الجـو وجـاء مضـاد إلـى المدائن فعقد الجسر ونزل عتاب سوق حكم في خمسين ألفاً‏.‏ وسـار شبيـب بأصحابـه فـي ألـف رجـل فصلـى الظهـر بسابـاط وأشرف على عسكر عتاب عند المغرب وقد تخلف عنه أربعمائة من أصحابه فصلى المغرب وعبى أصحابه ستمائة سويد بن سليم في مائتيـن فـي الميسـرة والمحلـل بـن وائـل فـي مائتيـن فـي الميمنـة وهـو فـي مائتيـن فـي القلـب‏.‏ وكـان علـى ميمنـة عتـاب محمد بن عبد الرحمن بن سعيد وعلى ميسرته نعيم بن عليم وعلى الرجالة حنظلة بن الحارث اليربوعي وهو ابن عمه وهم ثلاثة صفوف بين السيوف والرماح والرماة‏.‏ ثم حرض الناس طويلاً وجلس في القلب ومعه زهرة بن مرثد وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعـث وأبـو بكـر بـن محمـد بـن أبـي جهـم العـدوي‏.‏ وأقبـل شبيب حين أضاء القمر بين العشاءين فحمـل علـى الميسـرة وفيهـا ربيعـة فانفضـوا وثبـت قبيصـة بـن والـق وعبيـد بـن الجليـس ونعيـم بـن عليم على رايتهـم حتـى قتلـوا‏.‏ ثـم حمـل شبيـب علـى عتـاب بـن ورقـاء وحمـل سويـد بـن سليـم علـى محمـد بـن سليـم فـي الميمنـة فـي تميـم وهمـدان‏.‏ واشتـد القتـال وخالـط شبيـب القلـب وانفضـوا وتركـوا عتاباً وفـر ابـن الأشعـث فـي نـاس كثيريـن وقتـل عتاب بن ورقاء وركب زهرة بن حوية فقاتل ساعة ثم طعنه عامر بن عمر الثعلبي من الخوارج ووطأته الخيل فقتله الفضل بن عامر الشيباني منهم ووقف عليه شبيب‏.‏ وتوجع له ونكر الخوارج ذلك وقالوا أتتوجع لرجل كافر فقـال أعـرف قديمه‏.‏ ثم رفع السيف عن الناس ودعا للبيعة فبايعوه وهربوا تحت ليلهم وحوى ما في العسكر وأتاه أخوه من المدائن وأقام يومين‏.‏ ثم سار نحو الكوفة ولحق سفيان بن الأبـرد وعسكـر الشـام بالحجاج فاستغنى بهم عن أهل الكوفة واشتد بهم وخطب فوبخ أهل الكوفة وعجزهم‏.‏ وجاء شبيب فنزل حمام أعين فسرح الحجاج إليه الحارث بن معاوية الثقفي في نحو ألف من الشـرط لـم يشهـدوا يـوم عتـاب فبـادر إليـه شبيـب فقتلـه وانهزم أصحابه إلى الكوفة وأخرج الحجاج مواليه فأخذوا بأفواه السكك وجاء شبيب فنزل السبخة ظاهر الكوفة وبنى فيها مسجداً وسـرح الحجـاج مولـاه أبـا الـورد فـي غلمـان لقتالـه فحمـل عليـه شبيـب وقتلـه يظنـه الحجـاج‏.‏ ثـم أخرج إليه مولاه طهمان كذلك فقتله فركب الحجاج في أهل الشام وجعل سبرة بن عبد الرحمن بن محنـف علـى أفـواه السكـك‏.‏ وقعد على كرسيه ونادى في أهل الشام وحرضهم فغضوا الأبصار وجثوا على الركب وشرعوا الرماح‏.‏ وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس معه ومع سويد بن سليم ومع المحلل بن وائل‏.‏ وحمل سويد وبيتوا وطاعنوه حتى انصرف‏.‏ وقدم الحجاج كرسيه وحمل المحلل ثانية فكذلك وقدم الحجاج كرسيـه فثبتـوا لـه وألحقـوه بأصحابـه وسـرب شبيـب سويد بن سليم إلى أهل السكك وكان عليها عـروة بـن المغيـرة بـن شعبـة فلم يطق دفاعه‏.‏ ثم حمل شبيب فطاعنوه وردوه وانتهى الحجاج إلى مسجـده وصعـده وملـك العرصـة وقـال لـه خالـد بـن عتـاب ائـذن لـي فـي قتالهم فإني موتور فأذن له فجاءهم من ورائهم وقتل أخا شبيب وغزالة امرأته وخرق عسكرهم وحمل الحجاج عليهم فانهزمـوا‏.‏ وتخلـف شبيـب رداً لهـم فأمر الحجاج أصحابه بموادعتهم ودخل الكوفة فخطب وبشر ثـم سـرح حبيـب بـن عبـد الرحمـن الحكمـي فـي ثلاثـة آلـاف فـارس لأتباعـه وحذره بياته فانتهى في أثره إلى الأنبار وقد افترق عن شبيب كثير من أصحابه للأمان الذي نادى الحجاج به فجاءه شبيـب عنـد الغـروب وقد قسم حبيب جنده أرباعاً وتواصوا بالاستماتة فقاتلهم شبيب طائفة بعـد طائفـة‏.‏ فمـا زالـت قـدم إنسـان عـن موضعهـا إلـى آخـر الليـل‏.‏ ثـم نزل شبيب وأصحابه واشتد القتـال وكثر القتلى وسقطت الأيدي وفقئت لأعين‏.‏ وقتل من أصحاب شبيب نحو ثلاثين ومن أهل الشام نحو مائة‏.‏ وأدركهم الإعياء والفشل جميعاً‏.‏ فانصرف شبيب بأصحابه وقطع دجلة ومر في أرض خوخـى‏.‏ ثـم قطـع دجلـة أخـرى عنـد واسـط ومضـى علـى الأهـواز وفـارس إلـى كرمـان ليريح بها‏.‏ وقـد قيل في هذه الحرب غير هذا وهو أن الحجاج بعث إليه أمراء واحداً بعد واحد فقتلهم وكان منهم أعين صاحب حمام أعين وكانت غزالة امرأة شبيب نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين بالبقرة وآل عمران‏.‏ فجاء شبيب ودخل الكوفة ليلاً وأوفت بنذرها ثم قاتلهم الناس وخرجوا‏.‏ وقام الحجاج في الناس يستشيرهم وبرز إليه قتيبة وعذله في بعث الرعاع ينهزمون ويموت قائدهـم والـرأي أن تخـرج بنفسـك فتحالمـه خـرج مـن الغـد إلـى السبخـة وبهـا شبيب واختفى مكانه عن القوم ونصب أبا الورد مولاه تحت اللواء فحمل عليه شبيب فقتله‏.‏ ونـزل عنـد ذلـك الحجـاج وأصحابـه وجلـس علـى عبـاءة ومعه عنبسة بن سعيد‏.‏ وبينما هم على ذلـك إذ اختلـف الخـوارج وقـال مصقلـة بـن مهلهـل الضبـي لشبيـب‏:‏ مـا تقـول فـي صالح بن سرح قال‏:‏ برئت منه فبريء مصقلة منه وفارقه وشعر الحجاج باختلافهم فسرح خالد بن عتاب لقتالهم فقاتلهم في عسكرهم وقتل غزالة وبعث برأسها إلى الحجاج فأمر شبيب من اعترضه فقتل حامله وجاء به فغسله ودفنه وانصرف الخـوارج وتبعهـم خالـد‏.‏ وقتـل مضـاد أخـو شبيـب ورجـع خالـد عنهـم بعـد أن أبلـى وسـار شبيـب إلـى كرمان وكتب الحجاج إلى عبد الملك يستمده فبعـث إليـه سفيـان بـن الأبـرد الكلبـي فـي العساكر فأنفق فيهم المال وسرحه بعد انصراف الخوارج بشهرين وكتب إلى عامل البصرة وهو الحكم بن أيوب زوج ابنته أن يبعث بأربعة آلاف فارس من جند البصرة إلى سفيان فبعثهم مع زياد بن عمر العتكي فلحقه انقضاء الحرب‏.‏ وكان شبيب بعد أن استجم بكرمان أقبل راجعاً فلقـي سفيـان بالأهـواز فعبـر إليـه جسـر دجيـل وزحـف فـي ثلاثـة كراديـس فقاتلهـم أشد قتال وحملوا عليهم أكثر من ثلاثين حملة وسفيان وأهـل الشـام مستميتـون يزحفـون زحفـاً حتـى اضطـر الخوارج إلى الجسر فنزل شبيب في مائة من أصحابه وقاتل إلى المساء حتى إذا جاء الليل انصرف وجاء إلى الجسر فقدم أصحابه وهو علـى أثرهـم‏.‏ فلمـا مـر بالجسـر اضطـرب حجـر تحـت حافـر فرسـه وهـو علـى حرف السفينة فسقط فـي المـاء وغـرق وهـو يقـول‏:‏ وكـان أمر الله مفعولاً ذلك تقدير العزيز العليم‏.‏ وجاء صاحب الجسر إلـى سفيـان وهـو يريـد الانصراف بأصحابه فقال إن رجلاً من الخوارج سقط فتنادوا بينهم غرق أمير المؤمنين ومروا وتركوا عسكرهم فكبر سفيان وأصحابه وركب إلى الجسر وبعث إلى عسكرهم فحوى ما فيه وكان كثير الخيرات ثم استخرجوا شبيباً من النهر ودفنوه‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:39 PM

خروج المطرف بن المغيرة بن شعبة
لما ولي الحجاج الكوفة وقدمها وجد بني المغيرة صلحاء أشرافاً فاستعمل عروة على الكوفة ومطرفاً على المدائن وحمزة على همذان فكانوا أحسن العمال سيرة وأشدهم على المريب‏.‏ ولما جاء شبيب إلى المدائن نزل نهر شير ومطرف بمدينة الأبواب فقطع مطرف الجسر وبعث إلى شبيب أن يرسل إليه من يعرض عليه الدعوة فبعث إليه رجلاً من أصحابه فقالوا‏:‏ نحن ندعو إلى كتاب الله وسنة رسوله وإنا نقمنا على قومنا الاستئثار بالفيء وتعطيل الحدود والتبسـط بالجزية فقال مطرف دعوتم إلى حق جوراً ظاهراً وأنا لكم متابع فبايعوني على قتال هؤلاء الظلمة بأحداثهم وعلى الدعاء إلى الكتاب والسنة وعلى الشورى كما تركها عمر بن الخطاب حتى يولي المسلمون من يرضونه فإن العرب إذا علمت أن المراد بالشورى الرضا من وأقاموا أربعة أيام يتناظرون في ذلك ولم يتفقوا وخرجوا من عنده ثم دعا مطرف أصحابه وأخبرهـم بمـا دار بينـه وبيـن أصحاب شبيب وأن رأيه خلع عبد الملك والحجاج فوجموا من قوله وأشـاروا عليـه بالكتمـان فقـال لـه يزيـد بـن أبـي زياد مولى أبيه‏:‏ لن والله يخفى على الحجاج شيء ممـا وقـع ولـو كنـت فـي السحـاب لاستنزلـك فالنجـاء بنفسـك ووافقه أصحابه فسار عن المدائن إلى الجبـال ولمـا كـان فـي بعـض الطريق دعا أصحابه إلى الخلع والدعاء إلى الكتاب والسنة وأن يكون الأمـر شـورى فرجـع عنـه بعـض إلـى الحجاج منهم سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف وسار مطرف ومـر بحلـوان وبهـا سويد بن عبد الرحمن السعدي مع الأكراد فاعترضوه فأوقع مطرف بهم وأثخن في الأكراد ومال همذان ذات اليمين وبها أخوه حمزة واستمده بمال وسلاح فأمده سراً‏.‏ وسار إلى قم وقاشان فبعث عماله في نواحيها وفزع إليه من كل جانب فجاءه سويد بن سرحـان الثقفـي وبكيـر بـن هـارون النخعـي مـن الـري فـي نحـو مائـة رجـل‏.‏ وكـان علـى الـري عدي بن زيـاد الإيـادي وعلـى أصبهـان البراء بن قبيصة فكتب إلى الحجاج بالخبر واستمده فأمده بالرجال وكتـب إلـى عـدي بالـري أن يجتمع مع البراء على حرب مطرف فاجتمعوا في ستة آلاف وعدي أميرهـم‏.‏ وكتب الحجاج إلى قيس بن سعد البجلي وهو على شرطة حمزة بهمذان بأن يقبض على حمزة ويتولى مكانه فجاءه في جمع من عجل وربيعة وأقرأه كتاب الحجاج فقال‏:‏ سمعاً وطاعة وقبض قيس عليه وأودعه السجن‏.‏ وسار عدي والبراء نحو مطرف فقاتلوه وانهـزم أصحابـه وقتـل يزيـد مولـى أبيـه‏.‏ وكـان صاحـب الراية وقتل من أصحابه عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي وكان ناسكاً صالحاً وكان الذي تولى قتل مطرف عمر بن هبيرة الفزاري‏.‏ وبعـث عـدي أهـل البلـاد إلـى الحجـاج وأمـر بكيـر بـن هـارون وسويـد بن سرحان وكان الحجاج يقول مطرف ليس بولد للمغيرة وإنما هو ابن مصقلة الحر لأن أكثر الخوارج كانوا من ربيعة ولم يكن فيهم من قيس‏.‏

اختلاف الأزارقة
قـد تقـدم لنـا مقـام المهلـب فـي قتـال الأزارقـة على سابور بعد مسير عتاب عنه إلى الحجاج وأنه أقام في قتالهم سنة‏.‏ وكانت كرمان لهم وفارس للمهلب فانقطع عنهم الممد وضاقت حالهم فتأخروا إلى كرمان وتبعهم المهلب ونزل خيررفت مدينة كرمان وقاتلهم حتى أزالهم عنهـا‏.‏ وبعث الحجاج العمال على نواحيها وكتب إليه عبد الملك بتسويغ للمهلب معونة له على الحرب وبعـث الحجـاج إلـى المهلـب البـراء بن قبيصة يستحثه لقتال الخوارج فسار وقاتلهم والبراء مشرف عليه من ربوة واشتد قتاله وجاء البراء من الليل فتعجب‏.‏ لقتاله وانصرف إلى الحجاج وأنهى غـدر المهلـب وقاتلهـم ثمانيـة عشـر شهـراً لا يقدر منهم على شيء‏.‏ ثم وقع الاختلاف بينهم فقيل في سببه إن المقعطر الضبي وكان عاملاً لقطري على بعض نواحي كرمان قتل بعض الخوارج فطلبـوا القود منه فمنعه قطري وقال‏:‏ تأول فأخطأ وهو من ذوي السابقة فاختلفوا وقيل بل كان رجل في عسكرهم يصنع النصول مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب فكتب المهلب كتاباً مع رجل وامرأة أن يلتقيه في عسكرهم وفيه وصلت نصالك وقد أنفذت إليك ألف درهم‏.‏ فلما وقف على الكتاب سأل الصانع فأنكر فقتله فأنكر عليه عبد ربه الكبير واختلفوا‏.‏ وقيل بعث المهلب نصرانياً وأمره بالسجود لقطري فقتله بعض الخوارج وولوا عبد ربه الكبير وخلعـوا قطريـاً فبقـي فـي نحـو الخمسيـن منهـم وأقامـوا يقتتلون شهراً ثم لحق قطري بطبرستان وأقام عبد ربه بكرمان وقاتلهم المهلـب وحاصرهـم بخيررفـت‏.‏ ولمـا طـال عليهـم الحصـار خرجـوا بأموالهـم وحريمهـم وهـو يقاتلهـم حتى أثخن فيهم‏.‏ ثم دخل خيررفت وسار في أتباعهم فلحقهم علـى أربعـة فراسـخ فقاتلهـم هـو وأصحابـه حتـى أعيـوا وكـف عنهـم‏.‏ ثم استمات الخوارج ورجعوا فقاتلـوه حتـى يئس من نفسه‏.‏ ثم نصره الله عليهم وهزمهم وقتل منهم نحواً من أربعة آلاف كان منهم عبد ربه الكبير ولم ينج منهم إلا القليل‏.‏ وبعـث المهلب المبشر إلى الحجاج فأخبر‏.‏ وسأله عن بني المهلب فأثنى عليهم واحداً واحداً‏.‏ قال فأيهم كان أنجد قال كانوا كالحلقة المفرغة لا يعـرف طرفهـا فاستحسـن قولـه وكتـب إلـى المهلـب يشكـره ويأمره أن يولي على كرمان من يراه وينزل حامية ويقدم عليه فولى عليها ابنه يزيد وقـدم علـى الحجـاج فاحتفـل لقدومه وأجلسه إلى جانبه وقال‏:‏ يا أهل العراق أنتم عبيد المهلب‏.‏ وسرح سفيان بن الأبرد الكلبي فـي جيـش عظيـم نحـو طبرستـان لطلـب قطـري وعبيـدة بـن هلـال ومـن معهـم مـن الخـوارج‏.‏ والتقـوا هنالـك بإسحـاق بـن محمـد بن الأشعث في أهل الكوفة واجتمعا على طلبهم فلقوهم في شعب من شعاب طبرستان وقاتلوهم فافترقوا عن قطري ووقع عن دابته فتدهده إلى أسفل الشعب ومر به علج فاستقاه على أن يعطيه سلاحه‏.‏ فعمد إلى أعلى الشعـب وحـدر عليـه حجـراً مـن فـوق الشعـب فأصابـه في رأسه فأوهنه ونادى بالناس فجاء في أولهـم نفـر مـن أهل الكوفة فقتلوه منهم سورة بن أبجر التميمي وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف والسياح بن محمد بن الأشعث وحمل رأسه أبو الجهم إلى إسحق بن محمد فبعث به الحجاج وبعثه الحجاج إلى عبد الملك‏.‏ وركب سفيان فأحاط بالخوارج وحاصرهـم حتـى أكلـوا دوابهـم ثـم خرجـوا إليـه واستماتـوا فقتلهم أجمعين وبعث برؤوسهم إلى الحجاج ودخل دنباوند وطبرستان فكان هناك حتى عزله الحجاج قبل دير الجماجم قال بعض العلماء‏:‏ وانقرضـت الأزارقـة بعـد قطـري وعبيـدة آخـر رؤسائهم وأول رؤسائهم نافع بن الأزرق واتصل أمرهم بضعاً وعشرين سنة إلى أن افترقوا كما ذكرناه سنة سبع وسبعين فلم تظهر لهم جماعة إلى رأس المائة‏.‏ خروج شوذب خـرج شـوذب هـذا أيـام عمـر بـن عبد العزيز على رأس المائة واسمه بسطام وهو من بني يشكر‏.‏ فخـرج فـي مائتـي رجـل وسـار فـي خوخـى وعامـل الكوفة يومئذ عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيـد بـن الخطـاب‏.‏ فكتـب إليـه عمـران أن لا يعرض لهم حتى يقتلوا أو يفسدوا فيوجه إليهم الجند مع صليب حازم فبعث عبد الحميد بن جرير بن عبد الله البجلي في ألفين فأقام بإزائه لا يحركـه‏.‏ وكتـب عمـر إلـى شـوذب‏:‏ بلغنـي أنـك خرجـت غضبـاً لله ولرسوله وكنت أولى بذلك مني فهلم إلي أناظرك فإن كان الحق معنا دخلت مع الناس وإن كان الحق معك نظرنا في أمرك‏.‏ فبعث إليه عاصماً الحبشي مولى بني شيبان من بني يشكر فقدما عليه بخاصر فسألهما‏:‏ ما أخرجكـم ومـا الـذي نقمتم‏.‏ فقال عاصم ما نقمنا سيرتك إنك لتتحرى العدل والإحسان فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر مشورة من الناس أم غلبت عليه‏:‏ قال عمر ما سألته وما غلبت عليه‏.‏ وعهد إلي رجل قبلي فقمت ولم ينكر أحد ومذهبكم الرضا لكل من عدل وإن أنا خالفت قـالا‏:‏ فقـد خالفـت أعمـال أهـل بيتـك وسميتهـا مظالم فتبرأ منهم والعنهم‏.‏ فقال عمر‏:‏ أنتم تريدون الآخـرة وقـد أخطأتـم طريقهـا وإن اللـه لـم يشـرع اللعـن‏.‏ وقد قال إبراهيم‏:‏ ومن عصاني فإنك غفور رحيـم‏.‏ وقـال‏:‏ أولئـك الذيـن هـدى اللـه فبهداهـم اقتـده‏.‏ وبقي تسمية أعمالهم مظالم ذماً ولو كان لعن أهل الذنوب فريضة لوجب عليكم لعن فرعون أنتم لا تلعنونه وهو أخبث الخلق فكيف ألعـن أنـا أهـل بيتـي وهـم مصلـون صائمـون ولـم يكفـروا بظلمهـم لـأن النبـي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الإيمان والشريعة فمن عمل بها قبل منه ومن أحدث حدثاً فرض عليه الحد‏.‏ فقـالا‏:‏ فـإن النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم دعـا إلـى التوحيـد والإقرار بما نزل عليه‏.‏ فقال عمر ليس أحد ينكر ما نزل عليه ولا يقول لا أعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن القوم أسرفـوا علـى أنفسهـم‏.‏ قـال عاصـم‏:‏ فابـرأ منهـم ورد أحكامهـم قـال عمر‏:‏ أتعلمان أن أبا بكر سبى أهل الردة وأن عمر ردها بالفدية ولم يبرأ من أبي بكر وأنتم لا تبرؤون من واحد منهما قال‏:‏ فأهـل النهروان خرج أهل الكوفة منهم فلم يقتتلوا ولا استعرضوا وخرج أهل البصرة فقتلوا عبد اللـه بـن حبـاب وجاريـة حامـلاً ولـم يتبـرأ مـن لـم يقتـل ممـن قتـل واستعـرض ولا أنتم تتبرؤون من واحد منهما وكيف ينفعكم ذلك مع علمكم باختلاف أعمالكم‏.‏ ولا يسعني أنا البراءة من أهل بيتي والدين واحد‏.‏ فاتقوا الله ولا تقبلوا المردود وتردوا المقبول وقد أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهد شهادة الإسلام وعصم ماله ودمه وأنتم تقتلونه ويأمـن عندكـم سائـر الأديـان وتحرمون دماءهم وأموالهم‏.‏ فقال اليشكري‏:‏ من استأمن على قوم وأموالهم فعدل فيها ثم صيرها بعده إلى رجل غير مأمون أتراه أدى الحق الذي لزمه فكيف تسلم هذا الأمر بعدك إلى يزيد مع علمك أنه لا يعدل فيه‏.‏ فقال‏:‏ إنما ولاه غيري والمسلمون أولى بذلك بعدي‏.‏ قال‏:‏ فهو حق ممن فعله وولاه قال انظرانـي ثلاثـاً‏.‏ ثـم جـاءه عاصـم فرجـع عـن رأي الخـوارج وقـال له اليشكري اعرض عليهم ما قلت واسمع حجتهم‏.‏ وأقام عاصم عند عمر وأمر له بالعطاء وتوفي عمر لأيام قلائل ومحمد بن جرير ينتظر عود الرسل‏.‏ ولما مات عمر كتب عبد الحميد إلى محمد بن جرير بمناجزة شوذب قبل أن يصل إليهم عمر فقالـت الخـوارج‏:‏ مـا خالـف هـؤلاء ميعادهـم إلا وقد مات الرجل الصالح‏.‏ واقتتلوا فانهزم محمد بن جريـر واتبعـه الخوارج إلى الكوفة ورجعوا وقدم على شوذب صاحباه أخبراه بموت عمر وسرح يزيد تميم بن الحباب في ألفين فهزمه أصحابه ثم بعث إليهم الشجاع بن وادع في ألفين فقتلوه وهزمـوه بعـد أن قتـل منهـم هدبـة ابـن عـم وبقـي الخـوارج بمكانهـم‏.‏ وجـاء مسلمـة إلى الكوفة فأرسل سعيـد بـن عمـرو الحرشـي فـي عسكر آلاف فاستماتت الخوارج وكشفوا العساكر مراراً ثم حملوا وقتل شوذب وأصحابه ولم يبق منهم أحد وضعف أمر الخوارج على ظهور أيام هشام سنة عشريـن ومايـة بهلـول بـن بشـر بـن شيبـان وبلغـت كنـارة‏.‏ وكـان لمـا عـزم علـى الخـوارج حج ولقي بمكة من كان على رأيه فأبعدوا إلى قرية من قرى الموصل واجتمعوا بها وهم أربعون وأمروا عليهم البهلـول وأخفـوا أنفسهـم بأنهـم قدمـوا مـن عنـد هشـام‏.‏ ومـروا بقريـة كان بهلول ابتاع منها خلاً فوجده خمراً وأبى البائع من رده واستعدى عليه عامل القرية فقال‏:‏ الخمر خير منك ومن قومك فقتلوه وأظهـروا أمرهـم وقصـدوا خالـداً القسـري بواسـط وتعللـوا عليه بأنه يهدم المساجد ويبني الكنائس ويولي المجرد على المسلمين‏.‏ وجـاء الخبـر إلـى خالـد فتوجـه مـن واسـط إلـى الحيـرة وكـان بهـا جنـد مـن بنـي العيـن نحـو ستمائـة بعثـوا مـدداً لعامل الهند فبعثهم خالد مع مقدمهم لقتال بهلول وأصحابه وضم إليهم مائتين من الشرط والتقوا على الفرات فقتل مقدمهم وانهزموا إلى الكوفة‏.‏ وبعث خالد عابداً الشيباني من بني حوشـب بـن يزيـد بـن رويـم فلقيـه بين الموصل والكوفة فهزمهم إلى الكوفة وارتحل يريد الموصل ثم بدا له وسار يريد هشاماً بالشام وبعث من العراق وعامل الجزيرة جنداً وبعث هشام جنداً فاجتمعـوا بيـن الجزيـرة والموصـل وهم في عشرين ألفاً وبهلول في سبعين فقاتلوا واستماتوا وصرع بهلـول وسأله أصحابه العهد فعهد إلى دعامة الشيباني ثم إلى عمر اليشكري من بعده‏.‏ ومات ثم خرج على خالد بعد ذلك بسنتين الغفري صاحب الأشهب وبهذا كان يعرف فبعث إليه السمط بن مسلم البجلي في أربعة آلاف فالتقوا بناحية الفرات فانهزمت الخوارج ولقيهم عبيد أهل الكوفة وغوغاؤهم فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم‏.‏ ثم خرج وزير السختياني على خالد بالحيرة فقتل وأحرق القرى فوجه إليه خالد جنداً فقتلوا أصحابه وأثخن بالجراح وأتى به خالد فوعظه فأعجبه وعظه فأعفاه من القتل‏.‏ وكان يسامره بالليـل وسعـى بخالـد إلـى هشام وأنه أخذ حرورياً يستحق القتل فجعله سميراً فكتب إليه هشام بقتله فقتله‏.‏ ثـم خـرج بعـد ذلـك النصـارى بن شبيب بإفريقية فمضى وندم خالد فطلبه فلم يرجع وأتى جبل وبهـا نفـر من اللات بن ثعلبة فأخبرهم وقال إنما أردت التوصل إليه لأقتله بفلان من قعدة الصفرية كـان خالـد قتلـه صبـراً‏.‏ ثـم خـرج معـه ثلاثـون منهـم فوجـه إليهم خالد جنداً فلقوهم بناحية المناذر فاقتتلوا فقتل الصحارى وأصحابه أجمعون‏.‏ ورد أمر الخوارج بعد ذلك مرة فلما وقعت الفتن أيام هشام بالعراق والشام وشغل مروان بمن انتقـض عليـه فخـرج بـأرض كفريمونـا سعيـد بـن بهـدل الشيبانـي فـي مائتيـن مـن أهـل الجزيرة وكان على رأي الحرورية وخرج بسطام البهسي في مثل عدتهم من ربيعة وكان مخالفاً لرأيه فبعث إليه سعيـد بـن بهـدل قائـده الخبيـري فـي مائـة وخمسيـن فبيتهـم وقتل بسطاماً ومن معه ولم ينج منهم إلا أربعـة عشـر رجـلاً‏.‏ ثـم مضـى سعيـد بـن بهدل نحو العراق فمات هنالك واستخلف الضحاك بن قيس الشيباني فبايعه السراة وأتى أرض الموصل وشهرزور‏.‏ وإجتمع إليه من الصفرية أربعة آلاف أو يزيدون‏.‏ وولـى مروان على العراق النضر بن سعيد الجريشي وعزل به عبد الله بن عمر بن عبد العزيز فامتنع عبد الله بالحيرة وسار إليه النضر وتحاربا أشهراً‏.‏ وكانت الصفرية مع النضر عصبة لمروان لطلبـه بـدم الوليـد وأمـه قيسيـة وكانـت اليمنيـة مـع ابـن عمـر عصبيـة لدخولهـم فـي قتـل الوليـد بمـا فعله مع خالد القسري فلما علم الضحاك والخوارج باختلافهم أقبل إلى العـراق سنـة سبـع وعشرين وزحف إليهم فتراسل ابن عمر والنضر وتعاقدا واجتمعا لقتاله بالكوفة وكل واحد منهما يصلي بأصحابه وابن عمر أمير على وإسماعيل أخو خالد القسري وغيرهم من الوجوه‏.‏ فلحـق ابـن عمـر بواسـط واستولـى الضحـاك علـى الكوفـة وعـادت الحـرب بين ابن عمر والنضر‏.‏ ثم زحف إليهما الضحاك فاتفقا وقالا حتى ضرستهما الحرب ولحق منصور بن جمهور بالضحاك والخوارج وبايعهم ثم صالحهم ابن عمر ليشغلوا مروان عنه وخرج إليهم وصلى خلف الضحاك وبايعه‏.‏ وكـان معـه سليمـان بن هشام وصل إلية هارباً من حمص لما انتقض بها وعليه‏.‏ عليها مروان فلحق بابن عمر وبايع معه الضحاك وصار معه وحرضها على مروان‏.‏ إنما لحق بالضحاك وهو يحاصر نضيراً وتزوج أخت شيبان الحروري‏.‏ فرجع الضحاك إلى الكوفة وسار منها إلى الموصـل بعـد عشرين شهراً من حصار واسط بعد أن دخل أهل الموصل وعليهم القطرن أم أكمه من بني شيبان عامل لمروان فأدخلهم أهل البلد وقاتلهم القطرن فقتل ومن معه وبلغ الخبر إلى مـروان وهـو يحاصـر حمـص فكتـب إلـى ابنه عبد الله أن يسير إلى‏.‏ يمانع الضحاك عن توسط الجزيرة فسار في ثمانيـة آلـاف فـارس والضحـاك فـي مائـة ألـف وحاصـره بنصيبيـن‏.‏ ثـم سـار مـروان بـن محمـد إليـه فالتقيـا عنـد كفريموتـا مـن نواحـي مارديـن فقاتلـه عامة يومه إلى الليل وترجل الضحاك في نحـو ستـة آلـاف وقاتلـوا حتـى قتلـوا عـن آخرهـم وعثـر علـى الضحـاك فـي القتلـى فبعـث مـروان برأسه إلى الجزيرة وأصبح الخوارج فبايعوا الخبيري قائد الضحاك وعاودوا الحرب مع مروان فهزموه وانتهوا إلى خيامه فقطعوا أطنابهم وجلس الخبيري على فرشه والجانحان ثابتان وعلى الميمنة عبـد اللـه بـن مـروان وعلى الميسرة إسحاق بن مسلم العقيلي فلما انكشفت قفة الخوارج أحاطوا بهم في مخيم مروان فقتلوهم جميعاً والخبيري معهم ورجع مروان من نحو ستة أميال‏.‏ وانصرف الخوارج وبايعوا شيبان الحروري وهو شيبان بن عبد العزيز اليشكري ويكنى أبا الدلفاء‏.‏ وقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل الصف من يومئذ وأقام في قتالهم أياماً وانصـرف عـن شيبـان كثيـر منهـم وارتحلـوا إلـى الموصـل بإشـارة سليمـان بـن هشام وعسكروا شرقي دجلة وعقدوا الجسور واتبعهم مروان فقاتلهم لتسعة أشهر وقتل الطائفتين خلق كثير‏.‏ وأسر ابـن أخ لسليمـان بـن هشـام اسمـه أميـة بـن معاويـة فقطعـه ثـم ضـرب عنقـه‏.‏ وكتـب مـروان إلـى يزيد بن عمـر بـن هبيـرة وهـو بمرقيسية يأمره بالسير إلى العراق وولاه عليها وعلى الكوفة يومئذ المثنى بن عمـران العائـذي مـن قريـش خليفـة للخوارج فلقي ابن هبيرة بعين التمر فاقتتلوا وانهزمت الخوارج‏.‏ ثم تجمعوا له بالنخيلة ظاهر الكوفة فهزمهم ثم تجمعوا بالبصرة فأرسل شيبان إليهم عبيدة بن سوار في خيل عظيمة فهزمهم ابن هبيرة وقتل عبيدة واستباح عسكرهم واستولى على العراق‏.‏ وكـان منصـور بـن جمهـور مـع الخوارج فمضى إلى الماهين وغلب عليها وعلى الجبل جميعاً وسار ابن هبيرة إلى واسط فحبس ابن عمر وكان سليمان بن حبيب عامل ابن عمر على الأهواز فبعث ابن هبيرة إليه نباتة بن حنظلة وبعث هو داود بن حاتم والتقيا على دجلة فانهزم داود وقتـل‏.‏ وكتب مروان إلى ابن هبيرة أن يبعث إليه عامر بن ضبابة المزني فبعثه في ثمانية آلاف وبعـث شيبان لاعتراضه الجون بن كلاب الخارجي في جمع فانهزم عامر وتحصن بالسند وجعل مروان يمده بالجنود وكان منصور بن جمهور بالجبل يمد شيبان بالأموال‏.‏ ثم كثرت جموع عامر فخـرج إلى الجون والخوارج الذين يحاصرونه فهزمهم وقتل الجون وسار قاصداً الخوارج بالموصل فارتحـل شيبـان عنهـا وقـدم عامـر علـى مـروان فبعثـه فـي اتبـاع شيبان فمر على الجبل وخرج على بيضاء فارس وبها يومئذ عامر بن عبد الله بن حطوبة بن جعفر في جموع كثيرة‏.‏ فسار ابن معاوية إلى كرمان وقاتله عامل فهزمه ولحق بهراة وسار عامر بمن معه فلقي شيبان والخوارج بخير رفت فهزمهم واستباح عسكرهم ومضى شيبان إلى سجستان فهلك بها سنة ثلاثين ومائة‏.‏ وقيل بل كان قتال مروان وشيبان على الموصل شهراً‏.‏ ثم انهزم شيبان ولحق بفارس وعامر بن صراة في أتباعه ثم سار شيبان إلى جزيرة ابن كاوان وأقام بها‏.‏ ولمـا ولـي السفـاح بعـث حارثـة بـن خزيمـة لحرب الخوارج هنالك لموجدة وجدها عليه فأشير عليه ببعثـه لذلـك‏.‏ فسـار فـي عسكـر إلـى البصـرة وركـب السفـن إلى جزيرة ابن كاوان وبعث فضالة بن نعيم النهيلي في خمسمائة فانهزم شيبان إلى عمان وقاتل هناك وقتله جلندي بن مسعود بن جعفـر بـن جلنـدي ومـن معـه سنـة أربـع وثلاثيـن‏.‏ وركـب سليمـان بـن هشـام السفـن بأهلـه ومواليـه إلى الهند بعد مسير شيبان إلى جزيرة ابن كاوان حتى إذا بويع السفاح قدم عليه وأنشده سديف البيتين المعروفين وهما‏:‏ لا يغرنـك مـا تـرى مـن رجال إن بين الضلوع داء دويا فقتلـه السفـاح وانصـرف مروان بعد مسير شيبان إلى الموصل إلى منزله بحران فلم يزل بها حتى سـار إلـى الـزاب‏.‏ ومضـى شيبان بعد سلمة إلى خراسان والفتنة بها يومئذ بين نصر بن سيار والكرمانـي والحـارث بـن شريح وقد ظهر أبو مسلم بالدعوة العباسية فكان له من الحوادث معهم ما ذكرناه واجتمع مع علي بن الكرماني على قتال نصر بن سيار‏.‏ فلما صالح الكرماني أبا مسلـم كمـا مـر وفـارق شيبـان تنحـى شيبـان عـن عمر لعلمه أنه لا يقاومه ثم هرب نصر بن سيار إلى سرخس واستقام أمر أبي مسلم بخراسان فأرسل إلى شيبان إلى البيعة ويأذنه بالحرب واستجـاش بالكرمانـي فأبـى‏.‏ فسـار إلـى سرخس واجتمع كثير من بكر بن وائل وأرسل إليه أبو مسلم في الموادعة فحبـس الرسـل فكتـب أبـو مسـام إلـى بسـام بـن إبراهيـم مولـى بنـي ليـث بالمسيـر إلـى شيبـان فسـار إليـه فهزمـه وقتـل فـي عـدة بكـر بـن وائـل ويقـال إن خزيمـة بـن حـازم حضـر مـع بسام في ذلك‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:42 PM

خبر أبي حمزة وطالب وإسحاق
كان اسم أبي حمزة الخارجي المختار بن عوف الأزدي البصري وكان من الخوارج الإباضية وكان يوافي مكة كل موسم يدعو إلى خلاف مروان وجاء عبد الله بن يحيى المعروف بطالب الحـق سنـة ثمـان وعشريـن وهـو مـن حضرموت فقال له انطلق معي فإني مطاع في قومي‏.‏ فانطلق معه إلى حضرموت وبايعه على الخلافة‏.‏ وبعثه عبد الله سنة تسع وعشرين مع بلخ بن عقبة الأزدي في سبعمائة فقدموا مكة وحكمـوا بالموقـف وعامـل المدينـة يومئـذ عبـد الواحـد بـن سليمان بن عبد الملك فطلبهم في الموادعة حتى ينقضي الموسم‏.‏ وأقام للناس حجهم ونزل بمنى وبعث إلى أبي حمزة عبيد الله بن حسن بن الحسن ومحمد بن عبـد اللـه بـن عمـر بـن عثمـان وعبـد الرحمـن بـن القاسـم بـن محمد وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصـم بن عمر بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن في أمثالهم‏.‏ فكشر في وجه العلوي والعثماني وانبسـط إلـى البكـري والعمـري وقـال لهمـا مـا خرجنـا إلا بسيـرة أبويكما فقال له عبيد الله بن حسن ما جئنا للتفضيل بين آبائنا وإنما جئنا برسالة من الأمير وربيعة يخبرك بها‏.‏ ثـم أحكمـوا معـه الموادعـة إلـى مدتهـا ونفر عبد الواحد في النفر الأول فمضى إلى المدينة وضرب علـى أهلهـا البعـث وزادهـم في العطاء عشرة وبعث عليهم عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن عثمان فانتهوا إلى فديك‏.‏ وجاءتهم رسل أبي حمزة يسألونهم التجافي عن حربهم وأن يخلوا بينهـم وبيـن عدوهـم‏.‏ فلمـا نزلـوا قديـد وكانـوا مترفيـن ليسـوا بأصحاب حرب فطلع عليهم أصحاب أبـي حمـزة مـن الغيـاض فأثخنـوا فيهم وكان قتلاهم نحو سبعمائة من قريش‏.‏ وبلغ الخبر إلى عبد الواحد فلحق بالشام‏.‏ ودخل أبو حمزة المدينة منتصف صفر سنة ثلاثين وخطب على المنبر وأعلـن بدعوته ووعظ وذكر ورد مقالات من عابهم وسفه رأيهم وأحسن السيرة في أهل المدينة واستمالهـم حتـى سمعـوه يقـول‏:‏ مـن زنـا فهـو كافـر ومـن سرق فهو كافر وأقام ثلاثة أشهر ثم ودعهم وسار نحو الشام‏.‏ وكان مروان قد سرح إليهم عبد الملك بن محمد بن عطية بن هوازن في أربعة آلاف ليقاتل الخوارج حتى يبلغ اليمن فلقي أبا حمزة في وادي القرى فانهزمت الخوارج وقتل أبو حمزة ولحق فلهـم بالمدينـة‏.‏ وسـار عطيـة فـي أثرهـم إلـى المدينـة فأقـام بهـا شهـراً‏.‏ ثـم سـار إلـى اليمـن واستخلـف علـى المدينـة الوليـد ابـن أخيـه عـروة وعلـى مكة رجلاً من أهل الشام‏.‏ وبلغ عبد الله طالب الحق مسيره إليه وهو بصنعاء فخرج للقائه واقتتلوا وقتل طالب الحق وسار ابن عطية إلى صنعاء وملكها وجاء كتاب مروان بإقامة الحج بالناس فسار في اثني عشر رجلاً ومعه أربعون ألف دينـار وخلـف ثقلـه بصنعـاء ونـزل الحـرف فاعترضـه ابـن حمايـة المرادي في جمع وقال له ولأصحابه‏:‏ أنتـم لصـوص فاستظهروا بعهد مروان فكذبوه وقاتلهم فقتلوه‏.‏ وركد ريح الخوارج من يومئذ إلى أن ظهرت الدولة العباسية وبويع المنصور بعد السفاح‏.‏ فخـرج سنـة سبـع وثلاثيـن بالجزيـرة ملبـد بن حرملة الشيباني فسارت إليه روابط الجزيرة في ألف فـارس فهزمهم وقاد منهم‏.‏ ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلبي ومهلل بن صفوان مولى المنصور ثم نزار من قواد خراسان ثم زياد بن مسكان ثم صالح بن صبيح فهزمهم كلهم واحدا بعد واحـد وقتل منهم‏.‏ ثم سار إليه حميد بن قحطبة وهو عامل الجزيرة فهزمه وتحصن حميد منه فبعـث المنصـور عبـد العزيـز بـن عبد الرحمن أخا عبد الجبار في الجيوش ومعه زياد بن مسكان فأكمـن لـه الملبـد وقاتلهم ثم خرج الكعبين فانهزم عبد العزيز وقتل عامة أصحابه فبعث المنصور حـازم بـن خزيمـة فـي ثمانيـة آلـاف مـن أهـل خراسـان فسـار إلـى الموصـل وعبـر إليه الملبد دجلة فقاتله فانهزم أهل الميمنة وأهل الميسرة من أصحـاب حـازم وترجـل حـازم وأصحابـه وترجـل ملبـد كذلك‏.‏ وأمـر حازم أصحابه فنضحوهم بالنبل واشتد القتال وتزاحفت الميمنة والميسرة ورشقوهم فقتل ملبـد فـي ثمانمائـة ممـن ترجـل معه وثلاثمائة قبل أن يترجل وتبعهم فضالة صاحب الميمنة فقتل منهم زهـاء مائـة وخمسيـن‏.‏ ثـم خـرج سنـة ثمـان وأربعين أيام المنصور بنواحي الموصل حسان بن مخالد بـن مالـك بـن الأجـدع الهمدانـي أخـو مسـروق‏.‏ وكـان علـى الموصل الصفر بن يجدة وليها بعد حرب ابـن عبـد اللـه فسـار إليهـم فهزمـوه إلـى الدجلـة‏.‏ وسـار حسـان إلـى العمـال ثم إلى البحر وركب إلى السنـد وقاتـل وكاتـب الخوارج بعمان يدعوهم ويستأذنهم في اللحاق بهم فأبوا وعاد إلى الموصل فخرج إليه الصفر بن الحسن بن صالح بن جنادة الهمذاني وهلال فقتل هلالاً واستبقى ابن الحسن فاتهمه بعض أصحابه بالعصبية وفارقوه‏.‏ وقد كان حسـان أمـه مـن الخـوارج وخالـه حفـص بـن أشتـم مـن فقهائهـم‏.‏ ولمـا بلغ المنصور خروجه قال خارجي من همذان فقيل له إنه ابن أخت حفص بن أشتم قال من هناك وإنما أنكر المنصور ذلك لأن عامة همذان شيعة‏.‏ وعزم المنصور على الفتك بأهل الموصل فإنهم عاهدوه على أنهم إن خرجوا فقد فلت ديارهم وأموالهـم وأحضـر أبـا حنيفـة وابـن أبـي ليلـى بـن شبرمـة واستفتاهـم فتلطفـوا له في العفو فأشار إلى أبـي حنيفـة فقـال‏:‏ أباحـوا مـا لا يملكـون كمـا لو أباحت امرأة فزوجها بغير عقد شرعي فكف عن أهل الموصل‏.‏ ثم خرج أيام المهدي بخراسان يوسف بن إبراهيم المعروف بالبرة واجتمع بشركس فبعث إليه المهدي يزيد بن مزيد الشيباني ابن أخي معن فاقتتلوا قتالاً شديداً وأسره يزيد وبعث به إلى المهدي موثقاً وحمل من النهروان على بعير وحول وجهه إلى ذنبه كذلك فدخلوا إلى الرصافة وقطعوا ثم صلبوا‏.‏ وكان حروباً متعوداً فغلب على بوشنج ومرو الروذ والطالقان والجوزجان وكان على بوشنج مصعب بن زريق جد طاهر بن الحسين فهرب منه وكان من أصحابه معاذ الفارياني وقبض معـه‏.‏ ثـم خـرج معـه أيـام المهـدي بالجزيـرة حمـزة بـن مالـك‏.‏ الخزاعـي سنة تسع وستين وهزم منصور بن زياد وصاحب الخراج وقوي أمره ثم اغتاله بعض أصحابه فقتله‏.‏ ثـم خـرج آخـر أيـام المهـدي بـأرض الموصـل خارجـي مـن بنـي تميـم اسمـه ياسيـن يميـل إلى مقاتلة صالح بن مسرح فهزم عسكر الموصل وغلب على أكثر ديار ربيعة والجزيرة فبعث إليها المهدي القائد أبا هريرة محمـد بـن مـروخ وهزيمـة بـن أعيـن مولـى بنـي ضبـة فحاربـاه حتـى قتـل فـي عـدة مـن أصحابـه وانهـزم الباقـون‏.‏ ثـم خـرج بالجزيـرة أيـام الرشيـد سنـة ثمان وسبعين الوليد بن طريف من بني تغلب وقتـل إبراهيـم بـن خالـد بـن خزيمـة بنصيبيـن ثـم دخل أرمينية وحاصر خلاط عشرين يوماً وافتدوا بثلاثيـن ألفـاً ثـم سـار إلـى أذربيجـان ثـم إلـى حلـوان وأرض السـواد وعبـر إلـى غـرب دجلـة وعـاث فـي أرض الجزيـرة فبعـث إليـه الرشيـد يزيـد بـن مزيـد بـن زائـدة الشيبانـي وهـو ابن أخي معن في العساكر فمكث يقاتله وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد فأغروا به الرشيد وأنه أبقى على الوليد برجم وائل‏.‏ فكتـب إليـه الرشيـد يتهـدده فناجـزه يزيـد الحـرب فـي رمضـان سنـة تسـع وسبعيـن وقاتلهـم قتـالاً شديداً فقتل الوليد وجيء برأسه‏.‏ ثم أصبحـت أختـه مستلئمـة للحـرب فخـرج إليهـا يزيـد وضربهـا علـى رأسهـا بالرمـح وقـال لها‏:‏ أعدي فقد فضحت العشيرة فاستحيت وانصرفت وهي تقول في رثائه الأبيات المشهورة التي منها‏:‏ فتىً لا يحب الزاد إلا من التقى ولا المـال إلا مـن قنـاً وسيـوف وانقرضت كلمة هؤلاء بالعراق والشام فلم يخرج بعد ذلك إلا شذاذ متفرقون يستلحمهم الولاة بالنواحي إلا ما كان من خوارج البربر بأفريقية فإن دعوة الخارجية فشت فيهم من لدن مسيرة الظفري سنة ثلاث وعشرين ومائة‏.‏ ثم فشت دعوة الإباضية والصفرية منهم في هوارة ولماية ونفزة ومغيلة وفي مغراوة وبني يفرن من زناتة حسبما يذكر في أخبار البربر لسي رستم من الخـوارج بالمغـرب دولة في تاهرت من الغرب الأوسط نذكرها في أخبار البربر أيضاً‏.‏ ثم سار بإفريقيـة منهـم علـى دولـة العبيدييـن خلفـاء لقيـروان أبـو يزيـد بـن مخلـد المغربي وكانت له معهم حروب وأخبار نذكرها في موضعها‏.‏ ثـم لـم يـزل أمرهـم فـي تناقـص إلـى أن اضمحلـت ديانتهـم وافترقت جماعتهم وبقيت آثار نحلتهم في أعقاب البربر الذين دانوا بها أول الأمر‏.‏ ففي بلاد زناتة بالصحراء منها أثر باق لهذا العهد في قصـور ربع وواديه وفي مغراوة من شعوب زناتة يسمون الراهبية نسبة إلى عبد الله بن وهب الراهبـي أول مـن بويـع منهم أيام علي بن أبي طالب‏.‏ وهم في قصور هنالك مظهرين‏.‏ لبدعتهم لبعدهم عن مقال أهل السنة والجماعة‏.‏ وكذلك في جبال طرابلس وزناتة أثر باق من تلك النحلة يدين بها أولئك البربر في المجاورة لهم مثل ذلك‏.‏ وتطير إلينا هذا العهد من تلك البلاد دواوين ومجلدات من كلامهم في فقه الدين وتمهيد عقائده وفروعه مباينة لمناحي السنة وطرقها بالكلية إلا أنها ضاربة بسهم في إجادة التأليف والترتيب وبناء الفروع على أصولهم الفاسدة‏.‏ وكان بنواحي البحرين وعمان إلى بلاد حضرموت وشرقي اليمن ونواحي الموصل آثار تفشي وعـروق فـي كـل دولـة إلـى أن خـرج علـي بـن مهـدي مـن خولـان باليمـن ودعـا إلـى هـذه النحلـة‏.‏ وغلب يومئذ من كان من الملوك باليمن واستلحم بني الصليحي القائمين بدعوة العبيديين من الشيعة وغلبوهـم على ما كان بأيديهم من ممالك اليمن واستولوا أيضاً على زبيد ونواحيها من يد موالي بنـي نجـاح ومولـى ابـن زيـاد كمـا نذكـر ذلـك كلـه فـي أخبارهم إن شاء الله سبحانه وتعالى فلتصفح فـي أماكنها‏.‏ ويقال‏:‏ إن باليمن لهذا العهد شيعة من هذه الدعوة ببلاد حضرموت والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:43 PM

الدولة الإسلامية بعد افتراق الخلافة
م يـزل أمـر الإسلـام جميعاً دولةً واحدةً أيام الخلفاء الأربعة وبني أمية من بعدهم لاجتماع عصبية العـرب‏.‏ ثـم ظهـر مـن بعـد ذلـك أمـر الشيعـة وهـم الدعـاة لأهـل البيـت فغلب دعاة بني العباس على الأمـر واستقلـوا بخلافة الملك ولحق الفل من بني أمية بالأندلس فقام بأمرهم فيها من كان هنالك مـن مواليهم ومن هرب فلم يدخلوا في دعوة بني العباس وانقسمت لذلك دولة الإسلام بدولتين لافتـراق عصبيـة العـرب‏.‏ ثـم ظهـر دعـاة أهـل البيـت بالمغـرب والعـراق مـن العلوية ونازعوا خلفاء بني العباس واستولوا على القاصية من النواحي كالأدارسة بالمغرب الأقصـى والعبيديـن بالقيـروان ومصر والقرامطة بالبحرين والدواعي بطبرستان والديلم والأطروش فيها من بعده‏.‏ وانقسمت دولة الإسلام بذلك دولاً متفرقة نذكرهـا واحـدة بعـد واحـدة‏.‏ ونبـدأ منهـا أولاً بذكـر الشيعـة ومبادىء دولهم وكيـف انساقـت إلـى العباسيـة ومـن بعدهـم إلـى آخـر دولهـم‏.‏ ثـم نرجـع إلـى دولـة بنـي أمية بالأندلس‏.‏ ثم نرجع إلى دولة الدعاة للدولة العباسية في النواحي من العرب والعجم كما ذكرناه في برنامج الكتاب والله الموفق الصواب‏.‏

مبدأ دولة الشيعة
اعلم أن مبدأ هذه الدولة أن أهل البيت لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرون أنهـم أحـق بالأمر وأن الخلافة لرجالهم دون من سواهم من قريش‏.‏ وفي الصحيح أن العباس قال لعلـي فـي وجـع رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم الـذي توفـي فيـه اذهب بنا إليه نسأله فيمن هذا الأمر إن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا‏.‏ فقال علي إن منعناها لا يعطيناهـا النـاس بعـده‏.‏ وفـي الصحيـح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الـذي توفـي فيـه‏:‏ هلمـوا أكتـب لكـم كتابـاً لـن تضلـوا بعـده أبـداً فاختلفـوا عنـده فـي ذلـك وتنازعـوا ولـم يتـم الكتـاب‏.‏ وكـان ابـن عبـاس يقـول‏:‏ إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلـم وبيـن ذلـك الكتـاب لاختلافهـم ولغطهـم حتـى لقـد ذهـب كثيـر مـن الشيعة إلى أن النبي صلى اللـه عليـه وسلـم أوصى في مرضه ذلك لعلي ولم يصح ذلك من وجه يعول عليه‏.‏ وقد أنكرت هذه الوصية عائشة وكفى بإنكارها‏.‏ وبقي ذلك معروفاً من أهل البيت وأشياعهم‏.‏ وفيما نقله أهل الآثار أن عمـر قـال يومـاً لابـن العبـاس‏:‏ إن قومكـم يعنـي قريشـاً مـا أرادوا أن يجمعـوا لكـم يعنـي بنـي هاشـم بيـن النبـوة والخلافة فتحموا عليهم وأن ابن عباس نكر ذلك وطلب مـن عمـر إذنـه فـي الكلـام فتكلـم بمـا عصـب لـه‏.‏ وظهـر مـن محاورتهمـا أنهم كانوا يعلمون أن في نفوس أهـل البيـت شيئـاً مـن أمـر الخلافـة والعـدول عنهـم بهـا‏.‏ وفـي قصـة الشـورى‏:‏ أن جماعة من الصحابة كانـوا يتشيعـون لعلي ويرون استحقاقه على غيره ولما عدل به إلى سواه تأففوا من ذلك وأسفوا لـه‏:‏ مثـل الزبيـر ومعـه عمـار بـن ياسـر والمقداد بن الأسود وغيرهم‏.‏ إلا أن القوم لرسوخ قدمهم في الدين وحرصهم على الإلفة لم يزيدوا في ذلك على النجوى بالتأفف والأسف‏.‏ ثم لما فشا التكبر على عثمان والطعن في الآفاق كان عبد الله بن سبأ ويعرف السوداء من أشد الناس خوضاً في التشنيع لعلي بما لا يرضاه من الطعن على عثمان وعلى الجماعة في العدول إليه عن علي وأنه ولي بغير حق فأخرجه عبد الله بن عامر من البصرة ولحق بمصر‏.‏ فاجتمع إليه جماعة من أمثاله جنحوا إلى الغلو في ذلك وانتحال المذاهب الفاسدة فيه‏:‏ مثل خالد بن ملجم وسوذان بن حمدان وكنانة بن بشر وغيرهم‏.‏ ثـم كانـت بيعـة علـي وفتنـة الجمـل وصفيـن وانحـراف الخـوارج عنه بما أنكروا عليه من التحكيم في الديـن‏.‏ وتمحضـت شيعتـه للاستماتـة معـه فـي حـرب معاوية مع علي ابنه الحسن وخرج عن الأمر لمعاوية فسخط ذلك شيعة علي منه وأقاموا يتناجون في السر باستحقاق أهل البيت والميل إليهم وسخطوا من الحسن ما كان منه وكتبوا إلى الحسين بالدعاء له فامتنع وأوعدهم إلى هلاك معاوية‏.‏ فسـاروا إلـى محمـد بـن الحنفيـة وبايعـوه فـي السـر علـى طلـب الخلافـة متـى أمكنـه وولـى على كل بلد رجلاً وأقاموا على ومعاوية يكف بسياسته من غربهم ويقتلع الداء إذا تعين له منهم كما فعل بن عدي وأصحابه ويروض من شماس أهل البيت ويسامحهم في دعوى تقدمهم واستحقاقهم‏.‏ ولا يهيج أحداً منهم بالتثريب عليه في ذلك‏.‏ إلى أن مات وولي يزيد وكان من خروج الحسين وقتله ما هو معروف فكانت من أشنع الوقائع فـي الإسلـام‏.‏ عظمـت بهـا الشحنـاء وتوغـل الشيعـة فـي شأنهـم وعظـم النكيـر والطعـن علـى من تولى ذلـك أو قعـد عنـه‏.‏ ثـم تلاومـوا علـى مـا أضاعـوه مـن أمـر الحسيـن وأنهم دعوه ثم لم ينصروه فندموا ورأوا أن لا كفـارة فـي ذلـك إلا الاستماتـة دون ثـأره وسمـوا أنفسهـم التوابيـن‏.‏ وخرجـوا لذلك يقدمهم سليمان بن صرد الخزاعي ومعه جماعة من خيار أصحاب علي‏.‏ وكان ابن زياد قد انتقض عليه العراق ولحق بالشام وجمع وزرينج قاصد العراق فزحفوا إليه وقاتلوه حتى قتل سليمـان وكثيـر مـن أصحابـه كمـا ذكرنـا فـي خبـره وذلك سنة خمس وستين‏.‏ ثم خرج المختار بن أبـي عبيـد ودعـا لمحمـد بـن الحنفيـة كمـا قدمناه في خبره وفشا التعصب لأهل البيت في الخاصة والعامة بما خرج عن حدود الحق واختلفت مذاهب الشيعة فيمن هو أحق بالأمر من أهل البيت وبايعت كل طائفة لصاحبها سراً ورسخ الملك لبني أمية‏.‏ وطوى هؤلاء الشيعة قلوبهم على عقائدهم فيها وتستروا بها مع تعدد فرقهم وكثرة اختلافهم كمـا ذكرنـاه عنـد نقـل مذاهبهـم فـي فصـل الإمامـة مـن الكتـاب الـأول‏.‏ ونشأ زيد بن علي بن الحسين وقـرأ علـى واصـل بـن عطـاء إمـام المعتزلـة فـي وقتـه وكـان واصـل متردداً في إصابة علي في حرب صفيـن والجمـل فنقـل ذلـك عنـه‏.‏ وكـان أخـوه محمـد الباقـر يعذلـه فـي الأخذ عمن يرى سخطية جده وكـان زيـد أيضـاً مع قوله بأفضلية علي على أصحابه يرى أن بيعة الشيخين صحيحة وأن إقامة المفضول جائزة خلاف ما عليه الشيعة ويرى أنهما لم يظلما علياً‏.‏ ثـم دعتـه الحـال إلى الخروج بالكوفة سنة إحدى وعشرين ومائة‏:‏ واجتمع له عامة الشيعة ورجع عنـه بعضهـم لمـا سمعـوه يثنـي علـى الشيخيـن وأنهمـا لـم يظلمـا عليـاً‏.‏ وقالـوا لـم يظلمـك هـؤلاء ورفضوا دعوتـه فسمـوا الرافضـة مـن أجل ذلك‏.‏ ثم قاتل يوسف بن عمر فقتله يوسف وبعث برأسه إلى هشـام وصلـب شلـوه بالكناسـة ولحـق ابنـه يحيـى بخراسـان فأقام بها‏.‏ ثم دعته شيعته إلى الخروج فخرج هنالك سنة خمس وعشرين وسرح إليه نصر بن سيار العساكر مع سالم بن أحور المازني فقتلوه وبعث برأسه إلى الوليد وصلب شلوه بالجوزجان وانقرض شأن الزيدية‏.‏ وأقام الشيعـة علـى شأنهـم وانتظـار أمرهـم والدعـاء لهـم فـي النواحي يدعون على الأحجال للرضا من آل محمد ولا يصرحون بمن يدعون له حذراً عليه من أهل الدولة‏.‏ وكان شيعة محمد بن الحنفية أكثر شيعة أهل البيت وكانوا يرون أن الأمر بعد محمد بن الحنفية لابنه أبي هشام عبد الله‏.‏ وكـان كثيـراً مـا يغـدو علـى سليمـان بن عبد الملك فمر في بعض أسفاره محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بمنزله بالحميمة من أعمال البلقاء فنزل عليه وأدركه المرض عنده فمات وأوصى لـه بالأمـر‏.‏ وقـد كـان أعلـم شيعتـه بالعـراق وخراسان أن الأمر صائر إلى ولده محمد بن علي هذا فلمـا مـات قصدت الشيعة محمد بن علي وبايعوه سراً وبعث الدعاة منهم إلى الآفاق على رأس مائة من الهجرة أيام عمر بن عبد العزيز وأجابه عامة أهل خراسان‏.‏ وبعث عليهم النقبـاء وتداول أمرهم هنالك‏.‏ وتوفي محمد سنة أربع وعشرين وعهد لابنه إبراهيم وأوصى الدعاة بذلـك وكانـوا يسمونـه الإمـام‏.‏ ثم بعث أبو مسلم إلى أهل دعوته بخراسان ليقوم فيهم بأمره فهلك وكتـب إليهـم بولايتـه‏.‏ ثـم قبـض مـروان بـن محمـد علـى إبراهيـم الإمـام وحبسه بخراسان فهلك هنالك لسنـة‏.‏ وملـك أبـو مسلـم خراسـان وزحف إلى العراق فملكها كما ذكرنا ذلك كله من قبل وغلبوا بني أمية على أمرهم وانقرضت دولتهم‏.‏

الخبر عن بني العباس من دول الإسلام
في هذه الطبقة الثالثة للعرب وأولية أمرهم وإنشاء دولتهم والإلمام بنكت أخبارهم وعيون أحاديثهم هذه الدولة من دولة الشيعة كما ذكرناه وفرقها منهم يعرفون بالكيسانية وهم القائلون بإمامـة محمـد بـن علـي بـن الحنفيـة بعـد علـي ثـم بعـده إلـى ابنـه أبـي هشـام عبـد اللـه‏.‏ ثـم بعـده إلـى محمـد بن علي بن عبـد اللـه بـن عبـاس بوصيتـه كمـا ذكرنـا‏.‏ ثـم بعـده إلـى ابنـه إبراهيـم الإمـام ابـن محمـد ثـم بعـده إلـى أخيـه أبـي العبـاس السفاح وهو عبد الله بن الحارثية‏.‏ هكذا مساقها عند هؤلاء الكيسانية ويسمـون أيضـا الحرماقيـة نسبـة إلى أبي مسلم لأنه كان يلقب بحرماق‏.‏ ولبني العباس أيضاً شيعة يسمون الراوندية من أهل خراسان يزعمون أن أحق الناس بالإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو العباس لأنه وارثه وعاصبه لقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏.‏ وإن الناس منعوه من ذلك وظلموه إلى أن رده الله إلى ولده ويذهبون إلى البراءة من الشيخين وعثمـان ويجيـزون بيعـة علـي لـأن العبـاس قـال لـه يـا ابـن أخـي هلم أبايعك فلا يختلف عليك اثنان‏.‏ ولقـول داود بـن علـي عـم الخليفـة العباسـي علـى منبـر الكوفـة يـوم بويع السفاح‏:‏ يا أهل الكوفة إنه لم يقـم فيكـم إمـام بعـد رسـول الله صلى الله عليه وسلم إلا علي بن أبي طالب وهذا القائم فيكم يعني السفاح‏.‏

دولة السفاح
قد تقدم لنا كيف كان أصل هذه الدعوة وظهورها بخراسان على يد أبي مسلم ثم استيلاء شيعتهـم علـى خراسـان والعـراق ثم بيعة السفاح بالكوفة سنة ثلاث وثلاثين ومائة ثم قتل مروان بـن محمـد وانقراض الدولة الأموية‏.‏ ثم خرج بعض أشياعهم وقوادهم وانتقضوا على أبي العباس السفاح وكان أول من انتقض حبيب بن مرة المري من قواد مروان وكان بخولان والبلقاء خاف علـى نفسـه وقومـه فخلـع وبيـض ومعنـاه لبـس البيـاض ونصـب الرايـات البيـض مخالفـة لشعـار العباسية في ذلك‏.‏ وتابعته قيس ومن يليهم والسفاح يومئذ بالحيرة بلغه أن أبا الورد مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابي انتقض بقنسرين وكان من قواد مروان‏.‏ ولما انهزم مروان وقدم عليه عبد الله بن علي بايعه ودخل في دعوة العباسية وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس والناعورة فعبث بهم وبنسائهم القائد الذي جاءهم من قبل عبد الله بن علي‏.‏ وشكوا ذلك إلى أبي الورد فقتل القائد وخلع معه أهل قنسرين وكاتبوا أهل حمص في الخلاف وقدموا عليهم أبا محمد عبد الله بن يزيد بن معاوية وقالوا هو السفياني الذي يذكر‏.‏ ولما بلغ ذلك عبد الله بن علي وادع حبيـب بـن مـرة وسـار إلـى أبـي الـورد بقنسريـن ومـر بدمشق فخلف بها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي الطائي في أربعة آلاف فارس مع حرمه وأثقاله وسار إلى حمص فبلغه أن أهل دمشق خلعوا وبيضوا وقام فيهم بذلك عثمان بن عبد الأعلـى بـن سراقـة الأزدي‏.‏ وأنهم هزموا أبا غانم وعسكره وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وانتهبوا ما خلف عندهم فأعرض عن ذلك وسار للقاء السفياني وأبي داود وقدم أخاه عبد الصمد في عشرة آلاف فكشف ورجع إلى أخيه عبد الله منهزماً‏.‏ فزحف عبد الله في جماعة القواد ولقيهـم بمـرج الأحـزم وهـم في أربعين ألفاًً فانهزموا وثبت أبو الورد في خمسمائة من قومه فقتلوا جميعاً‏.‏ وهرب أبو محمد إلى ترمذ وراجع أهل قنسرين طاعة العباسية ورجع عبد الله بن علي إلى قتال أهل دمشق ومن معهم‏.‏ فهرب عثمان بن سواقة ودخل أهل دمشق في الدعوة وبايعوا لعبـد اللـه بـن علـي‏.‏ ولـم يـزل أبـو محمـد السفيانـي بـأرض الحجـاز متغيبـاً إلـى أيام المنصور فقتله زياد بـن عبـد اللـه الحارثـي عامـل الحجـاز يومئـذ وبعـث برأسـه إلـى المنصـور مـع ابنيـن له أسيرين فأطلقهما المنصور‏.‏ ثم خلع أهل الجزيرة وبيضوا وكان السفاح قد بعث إليهم ثلاثة آلاف من جنده مع موسى بن كعـب من قواده وأنزلهم بحران وكان إسحاق بن مسلم العقيلي عامل مروان على أرمينية‏.‏ فلما بلغته هزيمة مروان سار عنها واجتمع إليه أهـل الجزيـرة وحاصـروا موسـى بـن كعـب بحـران شهرين فبعث السفاح أخاه أبا جعفـر إليهـم وكـان محاصـراً لابـن هبيـرة بواسـط فسـار لقتـال إسحاق بن مسلم ومر بقرقيسيا والرقة وأهلهما قد خلعوا وبيضوا‏.‏ وسار نحو حران فأجفل إسحاق بن مسلم عنها ودخل الرها وبعث أخاه بكار بن مسلم إلى قبائل ربيعة بنواحي ماردين ورئيسهم يومئذ برمكة من الحرورية فصمد إليهم أبو جعفر فهزمهم وقتل برمكة في المعركة وانصرف بكار إلى أخيه إسحاق فخلفه بالرها وسار إلى شمشاط بمعظم عسكره‏.‏ وجـاء عبـد اللـه بن علي فحاصره ثم جاء أبو جعفر فحاصروه سبعة أشهر وهو يقول‏:‏ لا أخلع البيعة من عنقي حتى أتيقن موت صاحبها‏.‏ ثم تيقن موت مروان فطلب الأمـان واستأذنـوا السفاح فأمرهم بتأمينه وخرج إسحاق إلى أبي جعفر فكان من مآثر أصحابه‏.‏ واستقام أهل الجزيرة والشام وولى السفاح أخاه أبو جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان فلم يزل عليها حتى استخلف‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 08:44 PM

حصار ابن هبيرة بواسط ومقتله
ثم تقدم لنا هزيمة يزيد بن هبيرة أمام الحسن بن قحطبة وتحصنه بواسط وكان جويرة وبعض أصحابـه أشـاروا عليـه بعـد الهزيمـة اللحـاق بالكوفـة فأبى‏.‏ وأشار عليه يحيى بن حصين باللحاق بمروان وخوفه عاقبة الحصار فأبى خشية على نفسه من مروان واعتصم بواسط‏.‏ وبعث أبو مسلمة الحسن بن قحطبة فـي العسكـر لحصـاره وعلـى ميمنتـه ابنـه داود فانهـزم أهـل الشـام واضطـروا إلـى دجلـة وغـرق منهـم كثير‏.‏ ثم تحاجزوا ودخل ابن هبيرة المدينة وخرج لقتالهم ثانية بعـد سبعـة أيـام فانهـزم كذلـك ومكثوا أياماً لا يقتتلون إلا رمياً‏.‏ وبلغ ابن هبيرة أن أبا أمية الثعلبي قـد سود فحبسه فغضبت لذلك ربيعة ومعن بن زائدة وحبسوا ثلاثة نفر من فزارة رهناً في أبـي أميـة‏.‏ واعتـزل معـن وعبـد اللـه بـن عبـد الرحمـن بـن بشيـر العجلـي فيمـن معهما فخلى ابن هبيرة سبيل أبي أمية وصالحهم وعادوا إلى اتفاقهم‏.‏ ثـم قـدم علـى الحسـن بن قحطبة من ناحية سجستان أبو نصر مالك بن الهيثم فأوفد غيلان بن عبد الله الخزاعي على السفاح يخبره بقدوم أبي نصر وكان غيلان واجداً على الحسن فرغب من السفاح أن يبعث عليهم رجلاً من أهل بيته‏.‏ فبعث أخاه أبا جعفر وكتب إلى الحسن‏:‏ العسكر لك والقواد قوادك ولكن أحببت أن يكون أخي حاضراً فأحسن طاعته ومؤازرته‏.‏ وقـدم أبـو جعفـر فأنزلـه الحسـن فـي خيمتـه وجعـل علـى حرسـه عثمـان بن نهيك‏.‏ ثم تقدم مالك بن الهيثـم لقتـال أهـل الشـام وابـن هبيـرة‏.‏ فخرجـوا لقتالـه وأكمنـوا معـن بـن زائـدة وأبا يحيى الجرافي‏.‏ ثم استطردوا لابن الهيثم وانهزموا للخنادق‏.‏ فخرج عليهم معن وأبو يحيـى فقاتلوهـم إلـى الليـل وتحاجزوا وأقاموا بعد ذلك أياماً‏.‏ ثم خرج أهـل واسـط مـع معـن ومحمـد بـن نباتـة فهزمهـم أصحـاب الحسـن إلـى دجلـة فتساقطـوا فيها‏.‏ وجاء مالك بن الهيثم فوجد ابنه قتيلاً في المعركة فحمل على أهل واسط حتى أدخلهم المدينة‏.‏ وكان مالك يملأ السفن حطباً ويضرمها ناراً فتحرق ما تمر به فيأمر ابن هبيرة بأن تجر بالكلاليب ومكثوا كذلك أحد عشر شهراً‏.‏ وجاء إسماعيل بن عبد الله القسري إلى ابن هبيرة بقتل مروان وفشلت اليمانية عن القتال معهـم وتبعهم الفزارية فلم يقاتل معه إلا الصعاليك‏.‏ وبعث ابن هبيرة إلى محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بأن يبايع له فأبطأ عنه جوابه وكاتب السفاح اليمانية من أصحاب ابن هبيرة وأطمعهـم‏.‏ فخـرج إليـه زيـاد بـن صالـح وزيـاد بـن عبيـد اللـه الحرثيـان ووعـدا ابـن هبيرة أن يصلحا له جهـة السفـاح ولـم يفعـلا‏.‏ وتـردد الشعـراء بيـن أبـي جعفـر وابـن هبيـرة فـي الصلـح وأن يكتب له كتاب أمان على ما اختاره ابن هبيرة وشاور فيه العلماء أربعين يوماً حتى رضيه وأنفذه إلى أبي جعفر فأنفذه إلى السفاح وأمر بإمضائه وكان لا يقطع أمراً دون أبي مسلم‏.‏ فكتب إليه يحيى بـن هبيـرة قـد خرج بعد الأمان إلى أبي جعفر في ألف وثلاثمائة فلقيه الحاجب سلام بن سليم فأنزله وأجلسه على وسادة وأطاف بحجرة أبي جعفر عشرة آلاف من أهل خراسان‏.‏ ثم أذن لابن هبيرة فدخل على المنصور وحادثه وخرج عنه ومكث يأتيه يوماً ويغبه يوماً‏.‏ ثم أغـرى أبـا جعفـر أصحابـه بأنـه يأتـي فـي خمسمائـة فـارس وثلاثمائـة راجـل فيهتـز لـه العسكـر‏.‏ فأمـر أبو جعفر أن يأتي في حاشيته فقط‏.‏ فكان يأتي في ثلاثيـن ثـم آخـراً فـي ثلاثـة‏.‏ ثـم ألـح السفـاح علـى أبـي جعفـر فـي قتلـه وهـو يراجعـه للأمـان الـذي كتب له حتى كتب إليه السفاح‏:‏ والله لتقتلنه أو لأبعثن مـن يخرجـه مـن حجرتـك فيقتلـه‏.‏ فبعث أبو جعفر إلى وجوه القيسية والمضرية وقد أعد لهم ابن نهيك في مائة من الخراسانية في بعض حجره‏.‏ وجاء القوم في اثنين وعشرين رجلاً يقدمهم محمد بن نباتة وجويرة بن سهيل فدعاهم سلام الحاجـب رجليـن رجليـن وعثمـان ابـن نهيك يقيدهما إلى أن استكملهم وبعث أبو جعفر لحازم بن خزيمـة والهيثـم بـن شعبـة فـي مائـة إلـى ابـن هبيـرة فقالوا نريد حمل المال فدلهم حاجبه على الخزائن فأقاموا عندها الرجال وأقبلوا نحوه فقام حاجبه في وجوههم‏.‏ فضربه الهيثم فصرعه وقاتل ابنـه داود فقتـل فـي جماعـة مـن مواليـه‏.‏ ثـم قتـل ابـن هبيـرة آخراً وحملت رؤوسهم إلى أبي جعفر‏.‏ ونادى بالأمان للناس إلا الحكم بن عبد الملك أبي بشر وخالد بن مسلمة المخزومي وعمر بن در فهرب الحكم وأمن أبو جعفر خالداً فلم يجز السفاح أمانة وقتله واستأمن زياد بن عبيد الله لابن در فأمنه‏.‏

مقتل أبي مسلمة بن الخلال وسليمان بن كثير
قد تقدم لنا ما كان من أبي مسلمة الخلال في أمر أبي العباس السفاح واتهام الشيعة في أمره وتغير السفاح عليـه وهـو بعكـوة أعيـن ظاهـر الكوفـة‏.‏ ثـم تحـول إلـى مدينـة الهاشميـة ونـزل قصرهـا وهـو يتنكـر لأبـي مسلمـة وكتـب إلـى أبـي مسلـم ببغيتـه وبرأيه فيه فكتب إليه أبو مسلم بقتله‏.‏ وقال له داود بـن علـي‏:‏ لا تفعـل‏.‏ فيحتـج بهـا أبـو مسلـم عليـك والذيـن معك أصحابه وهم له أطوع‏.‏ ولكن اكتـب إليـه يبعـث من يقتله ففعل‏.‏ وبعث أبو مسلم مرار بن أنس الضبي فقتله‏.‏ فلما قدم نادى السفـاح بالرضـا عـن أبـي مسلمـة ودعـا بـه وخلـع عليه‏.‏ ثم دخل عنده ليلة أخرى فسهر عامة ليله ثم انصرف إلى منزله فاعترضه مرار بن أنس وأصحابه فقتلوه وقالوا قتله الخوارج‏.‏ وصلى عليه من الغد يحيى أخو السفاح وكان يسمى وزير آل محمد وأبو مسلم أمير آل محمد‏.‏ وبلغ الخبـر إلى أبي مسلم وسرح سليمان بن كثير بالنكير لذلك فقتله أبو مسلم وبعث على فارس محمد بن الأشعث وأمره أن يقتل ابن أبي مسلمة ففعل‏.‏

عمال السفاح
ولما استقام الأمر للسفاح ولى على الكوفة والسواد عمه داود بن علي ثم عزله وولاه على الحجـاز واليمن واليمامة وولى مكانه على الكوفة عيسى ابن أخيه موسى بن محمد‏.‏ ثم توفي داود سنة ثلاث وثلاثين فولى مكانه على الحجاز واليمامة خالد بن زياد بن عبيد الله وعلى اليمن محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد‏.‏ وولى السفاح على البصرة سفيان بن معاوية المهلبي ثم عزله وولى مكانه عمه سليمان بن علي وأضاف إليه كور دجلة والبحرين وعمان‏.‏ وولـى عمـه إسماعيـل بـن علي الأهواز وعمه عبد الله بن علي على الشام وأبا عون عبد الملك بـن يزيـد علـى مصـر‏.‏ وأبـا مسلـم علـى خراسـان وبرمـك علـى ديـوان الخراج‏.‏ وولى عمه عيسى بن علـي علـى فـارس فسبقـه إليهـا محمـد بـن الأشعـث مـن قبـل أبـي مسلم‏.‏ فلما قدم عليه عيسى هم محمد بقتله وقال‏:‏ أمرني أبو مسلم أن أقتل من جاءني بولاية من غيره‏.‏ ثم أقصر عن قتله وأستحلفه بأيمان لا مخارج لها أن لا يعلو منبراً ما عاش ولا يتقلد سيفاً إلا في جهـاد فوفـى عيسى بذلك بقية عمره‏.‏ واستعمل بعده على فارس عمه إسماعيل بن علي واستعمل على الموصل محمد بن صـول فطرده أهلها وقالوا‏:‏ بل علينا تولى خثعم وكانوا منحرفين عن بني العباس فاستعمل السفاح عليهم أخـاه يحيـى وبعثـه فـي اثنـي عشـر ألفـاً فنـزل قصـر الإمـارة وقتـل منهـم اثنـي عشـر رجـلاً فثـاروا به وحمل السلاح فنودي فيهم بالأمان لمن دخل المسجد الجامع فتسايل الناس عليه وقد أقام الرجال على أبوابه فقتلوا كل من دخل‏.‏ يقال قتل أحد عشر ألفاً ممن لبث وما لا يحصى من غيرهم‏.‏ وسمع صياح النساء بالليل فأمر من الغد بقتل النساء والصبيان واستباحهـم ثلاثـة أيام‏.‏ وكان في عسكره أربعة آلاف من الزنوج فعاثوا في النساء‏.‏ وركب في اليوم الرابع وبين يديه الحـراب والسيـوف فاعترضتـه امـرأة وأخـذت بعنـان دابتـه وقالـت لـه‏:‏ ألسـت مـن بني هاشم‏.‏ ألست ابن عم الرسول أما تعلم أن المؤمنات المسلمات ينكحهن الزنوج‏.‏ فأمسك عنها وجمع الزنج عن الغد للعطاء وأمر بهم فقتلوا عن آخرهم‏.‏ وبلغ السفاح سوء أمره في أهل الموصل فعزله وولى مكانه إسماعيل بن علي وولى يحيى مكان إسماعيل بالأهواز وفارس‏.‏ وملـك الـروم ملطيـة وقالقيـلا‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:00 PM

وفي سنة ثلـاث وثلاثيـن
أقبـل قسطنطيـن ملـك الـروم فحصر ملطية والفتن يومئذ بالجزيرة وعاملهـا يومئـذ موسـى بـن كعـب بـن أسـان‏.‏ فلـم يـزل حاصرهم حتى نزلوا على الأمان وانتقلوا إلى بلاد الجزيرة وحملوا ما قدروا عليه‏.‏ وخـرب الـروم ملطيـة وسـاروا عنهـا إلـى مـرج الحصـى وأرسل قسطنطين العساكر إلى قالقيلا من نواحي ماردين مع قائده كوشان الأرمني فحصرها وداخل بعض الأرمن من أهل المدينة فنقبوا له السور فاقتحم البلد من ذلك النقب واستباها‏.‏ الثوار بالنواحي كان المثنى بن يزيد بن عمر بن هبيرة قد ولاه أبو علي اليمامة فلما قتل يزيد أبوه امتنع هو باليمامـة فبعـث إليـه زيـاد بـن عبيد المدن بالعساكر من المدينة مع إبراهيم بن حبان السلمي فقتله وقتـل أصحابـه وذلـك سنـة ثلـاث وثلاثيـن‏.‏ وفيهـا خـرج شريك ابن شيخ إسحاراً على أبي مسلم ونقـض أفعالـه واجتمـع إليـه أكثـر مـن ثلاثيـن ألفـاً فبعـث إليـه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي فقاتله وقتله‏.‏ وفيها توجه أبو داود وخالد بن إبراهيم إلى الختل فتحصن ملكهم ابن السبيل منهما ومنعه الدهاقين فحاصره أبو داود حتى جهد الحصار فخرج من حصنه مع الدهاقين ولحق بفرغانـة‏.‏ ثـم سـار منهـا إلـى بلـد الصيـن وأخـذ أبـو داود مـن ظفـر بـه فـي الحصـن فبعـث بهـم إلى أبي مسلم‏.‏ وفيها الفتنة بين أخشيد فرغانة وملك الشاش واستمد الأخشيد ملك الصين فأمده بمائة ألف مقاتـل وحصـروا ملك الشاش حتى نزلوا على حكم ملك الصين فلم يعرض له ولا لقومه بسوء‏.‏ وبعث أبو مسلم زياد بن صالح لاعتراضهم فلقيهم على نهر الطرار فظفر بهم وقتل منهم نحواً من خمسين ألفاً وأسر نحواً من عشرين ألفاً ولحق بهم بالصين وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثيـن‏.‏ ثـم انتقـض بسـام بـن إبراهيـم بـن بسـام مـن فرسـان أهـل خراسـان وسـار مـن عسكـر السفاح وجماعـة علـى رأيـه سـراً إلـى المدائـن فبعـث السفـاح فـي أثرهـم خـازم بـن خزيمـة فقاتلهـم وقتل أكثرهم واستباحهم وبلغ ماه وانصرف فمر بذات المطامير وبها أخوال السفاح من بني عبد المدان في نحو سبعين من قرابتهم ومواليهم‏.‏ وقيل له‏:‏ إن المغيرة من أصحاب بسام عندهم فسألهم عنه فقالوا‏:‏ مر بنا مجتازاً فهددهم إن لم يأخذه فأغلظوا له في القول فقتلهم أجمعين ونهب أموالهم وهدم دورهم وغضبت اليمانية لذلـك ودخـل بهم زياد بن عبيد الله الحارثي على السفاح وشكوا إليه ما فعل بهم فهم بقتله‏.‏ وبلغ ذلك موسى بن كعب وأبا الجهم بن عطية فدخلا على السفاح وذكراه سابقة الشيعة وطاعتهـم وأنهـم آثروكـم على الأقارب والأولاد وقتلوا من خالفكم فإن كان لا بد من قتله فابعثه لوجه من الوجوه فإن قتل هو الذي تريد وإن ظفر فلك‏.‏ بعثه إلى الخوارج الذين بجزيرة ابن كاوان من عمان مع شيبـان بـن عبـد العزيـز اليشكـري فبعـث معـه سبعمائـة رجـل فحملهـم سليمـان بـن علـي مـن البصـرة فـي السفن وقد انضم إليه من أهله وعشيرته ومواليه وعدة من بني تميـم مـن البصـرة فلمـا أرسـوا بجزيـرة ابـن كـاوان قـدم خـازم فضلـة بن نعيم المنشلي في خمسمائة إلى شيبـان فانهـزم هـو وأصحابه وكانوا صفرية وركبوا إلى عمان فقاتلهم الجلندي في الإباضية فقتل شيبان ومن معه كما مر وشيبان هذا غير شيبان بن سلمة الذي قتل بخراسان فربما يشتبهان‏.‏ ثم ركب خازم البحر إلى ساحل عمان فنزل وقاتل الجلندي أياماً أمر خازم أصحابه في آخرها أن يجعلوا على أطراف أسنتهم المشاقة ويدوروها بالنفط ويشعلوها بالنيران ويرموهـا في بيوت القوم وكانت من خشب‏.‏ فلما اضطرمت فيها النار شغلوا بأهليهم وأولادهم عن القتل فحمل عليهم خازم وأصحابه فاستحملوهم‏.‏ وقتل الجلندي وعشرة آلاف فبعث خازم برؤوسهم إلى البصرة فبعثها سليمان إلى السفاح فندم‏.‏ ثم غزا خالد بن إبراهيم أهل كش فقتل الأخشيد ملكها وهو مطيع واستباحهم وأخذ من الأوانـي الصينيـة المنقوشـة المذهبـة ومـن الديبـاج والسـروج ومتاع الصين وظرفه ما لم ير مثله وحمله إلـى أبـي مسلـم بسمرقنـد‏.‏ وقتـل عدة من دهاقين كش وملك طازان أخا الأخشيد على كش‏.‏ ورجـع أبـو مسلـم إلـى مـرو بعـد أن فتـك فـي الصغـد وبخـارى وأمـر ببنـاء سـور سمرقنـد‏.‏ واستخلـف زيـاد بـن صالـح علـى بخـارى وسمرقنـد ورجـع أبـو داود إلـى بلـخ‏.‏ ثـم بلـغ السفـاح انتقاض منصور بن جمهور بالسند فبعث صاحـب شرطتـه موسـى بـن كعـب واستخلـف مكانـه علـى الشرطـة المسيب بن زهير‏.‏ وسار موسى لقتال ابن جمهور فلقيه بتخوم الهند وهو في نحو اثني عشر ألفاً فانهزم ومات عطشاً في الرمال‏.‏ ورحل عامله على السند بعياله وثقلته فدخل بهم بلاد الخزر‏.‏ ثم انتقض سنة خمس وثلاثين زياد بن صالح وراء النهر‏.‏ فسار أبو مسلم إليه من مرو وبعث أبو داود خالـد بـن إبراهيـم نصـر بـن راشـد إلـى ترمذ ليمنعها من زياد فلما وصل إليها خرج عليه ناس من الطالقـان فقتلـوه فبعـث مكانـه عيسـى بـن ماهان فسمع قتلة نصر فقتلهم‏.‏ وسار أبو مسلم فانتهى إلـى آمـد ومعـه سبـاع بـن النعمـان الـأزدي وكان السفاح قد دس معه إلى زياد بن صالح الأزدي أن ينتهـز فرصـة فـي أبـي مسلـم فيقتلـه‏.‏ ونمـى الخبـر إلى أبي مسلم فحبس سباعاً بآمد وسار عنها وأمر عامله بقتله‏.‏ ولقيه قواد زياد في طريقه وقد خلعوا زياداًً فدخل أبو مسلم بخارى ونجا زيـاد إلـى دهقـان هنـاك فقتله وحمل رأسه إلى أبى مسلم‏.‏ وكتب أبو مسلم إلى أبي داود فقتله وكـان قـد شغـل بأهـل الطالقـان فرجـع إلى كش وبعث عيسى بن ماهان إلى بسام فلم يظفر منها بشيء وبعث إلى بعض أصحاب أبي مسلم يعيب أبا داود وعيسى فضربه وحبسـه‏.‏ ثـم أخرجه فوثب عليه الجند فقتلوه ورجع أبو مسلم إلى مرو‏.‏ حج أبي جعفر وأبي مسلم

وفي سنة سـت وثلاثيـن
استـأذن أبـو مسلـم السفـاح فـي القـدوم عليـه للحـج وكـان منـذ ولـي خراسـان لم يفارقها فأذن له في القدوم مع خمسمائة من الجند فكتب إليه أبو مسلم أني قد عاديت النـاس ولسـت آمـن علـى نفسـي فـأذن لـه فـي ألـف وقال إن طريق مكة لا تحتمل العسكر فسار في ثمانيـة آلـاف فرقهـم مـا بيـن نيسابـور والـري وخلـف أموالـه وخزائنـه بالـري وقـدم في ألف وخرج القواد بأمـر السفـاح لتلقيـه فدخـل على السفاح وأكرمه وأعظمه‏.‏ واستأذن في الحج فأذن له وقال‏:‏ لولا أن أبـا جعفـر يريـد الحـج لاستعملتـك علـى الموسـم‏.‏ فأنزلـه بقريـة وكـان قـد كتـب إلـى أبـي جعفـر أن أبا مسلـم استأذننـي فـي الحـج وأذنـت لـه وهـو يريـد ولايـة الموسم فاسألني أنت في الحج فلا تطمع أن يتقدمك وأذن له فقدم الأنبار‏.‏ وكان ما بين أبي جعفر وأبي مسلم متباعداً من حيث بعث السفاح أبا جعفر إلى خراسان ليأخذ البيعة له ولأبي جعفر من بعده ويولي أبا مسلم على خراسان فاستخلى أبو مسلم بأبي جعفر‏.‏ فلما قدم ألان أبو جعفر السفاح بقتله وأذن له فيه ثـم نـدم وكفـه عـن ذلـك وسـار أبـو جعفـر إلـى الحج ومعه أبو مسلم واستعمل على حران مقاتل بن حكيم العكي‏.‏ موت السفاح وبيعة المنصور كـان أبـو العبـاس قـد تحـول مـن الحيـرة إلـى الأنبـار فـي ذي الحجـة سنـة أربع وثلاثين فأقام بها سنتين ثـم توفـي فـي ذي الحجـة سنـة سـت وثلاثيـن لثلـاث عشـرة ليلـة خلـت منـه ولأربـع سنيـن وثمانيـة أشهـر من لدن بويع وصلى عليه عمه عيسى ودفن بالأنبار‏.‏ وكان وزيره أبو الجهم بن عطية وكان قبـل موتـه قـد عهـد بالخلافـة لأخيـه أبي جعفر ومن بعده لعيسى ابن أخيهما موسى وجعل العهد في ثـوب وختمـه بخواتيمـه وخواتيـم أهـل بيتـه ودفعـه إلـى عيسـى‏.‏ ولمـا توفـي السفـاح وكـان أبـو جعفـر بمكـة فأخـذ البيعة على الناس عيسى بن موسى وكتب إليه بالخبر فجزع واستدعى أبا مسلم وكـان متأخـراً عنـه فأقـرأه الكتـاب فبكى واسترجع وسكن أبا جعفر عن الجزع فقال‏:‏ أخاف شر عبـد اللـه بـن علـي قـال‏:‏ أنا أكفيكه وعامة جنده أهل خراسان وهم أطوع لي منه فسري عنه‏.‏ وبايـع لـه أبـو مسلـم والنـاس وأقبلا حتى قدما الكوفة‏.‏ ويقال‏:‏ إن أبا مسلم كان متقدماً على أبي جعفر فإن الخبر قد أتاه قبله فكتب أبو مسلم إليه يعزيه ويهنيه بالخلافة وبعد يومين كتب له ببيعته‏.‏ وقدم أبو جعفر الكوفة سنة سبع وثلاثين وسار منها إلى الأنبار فسلم إليه عيسى بيوت الأموال والدواوين واستقام أمر أبي جعفر‏.‏

انتقاض عبد الله بن علي وهزيمته
كان عبد الله بن علي قدم على السفاح قبل موته فبعثه إلى الصائفة في جنود أهل الشام وخراسان فانتهى إلى دلوك ولم يدر حتى جاءه كتاب عيسى بن موسى بوفاة السفاح وأخذ البيعـة لأبي جعفر وله من بعده كما عهد به السفاح فجمع عبد الله الناس وقرأ عليهم الكتاب وأعلمهم أن السفاح حين أراد أن يبعث الجنود إلى حران تكاسل بنو أبيه عنها فقال لهم‏:‏ من انتدب منكم فهو ولي عهدي فلم ينتدب غيري وشهد له أبو غانم الطائي وخفاف المروزي وغيرهما من القواد وبايعوه وفيهم حميد بن حكيم بـن قحطبـة وغيـره مـن خراسـان والشـام والجزيرة‏.‏ ثم سار عبد الله حتى نزل حران وحاصر مقاتل بن حكيم العكي أربعين يوماً وخشـي مـن أهـل خراسـان فقتـل منهـم جماعـة وولى حميد بن قحطبة على حلب وكتب معه إلى عاملها زفر بن عاصم بقتله فقرأ الكتاب في طريقه وسار إلى العراق‏.‏ وجاء أبو جعفر من الحج فبعث أبا مسلم لقتال عبد الله ولحقه حميد بن قحطبة نازعاً عن عبـد اللـه فسـار معـه وجعـل علـى مقدمتـه مالـك بن الهيثم الخزاعي‏.‏ ولما بلغ عبد الله خبر إقباله وهـو علـى حـران بـذل الأمـان لمقاتـل بـن حكيـم ومـن معه وملك حران‏.‏ ثم بعث مقاتلاً بكتابه إلى عثمـان بـن عبـد الأعلـى فلمـا قـرأ الكتـاب قتلـه وحبس ابنيه حتى إذا هزم عبد الله قتلهما‏.‏ وأمر المنصـور محمـد بن صول وهو على أذربيجان أن يأتي عبد الله بن علي ليمكر به فجاء وقال‏:‏ إنـي سمعـت السفاح يقول‏:‏ الخليفة بعدي عمي عبد الله فشعر بمكيدته وقتله وهو جد إبراهيم بن العباس الصولي الكاتب‏.‏ ثم أقبل عبد الله بن علي حتى نزل نصيبين وخندق عليه وقدم أبو مسلم فيمن معه‏.‏ وكان المنصـور قـد كتـب إلى الحسن بن قحطبة عامله على أرمينية بأن يوافي أبا مسلم‏.‏ فقدم عليه بالموصـل وسـار معـه‏.‏ ونـزل أبـو مسلـم ناحيـة نصيبيـن وكتـب إلـى عبـد اللـه أني قد وليت الشام ولم أؤمر بقتالك فقال أهل الشام لعبد الله سر بنا إلى الشام لنمنع نساءنا وأبناءنا‏.‏ فقال لهم عبد اللـه‏:‏ مـا يريـد إلا قتالنـا وإنمـا قصد المكر بنا فأبوا إلا الشام فارتحل بهم إلى الشام ونزل أبو مسلم فـي موضـع معسكره وغور ما حوله من المياه فوقف أصحاب عبد الله بكار بن مسلم العقيلي وعلـى ميسرتـه حبيـب بـن سويـد الأسـدي وعلـى الخيـل عبـد الصمـد بن علي أخو عبد الله وعلى ثـم حمـل أصحـاب عبد الله على عسكر أبي مسلم فأزالوهم عن مواضعهم وحمل عبد الصمد فقتـل منهـم ثمانيـة عشـر رجـلاً‏.‏ ثـم حمـل عليهـم ثانيـة فأزالـوا صفهـم‏.‏ ثـم نـادى منـادي أبـي مسلـم في أهـل خراسـان فتراجعوا‏.‏ وكان يجلس إذا لقي الناس على عريش ينظر منه إلى الحومة فإن رأى خللاً أرسل بسده‏.‏ فلا تزال رسله تختلف بينه وبين الناس حتى ينصرفوا‏.‏ فلما كان يوم الأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين اقتتلوا وأمر أبو مسلم الحسن بن قحطبة أن يضم إلى الميسرة وينزل في الميمنة حماة أصحابه فانضم أهل الشام من الميسرة إلى الميمنة كما أمرهم وأمر أبو مسلم أهل القلب فحطموهم وركبهم أصحاب أبي مسلم‏.‏ فانهـزم أصحـاب عبـد اللـه فقـال لابـن سراقـة‏.‏ مـا تـرى قال الصبر إلى أن تموت فالفرار فيكم بمثلك قبيح‏.‏ قال بل آتي العراق فأنا معك فانهزموا وحوى أبو مسلم عسكرهم‏.‏ وكتب بذلك إلى المنصور ومضى عبد الله وعبد الصمد‏.‏ فقدم عبد الصمد الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسـى وأمنـه المنصـور‏.‏ وقيـل بـل أقـام بالرصافـة حتى قدمها جمهور بن مروان العجلي في خيول أرسلها المنصور فبعث به موثقاً مـع أبـي الخطيـب فأطلقـه المنصـور‏.‏ وأمـا عبـد اللـه فقـدم البصـرة وأقـام عنـد أخيه سليمان متوارياً حتى طلبه وأشخص إليه‏.‏ ثم إن أبا مسلم أمن الناس بعد الهزيمة وأمر بالكف عنهم كان أبو مسلم لما حج مع المنصور يؤيد نفسه عليه ويتقـدم بالإحسان للوفود وإصلاح الطريق والمياه وكان الذكر له وكان الأعراب يقولون‏:‏ هذا المكذوب عليـه‏.‏ ولما صدروا عن الموسم تقدم أبو مسلم ولقيه الخبر بوفاة السفاح فبعث إلى أبي جعفر يعزيـه ولـم يهنئـه بالخلافـة ولا رجـع إليـه ولا أقام ينتظره‏.‏ فغضب أبو جعفر وكتب إليه وأغلظ في العتـاب فكتـب يهنئـه بالخلافـة ويقـدم إلى فدعا عيسى بن موسى إلى أن يبايع له فأبى وقدم أبو جعفر وقد خلع عبيد الله بن علي فسرح أبا مسلم لقتاله فهزمه كما مر وجمع الغنائم من عسكره‏.‏ فبعث المنصور مولاه أبا الخصيب لجمعها فغضب أبو مسلم وقال‏:‏ أنا أعين على الدعاء فكيف أخون الأموال وهم بقتل الخصيب ثم خلى عنه‏.‏ وخشي المنصور أن يمضي إلى خراسان فكتب إليه بولاية مصر والشام فازداد نفاراً وخرج من الجزيرة يريد خراسان وسار المنصور إلى المدائـن وكتـب إليـه يستقدمـه فأجابـه بالامتنـاع والمسك بالطاعة عن بعد والتهديد بالخلع إن طلب منه سوى ذلك فكتب إليه المنصور ينكر عليه هذا الشرط وأنه لا يحسن طاعة‏.‏ وبعث إليه عيسى بن موسى برسالة يؤنسه ويسليه وقيـل‏:‏ بـل كتـب إليـه أبـو مسلـم يعـرض لـه بالخلع وأنه قد تاب إلى الله مما جناه من القيام بدعوتهم وأخـذ أبـو مسلـم طريـق حلـوان وأمـر المنصـور عمـه عيسـى ومشيخـة بنـي هاشـم بالكتاب على أبي مسلم يحرضونه على التمسك بالطاعة ويحذرونه عاقبة البغي ويأمرونه بالمراجعة‏.‏ وبعث الكتب مع مولاه أبي حميد المروروذي وأمره بملاينته والخضوع له بالقول حتى ييأس منه فإذا يئس يخبره بقسم أمير المؤمنين لأوكلت أمرك إلى غيري ولو خضت البحر خضته وراءك ولـو اقتحمـت النـار لاقتحمتهـا حتـى أقتلـك وأمـوت‏.‏ فأوصـل أبـو حميـد الكتـب وتلطـف لـه في القول ما شاء واحتج عليه بما كان منه في التحريض على طاعتهم فاستشار أبو مسلم مالك بن الهيثم فأبى له من الإصغاء إلى هذا القول وقال‏:‏ والله لئن أتيته ليقتلنك‏.‏ ثم بعث إلى نيزك صاحب الري يستشيره فأبى له من ذلك وأشار عليه بنزول الري وخراسان من ورائه فيكون أمكن لسلطانه‏.‏ فأجاب أبا حميد بالامتناع فلما يئس منه أبلغه مقالة المنصور فوجم طويلاً ورعـب مـن ذلـك القـول وأكبـره‏.‏ وكـان المنصـور قـد كتب إلى عامل أبي مسلم بخراسان يرعبه في الانحـراف عنـه بولايـة خراسـان فأجاب سراً وكتب إلى أبي مسلم يحذره الخلاف والمعصية فزاده ذلـك رعبـاً وقـال لأبـي حميـد قبـل انصرافـه‏:‏ قد كنت عزمت على المضي إلى خراسان ثم رأيت أن أوجه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين يأتيني برايته فإني أثق به‏.‏ ولما قدم أبو إسحاق تلقاه بنو هاشم وأهل الدولة بكل ما يجب وداخله المنصور في صرف أبي مسلم عن وجهة خراسان ووعده بولايتها فرجع إليه وأشار عليه بلقاء المنصور فاعتزم علـى ذلـك‏.‏ واستخلـف مالـك بـن الهيثـم علـى عسكره بحلوان وسار فقدم المدائن في ثلاثة آلاف وخشي أبو أيوب وزير المنصور أن يحدث منه عند قدومه فتك فدعا بعض إخوانه وأشار عليـه بـأن يأتـي أبـا مسلـم ويتوسـل به إلى المنصور في ولاية كسكر ليصيب فيها مالاً عظيماً وأن يشرك أخاه في ذلك فإن أمير المؤمنين عازم أن يوليه ما يوري به ويريح نفسه‏.‏ واستأذن له المنصـور فـي لقـاء أبـي مسلـم فـأذن لـه فلقـي مسلم وتوسل إليه وأخبره الخبر فطابت نفسه وذهب عنه الحزن‏.‏ ولما قرب أمر الناس بتلقيه ثم دخل على المنصور فقبل يده وانصرف ليريح ليلته ودعا المنصور من الغد حاجبه عثمان بن نهيك وأربعة من الحرس منهم شبيب بن رواح وابن حنفية حرب بن قيس وأجلسهم خلف الرواق وأمرهم بقتل أبي مسلم إذا صفق بيديه‏.‏ واستدعـى أبا مسلم فلما دخل سأله عن سيفين أصابهما لعمه عبد الله بن علي وكان متقلداً بأحدهما فقال هذا أحدهما فقال أرني فانتضاه أبو مسلم وناوله إياه فأخذ يقلبه بيده ويهزه‏.‏ ثم وضعه تحت فراشه وأقبل يعاتبه فقال‏:‏ كتبت إلى السفاح تنهاه عن الموات كأنك تعلمه قال ظننت أنه لا يحل ثم اقتديت بكتاب السفاح وعلمت أنكم معدن العلم‏.‏ قـال‏:‏ فتوركك عني بطريق مكة قال كرهت مزاحمتك على المال قال فامتناعك من الرجوع إلي حيـن بلغـك مـوت السفـاح أو الإقامـة حتـى ألحقـك قـال طلبـت الرفـق بالناس والمبادرة إلى الكوفة قال فجارية عبد الله بن علي أردت أن تتخذها لنفسك قال لا إنما وكلت بها من يحفظها‏.‏ قـال‏:‏ فمراغمتـك ومسيـرك إلـى خراسان قال‏:‏ خشيت منك فقلت آتي خراساني وأكتب بعذري فأذهـب مـا فـي نفسـك منـي قـال‏:‏ فالمـال الـذي جمعتـه بحـران قـال‏:‏ أنفقتـه فـي الجنديـة تقويـة لكـم‏.‏ قال ألسـت الكاتـب إلـي تبـدأ بنفسـك وتخطـب آسيـة بنـت علـي وتزعـم أنـك ابـن سليـط بن عبد الله بن عباس لقد ارتقيت لا أم لك مرتقىً صعباً‏.‏ ثـم قـال له‏:‏ وما الذي دعاك إلى قتل سليمان بن كثير مع أثره في دعوتنا وهو أحد نقبائنا من قبـل أن ندخلـك فـي هـذا الأمـر قـال‏:‏ أراد الخلافـة فقتلتـه‏.‏ ثـم قال أبو مسلم‏:‏ كيف يقال هذا بعد بلائي وما كان مني قال يا ابن الخبيثة لو كانت أمة مكانك لأغنت إنما ذلك بدولتنا وربحنا‏.‏ وأكب أبو مسلم يقبل يده ويعتذر فازداد المنصور غضباً‏.‏ ثم قال أبو مسلم دع هذا فقد أصبحت لا أخاف إلا الله‏.‏ فشتمه المنصور وصفق بيديه فخرج الحرس‏.‏ وضربه عثمان بن نهيك فقطع حمائل سيفه‏.‏ فقال استبقني لعدوك فقال لا أبقاني الله إذاً وأي عدو أعدى منك وأخذه الحرس بسيوفهم حتى قتلوه وذلك لخمس بقين من شعبان سنة سبع وثلاثين‏.‏ وخرج الوزير أبو الجهم فصرف الناس وقال الأمير قائل عند أمير المؤمنين فانصرفوا وأمر لهم بالجوائز وأعطى إسحاق مائة ألف‏.‏ ودخل عيسى بن موسى على المنصور فسأل عنه وأخذ فـي الثنـاء علـى طاعته وبلائه وذكر رأي الإمام إبراهيم فيه‏.‏ فقال المنصور‏:‏ والله ما أعلم على وجـه الـأرض عدواً أعدى لكم منه هو ذا في البساط‏.‏ فاسترجع عيسى فأنكر عليه المنصور وقـال‏:‏ وهـل كـان لكم ملك معه ثم دعا جعفر بن حنظلة واستشاره في أمر أبي مسلم فأشار بقتلـه فقـال لـه المنصـور وفقـك اللـه ثـم نظـر إليـه قتيـلاً فقـال لـه يـا أمير المؤمنين عد خلافتك من هذا اليـوم‏.‏ ثـم دعـا أبـا إسحاق عن متابعة أبي مسلم وقال تكلم بما أردت وأخرجه قتيلاً‏.‏ فسجد أبو إسحاق ثم رفع رأسه يقول‏:‏ الحمد لله أميت هو ولله ما جئته قط إلا تكفنت وتحنطت ورفع ثيابه وأراه كفنه وحنوطه‏.‏ فرحمه وقال له استقبل طاعتك واحمد الله الذي أراحك‏.‏ وكتب المنصور بعد قتل أبي مسلم إلى أبي نصر بن الهيثم على لسان أبي مسلم يأمره بحمل أثقالـه وقـد كـان أبـو مسلم أوصاه إن جاءك كتاب بخاتمي تاماً فاعلم أني لم أكتبه فلما رآه كذلك فطـن وانحـدر إلـى همـذان يريـد خراسان فكتب له المنصور بولاية شهرزور وكتب إلى زهير بن التركـي بهمـذان بحبسـه‏.‏ فمر أبو نصر بهمذان وخادعه زهير ودعاه إلى طعامه وحبسه‏.‏ وجاء كتاب العهد بشهرزور لأبي نصر فأطلقه زهير ثم جاءه بعد ذلك الكتاب بقتله فقال جاءني كتاب عهده فخليت سبيله‏.‏ وقـدم أبـو نصـر علـى المنصـور فعذلـه فـي إشارتـه على أبي مسلم بخراسان فقال نعم استنصحني فنصحـت لـه‏.‏ وإن استنصحنـي أميـر المؤمنيـن نصحـت وشكـرت واستعملـه علـى الموصل‏.‏ وخطب أبو جعفر الناس بعد قتل أبي مسلم وانسهم وافترق أصحابه وخرج منهم بخراسان رجـل اسمـه سنبـاد ويسمـى فيـروز أصبهبـد وتبعـه أكثـر الجبال يطلبون بدم أبي مسلم وغلب على نيسابـور والـري وأخـذ الخزائـن أبـي مسلـم التـي خلفهـا بالـري حيـن شخـص إلـى السفـاح‏.‏ وسبـى الحرم ونهب الأموال ولم يعرض إلى التجار‏.‏ وكان يظهر أنه قاصد إلى الكعبة يهدمها فسرح إليه المنصور جمهور بن حرار العجلي والتقوا على طرق المفازة بين همذان والري فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم نحواً من ستين ألفاً سبى ذراريهم ونساءهم‏.‏ ولحق سنباد بطبرستان فقتله بعض عمال صاحبها وأخذ ما معه‏.‏ وكتب إلى المنصور بذلك فكتـب إليـه المنصـور في الأموال فأنكرها فسرح إليه الجنود فهرب إلى الديلم‏.‏ ثم إن جمهور بن مرار لما حوى ما في عسكر سنباد ولم يبعث به خاف من المنصور فخلع واعتصم بالري فسرح إليه محمد بن الأشعث في الجيوش فخرج من الري إلى أصبهان فملكها وملك محمد الـري‏.‏ ثـم اقتتلـوا وانهـزم جمهـور فلحـق بأذربيجـان وقتلـه بعـض أصحابه وحملوا رأسه إلى المنصور وذلك سنة ثمان وثلاثين‏.‏ حبس عبد الله بن علي كـان عبـد اللـه بـن علـي بعـد هزيمتـه أمـام أبـي مسلم لحق بالبصرة ونزل على أخيه سليمان‏.‏ ثم إن المنصور عزل سليمان سنة تسع وثلاثين فاختفى عبد الله وأصحابه فكتب المنصـور إلـى سليمـان وأخيـه عيسـى بأمـان عبد الله وقواده ومواليه وأشخاصهم إلى المنصور منهما فشخصـوا‏.‏ ولمـا قدمـا عليـه فـأذن لهمـا فأعلمـاه بحضـور عبـد الله واستأذناه له فشغلهما بالحديـث وأمـر بحبسـه فـي مكـان قـد هيـىء لـه فـي القصـر فلمـا خـرج سليمـان وعيسـى لـم يجـد عبد الله فعلما أنه قد حبس وأن ذمتهما قد أخفرت فرجعا إلى المنصور فحبسا عنـه‏.‏ وتـوزع أصحاب عبد الله بين الحبس والقتل وبعث ببعضهم إلى أبي داود خالد بن إبراهيم بخراسان فقتلهـم بهـا‏.‏ ولم يزل عبد الله محبوساً حتى عهد المنصور إلى المهدي سنة تسع وأربعين وأمر موسى بن عيسى فجعله بعد المهدي ودفع إليه عبد الله وأمره بقتله وخرج حاجاً‏.‏ وسار عيسـى كاتبـه يونـس بـن فـروة فـي قتـل عبـد اللـه بـن علـي فقـال‏:‏ لا تفعـل فإنـه يقتلـك بـه وإن طلبـه منـك فـلا تـرده إليه سراً فلما قفل المنصور من الحج دس على أعمامه من يحرضهم على الشفاعة في أخيهم عبد الله فشفعهم وقال لعيسى‏:‏ جئنا به فقال قتلته كما أمرتني‏.‏ فأنكر المنصور وقال خذوه بأخيكم فخرجوا به ليقتلوه حتى اجتمع الناس واشتهر الأمر فجاء به وقال هوذا حي سوي فجعله المنصور في بيت أساسه ملح وأجرى عليه الماء فسقط ومات‏.‏ كان هؤلاء القوم من أهل خراسان ومن أتبـاع أبـي مسلـم يقولـون بالتناسـخ والحلـول وأن روح آدم فـي عثمـان بـن نهيـك وأن اللـه حـل فـي المنصـور وجبريـل فـي الهيثـم بـن معاوية‏.‏ فحبس المنصور نحـواً مـن مائتيـن منهم فغضب الباقون واجتمعوا وحملوا بينهم نعشاً كأنهم في جنازة وجاؤوا إلى السجـن فرمـوا بالنعـش وأخرجـوا أصحابهـم وحملوا على الناس في ستمائة رجل‏.‏ وقصدوا قصر المنصور وخرج المنصور من القصر ماشياً‏.‏ وجاء معن بن زائدة الشيباني وكان مستخفياً من المنصور لقتاله مع ابن هبيرة وقد اشتد طلب المنصور له فحضر عنده هـذا اليـوم متلثمـاً وترجـل وأبلـى‏.‏ ثـم جـاء إلـى المنصـور ولجـام بغلتـه فـي يـد الربيـع حاجبـه وقـال‏:‏ تنـح ذا أنـا أحق بهدا اللجام في هذا الوقت وأعظم فنازل وقاتل حتى ظفر بالراوندية‏.‏ ثم سأله فانتسب فأمنه واصطنعه‏.‏ وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم ووقف على باب المنصور وقال‏:‏ أنا اليوم بواب ثم قاتلهم أهل السوق وفتح باب المدينة ودخل الناس وحمل عليهم خازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة حتى قتلوهـم عـن آخرهـم‏.‏ وأصـاب عثمـان بـن نهيك في الحومة سهم فمات منه بعد أيام وجعل على الحبس بعده أخاه عيسى ثم بعده أبا العباس الطوسي وذلك كله بالهاشمية‏.‏ ثم أحضر معناً ورفع منزلته وأثنى عليه بما كان منه في ذلك اليوم مع عمه عيسى فقال معن‏:‏ والله يا أمير المؤمنين لقد جئت إلى الحكومة وجلاً حتى رأيت شدتك فحملني ذلك على ما رأيت مني وقيل‏:‏ إنه كان مختفياً عند أبي الخصيب حاجب المنصور وأنه جاء يوم الراوندية فاستأذن أبو الخصيب وشاوره المنصور فأشار ببث المال في الناس وأبى المنصور إلا الركوب إليهم بنفسه فخرج بين يديه وأبلى حتى قتلوا ثم تغيب فاستدناه وأمنه وولاه على اليمن‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:02 PM

انتقاض خراسان ومسير المهدي إليها
كان السفاح قد ولى على خراسان أبا داود خالد بن إبراهيم الذهلي بعد انتقاض بسام بن إبراهيم ومهلكه‏.‏ فلما كان سنة أربعين ثار به بعض الجند وهو بكشماهن وجاؤوا إلى منزله فأشرف عليهم ليـلاً مـن السطـح فزلـت قدمـه فسقـط ومـات ليومـه‏.‏ وكـان عصـام صاحـب شرطته فقام بالأمر بعده‏.‏ ثم ولى المنصور على خراسان عبد الجبار بن عبد الرحمن فقدم عليها وحبس جماعة من القواد اتهمهم بالدعاء للعلوية منهم مجاشع بن حريث الأنصاري عامل بخـارى وأبـو المعـرة خالـد بـن كثيـر مولـى بنـي تميـم عامـل قهستـان والحريـش بـن محمد الذهلي ابن عم أبي داود في أخرين‏.‏ ثـم قتـل هـؤلاء وألـح علـى عمـال أبـي داود فـي استخراج المال وانتهت الشكوى إلى المنصور بذلك فقـال لأبـي أيـوب إنمـا يريـد بفنـاء شيعتنـا الخلع فأشار عليه أبو أيوب أن تبعث من جنود خراسان لغزو الروم فإذا فارقوه بعثت إليه من شئت واستمكن منه‏.‏ فكتب إليه بذلك فأجاب بأن التـرك قـد جاشـت وإن فرقـت الجنود خشيت على خراسان‏.‏ فقال له أبو أيوب اكتب إليه بأنك ممـده بالجيـوش وابعث معها من شئت يستمكن منه فأجاب عبد الجبار بأن خراسان مغلبة في عامها ولا تحتمل زيادة العسكر‏.‏ فقال له أبو يوسف هذا خلع فعاجله‏.‏ فبعث ابنه المهدي فسار ونزل الري‏.‏ وقدم خازم بن خزيمة لحرب عبد الجبار فقاتلوه فانهزم وجاء إلى مقطنة وتوارى فيها‏.‏ فعبر إليه المحشد بن مزاحم من أهل مرو الروذ وجاء به إلى خازم فحمله على بعير وعليه جبة صوف ووجهه إلى عجز البعير وحمله إلى المنصور في ولده وأصحابه‏.‏ فبسط إليهم العذاب حتـى استخـرج الأمـوال ثـم قطـع يديـه ورجليـه وقتلـه‏.‏ وذلـك سنة اثنتين وأربعين وبعث بولده إلى دهلك فعزلهم بها وأقام المهدي بخراسان حتى رجع إلى العراق سنة تسع وأربعين

وفي سنة اثنتيـن وأربعيـن
انتقض عيينة بن موسى بن كعب بالسند وكان عاملاً عليها من بعد أبيه وكان أبـوه يستخلـف المسيـب بـن زهيـر علـى الشرط فخشي المسيب إن حضر عيينة عند المنصور أن يوليه على الشرط فحذره المنصور وحرضه على الخلاف فخلع الطاعة‏.‏ وسار المنصور إلى البصـرة وسـرح من هنالك عمر بن حفص بن أبي صفوة العتكي لحرب عيينة وولاه على السند والهند فورد السند وغلب عليها‏.‏ وفي هذه السنة انتقض الأصبهبذ بطبرستان وقتل من كان فـي أرضـه مـن المسلميـن فبعث المنصور مولاه أبا الخصيب وخازم بن خزيمة وروح بن حاتم في العساكر فحاصروه في حصنه مدة ثم تحيلوا ففتح لهم الحصن من داخله وقتلوا المقاتلة وسبى الذرية وكان مع الأصبهبد سم فشربه ومات‏.‏ أمر بني العباس بنـو هاشم حين اضطرب أمر مروان بن محمد اجتمعوا إليه وتشاوروا فيمن يعقدون له الخلافة فاتفقوا على محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن علي وكان يقال إن المنصور ممن بايعه تلك الليلـة‏.‏ ولمـا حـج أيـام أخيـه السفـاح سنـة سـت وثلاثيـن تغيـب عنـه محمد وأخوه إبراهيم ولم يحضرا عنـده مـع بنـي هاشـم‏.‏ وسـأل عنهمـا فقـال لـه زياد بن عبيد الله الحرثي أنا آتيك بهما وكان بمكة فرده المنصور إلى المدينة‏.‏ ثم استخلف المنصور وطفق يسأل عن محمد ويختص بني هاشم بالسؤال سراً فكلهم يقول إنك ظهرت على طلبه لهذا الأمر فخافك على نفسه ويحسن العذر عنه إلا الحسن بن زيد بن الحسن بن علي فإنه قال له والله ما آمن وثوبه عليك فإنه لا ينام عنـك‏.‏ فكـان موسـى بـن عبـد اللـه بـن حسـن يقـول بعـد هـذا‏:‏ اللهـم اطلـب الحسن بن زيد بدمائنا‏.‏ ثـم إن المنصـور حـج سنـة وألـح علـى عبـد اللـه بـن حسـن فـي إحضـار ابنـه محمـد فاستشـار عبـد اللـه سليمان بن علي في إحضاره فقال له‏:‏ لو كان عافياً عفى عن عمه فاستمر عبد الله على الكتمان وبث المنصـور العيـون بيـن الأعـراب فـي طلبـه بسائـر بـوادي الحجـاز ومياههـا‏.‏ ثـم كتـب كتابـاً علـى لسـان الشيعـة إلـى محمـد بالطاعـة والمسارعـة وبعثـه مع بعض عيونه إلى عبد الله وبعث معه بالمال والألطاف كأنه من عندهم‏.‏ وكان للمنصور كاتب على سره يتشيع فكتب إلى عبد الله بن حسـن بالخبـر وكـان محمـد بجهينـة وألـح عليـه صاحـب الكتـاب أمـر محمـد ليدفـع إليـه كتـاب الشيعـة‏.‏ فقال له‏:‏ اذهب إلى علي بـن الحسـن المدعـو بالأغر يوصلك إليه في جبل جهينة فذهب وأوصله إليه‏.‏ ثم جاءهم حقيقة خبـره مـن كاتب المنصور وبعثوا أبا هبار إلى محمد وعلي بن حسن يحذرهما الرجل فجاء أبو هبار إلى علي بن حسن وأخبره ثم سار إلى محمد فوجد العين عنده جالساً مع أصحابه فخـلا بـه وأخبـره‏.‏ فقـال ومـا الرأي‏.‏ قال تقتله قال لا أقارف دم مسلم‏.‏ قال‏:‏ تقيده وتحمله معك قـال‏:‏ لا آمـن عليه لكثرة الخوف والإعجال‏.‏ قال‏:‏ فتودعه عند بعض أهلك من جهينة قال هذه إذن‏.‏ ورجع فلم يجد الرجل ولحق بالمدينة‏.‏ ثم قدم على المنصور وأخبره الخبر وسمى اسم أبي هبار وكنيته وقال معه وبر‏.‏ فطلب أبو جعفر وبرا المري فسأله عن أمر محمد فأنكره وحلف فضربه وحبسه‏.‏ ثم دعا عقبة بن سالم الـأزدي وبعثـه متنكراً بكتاب والطاف من بعض الشيعة بخراسان إلى عبد الله بن حسن ليظهر على أمره فجاءه بالكتاب فانتهره وقال‏:‏ لا أعرف هؤلاء القوم‏.‏ فلم يزل يتردد إليه حتى قبله وأنس به وسأله عقبة الجواب فقال لا أكتب لأحد ولكن أقرئهم مني سلاماً وأعلمهم أن ابني خارجان لوقت كذا‏.‏ فرجـع عقبـة إلـى المنصـور فأنشأ الحج فلما لقيه بنو حسن رفع مجالسهم وعبد الله إلى جنبه ثم دعـا بالغـداء فأصابـوا منـه‏.‏ ثـم قـال لعبـد اللـه بـن حسـن قـد أعطيتني العهود والمواثيق أن لا تبغيني بسـوء ولا تكيـد لـي سلطانـاً فقـال وأنـا علـى ذلـك‏.‏ فلحـظ المنصـور عقبـة بـن سالـم فوقف بين عبد الله حتى ملأ عينه منه فبادر المنصور يسأله الإقالة فلم يفعل وأمر بحبسه‏.‏ وكان محمد يتردد فـي النواحـي وجـاء إلـى البصـرة فنـزل فـي بنـي راهـب وقيـل في بني مرة بن عبيد وبلغ الخبر إلى المنصور فجاء إلى البصرة وقد خرج عنها محمد فلقي المنصور عمر بن عبيد فقال له‏:‏ يا أبا عثمـان هـل بالبصـرة أحد نخافه على أمرنا فقال لا فانصرف واشتد الخوف على محمد وإبراهيم وسـار إلـى عـدن ثـم إلـى السنـد ثم إلى الكوفة ثم إلى المدينة‏.‏ وكان المنصور حج سنة أربعين وحـج محمـد وإبراهيـم وعزمـا علـى اغتيـال المنصـور وأبى محمد من ذلك‏.‏ ثم طلب المنصور عبد الله بإحضار ولديه وعنفه وهم به فضمنه زياد عامل المدينة‏.‏ وانصرف المنصور وقدم محمد المدينة قدمة فتلطف له زياد وأعطاه الأمان له ثـم قـال لـه‏:‏ الحق بأي بلاد شئت‏.‏ وسمع المنصور فبعث أبا الأزهر إلى المدينة في جمادى سنة إحدى وأربعين ليستعمل على المدينة عبد العزيز بن المطلب ويقبض زيـاداً وأصحابـه‏.‏ فسـار بهـم فحبسهـم المنصـور وخلـف زيـاد ببيـت المال ثمانين ألف دينار‏.‏ ثم استعمل على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري وأمره بطلب محمد وإنفاق المال في ذلك‏.‏ فكثرت نفقته واستبطأه المنصـور واستشـار فـي عزلـه فأشـار عليـه يزيـد بـن أسيـد السلمـي من أصحابه باستعمال رباح بن عثمـان بـن حسـان المزنـي فبعثـه أميـراً علـى المدينـة في رمضان سنة أربع وأربعين وأطلق يده في محمد بن خالد القسري‏.‏ فقدم المدينة وتهدد عبد الله بن حسن في إحضار ابنيه‏.‏ وقال له عبد الله يومئذ إنك لتريق المذبوح فيها كما تذبح الشاة فاستشعر ذلك ووجد فقال له حاجبه أبو البختري‏:‏ إن هذا ما اطلـع علـى الغيـب‏.‏ فقال ويلك والله ما قال إلا ما سمع فكان كذلك‏.‏ ثم حبس رباح محمد بن خالد وضربه وجد في طلب محمد فاخبر أنه في شعبان رضوى من أعمال ينبع وهو جبل جهينـة فبعـث عاملـه فـي طلـب فأفلـت منـه‏.‏ ثـم إن ربـاح بـن مـرة حبـس بنـي حسن وقيدهم وهم‏:‏ عبد الله بن حسن بن الحسن وإخوته حسن وإبراهيم وجعفر وابنه موسى بن عبد الله وبنو أخيه داود وإسماعيل وإسحاق بنو إبراهيم بن الحسن ولم يحضر معهم أخوه علي العائد‏.‏ ثم حضر من الغد عند رباح وقال جئتك لتحبسني مع قومي فحبسه وكتب إليه المنصور أن يحبـس معهـم محمـد بـن عبـد اللـه بـن عمـر بن عثمان المعروف بالديباجة‏.‏ وكان أخا عبد الله لأمه أمهما فاطمة بنت الحسين‏.‏ وكـان عامـل مصـر قـد عثـر علـى علي بن محمد بن عبد الله بن حسن بعثه أبوه إلى مصر يدعو لـه فأخـذه وبعـث بـه إلـى المنصـور فلـم يزل في حبسه‏.‏ وسمى من أصحاب أبيه عبد الرحمن بن أبي المولى وأبا جبير فضربهما المنصور وحبسهما‏.‏ وقيل عبد الله حبس أولاً وحده وطال حبسـه‏.‏ فأشـار عليـه أصحابـه بحبسـن الباقيـن فحبسهـم ثـم حج المنصور سنة أربع وأربعين فلما قـدم مكـة بعـث إليهـم وهـم فـي السجـن محمـد بـن عمـران بـن إبراهيـم بـن طلحـة ومـال بـن أنـس يسألهـم أن يرفعوا إليه محمداً وإبراهيم ابني عبد الله فطلب عبد الله الإذن في لقائه فقال المنصور لا والله حتى يأتيني به وبابنيه وكان محسناً مقبولاً لا يكلم أحداً إلا أجابه إلى رأيه‏.‏ ثم إن المنصور قضى حجه وخرج إلى الربذة وجاء رباح ليودعه فأمر بأشخاص بني حسن ومن معهم إلى العراق فأخرجهم في القيود والأغلال وأردفهم فـي محامـل بغيـر وطء وجعفـر الصادق يعاينهم من وراء ستر ويبكي‏.‏ وجاء محمـد وإبراهيـم مـع أبيهمـا عبـد اللـه يسايرانـه مستترين بزي الأعراب ويستأذنانه في الخروج فيقول‏:‏ لا تعجلا حتى يمكنكما وإن منعتما أن تعيشـا كريميـن فـلا تمنعـا أن تموتـا كريميـن وانتهوا إلى الزيدية‏.‏ وأحضر العثماني الديقا عند المنصور فضربـه مائـة وخمسيـن سوطـاً بعـد ملاحـاة جـرت بينهمـا أغضبـت المنصور‏.‏ ويقال‏:‏ إن رباحاً أغرى المنصور به وقال له‏.‏ ‏:‏ إن أهل الشام شيعته ولا يتخلف عنه منهم أحد‏.‏ ثم كتب أبو عون عامل خراسان إلى المنصور بأن أهل خراسان منتظرون أمر محمد بن عبد اللـه واحـذر منهـم‏.‏ فأمـر المنصور بقتل العثماني وبعث برأسه إلى خراسان وبعث من يحلف أنه رأس محمد بن عبد الله وأن أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلـم ثـم‏.‏ قـدم المنصور بهم الكوفة وحبسهم بقصر ابن هبيرة‏.‏ يقال إنه قتل محمد بن إبراهيم بن حسن منهم علـى إسطوانـة وهـو حـي فمـات ثـم بعـده عبد الله بن حسن ثم علي بن حسن ويقال إن المنصور أمـر بهـم فقتلـوا ولـم ينـج منهـم إلا سليمـان وعبد الله ابنا داود وإسحاق وإسماعيل ابنا إبراهيم بن حسن وجعفر بن حسن والله أعلم‏.‏ ولمـا سـار المنصـور إلـى العـراق وحمـل معـه بنـي حسـن رجـع ربـاح إلى المدينة وألح في طلب محمد وهو مختف يتنقـل فـي اختفائـه مـن مكـان إلـى مكـان وقـد أرهقـه الطلـب حتـى تدلـى فـي بئـر‏.‏ فتدلـى فغمس في مائها وحتى سقط ابنه من جبل فتقطع ودل عليه رباح بالمداد فركب في طلبه فاختفـى عنـه ولـم يـره‏.‏ ولمـا اشتـد عليه الطلب أجمع الخروج وأغراه أصحابه بذلك‏.‏ وجاء الخبر إلـى ربـاح بأنـه الليلـة خـارج فأحضـر العبـاس بن عبد الله بن الحارث بن العباس ومحمد بن عمران بـن إبراهيـم بـن محمـد قاضـي المدينـة وغيرهما وقال لهم‏:‏ أمير المؤمنين يطلب محمداً شرق الأرض وغربهـا وهـو بيـن أظهركـم‏.‏ واللـه لئن خرج ليقتلنكم أجمعين‏.‏ وأمر القاضي بإحضار عشيرة بني زهرة فجاؤوا في جمع كثير وأجلسهم بالباب‏.‏ ثـم أحضـر نفـراً مـن العلوييـن فيهـم جعفـر بـن محمـد بـن الحسين وحسين بن علي بن حسين بن علي ورجال من قريش فيهم إسماعيل بن أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة وابنه خالد وبينما هم عنده إذ سمعوا التكبير وقيل قد خرج محمد فقال له ابن مسلم بن عقبة‏:‏ اعطني اضرب أعناق هؤلاء فأبى وأقبل من المداد في مائة وخمسين رجلاً وقصد السجن فأخرج محمد بن خالد بن عبد الله القسري وابن أخيه النذير بن يزيد ومن كان معهم وجعل علـى الرجالة خوات بن جبير وأتى دار الإمارة وهو ينادي بالكف عن القتل‏.‏ فدخلوا من باب المقصـورة وقبضـوا علـى ربـاح وأخيه عباس وابن مسلم بن عقبة فحبسهم ثم خرج إلى المسجد وخطب الناس وذكر المنصور بما نقمه عليـه ووعـد النـاس واستنصـر بهـم‏.‏ واستعمـل علـى المدينة عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي وعلى بيت السلاح عبد العزيز الدراوردي وعلى الشرط أبـا الغلمـش عثمـان بـن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة‏.‏ وأرسل إلى محمد بن عبد العزيز يلومه على القعود عنه فوعده بالبصرة وسار إلى مكة ولم يتخلـف عـن محمـد مـن وجوه الناس إلا نفر قليل‏:‏ منهم الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بـن حـرام وعبـد اللـه بـن المنـذر بـن المغيـرة بـن عبـد الله بن خالد وأبو سلمة بن عبيد الله بن عبد اللـه بـن عمـر وحبيـب بـن ثابـت بـن عبـد الله بن الزبير واستفتى أهل المدينة مالكاً في الخروج مع محمـد وقالوا‏:‏ في أعناقنا بيعة المنصور‏.‏ فقال‏:‏ إنما بايعتم مكرهين‏.‏ فتشارع الناس إلى محمد ولـزم مالـك بيتـه وأرسـل محمـد إلـى إسماعيـل بن عبد الله بن جعفر يدعوه إلى بيعته وكان شيخاً كبيراً فقال‏:‏ أنت والله وابن أخي مقتول فكيف أبايعك فرجع الناس عنه قليلاً وأسرع‏:‏ بنو معاويـة بـن عبـد اللـه بـن جعفـر إلـى محمـد فجاءت جمادة أختهم إلى عمها إسماعيل وقالت‏:‏ يا عم إن مقالتـك ثبطـت النـاس عـن محمـد وأخوتـي معـه فأخشى أن يقتلوا فردها‏.‏ فيقال إنها عدت عليه فقتلتـه ثـم حبـس محمـد بـن خالـد القسـري بعـد أن أطلقه واتهمه بالكتاب إلى المنصور فلم يزل في حبسه‏.‏ ولما استوى أمر محمد ركب رجل من آل أويس بن أبي سرح اسمه الحسين بن صخر وجاء إلـى المنصـور فـي تسـع فخبـره الخبـر فقـال أنـت رأيتـه قـال نعـم وكلمتـه علـى منبـر رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم ثـم تتابـع الخبـر وأشفـق المنصـور مـن أمـره واستشـار أهـل بيته ودولته‏.‏ وبعث إلى عمه عبـد اللـه وهو محبوس يستشيره فأشار عليه بأن يقصد الكوفة فإنهم شيعة لأهل البيت فيملك عليهم أمرهم ويحفها بالمسالح حتى يعرف الداخل والخارج ويستدعي سالم بن قتيبة من الري فيتحشد معه كافة أهل الشام ويبعثه وأن يبعث العطاء في الناس‏.‏ فخـرج المنصـور إلـى الكوفـة ومعـه عبـد اللـه بـن الربيـع بـن عبـد اللـه بـن عبـد المـدان‏.‏ ولمـا قدم الكوفة أرسل إلى يزيد بن يحيـى وكـان السفـاح يشـاوره فأشـار عليـه بـأن يشحـن الأهـواز بالجنـود وأشار عليه جعفر بن حنظلة الحراني بأن يبعث الجند إلى البصرة‏.‏ فلما ظهر إبراهيم بتلك الناحية تبين وجه إشارتهما‏.‏ وقال المنصور لجعفر‏:‏ كيف خفت البصرة قال‏:‏ لأن أهل المدينة ليسوا أهل حرب حبسهم أنفسهم وأهل الكوفة تحت قدمك وأهل الشام أعداء الطالبيين ولم ثم إن المنصور كتب إلى محمد المهدي كتاب أمان فأجابـه عنـه بالـرد والتعريـض بأمـور فـي الأنساب والأحوال فأجابه المنصور عن كتابه بمثل ذلك وانتصف كل واحد منهما لنفسه بما ينبغي الإعراض عنه مع أنهما صحيحان مرويان نقلهما الطبري فـي كتـاب الكامـل فمـن أراد الوقـوف فليلتمسهـا فـي أماكنهـا‏.‏ ثـم إن محمـد المهـدي استعمـل علـى مكـة محمـد بـن الحسن بن معاوية بـن عبـد اللـه بـن جعفـر وعلـى اليمـن القاسـم بن إسحاق وعلى الشام موسى بن عبد الله‏.‏ فسار محمد بن الحسن إلى مكة والقاسم معه ولقيهما السري بن عبد الله عامل مكة ببطن أذاخر فانهزم وملك محمد مكة حتى استنفره المهدي لقتال عيسى بن موسى فنفر هو والقاسم بن عبيد الله‏.‏ وبلغهما قتل محمد بنواحي قديد فلحق محمد بإبراهيم فكان معه بالبصرة واختفـى القاسـم بالمدينـة حتـى أخـذت لـه الأمـان امـرأة عيسـى وهـي بنت عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بـن جعفـر‏.‏ وأمـا موسـى بـن عبـد اللـه فسار إلى الشام فلم يقبلوا منه فرجع إلى المدينة‏.‏ ثم لحق بالبصرة مختفياً وعثر عليه محمد بن سليمان بن علي وعلى ابنه عبد الله وبعث بهما إلى المنصـور فضربهمـا وحبسهمـا‏.‏ ثـم بعـث المنصـور عيسى بن موسى إلى المدينة لقتال محمد فسار في الجنـود ومعـه محمـد بـن أبـي العبـاس بـن السفـاح وكثيـر بـن حصيـن العبـدي وحميـد بـن قحطبـة وهـو ازمرد وغيرهم فقال له‏:‏ إن ظفرت فأغمد سيفك وابذل الأمان وإن تغيب فخذ أهل المدينة فإنهم يعرفون مذاهبه ومن لقيك من آل أبي طالب فعرفني به ومن لم يلقك فاقبض ماله‏.‏ وكـان جعفر الصادق فيمن تغيب فقبض ماله‏.‏ ويقال إنه طلبه من المنصور لما قدم بالمدينة بعد ذلـك فقـال قبضـه مهديكـم‏.‏ ولمـا وصـل عيسـى إلـى فئتـه كتـب إلـى نفـر من أهل المدينة ليستدعيهم منهم‏:‏ عبد العزيز بن المطلب المخزومي وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي وعبـد اللـه بـن محمـد بـن عمـر بـن علي بن أبي طالب‏.‏ فخرج إليه عبد الله هو وأخوه عمر وأبو عقيـل محمـد بـن عبـد اللـه بـن محمـد بـن عقيل واستشار المهدي أصحابه في القيام بالمدينة ثم في الخندق عليها فأمر بذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وحفر الخندق الذي حفره رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم للأحـزاب‏.‏ ونـزل عيسـى الأعـرض وكـان محمد قد منع الناس من الخروج فخيرهم فخرج كثير منهم بأهلهم إلى الجبال وبقي في شرذمة يسيرة‏.‏ ثم تدارك رأيه وأمر أبا الغلمش بردهم فأعجزوه ونزل عيسى على أربعة أميال من المدينة وبعث عسكراً إلى طريق مكة يعترضون محمداً إن انهزم إلى مكة وأرسل إلى المهدي بالأمان والدعـاء إلـى الكتـاب والسنـة ويحـذره عاقبـة البغـي‏.‏ فقـال‏:‏ إنما أنا رجل فررت من القتل‏.‏ ثم نزل عيسـى بالحـرف لاثنتـي عشـرة مـن رمضان سنة خمس وأربعين فقام يومين ثم وقف على مسلم ونادى بالأمان لأهل المدينة وأن يخلوا بينه وبين صاحبه فشتموه فانصرف وعاد من الغد وقد فـرق القـواد مـن سائـر جهـات المدينـة وبـرز محمـد في أصحابه ورأيته مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وشعارهم أحد أحد‏.‏ وطلب أبو الغلمش من أصحابه البراز فبرز إليه أخو أسد فقتله ثم آخر فقتلوا وقال أنا ابن الفـاروق‏.‏ وأبلـى محمد المهدي يومئذ بلاءً عظيماً وقتل بيده سبعين رجلاً‏.‏ ثم أمر عيسى بن موسى حميد بن قحطبة فتقدم في مائة من الرجال إلى حائط دون الخندق فهدمه وأجازوا الخندق وقاتلوا من وراءه وصابرهم أصاب محمد إلى العصر‏.‏ ثم أمر عيسى أصحابه فرموا الخنـدق بالحقائـب ونصبـوا عليهـا الأبـواب وجـازت الخيـل واقتتلوا وانصرف محمد فاغتسل وتحنـط‏.‏ ثـم رجـع فقـال‏:‏ اتـرك أهـل المدينـة واللـه لا أفعـل أو اقتـل وأنـت مني في سعة فمشى قليلاً معـه‏.‏ ثـم رجـع وافتـرق عنـه جـل أصحابـه وبقـي فـي ثلثمائـة أو نحوهـا‏.‏ فقـال لـه بعض أصحابه نحن اليوم في عدة أهل بدر وطفق عيسى بن حصين من أصحابه يناشده في اللحاق بالبصرة أو غيرها فيقول والله لا تبتلون بي مرتين‏.‏ ثـم جمـع بيـن الظهـر والعصـر ومضـى فأحـرق الديـوان الـذي فيـه أسمـاء من بايعهم‏.‏ وجاء إلى السجن وقتل رياح بن عثمان وأخاه عباساً وابن مسلم بن عقبة وتوثق محمد بن القسري بالأبواب فلم يصلـوا إليـه‏.‏ ورجـع ابـن حصيـن إلـى محمـد فقاتـل معـه وتقـدم محمد إلى بطن سلع ومعه بنو شجاع من الخمس‏.‏ فعرقبوا دوابهم وكسروا جفون سيوفهم واستماتوا وهزموا أصحاب عيسى مرتين أو ثلاثـة‏.‏ وصعـد نفـر مـن أصحـاب عيسـى الجبـل وانحـدروا منـه إلـى المدينـة‏.‏ ورفـع بعـض نسوة إلى العبـاس خمـاراً لهـا أسـود على منارة المسجد‏.‏ فلما رآه أصحاب محمد وهم يقاتلون هربوا وفتح بنو غفار طريقاً لأصحاب عيسى فجاؤوا من وراء أصحاب محمد‏.‏ ونادى حميد بن قحطبة للبراز فأبى ونادى ابن حصين بالأمان فلـم يصـغ إليـه وكثـرت فيـه الجـراح‏.‏ ثـم قتـل وقاتـل محمـد علـى شلوه فهد الناس عنه هداً حتى ضرب سقط لركبته وطعنه ابـن قحطبـة فـي صـدره‏.‏ ثـم أخـذ رأسـه وأتـى بـه عيسـى فبعثه إلى المنصور مع محمد بن الكرام عبد الله بن علي بن عبد الله بن جعفر وبالبشارة مع القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن وأرسل معه رؤوس بني شجاع وكان قتل محمد منتصف رمضان‏.‏ وأرسل عيسـى الألويـة فنصبت بالمدينة للأمان وصلب محمد وأصحابه ما بين ثنية الوداع والمدينة واستأذنت زينب أخته في دفنه بالبقيع وقطع المنصور الميرة في البحر عن المدينة حتى أذن فيها المهدي بعده وكان مع المهدي سيف علي ذو الفقار فأعطاه يومئذ رجلاً من التجار في دين كان له عليه‏.‏ فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة أخذه منه وأعطاه من دينه‏.‏ ثم أخذه منه المهدي وكان الرشيـد يتقلـده وكـان فيه ثمان عشرة فقرة وكان معه من مشاهير بني هاشم أخو موسى وحمزة بـن عبـد اللـه بـن محمـد بـن علـي بـن الحسيـن وحسيـن وعلـي ابنـا زيد بن علي‏.‏ وكان المنصور يقول عجبـاً خرجـا علـي ونحـن أخذنـا بثـأر أبيهمـا‏.‏ وكـان معـه علـي وزيـد ابنا الحسن بن زيد بن الحسن وأبوهمـا الحسـن مـع المنصـور والحسـن ويزيـد وصالح بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر والقاسم بن إسحـاق بـن عبـد اللـه بـن جعفـر والمرجـى علـي بـن جعفـر بـن إسحـاق بـن علـي بـن عبـد اللـه بـن جعفـر وأبـوه علي مع المنصور من غير بني هاشم محمد بن عبد الله بن‏.‏ عمر بن سعيد بن العاص ومحمـد بـن عجلـان وعبـد اللـه بـن عمـر بـن حفـص بـن عاصـم وأبـو بكـر بـن عبـد اللـه بـن محمـد بـن أبي سبرة أخذ أسيراً فضرب وحبس في سجن المدينة فلم يزل محبوساً إلى أن نازل السودان بالمدينة على عبد الله بن الربيع الحارثي وفر عنها إلى بطن نخل وملكوا المدينة ونهبوا طعام المنصور‏.‏ فخرج ابن أبي سبرة مقيداً وأتى المسجد وبعث إلى محمد بن عمران ومحمد بن عبد العزيز وغيرهما وبعثوا إلى السودان وردوهم عما كانوا فيه فرجعوا ولم يصل الناس يومئذ جمعة‏.‏ ووقـف الأصبـغ بـن أبـي سفيـان بـن عاصـم بـن عبـد العزيز لصلاة العشاء ونادى أصلي بالناس على طاعـة أميـر المؤمنين وصلى‏.‏ ثم أصبح ابن أبي سبرة ورد من العبيد ما نهبوه ورجع ابن الربيع وكـان مـع محمـد بـن عبـد اللـه أيضاً عبد الواحد بن أبي عون مولى الأزد وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة وعبد العزيز بن محمد الدراوردي وعبد الحميد بن جعفر وعبد الله بن عطاء بن يعقوب مولى بني سباع وبنوه تسعة وعيسى وعثمان ابنا خضير‏.‏ وعثمـان بـن محمـد بـن خالـد بـن الزبيـر قتلـه المنصـور مـن بعـد ذلك لما أخذ بالبصرة وعبد العزيز بن إبراهيـم بـن عبـد اللـه بـن مطيـع وعلي بن المطلب بن عبد الله بن حنطب وإبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير وهشام بن عميرة بن الوليد بن بن عبد الجبار وعبد الله بن يزيد بن هرمز وغيرهم‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:07 PM

شأن إبراهيم بن عبد الله وظهوره ومقتله
كان إبراهيم بن عبد الله أخو المهدي محمد قد اشتد الطلب عليه وعلى أخيه منذ خمس سنيـن وكان إبراهيم يتنقل في النواحي بفارس وبكرمان والجبل والحجاز واليمن والشام وحضر مـرة مائـدة المنصور بالموصل وجاء أخرى إلى بغداد حين خطها المنصور مع النظار على قنطرة الفـرات حيـن شدهـا وطلبـه فغـاص في الناس فلم يوجد ووضع عليه الرصد بكل مكان‏.‏ ودخل بيت سفيان بن حيان العمى وكان معروفاً بصحبته فتحيل على خلاصه بأن أتى المنصور وقـال‏:‏ أنا آتيك بإبراهيم فاحملني وغلامي على البريد وابعث معي الجند ففعل‏.‏ وجاء بالجند إلـى البيت وأركب معه إبراهيم في زي غلامه وذهب بالجند إلى البصرة ولم يزل يفرقهم على البيوت ويدخلها موهماً أنه يفتشه حتى بقي وحده فاختفى‏.‏ وطلبه أمير البصرة سفيان بن معاوية فأعجزه وكان قدم قبل ذلك الأهواز فطلبه محمد بن حصيـن واختفـى منه عند الحسن بن حبيب ولقي من ذلك غياً‏.‏ ثم قدم إبراهيم البصرة سنة خمـس وأربعيـن بعـد ظهـور أخيـه محمد بالمدينة يحيى بن زياد بن حيان النبطي وأنزله بداره في بني ليث‏.‏ فدعا الناس إلى بيعة أخيه وكان أول من بايعه نميلة بن مرة العبسي وعبد الله بن سفيان وعبد الواحد بن زيـاد وعمـر بـن سلمـة الهجيمـي وعبـد اللـه بـن حـي بـن حصيـن الرقاشي وبثوا دعوته في الناس واجتمع لهم كثير من الفقهاء‏.‏ وأهل العلم‏.‏ وأحصى ديوانه أربعة آلاف واشتهر أمره‏.‏ ثم حولوه إلى وسط البصرة‏.‏ ونـزل دار أبـي مـروان مولـى بنـي سليـم فـي مقبـرة بنـي يشكـر وليقـرب مـن النـاس وولـاه سفيـان أميـر البصـرة علـى أمـره‏.‏ وكتـب إليـه أخـوه محمـد يأمـره بالظهور وكان المنصـور بظاهـر وأرسل من القواد مدد السفيان على إبراهيم أن ظهر‏.‏ ثم إن إبراهيم خرج أول رمضان من سنة خمس وأربعين وصلى الصبح فـي الجامـع وجـاء دار الإمـارة بابـن سفيـان وحبسـه وحبـس القـواد معـه وجـاء جعفـر ومحمـد ابنـا سليمـان بن علي في ستمائة رجل‏.‏ وأرسل إبراهيم إليهـا المعيـن بـن القاسـم الحـدروري فـي خمسيـن رجـلاً فهزمهمـا إلـى بـاب زينـب بنـت سليمـان بـن علـي وإليها ينسب الزينبيون من بني العباس‏.‏ فنادى بالأمان وأخذ من بيت المال ألفي ألف درهم وفرض لكل رجل من أصحابه خمسين‏.‏ ثـم أرسـل المغيـرة علـى الأهواز في مائة رجل فغلب عليها محمد بن الحصين وهو أربعه آلاف‏.‏ وأرسـل عمـر بـن شـداد إلـى فـارس وبهـا إسماعيل وعبد الصمد ابنا علي فتحصنا في دار بجرد وملك عمر نواحيها فأرسل هارون بن شمس العجلي في سبعة عشر ألفاً إلى واسط فغلب عليها هارون بن حميد الإيادي وملكها‏.‏ وأرسل المنصور لحربه عامر بن إسماعيل في خمسة آلـاف وقيـل في عشرين‏.‏ فاقتتلوا أياماً ثم تهادنوا حتى يروا مآل الأميرين المنصور وإبراهيم‏.‏ ثم جاء نعي محمد إلى أخيه إبراهيم قبل الفطر فصلى يوم العيد وأخبرهم فازدادوا حنقاً على المنصور‏.‏ ونفر في حره وعسكر من الغد واستخلف على البصرة غيلة وابنه حسنًـا معـه وأشار عليه أصحابه من أهل البصرة بالمقام وإرسال الجنود وإمدادهم واحداً بعد واحد‏.‏ وأشار أهل الكوفة باللحوق إليها لأن الناس في انتظارك ولو رأوك ما توانوا عنك فسار‏.‏ وكتـب المنصـور إلـى عيسـى بـن موسـى بإسـراع العـود وإلـى مسلـم بـن قتيبـة بالـري وإلـى سالم بقصد إبراهيـم وضم إليه غيرها من القواد‏.‏ وكتب إلى المهدي بإنفاذ خزيمة بن خازم الأهواز وفارس والمدائـن وواسـط والسـواد وإلـى جانبـه أهـل الكوفـة فـي مائة ألف يتربصون به‏.‏ ثم رمى كل ناحية بحجرها وأقام خمسين يوماً على مصلاه ويجلس ولم ينزع عنه جبته ولا قميصه وقد توسخا ويلبـس السـواد إذا ظهـر للنـاس وينزعه إذا دخل بيته‏.‏ وأهديت له من المدينة امرأتان فاطمة بنت محمـد بـن عيسـى بـن طلحـة بـن عبيـد اللـه وأمـة الكريـم بنـت عبـد الله من ولد خالد بن أسيد فلم يحفل بهما‏.‏ وقال‏:‏ ليست هذه أيام نساء حتى أنظر رأس إبراهيم إلي أو رأسي له‏.‏ وقـدم عليـه عيسـى بـن موسـى فبعثـه لحـرب إبراهيـم فـي خمسـة عشر ألفاً وعلى مقدمته حميد بن قحطبـة فـي ثلاثـة آلـاف وسـار إبراهيـم مـن البصرة ومائة ألف حتى نزلا بإزاء عيسى بن موسى على ستة عشر فرسخاً من الكوفة‏.‏ وأرسل إليه مسلم بن قتيبة بأن يخندق على نفسه أو يخالـف عيسـى إلـى المنصـور فهـو فـي حـف مـن الجنون ويكون أسهل عليك‏.‏ فعرض ذلك إبراهيم علـى أصحابـه فقالـوا‏:‏ نحـن هـارون وأبـو جعفـر فـي أيدينـا فأسمـع ذلـك رسـول سالـم فرجـع ثـم تصافـوا للقتال‏.‏ وأشار عليه بعض أصحابه أن يجعلهم كراديس ليكون أثبت والصف إذا انهزم بعضه تداعى سائره فأبى إبراهيم إلا الصف صف أهل الإسلام ووافقه بقية أصحابه‏.‏ ثم اقتتلـوا وانهـزم حميـد بـن قحطبـة وانهـزم معـه النـاس وعـرض لهـم عيسـى يناشدهـم اللـه والطاعـة‏.‏ فقـال لهـم حميـد لا طاعـة فـي الهزيمـة‏.‏ ولـم يبـق مـع عيسـى إلا فـل قليـل فثبـت واستمـات‏.‏ وبينما هو كذلك إذ قدم جعفر ومحمد بن سليمان بن علي وجاء من وراء إبراهيم وأصحابه فانعطفوا لقتالهم واتبعهم أصحاب عيسى‏.‏ ورجع المنهزمون من أصحابه بأجمعهم اعترضهـم أمامهـم فـلا يطيقـون مخافـة ولا وثوبـة فانهـزم أصحـاب إبراهيـم وثبت هو في ستمائة أو أربعمائة من أصحابـه وحميـد يقاتلـه‏.‏ ثـم أصابـه سهـم بنحره فأنزلوه واجتمعوا عليه‏.‏ وقال حميد‏:‏ شدوا على تلـك الجماعـة فأحصروهـم عن إبراهيم وقطعوا رأسه وجاؤوا به إلى عيسى فسجد وبعثه إلى المنصـور وذلـك لخمـس بقيـن مـن ذي القعـدة الحـرام سنـة خمـس وأربعيـن‏.‏ ولما وضع رأسه بين يدي المنصـور بكـى وقـال‏:‏ واللـه إنـي كنـت لهـذا كارهـاً ولكنـي ابتليـت بك وابتليت بي ثم جلس للعامة فأذن للناس فدخلوا ومنهم من يثلب إبراهيم مرضاة للمنصور حتى دخل جعفر بن حنظلة الهرانـي فسلـم ثـم قـال‏:‏ عظـم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط فيه من حقك فتهلل وجه المنصور وأقبل عليه وكناه بأبي خالد واستدناه‏.‏

بناء مدينة بغداد وابتدأ المنصور
سنة ست وأربعين في بناء مدينة بغداد وسبب ذلك ثورة الراوندية عليه بالهاشمية ولأنه كان يكره أهل الكوفة ولا يأمن على نفسه منهم‏.‏ فتجافى عن جوارهم وسار إلـى مكـان بغـداد اليـوم وجمع من كان هنالك من البطارقة فسألهم عن أحوال مواضعهم في الحر والبـرد والمطـر والوحـل والهـوام واستشارهـم فأشاروا عليه بمكانها‏.‏ وقالوا تجيئك الميرة في السفن مـن الشام والرقة ومصر والمغرب إلى المصرات‏.‏ ومن الصين والهند والبصرة وواسط وديار بكر والـروم والموصل في دجلة ومن أرمينية وما اتصل بها في تامر حتى يتصل بالزاب‏.‏ وأنت بين أنهار كالخنادق لا تعبر إلا على القناطر والجسور‏.‏ وإذا قطعتها لم يكن لعـدوك مطمـع وأنـت متوسط بين البصرة والكوفة وواسط والموصل قريب من البر والبحر والجبل‏.‏ فشرع المنصور في عمارتها‏.‏ وكتب إلى الشام والجبل والكوفة وواسط والبصرة في الصناع والفعلة واختار من ذوي الفضل والعدالة والعفة والأمانة والمعرفة بالهندسة فأحضرهم لذلك‏.‏ منهم الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفـة الفقيـه‏.‏ وأمـر بخطهـا بالرمـاد فشكلـت أبوابهـا وفضلانهـا وطاقاتها ونواحيها وجعل على الرماد حب القطن‏.‏ فأضرم ناراً ثم نظر إليها وهـي تشتعـل فعرف رسمها وأمر أن تحفر الأسس على ذلك الرسم‏.‏ ووكل بها أربعة من القواد يتولى كل واحـد منهـم ناحيـة‏.‏ ووكـل أبـا حنيفـة بعد الآجر واللبن‏.‏ وكان أراده على القضاء والمظالم فأبى‏.‏ فحلف أن لا يقلع عنه حتى يعمل له عملاً فكان هذا‏.‏ وأمر المنصور أن يكون عرض أساس القصر من أسفله خمسين ذراعاً ومن أعلاه عشرين وجعل في البناء القصب والخشب ووضع بيده أول لبنة وقال‏:‏ بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‏.‏ ثم قال ابنوا على بركة الله فلما بلغ مقدار قامة جاء الخبر بظهور محمد المهدي فقطع البناء وسار إلى الكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه ورجع من مدينة ابن هبيرة إلى بغداد واستمـر فـي بنائهـا واستشـار خالـد بـن برمـك فـي نقـض المدائن والإيوان‏.‏ فقال لا أرى ذلك لأنه من آثار الإسلام وفتوح العرب وفيه مصلى علي بن أبي طالب فاتهمه بمحبة العجم وأمر بنقض القصـر الأبيض فإذا الذي ينفق في نقضه أكثر من ثمن الجديد فأقصر عنه‏.‏ فقال خالد‏:‏ لا أرى إقصـارك عنـه لئـلا يقـال عجـزوا عـن هـدم مـا بنـاه غيرهـم فأعـرض عنه ونقل الأبواب إلى بغداد من واسط ومن الشام ومن الكوفة وجعل المدينة مدورة وجعل قصره وسطها ليكون الناس منه على حد سواء‏.‏ وجعل المسجد الجامع بجانب القصر وعمل لها سورين والداخل أعلـى مـن الخـارج‏.‏ ووضـع الحجاج بن أرطاة قبلة المسجد وكان وزن اللبنة التي يبني بها مائة رطل وسبعة عشر رطلاً وطولها ذراع في ذراع وكانت بيوت جماعة من الكتاب والقواد تشرع أبوابها إلى رحبة الجامع وكانت الأسواق داخل المدينة فأخرجهم إلى ناحية الكرخ لما كان الغرباء يطرقونها ويبيتون فيها وجعل الطرق أربعين ذراعاً وكان مقدار النفقة عليها في المسجد والقصر والأسواق والفصلان والخنـادق والأبـواب أربعـة آلـاف ألـف وثمانمائـة ألـف وثلاثة وثلاثين ألف درهم‏.‏ وكان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط والروز كاري بحبتين وحاسب القواد عند الفراغ منها فألزم كلاً بما بقي عنده وأخذه حتى أخذ من خالد بن الصلت منهم خمسة عشر درهماً بعد أن حبسه عليها‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:08 PM

العهد للمهدي وخلع عيسى بن موسى
كـان السفـاح قـد عهـد إلـى عيسى بن موسى بن علي وولاه على الكوفة فلم يزل عليها فلما كبر المهـدي أراد المنصـور أبـوه أن يقدمـه فـي العهد على عيسى وكان يكرمه في جلوسه فيجلس عن يمينه والمهدي عن يساره فكلمه في التأخر عن المهدي في العهد فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين كيف بالإيمـان التـي علـي وعلـى المسلميـن وأبـى ذلـك فتغيـر لـه المنصـور وباعـده بعـض الشـيء‏.‏ وصـار يـأذن للمهدي قبله ولعمه عيسى بن علي وعبد الصمد‏.‏ ثم يدخل عيسى فيجلس تحت المهدي واستمر المنصور على التنكر له وعزله عن الكوفة لثلاث عشرة سنةً من ولايته وولى مكانه محمد بن سليمان بن علي ثم راجع عيسى نفسه فبايع المنصور للمهدي بالعهد وجعل عيسى مـن بعـده‏.‏ ويقـال‏:‏ إنـه أعطـاه أحـد عشـر ألـف ألـف درهم ووضع الجند في الطرقات لأذاه وإشهاد خالد بن برمك عليه جماعة من الشيعة بالخلع تركت جميعها لأنها لا تليق بالمنصور وعدالته المقطوع بها فلا يصح من تلك الأخبار شيء‏.‏

خروج أستادسيس
كان رجل ادعى النبوة في جهات خراسان فاجتمع إليه نحو ثلثمائة ألف مقاتل من أهل هراة وباذغيس وسجستان وسار إليه الأخثم عامل مرو الروذ في العساكر فقاتل لأخثم وعامـة أصحابـه وتتابـع القـواد فـي لقائـه فهزمهـم‏.‏ وبعـث المنصـور وهـو بالبـرداق خـازم بـن خزيمة إلى المهدي فـي اثنـي عشـر ألفـاً فولـاه المهـدي حربـه فزحـف إليـه فـي عشريـن ألفـاً‏.‏ وجعـل علـى ميمنتـه الهيثم بن شعبة بن ظهير وعلى ميسرته نهار بن حصن السعدي وفي مقدمته بكار بن مسلم العقيلي ودفع لواءه للزبرقان‏.‏ ثم راوغهم في المزاحفة وجاء إلى موضع فخندق عليه وجعل له أربعة أبواب وأتى أصحاب أستادسيس بالفؤوس والمواعيل ليطموا الخندق فبدؤوا بالباب الذي يلي بكـار بـن مسلـم فقاتلهـم بكـار وأصحابـه حتـى ردوهـم عن بابهم‏.‏ فأقبلوا على باب خازم وتقدم منهم الحريش من أهل سجستان فأمر خازم الهيثم بن شعبة أن يخرج من باب بكار ويأتي العدو من خلفهم كانوا متوقعين قدوم أبي عون وعمر بن مسلم بن قتيبة وخرج خازم على الحريش واشتد قتاله معهم‏.‏ وبدت أعلام الهيثم من ورائهم فكبر أهل العسكر وحملوا عليهم فكشفوهم ولقيهم أصحاب الهيثم فاستمر فيهم القتال فقتل سبعون ألفاً وأسر أربعة عشر وتحصـن أستادسيـس علـى حكم أبي عون فحكم بأن يوثق هو وبنوه ويعتق الباقون وكتب إلى المهدي بذلك فكتب المهدي إلى المنصور‏.‏ ويقال‏:‏ إن أستادسيس أبو مراجل أم المأمون وابنه غالب خال المأمون الذي قتل الفضل بن سهل‏.‏

ولاية هشام بن عمرو التغلبي علي السند
كان على السند أيام المنصور عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة بـن أبـي صفـرة ويلقـب هزارمـرد - يعنـي ألـف رجـل - ولمـا كـان مـن أمـر المهـدي مـا قدمنـاه بعـث ابنه عبد الله الأشتر إلى البصـرة ليدعـو له فسار من هنالك إلى عمر بن حفص وكان يتشيع فأهدى له خيلاً يتمكن بها من لقائه‏.‏ ثم دعاه فأجاب وبايع له وأنزله عنده متخفياً ودعا القواد وأهل البلد فأجابوا فمزق الأعلام وهيأ لبسة من البياض يخطب فيها وهو في ذلك إذ فجأه الخبر بقتل المهدي فدخل علـى ابنـه أشتـر وعـزاه‏.‏ فقـال لـه اللـه في دمي فأشار عليه باللحاق بملك من ملوك السند عظيم المملكة كان يعظم جهة النبي صلى الله عليه وسلم وكان معروفاً بالوفاء فأرسل إليه بعد أن عاهد عليه واستقر عند ذلك الملك‏.‏ وتسلل إليه جماعة من الزيدية نحوًا من أربعمائة وبلغ ذلك المصور فغاظه وكتب إلى عمر بن حفـص بعزلـه وأقـام يفكـر فيمـن يوليـه السنـد وعـرض لـه يومًـا هشـام بن عمرو التغلبي وهو راكب ثم اتبعـه إلـى بيتـه وعـرض عليـه أختـه فقـال للربيع‏:‏ لو كانت لي حاجة في النكاح لقبلت فجزاك الله خيراً وقد وليتك السند فتجهز لها وأمره أن يحارب ملك السند ويسلـم إليـه الأشتـر ففعـل وأقام المنصور يستحثه‏.‏ ثم خرجت خارجة بالسند فبعث هشام أخاه سفيحاً لحسم الداء عنها فمر بنواحي ذلك الملك فوجد الأشتر يتنزه في شاطىء همذان في عشرة من الفرسان فجاء ليأخذه فقاتلهم حتى قتل وقتل أصحابه جميعاً‏.‏ وكتب هشام بذلك إلـى المنصـور‏.‏ فشكـره وأمـر بمحاربـة ذلـك الملـك فظفـر به وغلب على مملكته‏.‏ وبعث بسراري عبد الله الأشتر ومعـه ولـد منـه اسمـه عبـد اللـه بعـث بهـم المنصـور إلـى المدينـة وأسلمـه إلـى أهلـه‏.‏ ولمـا ولـى هشام بن عمـر علـى السنـد وعـزل عمـر بـن حفـص عنهـا‏.‏ ثـم حـدث فتـق بإفريقيـة بعثه إلى سده كما سيأتي في أخبارها‏.‏ ولما رجع المهدي من خراسـان قـدم عليـه أهـل بيتـه مـن الشـام والكوفـة والبصـرة فأجازهـم وكساهم وجملهم وكذلك المنصور‏.‏ ثم شعب عليهم الجند فأشار عليهم قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بأن يفرق بينهم ويستكفيه في ذلك وأمر بعض غلمانه أن يعترضه بدار الخلافة ويسأله بحق الله ورسله والعباس وأمير المؤمنين أبي الحسين من أشرف اليمن أم مضر فقـال‏:‏ مضـر كـان منهـا رسـول اللـه صلـى اللـه عليه وسلم وفيها كتاب الله وعندها بيت الله ومنها خليفـة اللـه فغضـب اليمـن إذ لـم يذكر لها فضلاً ثم كبح بعضهم بغلة قثم فامتنعت مضر وقطعوا الذي كبحها فتشاجر الحيان وتعصبت لليمن ربيعة والخراسانية وللدولة وأصبحوا أربع فرق وقـال قثـم للمنصـور اضـرب كـل واحـدة بالأخـرى وسيـر لابنـك المهـدي فلل أثير له بجنده فيتناظرون في أهل مدينتك فقبل رأيه وأمر صالحاً صاحب المصلى ببناء الرصافة للمهدي‏.‏ مقتل معن بن زائدة كـان المنصـور قـد ولـى علـى سجستـان معـن بـن زائـدة الشيبانـي وأرسـل إلـى رتبيـل فـي الضريبـة التـي عليـه فبعـث بهـا عروضـاً زائـدة الثمـن فغضب معن وسار إلى الرخج على مقدمته يزيد ابن أخيه يزيد ففتحها وسبى أهلها وقتلهم ومضى رتبيل إلى عزمه وانصرف معن إلى بست فشتى بهـا‏.‏ ونكـر قـوم مـن الخـوارج سيرتـه فهجموا عليه وفتكوا به في بيته‏.‏ وقام يزيد بأمر سجستان وقتـل قاتليـه واشتـدت علـى أهـل البلـاد وطأتـه فتحيل بعضهم بأن كتب المنصور على لسانه كتاباً يتضجـر مـن كتب المهدي إليه ويسأله أن يعفى من معاملته‏.‏ فأغضب ذلك المنصور وأقرأ المهدي كتابـه وعزلـه وحبسـه ثـم شفـع فيـه شخـص إلـى مدينـة السلـام فلـم يـزل مجفـواً حتى بعث إلى يوسف البرم بخراسان كما يذكر بعد‏.‏ العمال على النواحي أيام السفاح والمنصور كـان السفـاح قـد ولى عند بيعته على الكوفة عمه داود بن علي وجعل على حجابته عبد الله بن بن بسام وعلى شرطته موسى بن كعب وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك وبعث عمه عبـد اللـه قتـال مـروان مـع أبـي عـون بـن يزيـد بـن قحطبـة تقدمة‏.‏ وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس إلى المدائن وكان أحمد بن قحطبة تقدمة وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن عمار بـن ياسـر إلـى الأهـواز مـددًا لبسـام بـن إبراهيـم‏.‏ ودفـع ولايـة خراسـان إلـى أبـي مسلـم فولـى أبـو مسلم عليهـا إيـاداً وخالـد بن إبراهيم وبعث عمه عبد الله في مقدمته لحرب مروان أخاه صالحًا ومعه أبو عون بن يزيد فلما ظفر وانصرف ترك أبا عون يزيد بمصر واستقل عبد الله بولاية الشام‏.‏ وولـى السفـاح أخـاه أبـا جعفر على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان فولى على أرمينية يزيد بن أسد وعلـى أذربيجـان محمـد بـن صـول ونـزل الجزيـرة‏.‏ وكـان أبـو مسلـم ولـى علـى فـارس محمـد بـن الأشعث حيـن قتـل أبـا مسلمـة الخلـال فبعـث السفـاح عليهـا عيسـى فمنعـه محمد بن الأشعث واستخلفه على الولايـة فبعـث عليهـا عمـه إسماعيـل‏.‏ وولـى علـى الكوفـة ابن أخته موسى وعلى البصرة سفيان بن معاويـة المهلبـي وعلـى السنـد منصـور بـن جمهـور ونقـل عمـه داود إلى ولاية الحجاز واليمن واليمامة‏.‏ ثم ولى على البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان‏.‏ وتوفي داود بن علي سنة ثلاث وثلاثيـن فولى مكانه على اليمن محمد بن يزيد بن عبد الله بن عبد المدان وعلى مكة والمدينة والطائف واليمامة خاله زياد بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي وهو عم محمد بن يزيد‏.‏ وفيها بعث محمـد بـن الأشعـث إلـى إفريقيـة ففتحهـا‏.‏

وفي سنة أربـع وثلاثيـن
بعـث صاحـب الشرطـة موسى بن كعب لقتال منصور بن جمهور وولاه مكانه على السنـد فاستخلـف مكانـه علـى الشرطـة المسيـب بـن زهيـر‏.‏ وتوفـي عامـل اليمـن محمـد بـن يزيـد فولـى مكانـه علـي بـن الربيـع بـن عبيد اللـه الحارثـي‏.‏ ولمـا استخلـف المنصـور وانتقـض عبـد اللـه بـن علـي وأبـو مسلـم ولـى علـى خراسـان أبـا داود خالد بن إبراهيم وعلى مصر صالح بن علي وعلى الشام عبد الله بن علي‏.‏ ثـم هلـك خالـد بـن إبراهيـم سنـة أربعيـن فولـى مكانـه عبـد الجبـار بـن عبـد الرحمـن فانتقض لسنة من ولايته فبعث المنصور ابنه المهدي على خراسان وفي مقدمته خازم بن خزيمة فظفر بعبد الجبـار‏.‏ وتوفـي سليمـان عامـل البصـرة سنـة أربعيـن فولـى مكانـه سفيـان بـن معاويـة ومـات موسى بن كعب بالسند وولى مكانه ابنه عيينة فانتقض فبعث المنصور مكانه عمر بن حفص بن أبي صفـرة‏.‏ وولـى علـى مصـر فـي هـذه السنة حميد بن قحطبة وولى على الجزيرة والثغور والعواصم أخاه العباس بن محمد وكان بها يزيد بن أسيد وعزل عمه إسماعيل عن الموصل وولى مكانه مالك بن الهيثم الخزاعي‏.‏

وفي سنة سـت وأربعيـن
عـزل الهيثـم بـن معاويـة وولى على مكة والطائف مكانه السري بن عبد اللـه بـن الحـارث بـن العبـاس نقلـه إليهـا مـن اليمامـة وولـى مكانـه من اليمن قثم بن العباس بن عبد الله بـن العبـاس وعـزل حميـد بـن قحطبـة عـن مصـر وولى مكانه نوفل بن الفرات‏.‏ ثم عزله وولى مكانه يزيـد بـن حاتـم بـن قبيصـة بـن المهلـب بـن أبـي صفـرة وولـى على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري ثم اتهمه في أمر ابن أبي الحسن فعزله وولى مكانه رباح بن عثمان المزني‏.‏ ولما قتله أصحاب محمد المهدي ولى مكانه عبد الله بن الربيع الحارثي‏.‏ ولما قتل إبراهيم أخو المهدي سنة خمس وأربعين ولى المنصور على البصرة سالم بن قتيبة الباهلـي وولـى علـى الموصل ابنه جعفراً مكان مالك بن الهيثم وبعث معه بن عبد الله من أكابر قـواده ثـم عـزل سالـم بـن قتيبـة عـن البصـرة سنـة سـت وأربعيـن وولـى مكانـه محمـد بـن سليمان وعزل عبـد اللـه بـن الربيـع عـن المدينـة وولـى مكانـه جعفـر بـن سليمان وعزل السري بن عبد الله عن مكة وولـى مكانـه عمـه عبـد الصمـد بـن علي وولى سنة سبع وأربعين على الكوفة محمد بن سليمان مكـان عيسـى بـن موسـى لمـا سخطـه لـه بسبب العهد وولى مكان محمد بن سليمان على البصرة محمد بن السفاح فاستعفاه ورجع إلى بغداد فمات واستخلف بها عقبة بن سالم فأقره وولى على المدينة جعفر بن سليمان وولى سنة ثمان وأربعين على الموصل خالد بن برمك لإفساد الأكـراد فـي نواحيها وعزل سنة تسع وأربعين عمه عبد الصمد عن مكة وولى مكانه محمد بن إبراهيم‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:09 PM

وفي سنة خمسيـن
عـزل جعفـر بـن سليمـان عـن المدينـة وولـى مكانـه الحسـن بـن زيـد بـن الحسـن‏.‏

وفي سنة إحـدى وخمسيـن
عـزل عمـر بـن حفـص عـن السنـد وولى مكانه هشام بن عمرو التغلبي وولى عمـر بـن حفـص علـى أفريقيـة‏.‏ ثـم بعـث يزيـد بن حاتم من مصر مدداً له وولى مكانه بمصر محمد بـن سعيـد‏.‏ وفي هذه السنة قتل معن بن زائدة بسجستان كما تقدم فقام بأمره يزيد ابن أخيه يزيـد فأقـره المنصـور ثـم عزلـه‏.‏ وفـي هـذه السنـة سـار عقبـة بـن سالـم مـن البصـرة واستخلـف نافـع بن عقبة فغزا البحرين وقتل ابن حكيم العدوي واستقصره المنصور بإطلاق أسراهم فعزله وولى جابـر بـن مومـة الكلابـي ثـم عزلـه وولـى مكانـه عبد الملك بن ظبيان النميري ثم عزله وولى الهيثم بن معاوية العكي‏.‏ وفيها ولى على مكة والطائف محمد بن إبراهيم الإمام ثم عزله وولى مكانه إبراهيم ابن أخيه يحيى بن محمد وولى على الموصل إسماعيل بن خالد بن عبد الله القسري‏.‏ ومات أسيد بن عبد الله أمير خراسان فولى مكانه حميـد بـن قحطبـة‏.‏

وفي سنة ثلـاث وخمسيـن
توفـي عبيـد اللـه ابـن بنـت أبـي ليلـى قاضـي الكوفة فاستقضى شريك بن عبد الله النخعي وكان على اليمن يزيد بن منصور‏.‏

وفي سنة خمـس وأربعيـن
بـل أربـع وخمسيـن عـزل عـن الجزيـرة أخـاه العبـاس وأغرمـه مـالاً وولى مكانه موسى بن كعب الخثعمي وكان سبب عزله شكاية يزيد بن أسيد منه ولم يزل ساخطاً على العباس حتى غضب على عمه إسماعيل فشفع فيه أخوته عمومة المنصور‏.‏ فقال عيسى بن عيسـى‏:‏ يـا أميـر المؤمنيـن شفعـوا فـي أخيهـم وأنـت ساخـط علـى أخيـك العبـاس منـذ كـذا ولـم يكلمـك فيه أحد منهم فرضي عنه‏.‏

وفي سنة خمـس وخمسيـن
عـزل محمـد بـن سليمـان عن الكوفة وولى مكانه عمر بن زهير الضبي أخا المسيب صاحب الشرطة وكان من أسباب عزله أنه حبس عبد الكريم بن أبي العوجاء خال معن بن زائدة على الزندقة وكتب إليه أن يتبين أمره فقتله قبل وصول الكتاب‏.‏ فغضب عليـه المنصور وقال‏:‏ لقد هممت أن أقيده به وعزل عمه عيسى في أمره لأنه الذي كان أشار بولايتـه‏.‏ وفيهـا عـزل الحسـن بـن زيـد عـن المدينـة وولـى مكانـه عمـه عبـد الصمد بن علي وكان على الأهواز وفارس عمارة بن حمزة‏.‏

وفي سنة سبـع وخمسيـن
ولـى علـى البحريـن سعيـد بـن دعلـج صاحـب الشرطـة بالبصرة فأنفذ إليها ابنـه تميمـاً ومـات سـوار بـن عبـد الله قاضي البصرة فولى مكانه عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبـري‏.‏ وعزل محمد بن الكاتب عن مصر وولى مكانه مولاه مطراً وعزل هشام بن عمرو عن السنـد وولـى مكانـه معبـد بـن الخليـل‏.‏

وفي سنة ثمـان وخمسين
عزل موسى بن كعب عن الموصل لشيء بلغه عنه فأمر ابنه المهدي أن يسير إلى الرقة مورياً بزيارة القدس ويكفل طريقه على الموصل فقبض عليه وكان المنصور قد ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف درهم وأجله في إحضارهـا ثلاثـاً وإلا قتله فبعث ابنه يحيى إلى عمارة بن حمزة ومبارك التركي وصالح صاحب المصلـى وغيرهـم مـن القـواد ليستقـرض منهـم قـال يحيـى‏:‏ فكلهـم بعث إلا أن منهم من منعني الدخول ومنهـم مـن يجيبنـي بالـرد إلا عمـارة بـن حمـزة فإنـه أذن لـي ووجهـه إلـى الحائـط ولم يقبل علي وسلمت فرد خفيفاً وسأل كيف خالد فعرفته واستقرضته فقال‏:‏ إن أمكنني شيء يأتيك فانصرفت عنه ثم أنفذ المال فجمعناه في يومين وتعذرت ثلثمائة ألف‏.‏ وورد على المنصور انتقاض الموصل والجزيـرة وانتشار الأكراد بها وسخط موسى بن كعب فأشار عليه المسيب بن زهير بخالد بن برمـك فقـال‏:‏ كيـف يصلـح بعدمـا فعلنا‏.‏ فقال أنا ضامنه فصفح له عما بقي عليه وعقد له على الموصل ولابنه يحيى على أذربيجان‏.‏ وسارا مع المهدي فعزل موسى بن كعب وولاهما‏.‏ قـال يحيـى‏:‏ وبعثنـي خالـد إلـى عمـارة بقرضـه وكـان مائـة ألـف فقـال لـي أكنـت لأبيـك صديقـاً قـم عنـي لا قمـت ولـم يـزل خالـد علـى الموصـل إلـى وفـاة المنصـور‏.‏ وفـي هـذه السنـة عـزل المنصـور المسيـب بن زهيـر عـن شرطتـه وحبسـه مقيـداً لأنـه ضـرب أبـان بـن بشيـر الكاتـب بالسياط حتى قتله وكان مع أخيـه عمـر بـن زهيـر بالكوفـة‏.‏ وولـى المنصـور علـى فـارس نصر بن حرب بن عبد الله‏.‏ ثم على الشرطة ببغداد عمر بن عبد الرحمن أخا عبد الجبار وعلى قضائها عبد الله بن محمد بن صفوان‏.‏ ثم شفع المهدي في المسيب وأعاده إلى شرطته‏.‏

الصوائف
كان أمر الصوائف قد انقطع منذ سنة ثلاثين بما وقع من الفتن فلما كانت سنة ثلاث وثلاثين أقبل قسطنطين ملك الروم إلى ملطية ونواحيها فنـازل حصـن بلـخ واستنجـدوا أهـل ملطيـة فأمدوهم بثمانمائة مقاتل فهزمهم الروم وحاصروا ملطية والجزيرة مفتوحـة وعاملهـا موسـى بـن كعـب بخراسـان فسلمـوا البلـد علـى الأمـان لقسطنطيـن‏.‏ ودخلوا إلى الجزيرة وخرب الروم ملطية ثم ساروا إلى قاليقـلا ففتحوهـا‏.‏ وفـي هـذه السنـة سـار أبـو داود وخالـد بـن إبراهيـم إلـى الجتـن فدخلهـا فلم تمتنع عليه وتحصن منه السبيل ملكهم وحاصره مدة ثم فرض الحصن ولحق بفرغانة‏.‏ ثـم دخلـوا بلـاد التـرك وانتهـوا إلـى بلـد الصيـن وفيهـا بعـث صالـح بـن علـي بـن فلسطيـن سعيـد بـن عبد الله لغزو الصائفة وراء الدروب‏.‏

وفي سنة خمس وثلاثين
غزا عبد الرحمن بن حبيب عامل أفريقية جزيـرة صقليـة فغنـم وسبـى وظفـر بمـا لـم يظفـر بـه أحـد قبلـه‏.‏ ثـم سفـل ولـاة إفريقيـة بفتـن البربـر فأمن أهل صقلية وعمر الحصون والمعاقل وجعلوا الأساطيل تطوف بصقليـة للحراسـة وربمـا صادفـوا تجـار المسلميـن فـي البحـر فأخذوهـم‏.‏

وفي سنة ثمـان وثلاثيـن
خـرج قسطنطين ملك الروم فأخذ ملطية عنوةً وهدم سورها وعفا عن أهلها‏.‏ فغزا العباس بن محمد الصائفة ومعه عماه صالح وعيسى وبنى ما خربه الروم من سور ملطية أثناء ثورة الروم ورد إليها أهلها وأنزل بها الجند ودخل دار الحرب من درب الحرث وتوغل في أرضهم ودخل جعفر بن حنظلة البهراني من درب ملطية‏.‏

وفي سنة تسع وثلاثين
كـان الفـداء بيـن المسلميـن والـروم فـي أسـرى قاليقـلا وغيرهـم‏.‏ ثـم غـزا بالصائفـة سنـة أربعيـن عبـد الوهـاب بـن إبراهيـم الإمـام ومعـه الحسـن بـن قحطبـة وسار إليهم قسطنطين ملك الروم في مائة ألف فبلغ جيحان وسمع كثرة المسلمين فأحجم عنهم ورجع ولم تكن بعدها صائفة إلى سنـة سـت وأربعيـن لاشتغـال المنصـور بفتنـة بنـي حسـن‏.‏

وفي سنة سـت وأربعيـن
خـرج الترك والحدر من باب الأبواب وانتهوا إلى أرمينية وقتلوا من أهلها جماعة ورجعوا‏.‏

وفي سنة سبـع وأربعيـن
أغـار أسترخـان الخوارزمـي فـي جمـع مـن التـرك علـى أرمينية فغنم وسبى ودخل تفليس فعاث فيها‏.‏ وكان حرب بن عبد الله مقيماً بالموصل في ألفين من الجند لمكان الخوارزمي بالجزيرة فأمره المنصور بالمسير لحرب الترك مع جبريل بن يحيى فانهزموا وقتل حرب فـي كثيـر مـن المسلميـن‏.‏ وفيهـا غـزا بالصائفـة مالـك بـن عبـد اللـه الخثعمي من أهل فلسطين ويقال له ملـك الصوائـف فغنـم غنائـم كثيرة وقسمها بدرب الحرث‏.‏

وفي سنة تسع وأربعين
غزا بالصائفة العباس بن محمد ومعه الحسن بـن قحطبـة ومحمـد بـن الأشعـث فدخلـوا أرض الـروم وعاثـوا ورجعوا‏.‏ ومات محمد بن الأشعث في طريقه في سنة إحدى وخمسين وقتل أخوه محمد ولم يدر‏.‏ ثـم غـزا بالصائفـة سنـة أربـع وخمسيـن زفـر بـن عاصـم الهلالـي‏.‏

وفي سنة خمـس
بعدهـا طلـب ملك الروم الصلح على أن يؤدي الجزية وغزا بالصائفة يزيد بن أسيد السلمي وغزا بها سنة ست وخمسين وغزا بالصائفة معيوب بن يحيى من درب الحرث ولقي العدو فاقتتلوا ثم تحاجزوا‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:11 PM

وفي سنة ثمـان وخمسيـن
توفـي المنصـور منصرفـاً مـن الحج ببئر ميمون لست خلت من ذي الحجة وكان قد أوصى المهدي عند وداعه فقال‏:‏ لم أدع شيئاً إلا تقدمـت إليـك فيـه وسأوصيـك بخصـال ومـا أظنـك تفعـل واحـدة منهـا وله سفط فيه دفاتر علمه وعليه قفل لا يفتحه غيره‏.‏ فقال المهدي‏:‏ انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به فإن فيه علم آبائك ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الكبير فإن أصبت فيـه مـا تريـد وإلا ففـي الثانـي والثالث حتى تبلغ سبعة‏.‏ فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة فإنك واجد ما تريد فيها وما أظنك تفعل‏.‏ فانظر هذه المدينة وإياك أن تستبدل بها غيرها وقد جمعت فيها من الأموال ما أنكر عليك الخـراج عشـر سنيـن كفـاك لـأرزاق الجند والنفقات والذرية ومصلحة البيوت‏.‏ فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزاً ما دام بيت مالك عامراً وما أظنك تفعل‏.‏ وأوصيك بأهل بيتك وأن تظهر كرامتهم وتحسن إليهم وتقدمهم وتوطىء الناس أعقابهم وتوليهم المنابر فإن عزك عزهم وذكرهم لك وما أظنك تفعل‏.‏ وأوصيـك بأهـل خراسـان خيـراً فإنهـم أنصـارك وشيعتـك الذيـن بذلـوا أموالهـم ودماءهم في دولتك وأن لا تخرج محبتك من قلوبهم وأن تحسن إليهـم وتتجـاوز عـن مسيئهـم وتكافئهـم عمـا كـان منهـم وتخلـف مـن مات منهم في أهله وولده وما أظنك تفعل‏.‏ وإياك أن تبني مدينة الشرقيـة فإنـك لا تتـم بناءهـا وأظنـك ستفعـل‏.‏ وإيـاك أن تستعيـن برجـل مـن بنـي سليـم وأظنـك ستفعل‏.‏ وإياك أن تدخل النساء في أمرك وأظنك ستفعل‏.‏ وقيل قال له إني ولدت في ذي الحجـة ووليـت فـي ذي الحجـة وقـد يحـس فـي نفسـي أن أمـوت فـي ذي الحجـة فـي هـذه السنـة وإنمـا حـد لـي الحـج علـى ذلـك‏.‏ فاتـق اللـه فيمـا أعهـد إليـك مـن أمـور المسلمين بعـدي يجعـل لـك فيما كربك وحزنك فرجاً ومخرجاً ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسـب‏.‏ يـا بنـي احفـظ محمـداً صلـى اللـه عليـه وسلم في أمته يحفظك الله ويحفظ عليك أمورك وإيـاك والـدم الحـرام فإنـه حـوب عنـد الله عظيم وعار في الدنيا لازم مقيم والزم الحدود فإن فيها صلاحـك فـي الأجـل وصلاحـك فـي العاجـل ولا تعتـد فيها فتبور فإن الله تعالى لو علم أن شيئاً أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه‏.‏ واعلـم أن مـن شـدة غضـب اللـه لسلطانـه أمـر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى فـي الـأرض فسـاداً مـع مـا ادخـر لـه مـن العـذاب الأليـم فقـال‏:‏ ‏"‏ إنمـا جـزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعـون فـي الـأرض فسـاداً ‏"‏ الآيـة‏.‏ فالسلطـان يـا بنـي حبل الله المتين وعروته الوثقى ودينه المقيم فاحفظه وحصنه وذب عنه وأوقع بالملحدين واقمع المارقين منه وقابل الخارجين عنه بالعقاب ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن‏.‏ واحكم بالعدل ولا تشطط فإن ذلك أقطع للشعب وأحسم للعدو وأنجع في الدواء واعف عن الفيء فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك‏.‏ وافتتح بصلة الرحم وبر القرابة وإياك والأثرة والتبديد لأموال الرعية واشحن الثغور واضبط الأطراف وأمن السبيل وسكن العامة وأدخل المرافق عليهم وارفع المكاره عنهم وأعد الأموال واخزنها وإياك والتبديد فإن النوائب غير مأمونة وهي من شيم الزمان‏.‏ وأعد الأكراع والرجال والجند ما استطعت‏.‏ وإياك وتأخير عمل اليوم لغد فتتداول الأمور وتضيع وخذ في أحكام الأمور النازلـات فـي أوقاتهـا أولاً أولاً واجتهـد وشمـر فيهـا وأعـد رجـالاً بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار ورجالاً بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل‏.‏ وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر ولا تكسل واستعمل حسن الظن وأسىء الظن بعملك وكتابك وخذ نفسك بالتيقظ وتفقد من يبيت على بابك وسهل إذنـك للنـاس وانظـر فـي أمـر النـزاع إليـك وكـل بهـم عيناً غير نائمة ونفساً غير ساهية‏.‏ ولا تنم فإن أبـاك لـم ينـم منـد ولـي الخلافـة ولا دخـل عينيـه الغمـض إلا وقلبـه مستيقـظ‏.‏ هـذه وصيتي إليك والله خليفتي عليك‏.‏ ثم ودعه وسار إلى الكوفة فأحرم منها قارناً وساق الهدي وأشعره وقلده لأيام خلت من ذي القعدة‏.‏ ولما سار منازل عرض له وجعه الذي مات به‏.‏ ثم اشتد فجعل يقول للربيع - وكان عديلـه - بـادر بـي إلـى حـرم ربـي هاربـاً مـن ذنوبـي فلمـا وصـل بئر ميمون مات سحر السادس من ذي الحجـة لـم يحضـر إلا خدمـه والربيـع مولـاه‏.‏ فكتموا الأمر ثم غدا أهل بيته على عادتهم فدعا عيسى بن علي العم ثم عيسى بن موسى بن محمد ولي العهد ثم الأكابر وذوي الأنساب ثم عامتهـم‏.‏ فبايعهـم الربيع للمهدي ثم بايع القواد وعامة الناس‏.‏ وسار العباس بن محمد ومحمد بن سليمـان إلـى مكـة فبايعـا النـاس للمهـدي بيـن الركـن والمقـام وجهزوه إلى قبره وصلى عليه عيسى بن موسى وقيل إبراهيم بن يحيى‏.‏ ودفن في مقبرة المعلاة وذلك لاثنتين وعشرين سنة من خلافته‏.‏ وذكـر علـي بـن محمـد النوفلي عن أبيه وهو من أهل البصرة وكان يختلف إلى المنصور تلك الأيام قال‏:‏ جئت من مكة صبيحة موته إلى العسكر فإذا موسى بن المهدي عند عمود السرادق والقاسم بن المنصور في ناحية فعلمت أنه قد مات‏.‏ ثـم أقبـل الحسـن بـن زيـد العلوي والناس حتى ملؤوا السردق وسمعنا همس البكاء‏.‏ ثم خرج أبو العنبـر الخـادم مشقـوق الأقبيـة وعلـى رأسـه التـراب وهـو يستغيـث وقام القاسم فشق ثيابه ثم خرج الربيع وفي يده قرطاس فقرأه على الناس وفيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏من عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف من بني هاشم وشيعة من أهل خراسان وعامـة المسلميـن ثـم بكـى وبكى الناس ثم قال‏:‏ البكاء إمامكم فانصتوا رحمكم الله ثم قرأ‏:‏ أما بعـد فإنـي كتبـت كتابـي هذا وأنا حي في آخر يوم من أيام الدنيا أقرأ عليكم السلام وأسأل الله أن لا يفتنكم بعدي ولا يلبسكم شيعاً ولا يذيق بعضكم بأس بعض‏.‏ ثم أخذ في وصيتهم للمهدي وحثهم على الوفاء بعهده‏.‏ ثم تناول الحسن بن زيد وقال‏:‏ قم فبايع‏:‏ فبايع موسى بن المهدي لأبيه ثم بايع الناس الأول فالأول‏.‏ ثم دخل بنو هاشم وهو في أكفانه مكشوف الرأس لمكان الإحرام فحملوه على ثلاثة أميال من مكة فدفنوه‏.‏ وكان عيسى بن موسى لما بايع الناس أبى من الشيعة فقال له علي بن عيسى بن ماهان‏:‏ والله لتبايعن وإلا ضربنا عنقك‏.‏ ثم بعث موسى بن المهدي والربيع بالخبر والبردة والقضيب وخاتم الخلافة إلى المهدي وخرجوا من مكة‏.‏ ولما وصل الخبر إلى المهدي منتصف ذي الحجة اجتمع إليه أهل بغداد وبايعوه وكان أول ما فعلـه المهـدي حيـن بويـع أنـه أطلـق مـن كـان فـي حبـس المنصـور إلا مـن كـان فـي دم أو مـال أو ممـن يسعـى بالفساد وكان فيمن أطلق يعقوب بن داود وكان محبوسًا مع الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن‏.‏ فلما أطلق ساء ظن إبراهيم وبعث إلى من يثق به بحفر سرب يفضي إلى محبسه وبلغ ذلك يعقـوب بـن داود فجـاء إلـى ابـن علاثـة القاضـي وأوصلـه إلـى أبـي عبيـد اللـه الوزيـر ليوصلـه إلـى المهـدي فأوصله واستخلاه فلم يحدثه حتى قام الوزير والقاضي وأخبره بتحقيق الحال فأمره بتحويل الحسـن ثـم هـرب بعـد ذلـك ولـم يظفـر بـه‏.‏ وشـاور يعقـوب بـن داود فـي أمـره فقـال‏:‏ اعطه الأمان وأنا أحضره وأحضره‏.‏ ثم طلب من المهدي أن يجعل له السبيل في رفع أمور الناس وراء بابه إليه فأذن له وكان يدخل كلما أراد ويرفع إليه النصائح في أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وترويح العذاب وفكاك الأسرى والمحبوسين والقضاء على الغارميـن والصدقـة علـى المتعففيـن فحظـي بذلـك وتقدمـت منزلته وسقطت منزلة أبي عبد الله ووصله المهدي بمائة ألف وكتب له التوقيع بالإخاء في الله‏.‏ ظهور المقنع ومهلكه كان هذا المقنع من أهل مرو ويسمى حكيماً وهاشمياً وكان يقول بالتناسخ وأن الله خلق آدم فتحول في صورتـه ثـم فـي صـورة نـوح ثـم إلـى أبـي مسلـم ثـم إلـى هاشـم وهـو المقنـع‏.‏ فظهـر بخراسـان وادعـى الإلهيـة واتخـذ وجهـاً مـن ذهب فجعله على وجهه فسمي المقنع وأنكر قتل يحيى بن زيد وزعـم أنـه يأخـذ بثـأره وتبعـه خلق عظيم من الناس وكانوا يسجدون له‏.‏ وتحصن بقلعة بسام من رساتيق كش وكان قد ظهر ببخارى والصغد جماعة من المبيضة فاجتمعوا معه على الخلاف وأعانهـم كفـار الأتـراك وأغـاروا على المسلمين من ناحيتهم وحاربهم أبو النعمان والجنيد وليث بن نصر بن سيار فقتلوا أخاه محمد بن نصر وحسان ابن أخيه تميم‏.‏ وأنفذ المهدي إليهم جبريل بن يحيى وأخاه يزيد لقتال المبيضة فقاتلوهم أربعة أشهر في بعض حصـون بخـارى وملكـوه عنـوةً فقتـل منهـم سبعمائـة ولحـق فلهـم بالمقنـع وجبريـل في اتباعهم‏.‏ ثم بعث المهـدي أبـا عـون لمحاربـة المقنـع فلـم يبالـغ فـي قتالـه فبعـث معـاذ بـن مسلم في جماعة القواد والعساكر وعلـى مقدمتـه سعيـد الحريشـي وأتـاه عقبـة بـن مسلـم مـن ذم فاجتمعـوا بالطواويـس وأوقعـوا بأصحـاب المقنـع فهزموهـم ولحـق فلهـم بالمقنـع فـي بسـام فتحصنوا بها‏.‏ وجاء معاذ فنازلهم وفسد ما بينه وبين الحريشي فكتب الحريشي إلى المهدي بالسعاية في معاذ ويضمن الكفاية إن أفرد بالحـرب فأجابـه المهـدي إلـى ذلـك وانفـرد بحـرب المقنع وأمده معاذ بابنه وجاؤوا بآلات الحرب حتى طلـب أصحاب المقنع الأمان سراً فأمنهم وخرج إليه ثلاثون ألفاً وبقي معه زهاء ألفين وضايقوه بالحصار فأيقن بالهلاك وجمع نساءه وأهله‏.‏ فيقال سقاهم السم ويقال بل أحرقهم وأحرق نفسه بالنار ودخلوا القلعة وبعث الحريشي برأس المقنع إلى المهدي فوصـل إليـه بحلـب سنـة ثلـاث وتسعين‏.‏ وعزل المهدي سنة تسع وخمسين عمه إسماعيل عن الكوفة وولى عليها إسحق بن الصفاح الكنـدي ثـم الأشعـي وقتـل عيسـى بـن لقمـان بـن محمـد بـن صاحـب الجمحـي وعـزل سعيد بن دعلج عن أحداث البصرة وعبيد الله بن الحسن عن الصلاة وولى مكانهما عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النميـري‏.‏ ثـم جعـل الأحـداث إلـى عمـارة بـن حمـزة فولاهـا للسـود بـن عبـد اللـه الباهلـي‏.‏ وعـزل قثم بن العباس عن اليمامة وولى مكانه الفضل بن صالح وعزل مطراً مولى المنصور عن مصر وولى مكانه أبا ضمرة محمد بن سليمان‏.‏ وعزل عبد الصمد بن علي عن المدينة وولى مكانه محمـد بـن عبـد اللـه الكثيـري ثـم عزلـه وولـى عبـد اللـه بـن محمـد بـن عبـد الرحمن بن صفوان ثم عزله وولى مكانه زفر بن عاصم الهلالي‏.‏ وتوفـي معبـد بـن الخليـل عامـل السنـد فولـى مكانـه روح بـن حاتـم بإشـارة وزيـره أبـي عبـد الله وتوفي حميـد بـن قحطبـة بخراسـان فولـى عليهـا مكانـه أبـا عـون عبـد الملـك بـن يزيـد ثم سخطه سنة ستين فعزلـه وولـى معـاذ بـن مسلـم‏.‏ وولـى علـى سجستـان حمـزة بـن يحيـى وعلـى سمرقنـد جبريل بن يحيى فبنـى سورهـا وحصنهـا‏.‏ وكـان علـى اليمـن رجـاء بـن روح وولـى علـى قضـاء الكوفـة شريـك‏.‏ وولى علـى فـارس والأهـواز ودجلـة قاضـي البصرة عبيد الله بن الحسن ثم عزله وولى مكانه محمد بن سليمان‏.‏ وولى على السند بسطام بن عمر وولى على اليمامة بشر بن المنذر‏.‏

وفي سنة إحـدى وتسعيـن
ولـى علـى السنـد محمـد بـن الأشعث واستقضى عافية القاضي مع ابن علاثة بالرصافة وعزل الفضل بن صالح عن الجزيرة وولى مكانه عبد الصمد بن علي وولى عيسـى بـن لقمـان علـى مصـر ويزيـد بـن منصـور علـى سـواد الكوفة وحسان السروري على الموصل وبسطام بن عمرو التغلبي على أذربيجان وعزله عن السند‏.‏ وتوفي نصر بن مالك بن صالح صاحب الشرطة فولى مكانه حمزة بن مالك وكان الأبان بن صدقة كاتباً للرشيد فصرفه وجعله مع الهادي وجعل هو مع هارون يحيى بن خالد وعزل محمـد بـن سليمـان أبـا ضمـرة عن مصر وولى مكانه سليمان بن رجاء‏.‏ وكان على سواد الكوفة يزيد بن منصور وعلى أحداثها إسحاق بن منصور‏.‏

وفي سنة ست وستين
عزل علي بن سليمان عن اليمن وولى مكانه عبد الله بن سليمان وعزل مسلمة بن رجاء عن مصر وولى مكانه عيسى بن لقمان ثم عزله لأشهر وولى مكانه مولا واضحاً ثم عزله وولى مكانه يحيى الحريشي وكان على طبرستان عمر بن العلاء‏.‏ وسعيد بن دعلج وعلى جرجان مهليل بن صفوان ووضع ديوان الأرمة وولى عليها عمر بن بزيع مولاه‏.‏

العهد للهادي وخلع عيسى
كان جماعة من بني هاشم وشيعة المهدي خاضوا في خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد والبيعـة لموسـى الهـادي بـن المهـدي ونمـي ذلـك إلى المهدي فسر به واستقدم عيسى بن موسى من منزلـه بالرحبـة مـن أعمال الكوفة فامتنع من القدوم‏.‏ فاستعمل المهدي على الكوفة روح بن حاتم وأوصاه بالأضرار فلم يجد سبيلاً إلى ذلك‏.‏ وكان عيسى لا يدخل الكوفة إلا يوم جمعة أو عيد‏.‏ وبعث إليه المهدي يتهدده فلم يجب ثم بعث عمه العباس يستقدمه فلم يحضر‏.‏ فبعث قائدين من الشيعة فاستحضراه إليه وقدم على عسكر المهدي وأقام أياماً يختلف إليه ولا يكلم بشيء‏.‏ حضر الدار يوماً وقد اجتمع رؤساء الشيعة لخلعه فثاروا به وأغلق الباب الذي كان خلفه فكسروه وأظهر المهدي النكير عليهم فلم يرجعوا إلا أن كاشفه أكابر أهل بيته وأشدهم محمد بن سليمان واعتذر بالأيمان التي عليه‏.‏ فأحضر المهدي القضاة والفقهاء وفيهم محمد بن علاثة ومسلم بن خالد الزنجي فأفتوه بمخارج الأيمان وخلع نفسه وأعطاه المهدي عشرة آلاف درهم وضياعاً بالزاب وكسكر وبايع لابنه موسى الهادي بالعهد‏.‏ ثم جلس المهدي من الغد وأحضر أهل بيته وأخذ بيعتهم وخرج إلى الجامع وعيسى معه فخطب وأعلم الناس ببيعة الهادي ودعاهم إليها فبادروا وأشهد عيسى بالخلع‏.‏ وبعث المهدي سنة تسع وخمسين عبد الملك بن شهاب المسمعي في جمع كثير من الجند والمقطوعـة إلـى بلاد الهند فركبوا البحر من فارس ونزلوا بأرض الهند وفتحوا باربد فافتتحوها عنوةً ولجأ أهلها إلى البد فأحرقوه عليهم فاحترق بعض وقتل الباقون واستشهد من المسلمين بضعـة وعشـرون وأقامـوا بعـض أيـام إلـى أن يطيب الريح فوقع فيهم موتان فهلك ألف فيهم إبراهيم بـن صبيـح‏.‏ ثـم ركبـوا البحـر إلـى فـارس فلمـا انتهـوا إلـى ساحـل حـران عصفت بهم الريح فانكسرت عامة مراكبهم وغرق الكثير منهم‏.‏ حج المهدي

وفي سنة ستين
حج المهدي واستخلف على بغداد ابنـه الهـادي وخالـه يزيـد بـن منصـور واستصحـب ابنـه هـارون وجماعـة مـن أهل بيته وكان معه الوزير يعقوب بن داود فجاء في مكة بالحسـن بـن إبراهيـم الـذي ضمنـه علـى الأمان فوصله بالمهدي وأقطعه‏.‏ ولما وصل إلى مكة اهتم بكسـوة الكعبة فكساها بأفخر الكسوة بعد أن نزع ما كان عليها‏.‏ وكانت فيها كسوة هشام بن عبـد الملـك مـن الديبـاج الثخيـن وقسـم مـالاً عظيمـاً هنالـك فـي مصـارف الخيـر فكـان منـه مما جاء به من العراق ثلاثون ألف درهم ووصل إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار ومن اليمن مائة ألف دينـار ففـرق ذلك كله‏.‏ وفرق مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب ووسع المسجد ونقل خمسمائة من الأنصار إلى العراق جعلهم في حرسه وأقطع لهم وأجرى الأرزاق‏.‏ ولما رجع أمر ببناء القصـور بطريـق مكة أوسع من قصور المنصور من القادسية إلى زبالة‏.‏ وأمر باتخاذ المصانع في كـل منهـا منهـل وبتحديـد الأميـال وحفـر الآبـار وولـى علـى ذلك بقطير بن موسى‏.‏ وأمر بالزيادة في مسجـد البصـرة وتصغيـر المنابـر إلـى مقـدار منبـر النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم‏.‏ وأمر في سنة سبع وستيـن بالزيـادة فـي الحرميـن علـى يـد بقطيـر فدخلت فيه دول كثيرة ولم يزل البناء فيهما إلى وفاة المهدي‏.‏

نكبة الوزير أبي عبد الله
كـان أبـو عبد الله الأشعري قد اتصل بالمهدي أيام أبيه المنصور فلطفت عنده منزلته واستوزره وسار معه إلى خراسان وعظمت به بطانة المهدي فأكثروا فيه السعاية وكان الربيع يدرأ عنه ويعـرض كتبـه علـى المنصـور ويحسـن القـول فيـه‏.‏ فكتـب المنصـور إلـى المهدي بالوصاة به وأن لا يقبل فيـه السعايـة‏.‏ ولمـا مـات المنصـور وقـام الربيـع ببيعة المهدي وقدموا إلى بغداد جاء الربيع إلى باب أبي عبد الله وقبل المهدي وقبل أهله فعذله ابنه الفضل على ذلك فقال هو صاحب الرجل وينبغي أن نعامله بغير ما كنا نعامله وإياك أن تذكر ما كنا نصنع في حقه أوتمنن بذلك في نفسـك‏.‏ فلمـا وقـف ببابـه أمهلـه طويـلاً مـن المغـرب إلـى العشـاء‏.‏ ثـم أذن لـه فدخـل عليـه وهـو متكـىء فلم يجلس ولا أقبل عليه‏.‏ وشـرع الربيـع يذكـر أمر البيعة فكفه وقال‏:‏ قد بلغنا أمركم‏:‏ فلما خرج استطال عليه ابنه الفضل بالعذل فيما فعل بأن لم يكن الصواب‏.‏ فقال له‏:‏ ليس الصواب إلا ما عملته ولكن والله لأنفقن مالي وجاهي في مكروهه وجد في السعاية فيه فلم يجد طريقاً إليها لاحتياطه في أمر دينه وأعمالـه‏.‏ فأتـاه مـن قبـل ابنـه محمـد ودس إلـى المهـدي بعرضـه لحرمـه وأنـه زنديق حتى إذا استحكمت التهمـة فيـه أحضـره المهـدي فـي غيبـة مـن أبيـه ثـم قـال لـه‏:‏ اقـرأ فلـم يحسـن فقـال لأبيـه‏:‏ ألـم تقـل إن ابنك يقرأ القرآن فقال فارقني منذ سنين وقد نسي فأمر به المهدي فقتل‏.‏ واستوحش من أبي عبد الله وساءت منزلته إلى أن كان من أمره ما نذكره وعزله عن ديوان الرسائل ورده إلـى الربيـع وارتفعـت منزلـة يعقـوب بـن داود عنـد المهـدي وعظم شأنه وأنفذ عهده إلى جميع الآفاق بوضع الأمناء ليعقوب وكان لا ينفذ كتاب المهدي حتى يكتب يعقوب إلى يمينه بإنفاذ ذلك‏.‏ ظهور دعوة العباسية بالأندلس وانقطاعها

ميارى 6 - 8 - 2010 09:12 PM

وفي سنة إحـدى وستيـن
أجـاز عبـد الرحمـن بـن حبيـب الفهـري مـن إفريقيـة إلـى الأندلـس داعيـةً لبنـي العباس ونزل بساحل مرسية وكاتب سليمان بن يقظان عامل سرقسطة في طاعة المهدي فلم يجبـه‏.‏ وقصـد بلـاده فيمـن معـه مـن البربـر فهزمـه سليمـان وعاد إلى تدبير‏.‏ وسار إليه عبد الرحمن صاحـب الأندلـس وأحـرق السفـن فـي البحـر تضييقـاً علـى ابـن حبيـب فـي النجـاة فاعتصـم بجبـل منيـع بنواحي بلنسية فبذل عبد الرحمن فيه المال فاغتاله بعض البربر وحمل رأسه إليه فأعطاه ألف دينار وذلك سنة اثنتين وستين‏.‏ وهم عبد الرحمن صاحب الأندلس أمر ذلك لغزو الشام من الأندلـس علـى العـدوة الشمالية لأخذ ثأره فعصى عليه سليمان بن يقظان والحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عثمان الأنصاري في سرقسطة فشغلوه عما اعتزم عليه من ذلك غزوة المهدي تجهز المهدي سنة ثلاث وستين لغزو الروم وجمع الأجناد من خراسان ومن الآفاق وتوفي عمه عيسـى بـن علـي آخـر جمـادى الأخيرة بعسكره وسار من الغد ستخلف على بغداد ابنه موسى الهـادي واستصحـب هـارون ومـر فـي طريقـه بالجزيـرة والموصـل فعزل عبد الصمد بن علي وحبسه ثـم أطلقـه سنـة ست وستين‏.‏ ولما جاز ببني مسلمة بن عبد الملك ذكره عمه العباس بما فعله مسلمـة مـع جدهـم محمد بن علي وكان أعطاه مرة في اجتيازه عليه ألف دينار فأحضر المهدي ولد مسلمة ومواليه وأعطاهم عشرين ألف دينار وأجـرى عليهـم الـأرزاق وعبـر الفـرات إلـى حلب فأقام بها وبعث ابنه هارون للغزو وأجاز معه الدروب إلى جيحان مشيعاً وبعث معه عيسـى بـن موسـى وعبـد الملـك بـن صالـح والحسـن بـن قحطبـة والربيـع بـن يونـس ويحيـى بن خالد بن برمك كان إليه أمر العسكر والنفقات وحاصروا حصن سمالو أربعين يوماً ثم فتحوه بالأمان فتحوا بعده فتوحات كثيرة وعادوا إلى المهدي وقد أثخن في الزنادقة وقتل من كان في تلك الناحية منهم‏.‏ ثم قفل إلى بغداد ومر ببيت المقدس وصلى في مسجده ورجع إلى بغداد‏.‏ العهد لهارون

وفي سنة ست وستين
أخذ المهدي البيعة لابنه هارون بعد أخيه الهادي ولقبه الرشيد‏.‏ نكبة الوزير يعقوب في داود كان أبو داود بن طهمان كاتباً لنصر بن سيار هو وأخوته وكان شيعياً وعلى رأي الزيدية‏.‏ ولما خرج يحيى بن زيد بخراسان كان يكاتبه بأخبار نصر فأقصاه نصر فلما طلب أبو مسلم بدم يحيى جاءه داود فأمنه في نفسه وأخذ ما اكتسبه من المال أيام نصر وأقام بعـد ذلـك عاطلاً‏.‏ ونشأ له ولد أهل أدب وعلم وصحبوا أولاد الحسن‏.‏ وكان داود يصحب إبراهيم بن عبـد اللـه فورثـوا ذلـك عنه ولما قتل إبراهيم طلبهم المنصور وحبس يعقوب وعليًا مع الحسن بن إبراهيـم حتـى توفـي وأطلقهمـا المهـدي بعـده مـع مـن أطلـق‏.‏ وداخلـه المهـدي فـي أمـر الحسـن لما فر من الحبس فكان ذلك سبباً لوصلته بالمهدي حتى استوزره فجمع الزيدية وولاهم شرقاً وغرباً وكثرت السعاية فيه من البطانة بذلك وبغيره وكان المهدي يقبل سعايتهم حتى يروا أنها قـد تمكنت فإذا غدا عليه تبسم وسأله‏.‏ وكان المهدي مشتهراً بالنساء فيخوض معه في ذلك وفيما يناسبه ويتغلب برضاه وسامره في بعض الليالي وجاء ليركب دابته وقد نام الغلام فلما ركب نفرت الدابة من قعقعة ردائه فسقط ورمحته فانكسر فانقطع عن المهدي وتمكن أعداؤه من السعاية حتى سخطه وأمر به فحبس وحبـس عماله وأصحابه‏.‏ ويقال بل دفع إليه علوياً ليقتله فأطلقه ونمي ذلك إلى المهدي فأرسل مـن أحضـره وقـال ليعقوب أين العلوي‏.‏ فقال قتلته فأخرجه إليه حتى رآه‏.‏ ثم حبس في المطبق ودلـي فـي بئـر فيـه‏.‏ وبقـي أيـام المهـدي والهـادي ثـم أخرج وقد عمي وسأل من الرشيد المقام بمكة فأذن له‏.‏ وقيل في سبب تغيره إنه كان ينهى المهدي عن شرب أصحابه النبيذ عنده ويكثر عليـه فـي ذلك ويقول‏:‏ أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع يشرب عندك النبيذ لا والله لا مسير الهادي إلى جرجان

وفي سنة سبع وستين
عصى وتداهر من وشرو بن ملكا طبرستان من الديلم فبعث المهدي ولي عهده موسى الهـادي وجعـل علـى جنـده محمـد بـن حميـد وعلـى حجابتـه نفيعـاً مولـى المنصـور وعلـى حرسـه عيسـى بـن ماهـان وعلـى رسائله أبان بن صدقة‏.‏ وتوفي أبان بن صدقة فبعث المهدي مكانه أبا خالد الأجرد فسار المهدي وبعث الجنود في مقدمته وأمر عليهم يزيد فحاصرهما حتى استقاما‏.‏ وعزل المهدي يحيى الحريشي عن طبرستان وما كان إليه وولى مكانـه عمـر بـن العـلاء وولـى علـى جرجـان فراشـة مولـاه ثم بعث سنة ثمان وستين يحيى الحريشي في أربعين ألفاً إلى طبرستان‏.‏ العمال بالنواحي

وفي سنة ثلاث وستين
ولى المهدي ابنه هارون على المغرب كله وأذربيجان أرمينية وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى وعلى الرسائل يحيى بن خالد بن برمك‏.‏ وعزل زفر بن عاصم عن الجزيرة وولى مكانه عبد الله بن صالح وعزل معاذ بن مسلم عن خراسان وولى مكانـه المسيـب بـن زهيـر الضبـي وعـزل يحيـى الحريشـي عن أصبهان وولى مكانه الحكم بن سعيد وعـزل سعيـد بـن دعلـج عـن طبرستـان وولـى مكانـه عمـر بن العلاء ومهلهل بن صفوان عن جرجان وولاهـا هشـام بـن سعيد‏.‏ وكان على الحجاز واليمامة جعفر بن سليمان وعلى الكوفة إسحاق بن الصباح وعلى البحرين والبصرة وفارس والأهواز محمد بن سليمان فعزله سنة أربع وستين وولى مكانه صالح بن داود‏.‏ وكـان علـى السنـد محمـد بـن الأشعـث‏.‏

وفي سنة خمـس وستيـن
عـزل خلـف بـن عبـد اللـه عن الري وولاها عيسى مولى جعفر وولى على البصرة روح بن حاتم وعلى البحرين وعمان والأهواز وفـارس وكرمـان النعمـان مولـى المهدي‏.‏ وعزل محمد بن الفضل عن الموصل وولى مكانه أحمد بن إسماعيل‏.‏

وفي سنة سـت وستيـن
عـزل عبيـد اللـه بـن حسـن العنبـري عـن قضـاء البصـرة واستقضـى مكانـه خالـد بـن طليـق بـن عمـران بـن حصيـن فاستعفـى أهـل البصـرة منـه‏.‏ وولـى المهـدي على قضائه أبـا يوسـف حيـن سـار إلـى جرجـان‏.‏ واضطربـت فـي هـذه السنـة خراسـان على المسيب بن زهير فولاهـا أبـا العبـاس الفضـل بـن سليمـان الطوسـي وأضاف إليه سجستان فولى هو على سجستان سعيد بن دعلج‏.‏ وولى على المدينة إبراهيم ابن عمه وعزل منصور بن يزيد عن اليمن وولى مكانه عبد الله بن سليمان الربعي‏.‏ وكـان علـى مصـر إبراهيـم بـن صالـح وتوفـي فـي هـذه السنة عيسى بن موسى بالكوفة وهي سنة سبع وستين‏.‏ وعزل المهدي يحيى الحريشي عن طبرستان والرويان وما كان إليه وولاه عمر بن العـلاء وولـى علـى جرجان فراشة مولاه‏.‏ وحج بالناس إبراهيم ابن عمه يحيى وهو على المدينة ومات بعد قضاء الحج فولى مكانه إسحاق بن موسى بن علي وعلى اليمن سليمان بن يزيد الحارثي وعلى اليمامة عبد الله بن مصعب الزبيري وعلى البصرة محمد بن سليمان وعلى قضائها عمر بن عثمان التميمي وعلى الموصل أحمد بن إسماعيل الهاشمي‏.‏ وقتل موسى بن كعب ووقع الفساد في بادية البصرة من الأعراب بين اليمامة والبحرين وقطعوا الطرق وانتهكوا المحارم وتركوا الصلاة‏.‏ الصوائف

وفي سنة تسع وخمسين
أغزى المهدي عمه العباس بالصائفة وعلى مقدمته الحسن الوصيف فبلغـوا أهـرة وفتحـوا مدينـة أوهـرة ورجعـوا سالميـن ولـم يصـب مـن المسلميـن أحـد‏.‏

وفي سنة إحدى وستيـن
غزا بالصائفة يمامة بن الوليد فنزل دابق وجاشت الروم مع ميخاييل في ثمانين ألفاً ونزل عمق مرعش فقتل وسبى وغنم وحاصـر مرعـش وقتـل مـن المسلميـن عـدداً وانصـرف إلـى جيحان فكان عيسى بن علي مرابطاً بحصن مرعش فعظم ذلك على المهدي وتجهـز لغـزو الـروم‏.‏ وخرجـت الـروم سنـة اثنتين وستين إلى الحارث فهدموا أسوارها‏.‏ وغزا بالصائفة الحسن بـن قحطبـة فـي ثمانيـن ألفـاً مـن المرتزقـة فبلـغ جهـة أدرركبـه وأكثـر التحريق والتخريق ولم يفتح حصناً ولا لقي جمعاً ورجع بالناس سالماً‏.‏ وغـزا يزيـد بـن أسيـد السلمـي مـن ناحيـة قالقيـلا فغنم وسبى وفتح ثلاثة حصون‏.‏ ثم غزا المهدي بنفسـه سنـة ثلـاث وستيـن كمـا مـر‏.‏ ثـم غـزا سنـة أربـع وستيـن عبـد الكبيـر بـن عبـد الرحمـن بن زيد بـن الخطـاب مـن درب الحـارث فخـرج إليـه ميخاييـل وطـارد الأرمنـي البطريقـان فـي تسعيـن ألفًا فخام عـن لقائهـم ورجـع بالناس فغضب عليه المهدي وهم بقتله فشفع فيه وحبسه‏.‏

وفي سنة خمس وستيـن
بعـث المهدي ابنه هارون بالصائفة وبعث معه الربيع فتوغل في بلاد الروم ولقيه عسكر نقيطا من القواميس فبارزه يزيد بـن مزيـد فهزمهـم وغلـب علـى عسكرهـم ولحقـوا بالدمشـق صاحب المسالح فحمل لهم مائتي ألف دينار واثنتين وعشرين ألف درهـم وسـار الرشيـد بعساكـره وكانـت نحـواً مـن مائة ألف فبلغ خليج قسطنطينية وعلى الروم يومئذ غسطة امرأة إليون كافلـةً لابنها منه صغيراً فجرى الصلح على الفدية وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في الطريق لأن مدخلـه كان ضيقاً مخوفاً فأجابت لذلك‏.‏ وكان مقدار الفدية سبعين ألف دينار كل سنة ومدة الصلح ثلاث سنين وكان ما سباه المسلمون قبل الصلع خمسة آلاف رأس وستمائة رأس وقتل من الروم في وقائع هذه الغزوات أربعة وخمسون ألفاً ومن الأسرى ألفان‏.‏ ثم نقض الروم هذا الصلح سنة ثمان وستيـن ولـم يستكملـوا مدتـه بقـي منهـا أربعـة أشهـر‏.‏ وكان على الجزيرة وقنسرين علي بن سليمان فبعث يزيد بن البدر بن البطال في عسكر فغنموا وسبوا وظفروا ورجعوا‏.‏ وفاة المهدي وبيعة الهادي

وفي سنة تسـع وستيـن
اعتـزم المهـدي على خلع ابنه موسى الهادي من العهد والبيعة للرشيد به وتقديمـه على الهادي وكان بجرجان فبعث إليه بذلك فاستقدمه فضرب الرسول وامتنع‏.‏ فسار إليه المهدي فلما بلغ ماسبذان توفي هنالك‏.‏ يقـال مسمومـاً مـن بعـض جواريـه ويقـال سمـت إحداهمـا الأخـرى فـي كمثـرى فغلـط وأكلها ويقال حاز صيداً فدخل وراءه إلى خربة فدق الباب ظهـره‏.‏ وكـان موتـه فـي المحـرم وصلـى عليـه ابنـه الرشيـد وبويـع ابنـه موسـى الهادي لما بلغه موت أبيه وهو مقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان‏.‏ وكـان الرشيـد لمـا توفي المهدي والعسكر بماسبدان نادى في الناس بالعطاء تسكينًا وقسم فيهم مائتين مائتين فلما استوفوها تنادوا بالرجوع إلى بغداد وتشايعوا إليها واستيقنوا موت المهدي فأتوا باب الربيع وأحرقوه وطالبوا بالأرزاق ونقبوا السجون‏.‏ وقدم الرشيد بغداد في أثرهم فبعثت الخيزران إلى الربيع فامتنع يحيى خوفاً من غيرة الهادي وأمرت الربيع بتسكين الجند فسكنوا وكتب الهادي إلى الربيع يتهدده فاستشار يحيى في أمره وكان يثق بوده فأشار عليه بـأن يبعـث ابنـه الفضـل يعتـذر عنـه وتصحبـه الهدايـا والتحـف ففعـل ورضـي الهادي عنه وأخذت البيعة ببغداد للهادي‏.‏ وكتب الرشيد بذلك إلى الآفاق وبعث نصيراً الوصيف إلى الهادي بجرجان فركب البريد إلى بغداد فقدمها في عشرين يوماً‏.‏ فاستوزر الربيع وهلك لمدة قليلة من وزارته‏.‏ واشتد الهادي فـي طلـب الزنادقـة وقتلهـم وكـان منهـم علـي بـن يقطيـن ويعقـوب بـن الفضـل مـن ولد ربيعة بن الحارث بـن عبـد المطلـب كـان قد أقر بالزندقة عند المهدي إلا أنه كان مقسماً أن لا يقتل هاشمياً فحبسه وأوصى الهادي بقتله وبقتل ولد عمهم داود بن علي فقتلهما‏.‏ وأمـا عمالـه فكـان علـى المدينـة عمـر بـن عبـد العزيـز بـن عبيـد اللـه بـن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعلى مكة والطائف عبد الله بن قثم وعلى اليمن إبراهيم بن مسلم بن قتيبة وعلى اليمامة والبحرين سويد القائد الخراساني وعلى عمان الحسن بن سليم الحواري وعلى الكوفة موسى بن عيسى بن موسى وعلى البصرة ابن سليمان وعلى جرجان الحجاج مولى الهادي وعلى قومـس زيـاد بـن حسـان وعلـى طبرستـان والرويـان صالح بن عميرة مولى وعلى الموصل هاشم بن سعيد بن خالد وعزله الهادي لسوء سيرته وولى مكانه عبد الملك وصالح بن علي‏.‏ وأمـا الصائفـة فغزا بها في هذه السنة وهي سنة تسع وستين معيوب بن يحيى وقد كان الروم خرجـوا مـع بطريـق لهـم إلـى الحـارث فهـرب الوالـي ودخلهـا الـروم وعاثوا فيها فدخل معيوب وراءهم من عرب الراهب وبلغ مدينة أستة وغنم وسبى وعاد‏.‏ ظهور الحسين بن علي بن حسن بن حسن بن الحسن السبط ومقتله وهو الحسين بن علي بن حسن المثلث بن حسن المثنى بن الحسن السبط كان الهادي قد استعمـل علـى المدينـة عمـر بـن عبـد العزيـز كمـا مـر فأخذ يوماً الحسن بن المهدي بن محمد بن عبد اللـه بـن الحسيـن الملقـب أبـا الزفـت ومسلـم بـن جنـدب الهذلـي الشاعر وعمر بن سلام مولى العمريين علـى شـراب لهـم فضربهـم وطيـف بهـم بالمدينـة بالحبـال فـي أعناقهـم وجاء الحسين إليه فشفع فيهم وقـال‏:‏ ليـس عليهـم حـد فـإن أهـل العـراق لا يـرون بـه بأسـاً وليـس مـن الحـد أن نطيفهم فحبسهم‏.‏ ثم جاء ثانية ومعه من عمومته يحيى بن عبد الله بن الحسن صاحب الديلم بعد ذلك فكفلاه وأطلقه من الحبس‏.‏ وما زال آل أبي طالب يكفل بعضهم بعضاً ويعرضون فغاب الحسن عن العرض يومين فطلب بـه الحسيـن بـن علـي ويحيـى بـن عبـد اللـه كافليـه وأغلظ لهما فحلف يحيى أنه يأتي به من ليلته أو يدق عليه الباب يؤذنه به‏.‏ وكان بين الطالبيين ميعاد للخروج في الموسم فأعجلهم ذلك عنه وخرجـوا مـن ليلتهـم وضرب يحيى على العمري في باب داره بالسيف واقتحموا المسجد فصلوا الصبح وبايع الناس الحسين المرتضى من آل محمد على كتاب الله وسنة رسوله‏.‏ وجاء خالد اليزيدي في مائتين من الجند والعمري وابن إسحاق الأزرق ومحمد بن واقد في ناس كثيرين فقاتلوهم وهزموهم في المسجد واجتمع يحيى وإدريس بن عبد الله بن حسن فقتلاه وانهزم الباقون وافترق الناس‏.‏ وأغلـق أهـل المدينة أبوابهم وانتهب القوم من بيت المال بضعة عشر ألف دينار وقيل سبعين ألفاً واجتمعـت شيعـة بنـي العبـاس من الغد وقاتلوهم إلى الظهر وفشت الجراحات وافترقوا‏.‏ ثم قدم مبارك التركي من الغد حاجاً فقاتل مع العباسية إلى منتصف النهار وافترقوا وواعدهم مبارك الرواح إلى القتال واستغفلهم وركب رواحله راجعاً واقتتل الناس المغرب ثم افترقوا‏.‏ ويقال إن مباركاً دس إلى الحسين بذلك تجافياً عن أذية أهل البيت وطلب أن يأخذ له عذراً في ذلك بالبيـات فبيتـه الحسيـن واستطـرد لـه راجعـاً‏.‏ وأقـام الحسيـن وأصحابه بالمدينة واحداً وعشرين يوماً وكـان قـد حـج تلـك السنـة رجـال مـن بنـي العبـاس منهـم سليمـان بن المنصور ومحمد بن سليمان بن علـي والعبـاس بـن محمـد بـن علـي وموسـى وإسماعيـل أبنـاء عيسـى بـن موسى ولما بلغ خبر الحسين إلـى الهـادي كتـب إلـى محمـد بـن سليمان وولاه على حربه وكان معه رجال وسلاح وقد أغذ بهم عـن البصـرة خوف الطريق فاجتمعوا بذي طوى وقدموا مكة فحلوا من العمرة التي كانوا أحرموا بها وانضم إليهم من حج من شيعتهم ومواليهم وقوادهـم واقتتلـوا يـوم الترويـة فانهـزم الحسيـن وأصحابه وقتل كثير منهم وانصرف محمد بن سليمان وأصحابه إلى مكة ولحقهم بذي طوى رجـل مـن خراسـان بـرأس الحسيـن ينـادي مـن خلفهم بالبشارة حتى ألقى الرأس بين أيديهم مضروباً على قفاه وجبهته وجمعت رؤوس القتلى فكانت مائة ونيفاً وفيها رأس سليمان أخي المهدي بن عبد الله واختلط المنهزمون بالحاج‏.‏ وجاء الحسن بن المهدي أبو الزفت فوقف خلف محمد بن سليمان والعباس بن محمد فأخذه موسى بن عيسى وقتله وغضب محمد بن سليمان من ذلك وغضب الهادي لغضبه وقبض أمواله‏.‏ وغضب على مبارك التركي وجعله سائس الدواب فبقي كذلك حتى مات الهـادي وأفلت من المنهزمين إدريس بن عبد الله أخو المهدي فأتى مصر وعلي يريدها وأصبح مولى صالح بن المنصور وكان يتشيع لآل علي فحمله على البريد إلى المغرب ووقع بمدية وليلة من أعمال طنجة واجتمع البريد على دعوته وقتل الهادي وأصحابه بذلك وصلبه وكان لإدريس وابنه إدريس وأعقابهم حروب نذكرها بعده‏.‏ حديث الهادي في خلع الرشيد كان الهادي يبغض الرشيد بما كان المهدي أبوهما يؤثره وكان رأى في منامه أنه دفـع إليهمـا قضيبين فأورق قضيب الهادي من أعلاه وأورق قضيب الرشيد كله وتاؤل ذلك بقصر مدة الهادي وطول مدة الرشيد وحسنها‏.‏ فلما ولي الهادي أجمع خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر مكانه وفاوض في ذلك قواده فأجابه يزيد بن مزيد وعلي بن عيسى وعبد الله بن مالـك وحرضوا الشيعة على الرشيد لينقصوه ويقولوا لا نرضى به ونهى الهادي أن يشاور بين يديه بالحرب فاجتنبه الناس وكان يحيى بن خالد يتولى أموره فاتهمه الهادي بمداخلته وبعث إليه وتهـدده فحضـر عنـده مستميتـاً وقـال‏:‏ يـا أميـر المؤمنين أنت أمرتني بخدمته من بعد المهدي فسكن غضبه وقال له في أمر الخلع فقال يا أمير المؤمنين أنت إن حملت الناس على نكث الإيمان فيه هانت عليهم فيمن توليه وإن بايعت بعده كان ذلك أوثق للبيعة فصدقه وسكت عنه‏.‏ وعاد أولئك الذين جفلوه من القواد والشيعة فأغروه بيحيى وأنه الذي منع الرشيد من خلع نفسه فحبسه الهادي فطلب الحضور للنصيحة وقال له‏:‏ يا أمير المؤمنين أتظن الناس يسلمون الخلافـة لجعفـر وهـو صبـي ويرضـون بـه لصلاتهـم وحجهـم وغزوهم وتأمن أن يسموا إليها عند ذلك أكابـر بيتك فتخرج من ولد أبيك والله لو لم يعقده المهدي لكان ينبغي أن تعقده أنت له حذراً من ذلك وإني أرى أن تعقده لأخيك فإذا بلغ ابنك أتيتك بأخيك فخلع نفسه وبايع له فقبل الهـادي قولـه وأطلقه‏.‏ ولم يقنع القواد ذلك لأنهم كانوا حذرين من الرشيد في ذلك وضيق عليه واستأذنه في الصيد فمضى إلى قصر مقاتل ونكره الهادي وأظهر خفاءه وبسط الموالي والقواد فيه ألسنتهم‏.‏ وفاة الهادي وبيعة الرشيد ثم خرج الهادي إلى حديقـة الموصـل فمـرض واشتـد مرضـه هنالـك واستقـدم العمـال شرقـاً وغرباً‏.‏ ولما ثقل تآمر القواد الذين بايعوا جعفراً في قتل يحيى بن خالد ثم أمسكوا خوفاً من الهادي‏.‏ ثم توفي الهادي في شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة وقيل توفي بعد أن عاد من حديقة الموصل‏.‏ ويقال‏:‏ إن أمه الخيزران وصت بعـض الجـواري عليـه فقتلتـه لأنهـا كانـت أول خلافته تستبد عليه بالأمور فعكف الناس واختلفت المواكب ووجد الهادي لذلك فكلمته يوماً فـي حاجـة فلـم يجبهـا فقالـت‏:‏ قـد ضمنتها لعبد الله بن مالك‏.‏ فغضب الهادي وشتمه وحلف لا قضيتها فقامت مغضبة فقال‏:‏ مكانك وإلا انتفيت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن بلغني أن أحداً من قوادي وخاصتي وقف ببابك لأضربن عنقه ولأقبضن ماله ما للمواكب تغدو وتروح عليك أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك‏.‏ إياك‏:‏ إياك لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمي فانصرفت وهي لا تعقل‏.‏ ثم قال لأصحابه‏:‏ أيكم يحب أن يتحدث الرجال‏.‏ بخبر أمـه ويقـال فعلـت أم فلـان وصنعـت فقالوا لا نحب ذلك‏.‏ قال‏:‏ فما بالكم تأتون أمي فتتحدثون معها‏.‏ فيقال إنه لما جد في خلع الرشيد خافت عليه منه فلما ثقل مرضه وصت بعض الجواري فجلست على وجهه فمات وصلـى عليـه الرشيـد‏.‏ وجـاء هرثمـة بـن أعيـن إلـى الرشيـد فأخرجـه وأجلسـه للخلافـة وأحضر يحيى فاستوزره وكتب إلى الأطراف بالبيعة‏.‏ وقيل‏:‏ إن يحيى هو الذي جاءه وأخرجه فصلى على الهادي ودفنه إلى يحيى وأعطاه خاتمه وكان يحيى يصدر عن رأي الخيزران أم الرشيد‏.‏ وعزل لأول خلافته عمر بن عبد العزيز العمري عن المدينة وولى مكانه إسحاق بن سليمان وتوفـي يزيـد بـن حاتـم عامـل إفريقيـة فولـى مكانـه روح بـن حاتـم ثـم توفـي فولـى مكانـه ابنه الفضل ثم قتـل فولى هرثمة بن أعين كما يذكر في أخبار إفريقية‏.‏ وأفرد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين وجعلهـا عمالـةً واحـدةً وسماهـا العواصـم وأمـره بعمـارة طرسـوس ونزلهـا النـاس‏.‏ وحـج لأول خلافته وقسم في الحرمين مالاً كثيراً‏.‏ وأغزى بالصائفة سليمان بن عبد الله البكائي وكان على مكة والطائف عبد اللـه بـن قثـم وعلـى الكوفـة عيسـى بن موسى وعلى البحرين والبصرة واليمامة وعمان والأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي وعلى خراسان أبو الفضل العباس بن سليمان الطوسي ثم عزله وولى مكانـه جعفـر بـن محمد بن الأشعث‏.‏ فسار إلى خراسان وبعث ابنه العباس إلى كابل فافتتحها وافتتح سابها وغنم ما كان فيها‏.‏ ثم استقدمه الرشيد فعزله وولى مكانه ابنه العباس وكان على الموصل عبد الملك بن صالح فعزله وولى مكانه إسحاق بن محمد بن فروح فبعث إليه الرشيـد أبـا حنيفـة حـرب بـن قيـس فأحضـره إلـى بغـداد وقتلـه وولـى مكان وكان على أرمينية يزيد بن مزيد بن زائدة ابن أخي معن فعزله وولى مكانه أخاه عبد الله بن المهدي‏.‏ وولى سنة إحدى وسبعين على صدقات بني تغلب روح بن صالح الهمداني فوقع بينه وبين تغلـب خلـاف وجمـع لهـم الجمـوع فبيتـوه وقتلـوه فـي جماعـة مـن أصحابـه‏.‏ وتوفي سنة ثلاث وسبعين محمـد بـن سليمـان والـي البصـرة وكـان أخـوه جعفـر كثير السعاية فيه عند الرشيد وأنه يحدث نفسه بالخلافة وأن أمواله كلها فيء من أموال المسلمين فاستصفاها الرشيد وبعث من قبضها وكان لا يعبـر عنهـا مـن المـال والمتـاع والـدواب وأحضـروا مـن العيـن فيها ستين ألف ألف دينار‏.‏ ولم يكن إلا أخوه جعفر فاحتج عليه الرشيد بإقراره أنها فيء‏.‏ وتوفي سنة أربـع وسبعيـن والـي الرشيـد إسحـاق بـن سليمـان على السند ومكران واستقضى يوسف بن أبي يوسف في حياة أبيه‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:14 PM

وفي سنة خمـس وسبعيـن
عقـد لابنـه محمـد بـن زبيـدة ولاية العهد ولقبه الأمين وأخذ له البيعة وعمره خمس سنيـن بسعايـة خاله عيسى بن جعفر بن المنصور ووساطة الفضل بن يحيى وفيها عزل الرشيد العباس بن جعفر عن خراسان وولاها خاله الغطريف بن عطاء الكندي‏.‏

خبر يحيى بن عبد الله في الديلم
وفي سنة خمـس وسبعيـن خـرج يحيـى بـن عبـد اللـه بـن حسـن أخـو المهـدي بالديلـم واشتدت شوكته وكثر جمعه وأتاه الناس من الأمصار فندب إليه الرشيد الفضل بن يحيى في خمسين ألفاً وولاه جرجان وطبرستان والري وما إليها ووصل معه الأموال‏.‏ فسار ونزل بالطالقان وكاتب يحيى وحذره وبسط أمله وكتب إلى صاحب الديلم في تسهيل أمر يحيى على أن يعطيه ألف ألف درهم فأجاب يحيى على الأمان بخط الرشيد وشهـادة الفقهـاء والقضـاة وأجلـة بنـي هاشـم ومشايخهم عن عبد الصمد منهم فكتب له الرشيد بذلك وبعثه مع الهدايا والتحف‏.‏ وقدم يحيـى مـع الفضـل فلقيـه الرشيـد بكل ما أحب وأفاض عليه العطاء وعظمت منزلة الفضل عنده‏.‏ ثم إن الرشيد حبس يحيى إلى أن هلك في حبسه‏.‏

ولاية جعفر بن يحيي مصر
كـان موسـى بـن عيسـى قـد ولـاه الرشيـد مصـر فبلغـه أنـه عـازم على الخلع فرد أمرها إلى جعفر بن يحيى وأمره بإحضار عمر بن مهران وأن يوليه عليها وكان أحول مشوه الخلق خامل البزة يردف غلامه خلفه‏.‏ فلما ذكرت له الولاية قال على شرطية أن يكون أمري بيدي إذا صلحت البلاد انصرفـت فأجابـه إلـى ذلـك‏.‏ وسـار إلـى مصـر وأتـى مجلـس موسـى فجلـس فـي أخريات الناس حتى إذا افترقوا رفع الكتاب إلى موسى فقرأه وقال‏:‏ من يقدم أبو حفص‏.‏ فقال أنا أبو حفص فقال موسـى لعـن اللـه فرعـون حيـث قـال‏:‏ أليـس لـي ملـك مصـر ثـم سلـم لـه العمل‏.‏ فتقدم عمر إلى كاتبه أن لا يقبـل مـن الهديـة إلا مـا يدخـل فـي الكيـس فبعث الناس بهداياهم وكانوا يمطلون بالخراج‏.‏ فلما حضر النجم الأول والثاني وشكوا الضيق في الثالث أحضر الهدايا وحسبها لأربابها واستوفى خراج مصر ورجع إلى بغداد‏.‏

الفتنة بدمشق
وفـي هـذه السنـة هاجت الفتنة بدمشق بين المضرية واليمانية ورأس المضرية أبو الهيدام عامر بن عمـارة مـن ولـد خارجـة بـن سنـان بـن أبـي حارثـة المري وكان أصل الفتنة بين القيس وبين اليمانية أن اليمانية قتلوا منهم رجلاً فاجتمعوا لثأره وكان على دمشق عبد الصمد بن علي فجمع كبار العشائر ليصلحوا بينهم فأمهلتهم اليمانيـة وبيتـوا المضريـة فقتلـوا منهـم ثلاثمائـة أو ضعفهـا فاستجاشوا بقبائل قضاعة وسليم فلم ينجدوهم وأنجدتهم قيس وساروا معهم إلى البلقـاء فقتلـوا مـن اليمانيـة ثمانمائـة وطـال الحـرب بينهـم‏.‏ وعـزل عبـد الصمـد عـن دمشق وولى مكانه إبراهيم بن صالح بـن علـي‏.‏ ثـم أصلحـوا بعـد سنيـن ووفـد إبراهيـم علـى الرشيـد وكـان هـواه مـع اليمانيـة فوقـع فـي قيـس عنـد الرشيـد واعتـذر عنهـم عبـد الواحد بن بشر استخلف إبراهيم على دمشق ابنه إسحاق فحبس جماعة من قيس وضربهم‏.‏ ثم وثبت غسان برجل من ولد قيس بن العبسي فقتلوه واستنجد أخوه بالدواقيل من حوران فأنجدوه وقتلوا من اليمانية نفراً‏.‏ ثم وثبت اليمانية بكليب بن عمر بن الجنيد بن عبد الرحمن وعنده ضيف له فقتلوهم فجاءت أم الغلام سابة إلى أبي الهيدام فقال‏:‏ انظريني حتى ترفع دماؤنـا إلى الأمير فإن نظر فيها وإلا فأمير المؤمنين ينظر فيها‏.‏ وبلغ ذلك إسحاق وحضر عنده أبو الهيدام فلم يأذن له‏.‏ ثم قتل بعض الدواقيل رجلاً من اليمانية وقتلت اليمانية رجلاً من سليـم ونهبـوا جيـران محارب وركب أبو الهيدام معهم إلى إسحاق فوعده بالنظر لهم وبعث إلى اليمانيـة يغريهـم بـه فاجتمعـوا وأتـوا إلـى بـاب الجابيـة فخرج إليهم أبو الهيدام وهزمهم واستولى على دمشق وفتق السجون‏.‏ ثم اجتمعت اليمانية واستنجدوا كلباً وغيرهم فاستمدوهـم واستجـاش أبـو الهيـدام المضريـة فجاؤوه وهو يقاتل اليمانية عند باب توما فهزمهم أربع مرات‏.‏ ثم أمره إسحاق بالكف وبعث إلـى اليمانيـة يخبرهـم بغرتـه وجاء الخبر وركب وقاتلهم فهزمهم ثم هزمهم أخرى على باب توما‏.‏ ثـم جمعـت اليمانيـة أهـل الـأردن والجولـان مـن كلب وغيرهم فأرسل من يأتيه بالخبر فأبطؤوا ودخل المدينـة فأرسـل إسحـاق مـن دلهـم علـى مكمنـه وأمرهم بالعبور إلى المدينة فبعث من أصحابه من يأتيهـم من ورائهم فانهزموا‏.‏ لما كان مستهل صفر جمع إسحاق الجنود عند قصر الحجاج وجاء أصحاب الهيدام من أراد نهب القرى التي لهم بنواحي دمشق ثم سألوا الأمان من أبي الهيدام فأمنهم وسكن الناس‏.‏ وفـرق أبـو الهيدام أصحابه وبقي في نفر يسير من أهل دمشق فطمع فيه إسحاق وسلط عليه العذافـر السكسكـي مـع الجنود فقاتلهم فانهزم العذافر وبقي الجند يحاربونه ثلاثاً‏.‏ ثم إن إسحاق قاتله في الثالثـة والجنـد فـي اثنـي عشـر ألفـاً ومعهـم اليمانيـة فخـرج أبـو الهيـدام مـن المدينـة وقاتلهـم علـى باب الجابية حتى أزالهم عنه‏.‏ ثم أغار جمع من أهل حمص على قرية لأبي الهيدام فقاتلهم أصحابـه وهزموهـم وقتلـوا منهـم خلقـاً وأحرقـوا قـرى ودياراً لليمانية في الغوطة ثم توادعوا سبعين يومـاً أو نحوهـا‏.‏ وقـدم السنـدي فـي الجنـود مـن قبـل الرشيـد وأغزتـه اليمانية بأبي الهيدام فبعث هو إليه بالطاعة فأقبل السندي إلى دمشق وإسحاق بدار الحجاج وبعث قائده في ثلاثة آلاف وأخرج إليهم أبو الهيدام ألفاً وأحجم القائد عنهم ورجع إلى السندي فصالح أبا الهيدام وأمن أهل دمشق‏.‏ وسـار أبـو الهيدام إلى حوران وأقام السندي بدمشق ثلاثاً وقدم موسى بن عيسى والياً عليها فبعث الجند يأتونه بأبي الهيدام فكبسوا داره وقاتلهم هو وابنه وعبده فانهزموا وجاء أصحابه مـن كـل جهـة وقصـد بـه بصـرى‏.‏ ثـم بعـث إليـه موسـى فسار إليه في رمضان سنة سبع وسبعين وقيل إن سبب الفتنة بدمشق أن عامل الرشيد بسجستان قتل أخاه الهيدام فخرج هو بالشام وجمع الجموع‏.‏ ثم بعـث الرشيـد أخـاً لـه ليأتيـه بـه فتحيـل حتـى قبـض عليـه وشـده وثاقـاً وأتـى بـه إلـى الرشيد فمن عليه وأطلقه‏.‏ وبعث جعفر بن يحيى سنة ثمانين إلى الشام من أجل هذه الفتن والعصبية فسكن الثائرة وأمن البلاد وعاد‏.‏

وفي سنة سبع وثمانين
تغلب العطاف بن سفيان الأزدي على خراسان وأهل الموصل على العامـل بهـا محمـد بـن العباس الهاشمي وقيل عبد الملك بن صالح فاجتمع عليه أربعة آلاف رجل وجبى الخراج وبقي العامل معه مغلباً إلى أن سار الرشيد إلى الموصل وهدم سورها ولحق العطاف بأرمينيـة ثـم بالرقـم فاتخذهـا وطنـاً‏.‏

وفي سنة ثمـان وسبعيـن
ثـارت الحوفيـة بمصـر وهـم مـن قيـس وقضاعـة علـى عاملهـا إسحـاق بـن سليمـان وقاتلـوه‏.‏ وكتـب الرشيـد إلـى هرثمـة بـن أعين وكان بفلسطيـن فسـار إليهـم وأذعنـوا بالطاعـة وولـي علـى مصـر ثـم عزلـه لشهـر وولـى عبـد الملك بن صالح عليها‏.‏ كان على خراسان أيام المهدي والهادي أبو الفضل العباس بن سليمان الطوسي فعزله الرشيد وولـى علـى خراسـان جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي فأبوه من النقباء من أهل مصر وقدم ابنـه العبـاس سنـة ثلـاث وسبعيـن ثـم قـدم فغـزا طخارستـان وبعـث ابنـه العبـاس إلـى كابـل في الجنود وافتتح سابهار ورجع إلى مرو‏.‏ ثم سار إلى العراق سنة ثلاث في رمضان وكان الأمين في حجره قبل أن يجعله في حجر الفضل بن يحيى‏.‏ ثـم ولـى الرشيـد ابنـه العبـاس بـن جعفـر ثـم عزلـه عنهـا فولـى خالـداً الغطريـف بـن عطـاء الكنـدي سنة خمس وسبعين على خراسان وسجستان وجرجان فقدم خليفة داود بن يزيد وبعث عامـل سجستـان‏.‏ وخـرج فـي أيامـه حصيـن الخارجـي مـن موالـي قيـس بـن ثعلبـة مـن أهـل أوق وبعث عامل سجستـان عثمـان بـن عمـارة الجيـوش إليـه فهزمهـم حسيـن وقتل منهم وسار إلى باذغيس وبوشنج وهـراة فبعـث إليـه الغطريـف اثنـي عشـر ألفـاً مـن الجنـد فهزمهـم حصيـن وقتـل منهم خلقاً ولم يزل في نواحي خراسان إلى أن قتل سنة سبع وسبعين‏.‏ وسار الفضل إلى خراسان سنة ثمان وسبعين وغزا ما وراء النهر سنة ثمانين ثم ولى الرشيد على خراسان علـي بـن عيسـى بـن ماهـان وقـدم إليـه يحيـى فأقـام بهـا عشريـن سنـة‏.‏ وخـرج عليـه فـي ولايتـه حمـزة بـن أتـرك وقصـد بوشنـج وكـان علـى هـراة عمرويـه بن يزيد الأزدي فنهض إليه في ستة آلاف فارس فهزمهم حمزة وقتل جماعة منهم ومات عمرويه في الزحام فبعث علي بن عيسى ابنه الحسن في عشرة آلاف ففض حربه فعزله وبعث ابنه الآخر عيسى فهزمه حمزة فأمده بالعساكر ورده فهزم حمزة وقتـل أصحابـه ونجـا إلـى قهستـان فـي أربعيـن‏.‏ وأثخـن عيسـى فـي الخـوارج بارق وخوين وفيمن كان يعينهم من أهل القرى حتى قتل ثلاثين ألفاً‏.‏ وخلف عبد الله بن العباس النسيقي بزرنج فجبى الأموال وسار بها ومعه الصفة ولقيه حمزة فهزمـوه وقتلـوا عامـة أصحابـه‏.‏ وسـار حمـزة فـي القـرى فقتل وسبى وكان علي قد استعمل طاهر بـن الحسيـن علـى بوشنـج فخرج إلى حمزة وقصد قرية ففر الخوارج وهم الذين يرون التحكم ولا يقاتلون والمحكمة هم الذين يقاتلون وشعارهم لا حكم إلا الله‏.‏ فكتب العقد إلى حمزة بالكف وواعدهم ثم انتفض وعاث في البلاد وكانت بينه وبين أصحاب علي حروب كثيرة‏.‏ ثم ولى الرشيد سنة اثنتين وثمانين ابنه عبد الله العهد بعد الأمين ولقبه المأمون وولاه على خراسـان ومـا يتصـل بهـا إلى همذان واستقدم عيسى بن علي من خراسان وردها إليه من قبل المأمـون‏.‏ وخـرج عليـه بنسـا أبـو الخصيـب وهـب بن عبد الله النسائي وعاث في نواحي خراسان ثم طلب الأمان فأمنه‏.‏ ثم بلغه أن حمزة الخارجي عاث بنواحي باذغيس فقصده وقتل من أصحابـه نحـواً مـن عشـرة آلـاف وبلـغ كـل مـن وراء غزنـة‏.‏ ثـم غـدر أبو الخصيب ثانيةً وغلب أبيورد ونساوطوس ونيسابور وحاصر مرو وانهزم عنها وعاد إلى سرخس ثم نهض إليه ابن ماهان سنة ست وثمانين فقتله في نسا وسبى أهله‏.‏ ثـم نمـي إلـى الرشيـد سنـة تسـع وثمانيـن أن علـي بـن عيسـى مجمـع علـى الخلـاف وأنـه قـد أساء السيرة فـي خراسان وعنفهم وكتب إليه كبراء أهلها يشكون بذلك فسار الرشيد إلى الري فأهدى له الهدايا الكثيرة والأموال ولجميع من معه من أهل بيته وولده وكتابه وقواده‏.‏ وتبين للرشيد من مناصحته خلاف ما انتهى إليه‏.‏ فرده إلى خراسـان وولـي علـى الـري وطبرستـان ودنباونـد وقومس وهمذان وبعث علي ابنه عيسى لحرب خاقان سنة ثمان وثمانين فهزمه وأسر أخوته وانتقض على علي بن عيسى رافع بن الليث بن نصر بن سيار بسمرقند وطالت حروبه معه وهلك في بعضها ابنه عيسى‏.‏ ثم إن الرشيد نقم على علي بن عيسى أموراً منها استخفافه بالناس وإهانته أعيانهم ودخل عليـه يومـاً الحسيـن بـن مصعـب والـد طاهـر فأغلـظ لـه فـي القـول وأفحش في السب والتهديد وفعل مثـل ذلـك بهشـام بـن‏.‏ فأمـا الحسيـن فلحـق بالرشيـد شاكيـاً ومستجيـراً وأمـا هشام فلزم بيته وادعى أنه بعلة الفالـج حتـى عـزل علـي‏.‏ وكـان ممـا نقـم عليـه أيضـاً أنـه لمـا قتـل ابنـه عيسـى فـي حـرب رافـع بـن الليث أخبر بعض جواريه أنة دفن في بستانه ببلخ ثلاثين ألف دينار وتحدث الجواري بذلك فشعـاع في الناس ودخلوا البستان ونهبوا المال وكان يشكو إلى الرشيد بقلة المال ويزعم أنه باع حلي نسائه‏.‏ فلمـا سمع الرشيد هذا المال استدعى هرثمة بن أعين وقال له وليتك خراسان وكتب له بخطه وقال له‏:‏ اكتم أمرك وامض كأنك مدد وبعث معه رجاء الخادم فسـار إلـى نيسابـور وولـى أصحابه فيها ثم سار إلى مرو ولقي علي بن عيسى فقبض عليه وعلى أهله وأتباعه وأخذ أموالـه فبلغـت ثمانيـن ألـف ألـف وبعـث إلـى الرشيـد مـن المتـاع وقـر خمسمائـة بعيـر وبعـث إليـه بعلي بن عيسى على بعير من غير غطاء ولا وطاء وخرج هرثمة إلى ما وراء النهر وحاصر رافع بن إيداع كتاب العهد

وفي سنة سـت وثمانيـن
حـج الرشيـد وسـار مـن الأنبـار ومعـه أولاده الثلاثة محمد الأمين وعبد الله المأمون والقاسم وكان قد ولى الأمين العهد وولاه العراق والشام إلى آخر الغرب‏.‏ وولى المأمون العهـد بعـده وضـم إليـه مـن همـذان إلـى آخـر المشـرق وبايـع لابنـه القاسـم من بعد المأمون ولقبه المؤتمن وجعل خلعه وإثباته للمأمون‏.‏ وجعل في حجر عبد الملك صالح وضم إليه الجزيرة والثغور والعواصم‏.‏ ومـر بالمدينـة فأعطـاه فيهـا ثلاثة أعطية‏:‏ عطاء منه ومن الأمين ومن المأمون فبلغ ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار‏.‏ ثم سار إلى مكة فأعطى مثلها وأحضر الفقهاء والقضاة والقواد وكتب كتابـاً أشهـد فيـه علـى الأميـن بالوفـاء للمأمون وآخر على المأمون بالوفاء للأمين وعلق الكتابين في الكعبة وجدد عليها العهود هنالك‏.‏ ولمـا شخـص إلـى طبرستـان سنـة تسـع وثمانيـن وأقـام بهـا أشهد من حضره أن جميع ما في عسكره مـن الأمـوال والخزائـن والسلـاح والكـراع للمأمـون وجدد له البيعة عليهم وأرسل إلى بغداد فجدد له البيعة على الأمين‏.‏ أخبار البرامكة ونكبتهم قـد تقـدم لنـا أن خالد بن برمك كان من كبار الشيعة وكان له قدم راسخ في الدولة وكان يلي الولايات العظام وولاه المنصور على الموصل وعلى أذربيجان وولى ابنه يحيى علـى أرمينيـة ووكله المهدي بكفالة الرشيد فأحسن تربيته ودفع عنه أخاه الهادي أراده علـى الخلـع وتوليـة العهـد ابنـه وحبسـه الهـادي لذلـك‏.‏ فلمـا ولي الرشيد استوزر يحيى وفوض إليه أمور ملكه وكان أولاً يصدر عن رأي الخيزران أم الرشيد ثم استبد بالدولة‏.‏ ولما ماتت وكان بيتهم مشهوراً بالرجـال مـن العمومـة والقرابة وكان بنوه جعفر والفضل ومحمد قد شابهوا آباءهم في عمل الدولة واستولوا على حظ من تقريب السلطان واستخلاصه‏.‏ وكان الفضل أخاه من الرضاع أرضعت أمه الرشيد وأرضعته الخيزران وكان يخاطب يحيى يا أبـت واستوزر الفضل وجعفراً وولى جعفراً على مصر وعلى خراسان وبعثه إلى الشام عندما وقعت الفتنة بين المضرية واليمانية فسكن الأمور ورجع وولى الفضل أيضاً على مصر وعلى خراسان وبعثه لاستنزال يحيى بن عبد الله العلوي من الديلم‏.‏ ودفع المأمون لما ولاه العهد إلى كفالة جعفر بن يحيى فحسنت آثارهم في ذلك كله ثم عظم سلطانهم واستيلاؤهم علـى الدولة وكثرت السعاية فيهم‏.‏ وعظم حقد الرشيد على جعفر منهم يقال بسبب أنه دفع إليه بحيـى بـن عبـد اللـه لمـا استنزلـه أخـوه الفضل من الديلم وجعل حبسه عنده فأطلقه استبداداً على السلطـان ودالـة وأنهـى الفضـل بن الربيع ذلك إلى الرشيد فسأله فصدقه الخبر فأظهر له التصويب وحقدها عليه وكثرت السعاية فيهم فتنكر له الرشيد‏.‏ ودخـل عليـه يومـاً يحيـى بـن خالـد بغيـر إذن فنكـر ذلك منه وخاطب به طبيبه جبريل بن بختيشوع منصرفـاً بـه مـن مواجهتـه وكـان حاضـراً فقال يحيى هو عادتي يا أمير المؤمنين وإذ قد نكرت مني فسأكـون فـي الطبقة التي تجعلني فيها فاستحيى هارون وقال ما أردت ما يكره‏.‏ وكان الغلمان يقومون بباب الرشيد ليحيى إذا دخل فتقدم لهم مسـرور الخـادم بالنهـي عـن ذلـك فصـاروا يعرضـون عنـه إذا أقبل وأقاموا على ذلك زماناً‏.‏ فلما حج الرشيد سنة سبع وثمانين ورجع من حجه ونزل الأنبار أرسل مسروراً الخادم في جماعة مـن الجنـد ليـلاً فأحضـر جعفـراً ببـاب الفسطاط وأعلم الرشيد فقال ائتني برأسه فطفق جعفر يتذلل ويسأله المراجعة في أمره حتى قذفـه الرشيـد بعصـاً كانـت فـي يـده وتهـدده فخرج وأتاه برأسه وحبس الفضل من ليلته وبعث من احتياط على منازل يحيى وولده وجميع موجودهم وحبسه في منزله‏.‏ وكتب من ليلته إلى سائر النواحي بقبض أموالهم ورقيقهم وبعث من الغد بشلو جعفر وأمر أن يقسم قطعتين وينصبان على الجسر وأعفى محمد بن خالد من النكبة ولم يضيق على يحيى ولابنيه الفضل ومحمد وموسى‏.‏ ثم تجردت عنه التهمة بعبد الملك بن صالح بن علي وكانوا أصدقاء له فسعى فيه ابنه عبد الرحمن بأنه يطلب الخلافة فحبسه عنه الفضل بن الربيع ثم أحضره من الغداة وقرعه ووبخه فأنكر وحلف واعترف لحقوق الرشيد وسلفه عليه فأحضر كاتبه شاهداً عليه فكذبه عبد الملك فأحضر ابنه عبد الرحمن فقال‏:‏ هو مأمون معذور أو عاق فاجر فنهض الرشيد من مجلسه وهو يقول سأصبر حتى أعلم ما يرضي الله فيك فإنه الحكـم بينـي وبينـك‏.‏ فقـال عبـد الملـك‏:‏ رضيـت باللـه حكمـاً وبأميـر المؤمنيـن حاكمـاً فإنـه لا يؤثـر هـواه على رضا ربه‏.‏ ثم أحضره الرشيد يوماً آخر فأرعد له وأبرق وجعل عبد الملك يعدد وسائله ومقاماته في طاعته ومناصحته فقال له الرشيد لولا إبقائي على بني هاشم لقتلتك ورده إلى محبسه وكلمه عبـد اللـه بـن مالـك فيـه وشهـد لـه بنصحـه فقـال‏:‏ أطلقـه إذا قـال أمـا فـي هذا القرب فلا ولكن سهل حبسه ففعل وأجرى عليه مؤنه حتى مات الرشيد وأطلقه الأمين‏.‏ وعظم حقده على البرامكة بسبـب ذلـك فضيـق عليهـم وبعـث إلـى يحيـى يلومـه فيمـا ستـر عنـه مـن أمـر عبـد الملـك‏.‏ فقال يا أمير المؤمنين كيف يطلعني عبد الملك على ذلك وأنا كنت صاحب الدولة وهل إذا فعلت ذلك يجازيني بأكثر من فعلك أعيذك بالله أن تظن هذا الظن ألا أنه كان رجلاً متجملاً يسرني أن يكـون فـي بيتـك مثلـه فوليتـه ولا خصصتـه‏.‏ فعـاد إليـه الرسـول يقـول‏:‏ إن لـم تقـر قتلت الفضل ابنك‏.‏ فقال‏:‏‏.‏ أنت مسلط علينا فافعل ما أردت‏.‏ وجذب الرسول الفضل وأخرجه فودع أباه وسأله في الرضا عنه فقال‏:‏ رضي الله عنك‏.‏ وفـرق بينهمـا ثلاثـة أيـام ولـم يجـد عندهمـا شيئـاً فجمعهمـا واحتفـظ إبراهيـم بـن عثمـان بـن نهيـك لقتل جعفر فكان يبكيه ويبكي قومه حزناً عليهم‏.‏ ثم انتهى به إلى طلب الثأر بهم فكان يشرب النبيـذ مـع جواريه ويأخذ سيفه وينادي واجعفراه واسيداه والله لأثأرن بك ولأقتلن قاتلك فجاء ابنـه وحفـص كـان مولـاه إلـى الرشيد فأطلعاه على أمره فأحضر إبراهيم وأظهر له الندم على قتله جعفـراً والأسـف عليـه فبكـى إبراهيـم وقـال‏:‏ واللـه يا سيدي لقد أخطأت في قتله فانتهره الرشيد وأقامه‏.‏ ثم دخل عليه ابنه بعد ليال قلائل فقتله يقال بأمر الرشيد‏.‏ وكان يحيى بن خالد محبوسـاً بالكوفـة ولـم يزل بها كذلك إلى أن مات سنة تسعين ومائة ومات بعده ابنه الفضل سنة ثلاث وتسعين‏.‏ وكانت البرامكة من محاسن العالم ودولتهم من أعظم الدول وهم كانوا نكتة محاسن الملة وعنوان دولتها‏.‏ كان الرشيد على ما نقله الطبري وغيره يغزو عاماً ويحج عاماً ويصلي كـل يـوم مائـة ركعـة ويتصدق بألف درهم وإذا حج حمل معه مائة من الفقهاء ينفق عليهم وإذا لم يحج أنفق على ثلاثمائـة حـاج نفقـة شائعـة‏.‏ وكـان يتحـذى بآثار المنصور إلا في بذل المال فلم ير خليفة قبله أبذل منه للمال‏.‏ وكان إذا لم يغز غزا بالصائفة كبار أهل بيته وقواده فغزا بالصائفة سنة سبعين سليمـان بـن عبـد اللـه البكائـي وقيـل غـزا بنفسه‏.‏ وغزا بالصائفة سنة اثنتين وسبعين إسحاق بن سليمـان بـن علـي فأثخـن فـي بلـاد الـروم وغنـم وسبـى‏.‏ وغـزا فـي سنـة أربـع وسبعيـن بالصائفـة عبد الملـك بـن صالـح وقيـل أبـوه عبـد الملك فبلغ في نكاية الروم ما شاء وأصابهم برد شديد سقطت منه أيـدي الجنـد‏.‏ ثـم غـزا بالصائفـة سنـة سبـع وسبعيـن عبـد الـرزاق بـن عبـد الحميـد التغلبـي‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:15 PM

وفي سنة ثمان وسبعين
زفر بن عاصم‏.‏ وغزا سنة إحدى وثمانين بنفسه فافتتح حصن الصفصاف وأغزى عبد الملك بن صالح فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة‏.‏ وكان الفداء بين المسلمين والروم وهو أول فداء في دولة بني العباس وتولـاه القاسـم بـن الرشيـد وأخـرج لـه من طرسوس الخادم الوالي عليها وهو أبو سليمان فرج فنزل المدامـس علـى اثنـي عشـر فرسخـاً وحضـر العلمـاء والأعيـان وخلـق مـن أهل الثغور وثلاثون ألفاً من الجند المرتزقة فحضروا هنالك وجاء الروم بالأسرى ففودي بهم من كان لهم من الأسرى وكان أسـرى المسلميـن ثلاثة آلاف وسبعمائة‏.‏ وغزا بالصائفة سنة اثنتين وثمانين عبد الرحمن بن عبد الملـك بن صالح دقشوسوس مدينة أصحاب الكهف وبلغهم أن الروم سلوا ملكهم قسطنطين بن إليون وملكوه أمه ربى وتلقب عطشة فأثخنوا في البلاد ورجعوا‏.‏

وفي سنة ثلـاث وثمانيـن
حملـت ابنـة خاقـان ملـك الخـزر إلى الفضل بن يحيى فماتت ببردعة ورجع من كان معها فأخبروا أباها أنها قتلت غيلة فتجهز إلى بلاد الإسلام وخرج من باب الأبواب وسبـى أكثـر مـن مائـة ألـف فـارس وفعلـوا مـا لـم يسمـع بمثلـه فولى الرشيد يزيد بن مزيد أمر أرمينية مضافة إلى أذربيجان وأمره بالنهوض إليهم وأنزل خزيمة بن خازم بنصيبين رداً لهم‏.‏ وقيل إن سبـب خروجهـم أن سعيد بن مسلم قتل الهجيم السلمي فدخل ابنه إلى الخزر مستجيشاً بهم على سعيد ودخلوا أرمينية وهرب سعيد والخزر ورجعوا‏.‏

وفي سنة سبع وثمانين
غزا بالصائفة القاسم بن الرشيد وجعله قرباناً لله وولاه العواصم‏.‏ فأناخ على قرة وضيق عليها وبعث عليها ابن جعفر بن الأشعث فحاصر حصن سنان حتى جهد أهله وفاس الروم بثلاثمائة وعشرين أسيراً من المسلمين على أن يرحل عنهم فأجابهم وتم بينهم الصلح ورحل عنهم‏.‏ وكان ملك الروم يومئذ ابن زيني وقد تقدم ذكره فخلعه الروم وملكوا نيقفور وكان على ديوان خراجهم ومات زيني بعد خمسة أشهر‏.‏ ولما ملك نيقفور كتب إلى الرشيـد بمـا استفـزه فسـار إلـى بلـاد الـروم غازيًـا‏.‏ ونـزل هرقـل وأثخـن فـي بلادهـم حتى سأل نيقفور الصلح ثم نقض العهد وكان البرد شديد الكلب وظن نيقفورأن ذلك يمنعه مـن الرجـوع فلـم يمنعه ورجع حتى أثخن في بلاده ثم خرج من أرضهم‏.‏ وغزا بالصائفة سنة ثمان وثمانين إبراهيم بن جبريل ودخل مـن درب الصفصـاف فخـرج إليـه نيقفـور ملـك الـروم وانهـزم وقتـل مـن عسكـره نحـواً مـن أربعيـن ألفـاً‏.‏ وفـي هـذه السنـة رابط القاسم بن الرشيـد أبـق‏.‏

وفي سنة تسـع وثمانيـن
كتـب الرشيـد وهـو بالـري كتـب الأمـان لشرويـن أبـي قـارن ونـدا هرمز جـد مازيـار مرزبـان خستـان صاحـب الديلـم وبعـث بالكتـب مـع حسيـن الخـادم إلـى طبرستان فقدم خستان ووندا هرمز فأكرمهمـا الرشيـد وأحسـن إليهمـا‏.‏ وضمـن ونـدا هرمـز وشروين صاحبي طبرستان وذكرا كيف توجه الهادي لهما وحاصرهما‏.‏

وفي سنة سـت وثمانيـن
كـان فـداء بيـن المسلميـن حتـى لـم يبـق بـأرض الـروم مسلـم إلا فـودي وفي سنة تسعيـن سـار الرشيـد إلـى بلـاد الروم بسبب ما قدمناه من غدر نيقفور في مائة وخمسة وثلاثين ألفـاً مـن المرتزقـة سـوى الأتبـاع والمتطوعـة ومن ليس له ذكر في الديوان‏.‏ واستخلف المأمون بالرقة وفـوض إليه الأمور وكتب إلى الآفاق بذلك‏.‏ فنزل على هرقل فحاصرها ثلاثين يوماً وافتتحها وسبـى أهلهـا وغنـم مـا فيهـا وبعـث داود بـن عيسـى بـن موسى في سبعين ألفاً غازياً في أرضهم ففتح الله عليه وخرب ونهب ما شاء‏.‏ وفتح شراحيل بن معن بـن زائـدة حصـن الصقالبـة وديسة‏.‏ وافتتح يزيد بن مخلد حصن الصفصاف وقونية‏.‏ وأناخ عبد الله بن مالك على حصن ذي الكلاع‏.‏ واستعمل الرشيد حميد بن معيوب على الأساطيل ممن بسواحل الشام ومصر إلى قبرس فهزم وخـرق وسبـى مـن أهلهـا نحواً من سبعة عشر ألفاً وجاء بهم إلى الواقعة فبايعوا بها‏.‏ وبلغ فداء أسقف قبرس ألفي دينار‏.‏ ثم سار الرشيد إلى حلوانة فنزل بها وحاصرها‏.‏ ثم رحل عنها وخلف عليها عقبة بن جعفر‏.‏ وبعث يقفور بالخراج والجزية عن رأسه أربعة دنانير وعن ابنه ديناريـن وعـن بطارقتـه كذلـك‏.‏ وبعـث يقفـور فـي جاريـة مـن بنـي هرقلـة وكـان خطبهـا ابنـه فبعـث بهـا إليـه‏.‏ ونقض في هذه السنة قبرس فغزاهم معيوب بن يحيى فأثخن فيهم وسباهم‏.‏ ولما رجع الرشيد من غزاته خرجت الروم إلى عين زربة والكنيسة السوداء وأغاروا ورجعوا فاستنقذ أهل المصيصة ما حملوه من الغنائم‏.‏ وفيها غزا يزيد بن مخلد الهبيري أرض الروم في عشـرة آلـاف فأخـذت الـروم عليـه المضايـق فانهـزم وقتـل فـي خمسيـن مـن أصحابـه علـى مرحلتيـن مـن طرسـوس‏.‏ واستعمـل الرشيـد علـى الصائفـة هرثمة بن أعين قبل أن يوليه خراسان وضم إليه ثلاثين ألفاً من أهل خراسان وأخرجه إلى الصائفة وسار بالعساكر الإسلامية في أثره ورتب بدرب الحارث عبد الله بن مالك وبمرعش سعيـد بن مسلم بن قتيبة‏.‏ وأغارت الروم عليه فأصابوا من المسلمين وانصرفوا ولم يتحرك من مكانه‏.‏ وبعث الرشيد محمد بن زيد بن مزيد إلى طرسوس وأقام هو بدرب الحارث وأمر قـواده بهـدم الكنائـس فـي جميـع الثغـور‏.‏ وأخـذ أهـل الذمـة بمخالفـة زي المسلميـن فـي ملبوسهـم‏.‏ وأمر هرثمـة ببنـاء هرطـوس وتولـى ذلـك فخـرج الخـادم بأمـر الرشيـد وبعث إليها جنداً من خراسان ثلاثة أيـام وأشخـص إليهـم ألفـاً مـن أهـل المصيصـة وألفـاً مـن أنطاكيـة فتـم بناؤهـا سنـة اثنتيـن وتسعيـن‏.‏ وفي هـذه السنـة تحركـت الخرميـة بناحيـة أذربيجـان فبعـث إليهـم عبـد اللـه بـن مالـك فـي عشـرة آلـاف فقتل وسبى وأسر ووافاه بقرماسين فأمره بقتل الأسرى وبيع السبي‏.‏ وفيها استعمل الرشيد على الثغور ثابت بن مالك الخزاعي فافتتح مطمورة وكان الفداء على يديه بالبرذون ثم كان الفداء الثاني وكان عدة أسرى المسلمين فيه ألفين وخمسمائة‏.‏

الولاية على النواحي
كـان علـى إفريقية مزيد بن حاتم كما قدمناه ومات سنة إحدى وسبعين بعد أن استخلف ابنه داود فبعـث الرشيـد علـى إفريقيـة أخاه روح بن حاتم فاستقدمه من فلسطين وبعثه إلى إفريقية‏.‏ وعزل أبا هريرة محمد بـن فـروج عـن الجزيـرة وقتلـه وولـى مكانـه

وفي سنة سـت وسبعيـن
ولـى الرشيـد على الموصل الحكم بن سليمان وقد كان خرج الفضل الخارجي بنواحي نصيبين وغنم وسار إلى داريا وآمد وأرزق وخلاط فقفل لذلك ورجع إلى نصيبين فأتى الموصل وخرج إليه الفضل في عساكرها فهزمهم على الزاب‏.‏ ثم عادوا لقتاله فقتل الفضل وأصحابه‏.‏

وفي سنة ست وسبعيـن
مـات روح بـن حاتـم بإفريقيـة واستخلـف حبيـب بـن نصـر المهلبـي فسـار الفضـل إلى الرشيد فولـاه علـى إفريقيـة وعـاد إليهـا فاضطـرب عليه الخراسانية من جند إفريقية ولم يرضوه فولى مكانه هرثمـة بـن أعيـن وبعـث في العسكر فسكن الاضطراب ورأى ما بإفريقية من الاختلاف فاستعفى الرشيد من ولايتها فأعفاه وقدم إلى العراق بعد سنتين ونصف من مغيبه‏.‏ وفي هذه ولى الفضل بن يحيى على مصر مكان أخيه جعفر مضافاً إلى ما بيده من الري وسجستـان وغيرهمـا ثـم عزله عن مصر وولى عليها إسحاق بن سليمان فثارت به الجوقية من مصر وهم جموع من قيس وقضاعة فأمده بهرثمة بن أعين فأذعنوا وولاه عليهم شهراً ثم عزله وولى عبد الملك بـن صالـح مكانـه وفيهـا فـوض أمـر دولتـه إلـى يحيـى بـن خالـد‏.‏

وفي سنة ثمانيـن
بعـث جعفر بن يحيى إلى الشام في القواد والعساكر ومعه السلاح والأموال والعصبية التي كانت بها فسكن الفتنة ورجع فولاه خراسان وسجستان فاستعمل عليها عيسى بن جعفر وولى جعفر بن يحيى المريس‏.‏ وقدم هرثمة بن أعين من إفريقية فاستخلفه جعفر على الحرد وعـزل الفضـل بـن يحيـى عـن طبرستان والرويان وولاها عبد الله بن خازم وولى على الجزيرة سعيد بن مسلم وولى على الموصل يحيى بن سعيد الحرشي فأساء السيرة وطالبهم بخراج سنين ماضية فانجلا أكثر أهل البلـد وعزلـه الرشيـد وولـى عليهـا يحيـى بـن خالـد‏.‏

وفي سنة إحـدى وثمانيـن
ولـى علـى إفريقيـة محمـد بن مقاتل بن حكيم العكي وكان أبوه من قـواد الشيعـة ومحمـد رضيـع الرشيـد وتلـاده فلمـا استعفى هرثمة ولاه مكانه واضطربت عليه إفريقية وكان إبراهيم بن الأغلب بها والياً على الـزاب وكـان جنـد إفريقيـة يرجعـون إليـه فأعانـه وحمـل النـاس علـى طاعتـه بعـد أن أخرجـوه فكرهـوا ولايـة محمـد بن مقاتل وحملوا إبراهيم بن الأغلب على أن كتب إلى الرشيد يطلب ولاية إفريقية على أن يترك المائة ألف دينار التي كانت تحمل من مصل معونة إلى والي إفريقية ويحمل هـو كـل سنـة أربعيـن‏.‏ ألف دينار‏.‏ فاستشار الرشيد بطانته فأشار هرثمة بإبراهيم بن الأغلب وولاه الرشيد في محرم سنة أربعة وثمانين فضبط الأمور وقبض على المؤمنين وبعث بهم إلى الرشيد فسكنت البلاد‏.‏ وابتنى مدينة بقرب القيروان سماها العباسية وانتقل إليها بأهله وخاصته وحشمه وصار ملك إفريقيـة فـي عقبـه كمـا يذكـر فـي أخبارهـا إلـى أن غلبهـم عليهـا الشيعـة العبيديـون وكان يزيد بن مزيد علـى أذربيجـان فولـاه الرشيـد سنة ثمان وثمانين على أرمينية مضافة إليها وولى خزيمة بن خازم علـى نصيبـن‏.‏ وولـى الرشيـد سنـة أربـع وثمانيـن علـى اليمن ومكة حماداً البربري وعلى السند داود بـن يزيـد بـن حاتـم وعلـى الجبـل يحيـى الحرشي وعلى طبرستان مهرويه الزاي وقتله أهل طبرستان سنة خمس وثمانين فولى مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي‏.‏ وفيها توفي يزيد بن زائدة الشيطاني ببردعة وكان على أذربيجان وأرمينية فولى مكانه ابنه أسد بن يزيد بن حاتـم‏.‏

وفي سنة تسـع وثمانيـن
سـار الرشيـد إلـى الـري وولـى علـى طبرستـان والـري ودنباونـد وقـوس وهمـذان عبـد الملـك بـن مالـك‏.‏

وفي سنة تسعيـن
ولـى علـى الموصـل خالـد بن يزيد بن حاتم وقد تقدم لنا ولاية هرثمة على سليمان ونكبة علي بن عيسى‏.‏

وفي سنة إحدى وتسعيـن
ظفـر حمـاد البربـري بهيصيـم اليمانـي وجـاء بـه إلـى الرشيـد فقتلـه وولـى فـي هـذه السنة على الموصل محمد بن الفضل بن سليمان وكان على مكة الفضل بن العباس أخي المنصور والسفاح‏.‏ خلع رافع بن الليث بما وراء النهر كان رافع بن نصر بن سيار من عظماء الجند فيما وراء النهر وكان يحيى بن الأشعث قد تـزوج ببعض النساء المشهورات الجمال وتسرى عليها وأكثر ضرارها وتشوقت إلى التخلص منه فـدس إليهـا رافـع بـن الليـث بـأن تحاول من يشهد عليها بالكفر لتخلص منه وتحل للأزواج ثم ترجع وتتوب فكان وتزوجها‏.‏ وشكا يحيى بن الأشعث إلى الرشيد وأطلعه على جل الأمر فكتب إلـى علـي بـن عيسى أن يفرق بينهما ويقيم الحد على رافع ويطوف به في سمرقند مقيداً على حمار ليكون عظة لغيره ففعل ذلك ولم يجده رافع وحبس بسمرقند فهرب من الحبس ولحق بعلـي بـن عيسـى فـي بلـخ فهـم بضـرب عنقـه فشفـع فيـه ابنه عيسى فأمره بالانصراف إلى سمرقند فرجـع إليهـا ووثـب بعاملهـا فقتلـه وملكهـا وذلـك سنـة تسعين‏.‏ فبعث علي لحربه ابنه عيسى فلقيه رافـع وهزمـه وقتلـه فخـرج علـي بـن عيسـى لقتلـه وسار من بلخ إلى مرو مخافة عليها من رافع بن الليث‏.‏ثم كانت نكبة علي بن عيسى وولاية هرثمة بن أعين على خراسان وكان مع رافع بن الليث جماعـة مـن القـواد ففارقـوه إلى هرثمة‏.‏ منهم عجيف بن عنبسة وغيره‏.‏ وحاصر هرثمة رافع بن الليـث في سمرقند وضايقه واستقدم طاهر بن الحسين من خراسان فحضر عنده وعاث حمزة الخارجي في نواحي خراسان لخلائها من الجند وحمل إليه عمال هراة وسجستان الأموال‏.‏ ثم خـرج عبـد الرحمـن إلـى نيسابـور سنـة أربـع وتسعين وجمع نحواً من عشرين ألفاً وسار حمزة فهزمه وقتل من أصحابه خلقاً وأتبعه إلى هراة حتى كتب المأمون إليه ورده عن ذلك‏.‏ وكانت سنة ثلاث وتسعين بين هرثمة وبين أصحاب رافع وقعة كان الظفر فيها لهرثمة وأسر بشراً أخا رافع وبعث به إلى الرشيد وافتتح بخارى‏.‏ وكان الرشيد قد سار من الرقة بعد مرجعه من الصائفة التي بنى فيها طرسوس على اعتزام خراسان لشأن رافع وكان قد أصابه المرض‏.‏ فاستخلف على الرقة ابنه القاسم وضم إليه خزيمة بن خازم وجاء إلى بغداد‏.‏ ثم سـار منهـا إلـى خراسـان فـي شعبـان سنـة اثنتيـن وتسعيـن واستخلـف عليهـا ابنـه الأميـن وأمـر المأمـون بالمقام معه فأشار عليه الفضل بن سهل بأن يطلب المسير مع الرشيد وحذره البقاء مع الأمين فأسعفه الرشيد بذلك وسار معه‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:16 PM

وفاة الرشيد وبيعة الأمين
ولمـا سـار الرشيـد عـن بغـداد إلـى خراسـان بلـغ جرجـان فـي صفـر سنـة ثلـاث وتسعيـن وقـد اشتدت عليـه فبعـث ابنـه المأمـون إلـى مـرو ومعـه جماعـة مـن القـواد‏:‏ عبـد اللـه بـن مالك يحيى بن معاذ وأسد بـن خزيمـة والعبـاس بـن جعفـر بـن محمـد بـن الأشعـث والسـدي والحريشـي ونعيم بن خازم‏.‏ ثم سار الرشيـد إلـى موسـى واشتـد به الوجع وضعف عن الحركة وثقل فأرجف الناس بموته وبلغه ذلك فأراد الركوب ليراه الناس فلم يطق النهوض فقال ردوني‏.‏ ووصل إليه وهو بطوس بشير أخو رافـع أسيـراً بعـث بـه هرثمـه بـن أعين فأحضره وقال‏:‏ لو لم يبق من أجلي إلا حركة شفتي بكلمة لقلت اقتلوه‏.‏ ثم أمر قصاباً ففصل أعضاءه ثم أغمي عليه وافترق الناس‏.‏ ولما يئس من نفسه أمر بقبره فحفر في الدار التي كان فيها وأنزل فيه قوماً قرؤوا فيه القرآن حتـى ختمـوه وهـو فـي محفـة علـى شفيـره ينظـر إليـه وينـادي واسوأتـاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مات وصلى عليه ابنه صالح وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح ومسرور وحسين ورشيد وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة أو تزيد وترك في بيت المـال تسعمائة ألف ألف دينار‏.‏ ولما مات الرشيد بويع الأمين في العسكر صبيحة يومه والمأمون يومئذ بمرو وكتب حمويه مولى المهـدي صاحب البريد إلى نائبه ببغداد وهو سلام أبو مسلم يعلمه بوفاة الرشيد وهنأه بالخلافة فكان أول من فعل ذلك‏.‏ وكتب صالح إلى أخيه الأمين مع رجاء الخادم بوفاة الرشيد وبعث معه بالخاتم والبردة والقضيب فانتقل الأمين من قصره بالخلد إلى قصر الخلافة‏.‏ وصلى بالناس الجمعة وخطب ثم نعى الرشيد وعزى نفسه والناس وبايعته جملـة أهلـه ووكـل سليمـان بـن المنصور وهم عم أبيه وأمه بأخذ البيعة على القواد وغيرهم ووكل السندي بأخذ البيعة على النـاس سواهم وفرق في الجند ببغداد رزق سنين‏.‏ وقدمت أمه زبيدة من الرقة فلقيها الأمين بالأنبار في جمع من بغداد من الوجوه وكان معها خزائن الرشيد وكان قد كتب إلى معسكر الرشيد وهو حي مع بكر بن المعتمر لما اشتدت علة الرشيد وإلى المأمون بأخذ البيعة لهما وللمؤتمن أخيهما وإلى أخيه صالح بالقدوم بالعسكر والخزائن والأموال برأي الفضل‏.‏ وإلى الفضل بالاحتفـاظ علـى مـا معـه مـن الحرم والأموال وأقر كل واحد على عمله كصاحب الشرطة والحرس والحجابة‏.‏ وكـان الرشيـد قـد سمـع بوصـول بكـر بالكتـاب فدعاه ليستخرجها منه فجحدها فضربه وحبسه‏.‏ ثم مات الرشيد وأحضره الفضل فدفعها إليه ولما قرؤوا الكتاب تشاوروا في اللحاق بالأمين وارتحـل الفضـل بالنـاس لهواهـم في وطنهم وتركوا عهود المأمون‏.‏ فجمع المأمون من كان عنده من قواد أبيه وهم عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ وشبيب بن حميد بن قحطبة والعلاء مولى الرشيد - وكان على حجابته -‏.‏ والعباس بن المسيب بن زهيـر - وكـان علـى شرطتـه - وأيـوب بـن أبـي سميـر - وهـو علـى كتابتـه - وعبـد الرحمـن بـن عبد الملك بن صالح وذو الرياستين الفضل بن سهـل - وهو أخصهم به وأحظاهم عنده - فأشار بعضهم أن يركب في أثرهم ويردهم ومنعه الفضل من ذلك وقال‏:‏ أخشى عليك منهم ولكن تكتب وترسل رسولك إليهم تذكرهم البيعة والوفاء وتحذرهم الحنث فبعث سهل بن صاعد ونوفلاً الخادم بكتابه إليهم بنيسابور فقـرأ الفضل كتابه وقال‏:‏ أنا واحد من الجند‏.‏ وشد عبد الرحمن برجليه على سهل ليطعنه بالرمح وقال‏:‏ لو كان صاحبك حاضراً لوضعته فيه وسب المأمون وانصرفوا ورجع سهل ونوفل بالخبر إلى المأمون فقال له الفضل بن سهل‏:‏ هـؤلاء أعـداء استرحـت منهم وأنت بخراسان وقد خرج بها المقنع وبعده يوسف البر فتضعضعـت لهما الدولة ببغداد وأنت رأيت عند خروج رافع بن الليث كيف كان الحال وأنت اليـوم نـازل فـي أخوالـك وبيعتـك فـي أعناقهـم فاصبـر وأنـا أضمـن لـك الخلافـة فقـال المأمـون‏:‏ قـد فعلـت وجعلـت الأمـر إليـك فقال‏:‏ إن عبد الله بن مالك والقواد أنفع لك مني لشهرتهم وقوتهم وأنا خادم لمن يقوم بأمرك منهم حتى ترى رأيك‏.‏ وجاءهم الفضل في منازلهم وعرض عليهم البيعة للمأمون فمنهم من امتنع ومنهم من طرده فرجع إلى المأمون وأخبره فقال‏:‏ قم أنت بالأمر‏.‏ وأشار عليه الفضل أن يبعث على الفقهاء ويدعوهـم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة ورد المظالم ويعقد على الصفوف ففعل جميع ذلك وأكـرم القـواد وكـان يقول للتميمي نقيمك مقام موسى بن كعب وللربعي مكان أبي داود وخالد بن ووضـع عـن خراسـان ربـع الخـراج فاغتبط به أهلها وقالوا‏:‏ ابن أختنا وابن عم نبينا وأقام المأمون يتولـى مـا كـان بيـده مـن خراسـان والـري وأهـدى إلـى الأمين وكتب إليه وعظمه‏.‏ ثم إن الأمين عزل لأول ولايته أخاه القاسم المؤتمن عن الجزيرة واستعمل عليها خزيمة بن خازم وأقر المؤتمن على قنسريـن والعواصـم‏.‏ وكـان على مكة داود بن عيسى بن موسى بن محمد وعلى حمص إسحاق بـن سليمـان فخالـف عليـه أهـل حمـص وانتقـل عنهم إلى سلمية فعزله الأمين وولى مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي فقتل عدة منهم وحبس عدة وأضـرم النـار فـي نواحيهـا وسألـوا الأمـان فأجابهم‏.‏ ثم انتقضوا فقتل عدة منهم ثم ولى عليهم إبراهيم بن العباس‏.‏ أخبار رافع وملوك الروم فـي سنة ثلاث وتسعين دخل هرثمة بن أعين سمرقند وملكها وقام بها ومعه طاهر بن الحسين فاستجاش رافع بالترك فأتوه وقوي بهم ثم انصرفوا وضعف أمره وبلغه الحسن سيرة المأمون فطلب الأمان وحضر عند المأمون فأكرمه‏.‏ ثم هدم هرثمة على المأمون فولاه الحرس وأنكر الأميـن ذلـك كلـه‏.‏ وفـي هـذه السنـة قتـل نيقفـور ملـك الـروم في حزب برجان لسبع سنين من ملكه وملك بعده ابنه استبراق وكان جريحاً فمات لشهرين وملك بعده صهره على أخته ميخاييل بن جرجيـس ووثب عليه الروم سنة أربع وتسعين بعد اثنتين من ملكه فهرب وترهب وولوا بعده إليون القائد‏.‏

الفتنة بين الأمين والمأمون
ولمـا قدم الفضل بن الربيع على الأمين ونكث عهد المأمون خشي غائلته فأجمع قطع علائقه من الأمـور وأعـرى الأميـن بخلعـه والبيعـة للعهـد لابنـه موسـى ووافقـه فـي ذلـك علـي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما ممن يخشى المأمون‏.‏ وخالفهم خزيمة بن خازم وأخوه عبـد اللـه وناشـدوا الأمين في الكف عن ذلك وأن لا يحمل الناس على نكث العهود فيطرقهم لنكث عهده‏.‏ ولج الأميـن فـي ذلـك وبلغـه أن المأمـون عـزل العبـاس بن عبد الله بن مالك عن الري وأنه ولى هرثمة بن أعين على الحرس وأن رافع بن الليث استأمن له فأمنه وسار في جملته فكتب إلى العمال بالدعـاء لموسـى ابنـه بعـد الدعـاء للمأمـون والمؤتمـن فبلـغ ذلك المأمون فأسقط اسم الأمين من الطرد وقطع البريد عنه‏.‏ وأرسل الأمين إليه العباس بن موسى بن عيسى وخاله عيسى بن جعفر بن المنصور وصالحاً صاحب الموصل ومحمد بن عيسى بن نهيك يطلب منه تقديم ابنه موسى عليه في العهد ويستقدمه‏.‏ فلما قدموا على المأمون استشار كبراء خراسان فقالوا‏:‏ إنما بيعتنا لك على أن لا تخرج من خراسان فأحضر الوفد وأعلمهم بامتناعه مما جاؤوا فيه‏.‏ واستعمل الفضل بن سهل العباس بن موسى ليكون عيناً لهم عند الأمين ففعل وكانت كتبه تأتيهم بالأخبار‏.‏ ولما رجع الوفد عاودوه بطلب بعض كور خراسان وأن يكون له بخراسان صاحب بريد يكاتبه فامتنع المأمون من ذلك وأوعد إلى قعوده بالري ونواحيها يضبط الطرق وينقذها من غوائل الكتـب والعيون وهو مع ذلك يتخوف عاقبة الخلاف‏.‏ وكان خاقان ملك التبت قد التوى عليه وجيفونة فارق الطاعة وملوك الترك منعـوا الضريبـة فخشي المأمون ذلك وحفظ عليه الأمر بأن يولي خاقان وجيفونة بلادهما ويوادع ملك كابل ويتـرك الضريبـة لملـوك التـرك الآخريـن‏.‏ وقـال له بعد ذلك‏:‏ ثم اضرب الخيل بالخيل والرجال بالرجال فـإن ظفـرت وإلا لحقـت بخاقـان مستجيـراً فقبـل إشارتـه وفعلهـا وكتب إلى الأمين يخادعه بأنه عامله علـى هـذا الثغـر الذي أمره الرشيد بلزومه وأن مقامه به أشد عناءً ويطلب إعفاءه من الشخوص إليـه فعلـم الأميـن أنـه لا يتابعه على مراده فخلعه وبايع لولده في أوائل سنة خمس وتسعين وسماه الناطق بالحق وقطع ذكر المأمون والمؤتمن من المنابر وجعل ولده موسى في حجر علـي بـن عيسى وعلى شرطته محمد بن عيسى بن نهيك وعلى حرسه أخوه عيسى وعلى رسائله وكـان يدعـى لـه علـى المنابـر ولابنـه الآخـر عبـد الله ولقبه القائم بالحق وأرسل إلى الكعبة من جاء بكتابي العهد للأمين والمأمون اللذين وضعهما الرشيد هنالك وسارت الكتب من ذلـك إلـى المأمون ببغداد من عيونه بها فقال المأمون‏:‏ هذه أمور أخبر الرائي عنها وكفاني أنا أن أكون مع الحـق وبعـث الفضل بن سهل إلى جند الري بالأقوات والإحسان وجمع إليهم من كان بأطرافهم‏.‏ ثـم بعـث علـى الـري طاهـر بـن الحسيـن بـن مصعـب بـن زريـق أسعـد الخزاعـي أبـا العبـاس أميراً وضم إليـه القـواد والأجنـاد فنزلهـا ووضع المسالح والمراصد وبعث الأمين عصمة بن حماد بن سالم إلى همذان في ألف رجل وأمره أن يقيم بهمذان ويبعث مقدمته إلى ساوة‏.‏

خروج ابن ماهان لحرب طاهر ومقتله
ثـم جهـز الأميـن علـي بـن عيسـى بـن ماهـان إلى خراسان لحرب المأمون يقال في دس بذلك الفضل بـن سهـل العيـن لـه عنـد الفضـل بـن الربيـع فأشـار بـه عليهـم لمـا فـي نفـوس أهـل خراسـان من النفرة عن ابن ماهان فجـدوا فـي حربـه‏.‏ ويقـال حـرض أهـل خراسـان علـى الكتـب إلـى ابـن ماهـان ومخادعتـه إن جاء‏.‏ فأمره الأمين بالمسير وأقطعه نهاوند وهمذان وقم وأصبهـان وسائـر كـور الجبـل حربـاً وخراجاً وحكمه في الخزائن وأعطاه الأموال وجهز معه خمسين ألف فارس‏.‏ وكتب إلى أبي دلـف القاسم بن عيسى بن إدريس العجلي وهلال بن عبد الله الحضرمي في الانضمام وركب إلـى بـاب زبيـدة ليودعهـا فأوصتـه بالمأمـون بغايـة مـا يكون أن يوصى به وأنه بمنزلة ابنها في الشفقة والموصلة وناولته قيداً من فضة وقالت له‏:‏ إن سار إليك فقيده به مع المبالغة في البر والأدب معه‏.‏ ثـم سـار علـي بـن عيسى من بغداد في شعبان وركب الأمين يشيعه في القواد والجنود ولم ير عسكر مثل عسكره‏.‏ ولقي السفر بالسابلة فأخبـروه أن طاهـراً بالـري يعـرض أصحابـه وهـو مستعـد للقتـال‏.‏ وكتـب إلـى ملـوك الديلـم وطبرستـان يعدهم ويمنيهم وأهدى لهم التيجان والأسورة على أن يقطعوا الطرق عن خراسان فأجابوا ونزل أول بلاد الري فأشار عليه أصحابه بإذكاء العيون والطلائع والتحصن بالخندق فقال‏:‏ مثل طاهر لا يستعد له وهو إما أن يتحصن بالري فيثب إليه أهلها وأما أن يفر إذا قربت منه خيلنا‏.‏ ولما كان مـن الـري علـى عشـرة فراسـخ استشار أصحاب طاهر في لقائه فمالوا إلى التحصن بالري فقال‏:‏ أخاف أن يثب بنا أهلها‏.‏ وخرج فعسكر على خمسة فراسخ منها في أقل من أربعة آلاف فارس‏.‏ وأشـار عليـه أحمـد بـن هشـام كبيـر جنـد خراسان أن ينادي بخلع الأمين وبيعة المأمون لئلا يخادعه علي بن عيسى بطاعة الأمين وأنه عامله ففعل وقال علي لأصحابه‏:‏ بادروهم فإنهم قليل ولا يصبرون على حد السيوف وطعن الرماح وأحكم تعبية جنده وقدم بين يديه عشر رايات مع كل راية ألف رجل وبين كل رايتين غلوة سهم ليقاتلوا نوباً‏.‏ وعبى طاهر أصحابه كراديس وحرضهم وأوصاهم وهرب من أصحاب طاهر جماعة فجلدهم علي وأهانهم فأقصر الباقون وجدوا في قتاله‏.‏وأشـار أحمـد بـن هشـام علـى طاهـر بأن يرفع كتاب البيعة على رمح ويذكر علي بن عيسى بها نكثه‏.‏ ثم اشتد القتال وحملت ميمنة علي فانهزمت ميسرة طاهر وكذلك ميسرته على ميمنة طاهر فأزالوها واعتمد طاهر القلب فهزموهم ورجعت المجنبتان منهزمةً وانتهت الهزيمة إلى علـي وهـو ينـادي بأصحابـه‏.‏ فرمـاه رجـل مـن أصحـاب طاهـر بسهم فقتله وجاء برأسه إلى طاهر وحمـل شلـوه علـى خشبـة والقـي فـي بئـر بأمر طاهر‏.‏ وأعتق طاهر جميع غلمانه شكراً لله وتمت الهزيمة‏.‏ واتبعهم أصحاب طاهر فرسخين وأقفوهم فيها اثنتي عشرة مرة يقتلونهم في كلها ويأسرونهم حتى جن الليل بينهم‏.‏ ورجع طاهر إلى الـري وكتـب إلـى الفضـل‏:‏ كتابـي إلـى أميـر المؤمنيـن ورأس علـي بيـن يـدي وخاتمـه فـي إصبعي وجنده متصرفون تحت أمري والسلام‏.‏ وورد الكتاب على البريد في ثلاثة أيام فدخل الفضل على المأمون وهنأه بالفتح ودخل الناس فسلموا عليه بالخلافة ووصل رأس علي بعدها بيومين وطيـف بـه فـي خراسـان ووصـل الخبـر إلـى الأميـن بمقتـل علـي وهزيمـة العسكـر فأحضـر الفضـل بـن الربيـع وكيـل المأمـون ببغـداد وهـو نوفـل الخـادم فقبض ما بيده من ضياعه وغلاته وخمسين ألف ألف درهم كان الرشيد وصاه بها وندم الأمين على فعله وسعت الجند والقواد في طلب الأرزاق فهم عبد الله بن حاتم بقتالهم فمنعه الأمين وفرق فيهم أموالاً‏.‏ مسير ابن جبلة إلى طاهر ومقتله ولما قتل علي بن عيسى بعث الأمين عبد الرحمن بن الأنباري في عشرين ألف فارس إلى همذان وولاه عليها وعلى كل ما يفتحه من بلاد خراسـان وأمـده بالمـال فسـار إلـى همـذان وحصنها وجاءه طاهر فبرز إليه ولقيه فهزمه طاهر إلى البلد‏.‏ ثم خرج عبد الرحمن ثانية فانهزم إلى المدينة وحاصره طاهر حتى ضجر منه أهل المدينة وطلب الأمان من طاهر وخرج من همذان‏.‏ وكان طاهر عند نزوله عليها قد خشي من صاحب قزوين أن يأتيه من ورائه فجهز العسكر على همذان‏.‏ وسار إلى قزوين في ألف فارس ففر عاملها وملكها‏.‏ ثم ملك همـذان وسائـر أعمـال الجبـل وأقـام عبـد الرحمـن بـن جبلـة فـي أمانـه‏.‏ ثـم أصـاب منه بعض الأيام غرة فركب وهجم عليه في عسكر فقاتله طاهر أشد القتال حتى انهزم أصحابه وقتل ولحق فلهم بعبـد اللـه وأحمـد ابنـي الحريشـي فـي عسكـر عظيـم بعثهمـا الأميـن مـدداً لعبـد الرحمن فانهزموا جميعاً إلى بغداد‏.‏ وأقبل طاهر نحو البلاد وحده وأخذه إلى حلوان فخندق بها وجمع أصحابه‏.‏ بيعة المأمون وأمر المأمون عندها بأن يخطب له على المنابر ويخاطب بأمير المؤمنين وعقد للفضل بن سهل على المشرق كله من جبل همذان إلى البيت طولاً ومرت بحر فارس إلى بحر الديلم وجرجان عرضـاً وحمـل لـه عمالـه ثلاثـة آلـاف ألـف درهـم‏.‏ وعقـد لـه لـواء ذا شعبتيـن ولقبـه ذا الرياستين يحني الحرب والعلم وحمل اللواء علي بن هشام وحمل العلم نعيم بن خازم وولى أخاه الحسن بن سهل ديوان الخراج‏.‏ ظهور السفياني هـو علـي بـن عبـد اللـه بـن خالـد بـن يزيـد بـن معاويـة ويلقـب أبا العميطر لأنه زعم أنها كنية الحردون فلقبوه بها وكانت أمه نفيسة بنت عبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب وكان يقول‏:‏ أنا ابن شيخي صفين يعني علياً ومعاوية‏.‏ وكان من بقايا بني أمية بالشام‏.‏ وكان من أهل العلم والروايـة فادعـى لنفسـه بالخلافـة آخـر سنة خمس وتسعين‏.‏ وأعانه الخطاب بن وجه العلس مولى بنـي أمية كان متغلباً على صيدا فملك دمشق من يد سليمان بن المنصور وكان أكثر أصحابه من كلب‏.‏ وكتب إلى محمد بن صالح بن بيهس يدعوه ويتهدده فأعرض عنه‏.‏ وقصـد السفيانـي القيسيـة فاستجاشـوا بمحمد بن صالح فجاءهم في ثلاثمائة فارس من الصبات ومواليـه‏.‏ وبعـث السفيانـي يزيـد بـن هشـام للقائهـم فـي اثنـي عشر ألفاً فانهزم يزيد وقتل من أصحابه ألفـان وأسـر ثلاثـة آلـاف أطلقهـم ابـن بيهـس وحلقهـم‏.‏ ثـم جمـع جمعـاً مـع ابنـه القاسـم وخرجـوا إلى ابن بيهس فانهزموا وقتل القاسم وبعث برأسه إلى الأمين‏.‏ ثم جمع جمعاً آخر وخرجوا مع مولاه المعتمر فانهزموا وقتل المعتمر فوهن أمر السفياني وطمعت فيه قيس‏.‏ ثم إن ابن بيهس مرض فجمع رؤساء بني نميـر وأوصاهـم بيعـة مسلمـة بـن يعقـوب بـن علـي بـن محمـد بـن سعـد بـن مسلمـة بـن عبـد الملـك بالخلافـة‏.‏ وقـال لهـم‏:‏ تولـوه وكيدوا به السفياني فإنكم لا تتقون بأهل بيته‏.‏ وعاد ابن بيهس إلـى حـوران واجتمعـت علـى مسلمـة فبايعـوه فقتـل منهـم وجمـع مواليـه‏.‏ ودخـل علـى السفياني فقيده وحبس رؤساء بني أمية وأدنى القيسية وجعلهم بطانةً‏.‏ وأفاق ابن بيهس من مرضـه فجـاء إلـى دمشـق وحاصرهـا وسلمهـا لـه القيسيـة فـي محـرم سنـة ثمـان وتسعيـن وهـرب مسلمة والسفياني إلى المزة وملك ابن بيهس دمشق إلى أن قدم عبد الله بن طاهر دمشق وسار إلى مصر ثم عاد إليها فاحتمل ابن بيهس معه إلى العراق ومات بها‏.‏ ولمـا قتـل عبـد الرحمن بن جبلة أرسل الفضل بن الربيع إلى أسد بن يزيد بن مزيد ودعاه لحرب طاهر بعد أن ولي الأمين الخلافة وشكر لأسد فضل الطاعة والنصيحة وشده البأس ويمن التقية‏.‏ وطلب منه أرزاق الجند من المال لسنة وألف فرس تحمل من معه بعد إزاحته عللهم بالأموال وأن لا يطلب بحسبان ما يفتتح‏.‏ فقال‏:‏ قد أشططت ولا بد من مناظرة أمير المؤمنين‏.‏ ثم ركب ودخل على الأمين فأمر بحبسه وقيل إنه طلب ولدي المأمون كانا عند أمهما ابنة الهادي ببغداد بحملهما معه فإن أطاعه المأمون وإلا قتلهما فغضـب الأميـن لذلـك وحبسـه واستدعـى عبـد اللـه بـن حميـد بـن قحطبـة فاشتـط كذلـك فاستدعـى أحمـد بـن مزيـد واعتـذر لـه عـن حبس أسد وبعثه لحرب طاهر وأمر الفضل بأن يجهز له عشرين ألف فارس وشفع في أسد بن أخيه فأطلقه‏.‏ ثم سار وسار معه عبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألفاً أخرى وانتهوا إلى حلوان وأقاموا وطاهر بموضعه ودس المرجفين في عسكرهم بأن العطاء والمنع ببغداد والجند يقبضون أرزاقهـم‏.‏ حتـى مشى الجند بعضهم إلى بعض واختلفوا واقتتلوا ورجعوا من غير لقاء‏.‏ وتقدم طاهـر فنـزل حلـوان وجـاءه هرثمـة فـي جيـش من عند المأمون ومعه كتاب بأن يسلم إلى هرثمة ما ملكه من المدن ويتقدم إلى الأهواز ففعل ذلك‏.‏ قـد تقـدم لنـا حبـس عبـد الملـك بـن صالـح إلـى أن مـات الرشيد وأخرجه الأمين ولما كان أمر طاهر جاء عبد الملك إلى الأمين وأشار عليه بأن يقدم أهل الشام لحربه فهم أجرأ من أهل العراق وأعظم نكايةً في العدو وضمن طاعتهم بذلك فولاه الأمين أهل لشام والجزيرة وقر له بالمال والرجال واستحثه‏.‏ فسار إلى الرقة وكاتب أهل الشام فتسالموا إليـه فأكرمهـم وخلـع عليهـم وكثـرت جموعـه‏.‏ ثـم مـرض واشتـد مرضـه ووقعت فتنة في عسكره بين الخراسانيين وأهل الشام بسبب دابة أخذت لبعضهم في وقعة سليمان بن أبي جعفر وعرفها عند بعض أهل الشام فاقتتلـوا وأرسـل إليهـم عبـد الملـك بالقتل فلم يقتلوا وأكثر القتل وأظهر عبد الملك النصرة للشاميين وانتقض الحسين بن علي للخراسانيين وتنادى الناس بالرجوع إلى بلادهم فمضى أهل حمص وقبائل كلب فانهزم أهل الشام وأقام عبد الملك بن صالح بالرقة توفي بها‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:17 PM

خلع الأمين وإعادته
ولمـا مـات عبـد الملـك بـن صالـح نـادى الحسيـن بـن علـي في الجند بالرحيل إلى بغداد وقدمها فلقيه القواد ووجوه الناس ودخل منزله واستدعاه الأمين من جوف الليل فامتنع وأصبح فوافى باب الجسـر وأغراهـم بخلـع الأميـن وحذرهـم من نكثه‏.‏ ثم أمرهم بعبور الجسر فعبروا ولقيه أصحاب الأمين فانهزموا‏.‏ وذلك منتصف رجب سنة ست وأخذ البيعة للمأمـون مـن الغـد‏.‏ ووثـب العبـاس بـن عيسـى بن موسى بالأمين فأخرجه من قصر الخلد وحبسه بقصر المنصور ومعه أمه زبيـدة فلمـا كـان مـن الغـد طلـب النـاس أرزاقهـم مـن الحسيـن وماج بعضهم في بعض وقام محمد بن أبي خالد فنكر استبداد الحسين بخلع الأمين وليس بذي منزلة ولا حسب ولا نسب ولا غنائم‏.‏ وقـال أسـد الحربـي‏:‏ قـد ذهـب أقـوام بخلع الأمين فاذهبوا أنتم بفكه يا معشر الحربية فرجع الناس على أنفسهم باللائمة وقالوا‏:‏ ما قتل قوم خليفتهم إلا سلط الله عليهم السيف‏.‏ ثم نهضوا إلى الحسيـن وتبعهـم أهـل الـأرض فقاتلـوه قتـالاً شديداً وأسروه‏.‏ ودخل أسد الحربي إلى الأمين وكسر قيوده وأجلسه على أريكته وأمرهم الأمين بلبس السلاح فانتهبه الغوغاء وجيء بالحسين إليه أسيراً فاعتذر إليه وأطلقهم وأمر بجمع الجند والمسير إلى طاهر وخلع عليه ما وراء بابه‏.‏ ووقـف النـاس يهنئونـه ببـاب الجسـر حتـى إذا خـف عنـه النـاس قطـع الجسـر وهـرب وركـب الجنـد في طلبـه وأدركـوه علـى فرسخ من بغداد وقتلوه وجاؤوا برأسه إلى الإمين واختفى الفضل بن الربيع عند ذلك فلم يوقف له على خبر‏.‏

استيلاء طاهر علي البلاد
ولمـا جـاء كتـاب المأمون بالمسير إلى الأهواز قدم إليها الحسين بن عمر الرستمي وسار في أثره وأتتـه عيونـه بـأن محمـد بن يزيد بن حاتم قد توجه من قبل الأمين في جند ليحمي الأهواز من أصحـاب طاهـر فبعـث من أصحابه محمد بن طالوت ومحمد بن العلاء والعباس بن بخارا أخذاه مدداً للرستمي‏.‏ ثم أمدهم بقريش بن شبل‏.‏ ثم سار بنفسه حتى كان قريباً منهم وأشرفوا على محمد بن يزيد بعسكر مكرم وقد أشار إليه أصحابه بالرجوع إلى الأهواز والتحصن بها حتى تأتيه قومه الأزد من البصرة فرجع وأمر طاهر قريش بن شبل باتباعه قبل أن يتحصن بالأهواز فخرج لذلك وفاته محمد بن يزيد إلى الأهواز وجاء على أثره فاقتتلوا قتالاً شديداً‏.‏ وفر أصحاب محمد واستمات هو ومواليه حتى قتلوا‏.‏ وملـك طاهـر الأهـواز وولـى علـى اليمامـة والبحريـن وعمـان‏.‏ ثم سار إلى واسط وبها السندي بن يحيى الحرشي والهيثم بن شعبة خليفة خزيمة بن حازم فهربا عنها وملكها طاهر وبعث قائدًا مـن قواده إلى الكوفة وبها العباس بن الهادي فخلع الأمين وبايع للمأمون وكتب بذلك إلى طاهر وكذلـك فعـل المنصـور بـن المهـدي بالبصرة و المطلب بن عبد الله بن مالك بالموصل وأقرهم طاهر على أعمالهم‏.‏ وبعث الحارث بن هشام وداود بن موسى إلى قصر ابن هبيرة وأقام بجرجابا‏.‏ ولما بلغ الخبر بذلـك إلـى الأميـن بعـث محمـد بـن سليمـان القائـد ومحمـد بـن حمـاد البربـري إلـى قصـر ابـن هبيـرة فقاتلهـم الحارث وداود قتالاً شديداً وهزموهم إلى بغداد وبعث الأمين أيضاً الفضل بن موسى على الكوفة فبعث إليه طاهر بن العلاء في جيش فلقيه في طريقه فأراد مسالمته بطاعة المأمون كياداً ثم قاتله فانهزم إلى بغداد‏.‏ ثم سار طاهر إلى المدائن وعليها البرمكي والممد متصل له كل يوم فقدم قريش بن شبل فلما أشرف عليهم وأخذ البرمكي في التعبية فكانت لا تتم له فأطلق سبيل الناس وركب بعضهم بعضاً نحو بغداد وملك طاهر المدائن ونواحيهـا ثـم نـزل صرصر وعقد بها أسراً‏.‏

بيعة الحجاز للمأمون
ولما أخذ الأمين كتب العهد من مكة وأمر داود بن عيسـى وكـان علـى مكـة والمدينـة بخلـع المأمون قام في الناس ونكر نقض العهد وذكرهم ما أخذ الرشيد عليهم من الميثاق لابنيه في المسجد الحرام أن يكونوا على الظالم وأن محمداً بدأ بالظلم والنكث وخلع أخويه وبايع لطفل صغير رضيع وأخذ الكتابين من الكعبة فحرقهما ظلماً ثم دعا إلى خلعة والبيعـة للمأمـون فأجابوه ونادى بذلك في شعاب مكة وخطبهم‏.‏ وكتب إلى ابنه سليمان بالمدينة بمثل ذلك ففعلـه وذلـك في رجب سنة ست وتسعين‏.‏ وسار من مكة على البصرة وفارس وكرمان إلى المأمون وأخبره فسر بذلك وولاه مكانه وأضاف إليه ولاية عك‏.‏ وأعطاه خمسمائة ألف درهم وسير معه ابن أخيه العباس بن موسى بن عيسى بن موسى على الموسم ويزيد بن جرير بن مزيد بن خالد القسري في جند كثيف عاملاً على اليمن ومروا بطاهر وهو محاصر بغداد فأكرمهم وأقام يريد اليمن فبايعوه للمأمون وأطاعوه‏.‏ حصار بغداد واستيلاء طاهر عليها ومقتل الأمين ولمـا اتصلـت بالأمين هذه الأحوال وقتل الحسين بن علي بن عيسى شمر لحرب طاهر واستعد لـه‏.‏ وعقـد فـي شعبـان سنـة سـت وتسعيـن وأربعمائـة شتـى وأمـر عليهـم علـي بـن محمد بن عيسى بن نهيك وأمرهم بالمسير إلى هرثمة فساروا إليه والتقوا بنواحي النهروان في رمضان فانهزموا وأسر قائدهم علي بن محمد فبعث به هرثمة إلى المأمون وترك النهروان وأقام طاهر بصرصر والجيوش تتعاقب من قبل الأمين فيهزمها ثم بذل الأمين الأموال ليستفسد بها عساكرهم فسار إليه من عسكر طاهر نحو من خمسة آلاف ففرق فيهم الأموال وقود جماعةً من الحربية ودس إلـى رؤسـاء الجنـد في عسكر طاهر ورغبهم فشغبوا على طاهر وسار كثير منهم إلى الأمين وانضمـوا إلـى قـواد الحربيـة وقـواد بغداد وساروا إلى صرصر‏.‏ فعبى أصحابه كراديس وحرضهم ووعدهم‏.‏ ثم تقدم فقاتلهم ملياً من النهار وانهزم أصحاب الأمين وغنم أصحاب طاهر عسكرهم‏.‏ ولما وصلـوا إلـى الأميـن فـرق فيهـم الأمـوال وقـود منهـم جماعـةً ولم يعط المنهزمين شيئاً ودس إليهم طاهر واستمالهـم فشغبـوا علـى الأميـن‏.‏ فأمـر هـؤلاء المحدثيـن بقتالهم وطاهر يراسلهم وقد أخذ رهائنهم علـى الطاعـة وأعطاهـم الأمـوال‏.‏ فسار فنزل باب الأنبار بقواده وأصحابه واستأمن إليه كثير من جند الأمين وثارت العامة وفتقت السجون ووثب الشطار علـى الأخيـار‏.‏ ونـزل زهيـر بـن مسيب الضبي من ناحية ونصب المجانيق والعرادات وحفر الخنادق‏.‏ ونزل هرثمة بناحية أخرى وفعل مثل ذلك‏.‏ ونـزر عبيد الله بن الوضاح بالشماسية ونزل طاهر بباب الأنبار فضيق على الأمين بمنزله ونفد مـا كـان بيـد الأميـن مـن الأمـوال وأمـر ببيـع ما في الخزائن من الأمتعة‏.‏ وضرب آنية الذهب والفضة ليفرقهـا في الجند وأحرق الحديثة فمات بها خلق واستأمن سعيد بن مالك بن قادم إلى طاهر فولاه الأسواق وشاطىء دجلة وأمره بحفر الخنادق وبنـاء الحيطـان وكـل مـا غلـب عليـه مـن الدروب وأمده بالرجال والأموال‏.‏ ووكل الأمين بقصر صالح وقصر سليمان بن المنصور إلى دجلـة بعـض قواده فألح في إحراق الدور والرمي بالمجانيق وفعل طاهر مثل ذلك‏.‏ وكثر الخراب ببغـداد وصـار طاهـر يخنـدق علـى مـا يمكنه من النواحي ويقاتل من لم يجبه وقبض ضياع من لم يخرج إليه من بني هاشم والقواد وعجز الأجناد عن القتال‏.‏ وقام به الباعة والعيارون وكانوا ينهبون أموال الناس‏.‏ واستأمن إليه القائد الموكل بقصر صالح فأمنـه وسلـم إليـه مـا كـان بيـده مـن تلك الناحية في جمادى الأخيرة من سنة سبع‏.‏ واستأمن إليه محمد بن عيسى صاحب الشرطة فوهن الأمين‏.‏ واجتمع العيارون والباعة والأجناد وقاتلوا أصحاب طاهر في قصر صالح وقتلوا منهم خلقاً وكاتب طاهر القواد بالأمان وبيعة المأمون فأجابه بنو قحطبة كلهم ويحيى بن علي بن ماهان ومحمد بن أبي العباس الطائي وغيرهم‏.‏ وفشـل الأميـن وفـوض الأمـر إلـى محمـد بـن عيسـى بـن نهيـك وإلـى الحسـن الهـرش ومعهـم الغوغـاء يتولـون أمر تلك الفتنة‏.‏ وأجفل الناس في بغداد وافترقوا في البلاد‏.‏ ولمـا وقـع بطاهـر فـي قصـر صالح ما وقع بأصحابه شرع في هدم المباني وتخريبها ثم قطع الميرة عنهـم وصـرف السفـن التي تحمل فيها إلى الفرات‏.‏ فغلت الأسعار وضاق الحصار واشتد كلب العيارين فهزموا عبيد الله بن الوضاح وغلبوه على الشماسية‏.‏ وجاء هرثمة ليعينه فهزموه أيضاً وأسـروه ثـم خلصـه أصحابه‏.‏ وعقد طاهر جسراً فوق الشماسية وعبر إليهم وقتلهم أشد قتال فردهـم علـى أعقابهـم وقاتـل منهـم بشـراً كثيراً‏.‏ وعاد ابن الوضاح إلى مركزه وأحرق منازل الأمين بالخيزرانية وكانت النفقة فيها بلغت عشرين ألف درهم وأيقن الأمين بالهلاك وفر منه عبد الله بن خازم بن خزيمة إلى المدائن لأنه اتهمه وحمل عليه السفلة والغوغاء‏.‏ ويقال بل كاتبه طاهر وقبض ضياعه فخرج عن الأمين وقصد الهرش ومن معه جزيرة العباس من نواحي بغداد فقاتلهم بعض أصحاب طاهر وهزموهم وغرق منهم خلق كثير‏.‏ وضجر الأميـن وضعـف أمره وسار المؤتمن بن الرشيد إلى المأمون فولاه جرجان وكاتب طاهر خزيمة بن حـازم ومحمـد بـن علـي بـن موسـى بـن ماهـان وأدخلهمـا فـي خلع الأمين فأجاباه ووثبا آخر محرم من سنـة ثمـان وتسعيـن فقطعـا جسر دجلة وخلع الأمين وبعث إلى هرثمة وكان بإزائهما فسار إليهما من ناحيته ودخل عسكر المهدي وملكة‏.‏ وقدم طاهر من الغد إلى المدينة والكرخ فقاتلهـم وهزمهم وملكها عنوةً ونادى بالأمان ووضع الجند بسوق الكرخ وقصر الوضاح وأحاط بمدينة المنصـور وقصـر زبيـدة وقصـر الخلـد مـن بـاب الجسـر إلـى باب البصرة وشاطىء الصراة إلى مصبها في دجلة ونصب عليها المجانيق‏.‏ واعتصـم الأميـن فـي أمه وولده بمدينة المنصور واشتد عليه الحصار وثبت معه حاتم بن الصقر والحرشـي والأفارقـة‏.‏ وافتـرق عامـة الجنـود والخصيان والجواري في الطرق وجاء محمد بن حاتم بـن الصقـر ومحمـد بـن إبراهيـم بـن الأغلـب الإفريقـي إلـى الأميـن وقـالا لـه‏:‏ بقـي من خيلك سبعة آلاف فرس نختار سبعة آلاف ونجعلهم عليها ونخرج على بعض الأبواب ولا يشعر بنا أحد ونلحق بالجزيرة والشام فيكون ملك جديد وربما مال إليك الناس ويحدث الله أمراً‏.‏ فاعتزم على ذلك وبلـغ الخبـر إلـى طاهر فكتب إلى سليمان بن المنصور ومحمد بن عيسى بن نهيك والسندي بن شاهـك يتهددهـم إن لـم يصرفـوه عـن ذلـك الـرأي‏.‏ فدخلـوا علـى الأميـن وحـذروه من ابن الصقر وابن الأغلب أن يجعل نفسه في أيديهم فيتقربوا به إلى طاهر وأشاروا عليه بطلب الأمان على يد هرثمة بن أعين والخروج إليه وخالفهم إليه ابن الصقر وابن الأغلب‏.‏ وقالوا له‏:‏ إذا ملت إلى الخوارج فطاهر خير لك من هرثمة فأبى وتطير من طاهر وأرسل إلى هرثمـة يستأمنـه‏.‏ فأجابـه أنـه يقاتـل فـي أمانـة المأمـون مـن دونـه وبلغ ذلك طاهراً فعظم عليه أن يكون الفتح لهرثمة واجتمع هـو وقـواده لهرثمـة وقـواده فـي منـزل خزيمـة بـن حـازم وحضـر سليمـان والسنـدي وابـن نهيـك وأخبـروا طاهـراً أنـه لا يخـرج إليه أبداً وأنه يخرج إلى هرثمة ويدفع إليه الخاتم والقضيب والبردة وهو الخلافة فرضي‏.‏ ثم جاءه الهرش وأسر إليه أنهم يخادعونه وأنهم يحملونها مع الأمين إلى هرثمة فغضب وأعد رجـالاً حـول قصـور الأميـن‏.‏ وبعـث إليـه هرثمـة لخمـس بقيـن مـن محـرم سنة ثمان وتسعين بأن يتربص ليلـة لأنـه رأى أولئـك الرجـال بالشـط فقـال‏:‏ قـد افتـرق عنـي النـاس ولا يمكننـي المقـام لئلا يدخل علي طاهـر فيقتلنـي‏.‏ ثـم ودع ابنيـه وبكـى وخرج إلى الشط وركب حراقة هرثمة‏.‏ وجعل هرثمة يقبل يديه ورجليه وآمر بالحراقة أن تدفع وإذا بأصحاب طاهر في الزواريق فشدوا عليها ونقبوها ورموهم بالآجر والنشاب فلم يرجعوا ودخل الماء إلى الحراقة فغرقت‏.‏ قال أحمد بن سالم صاحب المظالم‏:‏ فسقط الأمين وهرثمة وسقطنا فتعلق الملاح بشعر هرثمة وأخرجـه وشق الأمين ثيابه‏.‏ قال‏:‏ وخرجت إلى الشط فحملت إلى طاهر فسألني عن نفسي فانتسبـت وعن الأمين فقلت غرق فحملت إلى بيت وحبست فيه حتى أعطيتهم مالاً فاديتهم بـه علـى نفسـي‏.‏ فبعـد ساعـة مـن الليـل فتحـوا علـي البـاب وأدخلـوا علي الأمين عريان في سراويل وعمامة وعلى كتفه خرقة فاسترجعت وبكيت‏.‏ ثم عرفني فقال‏:‏ ضمني إليك فإني أجد وحشة شديدة فضممته وقلبه يخفق فقال‏:‏ يا أحمد ما فعل أخي فقلت حي‏.‏ قال‏:‏ قبح الله بريدهم كان يقول قد مات يريد بذلك العذر عن محاربته فقلت‏:‏ بل قبح الله وزراءك فقال‏:‏ تراهم يفون لي بالأمان قلت‏:‏ نعم إن شاء الله‏.‏ ثـم دخـل محمـد بـن حميـد الطاهـري فاستثبتنـا حتى عرفه وانصرف ثم دخل علينا منتصف الليل قـوم مـن العجـم منتضين سيوفهم فدافع عن نفسه قليلاً‏.‏ ثم ذبحوه ومضوا برأسه إلى طاهر ثم جـاؤوا مـن السحـر فأخذوا جثته‏.‏ ونصب طاهر الرأس حتى رآه الناس ثم بعث به إلى المأمون مـع ابـن عمـه محمـد بـن الحسـن بن مصعب ومعه الخاتم والبردة والقضيب وكتب معه بالفتح‏.‏ فلما رآه المأمون سجد‏.‏ ولما قتل الأمين نادى طاهر بالأمان ودخل المدينة يوم الجمعة فصلى بالناس وخطب للمأمون وذم الأمين ووكل بحفظ القصور الخلافية وأخرج زبيدة أم الأمين وابنيه موسى وعبد الله إلى بلاد الزاب الأعلى‏.‏ ثم أمر بحمل الولدين إلى المأمون وندم الجند على قتله‏.‏ وطالبوا طاهراً بالأمـوال فارتـاب بجنـد بغـداد وبجنـده أنهـم تواطؤوا عليه وثاروا به لخمس من قتل الأمين‏.‏ فهرب إلى عقرقوبا ومعه جماعة من القواد‏.‏ ثم تعبى لقتالهم فجاؤوا واعتذروا وأحالوا على السفهاء والأحداث فصفح عنهم وتوعدهم أن يعودوا لمثلها وأعطاهم أربعة أشهر واعتذر إليه مشيخة بغـداد وحلفـوا أنهـم لـم يدخلـوا الجنـد فـي شـيء مـن ذلـك فقبـل منهـم ووضعت أهل الحرب أوزارها واستوسق الأمر للمأمون في سائر الأعمال والممالك‏.‏ ثـم خـرج الحسـن الهـرش فـي جماعـة مـن السفلـة واتبعـه كثيـر مـن بـوادي الأعـراب ودعا إلى الرضا من آل محمـد وأتـى النيـل فجبـى الأموال ونهب القرى‏.‏ وولى المأمون الحسن بن سهل أخا الفضل على ما افتتحه طاهر من كور الجبل والعراق وفارس والأهواز والحجاز واليمن فقدم سنة تسعة وتسعيـن وفـرق العمـال وولـى طاهـراً علـى الجزيـرة والموصل والشام والمغرب وأمره أن يسير إلى قتال نصـر بـن شبيـب وأمـر هرثمـة بالمسيـر إلى خراسان وكان نصر بن شبيب من بني عقيل بن كعب بـن ربيعـة بـن عامر في كيسوم شمالي حلب وكان له ميل إلى الأمين‏.‏ فلما قتل أظهر الوفاء له بالبيعة وغلب على ما جاوره من البلاد وملك سميساط واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب وعبر إلى شرقي العراق وحصر حران‏.‏ وسأل منه شيعة الطالبيين أن يبايعوا لبعض آل علي لما رأوه من بني العباس ورجالهم وأهل دولتهـم وقـال‏:‏ واللـه لا أبايـع أولـاد السوداوات فيقول‏:‏ إنه خلقني ورزقني‏.‏ قالوا‏:‏ فبعض بني أمية قـال‏:‏ قـد أدبـر أمرهـم والمدبر لا يقبل ولو سلم علي رجل مدبر لأعداني بإدباره وإنما هواي في بنـي العبـاس وإنمـا حاربتهـم لتقديمهـم العجـم علـى العـرب‏.‏ ولمـا سار إليه طاهر نزل الرقة وأقام بها وكتـب إليـه يدعـوه إلـى الطاعـة وتـرك الخلاف فلم يجبه وجاء الخبر إلى طاهر في الرقة بوفاة أبيه الحسين بن زريق بن مصعب بخراسان وأن المأمون حضر جنازته‏.‏ ونزل الفضل قبره وجاءه كتاب المأمون يعزيه فيه‏.‏ وبعد قتل الأمين كانت الوقعة بالموصل بين اليمانية والنزارية وكان علي بن الحسن الهمداني متغلبـاً علـى الموصـل فعسف بالنزارية وسار عثمان بن نعيم البرجمي إلى ديار مصر وشكا إلى أحيائهـم واستنفرهـم فسـار معـه مـن مصـر عشرون ألفاً وأرسل إليهم علي بن الحسن بالرجوع إلى ما يريدون فأبى عثمان فخرج علي في أربعة آلاف فهزمهم وأثخن فيهم وعاد إلى البلد‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:18 PM

ظهور ابن طباطبا العلوي
لما بعث المأمون الحسن بن سهل إلـى العـراق وولـاه علـى مـا كـان افتتحـه طاهـر مـن البلـاد والأعمال تحدث الناس أن الفضل بن سهل غلب على المأمون واستبد عليه وحجبه عن أهل بيته وقواده فغضب بنو هاشم ووجوه الناس واجترؤوا على الحسن بن سهل وهاجت الفتنة‏.‏ وكـان أبـو السرايـا السـري بـن منصـور ويذكـر أنـه مـن بنـي شيبـان مـن ولـد هانـىء بـن قبيصـة بـن هانىء بـن مسعـود وقيـل مـن بنـي تميـم بالجزيـرة وطلـب فعبر إلى شرقي الفرات وأقام هناك يخيف السابلة ثم لحق بيزيد بـن مزيـد بأرمينيـة فـي ثلاثيـن فارسـاً فقـوده وقاتـل معـه الحرميـة وأسـر منهـم وأخـذ منهـم غلامه أبا الشوك‏.‏ ومـات يزيـد بـن مزيـد فكـان مـع ابنـه أسـد وعـزل أسـد فسار إلى أحمد بن مزيد‏.‏ ولما بعث الأمين أحمد بن مزيد لحرب هرثمـة بعثـه طليعـة إلـى عسكـره فاستمالـه هرثمـة فمـال إليـه ولحـق بـه وقصـد بنـي شيبـان مـع الجزيـرة واستخـرج لهـم الـأرزاق مـن هرثمـة واجتمع إليه أزيد من ألفي فارس‏.‏ فلما قتل الأميـن تعصـى هرثمـة عـن أرزاقهـم فغضـب واستـأذن فـي الحـج فـأذن لـه وأعطـاه عشرين ألف درهم ففرقهـا فـي أصحابـه ومضـى وأوصاهـم باتباعه فاجتمع له منهم نحو مائتين وسار إلى عين التمر فأخذوا عاملها وقسموا ماله ولقوا عاملاً آخر بمال موفور على ثلاثة أنفار فاقتسموه‏.‏ وأرسل هرثمة عسكراً خلفه فهزمهم ودخل البرية‏.‏ ولحق به مـن تخلـف مـن أصحابـه فكثـر جمعـه وسـار نحـو دقوقـا وعليها أبو ضرغامة في سبعمائة فارس فخرج وقاتله فهزمه ورجع إلى القصـر فحاصـره أبـو السرايـا حتـى نـزل علـى الأمـان وأخـذ أموالـه‏.‏ وسار إلى الأنبار وعليها إبراهيم الشروي مولى المنصور فقتله وأخذ ما فيها وعاد إليها عند إدراك الغلال فافتتحها‏.‏ ثم قصد الرقة ومر بطوق بن مالك الثعلبي فاستجاشه على قيس فأقام عنده أربعة أشهر يقاتل قيساً بعصبية ربيعة حتى انقادت قيس إلى طوق‏.‏ وسـار أبـو السرايـا إلـى الرقـة فلقـي محمـد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي وتلقب أبوه إبراهيم طباطبـا فدعـاه إلـى الخـروج وأنفـذ إلـى الكوفـة فدخلاهـا وبايعهـم أهلهـا على بيعة الرضا من آل محمد ونهب أبو السرايا قصر العباس بن موسى بـن عيسـى وأخـذ ما فيه من الأموال والجواهر مما لا يحصى وذلك منتصف جمادى الأخيرة سنة تسعة وتسعين وقيل إن أبا السرايا مطله هرثمة بأرزاق أصحابه فغضب ومضى إلى الكوفة فبايع ابن طباطبا‏.‏ ولما ملك الكوفة هرع إليه الناس والأعراب من النواحي فبايعوه وكان عليها سليمان بن المنصور من قبل الحسن بن سهل فبعث إليه زهير بن المسيب الضبي في عشرة آلاف وخرج إليه ابن طباطبا وأبو السرايا فهزموه واستباحوا عسكره وأصبح محمد بن طباطبا مـن الغـد ميتًـا فنصـب أبو السرايا مكانه غلاماً من العلوية وهو محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين واستبد عليه‏.‏ ورجع زهير إلى قصر ابن هبيرة فأقام به وبعث الحسن بن سهل عبدوس بن محمد بن خالد المـروروذي فـي أربعة آلاف فلقيه أبو السرايا منتصف رجب وقتله ولم يفلت من أصحابه أحد كانوا بين قتيل وأسير وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة وبعث جيوشاً إلى البصرة وواسط وولـى علـى البصـرة العبـاس بـن محمـد بـن عيسـى بـن محمـد الجعفـري وعلـى مكة الحسين الأفطس بن الحسين بن علي زين العابدين وجعل إليه الموسم‏.‏ وعلى اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق وعلى فارس إسماعيل بن موسى بن جعفر الصادق وعلى الأهواز زيد بن موسى الصادق فسار إلى البصرة وأخرج عنها العباس بن محمد بن داود بن الحسن المثنى إلى المدائن وأمره أن يأتي بغداد من الجانب الشرقي ففعل‏.‏ وكـان بواسـط عبـد اللـه بـن سعـد الخرشي من قبل الحسن بن سهل ففر أمامهم وبعث الحسن بن سهـل إلـى هرثمـة يستدعيـه لحـرب أبـي السرايـا وكـان قد سار إلى خراسان مغاضباً له فرجع بعد امتناع وسار إلى الكوفة في شعبان‏.‏ وبعث الحسن إلى المدائن وواسط علي بن أبي سعيد وأبلـغ الخبـر أبـا السرايـا وهـو بقصـر ابـن هبيـرة فوجـه جيشـاً إلـى المدائـن فملكوهـا فـي رمضـان‏.‏ وتقـدم فنزل نهر صرصر وعسكر هرثمة بإزائه غدوة‏.‏ وسار علي بن أبي سعيد في سؤال المدائن فحاصـر بهـا أصحـاب أبـي السرايـا ورجـع هـو مـن نهـر صرصر إلى قصر ابن هبيرة وهرثمة وأتباعه ثم حصره وقتل جماعة من أصحابه فانحاز إلى الكوفة ووثب الطالبيون على دور بني العباس وشيعتهم فنهبوها وخربوها وأخرجوهم واستخرجوا ودائعهم عند الناس وكان على مكة داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي فلما بلغه قدوم حسين الأفطس جمع شيعة بني العباس‏.‏ وكان مسرور الكبير قد حج في مائة فارس فتعبى للحرب ودعا داود إلى حربهم فقال‏:‏ لا أستحـل ذلـك في الحرم وخرج إلى العراق وتبعه مسرور‏.‏ وكان حسين الأفطس بسرف يخاف دخـول مكـة فبلغـه الخبـر أن مكـة قـد خلـت مـن بنـي العبـاس فدخـل فـي عشـرة أنفـس وطاف وسعى ووقف بعرفة ليلاً وأتم الحج‏.‏ وأقام هرثمة بنواحي الكوفة يحاصرها واستدعى منصور بن المهـدي وكاتـب رؤسـاء الكوفـة وسـار علـي بـن سعيـد مـن المدائـن إلى واسط فملكها ثم توجه إلى البصرة واشتد الحصار على أبي السرايا بالكوفة فهرب عنها في ثمانمائة فارس ومعه صاحبه ودخلها هرثمة منتصف محرم فأقام بها يوماً وولى عليها غسان صاحب الحرس بخراسان وعاد وقصـد أبـو السرايـا القادسيـة وسـار منهـا إلى السوس ولقي بخراسان مالاً حمل من الأهواز فقسمه في أصحابه‏.‏ وكان على الأهواز الحسن بن علي المأموني فخرج إليه فقاتله فهزمه وافترق أصحابـه وجـاء إلى المعتزلة برأس عين من جلولاء ومعه صاحبه محمد وغلامه أبو الشوك فظفر بهـم حمـاداً الكندغـوش وجـاء بهـم إلـى الحسـن بـن سهل في النهروان فقتل أبا السرايا وبعث برأسه إلى المأمون وبصاحبه محمد معه ونصب شلوه على جسر بغداد‏.‏ وسار علي بن أبي سعيد إلى البصرة فملكها من يد زيد بن موسى بن جعفر الصادق وكان يسمى زيد النار لكثرة ما أحرق من دور العباسيين وشيعتهم فاستأمن إليه زيد فأمنه وأخذه وبعث الجيوش إلى مكة والمدينة واليمن لقتال من بها من العلويين وكان إبراهيم بن موسى بن جعفـر بمكـة فلمـا بلغـه خبـر أبي السرايا ومقتله ولى وسار إلى اليمن وبها إسحاق بن موسى بن عيسـى فهـرب إلـى مكـة واستولـى إبراهيـم على اليمن وكان يسمى الجزار لكثرة قتله وفتكه‏.‏ ثم بعث رجلاً من ولد عقيل بن أبي طالب إلى مكة ليحج بالناس وقد جاء لذلك أبو الحسن المعتصـم فـي جماعـة مـن القـواد فيهـم حدويـة بـن علـي بـن عيسـى بـن ماهـان واليـاً علـى اليمن من قبل الحسن بن سهل فخام العقيلي عن لقائهم واعترض قافلة الكسوة فأخذها ونهب أموال التجار ودخل الحجاج إلى مكة عراة فبعث الخلودي من القواد فصبحهم وهزمهم وأسر منهم وتفقد أموال التجار وكسوة الكعبة وطيبها وضرب الأسراء عشرة أسواط لكل واحد وأطلقهم وحج المعتصم بالناس‏.‏

بيعة محمد في جعفر بمكة
هو محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين ويلقب الديباجة وكان عالماً زاهداً ويروي عن أبيه وكان الناس يكتبون عنه‏.‏ ولما ملك‏.‏ الحسين الأفطس مكة كما ذكرناه عـاث فيهـا ونـزع كسـوة الكعبة وكساها بأخرى من الغد أنفذها أبو السرايا من الكوفة وتتبع ودائع بني العباس وجعلها ذريعةً لأخذ أموال الناس فخرجوا من مكة‏.‏ وقلع أصحابه شبابيك الحرم وقلـع مـا علـى الأساطيـن مـن الذهب واستخرج ما كان في الكعبة من المال فقسمه في أصحابه وساء أثره في الناس‏.‏ فلمـا قتل أبو السرايا تنكروا له فخشي على نفسه فجاء إلى محمد بن جعفر ليبايع له بالخلافة فلـم يـزل بـه هـو وابنـه حسـن وإستعانـا عليـه بابنـه علـي حتى بايعوه ودعوه بأمير المؤمنين‏.‏ واستبد عليه ابنه علي وابن الأفطس بأسوأ مما كان قبل وأفحشوا في الزنا واللواط واغتصاب النساء والصبيـان فاجتمع الناس على خلع محمد بن جعفر أو يرد إليهم ابن القاضي كان مغتصباً ببيت ابنه علي فاستأمنهم حتى ركب إلى بيت ابنه وسلم إليهم الغلام‏.‏ وجاء إسحاق بن موسى بن عيسى من اليمن فاجتمع الناس وخندقوا مكة وقاتلهم إسحاق وامتنعـوا عليـه فسـار نحـو العراق ولقي الجند الذين بعثهم هرثمة إلى مكة مع الجلودي ورجاء بن جميـل وهو ابن عم الحسين بن سهل‏.‏ فرجع بهم وقاتل الطالبيين فهزمهم وافترقوا واستأمن إليه محمـد بن جعفر فأمنه وملك مكة وسار محمد بن جعفر إلى الجحفة ثم إلى بلاد جهينة فجمع وقاتـل هـارون بـن المسيـب والي المدينة فانهزم محمد وفقئت عينه وقتل خلق من أصحابه ورجع إلـى موضعه‏.‏ ولما انقضى الموسم استأمن الجلودي ورجاء بن جميل فأمناه ودخل مكة وخطب واعتذر عما فعله بأنه بلغه موت المأمون ثم صح أنه حي وخلع نفسه وسار إلى الحسن والي المأمون بمرو فلم يزل عنده إلى أن سار المأمون إلى العراق فمات بجرجان في طريقه‏.‏

مقتل هرثمة
لما فرغ هرثمة من أبي السرايا رجع وكان الحسن بن سهل بالمدائن فلم يعرج عليه وسار إلى عقرقوبـا إلـى النهـروان قاصـداً خراسـان ولقيتـه كتـب المأمون متلاحقةً أن يرجع إلى الشام والحجـاز فأبـى إلا لقـاءه دالـة عليـه بما سبق له من نصحه له ولآبائه‏.‏ وكان قصد أن يطلع المأمون على حال الفضل بن سهل في طيه الأخبار عنه وما عند الناس من القلق بذلك وباستبداده عليه ومقامه بخراسان وعلم الفضل بذلك فأغرى به المأمون وألقى إليه أنه سلط أبا السرايا وهو من جنده وقد خالف كتبك وجاء معانداً سيء القالة وإن سومح في ذلك اجترأ غيره فسخطـه المأمـون وبقي في انتظاره ولما بلغ مرو قرع طبوله يسمعها لئلا يطوى خبره عن المأمون وسأل المأمون عنها فقيل هرثمة أقبل يرعد ويبرق‏.‏ فاستدعاه وقال هرثمة‏:‏ مالأت العلويين وأبا السرايا ولو شئت إهلاكهم جميعاً لفعلت فذهب يعتذر فلم يمهله وأمر فربس بطنه وشدخ أنفه وسحب إلى السجن ثم دس إليه من قتله‏.‏

انتقاض بغداد علي الحسن بن سهيل
ولمـا بلـغ خبـر هرثمـة إلـى العـراق كتـب الحسـن بـن سهل إلى علي بن هشام والي بغداد من قبله أن يتعلل على الجند الحربية والبغداديين في أرزاقهم لأنه كان بلغه عنهم قبل مسير هرثمة أنهم عازمـون علـى خلعـه وطـرد عمالـه وولـوا عليهـم إسحـاق بـن الهـادي خليفة المأمون‏.‏ فلم يزل الحسين يتلطـف إليهـم ويكاتبهـم حتـى اختلفـوا فأنـزل علـي بـن هشـام ومحمد بن أبي خالد في أحد جانبيها وكان زيد بن موسى بن جعفر قد أخذه علي بن أبي سعيد من البصرة وحبسه كما ذكرناه قبـل فهـرب مـن محبسـه وخـرج بناحية الأنبار ومعه أخ لأبي السرايا‏.‏ ثم تلاشى أمره وأخذوا إلى إلـى علـي بـن هشـام‏.‏ ثـم جـاء خبـر هرثمـة وقـد انتقـض محمـد بـن أبـي خالـد علـى علـي بن هشام بما كان يستحق به وغضب يوماً مع زهير بن المسيب فقنعه بالسوط فسار إلى الحربية ونصب لهـم الحـرب وانهـزم علـي بـن هشـام إلى صرصر‏.‏ وقيل إن ابن هشام أقام الحد على عبد الله بن علي بن عيسى فغضب الحربية وأخرجوه‏.‏ واتصل ذلك بالحسن بن سهـل وهـو بالمدائـن كمـا قلنـاه فانهـزم إلـى واسـط أول سنـة إحـدى ومائتيـن والفضـل بـن الربيـع وقـد ظهـر مـن اختفائه من لدن الأمين‏.‏ وجاء عيسى بن محمد بن أبي خالـد مـن الرقـة مـن عنـد طاهـر فاجتمع هو وأبوه على قتال الحسن وهزموا كل من تعرض للقائهم من أصحابه‏.‏ وكان زهير بن المسيب عاملاً للحسن على جوخي من السواد وكان يكاتب بغداد فركب إليه محمد بن أبي خالد وأخذه أسيراً وانتهب ماله وحبسه ببغداد عند ابنه جعفر‏.‏ ثـم تقـدم إلـى واسـط وبعثـه ابنـه هـارون إلـى النيـل فهـزم نائـب الحسن بها إلى الكوفة فلحق بواسط ورجـع هـارون إلـى أبيـه وتقـدم نحـو واسط فسار الحسن عنها‏.‏ وأقام الفضل بن الربيع مختفياً بها واستأمن لمحمد وبعثه إلى بغداد‏.‏ وسار إلى الحسن على البقية ولقيتهم عساكر الحسن وقواده وانهزم محمد وأصحابه وتبعهم الحسن إلى تمام الصلح ثم لحقوا بجرجايا‏.‏ ووجه محمد ابن ابنه هـارون إلـى فأقـام بهـا‏.‏ وسـار محمـد ابـن ابنـه أبـو رتيـل وهـو جريـح إلى بغداد فمات بها ودفن في داره سـراً ومحمـد أبـو رتيـل إلـى زهيـر بـن المسيـب فقتلـه مـن ليلتـه‏.‏ وقـام خزيمـة بـن خـازم بأمـر بغداد وبعـث إلى عيسى بن محمد بأن يتولى حرب الحسن مكان أبيه وبلغ الحسن موت محمد فبعث عسكره إلى هارون بالنيل فغلبوا وانتهبوها ولحق هارون بالمدائن‏.‏ ثم اجتمع أهل بغداد وأرادوا منصور بن المهدي على الخلافة فأبى فجعلـوه خليفـة للمأمـون ببغـداد والعـراق انحرافـاً عـن الحسـن بـن سهل‏.‏ وقيل‏:‏ إن الحسن لما ساعد أهل بغداد عيسى بن محمـد بـن أبـي خالد على حربه خام عنه فلاطفه ووعده بالمصاهرة ومائة ألف دينار والأمان له ولأهل بيته ولأهل بغداد وولاية النواحي فقبل وطلب خط المأمون بذلـك وكتـب إلـى أهـل بغداد‏:‏ إني شغلت بالحرب عن جباية الخراج فولوا رجلاً من بني هاشم فولوا المنصور بن المهدي‏:‏ وأحصى عيسى أهل عسكره فكانوا مائة ألف وخمسة وعشرين ألفاً‏.‏ وبعث منصور غسـان بن الفرج إلى ناحية الكوفة فغزاه حميد الطوسي من قواد الحسن بن سهل وأخذ أسيراً ونـزل النيـل فبعـث منصـور بـن محمـد يقطيـن فـي العساكـر إلـى حميد فلقيه حميد بكوثى فهزمه وقتل أمر المطوعة ولما كثر الهرج ببغداد وامتدت أيدي الدعاوي بأذاية الناس في أموالهم وأفشى المناكير فيهم وتعذر ذلك فخرجوا إلى القرى فانتهبوهـا‏.‏ واستعـدى النـاس أهـل الأمـر فلـم يغـدوا عليهـم فتمشـى الصلحـاء مـن عمـل ريـظ وكـل بينهـم ورأوا أنهم في كل درب قليلون بالنسبة إلى خيارهم فاعتزموا على مدافعتهم واشتد خالد المدريوش من أهل بغداد فدعا جيرانه وأهل محلته إلى الأمـر بالمعـروف وللنهـي عـن المنكـر من غير أن يغيروا على السطان‏.‏ فشد على من كان عندهم من ادعار وحبسهم ورفعهم إلى السلطان وتعدى ذلك إلى غير محلته‏.‏ ثم قام بعده سهل بن سلامة الأنصاري من الحريشية من أهل خراسان ويكنى أبا حاتم فدعا إلـى مثـل ذلـك وإلـى العمـل بالكتـاب والسنـة وعلـق في عنقه مصحفاً وعبر على العامة وعلى أهل الدولـة فبايعـوه علـى ذلـك وعلـى قتـال مـن خالـف‏.‏ وبلـغ خبرهمـا إلـى منصـور بـن المهدي وعيسى بن محمد بن أبي خالد فنكروا ذلك لأن أكثر الدعار كانوا يشايعونهم على أمرهم فدخلوا بغداد بعد أن عقد عليه الصلح مع الحسن بن سهل على الأمان له ولأهل بغداد وانتظروا كتـاب المأمون ورضي أهل البلد بذلك فسهل عليهم المدريوش وسهل‏.‏ ولما بلغ أهل بغداد أن المأمون قد بايع بالعهد لعلي بن موسـى الكاظـم ولقبـه الرضـا مـن آل محمد وأمر الجند بطرح السواد ولبس الخضرة وكتب بذلك إلى الآفاق وكتب الحسن بن سهل إلـى عيسـى بـن محمـد بـن أبـي خالـد ببغـداد يعلمـه بذلـك فـي رمضـان مـن سنـة إحدى ومائتين وأمره أن يأخـذ مـن عنده من الجند وبني هاشم بذلك فأجاب بعض وامتنع بعض وكبر عليهم إخراج الخلاقـة مـن بنـي العبـاس‏.‏ وتولـى كبـر ذلـك منصـور وإبراهيـم ابنا المهدي وشايعهم عليه المطلب بن عبـد اللـه بـن مالـك والسـدي ونصر الوصيف وصالح صاحب المصلى ومنعوا يوم الجمعة من نادى في الناس بخلع المأمون والبيعة لإبراهيم بن المهدي ومن بعده لإسحاق بن الهادي‏.‏ ثـم بايعـوه فـي المحـرم سنـة اثنتيـن ومائتين ولقبوه المبارك ووعد الجند بأرزاق ستة أشهر واستولى على الكوفة والسواد وخرج فعسكر بالمدائن وولى بها على الجانب الغربي العباس بن الهادي وعلـى الجانـب الشرقـي إسحـاق بـن الهادي‏.‏ وكان بقصر ابن هبيرة حميد بن عبد الحميد عاملاً للحسـن بـن سهـل ومعـه القـواد سعيـد بن الساجور وأبو البط وغسان بن الفرج ومحمد بن إبراهيم بـن الأغلـب كانـوا منحرفيـن عـن حميـد فدخلـوا إبراهيـم بـن الهـادي فـي أن يهلكـوه فـي قصـر ابن هبيرة وشعر بذلك الحسن بن سهل فاستقدم حميداً وخلا لهم الجو منه فبعث إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد وملك قصر ابن هييرة وانتهب عسكر حميد ولحق به ابنه بجواريه‏.‏ ثـم عـاد إلـى الكوفـة فاستعمـل عليها العباس بن موسى الكاظم وأمره أن يدعو لأخيه فامتنع غلاة الشيعـة مـن إجابتـه وقالـوا لا حاجـة إلينـا بذكـر المأمون وقعدوا عنه‏.‏ وبعث إبراهيم بن المهدي من القواد سعيداً وأبا البط لقتاله فسرح إليهم العباس بن عمه وهو علي بن محمد الديباجة فانهزم ونـزل سعيـد وأبو البط الحيرة ثم تقدموا لقتال أهل الكوفة وقاتلهم شيعة بني العباس ومواليهم‏.‏ ثـم سألـوا الأمـان للعبـاس وخرجوا من داره‏.‏ ثم قاتل أصحابه أصحاب سعيد فهزموهم وأحرقوا دور عيسى بن موسى وبلغ الخبر إلى سعيد بالحيرة بأن العباس قد نقض ورجع عن الأمان فركـب وجـاء إلـى الكوفة وقتل من ظفر به ولقيه أهله فاعتذروا إليه بأن هذا فعل الغوغاء وأن العباس باق على عهده‏.‏ ودخل سعيد وأبو البط ونادوا بالأمان وولوا على الكوفة الفضل بن محمد بن الصباح الكندي ثـم عزلـوه وولـوا مكانـه غسان بن الفرج فقتل أخا السرايا‏.‏ ثم عزلوه وولوا الهول ابن أخي سعيد القائد وقدم حميد بن عبد الحميد لحربهم بالكوفة فهرب الهول وبعث إبراهيم بن المهدي بن عيسى بن محمد بن أبي خالد لحصار الحسن بواسط على طريق النيل‏.‏ وكـان للحسـن متحصنـاً بالمدينـة فسرح أصحابه لقتالهم فانهزموا وغنم عسكرهم ورجع عيسى إلى بغداد فقاتل سهل بن سلامة للمطوع حتى غلبه على منزله فاختفى في غمار النظار وأخذوه بعد ليال وأتوا به إسحاق فقال‏:‏ كل ما كنت أدعو إليه باطل‏.‏ فقالوا‏:‏ اخرج فأعلـم النـاس بذلـك فخـرج وقـال‏:‏ قـد كنـت أدعوكـم إلـى الكتـاب والسنـة ولـم أزل علـى ذلك فضربوه وقيـدوه وبعثـوا بـه إلى إبراهيم المهدي فضربه وحبسه وظهر أنه قتل في محبسه خفيةً لسنة من قيامه‏.‏ ثم أطلقه فاختفى إلى أن انقرض أمر إبراهيم‏.‏ وزحـف حميد بن عبد الحميد سنة ثلاث ومائتين إلى قتال إبراهيم بن المهدي وأصحابه وكان عيسى بن محمد بن أبي خالد هو المتولي لقتالهم بأمر إبراهيم فداخلهم في الغدر بإبراهيم وصار يتعلل عليه في المدافعة عنه ونمي ذلك إلى إبراهيم بن هارون أخي عيسى فتنكر له ونـادى عيسـى فـي الناس بمسالمة حميد فاستدعاه إبراهيم وعاتبه بذلك فأنكر واعتذر فأمر به فضرب وحبس عدة من قواده وأفلت العباس خليفته فمشى بعض الناس إلى بعض ووافقوا العباس على خلع إبراهيم وطردوا عامله من الجسر والكرخ‏.‏ وثار الرعاع والغوغاء‏.‏ وكتب العباس إلى حميد يستقدمه ليسلم إليه بغداد ونزل صرصر وخرج إليه العباس والقواد وتواعـدوا لخلع إبراهيم على أن يدفع لهم العطاء وبلغ الخبر إلى إبراهيم فأخرج عيسى وأخوته وسأله قتال حميد فامتنع‏.‏ ودخل حميد فصلى الجمعة وخطب للمأمون وشرع في العطاء ثم قطعـه عنهـم فغضـب الجنـد‏.‏ وعـاود إبراهيـم سؤال عيسى في قتال حميد ومدافعته فقاتل قليلاً وارتحـل حميـد فنـزل فـي وسـط المدينـة وتسلـل أصحـاب إبراهيم إلى المدائن فملكوها وقاتل بقيتهم حميـد وكـان الفضـل بـن الربيـع مـع إبراهيم فتحول إلى حميد وكاتب المطلب بن عبد الله بن مالك بـأن يسلمـوه إليـه‏.‏ وكـان سعيـد بـن الساحـور والبـط وغيرهـم مـن القـواد يكاتبـون علي بن هشام بمثل ذلـك‏.‏ ولمـا علـم إبراهيـم بمـا اجتمعـوا عليـه أقبل على مداراتهم إلى أن جن الليل‏.‏ ثم تسرب في البلد واختفى منتصف ذي الحجة من سنة ثلاث وبلغ الخبر إلى حميد وعلي بن هشام فأقبلوا إلى دار إبراهيم فلم يجدوه وذلك لسنتين من بيعته‏.‏ وأقام علي بن هشام على شرقي بغداد وحميد على غربيها وأظهر سهل بن سلامة ما كان يدعو إليه فقربه حميد ووصله‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:27 PM

قدوم المأمون إلى العراق
لما وقعت هذه الفتن بالعراق بسبب الحسن بن سهل ونفور الناس من استبداده وأخيه على المأمون ثم من العهد لعلي الرضا بن موسى الكاظم وإخراج الخلافة من بني العباس وكـان الفضـل بـن سهـل يطـوي ذلـك عـن المأمـون ويبالـغ فـي إخفائـه حـذراً مـن أن يتغير رأي المأمون فيه وفي أخيه‏.‏ ولما جاء هرثمة للمأمون وعلم أنه يخبره بذلك وأن المأمون يثق بقوله أحكم السعاية فيه عند المأمون حتى تغير له فقتله ولم يصغ إلى كلامه‏.‏ فازدادت نفرة الشيعة وأهل بغداد وكثرت الفتن وتحدث القواد في عسكر المأمون بذلك ولم يقـدروا علـى إبلاغـه فجـاؤوا إلـى علـي الرضـا وسألـوه إنهاء ذلك إلى المأمون فأخبره بما في العراق مـن الفتنـة والقتـال وأنهم بايعوا إبراهيم بن المهدي فقال المأمون‏:‏ إنما جعلوه أميراً يقوم بأمرهم فقال ليس كذلك‏:‏ وإن الحرب الآن قائمة بين ابن سهل وبينه وان الناس ينقمون عليك مكان الفضل والحسـن ومكانـي وعهـدك لـي‏.‏ فقـال لـه المأمـون‏:‏ ومن يعلم هذا غيرك فقال‏:‏ يحيى بن معاذ وعبد العزيـز بـن عمـران وغيرهمـا مـن وجوه قوادك‏.‏ فاستدعاهم فكتموا حتى استأمنوا إليه ثم أخبروه بما أخبره به الرضا وأن الناس بالعراق يتهمونه بالرفض لعهده لعلي الرضا وأن طاهر بن الحسين مـع علـم أميـر المؤمنيـن ببلائـه قد دفع إلى الرقة وضعف أمره والبلاد تفتقت من كل جانب وإن لم يتدارك الأمر ذهبت الخلافة منهم‏.‏ فاستيقن المأمون ذلك وأمر بالرحيل واستخلف على خراسان غسان بن عباد وهو ابن عم الفضـل بـن سهـل وعلـم الفضـل بـن سهـل بذلـك‏.‏ فشرع في عقاب أولئك القواد فلم يغنه‏.‏ ولما نزل المأمـون شرحبيبـل وثـب بالفضـل أربعـة نفر فقتلوه في الحمام وهربوا وجعل المأمون جعلاً لمن جاء بهـم فجـاء بهـم العبـاس بـن الهيثـم الدينوري‏.‏ فلما حضروا عند المأمون قالوا له‏:‏ أنت أمرتنا بقتله وقيل بل اختلفوا في القول فقال بعضهم‏:‏ أمرنا بقتله ابن أخيه وقال آخرون بل عبد العزيز بن عمـران مـن القـواد وعلـي وموسـى وغيرهـم وأنكـر آخـرون‏.‏ فأمر المأمون بقتلهم وقتل من أقروا عليه من القواد وبعث إلى الحسن بن سهل وسار إلى العراق‏.‏ وجاءه الخبر بأن الحسن بن سهل أصابته الماليخوليا واختلط فبعث ديناراً مولاه ووكله بأمور العسكر وكان إبراهيم بن المهدي وعيسى بالمدائن وأبو البط وسعيد بالنيل والحرب متصلة بينهم‏.‏ والمطلب بن عبد الله بن مالك قد اعتل بالمدائن فرجع إلى بغداد وجعل يدعو إلى المأمون سراً وإلى خلع إبراهيم وأن يكون منصور بن المهدي خليفة المأمون وداخله في ذلك خزيمـة بن خازم وغيره من القواد‏.‏ وكتب إلى علي بن هشام وحميد أن يتقدما فنزل حميد نهر صرصر وعلي النهروان وعاد إبراهيم بن المهدي من المدائن إلى بغداد منتصف صفر وقبض على منصور وخزيمة ومنع المطلب مواليه فأمر إبراهيم بنهب داره ولم يظفر ونزل حميد وعلي بن هشام المدائن وأقاما بها‏.‏ وزوج المأمون في طريقه ابنته من علي الرضا وبعث أخاه إبراهيم بن موسى الكاظم على الموسم وولاه اليمن وكان به حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان قد غلب عليه‏.‏ ولما نزل المأمون مدينة طوس مات علي الرضا فجأة آخر صفر من سنة ثلاث من عنب أكله وبعث المأمـون إلـى الحسـن بن سهل بذلك وإلى أهل بغداد وشيعته يعتذر من عهده إليه وأنه قد مات ويدعوهـم إلـى الرجـوع لطاعتـه‏.‏ ثـم سـار إلـى جرجـان وأقـام بها أشهراً وعقد على جرجان لرجاء بـن أبـي الضحـاك قاعـداً وراء النهـر ثـم عزلـه سنـة أربـع وعقـد لغسان بن عباد من قرابة الفضل بن سهل على خراسان وجرجان وطبرستان وسجستان وكرمان وروبان ودهارير ثم عزله بطاهر كما نذكره‏.‏ ثـم سـار إلـى النهـروان فلقيـه أهـل بيتـه وشيعتـه والقـواد ووجـوه النـاس وكـان قـد كتـب‏.‏ إلى طاهر أن يوافيه بها فجاء من الرقة ولقيه هنالك‏.‏ وسار المأمون فدخل بغداد منتصف صفر من سنة أربعـة فنـزل الرصافـة ثـم نـزل قصـره بشاطـىء دجلـة وبقي القواد في معسكر وانقطعت الفتن وبقي الشيعـة يتكلمـون فـي لبـس الخضـرة وكان المأمون قد أمر طاهر بن الحسين أن يسأل حوائجه فأول شيء سأل لبس السواد فأجابه وقعد للناس وخلع عليه وعليهم الثيـاب السـود واستقامـت الأمور‏.‏ كانـت الفتنـة قـد وقعـت بالموصـل بيـن بنـي شامـة وبنـي ثعلبـة وكـان علي بن الحسن الهمداني متغلباً عليها في قومه فاستجارت ثعلبة‏.‏ بأخيه محمد فأمرهم بالخروج إلى البرية ففعلوا وتبعهم بنو شامة في ألف رجل وحاصروهم بالقوجاء ومعهم بنو ثعلب وبعث علي ومحمد إليهم بالمدد فقتلوا جماعـة مـن بنـي شامـة وأسـروا منهـم ومـن بنـي ثعلـب فجـاء أحمـد بـن عمـر بـن الخطـاب الثعلبـي إلـى علـي فوادعـه وسكنت الفتنة‏.‏ ثم إن علي بن الحسين سطا بمن كان في الموصل من الأزد عسفـاً فـي الحكـم عليهـم وقـال لهـم يومـاً الحقوا بعمان فاجتمعت الأزد إلى السيد بن أنس كبيرهم وقاتلوه‏.‏ وكان في تلك النواحي مهدي بن علوان من الخوارج فأدخله علي بن الحسين وبايعه وصلى بالناس واشتدت الحرب‏.‏ ثم كانت إصراً على علي وأصحابه وأخرجهم الأزد عن البلد إلى الحديثـة ثم اتبعوهم فقتلوا علياً وأخاه أحمد في جماعة ولجأ محمد إلى بغداد وملك السيد بن أنس والأزد والموصل وخطب للمأمون‏.‏ ولما قدم المأمون بغداد وفـد عليـه السيـد بـن أنـس فشكاه محمد بن الحسين بن صالح واستعداه عليه بقتل أخويه وقومه فقال نعم يا أمير المؤمنين ادخلوا الخارجي بلدك وأقاموا على منبرك وأبطلوا دعوتك فأهدر المأمون دماءهم‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:29 PM

ولاية طاهر علي خراسان ووفاته
كان المأمون بعد وصوله إلى العراق قد ولى طاهر بن الحسين الجزيرة والشرطة بجانبي بغداد والسواد ودخل عليه يوماً في خلوته فأذن له بالجلوس وبكى ففداه‏.‏ فقال المأمون‏:‏ أبكي لأمر ذكره ذل وستره حزن ولن يخلو أحد من شجن وقضى طاهر حديثه وانصرف‏.‏ وكان حسين الخـادم حاضـراً فـدس إليـه علـى يـد كاتبـه محمد بن هارون أن يسأل المأمون عن مكاتبته على مائة ألف درهم ومثلها للكاتب وخلا حسين بالمأمون وسأله ففطن وقال له‏:‏ إن الثناء مني ليس برخيص والمعروف عندي ليس بضائع فعيبي عن غير المأمون‏.‏ فأجابه وركب إلى المأمـون وفاوضه في أمر خراسان وأنها يخشى عليها من الترك وأن غسان بن عباد ليس بكفء لها‏.‏ فقال‏:‏ لقد فكرت في ذلك فمن ترى يصلح لها قال طاهر بن الحسين‏:‏ قال هو خالع‏:‏ قال أنا ضامنه‏.‏ فاستدعـاه وعقـد لـه من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق من حلوان إلى خراسان وعسكر من يومه خارج بغداد وأقام شهراً تحمل إليه كل يوم عشرة آلاف ألف درهم عادة صاحب خراسـان‏.‏ وولـى المأمون مكانه بالجزيرة ابنه عبد الله وكان ينوب عن أبيه بالشرطة فحملها إلى ابن عمه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وخرج إلى عمله ونزل الرقة لقتال نصر بن شبث ثم سار طاهر إلى خراسان آخر ذي القعدة سنة خمس ومائتين‏.‏ وقيـل فـي سبـب ولايـة طاهر خراسان‏:‏ إن عبد الرحمن المطوع جمع جموعاً كثيرة بنيسابور لقتال الحروريـة ولـم يستـأذن غسـان بـن عبـاد وهـو الوالـي علـى خراسـان فخشـي أن يكـون ذلك من المأمون فاضطـرب وتعصـب لـه الحسـن بـن سهل‏.‏ وخشي المأمون على خراسان فولى طاهراً وسار إلى خراسان فأقام بها إلى سنة سبع ثم اعتزم على الخلاف‏.‏ وخطب يومًا فأمسك عن الدعاء للمأمون ودعا بصلاح الأمة وكتب صاحب البريد بذلك إلى المأمون بخلعه فدعا بأحمد بن أبي خالـد فقـال‏:‏ أنـت ضمنته فسر وأتني به‏.‏ ثم جاء من الغد الخبر بموته فقال المأمون للبريد ونغم الحمـد للـه الـذي قدمـه وأخرنـا‏.‏ وولـى طلحـة مـن قبلـه وبعث إليه المأمون أحمد بن أبي خالد ليقوم بأمره فعبر أحمد إلى ما وراء النهر وافتتح أشروسنة وأسـر كـاووس بـن خالـد أحمـد وابنـه الفضل وبعث بهما إلى المأمون ووهب طلحة لأحمد بن أبي خالد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضـاً بألـف ألـف ولمكاتبتـه خمسمائـة ألف درهم‏.‏ ثم خالف الحسين بن الحسين بن مصعب بكرمان فسار إليه أحمد بن أبي خالد وأتى به إلى المأمون فعفا عنه‏.‏ ولاية عبد الله بن طاهر الرقة ومصر ومحاربته نصر بن شبث

وفي سنة ست ومائتين
بلغ الخبر بوفاة يحيى بن معاذ عامل الجزيرة وأنه استخلف ابنه أحمد فولـى المأمـون عبـد اللـه بـن طاهـر مكانـه وجعـل لـه ما بين الرقة ومصر فأمره بحرب نصر بن شبث وقيـل ولـاه سنـة خمـس وقيـل سنـة سبـع‏.‏ واستخلـف علـى الشرطـة ببغـداد إسحاق بن إبراهيم بن الحسن بن مصعب وهو ابن عمه وكتب إليه أبو طاهر كتاباً بالوصية جمع فيه محاسن الآداب والسياسة ومكارم الأخلاق وقد ذكرناه في مقدمة كتابنا‏.‏ فسار عبد الله بن طاهر لذلك وبعـث الجيـوش لحصـار نصـر بـن شبـث بكيسـوم فـي نواحـي جانب ثم سار إليه بنفسه سنة تسع ومائتين وأخذ بمخنقه‏.‏ وبعث إليه المأمون محمد بن جعفر العامري يدعوه إلى الطاعة فأجاب على شرط أن لا يحضر عنده‏.‏ فتوقـف المأمـون وقـال‏:‏ مـا بالـه ينفـر منـي فقـال أبـو جعفر لما تقدم من ذنبه‏.‏ فقال‏:‏ فتراه أعظم ذنباً من الفضل بن الربيع وقد أخذ جميع ما أوصى له به الرشيد من الأموال والسلاح وذهب مع القـواد إلـى أخـي وأسلمنـي وأفسـد علـي حتـى كـان مـا كـان ومـن عيسـى ابن أبي خالد وقد خالف علـي ببلـدي وأخـرب داري وبايـع لإبراهيـم دونـي فقـال ابـن جعفـر يا أمير المؤمنين هؤلاء لهم سوابق ودالـة يبقـون بهـا ونصـر ليسـت لـه فـي دولتكـم سابقـة إنمـا كـان مـن جند بني أمية وأنا لا أجيب إلى هذا الشرط‏.‏ ولح نصر في الخلاف حتى جهده الحصار واستأمن فأمنه عبد الله بن طاهر وخـرج إليـه سنـة عشـرة وبعث به إلى المأمون وأخرب حصن كيسوم لخمس سنين من حصاره‏.‏ ورجـع عبـد اللـه بن طاهر إلى الرقة ثم قدم بغداد سنة إحدى عشرة فتلقاه العباس بن المأمون والمعتصم وسائر الناس‏.‏ كـان إبراهيـم بـن محمـد بـن عبـد الوهـاب بـن إبراهيـم الإمام ويعرف بابن عائشة ممن تولى كبر البيعة لإبراهيم بن المهدي ومعه إبراهيم بن الأغلب ومالك بن شاهين وكانوا قد اختفوا عند قدوم المأمـون فـي نواحـي بغـداد‏.‏ ولما وصل نصر بن شبث وخرجت النظارة أنفذوا للخروج في ذلك اليـوم ثـم غلبهـم بعـض النـاس فأخـذوا فـي صفـر مـن سنـة عشـرة ثـم ضربـوا حتـى أقـروا على من كان معهم في الأمر فلم يعرض لهم المأمون وحبسهم فضاق عليهم الحبس وأرادوا أن ينقبوه فركب المأمون بنفسه وقتلهم وصلب ابن عائشة ثـم صلـى عليـه ودفنـه‏.‏ ثـم أخـذ فـي هـذه السنـة إبراهيـم بـن المهدي وهو متنقب في زي امـرأة يمشـي بيـن امرأتيـن واستـراب بـه بعـض العسـس وقـال‏:‏ أيـن تـردن فـي هذا الوقت‏.‏ فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت في يده فازداد ريبة ورفعهن إلى صاحب المسلحة وجاء بهن إلى صاحب الجسر فذهب به إلى المأمون وأحضره والغل في عنقه والملحبة على صدره ليراه بنو هاشم والناس‏.‏ ثم حبسه عند أحمد بن أبي خالد ثم أخرجه معه عندما سار الحسن بن سهل ليغنم الصلح فشفع فيه الحسن وقيل ابنته بوران وقيل‏:‏ إن إبراهيم لما أخـذ حمـل إلـى دار المعتصـم وكـان عنـد المأمـون فأدخلـه عليـه وأنبه فيما كان منه‏.‏ واعتذر بمنظوم من الكلام ومنثور أتى فيه من وراء الغاية وهو منقول في كتب التاريخ فلا نطيل بنقله‏.‏ كـان السـري بـن محمـد بـن الحكم والياً على مصر وتوفي سنة خمس ومائتين وبقي ابنه عبد الله فانتقض وخلع الطاعة وأنزل بالإسكندرية جاليةً من الأندلس وأخرجهم الحكم بن هشام من ربضي قرطبة وغربهم إلى المشرق‏.‏ ولما نزلوا بالإسكندرية ثاروا وملكوها وولوا عليهم أبا حفـص عمـر البلوطـي‏.‏ وفشـل عبـد اللـه بـن طاهـر عنهـم بمحاربـة نصـر بـن شبث فلما فرغ منه ثار من الشام إليهم وقدم قائداً من قواده ولقيه ابن السري وقاتله وأغذ ابن طاهر المسير فلحقهم وهـم فـي القتال وانهزم ابن السري إلى مصر وحاصره عبد الله بن طاهر حتى نزل على الأمان وذلـك سنـة عشـرة‏.‏ ثـم بعـث إلـى الجالية الذين ملكوا الإسكندرية بالحرب فسألوا الأمان على أن يرتحلوا إلى بعض الجزائر في بحـر الـروم ممـا يلـي الإسكندريـة ففعـل‏.‏ ونزلـوا جزيـرة أقريطـش واستوطنوها وأقامت في مملكة المسلمين من أعقابهم دهراً إلى أن غلب عليها الإفرنجة‏.‏

العمال بالنواحي
لمـا استقـر المأمـون ببغـداد وسكـن الهيـج وذلـك سنـة أربع ولى على الكوفة أخاه أبا عيسى وعلى البصـرة أخـاه صالحـاً وعلـى الحرميـن عبـد اللـه بـن الحسين بن عبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب وعلى الموصل السيد بن أنس الأزدي وولى على الشرطة ببغداد ومعاون السواد طاهر بـن الحسين استقدمه من الرقة وكان الحسن بن سهل ولاه عليها فقدم واستخلف ابنه عبد الله عليهـا‏.‏ ثـم ولـاه المأمـون سنة خمس خراسان وأعمال المشرق كلها واستقدم ابنه عبد الله فجعله على الشرطة ببغداد مكان أبيـه‏.‏ وولـى يحيـى بـن معـاذ علـى الجزيـرة وعيسـى بـن محمـد بـن أبـي خالـد علـى أرمينيـة وأذربيجـان ومحاربـة بابـك‏.‏ ومـات عامـل مصـر السـري بن محمد بن الحكم فولى ابنه عبيـد اللـه مكانـه‏.‏ ومـات داود بـن يزيـد عامـل السند فولى بشر بن داود مكانه على أن يحمل ألف ألف درهم كل سنة ثم مات يحيى بن معاذ سنة ست واستخلف ابنه أحمد فعزله المأمون وولـى مكانـه عبـد اللـه بـن طاهـر وأضـاف إليـه مصـر وسيـره لمحاربـة نصـر بـن شبـث وولـى عيسى بن يزيد الجلودي محاربة الزط سنة خمس ثم عزله سنة ست وولى داود بن منحور مع أعمال البصرة وكـور دجلـة واليمامـة والبحريـن وولـى فـي سنـة سبـع محمـد بـن حفـص علـى طبرستـان والرويـان ودنباونـد‏.‏ وفيهـا أوقـع السيـد بـن أنـس بجماعـة مـن عـرب بنـي شيبـان ووديعـة بما فشا من إفسادهم في البلاد فكبسهم بالدسكرة واستباحهم بالقتل النهب‏.‏

وفي سنة تسـع
ولـى صدقـة بـن علـي ويعـرف بزريـق علـى أرمينيـة وأذربيجان وأمره بمحاربة بابك وقـام بأمـره أحمـد بـن الجنيـد الإسكافـي فأسـره بابـك فولـى إبراهيـم بـن الليث بن الفضل أذربيجان‏.‏ وكان على جبال طبرستان شهريار بن شروين فمات سنة عشر وقام مكانه ابنه سابور فقتله مازيـار بـن قـارن فـي حـرب أسـره فيهـا وملـك جبـال طبرستـان‏.‏

وفي سنة إحـدى عشـرة
قتـل زريق بـن علي بن صدقة الأزدي السيد بن أنس صاحب الموصل وقد كان زريق تغلب على الجبال ما بين الموصل وأذربيجان وولاه المأمون عليها فجمع وقصد الموصل لحرب السيد فخرج إليه أربعة آلاف فاشتد القتال بينهم وقتل السيد في المعركة فغضب المأمون لقتله وولى محمد بن حميـد الطوسـي علـى الموصـل وأمـره بحـرب زريـق وبابـك الخرمـي فسار إلى الموصل واستولى عليها سنه اثنتي عشرة‏.‏ ومـات موسى بن حفص عامل طبرستان فولى المأمون مكانه ابنه وولي حاجب بن صالح على الهند فوقعت بينه وبين بشر بن داود صاحب السند حرب وانهزم بشر إلى كرمان‏.‏ ثم قتل محمـد بـن حميـد الطوسـي سنـة أربـع عشـرة قتلـه بابـك الخرمي‏.‏ وذلك أنه لما فرغ من أمر المتغلبين بالموصل سار إلى بابك في العساكر الكاملة الحشد وتجاوز إليه المضايق ووكل بحفظها‏.‏ حتى انتهى إلى الجبل فصعد وقد أكمن بابك الرجال في الشعراء‏.‏ فلمـا جاز ثلاثة فراسخ خرجت عليهم الكمائن فانهزموا وثبت محمد بن حميد حتى إذا لم يبق معـه إلا رجـل واحـد فتسلـل يطلب النجاة فعثر في جماعة من الحربية يقاتلون طائفة من أصحابه فقصدوه وقتلوه وعظم ذلك على المأمون واستعمل عبد الله بن طاهر على خراسان لأنه كان أخاه طلحة بن طاهر مات وقام علي أخوه مكانه خليفة لعبد الله وعبد الله بالدينور يجهز العساكر إلى بابك فولى على نيسابور محمد بن حميد فكثر عيث الخوارج بخراسان فأمره المأمون بالمسير إليها فسار ونزل نيسابور وسأل عـن سيـرة محمـد بـن حميـد فسكتـوا فعزلـه لسكوتهم‏.‏

وفي سنة اثنتـي عشـرة
خلـع أحمـد بـن محمـد العمري يعرف بالأحمر العين باليمن فولى المأمون ابنه العباس على الجزيرة والثغور والعواصم وأخاه أبا إسحاق المعتصم على الشام ومصر وسير عبـد اللـه بـن طاهـر إلـى خراسان وأعطى لكل واحد منهم خمسمائة ألف درهم وبعث المعتصم أبا عميرة الباذغيسي عاملاً على مصر فوثب به جماعة من القيسية واليمانية‏.‏ فقتلوه سنة أربع عشرة فسار المعتصم إلى مصر فقاتلهم وافتتح مصر وولى عليها واستقامت الأمـور

وفي سنة ثلـاث عشـرة
ولـى المأمـون غسان بن عباس على السند لما بلغه خلاف بشر بن داود‏.‏

وفي سنة أربع عشرة
استقدم المأمون أبا دلف وكان بالكرخ من نواحي همذان منذ سار مع عيسـى بـن ماهـان لحرب طاهر وقتل عيسى فعاد إلى همذان وراسله طاهر يدعوه إلى البيعة فامتنـع‏.‏ وقـال لـه ولا أكـون مع أحد وأقام بالكرخ‏.‏ فلما خرج المأمون إلى الري أرسل إليه يدعوه فسـار نحـوه وجـلاً بعـد أن أغـرى عليـه أصحابـه الامتنـاع‏.‏

وفي سنة أربع عشرة
قتل باليمن وفيها ولى المأمون علي بن هشام الجبل وقم وأصبهان أذربيجان وخلع أهل قم وكانوا سألوا الحطيطة من خراجهم وهو ألف ألف درهم لأن لمأمون لما جاء من العراق أقام بالري أياماً وخفـف عنهـم مـن الخـراج فطمع أهل قم في مثلها فأبى فامتنعوا من الأداء فسرح إليهم علي بن هشـام وعجيف بن عنبسة وظفروا بهم وقتلوا يحيى بن عمران وهدموا سورها وجبوها على سبعة آلاف ألف‏.‏

وفي سنة سـت عشـرة
ظهـر عبدوس الفهري بمصر وقتل بعض عمال المعتصم فسار المأمون إلى مصر وأصلحها وأتى بعبدوس فقتله وقدم من برقة وأقام بمصر‏.‏ وفيها غضب المأمون على علـي بـن هشـام ووجه عجيفاً وأحمد بن هشام لقبض أمواله وسلاحه لما بلغه من عسفه وظلمه وأراد قتـل عجيف واللحاق ببابك فلم يقدر وظفر به عجيف وجاء به إلى المأمون فأمر بقتله وطيـف برأسـه فـي الشـام والعـراق وخراسـان ومصـر ثـم ألقـي فـي البحـر‏.‏ وقـدم غسـان بـن عباد من السنـد ومعـه بشـر بـن داود متسأمنـاً فولـى على السند عمران بن موسى العكي وهرب جعفر بن داود القمـي إلى قم فخلع وكان محبوساً بمصر منذ عزله المأمون عن قم فهرب الآن وخلع فغلبه علي بن عيسى القمي وبعث به إلى المأمون فقتل‏.‏

وفي سنة مائتين
قتل الروم ملكهم إليون لسبع سنين ونصف من ملكه وأعادوا ميخاييل بن جرجـس المخلوع وبقي عليهم تسع سنين‏.‏ ثم مات سنة خمس عشرة وملك ابنه نوفل‏.‏ وفتح عبد الله بن خرداذبة والي طبرستان البلاد والسيرن من بلاد الديلم وافتتح جبال طبرستان وأنزل شهريار بن شروين عنها وأشخص مازيار بن قارن إلى المأمون وأسر أبا ليل ملك الديلم وذلك سنة إحدى ومائتين‏.‏ وفيها ظهر بابك الخرمي في الجاوندانية أصحاب جاوندان سهل وتفسيره الدائم الباقي‏.‏ وتفسير خرم فرح وكانوا يعتقدون مذاهب المجوس‏.‏

وفي سنة أربع عشرة
خرج أبو بلال الصابي الشاري فسرح إليه المأمون ابنه العباس في جماعة من القواد وقتلوه‏.‏

وفي سنة خمـس عشـرة
دخـل المأمون بلاد الروم بالصائفة وسار عن بغداد في المحرم واستخلف عليهـا إسحـاق بـن إبراهيـم بـن مصعب وهو ابن عم طاهر وولاه السواد وحلوان وكور دجلة ولما وصل تكريت لقيه محمد بن علي الرضا فأجازه وزف إليه ابنته أم الفضل وسار إلى المدينة فأقام بها وسار المأمون على الموصل إلى منبج ثم دابق ثم أنطاكية ثم المصيصة وطرسوس‏.‏ ودخـل مـن هنالـك فافتتـح حصـن قـرة عنـوةً وهدمـه‏.‏ وقيـل بـل فتحه على الأمان وفتح قبله حصن ماجد كذلك‏.‏ وبعثه أشناس إلـى حصـن سـدس ودخـل ابنـه العبـاس ملطيـة ووجـه المأمـون عجيفاً وجعفر الخياط إلى حصن سنان فأطاع‏.‏ وعاد المعتصم من مصر فلقي المأمون قبل الموصـل ولقيه العباس ابنه برأس عين‏.‏ وجاء المأمون منصرفه من العراق إلى دمشق ثم بلغه أن الروم أغاروا على طرسوس والمصيصة وأثخنوا فيهم بالقتل‏.‏ وكتب إليه ملك الروم فيه بنفسه فرجع إليهم وافتتح كثيراً من معاقلهم وأناخ على هرقلة حتى استأمنوا وصالحوه وبعث المعتصم فافتتح ثلاثين حصنًا منها مطمورة وبعث يحيى بن أكثم فأثخـن فـي البلـاد وقتـل وحـرق وسبـى‏.‏ ثـم رجـع المأمـون إلـى كيسـوم فأقـام بها يومين ثم ارتحل إلى دمشق‏.‏

وفي سنة سبـع عشـرة
رجـع المأمون إلى بلاد الروم فأناخ على لؤلؤة فحاصرها مائة يوم ثم رحل عنها وخلف عجيفاً على حصارها‏.‏ وجاء نوفل ملك الروم فأحاط به فبعث إليه المأمون بالمدد فارتحل نوفل واستأمن من أهل لؤلؤة إلى عجيف وبعث نوفل في المهادنة والمأمون على سلويـن فلـم يجبـه‏.‏ ثـم رجـع المأمـون سنـة ثمان عشرة وبعث ابنه العباس إلى بناء طوانة فبنى بها ميلاً في ميل ودورها أربعة فراسخ وجعل لها أربعة أبواب ونقل إليها الناس من البلدان‏.‏ وفاة المأمون وبيعة المعتصم ثم مرض المأمون على نهر البربرون واشتد مرضه ودخل العراق وهو مريض فمات بطرسوس وصلى عليه المعتصم وذلك لعشرين سنة من خلافته وعهد لابنه المعتصم وهو أبو إسحاق محمد فبويع له بعد موته وذلك منتصف رجب من سنة ثمان عشرة ومائتين‏.‏ وشغب الجند وهتفوا باسم العباس بن المأمون فأحضره وبايع فسكتوا وخرب لوقته ما كان بناه من مدينة طوانة وأعاد الناس إلى بلادهم وحمل ما أطاق حمله من الألة وأحرق الباقي‏.‏ ظهور صاحب الطالقان وهـو محمـد بـن القاسم بن علي بن عمر بن علي زيد العابدين بن الحسين كان ملازماً للمسجد بالمدينـة فلزمـه شيطـان مـن أهـل خراسـان وزيـن لـه أنـه أحـق بالإمامـة وصـار يأتيـه بحجاج خراسـان يبايعونـه‏.‏ ثـم خـرج بـه إلـى الجوزجـان وأخفـاه وأقبل على الدعاء له ثم حمله على إظهار الدعـوة للرضـا مـن آل محمـد علـى عـادة الشيعـة في هذا الإيهام كما قدمناه‏.‏ وواقعه قواد عبد الله بـن طاهـر بخراسـان المـرة بعـد المـرة فهزمـوه وأصحابـه وأخرج ناجياً بنفسه ومر بنسا فوشي به إلى العامـل فقبـض عليـه وبعثـه إلـى عبـد اللـه بـن طاهـر فبعثـه إلـى المعتصـم منتصـف ربيع أول سنة تسع عشرة فحبسه عند الخادم مسرور الكبير ووكل بحفظه فهرب من محبسه ليلة الفطر من سنته ولم يوقف له على خبر‏.‏ وهم قوم من أخلاط الناس غلبوا على طريق البصرة وعاثوا فيها وأفسدوا البلاد وولوا عليهم رجـلاً منهـم اسمـه محمـد بـن عثمـان وقام بأمره آخر منهم اسمه سماق‏.‏ بعث المعتصم لحربهم في هذه السنة عجيف بن عنبسة في جمادى الآخرة فسار إلى واسط وحاربهم فقتل منهم في معركة ثلاثمائة وأسر خمسمائة ثم قتلهم وبعث برؤوسهم إلى باب المعتصم وأقام قبالتهم سبعة أشهـر‏.‏ ثـم استأمنـوا إليـه فـي ذي الحجـة آخـر السنـة جـاؤوا بأجمعهـم فـي سبعـة وعشرين ألفاً المقاتلة منهم اثنا عشر ألفاً فعباهم عجيف في سفن على هيئتهم في الحرب ودخل بهم بغداد في عاشـوراء سنـة عشريـن وركـب معتصـم إلـى الشماسـة فـي سفينـة حتى رآهم ثم غربهم إلى عين زربة فأغارت عليهم روم فلم يفلت منهم أحد‏.‏ بناء سامرا كان المعتصم قد اصطنع قوماً من أهل الحرف بمصر وسماهم المطاربة وقومـاً مـن سمرقنـد وأشروسنة وفرغانة وسماهم الفرغانة وأكثر من صبيانهم وكانوا يركضون الدواب فـي الطـرق ويختلفون بها ركضاً فيصدمون النساء والصبيان فتتأذى العامة بهم وربما انفرد بعضهم فقتلوه‏.‏ وتأذى الناس من ذلك ونكروه وربما أسمعوا النكير للمعتصم فعمد إلى بناء القاطون وكانت مدينة بناها الرشيد ولم يستتمها وخربت فجددها المعتصم وبناها سنة عشرين وسماها سر من رأى فرخمها الناس سامرا وصارت داراً لملكهم من لـدن المعتصـم ومـن بعـده واستخلـف ببغداد حتى انتقل إليها ابنه الواثق‏.‏ نكبة الفضل بن مروان كان للمعتصم في ولاية أخيه كاتب يعرف بيحيى الجرمقابي واتصل به الفضل بن مروان وهو من البردان وكان حسن الخط‏.‏ فلما هلك الجرمقابي استكتبه المعتصم وسار معه إلى الشام فأثرى‏.‏ ولما استخلف المعتصم استولى على هواه واستتبع الدواوين واحتجر الأموال ثم صار يرد أوامر المعتصم في العطايا ولا ينفذها واختلفت فيه السعايات عند المعتصم ودسوا عليه عنـده مـن مـلأ مجلسـه ومساخـره من يعير المعتصم باستبداده عليه ورد أوامره فحقد له ذلك‏.‏ ثم نكبـة سنـة عشريـن وصـادره وجميـع أهـل بيتـه وجعل مكانه محمد بن عبد الملك بن الزيات وغرب الفضل إلى بعض قرى الموصل‏.‏ محاربة بابك الخرمي قـد تقـدم لنا حديث بابك الخرمي وظهوره سنة اثنتين ومائتين بدعوة جاوندان بن سهل واتخذ مدينة البذ لامتناعه وتولى المأمون حروبه فهزم عساكره وقتل جماعة من قواده وخرب الحصون فيمـا بيـن أردبيـل وزنجـان فلمـا ولـي المعتصـم بعـث أبـا سعيـد محمـد بن يوسف فبنى الحصون التي خربهـا وشحنهـا بالرجـال والأقـوات وحفـظ السابلـة الجلـب الميـرة‏.‏ وبينمـا هو في ذلك أغارت بعض سرايـا بابك بتلك النواحي فخرج في طلبهم واستنقذ ما أخذوه وقتل كثيراً وأسر أكثر وبعث بالرؤوس والأسرى إلى المعتصم‏.‏ وكان ابن البعيث أيضاً في قلعة له حصينة من كور أذربيجان ملكها من يد ابن الرواد وكان يصانع بابك ويضيف سراياه إذا مروا به‏.‏ ومر به في هذه الأيام قائده عصمة وأضافه على العادة ثم قبض عليه وقتل أصحابه وبعث به إلى المعتصم فسأله عن عورات بلاد بابك فدله عليهـا‏.‏ ثـم حبسـه وعقـد لقائـده الأفشيـن حيدر بن كاوس على الجبال ووجهه لحرب بابك فسار إليهـا ونـزل بساحتهـا وضبـط الطرقات ما بينه وبين أردبيل وأنزل قواده في العساكر ما بينه وبين أردبيـل يتلقـون الميـرة مـن أردبيـل من واحد إلى الآخر حتى تصل عكسر الأفشين‏.‏ وكان إذا وقع بيده أحد من جواسيس بابك يسأله عن إحسان بابك إليه فيضاعفه ويطلقه‏.‏ ثم إن المعتصم بعـث بغـا الكبيـر بمـدد الأفشيـن بالنفقـات وسمع بابك فاعتزم على اعتراضه وأخبر الأفشين بذلك بعض جواسيسهم فكتب إلى بغا أن يرتحل من حصن النهرقيلا ثم يرجع إلى أردبيل ففعل ذلك‏.‏ وجاءت الأخبار إلى بابك وركب الأفشين في يوم موادعته لبغا وأغذ المسير وخرجت سرية بابك فلقيت قافلة النهر ولم يصادفوا بغا فيها فقتلوا من وجدوا فيها من الجند وفاتهم المال‏.‏ ولقوا في طريقهم الهيثم من قواد الأفشين فهزموه وامتنع بحصنه ونزل بابك عليه يحاصره وإذا بالأفشيـن قـد وصـل فأوقـع بهـم وقتـل الكثيـر من جنده ونجا بابك إلى موقان وأرسل إلى عسكره فـي البـر فلحقـت بـه وخـرج معهـم مـن موقـان إلـى البـذ‏.‏ ولمـا رجـع الأفشيـن إلـى عسكـره استمر على حصار بابك وانقطعت عنه الميرة من سائر النواحي ووجه صاحب مراغة إليه ميرة فلقيتها سرية من سرايا بابك فأخذوها ثم خلص إليه بغا بما معه من المال ففرقه في العساكر وأمر الأفشيـن قـواده فتقدمـوا ليضيقوا الحصار على بابك في حصن البذ ونزل على ستة أميال منه‏.‏ وسـار بغـا الكبيـر حتـى أحـاط بقريـة البـذ وقاتلهـم وقتلـوا منهم جماعة فتأخر إلى خندق محمد بن حميـد مـن القـواد وبعـث إلـى الأفشيـن فـي المـدد فبعـث إليـه أخاه الفضل وأحمد بن الخليل بن هشام وأبا خوس وصاحب شرطة الحسن بـن سهـر وأمـره بمناجزتهـم إلـى الحـرب فـي يـوم عينـه لـه فركبـوا فـي ذلك اليوم وقصدوا البذ وأصابهم برد شديد ومطر‏.‏ وقاتل الأفشين فغلب من بإزائه من أصحاب بابك واشتد عليهم المطر فنزلوا واتخذ بغا دليلاً أشـرف بـه علـى جبـل يطـل منـه على الأفشين ونزل عليهم الثلج والضباب فنزلوا منازلهم‏.‏ وعمد بابـك إلـى الأفشيـن ففـض معسكـره وضجـر أصحـاب بغـا مـن مقامهـم فـي رأس الجبـل فارتحل بهم ولا يعلـم مـا تـم علـى الأفشيـن وقصـد حصـن البـذ فتعـرف خبـر الأفشيـن ورجع على غير الطريق الذي دخلوا منه لكثرة مضايقه وعقباته وتبعته طلائع بابك فلم يلتفت إليهم مسابقة للمضايق أمامه‏.‏ وأجنهم الليل وخافوا على أثقالهم وأموالهم فعسكر بهم بغا من رأس جبل وقد تعبوا وفنيت أزوادهـم وبيتهـم بابـك ففضهـم ونهبـوا مـا كـان معهم من المال والسلاح ونجوا إلى خندقهم الأول في أسفل الجبل وأقام بغا هنالك‏.‏ وكـان طرخـان كبيـر قـواد بابـك قـد استأذنه أن يشتوا بقرية في ناحية مراغة فأرسل الأفشين إلى بعض قواده بمراغة فأسرى إليه وقتله وبعث برأسه‏.‏ ودخلت سنة اثنتين وعشرين فبعث المعتصم جعفراً الخياط بالعساكر مدداً للأفشين وبعث أتياخ بثلاثين ألف ألف درهم لنفقات الجند فأرسلها وعاد ورحل الأفشين لأول فصل الربيع ودنـا مـن الحصـن وخنـدق علـى نفسـه‏.‏ وجاءه الخبر بأن قائد بابك واسمه أدين قد عسكر بإزائه وبعث عياله إلى بعض حصون الجبل فبعث الأفشين بعض قواده لاعتراضهم فسلكوا مضايق وتملقوا وأغـاروا إلـى أن لقـوا العيـال فأخذوهـم وانصرفـوا وبلـغ الخبـر أديـن فركـب لاعتراضهـم وحاربهم واستنقذ بعض النساء‏.‏ وعلـم بشأنهـم الأفشين من علامات كان أمرهم بها أن رأى بهم ريباً فركب إليهم فلما أحسوا به فرجوا عن المضيق ونجا القوم وتقدم الأفشين قليلاً قليلاً إلى حصن البد وكان يأمـر النـاس بالركوب ليلاً للحراسة خوف البيات فضجر الناس من التعب وارتاد في رؤوس تلك الجبال أماكـن يتحصـن فيهـا الرجالـة فوجـد ثلاثـة فأنـزل فيهـا الرجالـة بأزوادهـم وسـد الطرق إليها بالحجارة وأقام يحاصرهم‏.‏ وكان يصلي الصبح بغلس ثم يسير زحفاً ويضرب الطبول ليزحف الناس لزحفه فـي الجبـال والأوديـة علـى مصافهـم وإذا أمسـك وقفـوا‏.‏ وكـان إذا أراد أن يتقـدم المضيق الذي أتى منه عام أول خلف به عسكراً على رأس العقبة يحفظونه لئلا يأخذه الحرس منه عليهم‏.‏ وكان بابك متى زحفوا عليه كمن عسكراً تحت تلك العقبة واجتهد الأفشين أن يعـرف مكـان الكميـن فلـم يطـق‏.‏ وكـان يأمـر أبا سعيد وجعفراً الخياط وأحمد بن الخليل بن هشام فيتقدمـون إلى الوادي في ثلاثة كراديس ويجلس على تلك ينظر إليهم وإلى قصر بابك‏.‏ ويقف بابك قبالته في عسكر قليل وقد أكمن بقية العسكر فيشربون الخمر ويلعبون بالسرياني فإذا صلـى الأفشيـن الظهـر رجـع إلـى خندقـه بـروذ الـروز مصافـاً بعـد مصـاف الأقـرب إلـى العـدو ثـم الذي يليه وآخرين ترجع العسكر الذي عقبه المضيق حتى ضجرت الخرمية من المطاولة وانصـرف بعض الأيام وتأخر جعفر فخرج الخرمية من البد على أصحابه فردهم جعفر على أعقابهم وكان مع أبي دلف من أصحاب جعفر قوم من المطوعة فضيقوا على أصحاب بابك وكانوا يصدعون البذ وبعث جعفر إلى الأفشين يستمده خمسمائة راجل من الناشبة فأتى له وأمره بالتحيل في الانصراف وتعلق أولئك المطوعة بالبذ وارتفع الصياح وخرج الكمناء من تحـت العقبة وتبين الأفشين أماكنهم واطلع على خدعتهـم‏.‏ وانصـرف جعفـر إلـى الأفشيـن وعاتبـه فاعتذر إليه يستأمن الكمين وأراه مكانه فانصرف عن عتابه وعلم أن الرأي معه‏.‏ وشكا المطوعة ضيق العلوفة والزاد فأذن لهم في الانصراف وتناولوه بألسنتهم ثم طلبوه في المناهضة فأذن لهم ووادعهم ليوم معلوم وتجهز وحمل المال والزاد والماء والمحامل لجرجا وتقدم إلى مكانه بالأمس وجهز العسكر على العقبة على عادته‏.‏ وأمر جعفراً بالتقدم بالمطوعة وأن يأتوا من أسهل الوجوه وأطلق يده بمن يريده من الناشبة والنفاطيـن وتقـدم جعفـر إلـى مكانـه بالأمس والمتطوعة معه فقاتلوا وتعلقوا بسور البذ حتى ضـرب جمعهـم مـا بـه وجـاء الفعلـة بالفؤوس وطيف عليهم بالمياه والإزودة‏.‏ ثم جاء‏.‏ الخرمية من الباب وكسروا على المطوعة وطرحوهم على السور ورموهم بالحجارة فنالت منهم وضعفوا عن الحرب ثم تحاجزوا آخر يومهم وأمرهم الأفشين بالانصراف وداخلهم اليأس من الفتح تلك السنة وانصرف أكثر المطوعة‏.‏ ثـم عـاود الأفشيـن الحرب بعد أسبوعين وبعث من جوف الليل ألفًا من الناشبة إلى الجبل الذي وراء البذ حتى يعاينوا الأفشين من هذه الناحية فيرمون على الخرمية‏.‏وبعث عسكراً آخر كميناً تحت ذلك الجبل الذي وراء البذ وركب هو من الغداة إلى المكان الذي يقف فيه على عادتـه‏.‏ وتقـدم جعفـر الخيـاط والقـواد حتى صاروا جميعاً حول ذلك الجبل فوثب كمين بابك من أسفل الجبل بالعسكر الذي جاء إليه لما فضحهم الصبح انحدر الناشبة من الجبل وقد ركبوا الأعلـام علـى رماحهـم وقصدوا جميعاً أدين قائد بابك في جفلة فانحدر إلى الوادي فحمل عليه جماعة من أصحاب القواد فرمى عليهم الصخور من الجبل وتحدرت إليهم‏.‏ ولمـا رأى ذلك بابك استأمن للأفشين على أن يحمل عياله من البذ وبينما هم في ذلك إذ جاء الخبـر إلـى الأفشيـن بدخـول البـذ‏.‏ وأن الناس صعدوا بالأعلام فوق قصور بابك حتى دخل وادياً هنالـك‏.‏ وأحـرق الأفشيـن قصـور بابك وقتل الخرمية عن آخرهم وأخذ أمواله وعياله ورجع إلى معسكره عند المساء وخالفه بابك إلى الحصن فحمـل مـا أمكنـه مـن المـال والطعـام‏.‏ وجـاء الأفشيـن مـن الغـد فهـدم القصـور وأحرقها وكتب إلى ملوك أرمينية وبطارقتهم بإذكاء العيون عليه في نواحيهـم حتـى يأتـوه بـه‏.‏ ثـم عثـر علـى بابـك بعـض العيـون فـي واد كثيـر الغيـاض يمـر مـن أذربيجـان إلى أرمينية فبعث من يأتي فلم يعثروا عليه لكثرة الغياض والشجر‏.‏ وجاء كتاب المعتصم بأمانه فبعث به الأفشين بعض المستأمنة من أصحاب بابك فامتنع من قبولـه‏.‏ وقتـل بعضهـم ثـم خرج من ذلك الوادي هو وأخوه عبد الله ومعاوية وأمه يريدون أرمينية ورآهم الحرس الذين جاؤوا لأخـذه وكـان أبـو السفـاح هـو المقـدم عليهـم فمـروا فـي أتباعهـم وأدركوهم على بعض المياه فركب ونجا وأخذ أبو السفاح معاوية وأم بابك وبعـث بهـم إلـى الأفشيـن‏.‏ وسـار بابـك فـي جبـال أرمينيـة مختفيـاً وقـد أذكـوا عليـه العيـون حتـى إذا مسـه الجـوع بعث بعض أصحابه بدنانير لشراء قوتهم فعثر به بعض المسلحة‏.‏ وبعث إلى سهل بن ساباط فجاء واجتمع بصاحب بابك الذي كانت حراسة الطريق عليه ودله على بابك فأتاه وخادعه حتى سار إلى حصنه وبعث بالخبر إلى الأفشين فبعث إليه بقائدين من قبله وأمرهما بطاعة ابن ساباط فأكمنهما في بعض نواحي الحصن وأغرى بابك بالصيـد وخـرج معـه‏.‏ فخـرج القائـدان مـن الكمين فأخذاه وجاء به إلى الأفشين ومعهما معاوية بن سهـل بـن سابـاط فحبسـه ووكـل بحفظه وأعطى معاوية ألف درهم وآتى سهلاً ألف ألف درهم ومنطقة مفرقة بالجوهر‏.‏ وبعث إلى عيسى بن يوسف بن أسطقانوس ملك البيلقان يطلب منه عبـد الله أخا بابك وقد كان لجأ إلى حصنه عندما أحاط به ابن ساباط فأنفذه إليه وحبسه الأفشين مع أخيه‏.‏ وكتـب إلـى المعتصـم فأمـره بالقـدوم بهمـا وذلك في شوال من سنة اثنتين وعشرين وسار الأفشين بهمـا إلـى سامـرا فكـان يلقـاه فـي كـل رحلـة رسـول من المعتصم بخلعة وفرس‏.‏ ولما قرب من سامرا تلقاه الواثق وكبر لقدومه وأنزل الأفشين وبابك عنده بالمطيرة وتوج الأفشين وألبسه وشاحين ووصلـه بعشرين ألف ألف درهم وعشرة آلاف ألف درهم يفرقها في عسكره وذلك في صفر سنة ثلاث وعشرين‏.‏ وجـاء أحمـد بـن أبي داود إلى بابك متنكراً وكلمه ثم جاء المعتصم أيضاً متنكراً فرآه‏.‏ ثم عقد من الغد واصطف النظارة سماطين وجيء ببابك راكباً على الفيل‏.‏ فلما وصل أمر المعتصم بقطع أطرافه ثم بذبحه وأنفذ رأسه إلى خراسان وصلب شلوه بسامرا وبعث بأخيه عبد الله إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد ليفعل به مثل ذلك ففعل‏.‏ وكان الذي أنفق الأفشين في مدة حصاره لبابك سوى الأرزاق والأنزال والمعاون عشرة آلاف ألـف درهـم يـوم ركوبـه لمحاربتـه وخمسة آلاف يوم قعوده‏.‏ وجميع من قتل بابك في عشرين سنة أيام قتيبة مائة ألف وخمسة وخمسيـن ألفـاً وهزم من القواد يحيى بن معاذ وعيسى بن محمد بن أبي خالد وأحمد بن الجنيد وزريـق بـن علـي بـن صدقـة ومحمـد بـن حميـد الطوسي وإبراهيم بن الليث‏.‏ وكان الذين أسروا مع بابك ثلاثة آلاف وثلثمائة الذي استنقذ من يديه من المسلمات وأولادهن سبعة آلاف وستمائة إنسـان جعلـوا فـي حظيـرة فمـن أتـى مـن أوليائهـم وأقـام بينه على أحد منهم أخذه والذي صار في فتح عمورية

ميارى 6 - 8 - 2010 09:30 PM

وفي سنة ثلـاث وعشريـن
خـرج نوفـل بـن ميخاييل ملك الروم إلى بلاد المسلمين فأوقع بأهل زبطرة لأن بابك لما أشرف على الهلاك كتب إليه أن المعتصم قد وجه عساكره حتى خياطة يعني جعفر بن دينار وطباخة يعني إيتاخ ولم يبق عنده أحد فانتهز الفرصة ثلاثاً أو دونها‏.‏ وظن بابك أن ذلك يدعو المعتصم إلى إنفاذ العساكر لحرب الروم فيخف عنه ما هو فيه‏.‏ فخرج نوفـل فـي مائة ألف وفيهم من المجمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال وهزمهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعـب فلحـق بالروم وبلغ نوفل زبطرة فاستباحها قتلاً وسبياً وأعاد على ملطية وغيرها ومثل بالأسـرى‏.‏ وبلـغ الخبـر إلى المعتصم فاستعظمه وبلغه أن هاشميةً صاحت وهي في أيدي الروم‏:‏ وامعتصماه‏:‏ فأجاب وهو سريره لبيك لبيك‏.‏ ونادى بالنفير ونهض من ساعته فركب دابته واحتقب شكالاً وسكة من حديد فيها رداؤه‏.‏ وجمـع العساكـر وأحضـر قاضـي بغـداد عبـد الرحمـن بـن إسحـاق ومعـه ابـن سهل في ثلاثمائة وثلاثين من العدول فأشهدهم بما وقف من الضياع ثلثاً لولده وثلثًا لمواليه وثلثـاً لوجـه اللـه‏.‏ وسـار فعسكـر بقـرى دجلـة لليلتيـن مـن جمـادى الأولى وبعث عجيف بن عنبسة وعمر الفرغاني وجماعة مـن القـواد مـدداً لأهـل زبطـرة فوجـدوا الـروم قـد ارتحلـوا عنهـا فأقامـوا حتـى تراجـع النـاس واطمأنوا‏.‏ ولمـا ظفـر ببابـك سـأل أي بلـاد الروم أعظم عندهم فقيل له عمورية فتجهز إليها بما لا يماثله أحد قبلـه من السلاح والآلة والعدد وحياض الأدم والقرب والروايا وجعل مقدمته أشناس وبعده محمد بن إبراهيم بن مصعب وعلى الميمنة إيتاخ وعلى الميسرة جعفر بن دينار الخياط وغلى القلب عجيف بن عنبسة‏.‏ وجاء إلى بلاد الروم فأقام بسلوقية على نهر السن قريباً من البحر وعلى مسيـرة يـوم مـن طرطـوس وبعـث الأفشيـن إلـى سـروج وأمـره بالدخـول مـن درب الحـرب وبعث أشناس من درب طرطوس وأمره بانتظاره بالصفصاف وقدم وصيفاً في أثـر أشنـاس وواعدهـم يـوم اللقاء‏.‏ ورحل المعتصم لست بقين من رجب وبلغه الخبر أن ملك الـروم عـازم علـى كبـس مقدمته فبعث إلى أشناس بذلك وأن يقيم ثلاثة أيام ليلحق به‏.‏ ثـم كتـب إليـه أن يبعـث إليـه مـن قـواده من يأتيه بخبر الروم وملكهم فبعث عمر الفرغاني في مائتي فارس فطاف في البلاد وأحضر جماعة عند أشناس أخبروه بأن ملك الروم بينما هو ينتظر المقدمة ليواقعها إذ جاءه الخبر بأن العساكر دخلت من جهة أرمينيـة يعنـي عسكـر الأفشيـن فاستخلف ابن خاله على عسكره وسار إلى تلك الناحية فوجه أشناس بهم إلى المعتصم‏.‏ وكتب المعتصم إلى الأفشين بالمقام حذراً عليه وجعل لمن يوصل الكتاب عشرة آلاف درهم وأوغل في بلاد الروم فلم يدركه الكتاب‏.‏ وكتب المعتصم إلى أشناس بأن يتقدم والمعتصم في أثره حتى إذا كانوا على ثلاث مراحل من أنقرة أسر أشناس في طريقه جماعة من الروم فقتلهم وقال لهم شيخ منهم أنا أدلك على قوم هربـوا مـن أنقـرة معهـم الطعـام والشعيـر فبعـث معه مالك بن كرد في خمسمائة فارس فدل بهم إلى مكان أهل أنقرة فغنموا منهم ووجدوا فيهم جرحى قد حضروا وقعة ملك الروم مع الأفشين وقالـوا‏:‏ لمـا استخلـف علـى عسكـره سـار إلـى ناحيـة أرمينيـة فلقينا المسلمين صلاة الغداة فهزمناهم وقتلنا رجالهم وافترقت عساكرنا في طلبهم ثم رجعوا بعد الظهر فقاتلونا وحرقوا عسكرنا وفقدنا الملك وانهزمنا ورجعنا إلى العسكر فوجدناه قد انتقض‏.‏ وجاء الملك من الغد فقتل نائبـه الـذي استخلفـه وكتـب إلـى بلـاده بعقاب المنهزمين ومواعدتهم بمكان كذا ليلقى المسلمين بها‏.‏ ووجـه خصيـاً لـه إلـى نقـرة ليحفظهـا فوجد أهلها قد أجلوا فأمره الملك بالمسير إلى عمورية فوعى مالك بن كرد خبرهم ورجع بالغنيمة والأسرى إلى أشناس وأطلق الأمير الذي دله‏.‏ وكتـب أشنـاس بذلـك إلى المعتصم ثم جاء البشير من ناحية الأفشين بالسلامة وإن الوقعة كانت لخمس بقين مـن شعبـان‏.‏ وقـدم الأفشيـن علـى المعتصـم بأنقـرة ورحـل بعـد ثلـاث والأفشيـن فـي ميمنتـه وأشناس في ميسرته وهو في القلب وبين كل عسكر وعسكر فرسخان وأمرهم بالتخريب والتحريق ما بين أنقرة وعمورية‏.‏ ثم وافى عمورية وقسمها على قواده وخرج إليه رجل من المنتصرة فدله على عورة من السور بني ظاهره وأخل باطنه فضرب المعتصم خيمته قبالته ونصبت عليه المجانيق فتصـدع السـور‏.‏ وكتـب بطريقهـا باطيـس والخصـي إلـى الملـك يعلمانـه بشأنهما في السـور وغيـره فوقـع فـي يـد المسلميـن مـع رجليـن‏.‏ وفـي الكتـاب أن باطيـس عـازم علـى أن يخرج ليلاً ويمر بعسكر المسلمين ويلحق بالملك فنادى المعتصم حرسه‏.‏ ثم انثلمت فوهة من السور بين جين وقد كان الخندق طم بأوعية الجلود المملوءة تراباً‏.‏ ثم ضرب بالذبالات عليها فدحرجهـا الرجـال إلـى السـور فنشبـت فـي تلـك الأوعيـة وخلـص مـن فيهـا بعـد الجهد‏.‏ ولما جاء من الغد بالسلالم والمنجنيقات فقاتلوهم على تلك الثلمة وحارب وبدر بالحرب أشناس وجمعت المنجنيقات على تلك الثلمة‏.‏ وحارب في اليوم الثاني الأفشين والمعتصم راكب إزاء الثلمـة وأشناس وأفشين وخواص الخدام معه‏.‏ ثم كانت الحرب في اليوم الثالث على المعتصم وتقدم إيتاخ بالمغاربة والأتراك واشتد القتال على الروم إلى الليل وفشت فيهم الجراحات ومشى بطريق تلك الناحية إلـى رؤسـاء الـروم وشكـا إليهم واستمدهم فأبوا‏.‏ فبعث إلى المعتصم يستأمن فأمنه وخرج من الغد إلى المعتصم وكان اسمه وندوا فبينما هو والمعتصم يحادثه أومأ عبد الوهاب بن علي من بين يديه إلى المسلمين بالدخول فافتتحوا من الثلمة ورآهم وندوا فخاف فقال له المعتصم‏:‏ كل شيء تريده هو لك‏.‏ ودخل المسلمون المدينة وامتنع الروم بكنيستهم وسطها فأحرقها المسلمون عليهم‏.‏ وامتنع باطيس البطريق في بعض أبراجها حتى استنزله المعتصم بالأمان وجاء الناس بالأسرى والسبي من كل جانب واصطفى الأشراف وقتل من سواهم وبيعت مغانمهم في خمسة أيام وأحـرق الباقـي‏.‏ ووثـب الناس على المغانم في بعض الأيام ينهبونها فركب المعتصم وسار نحوهم فكفـؤوا بعموريـة فهدمـت وأحرقت وحاصرها خمسة وخمسين يوماً من سادس رمضان إلى آخر شـوال وفـرق الأسـرى علـى القـواد ورجـع نحـو طرطـوس‏.‏ ولـم يـزل نوفـل مملكـاً علـى الـروم إلى أن هلك سنة تسع وعشرين ومائتين في ولاية الواثق ونصبوا ابنه ميخاييل في كفالة أمه ندورة فأقامت عليهم ست سنين ثم اتهمها ابنها ميخاييل بقمط من أقماطها عليها وألزمها بيتها سنة ثلاث وثلاثين‏.‏

حبس العباس بن المأمون ومهلكه
كـان المعتصـم يقـدم الأفشيـن علـى عجيـف بـن عنبسـة ولمـا بعثـه إلـى زبطـرة لـم يطلـق يـده في النفقات كما أطلق للأفشين وكان يستقصر شأن عجيف وأفعاله فطوى عجيف على النكث ولقي العبـاس بـن المأمـون فعذلـه علـى قعوده عند وفاة المأمون عن الأمر حتى بويع المعتصم وأغراه قبلاً فـي ذلـك فقبـل العبـاس منـه ودس رجـلاً من بطانته يقال له السمرقندي قرابة عبد الله بن الوضاح وكان له أدب ومداراة فاستأمن له جماعة من القواد ومن خواص المعتصم فبايعوه وواعد كل واحد منهم أن يثب بالقائد الذي معه فيقتله من أصحاب المعتصم والأفشين وأشناس بالرجوع إلى بغداد فأبى من ذلك وقال‏:‏ لا أفسد العراق‏.‏ فلما فتحت عمورية وصعب التدبير بعض الشيء أشار عجيف بأن يضع من ينهب الغنائم فإذا ركب المعتصم وثبوا به ففعلوا مثل ما ذكرنا‏.‏ وركب فلم يتجاسر عليه‏.‏ وكان للفرغاني قرابة غلام أمرد في جملة المعتصم فجلس مع ندمان الفرغاني تلك الليلة وقص عليهم ركوب المعتصم فأشفق الفرغاني وقال يا بني أقلل من المقام عند أمير المؤمنين والزم خيمتك وإن سمعت هيعةً فلا تخرج فأنت غلام غـر ثـم ارتحـل المعتصـم إلـى الثغـور وتغيـر أشنـاس علـى عمـر الفرغانـي وأحمـد بـن الخليـل وأساء إليهما فطلبا من المعتصم أن يضمهما إلى من شاء وشكيا من أشناس فقال له المعتصم أحسن أدبهما فحبسهما وحملهما على بغل‏.‏ فلما صار بالصفصاف حدث الغلام ما سمع من قريبه عمر الفرغاني فأمر بغا أن يأخذه من عند ثم دفع أحمد بن الخليل إلى أشناس عنده نصيحة للمعتصم وأخبره خبر العباس بن المأمون والقـواد والحـارث السمرقندي فأنفذ أشناس إلى الحارث وقيده وبعث به إلى المعتصم وكان في المقدمـة فأخبـر الحـارث المعتصـم بجلية الأمر فأطلقه وخلع عليه ولم يصدقه على القواد لكثرتهم‏.‏ ثم حضر العباس بن المأمون واستحلفه أن لا يكتم عنه شيئاً فشرح له القصة فحبسه عند الأفشيـن وتتبـع القـواد بالحبـس والتنكيـل وقتـل منهـم المشاء بن سهيل ثم دفع العباس للأفشين فلما نـزل منبـج طلـب الطعـام فأطعـم ومنـع المـاء ثـم أدرج فـي بـج فمـات‏.‏ ولمـا وصـل المعتصم إلى نصيبين احتفر لعمر الفرغاني بئراً وطمت عليه ولما دخلوا بلاد الموصل قتل عجيف بمثل ما قتل به العبـاس واستلحـم جميـع القـواد في تلك الأيام وسموا العباس اللعين‏.‏ ولما وصل إلى سامرا جلس أولاد المأمون في داره حتى ماتوا‏.‏

انتقاض مازيار وقتله
كان مازيار بن قارن بن وندا هرمز صاحب طبرستان وكان منافراً لعبد الله بن طاهر فلا يحمـل إليـه الخـراج وقال لا أحمله إلا للمعتصم فيبعث المعتصم من يقبضه من أصحابه ويدفعه إلى وكيل عبد الله بن طاهر يرده إلى خراسان وعظمت الفتنة بين مازيار وعبد الله وعظمت سعايـة عبـد اللـه فـي مازيـار عنـد المعتصـم حتـى استوحـش منـه‏.‏ ولما ظفر الأفشين ببابك وعظم محلـه عنـد المعتصـم وطمـع فـي ولاية خراسان ظن أن انتقاض مازيار وسيلة لذلك فجعل يستميل مازيار ويحرضه على عداوة ابن طاهر وإن أدت الخلاف ليبعثه المعتصم لحربـه فيكـون ذلـك وسيلة له إلى استيلائه على خراسان ظناً بأن ابن طاهر لا ينهض لمحاربته‏.‏ فانتقض مازيار وحمل الناس على بيعته كرهاً وأخذ رهائنهم وعجل جباية الخراج فاستكثر منه وخرب سور آمد وسور سابة وقتل أهلها إلى جبل يعـرف بهرمازايارونـي سرخاشـان سورطمس منها إلى البحر على ثلاثة أميال وهي على حد جرجان وكانت تبنيه سداً بين الترك وطبرستان وجعل عليه خندقاً ومن أهل جرجان إلى نيسابور وأنفذ عبد الله بن طاهر عمه الحسن بن الحسيـن فـي جيـش كثيـف لحفـظ جرجـان فعسكـر علـى الخنـدق ثـم بعـث مولـاه حيـان بن جبلة إلى قومس فعسكر على جبال شروين‏.‏ وبعث المعتصم من بغداد محمد بن إبراهيم بن مصعب وبعث منصور بن الحسن صاحب دنباوند إلى الري وبعث أبا الساج إلى دنباوند وأحاطت العساكر بحياله من كل ناحية وداخل أصحاب الحسن بن الحسين أصحاب سرخاشان في تسليم سورهم وليس بينهما إلا عرض الخنـدق فكلمـوه وسـار الآخـرون إليه على حين غفلة من القائدين وركب الحسن بن الحسين وقد ملك أصحابه السور ودخلوا منه فهرب سرخاشان وقبضوا على أخيه شهريار فقتل ثم قبض على سرخاشان على خمسة فراسخ من معسكره وجيء به إلى الحسن بن الحسين فقتله أيضًا‏.‏ ثـم وقعـت بيـن حيان بن جبلة وبين فارق بن شهريار وهو ابن أخي مازيار ومن قواده مداخلة استمالة حيان فأجاب أن يسلم مدينة سارية إلى حـد جرجـان علـى أن يملكـوه جبـال آبائـه وبعـث حيـان إلـى ابـن طاهـر فسجـل لقـارن بمـا سـأل وكـان قـارن فـي جملـة عبد الله بن قارن أخي مازيار ومن قواده فأحضر جميعهم لطعاهه وقبض عليهم وبعث بهم إلى حيان فدخل جبال قارن في جموعه واعتصم لذلك مازيار وأشار عليه أخوه القوهيار أن يخلي سبيل من عنده من أصحابه ينزلون من الجبل إلى مواطنهم لئـلا يؤتـى مـن قبلهـم فصـرف صاحـب شرطتـه وخراجه وكاتبه حميدة فلحقوا بالسهل ووثب أهل سارية بعامله عليهم مهرستان بن شهرين فهرب ودخل حيان سارية‏.‏ ثم بعث قوهيار أخو مازيار محمد بن موسى بن حفص عامل طبرستان وكانوا قد حبسوه عند انقاضهم فبعثه إلى حيان ليأخذ له الأمان وولاية جبال آبائه على أن يسلم إليه مازيار وعـزل قوهيـار بعـض أصحابـه فـي عدولـه بالاستئمـان عـن الحسـن إلـى حيـان فرجـع إليهـم وكتبوا إلى الحسن يستدعون قوهيار من أخيه مازيار فركب من معسكره بطمس وجاء لموعدهم ولقي حيان على فرسخ فرده إلى جبال شروين التي افتتحها ووبخه على غيبته عنها فرجع سارية وتوفـي وبعـث عبـد الله مكانه محمد بن الحسين بن مصعب وعهد إليه أن لا يمنع قارن ما يريده ولما وصل الحسن إلى خرماباذ وسط جبال مازيار لقيه قاهيار هنالك واستوثق كل منهما من صاحبه وكاتب محمد بن إبراهيم بن مصعب مـن قـواد المعتصـم قوهيـار بمثـل ذلـك فركـب قاصـداً إليـه‏.‏ وبلـغ الحسـن خبـره فركـب في العسكر وحازم يسابق محمد بن إبراهيم إلى قوهيار فسبقـه ولقـي قوهيـار وقد جاء بأخيه مازيار فقض عليه وبعثه مع اثنين من قواده إلى خرماباذ ومنها إلى مدينة سارية‏.‏ ثم ركب واستقبل محمد بن إبراهيم بن مصعب وقال‏:‏ أين تريد فقال إلى المازيار‏:‏ فقال هو بسارية‏.‏ ثم حبس الحسن أخوي المازيار ورجع إلى مدينة سارية فقيد المازيار بالقيد الذي قيـد بـه محمـد بـن محمـد بـن موسـى بـن حفـص‏.‏ وجاء كتاب عبد الله بن طاهر بأن يدفع المازيار وأخويـه وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم يحملهم إلى المعتصم‏.‏ وسأل الحسن المازيار عن أمواله فذكـر أنهـا عنـد قـوم مـن وجوه سارية سماهم وأمر الحسن القوهيار بحمل هذه الأموال وسار إلى الجبـل ليحملهـا فوثـب بـه مماليـك المازيـار من الديلم وكانوا ألفاً ومائتين فقتلوه بثأر أخيه وهربوا إلى الديلم فاعترضتهم جيوش محمد بن إبراهيم وأخذوهم فبعث بهم إلى مدينة سارية‏.‏ وقيل إن الذي غدر بالمازيار ابن عم له كان يتوارث جبال طبرستان والمازيار يتوارث سهلها وكانت جبال طبرستان ثلاثة أجبل فلما انتقض واحتاج إلى الرجال دعا ابن عمه من السهل وولاه على أصعبها وظن أنه قد توثق به فكاتب هو الحسن وأطلعه على مكاتبة الأفشين لمازيار وداخله في الفتك على أن يوليه ما كان لآبائه وأن المازيار لما ولـاه الحسـن بـن سهـل طبرستان انتزع الجبل من يده فأفضى له الحسن كتاب ابن طاهر وتوثق له فيه وأوعده ليوم معلوم ركب فيه الحسن إلى الجبل فأدخله ابن عم مازيار وحاصروه حتى نزل على حكمه ويقال أخذه أسيراً في الصيـد‏.‏ ومضـى الحسـن بـه ولـم يشعـر صاحـب الجبـل الآخـر وأقـام فـي قتالـه لمـن كان بإزائه فلم يشعر إلا والعساكر من ورائه فانهزم ومضى إلى بلاد الديلم فاتبعوه وقتلوه‏.‏ ولما صـار المازيـار في يده طلبت منه كتب فشين فأحضرها وأمر ابن طاهر أن يبعث بها معه إلى المعتصم فلما وصل إلى المعتصم ضربه حتى مات وصلبه إلى جانب بابك وذلك سنة أربع وعشرين‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:31 PM

ولاية ابن السيد على الموصل
وفي سنة أربع وعشرين ولى المعتصم على الموصل عبد الله بن السيد بن أنس الأزدي وكان سبب ولايته أن رجلاً من مقدمي الأكراد يعرف بجعفر بن فهرجس كان قد عصى بأعمال الموصـل وتبعه خلق كثير من الأكراد وغيرهم وأفسدوا البلاد فبعث المعتصم لحربه عبد الله بن السيـد بـن أنـس فقاتله وغلبه على ماتعيس وأخرجه منها بعد أن كان استولى عليها ولحق بجبل دانس وامتنع بأعاليه وقاتله عبد الله وتوغل في مضايق ذلك الجبل فهزمه الأكراد وأثخنوا في أصحابـه بالقتـل وقتـل إسحـاق بـن أنـس عـم عبـد اللـه‏.‏ فبعـث المعتصـم مولاه إيتاخ في العساكر إلى الموصل سنة خمس وعشرين وقصد جبل داس فقاتـل جعفـراً وقتلـه وافتـرق أصحابـه وأوقـع بالأكراد واستباحهم وفروا أمامه إلى تكريت‏.‏

نكبة الأفشين ومقتله
كان الأفشين من أهل أشروسنة تبوأها ونشأ ببغداد عند المعتصم وعظم محلـه عنـده ولمـا حاصـر بابـك كـان يبعـث إلـى أشروسنـة بجميـع أموالـه فيكتب ابن طاهر بذلك إلى المعتصم فيأمره المعتصـم بـأن يجعـل عيونـه عليـه فـي ذلـك‏.‏ وعثـر مـرةً ابـن طاهـر علـى تلـك الأموال فأخذها وصرفها فـي العطـاء وقـال لـه حاملوهـا‏:‏ هـذا مـال الأفشيـن فقـال كذبتـم لـو كـان ذلـك لأعلمنـي أخي أفشين به وإنمـا أنتـم لصـوص وكتـب إلـى الأفشيـن بذلـك بأنـه دفـع المـال إلـى الجنـد ليوجههـم إلـى التـرك فكتـب إليـه أفشين مالي ومال أمير المؤمنين واحد وسأله في إطلاق القوم فأطلقهم واستحكمت الوحشة بينهمـا وتتابعـت السعاية فيه من طاهر وربما فهم الأفشين أن المعتصم يعزله عن خراسان فطمع في ولايتها وكان مازيار يحسن له الخلافة ليدعو المعتصم ذلك إلى عزله وولاية الأفشين لحرب مازيار‏.‏ فكـان مـن أمر مازيار ما ذكرناه وسيق إلى بغداد مقيداً وولى المعتصم الأفشين على أذربيجان فولى عليها من قبله منكجور من بعض قرابته فاستولى على مال عظيم لبابك وكتـب بـه صاحـب البريـد إلـى المعتصـم فكذبـه منكجـور وهم بقتله فمنعه أهل أردبيل فقاتلهم‏.‏ وسمع ذلك المعتصـم فأمـر الأفشيـن بعـزل منكجـور وبعث قائداً في عسكره مكانه فخلع منكجور وخرج من أردبيل فهزمه القائد ولحق ببعض حصور أذربيجان كان بابك خربه فأصلحـه وتحصـن فيـه شهراً ثم وثب فيه أصحابه وأسلموه إلى القائد فقدم به إلى سامرا فحبسه المعتصم واتهم الأفشين في أمره وذلك سنة خمس وعشرين ومائتين بأن القائد كان بغا الكبير وأنه خرج إليه بالأمان اه‏.‏ ولما أحس الأفشين بتغير المعتصم أجمع أمره على الفرار واللحاق بأرمينية وكانت في ولايته ويخرج منها إلى بلاد الخزر ويرجع إلى بلاد أشروسنة وصعب عليه ذلك بمباشرة المعتصم أمره وعرض له في أثناء ذلك غضب على بعض مواليه وكان سيء الملكة فأيقن مولـاه بالهلكـة وجاء إلى إتياخ فأحضره إلى المعتصم وخبره الخبر فأمره بإحضاره وحبسه بالجوثق وكان ابنه الحسن عاملاً على بعض ما وراء النهر‏.‏ فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال عليـه وكـان يشكـو مـن نـوح بـن أسـد صاحب بخارى‏.‏ فكتب ابن طاهر إلى الحسن بولاية بخارى وكتـب إلـى نـوح بذلـك وأن يستوثـق منـه إذا وصـل إليـه ويبعـث بـه ثـم يبعـث بـه إلـى ابـن طاهـر ثم إلى المعتصم‏.‏ ثم أمر المعتصم بإحضار الأفشين ومناظرته فيما قيل عنه فأحضر عند الوزير محمد بن عبد الملـك بـن الزيـات وعنـده القاضـي أحمد بن أبي دؤاد وإسحاق بن إبراهيم وجماعة القواد والأعيان وأحضر المازيار من محبسه والمؤيد والمرزبان بن تركش أحد ملوك الصغد ورجلان من أهل الصغد يدعيان أن الأفشين ضربهما وهما إمام ومؤذن بمسجد‏.‏ فكشفا عن ظهورهما وهما عاريان من اللحم فقال ابن الزيات للأفشين‏:‏ ما بال هذين قال عهدا إلى معاهدين فوثبا على بيت أصنامهم فكسراها واتخذا البيت مسجداً فعاقبتهما على ذلك‏.‏ وقال ابن الزيات‏:‏ ما بال الكتـاب المحلـى بالذهـب والجوهـر عندك وفيه الكفر قال كتاب ورثته من آبائي وأوصوني بما فيه من آدابهم فكنت آخذها منه وأترك كفرهم ولم أحتج إلى نزع حليته وما ظننت أن مثل هذا ثم قال المؤيد إنه يأكل لحم المنخنقة ويحملني على أكلها ويقول هو أرطب من لحم المذبوحة‏.‏ ولقـد قـال لـي يومـاً حملـت علـى كـل مكـروه لـي حتى أكلت الزيت وركبت الجمل ولبست النعل إلى هذه الغاية لم أختتـن ولـم تسقـط عنـي شعـرة العانـة‏.‏ فقـال الأفشيـن‏:‏ أثقـة هـذا عندكـم فـي دينـه وكـان مجوسياً قالوا‏:‏ لا قال فكيف تقبلونه علي‏.‏ ثم قال للمؤيد أنت ذكرت أني أسررت إليك ذلك فلست بثقة فـي دينـك ولا بكريـم فـي عهـدك ثـم قـال لـه المرزبـان‏:‏ كيـف يكاتبـك أهـل أشروسنـة قـال‏:‏ مـا أدري قـال‏:‏ أليـس يكاتبونـك بمـا تفسـره بالعربـي‏:‏ إلـى إلـه الآلهـة مـن عبـده فلان قال‏:‏ بلى فقال ابن الزيات‏:‏ فما أبقيت لفرعون قال‏:‏ هذه عادة منهم لأبي وجدي ولي قبل الإسلام ولو منعتهم فسدت علي طاعتهم‏.‏ ثـم قـال لـه أنـت كاتبـت هـذا وأشـار إلـى المازيـار‏.‏ كتب أخوه إلى أخي قوهيار أنه لن ينصر هذا الدين غيري وغيرك وغير بابك فأما بابك قد قتل نفسه بجمعه ولقد عهدت أن أمنعه فأبى إلا خنقه وأنت إن خالفت لم يرمك القوم بغيري ومعي أهل النجدة وإن توجهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلا العرب والمغاربة والترك والعربـي كلـب تناولـه لقمـة وتضـرب رأسـه والمغاربـة أكلـة رأس والأتـراك لهم صدمة ثم تجول الخيل جولة فتأتي عليهم ويعود هذا الدين إلى ما كان عليه أيام العجم‏.‏ فقـال الأفشيـن هـذا يدعـي أن أخـي كتـب إلـى أخيـه فمـا يجـب علـي ولـو كتـب فأنا أستميله مكراً به لأحظى عند الخليفة كما حظي به ابن طاهر فزجره ابن أبي دؤاد فقال له الأفشين‏:‏ ترفع طيلسانك فلا تضعه حتى تقتل جماعة فقال‏:‏ أمتطهر أنت قال لا قال فما يمنعك وهو شعار الإسلام قال خشيت على نفسي من قطعة قال فكيف وأنت تلقى الرماح والسيوف قال تلك ضرورة أصبر عليها وهذا أستجلبه‏.‏ فقال ابن أبي دؤاد لبغا الكبير‏:‏ قد بان لكم أمره يا بغا عليك به فدفعه بيديه ورده إلى محبسه وضرب مازيار أربعمائة سوط فمات منهـا وطلـب أفشيـن مـن المعتصـم أن ينفـذ إليـه مـن يثق به فبعث حمدون بن إسماعيل فاعتذر له عن جميع ما قيـل فيـه وحمـل إلـى دار إيتـاخ فقتـل بهـا وصلـب علـى بـاب العامـة ثـم أحرق‏.‏ وذلك في شعبان من سنة ست وعشرين وقيل قطع عنه الطعام والشراب حتى مات‏.‏

ظهور المبرقع
كان هذا المبرقع يعرف بأبي حرب اليماني وكان بفلسطين وأراد بعض الجند النزول في داره فمنعه بعض النساء فضربها الجندي وجاءت فشكت إليه بفعل الجندي فسار إليه وقتله ثم هرب إلى جبال الأردن فأقام بها واختفى يبرقع على وجهه‏.‏ وصار يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعيب الخليفة ويزعم أنه أموي واجتمع له قوم من تلك الناحية وقالوا هو السفياني‏.‏ ثم أجابه جماعة من رؤساء اليمانية منهم ابن بهيس وكان مطاعاً في قومه وغيره فاجتمع له مائة ألـف وسـرح المعتصـم رجـاء بن أيوب في ألف من الجند فخام عن لقائه لكثرة من معه وعسكر قبالته ينتظر أوان الزراعـة وانصـراف النـاس عنـه لأعمالهـم‏.‏ وبينمـا هـم فـي الانصـراف توفـي المعتصـم وثارت الفتنة بدمشق فأمره الواثق بقتل من أثار الفتنة والعود إلى المبرقع ففعل وقاتله فأخذه أسيراً وابن بهيس معه وقتل من أصحابه عشرين ألفاً وحمله وذلك سنة سبع وعشرن ومائتين‏.‏

وفاة المعتصم وبيعة الواثق
وتوفـي المعتصـم أبـو إسحـاق محمـد بـن المأمـون بـن الرشيـد منتصف ربيع الأول سنة سبع وعشرين لثمـان سنيـن وثمانيـة أشهـر مـن خلافتـه وبويـع ابنـه هارون الواثق صبيحته وتكنى أبا جعفر‏.‏ فثار أهل دمشق بأميرهم وحاصروه وعسكروا بمرج واسط وكان رجاء بن أيوب بالرملة في قتال المبرقع فرجع إليهم بأمر الواثق فقاتلهم وهزمهم وأثخن فيهم وقتل منهم نحو من ألف وخمسمائة ومـن أصحابـه نحـو ثلاثمائة وصلح أمر دمشق ورجع رجاء إلى قتال المبرقع حتى جاء به أسيراً بيعـة الواثـق توجه أشناس ووشحه وكان للواثق سمر يجلسون عنده ويفيضون في الأخبار حتى أخبروه عن شأن البرامكة واستبدادهم على الرشيد واحتجابهم الأموال فأغراه ذلك بمصادرة الكتاب فحبسهم وألزمهم الأموال‏.‏ فأخـذ مـن أحمـد بـن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن ضربه ومن سليمان بن وهب كاتب إيتاخ أربعمائة ألف ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألفاً ومن إبراهيم بن رباح وكاتبه مائة ألف ومن أبي الوزر مائة وأربعين ألفاً وكان على اليمن إيتاخ وولاه عليها المعتصم بعدما عزل جعفر وسخطه وحبسه ثم رضي عنه وأطلقه فلما ولي الواثق ولى إيتاخ على اليمن من قبله سار بأميـان فسـار إليهـا وكـان الحـرس إسحـاق بـن يحيـى بـن معـاذ ولـاه المعتصـم بعـد عـزل الأفشين‏.‏ وولى الواثق على المدينة سنة إحدى وعشرين محمد بن صالح بن العباس وبقي محمد بن داود على مكـة وتوفـي عبـد اللـه بـن طاهـر سنـة ثلاثين وكان على خراسان وكرمان وطبرستان والري وكان له الحرب والشرطة والسواد فولى الواثق على أعماله كلها ابنه طاهراً‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:32 PM

وقعة بغا في الأعراب
كان بنو سليم يفسدون بنواحي المدينة ويتسلطون على الناس في أموالهم وأوقعوا بناس من كنانة وباهلة وبعث محمد بن صالح إليهم مسلحة المدينة ومعهم متطوعة من قريش والأنصار فهزمهم بنو سليم وقتلوا عامتهم وأحرقوا لباسهم وسلاحهم وكراعهم ونهبوا القرى ما بين مكة والمدينة وانقطع الطريق فبعث الواثق بغا الكبير وقدم المدينة في شعبان فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم خمسين رجلاً وأسر مثلها واستأمنوا له على حكم الواثق فقبض على ألف منهم ممن يعـرف بالفسـاد فحبسهـم بالمدينـة وذلـك سنـة ثلاثيـن‏.‏ ثم حج وسار إلى ذات عرق وعرض على بني هلال مثل بني سليم فأخذ من المفسدين منهم نحو ثلثمائة رجل وحبسهم بالمدينة وأطلق الباقين‏.‏ ثـم خـرج بغـا إلـى بنـي مـرة فنقـب أولئـك الأسـرى الحبس وقتلوا الموكلين فاجتمع عليهم أهل المدينة ليـلاً ومنعوهـم مـن الخـروج فقاتلوهـم إلـى الصبـح ثـم قتلوهـم وشـق ذلـك علـى بغـا وكان سبب غيبته أن فـزارة وبنـي مـرة تغلبـوا علـى فـدك فخـرج إليهـم وقـدم رجـلاً مـن قـواده يعـرض عليهم الأمان فهربوا مـن سطوتـه إلـى الشـام واتبعهـم إلـى تخوم الحجاز من الشام وأقام أربعين ليلة ثم رجع إلى المدينة بمن ظفر منهم‏.‏ وجـاءه قـوم مـن بطون غفار وفزارة وأشجع وثعلبة فاستخلفهم على الطاعة‏.‏ ثم سار إلى بني كلاب فأتوه في ثلاثة آلاف رجل فحبس أهل الفساد منهم ألفاً بالمدينة وأطلق الباقين وأمره الواثـق سنـة اثنتيـن وثلاثيـن بالمسيـر إلـى بنـي نميـر باليمامـة ومـا قـرب منهـا لقطـع فسادهـم فسار إليهم ولقـي جماعـة الشريـف منهـم فحاربهـم وقتـل منهـم خمسين وأسر أربعين‏.‏ ثم سار إلى مرة وبعث إليهـم فـي الطاعـة فامتنعـوا وسـاروا إلـى جبـال السنـد وطـف اليمامـة وبعـث سراياهـم فأوقع بهم في كل ناحية‏.‏ ثم سار إليهم في ألف رجل فلقيهم قريباً من أضاخ فكشفوا مقدمته وميسرته وأثخنوا في عسكره بالقتل والنهب‏.‏ ثم ساروا تحت الليل وهو في أتباعهم يدعوهم إلى الطاعة وبعث طائفة من جنده يدعون بعضهم وأصبح وهو في قلة فحملوا عليه وهزموه إلى معسكره وإذا بالطائفة الذين بعثهم قد جـاؤوا من وجهتهم فلما رآهم بنو نمير من خلفهم ولوا منهزمين وأسلموا رجالهم وأموالهم ونجوا على خيلهم ولم يفلت من رجالتهم أحد وقتل منهم نحو ألف وخمسمائة وأقام بمكان الوقعة واستأمن له أمراؤهم فقيدهم وحبسهم بالبصرة‏.‏ وقدم عليهم واجن الأشروسني في سبعمائة مقاتـل مـدداً فبعثـه إلـى أتباعهـم إلـى أن بلغ تبالة من أعمال اليمن ورجع وسار بغا إلى بغداد بمن معـه منهـم وكانـوا نحـو ألفـي رجـل ومائتي رجل وكتب إلى صالح أمير المدينة أن يوافيه ببغداد من عنده منهم فجاء بهم وسلموا جميعاً‏.‏

مقتل أحمد بن نصر
وهو أحمد بن مالك وهو أحد النقباء كما تقدم وكان أحمد هذا نسيبة لأهل الحديث ويغشاه جماعـة منهـم مثـل ابـن حصيـن وابـن الدورقـي وأبـي زهير ولقن منهم النكير على الواثق بقوله بخلق القـرآن‏.‏ ثـم تعـدى ذلـك إلـى الشتـم وكـان ينعته بالخنزير والكافر وفشا ذلك عنه‏.‏ وانتدب رجلان ممن كان يغشاه‏:‏ هما أبو هارون السراج وطالب وغيرهما فدعوا الناس له وبايعه خلق على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفرقوا الأموال في الناس ديناراً لكل رجل وأنفذوا لثلاث تمضي من شعبان من سنة إحدى وثلاثين يظهرون فيها دعوتهم‏.‏ واتفق أن رجالاً ممن بايعهم من بني الأشرس جاؤوا قبل الموعد بليلة وقد نال منهم السكر فضربوا الطبل وصاحب الشرطة إسحاق بن إبراهيم غائب فارتاع خليفته محمد أخوه فأرسل من يسأل عن ذلك فلم يوجد أحد وأتوه برجل أعور اسمه عيسى وجدوه في الحمام فدلهم علـى بنـي الأشـرس وعلـى أحمـد بـن نصـر وعلـى أبـي هـارون وطالـب ثـم سيـق خـادم أحمد بن نصر فذكر القصة فقبض عليه وبعث بهم جميعاً إلى الواثق بسامرا مقيدين وجلس لهم مجلساً عاماً وحضر فيه أحمد بن أبي دؤاد ولم يسأله الواثق عن خروجه وإنما سأله عن خلق القرآن فقال‏:‏ هو كلام الله‏.‏ ثم سأله عن الرؤية فقال‏:‏ جاءت بها الأخبار الصحيحة ونصيحتي أن لا يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأل الواثق العلماء حوله عن أمره فقال عبد الرحمـن بـن إسحـاق قاضـي الجانـب الغربي‏:‏ هو حلال الدم وقال ابن أبي دؤاد‏:‏ هو كافر يستتاب فدعـا الواثـق بالصمصامـة فانتضاهـا ومشـى إليـه فضربـه على حبل عاتقه ثم على رأسه ثم وخزه في بطنه ثم أجهز سيما الدمشقي عليه وحزوا رأسه ونصب ببغداد وصلب شلوه عند بابها‏.‏

الفداء والصائفة
وفي سنة إحـدى وثلاثيـن عقـد الواثـق لأحمـد بـن سعيـد بـن مسلـم بـن قتيبة على الثغور والعواصم وأمره بحضور الفداء هو وجانمان الخادم وأمرهما أن تمتحن الأسرى باعتقاد القـرآن والرؤيـة‏.‏ وجاء الروم بأسراهم والمسلمون كذلك والتقوا على نهر اللامس على مرحلة من طرطوس وكان عدة أسرى المسلمين أربعة آلاف وأربعة وستين والنساء والصبيان ثمانمائة وأهل الذمة مائة‏.‏ فلمـا فرغـوا مـن الفـداء غـزا أحمـد بـن سعيـد بـن مسلـم شاتيـاً وأصـاب النـاس ثلج ومطر وهلك منهم مائة نفس وأسر منهم نحوها وخرق بالنبل قرون خلق ولقيه بطريق من الروم فخام عن لقائه ثم غنم ورجع فعزله الواثق وولى مكانه نصر بن حمزة الخزاعي‏.‏

وفاة الواثق وبيعة المتوكل
وتوفـي الواثـق أبـو جعفـر هـارون بـن المعتصـم محمـد لسـت بقيـن مـن سنـة اثنتيـن وثلاثين وكانت علته الاستسقـاء وأدخـل فـي تنـور مسجـر فلقـي خفـة ثـم عـاوده فـي اليـوم الثانـي أكثـر مـن الـأول فأخـرج فـي محفـة فمـات فيهـا ولـم يشعـروا بـه‏.‏ وقيـل إن ابـن أبـي دؤاد غمضـه ومات لخمس سنين وتسعة أشهر من خلافته‏.‏ وحضر في الدار أحمد بن أبي دؤاد وإيتاخ ووصيف وعمر بن فرح وابن الزيات وأراد البيعـة لمحمد بن واثق وهو غلام إمر فألبسوه فإذا هو قصير فقال وصيف‏:‏ أما تتقون الله تولون الخلافة مثل هذا ثم تناظروا فيمن يولونه وأحضروا المتوكل فألبسه ابن أبي دؤاد الطويلة وعممه وسلم عليه بإمارة المؤمنين ولقبه المتوكل وصلى على الواثق ودفنه‏.‏ ثم وضع العطاء للجنـد لثمانيـة أشهـر وولـى علـى بلـاد فـارس إبراهيـم بـن محمـد بن مصعب وكان على الموصل غانم بـن محمـد الطويـس فأقـره وعـزل ابن العباس محمد بن صول عن ديوان النفقات وعقد لابنه المنتصر على الحرمين واليمن والطائف‏.‏

نكبة الوزير ابن الزيات ومهلكه
كـان محمـد بـن عبد الملك بن الزيات قد استوزره الواثق فاستمكن من دولته وغلب على هؤلاء وكان لا يحفل بالمتوكل ولا يوجب حقه وغضب الواثق عليه مرة فجاء إلى ابن الزيات ليستنزله فأساء معاملته في التحية والملاقاة فقال‏:‏ اذهب فإنك إذا صلحت رضي عنك‏.‏ وقام عنه حزيناً فجاء إلى القاضي أحمد بن دؤاد فلم يدع شيئاً من البر إلا فعله وحياه وفداه وخطب حاجتـه فقـال‏:‏ أحب أن ترضي عني أمير المؤمنين فقال‏:‏ أفعل ونعمة عين ولم يزل بالواثق حتى رضي عنه‏.‏ وكان ابن الزيات كتب إلى الواثق عندما خرج عنه المتوكل أن جعفر أتاني فسأل الرضا عنه وله وفرة شبه زي المخنثين فأمره الواثق أن يحضره من شعر قفاه فاستحضره فجاء يظن الرضا عنه وأمر حجاماً أخذ من شعره وضرب به وجهه فحقد له ذلك وأساء له‏.‏ ولمـا ولـي الخلافة بقي شهراً ثم أمر إيتاخ أن يقبض عليه ويقيده بداره ويصادره وذلك في صفر سنة ثلاث وثلاثين فصادره واستصفى أمواله وأملاكه وسلط عليه أنواع العذاب ثم جعله في تنور خشب في داخله مسامير تمنع من الحركة وتزعج من فيه لضيقه ثم مات منتصف ربيع الأول وقيل‏:‏ إنه مات من الضرب وكان لا يزيد على التشهد وذكر الله‏.‏ وكان عمر بن الفرج الرخجي يعامل المتوكل بمثل ذلك فحقد له ولما استخلف قبض عليه في رمضان واستصفى أمواله ثم صودر على أحد عشر ألف ألف‏.‏

نكبة إيتاخ ومقتله
كان إيتاخ مولى السلام الأبرص وكان عنده ناخورياً طباخاً وكان شجاعاً فاشتراه المعتصم منه سنة تسع وتسعين وارتفع في دولته ودولة الواثق ابنه وكان له المؤنة بسامرا مع إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وكانت نكبة العظماء في الدولة علـى يديـه وحبسهـم بـداره مثـل أولـاد المأمون وابن الزيات وصالح وعجيف وعمر بن الفـرج وابـن الجنيـد وأمثالهـم وكـان لـه البريـد والحجابة والجيش والمغاربة والأتراك‏.‏ وشرب ذات ليلة مع المتوكل فعربد على إيتاخ وهم إيتاخ بقتلـه ثـم غـدا عليـه فاعتـذر لـه ودس عليه من زين له الحج فاستأذن المتوكل فأذن له وخلع عليه وجعله أمير كل بلد يمر به‏.‏ وسـار لذلـك فـي ذي القعـدة سنـة أربـع وثلاثين أو ثلاث وثلاثين وسار العسكر بين يديه وجعلت الحجابة إلى وصيف الخادم ولما عاد إيتاخ من الحج بعث إليه المتوكل بالهدايا والألطاف وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره بحبسه‏.‏ فلما قارب بغداد كتب إليه إسحاق بأن المتوكل أمر أن يدخل بغداد وأن تلقاه بنو هاشم ووجوه الناس وأن يقعد بدار خزيمة بن خازم فيأمر للناس بالجوائز على قدر طبقاتهم ففعل ذلك ووقف إسحاق على بـاب الـدار فمنـع أصحابـه مـن الدخـول إليه ووكل بالأبواب ثم قبض على ولديه منصور مظفر وكاتبيه سليمان بن وهـب وقدامـة بن زياد وبعث إيتاخ إليه يسأله الرفق بالولدين ففعل ولم يزل إيتاخ مقيداً بالسجن إلى أن مات فقيل‏:‏ إنهم منعوه الماء وبقي ابناه محبوسين إلى أن أطلقهما المنتصر بعد المتوكل‏.‏ كان محمد بن البغيث بن الحليس ممتنعاً في حصونه بأذربيجان وأعظمها مرند واستنزل من حصنـه أيـام المتوكـل وحبـس بسامـرا فهـرب مـن حبسـه ولحـق بمرنـد وقيـل‏:‏ إنـه في حبس إسحاق بن إبراهيـم بـن مصعـب وشفـع فيـه بغـا الشرابـي فأطلقـه إسحـاق فـي كفالة محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني وكان يتردد إلى سامرا حتى مرض المتوكل ففر ولحق بمرند وشحنها بالأقوات وجـاءه أهـل الفتنـة مـن ربيعـة وغيرهـم فاجتمـع لـه نحو ألفين ومائتي رجل والوالي بأذربيجان يومئذ محمد بن حاتم بن هرثمة فلم يقامعه فعزله المتوكل وولى حمدويه بن علي بن الفضل السعدي فسار إليه وحاصره بمرند مدة وبعث إليه المتوكل بالمدد وطال الحصار فلم يقن فيه فبعث بغا الشرابي في ألفي فارس فجاء لحصاره‏.‏ وبعث إليه عيسى بن الشيخ بن السلسل بالأمان له ولوجوه أصحابه أن ينزلوا على حكم المتوكل فنزل الكثير منهم وانفض جمعه ولحق ببغا وخرج هو هارباً ونهبت منازله وأسرت نساؤه وبناته‏.‏ ثم أدرك بطريقه وأتي به أسيراً وبأخويه صقر وخالـد وأبنائـه حليـس وصقـر والبغيث وجاء بهم بغا إلى بغداد وحملهم على الحجال يوم قدومه حتـى رآهـم النـاس وحبسـوا‏.‏ ومـات البغيـث لشهـر مـن وصولـه سنة خمس وثلاثين وجعل بنوه في الشاكرية مع عبد الله بن يحيى خاقان‏.‏

وفي سنة خمـس وثلاثيـن ومائتيـن
عقـد المتوكل البيعة والعهد وكانوا ثلاثة محمداً وطلحة وإبراهيم ويقـال فـي طلحـة ابـن الزبيـر وجعـل محمداً أولهم ولقبه المستنصر وأقطعه أفريقية والمغرب وقنسرين والثغور الشامية والخزرية وديـار مضـر وديـار ربيعـة وهيـت والموصـل وغانـة والخابـور وكـور دجلة والسواد والخرمين وحضرموت والحرمين والسند ومكران وقندابيل وكور الأهواز والمستغلات بسامرا وماء الكوفة وماء البصرة‏.‏ وجعـل طلحة ثانيهم ولقبه المعتز وأقطعه أعمال خراسان وطبرستان والري وأرمينية وأذربيجان وأعمـال فـارس‏.‏ ثـم أضـاف إليـه سنـة أربعيـن خـزن الأمـوال ودور الضـرب في جميع الآفاق وأمر أن يرسم اسمه في السكة‏.‏ وجعـل الثالـث إبراهيـم وأقطعـه حمـص ودمشـق وفلسطيـن وسائـر الأعمـال الشاميـة‏.‏ وفي هذه السنة أمـر الجنـد بتغييـر الـزي فلبسـوا الطيالسـة العسليـة وشدوا الزنانير في أوساطهم وجعلوا الطراز في لباس المماليك ومنع من لباس المناطق وأمر بهدم البيع المحدثة لأهل الذمة ونهـى أن يستغـاث بهـم فـي الأعمـال وأن يظهروا في شعابهم الصلبان وأمر أن يجعل على أبوابهم صور شياطين من الخشب‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:34 PM

ذكر محمد بن إبراهيم
كـان محمـد بن إبراهيم بن الحسن بن مصعب على بلاد فارس وهو ابن أخي طاهر وكان أخوه إسحاق بن إبراهيم صاحب الشرطة ببغداد منذ أيام المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل وكان ابنه محمد بباب الخليفة بسامرا نائباً عنه‏.‏ فلما مات إسحاق سنة خمس وثلاثين ولاه المتوكل وضـم إليـه أعمال أبيه واستخلفه المعتز على اليمامة والبحرين ومكة وحمل إلى المتوكل وبنيه من الجواهـر والذخائـر كثيـراً وبلغ ذلك محمد بن إبراهيم فتنكر للخليفة ولمحمد ابن أخيه وشكا ذلك محمد إلى المتوكل فسرحه إلى فارس وولاه مكان عمه محمد فسار وعزل عمه محمداً وولى مكانه ابن عمه الحسين بن إسماعيل بن مصعب وأمره بقتل عمه محمد فأطعمه ومنعه الشراب فمات‏.‏

انتقاض أهل أرمينية
كان على أرمينية يوسف بن محمد فجاءه البطريق بقراط بن أسواط وهو بطريق البطارقة يستأمن فقبض عليه وعلى ابنه وبعث بهما إلى المتوكل فاجتمع بطارقة أرمينية مع ابن أخيه وصهره موسى بن زرارة وتحالفوا على قتله وحاصروه بمدينة طرون في رمضان سنة سبع وثلاثيـن وخـرج لقتالهـم فقتلـوه ومـن كـان معـه‏.‏ فسـرح المتوكل بغا الكبير فسار إلى الموصل والجزيرة وأناخ على أردن حتى أخذها وحمل موسى وأخوته إلى المتوكل وقتل منهم ثلاثين ألفاً وسبى خلقاً وسار إلى مدينة دبيل فأقام بها شهراً ثم سار إلى تفليس فحاصرها وبعث في مقدمته بزرك التركي وكان بتفليس إسحاق بـن إسماعيل بن إسحاق مولى بني أمية فخرج وقاتلهم وكانت المدينة كلها مشيدة مـن خشـب الصنوبـر فأمـر بغـا أن يرمـي عليهـا بالنفـط فاضطرمـت النـار فـي الخشـب واحترقـت قصور إسحاق وجواريه وخمسون ألف إنسـان وأسـر الباقـون وأحاطـت الأتـراك والمغاربـة بإسحـاق فأسروه وقتله بغا لوقته ونجا أهل إسحاق بأمواله إلى صعدنيل مدينة حذاء تفليس على نهر الكرمن من شرقيه بناها أنوشروان وحصنها إسحاق وجعل أمواله فيهـا فاستباحهـا بغـا ثـم بعث الجند إلى قلعـة أخـرى بيـن بردعـة وتفليـس ففتحوهـا وأسـروا بطريقهـا‏.‏ ثـم سـار إلـى عيسـى بـن يوسف في قلعة كيس من كور البيلقان ففتحها وأسره وحمل معه جماعة من البطارقة وذلك سنة ثمان وثلاثين ومائتين‏.‏

عزل ابن أبي دؤاد وولاية ابن أكثم
وفي سنة سبع وثلاثين غضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد وقبض ضياعه وحبس أولاده فحمـل أبـو الوليـد منهـم مائـة وعشريـن ألف دينار وجواهر تساوي عشرين ألفاً ثم صولح عن ستة عشر ألف آلف درهم وأشهد عليهم ببيع أملاكهم وفلح أحمد فأحضر المتوكل يحيى بن أكثم وولـاه قضـاء القضـاة وولـى أبـا الوليـد بـن أبـي دؤاد المظالـم ثـم عزلـه‏.‏ وولـى أبـا الربيـع محمد بن يعقوب ثـم عزلـه وولى يحيى بن أكثم على المظالم ثم عزله سنة أربعين وصادره على خمسة وسبعين ألف دينار وأربعة آلاف حربو وولى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علـي‏.‏ وتوفـي فـي هـذه السنـة أحمـد بن أبي دؤاد بعد ابنه أبي الوليد بعشرين يوماً وكان معتزلياً أخذ مذهبهم عن بشر المريسي وأخذه بشر عن جهم بن صفوان وأخذه جهم عن الجعد بن دهم معلم مروان‏.‏

انتقاض أهل حمص
وفي سنة سبـع وثلاثيـن وثـب أهـل حمـص بعاملهـم أبـي المغيـث موسـى بـن إبراهيـم الرافقـي بسبـب أنـه قتـل بعـض رؤسائهم فأخرجوه وقتلوا من أصحابه فولى مكانه محمد بن عبدويه الأنباري فأساء إليهـم وعسـف فيهـم فوثبـوا بـه وأمره المتوكل بجند من دمشق والرملة فظفر بهم وقتل منهم جماعة وأخرج النصارى منها وهدم كنائسهم وأدخل منها بيعة في الجامع كانت تجاوره‏.‏ كانـت الهدنـة بين أهل مصر والبجاة من لدن الفتح وكان في بلادهم معادن الذهب يؤدون منها الخمس إلى أهل مصر فامتنعوا أيام المتوكل وقتلوا من وجدوه مـن المسلميـن بالمعـادن وكتـب صاحـب البريـد بذلـك إلـى المتوكـل فشـاور النـاس فـي غزوهـم فأخبروه أنهم أهل إبل وشاء وأن بين بلادهـم وبلـاد المسلميـن مسيـرة شهـر ولا بـد فيهـا مـن الـزاد وإن فنيـت الأزواد هلك العسكر فأمسك عنهـم‏.‏ وخـاف أهـل الصغـد مـن شرهـم فولـى المتوكـل محمـد بـن عبد الله القمي على أسوان وقفط والأقصر وأسنا وأرمنت وأمره بحرب البجاة‏.‏ وكتـب إلـى عنبسـة بـن إسحـاق الضبـي عامـل مصـر بتجهيـز العساكـر معه وأزاحه عليهم فسار في عشرين ألفاً من الجند والمتطوعة وحملت المراكب من القلزم بالدقيق والتمر والأدم إلى سواحل بلاد البجاة وانتهى إلى حصونهم وقلاعهم‏.‏ وزحف إليه ملكهم اسمه علي بابا في إضعاف عساكرهم على المهارى وطاولهم علي بابا رجاء أن تفنى أزوادهم فجاءت المراكب وفرقها القمـي فـي أصحابـه فناجزهـم البجـاة الحرب وكانت إبلهم نفورة فأمر القمي جنده باتخاذ الأجراس بخيلهم‏.‏ ثم حملوا عليهم فانهزموا أثخن فيهم قتلاً وأسراً حتى استأمنوا على أداء الخراج لما سلف ولما يأتي وأن يرد إلى مملكته وسار مع القمي إلى المتوكل واستخلف ابنه فخلع القمي عليـه وعلـى أصحابـه وكسـا أرجلهـم الجلـال المديحـة وولاهم طريق ما بين مصر ومكة وولى عليهم الصوائف

وفي سنة ثمـان وثلاثيـن
ورد علـى دميـاط أسطـول الـروم فـي مائـة مركـب فكبسوها وكانت المسلحة الذين بها قد ذهبوا إلى مصر باستدعاء صاحب المعونة عنبسة بن إسحاق الضبي فانتهزوا الفرصـة فـي مغيبهـم وانتهبـوا دمياط وأحرقوا الجامع بها وأوقروا سفنهم سبياً ومتاعاً وذهبوا إلى تنيس ففعلوا فيها مثل ذلك وأقطعوا‏.‏ وغزا بالصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرميني صاحب الصوائف

وفي سنة إحدى وأربعين
كان الفداء بين الروم وبين المسلمين وكان ندورة ملكـة الـروم قـد حملـت أسـرى المسلميـن علـى التنصر فتنصر الكبير منهم‏.‏ ثم طلبت المفاداة فيمن بقي فبعث المتوكل سيفًا الخادم بالفداء ومعه قاضي بغداد جعفر بن عبد الواحد واستخلف علـى القضـاء ابـن أبـي الشوارب وكان الفداء على نهر اللامس‏.‏ ثم أغارت الروم بعد ذلك على روبة فأسروا من كان هنالك من الزط وسبوا نساءهم وأولادهم‏.‏ ولما رجع علي بن يحيى الأرمينـي مـن الصائفـة خرجـت الـروم فـي ناحيـة سمسيـاط فانتهـوا إلى آمد واكتسحوا نواحي الثغور والخزريـة نهبـاً وأسـروا نحـواً مـن عشـرة آلاف ورجعوا وأتبعهم فرشاش وعمر بن عبد الأقطع وقوم من المتطوعة فلم يدركوهم وأمر المتوكل علي بن يحيى أن يدخل بالثانية في تلك السنة ففعل‏.‏

وفي سنة أربـع وأربعيـن
جـاء المتوكـل مـن بغـداد إلـى دمشـق وقد اجتمع نزولها ونقل الكرسي إليها فأقام بها شهرين ثم استوبأها ورجع بعد أن بعث بغا الكبير في العساكر للصائفة فدخل بلاد الـروم فدوخهـا واكتسحهـا من سائر النواحي ورجع

وفي سنة خمس وأربعين
أغارت الروم على سميساط فغنموا وغزا علي بن يحيى الأرميني بالصائفة كركرة وانتقض أهلها على بطريقهـم فقبضـوا عليـه وسلمـوه إلـى بعـض موالـي المتوكـل فأطلـق ملـك الروم في فداء البطريق ألف أسير من المسلميـن‏.‏

وفي سنة سـت وأربعيـن
غـزا عمـر بن عبد الله الأقطع بالصائفة فجاؤوا بأربعة آلاف رأس وغزا قرقاش فجاء بخمسة آلاف رأس وغزا الفضل بن قاران في الأسطول بعشرين مركباً فافتتـح حصن أنطاكية وغزا ملكها دورهم وسبا وغزا علي بن يحيى فجاء بخمسة آلاف رأس ومن الظهر بعشرة آلاف وكان على يده في تلك السنة الفداء في ألفين وثلثمائة من الأسرى‏.‏ الولايات في النواحي ولـى المتوكـل سنـة اثنتيـن على بلاد فارس محمد بن إبراهيم بن مصعب وكان على الموصل غانم بـن حميـد الطوسـي واستـوزر لـأول خلافتـه محمـد بـن عبـد اللـه بـن الزيـات‏.‏ وولى على ديوان الخراج يحيى بن خاقان الخراساني مولى الأزدي وعزل الفضل بن مروان‏.‏ وولى على ديوان النفقات إبراهيم بـن محمـد بـن حتـول‏.‏ وولـى سنـة ثلـاث وثلاثيـن علـى الحرميـن واليمـن والطائـف ابنـه المستنصـر وعـزل محمـد بـن عيسـى‏.‏ وولى على حجابة بابه وصيفاً الخادم عندما سار إيتاخ للحج‏.‏

وفي سنة خمس وثلاثين
عهـد لأولـاده كمـا مـر وولـى علـى الشرطـة ببغـداد إسحـاق بـن إبراهيـم بـن الحسيـن بـن مصعـب مكـان ابنـه إبراهيـم عندمـا توفـي وكانـت وفاتـه ووفـاة الحسـن بـن سهـل فـي سنـة واحـدة‏.‏

وفي سنة سـت وثلاثيـن
استكتـب عبيـد اللـه بـن يحيـى بـن خاقـان ثـم استـوزره بعـد ذلـك وولـى علـى أرمينية وأذربيجان حرباً وخراجاً يوسف بن أبي سعيد محمد بن يوسف المروروذي عندما توفي أبوه فجاءه فسار إليها وضبطها وأساء إلى البطارقة بالناحية فوثبوا به كما مر وقتلوه‏.‏ وبعـث المتوكـل بغـا الكبيـر فـي العساكـر فأخـذ ثـأره منهـم وولى معادن السواد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيـم‏.‏

وفي سنة تسـع وثلاثيـن
عـزل ابـن أبـي دؤاد عـن القضـاء وصـادره وولـى مكانـه يحيـى بـن أكثم‏.‏ وقدم محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان فولاه الشرطة والجزية وأعمال السواد وكان على مكة علي بن عيسى بن جعفر بن المنصور فحج بالناس ثم ولى مكانه في السنة القابلة عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى‏.‏ وولى على الأحداث بطريق مكة والمواسـم جعفـر بـن دينـار وكـان على حمص أبو المغيب موسى بن إبراهيم الرافقي وثبوا به سنة تسع وثلاثين فولى مكانه محمد بن عبدويه‏.‏

وفي سنة تسع وثلاثين
عزل يحيى بن أكثم عن القضـاء وولـى مكانـه جعفـر بـن عبـد الواحـد بـن جعفـر بـن سليمـان‏.‏

وفي سنة اثنتين وأربعين
ولى علـى مكـة عبـد الصمـد بـن موسـى بـن محمـد بـن إبراهيـم الإمـام وولـى علـى ديوان النفقات الحسن بن مخلد بن الجراح عندما توفي إبراهيم بن العباس الصولي وكان خليفته فيها من قبل‏.‏

وفي سنة خمس وأربعين
اختط المتوكل مدينته وأنزلها القواد والأولياء وأنفق عليها ألف ألف دينـار وبنـى فيهـا قصـر اللؤلـؤة لـم يـر مثلـه فـي علـوه وأجرى له الماء في نهر احتفره وسماها المتوكلية وتسمـى الجعفـري والماخـورة‏.‏ وفيهـا ولى على طريق مكة أبا الساج مكان جعفر بن دينار لوفاته تلـك السنـة‏.‏ وولـى علـى ديـوان الضيـاع والتوقيـع نجـاح بـن سلمة وكانت له صولة على العمال فكان ينـام المتوكـل فسعـى عنـده فـي الحسـن بـن مخلـد وكـان معه على ديوان الضياع ولى موسى بن عقبة عبد الملك وكان على ديوان الخراج وضمن للمتوكل في مصادرتهما أربعين ألفاً‏.‏ وأذن المتوكل وكانـا منقطعين إلى عبيد الله بن خاقان فتلطف عند نجاح وخادعه حتى كتب على الرقعتين وأشار إليه بأخذ ما فيهما معاً وبدأ بنجاح فكتبه وقبض منه مائة وأربعين ألف دينار سوى الغلات والفرش والضياع ثم ضرب فمات وصودر أولاده في جميع البلاد على أموال جمة‏.‏

مقتل المتوكل وبيعة المنتصر ابنه
كان المتوكل قد عهد إلى ابنه المنتصر ثم ندم وأبغضه لما كان يتوهم فيه من استعجاله الأمر لنفسـه وكـان يسميـه المنتصـر والمستعجـل لذلك‏.‏ وكان المنتصر تنكر عليه انحرافه عن سنن سلفه فيمـا ذهبـوا إليـه مـن مذهـب الاعتـزال والتشيع لعلي وربما كان الندمان في مجلس المتوكل يفيضون فـي ثلـب علـي فينكـر المنتصـر ذلك ويتهددهم ويقول للمتوكل‏:‏ إن علياً هو كبير بيننا وشيخ بني هاشم فإن كنت لا بد ثالبه فتول ذلك بنفسك ولا تجعل لهؤلاء الصفاغين سبيلاً إلى ذلك فيستخف به ويشتمه ويأمر وزيره عبيـد اللـه بصفعـه ويتهـدده بالقتـل ويصـرح بخلعـه‏.‏ وربمـا استخلـف ابنـه الحبـر فـي الصلـاة والخطبـة مـراراً وتركـه فطوى من ذلك على النكث‏.‏ وكان المتوكل قـد استفسد إلى بغا ووصيف الكبير ووصيف الصغير ودواجن فأفسدوا عليه الموالي‏.‏ وكان المتوكل قد أخرج بغا الكبير من الدار وأمره بالمقام بسميساط لتعهد الصوائف فسار لذلك واستخلف مكانه ابنه موسى في الدار وان ابن خالـة المتوكـل واستخلـف علـى الستـر بغـا الشرابي الصغير‏.‏ ثم تغير المتوكل لوصيف وقبض ضياعـه بأصبهـان والجبـل وأقطعهـا الفتـح بـن خاقـان فتغيـر وصيف لذلك وداخل المنتصر في قتل المتوكل وأعد لذلك جماعة من الموالي بعثهم مع ولده صالـح وأحمـد وعبـد اللـه ونصـر وجاؤوا في الليلة التي اتعدوا فيها‏.‏ وحضر المنتصر ثم انصرف على عادته وأخذ زرافة الخادم معه وأمر بغا الشرابي الندمان بالانصراف حتى لم يبق إلا الفتح وأربعة من الخاصة وأغلق الأبواب إلا بـاب دجلـة فأدخـل منـه الرجـال وأحـس المتوكـل وأصحابه بهم فخافوا على أنفسهم واستماتوا وابتدروا إليه فقتلوه‏.‏ وألقى الفتح نفسه عليهم ليقيه فقتلوه‏.‏ وبعـث إلـى المنتصـر وهـو ببيـت زرافـة فأخبـره وأوصى بقتل زرافة فمنعه المنتصر وبايع له زرافة وركب إلى الدار فبايعه من حضر وبعث إلى وصيف أن الفتح قتل أبي فقتلته فحضر وبايع وبعـث عـن أخويـه المعتـز والمؤيـد فحضـرا وبايعـا لـه‏.‏ وانتهـى الخبـر إلـى عبيـد اللـه بـن يحيى فركب من ليله وقصد منزل المعتز فلم يجده واجتمع عليه عشرة آلاف من الأزد والأرمن والزواقيل وأغروه بالحملة على المنتصر وأصحابه فأبى وخام عن ذلك وأصبح المنتصر فأمر بدفن المتوكل والفتح وذلـك لأربـع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين‏.‏ وشاع الخبر بقتل المتوكل فثار الجند وتبعهم وركـب بعضهـم بعضـاً وقصـدوا بـاب السلطـان فخـرج إليهـم بعـض الأوليـاء فاسمعـوه ورجـع فخـرج المنتصـر بنفسـه وبيـن يديـه المغاربـة فشردوهم عن الأبواب فتفرقوا بعد أن قتل منهم ستة أنفس‏.‏ الخبر عن الخلفاء من بني العباس أيام الفتنة وتغلب الأولياء وتضايق نطاق الدولة باستبداد الولاة في النواحي من لدن المنتصر إلي أيام المستكفي كـان بنـو العبـاس حين ولوا الخلافة قد امتدت إيالتهم على جميع ممالك الإسلام كما كان بنو أمية من قبلهـم‏.‏ ثـم لحـق بالأندلـس مـن فـل بنـي أميـة مـن ولـد هشـام بـن عبـد الملـك حافـده عبـد الرحمـن بـن معاوية بن هشام ونجا من تلك الهلكـة فأجـاز البحـر ودخـل الأندلـس فملكهـا مـن يـد عبـد الرحمـن بـن يوسـف الفهـري وخطـب للسفـاح فيهـا حـولاً ثـم لحق به أهل بيته من المشرق فعذلوه في ذلـك فقطـع الدعـوة عنهـم‏.‏ وبقيـت بلـاد الأندلـس مقتطعـة مـن الدولـة الإسلاميـة عـن بنـي العباس‏.‏ ثم لمـا كانـت وقعـة فتـح أيـام الهـادي علي بن الحسن بن علي سنة تسع وتسعين ومائة وقتل داعيتهم يومئـذ حسيـن بـن علـي بن حسن المثنى وجماعة من أهل بيته ونجا آخرون وخلص منهم إدريس بـن عبـد اللـه بـن حسـن إلى المغرب الأقصى وقام بدعوته البرابرة هنالك فاقتطع المغرب عن بني العباس فاستحدثوا هنالك دولة لأنفسهم‏.‏ ثـم ضعفـت الدولـة العباسية بعد الاستفحال وتغلب على الخليفة فيها الأولياء والقرابة والمصطنعـون وصـار تحـت حجرهـم من حين قتل المتوكل وحدثت الفتن ببغداد صار العلوية إلى النواحـي مظهريـن لدعوتهـم فدعـا أبـو عبـد اللـه الشيعـي سنـة سـت وثمانيـن ومائتيـن بإفريقيـة فـي طامـة لعبيد الله المهدي بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وبايع له وانتزع إفريقيـة مـن يـد بنـي الأغلب واستولى عليها وعلى المغرب الأقصى ومصر والشام واقتطعوا سائر هذه الأعمال عن بني العباس واستحدثوا له دولة أقامت مائتين وسبعين سنة كما يذكر في أخبارهـم‏.‏ ثـم ظهـر بطبرستـان مـن العلويـة الحسـن بـن زيـد بـن محمـد بـن إسماعيـل بـن الحسن بن زيد بـن الحسـن السبـط ويعـرف بالداعـي خـرج سنـة خمسيـن ومائتيـن أيـام المستعيـن ولحق بالديلم فأسلموا على يديه وملك طبرستان ونواحيها وصار هنالك دولة أخذها من يـد أخيـه سنـة إحـدى وثلثمائة الأطروش من بني الحسين ثم من بني علي عمر داعي الطالقان أيام المعتصم وقد مر خبره‏.‏ واسم هذا الأطروش الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر وكانت لهم دولة وانقرضت أيام الحسين واستولى عليها الديلم وصارت لهم دولة أخرى‏.‏ وظهر باليمن الرئيس وهو ابن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن المثنى فأظهر هنالك دعوة الزيدية وملك صعدة وصنعاء وبلاد اليمن وكانت لهم هنالك دولة ولم تزل حتى الـآن‏.‏ وأول مـن ظهـر منهـم يحيـى بـن الحسيـن بـن القاسـم سنـة تسعيـن ومائتيـن ثم ظهر أيام الفتنة من دعاة العلوية صاحب الزنج ادعى أنه أحمد بن عيسى بن زيد الشهيـد وذلـك سنـة خمـس وخمسين ومائتين أيام المهتدي وطعن الناس في نسبه فادعى أنه من ولد يحيى بن زيد قتيل الجوزجـان وقيـل‏:‏ إنـه انتسـب إلـى طاهـر بـن الحسيـن بـن علـي والـذي ثبـت عنـد المحققيـن أنه علي بن عبـد الحليـم بـن عبـد القيـس فكانـت لـه ولبنيـه دولـة بنواحي البصرة أيام الفتنة قام بها الزنج إلى أن انقرضت على يد المعتضد أيام السبعين ومائتين‏.‏ ثـم ظهر القرظ بنواحي البحرين وعمان فسار إليها من الكوفة سنة تسع وسبعين أيام المعتضد وانتسب إلى بني إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق دعوى كاذبة وكان من أصحابه الحسن الجمالي وزكرونة القاشاني فقاموا من بعده بالدعوة ودعوا لعبد الله المهدي وغلبوا على البصرة والكوفة ثم انقطعوا عنها إلى البحرين وعمان وكانت لهـم هنالـك دولـة انقرضـت آخـر المائـة الرابعـة وتغلـب عليهـم العـرب مـن بنـي سليم وبني عقيل‏.‏ وفي خلال ذلك استبد بنو سامان بما وراء النهر آخر الستين ومائتين وأقاموا على الدعوة إلا أنهم لا ينفذون أوامـر الخلفـاء وأقامـت دولتهم إلى آخر المئة الرابعة‏.‏ ثم اتصلت دولة أخرى في مواليهم بغزنة إلى منتصف المائة السادسة وكانت للأغالبة بالقيروان وإفريقيـة دولـة أخـرى بمصـر والشـام بالاستبـداد من لدن الخمسين والمائتين أيام الفتنة إلى آخر المائة الثالثة ثم أعقبتها دولة أخرى لمواليهم بني طفج إلى الستين والثلثمائة‏.‏ وفي خلال هذا كله‏.‏ تضايق نطاق الدولة العباسية إلى نواحي السواد والجزيرة فقط إلا أنهـم قائمـون ببغـداد علـى أمرهـم‏.‏ ثم كانت للديلم دولة أخرى استولوا فيها على النواحي وملكوا الأعمال ثم ساروا إلى بغداد وملكوها وصيروا الخليفة في ملكتهم من لدن المستكفي أعوام الثلاثين والثلثمائة وكانت مـن أعظـم الـدول‏.‏ ثـم أخذهـا مـن أياديهـم السلجوقيـة مـن الغز إحدى شعوب الترك فلم تزل دولتهم مـن لـدن القائـم سنـة أربعيـن وأربعمائـة إلـى آخـر المائـة السادسة وكانت دولتهم من أعظم الدول في العالم‏.‏ وتشعبـت عنها دول هي متصلة إلى عهدنا حسبما يذكر ذلك كله في مكانه ثم استبد الخلفاء مـن بنـي العبـاس آخـراً فـي هـذا النطـاق الضيـق ما بين دجلة والفرات وأعمال السواد وبعض أعمال فارس إلى أن خرج التتار من مفازة الصين وزحفوا إلى الدولـة السلجوقيـة وهـم علـى ديـن المجوسية وزحفوا إلى بغداد فقتلوا الخليفة المعتصم وانقـرض أمـر الخلافـة وذلـك سنـة سـت وخمسين وستمائة‏.‏ ثم أسلموا بعد ذلك وكانت لهم دولة عظيمة وتشعبـت عنهـا دول لهـم ولأشياعهم في النواحي وهي باقية لهذا العهد آخذة في الثلاثين كما نذكر ذلك كله في أماكنه‏.‏

دولة المنتصر
ولمـا بويـع المنتصـر كمـا ذكرنـاه ولـى علـى المظالـم أبـا عمـرو أحمد بن سعيد وعلى دمشق عيسى بن محمد النوشزي وكان على وزارته أحمد بن الخصيب واستقامت أموره وتفاوض وصيف وبغا وأحمـد بن الخصيب في شأن المعتز والمؤيد لما توقعوا من سطوتهما بسبب قتل المتوكل فحملوا المنتصر على خلعهما لأربعين يوماً من خلافته وبعث إليهما بذلك فأجاب المؤيد وامتنع المعتز فأغلظوا عليه وأوهموه القتل فخلا به المؤيد وتلطف به حتى أجاب وخلع نفسه وكتبا ذلك بخطهمـا‏.‏ ثـم دخـلا علـى المنتصـر فأجلسهمـا واعتـذر لهمـا بسمـع مـن الأمراء بأنهم الذين حملوه على خلعهمـا فأجبتهـم إلى ذلك خشية عليكما منهم فقبلا يده وشكرا له وشهد عليهما القضاة وبنو هاشـم والقـواد ووجـوه النـاس وكتـب بذلـك المنتصـر إلـى الآفـاق وإلـى محمـد بـن طاهـر ببغداد‏.‏ ثم إن أحمد بن الخصيب أخا المنتصر أمر بإخراج وصيف للصائفة وإبعاده عن الدولة لما بينهما من الشحنـاء فأحضـره المنتصـر وقـال لـه‏:‏ قـد أتانـا مـن طاغية الروم أنه أفسد الثغر فلا بد من مسيرك أو مسيري فقال بل أنا أشخص يا أمير المؤمنين فأمر أحمد بن الخصيب أن يجهزه وبزيح علل العسكر معه وأمره أن يوافي ثغر ملطية فسار وعلى مقدمته مزاحـم بـن خاقـان أخـو الفتـح وعلى نفقات العساكر والمغانم والمقاسم أبو الوليد القروالي أن يأتيه رأيه‏.‏ ثـم أصابـت المنتصـر علـة الذبحة فهلك لخمس بقين من ربيع الأول من سنة ثمان وأربعين ومائتين لستة أشهر من ولايته وقيل بل أكثر من ذلك فجعل السم في مشرطة الطبيب فاجتمع الموالي في القصر وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير وأتامش وغيرهم فاستحلفوا قواد الأتراك والمغاربة والأشروسيـة على الرضا بمن يرضونه لهم ثم خلصوا للمشورة ومعهم أحمد بن الخصيب فعدلوا عن ولد المتوكل خوفاً منهم ونظروا في ولد المعتصم فبايعوه واستكتب أحمد بن الخصيب واستوزر أتامش وغدا على دار العامة في زي الخلافة وإبراهيم بن إسحق يحمل بين يديه الحربـة وصفـت المماليـك والأشروسيـة صفيـن بترتيـب دواجـن وحضـر أصحـاب المراتـب من العباسييـن والطالبيين وثار جماعة من الجند وقصدوا الدار يذكرون أنهم من أصحاب محمد بن عبـد اللـه بن طاهر والغوغاء فشهروا السلاح وهتفوا باسم المعتز وشدوا على أصحاب دواجن فتضعضعوا ثم جاءت المبيضة والشاكرية وحمل عليهم المغاربة والأشروسية فنشبـت الحـرب وانتهبت الدروع والسلاح من الخزائن بدار العامة وجاء بغا الصغير فدفعهم عنها وقتل منهم عـدة وفتقـت السجـون وتمـت بيعـة الأتـرال للمستعيـن ووضـع العطـاء علـى البيعـة وبعث إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فبايع له هو والناس ببغداد‏.‏ ثم جاء الخبر بوفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان وهلك عمه الحسين بن طاهر بمرو فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر مكانه وعقد لمحمد بن عبد الله بن طاهر على خراسان سنة ثمان وأربعين ومائتين وولى عمه طلحة على نيسابور وابنه منصور بن طلحة على مرو وسرخـس وخـوارزم وعمـه الحسين بن عبد الله على هراة وأعمالها وعمه سليمان بن عبد الله على طبرستان والعباس ابن عمه على الجوزجان والطالقان‏.‏ ومات بغا الكبير فولى ابنه موسى على أعماله كلها وبعث أناجور من قواد الترك إلى العمرط الثعلبـي فقتلـه واستأذنـه عبـد اللـه بـن يحيـى بـن خـان في الحج فأذن له ثم بعث خلفه من نفاه إلى برقـة وحبـس المعتـز والمؤيـد فـي حجـره بالجوسـق بعد أن أراد قواد الأتراك قتلهما فمنعهم أحمد بن الخصيب من ذلك‏.‏ ثم قبض على أحمد بن الخصيب فاستصفى ماله ومال ولده ونفاه إلى قرطيـش واستـوزر أتامـش وعقـد لـه علـى مصـر والمغـرب وعقـد بغـا الصغيـر علـى حلـوان وماسبـذان ومهرجـا تعـرف وجعـل شاهـك الخـادم علـى داره وكراعـه وحرمـه وخاصـة أمـوره وخدمـه وأشنـاس علـى جميـع النـاس‏.‏ وعزل علي بن يحيى الأرمني عن التغور الشامية وعقد له على أرمينية وأذربيجان‏.‏ وكان على حمص كندر فوثب به أهلها فأخرجوه فبعث المستعين الفضل بن قارن وهو أخو مازيار فاستباحهم وحمل أعيانهم إلى سامرا وبعث المستعين إلى وصيـف وهـو بالثغـر الشامـي بـأن يغزو بالصائفة فدخل بلاد الروم وافتتح حصن قرورية‏.‏ ثم غزا بالصائفـة سنـة تسـع وأربعيـن جعفـر بـن دينـار وافتتـح مطاميـر واستأذنـه عمـر بـن عبـد اللـه الأقطـع في تدويـخ بلـاد الـروم فـأذن لـه فدخـل فـي جماعـة مـن أهل ملطية ولقي ملك الروم فخرج الأسقف في خمسيـن ألفـاً أحاطـوا بـه وقتـل عمـر فـي ألفيـن مـن المسلميـن‏.‏ وكـان علـى الثغور الجزرية فأغار عليها الـروم وبلـغ ذلـك علـي بن يحيى وهو قابل من أرمينية إلى ميافارقين ومعه جماعة من أهلها فنفر إليهم وهو في نحو أربعمائة فقتلوا وقتل‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:37 PM

فتنة بغداد وسامرا
ولمـا اتصـل الخبـر ببغـداد وسامـرا بقتـل عمـر بـن عبـد اللـه وعلي بن يحيى شق ذلك على الناس لما كانوا عليه من عظيم الغناء في الجهاد واشتد نكيرهم على الترك في غفلتهم عن المصالح وتذكروا قتل المتوكل واستيلاءهم على الأمور فاجتمعت العامة وتنادوا بالنفير إلى الجهـاد‏.‏ وانضم إليهم الشاكرية يطلبون أرزاقهم ثم فتقوا السجون وقطعوا الجسور وانتهبوا دور كتاب محمد بن عبد الله بن طاهر‏.‏ ثم أخرج أهل اليسار من بغداد الأموال ففرقوها في المجاهدين وجـاءت العامـة مـن الجبال وفارس والأهواز فنفروا للغزو ولم يظهر للمستعين ولا لأهل الدولة في ذلـك أثـر‏.‏ ثـم وثـب العامـة بسامـرا وفتقـوا السجـون وخـرج مـن كـان فيهـا وجـاء جماعـة مـن الموالي في طلبهـم فوثـب العامـة بهـم وهزموهـم وركـب بغـا ووصيف وأتامش في الترك فقتلوا من العامة خلقاً وانتهبوا منازلهم وسكنت الفتنة‏.‏

مقتل أتامش
كـان المستعيـن لمـا ولـي أطلـق يـد أمـه وأتامش وشاهك الخادم في الأموال وما فضل عنهم فلنفقات العبـاس بـن المستعيـن وكـان في حجر أتامش فبعث ذلك عليه بغا ووصيف وضاق حال الأتراك والفراغنـة ودسهـم عليهـم بغـا ووصيـف فخرج منهم أهل الكرخ والدور وقصدوه في الجوسق مع المستعين وأراد الهرب فلم يطق واستجار بالمستعين فلم يجره وحاصروه يومين‏.‏ ثم افتتحوا عليـه الجوسـق وقتلـوه وقتلـوا كاتبـه شجاع بن القاسم ونهبت أموالهم واستوزر المستعين مكانه أبا عبد اللـه بـن محمـد بـن علـي علـى الأهـواز وبغـا الصغيـر علـى فلسطيـن‏.‏ ثـم غضـب بغـا الصغيـر علـى أبي صالح فهرب إلى بغداد واستوزر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجاني وولى على ديوان الرسائل سعيد بن حميد‏.‏

ظهور يحيى بن عمر ومقتله
كـان علـى الطالبييـن بالكوفـة يحيـى بـن عمر بن يحيى بن زيد الشهيد ويكنى أبا الحسين وأمه من ولـد عبـد الله بن جعفر وكان من سراتهم ووجوههم وكان عمر بن فرج يتولى أمر الطالبيين أيام المتوكل فعرض له أبو الحسين عند مقدمه من خراسان يسأله صلة لدين لزمه فأغلظ له عمر القـول وحبسـه حتـى أخـذ عليـه الكفـلاء وانطلـق إلـى بغـداد‏.‏ ثـم جـاء إلـى سامـرا وقد أملق فتعرض لوصيـف فـي رزق يجـرى لـه فأسـاءه عليـه وإليهـا فرجـع إلـى الكوفة وعاملها يومئذ أيوب بن الحسين بن موسى بن جعفر بن سليمان بن علي من قبل محمد بن عبد الله بن طاهر فاعتزم على الخروج والتف عليه جمع من الأعراب وأهل الكوفة ودعا للرضى من آل محمد ففتق السجون ونهبها وطرد العمال وأخذ من بيت المال ألفي دينار وسبعين ألف درهم‏.‏ وكـان صاحـب البريـد قـد طيـر بخبره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فكتب إلى عامله بالسواد عبد الله بن محمود السرخسي أن يصير مدداً إلى الكوفة فلقيه وقاتله فهزمهم يحيى وانتهب ما معهـم وخـرج إلـى سـواد الكوفة وتبعه خلق من الزيدية وانتهى إلى ناحية واسط وكثرت جموعه‏.‏ وسـرح محمـد بـن عبـد الله بن طاهر إلى محاربة الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب في العساكر فسار إليه وقد كان يحيى قصد الكوفة فلقيه عبد الرحمن بن الخطاب المعروف بوجه الفلس فهزمه يحيى إلى ناحية ساهي ودخل الكوفة واجتمعت عليـه الزيديـة واشتمـل عليـه عامـة أهـل الكوفـة وإمداد الزيدية من بغداد وجاء الحسين بن إسماعيل وانضم إليه عبـد الرحمـن بـن الخطـاب‏.‏ وخـرج يحيـى مـن الكوفة ليعاجلهم الحرب فأسرى ليلته وصبح العساكر فساروا إليه فهزموه ووضعوا السيف في أصحابه وأسروا الكثير من أتباعه كان منهم الهيصم العجلـي وغيـره وانجلـت الحـرب عـن يحيـى بن عمر قتيلاً فبعثوا برأسه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فبعث به إلـى المستعيـن وجعـل فـي صنـدوق فـي بيـت السلـاح وجـيء بالأسـرى فحبسـوا وكـان ذلك منتصف رجب سنة خمس ومائتين‏.‏

الدولة العلوية
ابتداء الدولة العلوية بطبرستان لمـا ظهـر محمد بن عبد الله بن طاهر بيحيى بن عمرو وكان له من الغناء في حربه ما قدمناه أقطعـه المستعيـن قطائـع مـن صوافـي السلطـان بطبرستان كانت منها قطعة بقرب ثغر الديلم تسمى روسالوس وفيها أرض موات ذات غياض وأشجار وكلأ مباحة لمصالح الناس من الاحتطاب والرعـي وكـان عامـل طبرستـان يومئـذ مـن قبـل محمد بن طاهر صاحب خراسان عمه سليمان بن عبد الله بن طاهر وهو أخو محمد صاحب القطائع وكان سليمان مكفولاً لأمه وقد حظي عندها وتقدم وفرق أولاده في أعمال طبرستان‏.‏ وأساؤوا السيرة في الرعايا ودخل محمد بن أوس بلاد الديلم وهم مسالمون فسبى منهم وانحرفوا لذلك‏.‏ وجاء نائب محمد بن عبد الله لقبـض القطائـع فحـاز فيها تلك الأرض الموات المرصدة المرافق الناس فنكر ذلك الناظر على تلك الأرض وهما محمد وجعفر ابنا رستم واستنهضا من أطاعهما من أهل تلك الناحية لمنعه من ذلـك فخافهمـا النائـب ولحـق بسليمـان صاحـب طبرستـان‏.‏ وبعـث ابنا رستم إلى الديلم يستنجدانهـم علـى حـرب سليمـان وبعثـا إلى محمد بن إبراهيم من العلويين بطبرستان يدعوانه إلى القيام بأمره فامتنع ودلهما على كبير العلوية بالري الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط فشخص إليهما وقد اجتمع أهل كلار وسالوس ومقدمهم ابنا رستم وأهل الريان ومعهم الديلم بأسرهم فبايعوه جميعاً وطردوا عمال سليمان وابن أوس‏.‏ ثم انضم إليهم جبال طبرستان وزحف الحسن بمن معه إلى مدينة آمد وخرج ابن أوس من سارية لمدافعته فانهزم ولحق بسليمان من سارية فخرج سليمان لحرب الحسـن‏.‏ ولمـا التقـى الجمعان بعث الحسن بعض قواده خالد سليمان إلى سارية وسمع بذلك سليمان فانهزم وملك الحسن سارية وبعث بعيال سليمان وأولاده في البحر إلى جرجان‏.‏ وقيل‏:‏ إن سليمان انهزم اختيـاراً لمـا كـان بنـو طاهـر يتهمـون بـه مـن التشييـع‏.‏ ثـم بعـث الحسـن إلـى الـري ابـن عمـه وهو القاسم بن علي بن إسماعيل ويقال محمد بن جعفر بن عبد الله العقيقي بن الحسين بن علي بن زين العابدين فملكها‏.‏ وبعث المستعين جنداً إلى همذان ليمنعها‏.‏ ولما ملك محمد بن جعفر قائد الحسـن بـن زيـد الـري أساء السيرة وبعث محمد بن طاهر قائد محمد بن ميكال أخو الشاه فغلبه على الري وانتزعها منه وأسره فبعث إليه الحسن بن زيد قائده دواجن فهزم ابن ميكال وقتله واسترجع الري‏.‏ ثم رجع سليمان بن طاهر من جرجان إلى طبرستان فملكها ولحق الحسين بالديلم وسار سليمان إلى سارية وآمد ومعهم أبناء قارن بن شهرزاد فصفح عنهـم ونهـى أصحابه عن الفتك والأذى‏.‏ ثم جاء موسى بن بغا بالعساكر فملك الري من يدي أبي دلف وبعث مصلحاً إلى طبرستان فحارب الحسن بن زيد وهزمه واستولى على طبرستان ولحق الحسن بالديلم ودخل مفلح آمد وخرب منازل الحسن ورجع إلى موسى بالري‏.‏

مقتل باغر
وكـان باغـر هـذا من قواد الترك ومن جملة بغا الصغير ولما قتل المتوكل زيد في أرزاقه وأقطعوه قرى بسواد الكوفة وضمنها له بعض أهل باروسما بألفي دينار فطلبه ابن مارمة وكيل باغر وحبسه ثم تخلص وسار إلى سامرا وكانت له ذمة من نصرانـي عنـد بغـا الصغيـر فأجـاره النصرانـي مـن كيـد بغـا وأغـراه بـه فغضب لذلك باغر وشكى إلى بغا فأغلظ له القول وقال‏:‏ إني مستبـدل مـن النصرانـي وافعـل فيـه بعـد ذلـك مـا تريـد‏.‏ ودس إلى النصراني بالحذر من باغر وأظهر عزلـه وبقـي باغـر يتدده وقد انقطع عن المستعين وقد منعه بغا في يوم نوبته عن الحضور بدار السلطـان فسـأل المستعين وصيفاً من أعمال إيتاخ وقلدها لباغر فعذل وصيفاً في الشأن فحلف له أنه ما علم قصد الخليفة‏.‏ وتنكر بغا لباغر فجمع أصحابه الذين بايعوه على المتوكل وجدد عليهـم العهـد فـي قتـل المستعيـن وبغـا ووصيف وأن ينصبوا ابن المعتصم أو ابن الواثق ويكون الأمر لهـم‏.‏ ونمـا الخبـر علـى التـرك إلـى المستعيـن فأحضـر بغـا ووصيفـاً وأعلمهـا بالخبـر فحلفا له على العلم وأمروا بحبس باغر ورجلين معه من الأتراك فسخطوا ذلك وثاروا فانتهبوا الإصطبل وحضروا الجوثـق‏.‏ وأمـر بغـا ووصيـف وشاهـك الخـادم وكاتبـه أحمـد بن صالح بن شيرزاده ونزل على محمد بـن طاهـر فـي بيتـه فـي المحـرم سنـة إحدى وخمسين ولحق به القواد والكتاب والعمال وبنو هاشم وتخلف جعفر الخياط وسليمان بن يحيى بن معاذ فندم الأتراك وركب جماعة من قوادهم إلى المستعين وأصحابه ليردوهم فأبوا ورجعوا آيسين منه وتفاوضوا في بيعة المعتز‏.‏

بيعة المعتز وحصار المستعين
كـان قـواد الأتـراك لمـا جـاؤوا إلـى المستعيـن ببغـداد يعتـذرون مـن فعلهم ويتطارحون في الرضا عنهم والرجـوع إلـى دار مكـة وهـو يوبخهـم ويعمـد عليهم إحسانه وإساءتهم ولم يزالوا به حتى صرخ لهم بالرضا فقال بعضهم‏:‏ فإن كنت رضيت فقم واركب معنا إلى سامرا فكلمه ابن طاهر لسوء خطابهم وضحك المستعين لعجمتهم وجهلهم بآداب الخطاب وأمر باستمرار أرزاقهم ووعدهم بالرجوع فانصرفوا حاقدين ما كان من ابن طاهر وأخرجوا المعتز من محبسه وبايعوا له بالخلافة وأعطـى للنـاس شهريـن‏.‏ وحضـر للبيعـة أبـو أحمـد بن الرشيد فامتنع منها وقال‏:‏ قد خلعت نفسك فقال أكرهت فقال ما علمنا ذلك ولا مخلص لنا في إيماننا فتركه‏.‏ وولـوا على الشرطة إبراهيم البربرح وأضيفت له الكتابة والدواوين وبيت المال وهرب عتاب بن عتاب من القواد إلى بغداد وقام محمد بن عبد الله بن طاهر بالاحتشاد واستقدم مالك بن طـوق فـي أهـل بيتـه وجنده وأمر حوبة بن قيس - وهو على الأنبار - بالاحتشاد‏.‏ وكتب إلى سليمـان بـن عمران صاحب الموصل بمنع الميرة عن سامرا وشرع في تحصين بغداد وأدار عليها الأسـوار والخنـادق مـن الجانبيـن وجعـل علـى كـل بـاب قائـداً ونصـب علـى الأبواب المجانيق والعرادات وشحن الأسوار بالرماة والمقاتلة وبلغت النفقة في ذلك ثلثمائة وثلاثين ألف دينار وفـوّض للعياريـن الـرزق وأغـدق عليهـم وأنفـذَ كتب المستعين إلى العمّال بالنواحي تحمل الخراج إلى بغداد‏.‏ يدعوه إلى بيعته وطالت المراجعات في ذلك وكان موسى بن بغا قد خرج لقتال أهل حمص فاختلفـت إليـه وهـو بالشـام كتـب المستعيـن والمعتز يدعوه كل واحد منهما إلى نفسه فاختار المعتز ورجع إليه وهرب إليه عبد اللَّه بن بغا الصغير من بغداد بعد أن هرب عنه فقتله‏.‏ وهرب الحسن بن الأفشين إلى بغداد فخلـع عليـه المستعيـن وضـمّ إليـه الأشروسِنـة‏.‏ ثـم عقـد المعتـز لأخيـه إلـى أحمـد الواثـق عـن حـرب بغـداد وضـمّ إليـه الجنـود مـع باكليـال من قوّادهم فسار في خمسين ألفاً من الأتراك والفراغنة والمغَاربة وانتهبوا ما بين عكبرا وبغداد من القرى والضياع وخرَّبوها وهرب إليهم جماعة من أصحاب بغا الصغير ووصلوا إلى باب الشماسية‏.‏ وولّى المستعين على باب الشماسية الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن مُصْعَب وجعل القوّاد هنالك تحت يده ووافت طلائع الأتراك إلى باب الشماسية فوقفوا بالقرب منه وأمده ابن طاهر بالشاه بن ميكال وبيدار الطبري‏.‏ ثم ركب محمد بن عبد اللَه بن طاهر من الغد ومعه بغا ووصيف والفقهاء والقضاة وذلك عاشر صفر وبعث إليهم يدعوهم إلى مراجعة الطاعـة علـى المعتـز ولـيّ عهـده فلم يجيبوا‏.‏ فانصرفوا وبعث إليه القواد من الغد بأنهم زحفوا إلى باب الشماسية فنهاهم عن مناداتهم بالقتال‏.‏ وقَدِمَ ذلك اليوم عبد اللَه بن سليمان خليفة بغا من مكة في ثلثمائة رجل‏.‏ ثم جاء الأتـراك مـن الغد فاقتتلوا مع القواد وانهزم القوّاد وبلغ ابن طاهر أن جماعة من الأتراك ساروا نحو النهروان فبعث قائداً من أصحابه إليهم فرجع منهزماً واستولى الأتراك على طريق خراسان وقطعوها عن بغداد‏.‏ ثم بعث المعتزّ عسكراً آخر نحو أربعة آلاف فنزلوا في الجاذب الغربي وبعـث ابـن طاهـر إليهـم الشـاه بـن ميكال فهزمهم وأثخن فيهم ورجع إلى بغداد فخلع عليه وسائر القـوّاد أربـع خلـع وطوقـاً وسـواراً مـن ذهـب لكل واحد‏.‏ ثم أمر ابن طاهر بهدم الدور والحوانيت إلى باب الشماسية ليتسع المجال للحـرب وقَدِمَـت عليـه أمـوال فـارس والأهـواز مـع مكحـول الأشروسي وخرج الأتراك لاعتراضه‏.‏ وبعث ابن طاهر لحفظه فقَدِموا به بغداد ولم يظفر به الأتراك ومضوا نحو النهروان فأحرقوا سفن الجسر‏.‏ وكان المستعين قد بعث محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد والياً على الثغور الجزريّة وأقـام ينتظـر الجنـد والمـال فلمـا بلغـه خبر هذه الفتنة جاء على طريق الرَقّةِ إلى بغداد فخلع عليه ابن طاهر وبعثه في جيش كثيف لمحاربتهم وصار إلى ضُبَيْعَةَ بالسواد فأقام بها‏.‏ فقال ابن طاهر‏:‏ لن يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبيّ ينصره الله به ثم ذهب الأتراك وقاتلوا‏.‏ واتصل الحصار واشتدت الحرب وانتهبت الأسواق وورد الخبر من الثغور بأن بلكاجور حمل النـاس علـى بيعـة المعتـز‏.‏ فقـال ابـن طاهـر‏:‏ لعلّـه ظنّ موت المستعين فكان كذلك ووصل كتابه بأنه جمّـد البيعـة‏.‏ وكـان موسـى بـن بغا مع الأتراك كما قد قدّمنا فأراد الرجوع على المستعين فامتنع أصحابـه وقاتلـوه فلم يتم له أمره وفر القطَّاعون من البصرة ورموا على الأتراك فأحرقوهم فبعث ابـن طاهـر إلـى المدائـن ليحفظهـا وأمـدّه بثلاثـة آلـاف فارس وبعث إلى الأنبار حوبة بن قيس فشقّ المـاء إلـى خندقهـا مـن الفـرات وجـاء إلـى الإسحاقـي مـن قبل المعتز فسبق المدد الذي جاء من قبل ابن طاهر وملك الأنبار‏.‏ ورجع حَوْبَةُ إلى بغداد فأنفذ ابن طاهر الحسَيْن بن إسماعيل في جماعة من القوَاد والجند فاعترضه الأتراك وحاربوه وعاد إلى الأنبار وتقدّم هو لينزل عليهما وبينما هو يَحط الأثقال إذا بالأتـراك فقاتلهـم وهزمهـم وأثخـن فيهـم وكانـوا قـد كمنـوا لـه فخـرج الكمين وانهزم الحسين وغرق كثير مـن أصحابـه فـي الفـرات‏.‏ وأخـذ الأتـراك عسكـره ووصـل إلـى الياسِرِيَّـةِ آخـر جمادى الآخرة ومنع ابن طاهر المنهزمين من دخول بغداد وتوعدهم على الرجوع إليه‏.‏ وأمده بجند آخر فدخل من الياسرية وبعث علـى المخـاض الحسيـن بـن علـيّ بـن يحيـى الأرمينـي فـي مائتـي مقاتـل ليمنـع الأتـراك مـن العبور إليه من عدوة الفرات فوافوه وقاتلوه عليها فهزموه وركب الحسين في زوْرق منحدراً وترك عسكره وأثقاله فاستولى عليها الأتراك ووصل المنهزمون إلى بغداد من ليلتهم‏.‏ ولحق من عسكره جماعة من القوّاد والكتّاب بالمعتز وفيهم عليّ ومحمد ابنا الواثق وذلك أول رجب‏.‏ ثم كانت بينهم عدّة وقعات وقتل من الفريقين خلق ودخل الأتراك في كثير من الأيام بغداد وأخرجوا عنها‏.‏ ثم ساروا إلى المدائن وغلبوا عليها ابن أبي السَفَّاح وملكوها‏.‏ وجاء الأتراك الذيـن بالأنبـار إلـى الجانـب الغربي وانتهوا إلى صَرصَر وقصر ابن هبَيْرَة واتصل الحصار إلى شهر ذي القعـدة وخـرج ابـن طاهـر فـي بعـض أيامـه في جميع القوّاد والعساكر فقاتلهم وانهزموا وقتل منهم خلق وارتقم الذين كانوا مع بغا ووصيف لذلك فلحقوا بالأتراك‏.‏ ثم تراجع الأتراك وانهزم أهل بغداد‏.‏ ثم خرج في ذي الحجـة رشيـد بـن كـاووس أخـو الأفشيـن ساعيـاً فـي الصلـح بيـن الفريقيـن واتّهـم النـاس ابن طاهر بالسعي في خلع المستعين فلما جاء رشيد وأبلغهم سلام المعتز وأخيه أبي أحمد شتموه وشتموا ابن طاهر وعمدوا إلى دار رشيد ليهدموها وسأل ابن طاهر من المستعين أن يسكنهم فخرج إليهم ونهاهم وبرأ ابن طاهر مما اتّهموه بـه فانصرفـوا وتـرددت الرّسـل بين ابن طاهر وبين أبي أحمد فتجحّد للعامّة والجند سوء الظنً‏.‏ وطلـب الجنـد أرزاقهـم فوعدهـم بشهريـن وأمرهـم بالنزول فأبوا إلاّ أن يعلّمهم الصحيح من رأيه في المستعين‏.‏ وخاف أن يدخلوا الأتراك كما عمل أهل المدائـن والأنبـار فأصعـد المستعيـن علـى سطح دار العامّة حتى رآه الناس وبيده البُرْدةُ والقضيب وأقسم عليهم فانصرفوا‏.‏ واعتزم ابن طاهر على التحوّل إلى المدائن فجاءه وجوه الناس واعتذروا له بالغَوْغَاء فأقصروا بنقـل المستعيـن عـن دار ابـن طاهـر إلـى دار رزق الخـادم بالرصافـة‏.‏ وأمـر القـوّاد وبنـي هاشم بالكون مـع ابـن طاهـر فركـب فـي تعبيـة وحلـف لهـم علـى المستعيـن وعلى قصد الإصلاح فدعوا له وسار إلـى المستعيـن وأغـراه بـه وأمـر بغـا ووصيفـاً بقتلـه فلم يفعلا‏.‏ وجاءه أحمد بن إسرائيل والحسَيْنُ بن مخلد بمثل ذلك في المستعين فتغيّر له ابن طاهر‏.‏ فلما كان يوم الأضحى وقد حضر الفقهاء والقضاةَ طالبه ابن طاهر بإمضاء الصلح فأجاب وخرج إلى باب الشماسية فجلس هناك أبن طاهر إلى المستعين وأخبره بأنه عقد الأمر إلى أن يخلع نفسه ويبذلوا له خمسين ألف دينار ويعطـوه غلـة ثلاثيـن ألف دينار ويقيم بالحجاز متردداً بين الحرمين ويكون بغا واليَاً على الحجاز ووصيف على الجبل ويكون ثلث الجباية لابن طاهر وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك‏.‏ فامتنع المستعين أوّلاً من الخلع ظنّاً منه أن وصيفاً وبغا معه‏.‏ ثم تبيّن موافقتهما عليه فأجاب وكتب بما أراد من الشروط وأدخل الفقهاء والقضاة وأشهدهـم بأنـه قـد صيّـر أمـره إلـى ابـن طاهر‏.‏ ثم أحضر القوّاد وأخبرهم بأنه ما قصد بهذا الإصلاح إلا حقن الدماء وأخرجهم إلىِ المعتز ليوافقهم بخطه على كتاب الشرط ويشهدوا على إقراره فجاؤوا بذلك لستّ خَلَوْن من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين‏.‏ ولمـا تـمّ مـا عقـده ابـن طاهـر ووافـى القـوّاد بخـط المعتـزّ علـى كتاب الشروط أخذ البيعة للمعتز على أهل بغداد وخطب له بها وبايع له المستعين وأشهد على نفسه بذلك فنقله من الرصافة إلى قصر الحَسَنِ بن سَهْل ومعه عياله وأهله وأخذ البُردةَ والقضيب والخاتم ومنع من الخروج إلى مكة فطلب البصرة فمنع منها وبعث إلى واسط‏.‏ فاستوزر المعتزِّ أحمد بـن أبـي إسرائيـل ورجـع أخوه أبو أحمد إلى سامرّا‏.‏ وفي آخر المحرّم انصرف أبو الساج دِبْوَازُ بن درموسب إلى بغداد فقلّده ابـن طاهـر معـاون السـواد فبعـث معـه مؤنـة إليهـا لطـرد الأتـراك والمغاربـة عنهـا وسار هو إلى الكوفة‏.‏ ثم كتب المُعْتَزًّ إلى ابن طاهر بإسقاط بغا ووصيف ومَن معهما من الدواوين وكان محمـد أبـو عون من قوّاد ابن طاهر قد تكفّل لأبي إسحاق بقَتلهما وعقد له المعتز على اليمامة والبحريـن والبصـرة‏.‏ ونمـي الخبـر إليهمـا بذلـك فركبـا إلـى ابـن طاهـر وأخبـراه الخبـر وأن القـوم قـد نقضوا العهد‏.‏ ثم بعث وصيف أخته سعاد إلى المؤيد وكان في حُجْرِها فاستوهبت له الرضا من المعتز وكذا فعل أبو أحمد مع بغا وكتب لهم المعتز جميعاً بالرضا‏.‏ ثم رغب الأتراك فـي إحضارهمـا بسامـرّا فكتـب بذلـك ودسّ إلـى ابن طاهر بمنعهما فخرجا فيَمن معهما ولم يقدر ابن طاهـر علـى منعهمـا‏.‏ وحضـرا بسامـرّا فعقد إليهما المعتز على أعمالهما وردّ البريد إلى موسى بن ثـم كانت فتنة بين جند بغداد وابن طاهر في شهر رمضان جاووا إليه يطلبون أرزاقهم قال‏:‏ كتبـت إلـى أميـر المؤمنيـن فـي ذلـك فكتـب إلـيّ إن كنـت تريـد لجنـد لنفسـك فأعطهـم وإن كان لنا فلا حاجة لنا فيهم‏.‏ فشغبوا ففرّق فيهم ألفيّ دينار فسكنوا‏.‏ ثم اجتمعوا ثانية ومعهم الأعلام والطبول وضربوا الخيام بباب الشماسِيَّةِ وبنوا البيوت من الأعواد والقصب‏.‏ وجمع محمد بن إبراهيم أصحابه وشحن داره بالرجال وأرادوا يوم الجمعة أن يمنعوا الخطيب من الدعاء للمعتز فقعـد واعتـذر بالمـرض فخرجوا إلى الجسر ليقطعوه فقاتلهم أصحاب ابن طاهر ودفعوهم عنه‏.‏ ثـم دفعـوا أصحـاب ابـن طاهـو بإعانة أهل الجانب الشرقي وجاء العامِّة فجلس الشرطة فأمر ابن طاهـر بإحـراق الحوانيـت إلـى باب الجسر ومات أصحاب تعبية الحرب وجاء من دله على عورة الجند فسرح الشاه ابن ميكال وعرض القوّاد فسار إلى ناحيتهم وافترقوا وقتل بينهم ابن الخليل‏.‏ وحمل رئيسهم الآخر ابن القاسم عَبْدون بن المُوَفَّقِ إلى ابن طاهر ومات في خلال ذلك‏.‏ وأخرج المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد وذلك أنّ العلاء بن أحمد عامل أرمينية بعث إلى المؤيّد بخمسة آلاف دينار فأخذها عيسى بـن فرخانشـاه فأغـرى المؤيـد بعيسـى الأتـراك والمغَاربـة فبعـث المعتـز إلـى المؤيد وأبي أحمد فحبسهما وقيًد المؤيد فأخذ خطّه بخلع نفسه‏.‏ ثم نمي إليه أن الأتراك يرودون إخراجه من الحبس فسأل عن ذلك موسى بن بغَا فأنكر علم ذلك وأخـرج المؤيـد مـن الغـد ميتـاً ودفنتـه أمـه فيقـال غطَّى على أنفه فمات وقيل أقعد في الثلج ووضع على رأسه‏.‏ ثم نقل أخوه ابن أحمد إلى مجلسه‏.‏ ثـم اعتـزم المعتـز علـى قتـل المستعيـن فكتـب إلـى محمد بن عبد اللَّه بن طاهر أن يسلِّمه إلى سيما الخـادم وكتـب محمـد فـي ذلـك إلـى الموكليـن بـه بواسـط يقـال بـل أرسل بذلك أحمد بن طولون فسار بـه فـي القاطـون وسلّمـه إلـى سعيـد بـن صالـح فضربـه سعيـد حتـى مـات وقيـل ألقـاه في دجلة بحجر فـي رجلـه وكانـت معـه دابّتـه فقتلـت معـه وحمـل رأسـه إلى المعتز فأمر بدفنه وأمر لسعيد بخمسين ألـف درهـم وولّـاه معونـة البصرة‏.‏ ثم وقعت فتنة بين الأتراك والمغاربة مستهكّ رجب بسبب أن الأتـراك وثبـوا بعيسى بن فرخانشاه فضربوه وأخذوا دابّته لما أمرهم المؤيد فامتعضت المغاربة له ونكروا على الأتراك وغلبوهم على الجوسق وأخذوا دوابّهم وركبوها وملكوا بيت المال‏.‏ واستجاش الأتراك بمَن كان منهم في الكرخ والدور وانضـمّ الغوغـاء والشاكريـة إلـى المغاربـة فضعفت الأتراك عن لقائهم وسعى بينهم جعفر بن عبد الواحد في الصلح فتوادعوا أياماً‏.‏ ثم اجتمـع الأتـراك علـى حيـن افتـراق المغاربـة فقصـد محمـد بن راشد ونصر بن سعيد منزل محمد بن عون يختفيان عنده حتى تسكن الهيعة فدسّ للأتراك بخبرهما وجاؤوا فقتلوهما في منزله وبلغ ذلك المعتز فهمّ بقتل ابن عون ثم نفاه‏.‏ كـان الوالـي علـى الموصـل عُقْبَـةُ بـن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث بن هانئ الخزاعِي وكان صاحبُ الشرطة بالحديثة من أعمالها حسين بن بكير وكان مساور بن عبد اللَّه بن مساور البَجَلِيّ من الخوارج يسكن بالبوازيج‏.‏ وحبس صاحب الشرطة حسين بن بكير بالحديثة ابناً للمساور هذا يسمى جوثرة وكان جميلاً فكتب إلى أبيه مساور بأنّ حسين بن بكير نال منه الفاحشـة فغضب لذلك وخرج فقصد الحديثة فاختفى حسين وأخرج ابنه من الحبس‏.‏ ثم كثر جمعه من الأكراد والأعراب وقصد الموصل فقاتلها أيّاماً ثم رجع فكان تحت طريق خراسان وكانـت لنظـر بنـدار ومظفـر بـن مشبـك فسـار إليـه بنـدار فـي ثلثمائـة مقاتـل والخوارج مع مساور في سبعمائة فهزموه وقتلوه ولم يَنْجُ منهم إلا نحوخمسين رجلًا وفرّمظفر إلى بغداد‏.‏ وجـاء الخـوارج إلى جلولاء وكانت فيهم حرب هلك فيها من الجانبين خلق‏.‏ ثم سار خطرمش فـي العساكـر فلقيهـم بجلـولاء وهزمـه مسـاور‏.‏ ثـم استولـى مسـاور على أكثر أعمال الموصل ثم وليَ الموصل أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب التغلبي سنة أربع وخمسين فاستخلف عليها ابنه الحسـن فجمـع عسكـراً كـان فيهـم حمـدون بـن الحـارث بن لقمان جدّ الأمراء من بني حمدان وحمد بن عبد اللَّه بن السيد بن أنس وسار إلى مساور وعبر إليه نهر الزاب فتأخر عن موضعه‏.‏ وسـار الحسـن فـي طلبـه فالتقـوا واقتتلـوا وانهـزم عسكر الموصل وقتل محمد بن السيد الأزدي ونجا ثـم كانـت الفتنة سنة خمس وخمسين خلع المعتز وبويع للمهتدي ووليَ على الموصل عبد اللَه بن سليمان‏.‏ فزحف إليه مساور وخام عبد الله عن لقائه فملك مساور البلد وأقام بها جمعة وصلّى وخطب ثم خرج منها إلى الحُدَيْثَةِ وكانت دار هجرته‏.‏ ثم انتقض عليه سنة ست وخمسيـن رجـل مـن الخـوارج اسمـه عبيـدة بـن زُهَـيْرٍ العُمَـرِيّ بسبـب الخلـاف فـي توبة الخاطئ‏.‏ وقال عبيـدة لا تقبـل واجتمـع معـه جماعـة وخرج إليهم مساور من الحديثة واقتتلوا قتالاً شديداً ثم قتل عبيدة وانهزم أصحابه‏.‏ وخـرج إليـه آخـر مـن بنـي زَهْرٍ اسمـه طـوق فجمـع لـه الحسن بن أيوب بن أحمد العَدْوِيّ جمعاً كثيراً وحاربه فقاتله سنة خمس أو سبع واستولى مساور على أكثر العراق ومنع الأموال فسار إليه موسى بن بغا بابكيال في العساكر فانتهوا إلى‏.‏وبلغهمِ خبر الأتراك مع المهتدي فأقاموا ثم زحفوا بخلع المهدي فلما وليَ المعتمد سير مفلحاً إلى قتال مساور في عسكر كبير وخرج مساور عن الحديثة إلى جبلين حذاءها وقاتله مفلح في اتباعه ولحق الجبل فاعتصم به وأقام مفلـح فـي حصـاره فكانـت بينهمـا وقعـات وكثرت الجراحة في أصحاب مساور من لدن حربه مع عبيـدة إلـى هـذه الحـروب فسـار عـن الجبـل وتركـه وأصبـح مفلـح وقد فقدهم فسار إلى الموصل ثم إلـى ديـار ربيعـة وسنـب ونصيبيـن والخابـور فأصلـح أمورهـا وخـرج من الموصل إلى الحديثة ففارقها عنه فربر مساور في اتباعهم يتخطّف من أعقابهم ويقاتلهم حتى وصل الحديثة فأقام بها أياماً ثـم سـار إلـى بغـداد فـي رمضان سنة خمسَ وخمسين فرجع مساور إلى الحديثة واستولى على البلاد واشتدّت شوكته ثم أوقع به مسرور البلخي سنة ثمانٍ وخمسين وجهّز العسكر بالحديثة مـع جعلـان مـن قوّاد الترك‏.‏ ثم قتل سنة إحدى وستين يحيى بن جعفر من وُلا خراسان وسار مسرور في طلبه وتبعه الموفّق فلم يدركاه‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:38 PM

مقتل وصيف ثم بغا
وفي سنة ثلاث وخمسين أيام المعتزّ اجتمع الجند من الأتراك والفراغنة والأشروسنـة فطلبـوا أرزاقهم منهم لأربعة أشهر وشغبوا فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما الطويل وكلّمهم وصيف واعتذر بعدم المال وقال‏:‏ خذوا الزاب في أرزاقكم‏.‏ ونزلوا بدار أشناس يتناظرون في ذلك ومضـى بغـا وسيمـا إلـى المُعْتَـزّ ِيسألانـه في أمرهم وبقي وصيف في أيديهم فوثب عليه بعضهم فقتله وقطعوا رأسه ونصبوه‏.‏ ثم انقادوا وأهدر لهم ذلك وجعل المعتزّ لبغا الشرابي ما كان لوصيـف وألبسـه التـاج والوضاحين ثم تغيّر له المعتز لما عليه من الاستبداد على الدولة وخشي غائلته ومال باطناً إلى بابكيال وداخله في أمره واعتده لذلك‏.‏ ثـم زوّج بغـا ابنتـه آمنـة من صالح بن وصيف وشغل بجهازها فركب المعتزّ في تلك الغفلة ومعه حمـدان بـن إسرائيـل إلـى بابكيـال فـي كـرخ سامـرا وكانـت بينـه وبيـن بغـا وحشـة شديـدة وبلـغ ذلـك بغـا فركب في خمسمائة من غلمانه وولده وقوّاده وكان أكثرهم منحرفين عنه ولحق بالسنّ وأقام المعتزّ على وجل لا ينام إلِّا بسلاحه‏.‏ ثمِ تعلل أصحاب بغا عليه فأعرض عنهم وركب البحر راجعاً إلى بغداد وجاء الجسر ليلاً لئلا يفطن به الموكلون هنالك وبعثوا إلى المعتزّ بخبره فأمر بقتله وحمل إليه رأسه ونصـب بسامـرا وأحرقـت المغاربـة شلـوه وكـان قصـد دار صالـح بـن وصيف ليثبوا على المعتزّ‏.‏ ابتداء دولة الصفار كان يعقوب بن الليث بن عمرو الصفار بسجستان وكان صالح بن النضر الكناني من أهل البيت قد ظهر بتلك الناحية وقام يقاتل الخوارج وسمّى أصحابه المتطوّعة حتى قيل له صالح المطوّعي وصحبه جماعة منهم درهم بن الحسن ويعقوب بن الليث هذا وغلبوا على سجستـان ثـم أخرجهـم عنهـا طاهـر بـن عبـد الله أمير خراسان‏.‏ وهلك صالحِ إثْرَ ذلك وقام بأمر المتطوعة درهم بن الحسن فكثر أتباعه‏.‏ وكان يعقوب بن الليث شهماً وكان درهم مضعفاً واحتال صاحب خراسان حتى ظفر به وحبس ببغداد فاجتمعت المتطوّعة على يعقوب بن الليث وقام بقتال السراة وأتيح له الظفر عليهم وأثخن فيهم وخرّب قراهم وكانت له شرية في أصحابه لم تكن لأحد قبله فحسنت طاعتهم له وعظم أمره وملك سجستان مظهراً طاعة الخليفة وكاتبه وقلّمه حرب السراة فأحسن الغناء فيه وتجاوزه إلى سائر أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏ ثم سار من سجستان إلى نواحي خراسان وعليها يومئذ محمد بن عبد الله بن طاهر وعلى هراة من قبله محمد بن أوس الأنباري فجمع لمحاربة يعقوب وسار إليهم في التعبية فاقتتلوا وانهزم ابن أوس وملك يعقوب هراة وبوشنج وعظم أمره وهابه صاحب خراسان وغيرها من الأطـراف‏.‏ وكـان المعتـز قـد كتـب بولاية سجستان فكتب له الآن بولاية كرمان وكان على فارس عليّ بن الحسين بن شبل وأبطأ عامل الخراج - واعتذر فكتب له المعتزّ بولاية كرمان يريد إعـداء كـل منهمـا بصاحبـه لـأن طاعتهمـا مهوضة فأرسل عليّ بن الحسين بفارس طوق بن الغلس خليفة على كرمان وسار يعقوب الصفار من سجستان فسبقه طوق واستولى عليهـا وأقـام يعقوب بمكانه قريباً منها يترقّب خروج طوق إليه‏.‏ وبعد شهرين ارتحل إلى سجستان فوضِع طوق أوزار الحرب وأقبل على اللهو واتَصل ذلك بيعقـوب فـي طريقـه فكـرّ راجعـاً وأغـذّ السيـر فصادفـه بعـد يوميـن وركب أصحابه وقد أحيط بهم ففروا ناجين بأنفسهم وملك يعقوب كرمان وحبس طوق‏.‏ وبلغ الخبر إلى علي ين الحسين وهو على شيراز فجمع جيشه ونزل على مضيـق شيـراز وأقبـل عليـه يعقـوب حتـى نـزل قبالتـه والمضيـق متوعّـر بيـن جبل ونهر ضيق المسلك بينهما فاقتحم يعقوب النهر بينهما وأجاز علي بن الحسين وأصحابه فانهزموا وأخذ علي أسيـراً واستولـى علـى جميـع عسكـره ودخـل شيـراز وملكها وجبى الخراج ورجع إلى سجستان وذلك سنة خمس وخمسين‏.‏ ويقال بل وقع بينهما بعد عبور النهر حرب شديدة انهزم آخرها علي وكان عسكره نحواً من خمسة عشر ألفاً من الموالي والأكراد ورجعوا منهزمين إلى شيراز آخر يومهم وازدحموا على الأبواب وافترقوا في نواحي فارس وانتهوا إلى الأهواز وبلغ القتلى منهم خمسة آلاف ولما دخل يعقوب وملك فارس امتحن علياً وأخذ منه ألف بردة ومن الفرش والسلاح والآلة ما لا يحد وكتب إلـى الخليفـة بطاعتـه وأهـدى هديـة جليلـة يقـال منهـا عشـر بـازات بيـض وبـاز أبلـق صينـي ومائـة نافجـة مـن المسـك وغيـر ذلـك مـن الطـرف ورجـع إلـى سجستان ثم استعاد الخليفة بعد ذلك فاس وبعث عماله إليها‏.‏ كان بابكيال من أكابر قوّاد الأتراك مع بغا ووصيف وسيما الطويل ولما حدثت هـذه الفتـن وتغلبوا على الخلفاء أخذوا الأعمال والنواحي في إقطاعهم فأقطع المعتزّ بابكيال هذا أعمال مصـر وبها يومئذ ابن مدبر وكان بابكيال مقيماً بالحفيدة فنظر فيمن يستخلفه عليها وكان أحمد بـن طولـون مـن أبنـاء الأتـراك وأبـوه مـن سُبِـيّ فرغانـة وربّـي فـي دار الخلفـاء ونشـأ ابنه أحمد بها على طريقة مستقيمة لبابكيال خاله وأشير عليه بتوليته فبعثه على مصر فاستولى عليها أوّلاًَ دون أعمالهـا والإسكندريـة‏.‏ ثـم قتـل المعتـز بابكيـال وصـارت مصـر في إقطاع بارجوع الترك وكان بينه وبين أحمد بن طولون مودة متأكدة فكتب إليه واستخلفه على مصر جميعها ورسخت قدمه فيها وأصارها تراثاً لبنيه فكانت لهم فيها الدولة المعروفة‏.‏

استقدام سليمان بن طاهر
لولاية بغداد قد تقمّ لنا أن محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين كان على العراق والسواد وكانت لهم الشرطة وغيرها وكان مقيماً ببغداد وكان في المدافعة عن المستعين لما لجأ إليه‏.‏ ثم صلح ما بينه وبين المعتزّ واستقل المعتز بالخلافة والآثار المذكورة‏.‏ ثم هلك آخر سنة ثلاث وثمانين أيام المعتـزّ وفـوّض مـا كـان بيـده مـن الولايـة إلـى أخيـه عبـد اللِّـه نازعـه ابنـه طاهر في الصلاة عليه ومالت العامـة مـع أصحـاب طاهـر والقـوّاد مـع عبيد اللَّه لوصية أخيه‏.‏ ثم أمضى المعتز عهد أخيه وخلع عليه وبذل لصاحب الخلع خمسين ألف درهم‏.‏ ثم بعث المعتز عن سليمان بن عبد الله بن طاهر من خراسان وولّاه على العراق والشرطة وغيرهـا مكـان أخيـه محمـد وعـزل أخاهما عبيد اللَّه‏.‏ فلما علم عبيد اللِّه تقدّم سليمان أخذ ما في بيت المال وانتقل إلى غربيّ دجلة وجاء سليمان وقائده محمد بن أوس ومعه جند من خراسـان فأسـاؤوا السيـرة فـي أهـل بغـداد فحنق الناس عليهم وأعطى أرزاقهم مما بقي في بيت المال وقدمهم على جند بغداد وشاكريّها فاتفق الجند على الثورة وفتقوا السجون وعبر ابن أوس إلى الجزيرة واتبعه الجند والعامّة فحاربهم وانهزم وأخرجوه من باب الشماسية ونهب من منزله قيمة ألفي ألف درهم ومن الأمتعة ما لا يحصر ونهب منازل جنده‏.‏ ورأى سليمـان أن يسكـن الثائـرة فأمـره بالخروج إلى خراسان ثم كانت الفتنة في خلع المعتزّ وولاية المهـدي كمـا يذكـر وبعـث المهتـدي سلـخ رجـب من سنة خمس وخمسين إلى سليمان ليأخذ البيعة لـه ببغداد وكان أبو أحمد بن المتوكل ببغداد قد بعثه إليها المعتز فنقله سليمان إلى داره ووثب الجند والعامّة لذلك واجتمعوا بباب سليمان وقاتلهم أصحابه مليّاً ثم انصرفوا وخطـب مـن الغـد للمعتـز فسكنـوا ثـم سـاروا ودعـوا إلـى بيعـة أبـي أحمـد وطلبـوا رؤيتـه فأظهره لهم ووعدهم بما خبر كرخ أصبهان وأبي دلف قد تقدّم لنا شأن أبي دُلَفٍ أيام المأمون وأنه كان مقيماً بكرخه وأن المأمون عفا له عمـا وقـع منه في القعود عن نصره وأقام بتلك الناحية وهلك فقام ابنه عبد العزيز مكانه‏.‏ ولما كانت أيام الفتنة تمسك بطاعة المستعين وولّي وصيف على الجبل وأصبهان فكتب إلى عبد العزيـز باستخلافـه عليهـا وبعـث عليـه بالخلـع وعقـد المعتـز لموسـى بـن بغـا الكبيـر فـي شهـر رجب من سنة ثلاث وخمسين على الجبل وأصبهان فسار لذلك وقي مقدمته مفلح فلقيه عبد العزيز بن أبـي دلـف فـي عشريـن ألفـا خـارج همـذان فتحاربـا وانهـزم عبـد العزيز وقتل أصحابه‏.‏ وسار مفلح إلى الكرخ فخرج إليه عبد العزيز وقاتله ثانية فانهزم واستولى مفلح على الكرخ‏.‏ ومضى عبد العزيز إلى قلعة نهاوند فتحصّن بها وأخذ مفلح أهله وأمّه‏.‏ ثـم عقـد لـه وصيـف سنة اثنين وخمسين على أعمال الجبل ثم عقد لموسى بن بغا فسار وفي مقدّمته مفلح فقاتله عبد العزيز فانهزم وملك مفلح الكرخ وأخذ ماله وعياله‏.‏ ثم ملك عبد العزيز وقام مكانه ابنه دلف وقاتله القاسم بن صبهاه من أهالي أصبهـان‏.‏ ثـم قتـل القاسـم أصحـاب أبـي دلـف وولّـوا أخـاه أحمـد بن عبد العزيز سنة خمس وستين‏.‏ وولّاه عمر الصفار من قبلـه علـى أصبهـان عندمـا ولّـاه عليها المعتمد سنة ست وستين وحاربه كغليغ التركي سنة تسع وستّيـن فغلبـه أحمـد وأخرجـه إلـى الصميـرة وبعـث إليـه عمـر سنـة ثمـانٍ وستيـن فـي المـال فبعـث إليه‏.‏ ثم سار الموفّق سنة ست وسبعين يريد أحمد بأصبهان فشاغله أحمد عن البلد وترك داره بفرشهـا لنـزول الموفـق‏.‏ ثـم مـات أحمـد سنـة ثمانيـن وولّـى أخوه عمر وأخوه بكير يرادفه وقاتلا رافع بـن الليث بأمر المعتضد فهزمهما كما يأتي ذكره‏.‏ ثم قلّد المعتضد أصْبَهَانَ ونَهَاوَنْدَ والكرخ عمر بن عبد العزيز سنة إحدى وثمانين ثم راجعا الطاعة‏.‏

خلع المعتز وموته وبيعة المهتدي
كان صالح بن وصيف بن بغا متغلباً على المعتز وكان كاتبه أحمد بن إسرائيل وكانت أمه قبيحة ووزيرها الحسن بن مخلد‏.‏ وكان أبو نوح عيسى بن إبراهيم من كبار الكتاب وجُباة الأمـوال‏.‏ وطلـب الأتـراك أرزاقهـم وشغبوا فقال صالح للمعتز‏:‏ هذه الأموال قد ذهب بها الكتّاب والـوزراء وليـس فـي بيـت المـال شـيء فـردّ عليه أحمد بن إسرائيل وأفحش في رده وتفاوضا في الكلام فسقط صالح مغشيّاً عليه وتبادر أصحابه بالباب فدخلوا منتضين سيوفهم فدخل إلى قصره فأمـر صالـح بالـوزراء الثلاثـة فقيّمـوا وشفـع المعتـز فـي أمـر وزيـره فلـم تقبـل شفاعتـه وصادرهـم علـى مـال جليـل حملـوه فلم يسدّ شيئاً فلما فعلوا بالكتاب ما فعلوا من المصادرة اتّهم الجنـد أنهـم حملـوا علـى مـال ولـم يكـن ذلـك فشفعـوا فـي طلـب أرزاقهـم وضمنـوا للمعتـز قتـل صالـح بن وصيف على خمسين ألفاً يبذلها لهم‏.‏ وسألها عن أمّه فاعتذرت فاتفقت كلمتهم على خلعه‏.‏ ودخل إليه صالح بن وصيف ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر وبابكيال وطلبوه في الخروج إليهم فاعتذر لهم وأذِنَ لبعضهم في الدخول فدخلوا وجرّوه إلى الباب وضربوه وأقامـوه فـي الشمـس فـي صحـن الـدار وكلمـا مـرِّ بـه أحـد منهـم لطمـه‏.‏ ثـم أحضـروا القاضـي ابن أبي الشوارب في جماعة فأشهدهم على خلعه وعلى صالح بن وصيف بأمانه وأمان أمه وأخته وولـده‏.‏ وفَـرّت أمه قبيحة من سَرَب كانت اتخذته بالدار ثم عذّبوا المُعْتَزّ ثم جعلوه في سَرَبٍ وطمُّوا عليه وأشهـدوا علـى موتـه بنـي هاشـم والقـوّاد وذلـك آخـر رجـب مـن سنـة خمـس وخمسين وبايعوا لمحمد ابن عمّه الواثق ولقبوه المهتدي باللّه عندما خلع المعتز نفسه وأقرّ بالعجز والرغبـة فـي تسليمهـا إلـى المهتدي بايعه الخاصّة والعامّة‏.‏ وكانت قبيحة أم المعتز ّلما فعل صالح بالكتاب ما فعل قد‏.‏ نفراً منهم على الفتك بصالح ونمي ذلك إليه فجمع الأتراك على الثوران وأيقنت قبيحة بالهلاك فأودعت ما في الخزائن من الأموال والجواهر وحمْرت سَرَباً في حجرتها هربت منه لما أحيطَ بالمعتَزَ ولما قتل خشيت على نفسها فبعثت إلى صالح تستأمنه فأحضرها في رمضان وظفر منها بخمسمائة ألف دينار وعذّبها على خزائن تحت الأرض فيها ألف ألف دينار وثلثمائة ألف دينار ومقدار مكوك من الزبرجد لم يُرَ مثله ومقدار مكوك آخر من اللؤلؤ العظيم وجراب من الياقوت الأحمر القليل النظير وذمّها الناس بأنها عرضت ابنها للقتل فـي خمسيـن ألـف دينـار ومعهـا هـذا المال ثم سارت إلى مكة فأقامت هنالك وقبض صالح على أحمـد بـن إسرائيـل وزيـد بـن المعتـزِّ وعذّبـه وصـادره‏.‏ ثـم قبـض على أبي نوح وفعل به مثله وقبض علىِ الحسن بن مخلد كذلك ولم يمت‏.‏ وبلغ المهتدي ذلك فنكره وقال‏:‏ كان الحبس كافياً في العقوبـة‏.‏ ولـأوّل ولايـة المهتـدي أخـرج القِيَـانَ والمغنِّيـن من سامرا ونفاهم عنها وأمر بقتل السباع التي كانت في دار السلطان وطرد الكلاب ورد المظالم وجلس للعامّة وكانت الفِتَنُ قائمـة والدولـة مضطربة فشمَّر لإصلاحها لو أمهِل واستوزر سليمان بن وَهْبِ وغلب على أمره صالح بـن وصيف وقام بالدولة‏.‏

مسير موسى بن بغا إلى سامرّا
ومقتل صالح بن وصيف كان موسى بن بغا غائباً بنواحي الريّ وأصبهان منذ ولاية المعتزّ عليها سنة ثلاث وخمسين ومعه مفلح غلام أبي الساج وكانت قبيحة أم المعتز لمّا رأت اضطراب أموره كتبت إلى موسى قبل أن يفوت في المعتز أمره فجاءه كتابها وقد بعث مفلحاً لحرب الحسن بن زيد العلوي فحربه بطبرستان فغلبه وأحرق قصوره بآمد وخرج في اتّباعه إلى الديلم فكتب إلى موسى بالرجوع لمداهمة مَن شاء وبينما هو في استقدامه وانتظاره قتل المعتزّ وبويع المهتدي وبلـغ أصحابـه ما حواه صالح من أموال المعتزّ وكتابه وأمه فشرهوا إلى مثل ذلك وأغروا موسى بالمَسير إلى سامرّا‏.‏ ورجع مفلح من بلاد الديلم إليه وهو بالريّ فسار نحو سامرّا وسمع المهتدي بذلك فكتب إليه بالمقام يحذّره على ما وراءه من العلويين فلم يُصْغ لذلك وأفحش أصحابه في إساءة الرّسل الواصلين بالكتب‏.‏ فكتب بالاعتذار واحتجّ بما عاينه الرّسل وأنه يخشى أن يقتله أصحابه إن عـادوا إلـى الـريّ وصالـح بـن وصيـف فـي خلـال ذلـك يغـري بـه المهتـدي وينسبـه إلى المعصية والخلاف إلـى أن قَـدِمَ فـي المحـرّم سنـة سـت وخمسيـن ودخـل فـي التبعية فاختفى صالح بن وصيف ومضى موسى إلى الجَوْسَقِ والمهتدي جالس للمظالم‏.‏ فأعرض له عن الإذن ساعة ارتاب فيها هو وأصحابه وظنوا أنه ينتظر قدوم صالح بالعساكر‏.‏ ثم أذِنَ لهم فدخلوا وقبضوا على المهتدي وأودعوه دار باجورة وانتهبوا ما كان في الجوسق‏.‏ واستغاث المهتدي بموسى فعطف عليه ثم أخذ عليه العهود والأيْمَان أن لا يوالي صالحاً وأنّ باطنه وظاهره في موالاتهم سواء فجددوا له البيعة واستبدّ موسى بالأمر وبعث إلى صالح للمطالبـة بمـا احتجبـه مـن الأمـوال فلـم يوقـف لـه علـى أثـر وأخـذوا فـي البحـث عنه‏.‏ وفي آخر المحرّم أحضـر المهتـدي كتابـاً رفعـه إليـه سيمـا الشرابـي زعـم أنّ امرأة دفعته إليه وغابت فلم يرها وحضر القوّاد وقرأه سليمان بن وهب عليهم وهو بخط صالح يذكر ما صار إليه من الأموال وأنه إنما استتـر خشيـة علـى نفسـه وحسمـاً للفتنـة وإبقاء عل الموالي‏.‏ ولما قرأ الكتاب حثّهم المهتدي على الصلح والاتفاق فاتّهمه الأتراك بالميل إلى صالـح وأنـه مطّلـع علـى مكانـه وطـال الكلـام بينهـم بذلك‏.‏ ثم اجتمعوا من الغد بدار موسى بن بغا داخل الجوسق واتفقوا على خلع المهتدي إلا أخا بابكيـال فإنـه أبـى مـن ذلـك وتهددهم بأنه مفارقهم إلى خراسان واتصل الخبر بالمهتدي فاستدعاه إليـه وقـد نظَّـفَ ثيابه وتطيَّب وتقلّد سيفه فأرعد وأبرق وتهدّدهم بالاستماتة ثم حلف لا يعلم مكان صالح وقال لمحمد بن بغا وبابكيال قد حضرتما مع صالح في أمر المعتز وأموال الكتاب وأنتـم شركـاؤه فـي ذلـك كلـه‏.‏ وانتشـر الخبـر فـي العامّة بأنهم أرهقوه وأرادوا خلعه فطفقوا يحاذرون علـى الدعـاء فـي المساجد والطرقات ويبغون على القوّاد بغيهم على الخليفة ويرمون الرقاع بذلك فـي الطرقـات‏.‏ ثـم إن الموالـي بالكـرخ والـدور دسّـوا إلـى المهتـدي أن يبعثـوا إليـه أخـاه أبا القاسم عبد اللَّـه بعـد أن ركبـوا وتحركوا فقالوا لأبي القاسم‏:‏ بلغنا ما عليه موسى وبابكيال وأصحابهما ونحن شيعة للخليفة فيما يريده وشكوا مع ذلك تأخّر أرزاقهم وما صاروا من الإقطاع والزيادات إلى قوّادهم وما أخذه النساء والدخلاء حتى أصحب ذلك كله بالخراج والضياع وكتبوا بذلك إلى المهتدي‏.‏ فأجابهم بالثناء على التشيع له والطاعة والوعد الجميل في الرزق والنظر الجميل في شأن الإقطاعـات للقوّاد والنساء فأفاضوا في الدعاء وأجمعوا على منع الخليفة من الحجر والاستبداد عليه وأن ترجع الرسوم على عادتها أيام المستعين على كل عشرة عريف وعلى كل خمسين خليفة وعلى كل مائة قائد وأن تسقط النساء والزيـادة فـي الإقطـاع ويوضـع العطـاء فـي كـل شهرين وكتبوا بذلك إلى المهتدي وأنهم صائرون إلى بابه ليقضي حوائجهم وإن أحد اعترض عليـه أخـذوا رأسـه وإن تعـرّض لـه أحـد قتلـوا موسـى بـن بغا وبابكيال وماجور‏.‏ فجاء أبو القاسم بالكتاب وقد قعد المهتدي للمظالم وعنده الفقهاء‏.‏ والقضاة والقوّاد قائمون في مراتبهم فقرأ كتابهم على القوّاد فاضطربوا وكتب جوابهم بما سألوا وطلب أبو القاسم من القوّاد أن يبعثوا معـه رسـولاً بالعـذر عنهـم ففعلـوا ومضـى أبـو القاسـم إليهـم بكتـاب الكتـاب وبرسـل القـوّاد وأعذارهم‏.‏ فكتبوا إلى المهتدي يطلبون التوقيعات بحطّ الزيادات وردّ الإقطاعات وإخراج الموالي البرّانيين من الخاصـة وردّ الرسـوم إلـى عاداتهـا أيام المستعين ومحاسبة موسى بن بغا وصالح بن وصيف على مـا عندهـم مـن الأمـوال ووضـع العطـاء علـى كـل شهريـن وصـرف النظر في الجيش إلى بعض أخوته أو قرابته وإخراجه من الموالي وكتبوا بذلك إلى المهتدي والقوّاد فأجابهم إلى جميع ما سألوه‏.‏ ووعـدوا بالجـواب فركب إليهم أبو القاسم واتّبعه موسى في ألف وخمسمائة فوقف في طريقهم وجاءهـم أبـو القاسـم فاضطربـوا فـي الجـواب ولـم يتّفقـوا فرجح وردّ موسى بن بغا فأمرهم المهتدي بالرجوع وأن يتقدّم إليهم محمد بن بغا مع أبي القاسم ويدفعوا إليهم كتاب الأمان لصالح بن وصيـف وقـد كـان مـن طلبتهـم أن يكـون موسـى فـي مرتبـة أبـي وصالح كذلك والجيش في يده وأن يظهر على الأمان فأجيبوا إلى ذلك‏.‏ وافترق الناس إلى الكرخ والدور وسامرّا فلما كان من الغد ركب بنو وصيف في جماعة ولبسوا السلاح فنهبوا دوابّ العامّة وعسكروا بسامرّا وتعلقوا بأبي القاسم يطلبوا صالحاً فأنكر المهتـدي أن يكـون علـم بمكانه وقال إن كان عندهم فليُظهِروه‏.‏ ثم ركب ابن بغا في القوٌاد ومعه أربعـة آلـاف فـارس وعسكـر وافتـرق الأتـراك ولـم يظهـر للكرخيين ولا لأهل الدور وسامرّا في هذا اليـوم حركـة‏.‏ وجـدّ موسـى فـي طلـب صالح ونادى عليه وعثر عليه بعض الغوغاء فجاء به إلى الجوسق والعامة في أتباعه فضربه بعض أصحاب مفلح فقتله وطيف برأسه على قناة وخرج موسى بن بغا لقتال السراة بناحية السن‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:39 PM

الصّوائِف منذ ولاية المنتصر إلي آخر أيام المهتدي
فـي سنـة ثمـانٍ وأربعيـن أيـام المستعين خرج بناحية الموصل محمد بن عمر الشرابي وحكم فسرّح المنتصـر إسحـاق بـن ثابـت الفرغانـي فأسـره فـي عـدَّةٍ مـن أصحابـه وقتل وصلبوا‏.‏ وفي هذه السنة غـزا بالصائفـة وصيـف وأمـره المُنتصـر بالمقـام بمنَطْيَة أربع سنين يغزو في أوقات الغزو إلى أن يأتيه رأيه وكان مقيماً بالثغر الشامي فدخل بلاد الروم وافتتح حصن قدوريـة‏.‏

وفي سنة تسـع وأربعين
غزا بالصائفة جعفر بن دينار فافتتح مطامير واستأذنه عمر بن عبد اللَّه الأقطع في الدخـول إلـى بلـاد الـروم فـأذن لـه فدخـل فـي جمـوع مـن أهـل ملطيـة ولقـي ملـك الـروم بمـرج الأسقـف فـي خمسيـن ألفـاً فأحاطـوا بـه وقيـل فـي ألفيـن مـن المسلمين وخرج الروم إلى الثغور الخزرية فاستباحوها وبلغ ذلك عليّ بن يحيى الأرمني وقد كان صرف عن الثغور الشامية وعقد له على أرمينية وأذربيجان‏.‏ فله سمع بخبرهم نفر إليهم وقاتلهم فانهزم وقتل في أربعمائة مـن الولاة لمـا وَلـيَ المنتصـرُ استـوزر أحمـد بـن الخصيـب وولّـى علـى المظالـم أبـا عمـر أحمـد بـن سعيـد مولـى بنـي هاشـم‏.‏ ثمِ وَليَ المستعين ومات طاهر بن عبد اللَّه بخراسان فولّى المستعين مكانه ابنه محمداً وولِّى محمد بن عبد اللَّه على العراق وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعادن السواد واستخلف أخاه سليمان بن عبد الله على طبرستان‏.‏ وتوفي بغا الكبير فولى ابنه موسى على أعماله وضاف إليه ديوان البريد وشغب أهل حمص على عاملهم وأخرجوه فبعث عليهم المستعيـن الفضل بن قارن أخا مازيار فقتل منهم خلقاً وحمل مائة من أعيانهم إلى سامرّا‏.‏ واستـوزر المستعيـن أتامش بعد أن عزل أحمد بن الخصيب واستصفي بقى إلى أقريطش وعقد لأتامش على مصر والمغرب ولبغا الشرابي على حلوان وماسبدان ومهرجـا بعـده‏.‏ ثـم قتـل أتامش فاستوزر المستعين مكانه أبا صالح عبد الله بن محمد بن داود وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج وولّاه عيسى بن فرخانشاه وولّى وصيفاً على الأهواز وبغا الصغيـر علـى فلسطين ثم غضب بغا على أبي صالح ففرّ إلى بغداد واستوزر المستعين مكانه محمد بن الفضـل الجرجانـي وولّـي ديوان الرسائل سعيد بن حميد وعزل جعفر بن عبد الواحد عن القضاء وفي خمسين عقد لجعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى المعروف يساسان على مكة ووثب أهل حمص على عاملهم الفضل بن قارن فقتلوه فسرّح إليهم المستعين موسى بن بغا وحاربوه فهزمهم وافتتحت حمص وأثخن فيهم وأحرقها‏.‏ وفيها وثب الشاكِرِيَّةُ والجند بفارس بعبد اللَّه بن إسحاق فانتهبوا منزله وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن وهرب عبد اللَّه بن إسحاق وفيها كـان ظهـور العَلَوِيـةِ بنواحـي طبرستـان‏.‏

وفي سنة إحـدى وخمسيـن
عقـد المعتز لبغا ووصيف على أعمالهـا وردّ البريـد إلـى موسى بن بغا الكبير وعقد محمد بن طاهر لأبي الساج وقدَّم بين يديه عبـد الرحمـن كمـا قلنـا وأظهـر أنـه إنمـا جـاء لحـرب الأعراب وتلطَّف لأبي أحمد حتى خالطه وقيَّده وبعـث إلـى بغـداد فـي سنـة اثنتيـن وخمسيـن‏.‏ وولّـى المعتز الحُسَين بن أبي الشوارب على القضاء وبعث محمد بن عبد الله بن طاهر أبا الساج عن طريق مكة وعقد المعتز لعيسى الشيخ بن السليل الشيباني من ولد جسَّاس بن مرّة على الرملة فاستولى على فِلَسْطين وعلى دمشق وأعمالهـا وقطـع مـا كـان يحمـل مـن الشـام‏.‏ وكـان إبراهيـم بـن المدبر على مصر فبعث إلى بغداد من المال بسبعمائة ألف دينار فاعترضها عيسى وأخذها وطولب بالمال فقال‏:‏ الفتنة على الجند‏!‏ فولاه المعتمد على أرمينية يقيم بها دعواه‏.‏ وبعث المعتمد إلى الشام ماجور على دمشق وأعمالها وبلغ الخبـر إلـى عيسـى فبعـث ابنـه منصوراً في عشرين ألف مقاتل فانهزم وقتل وسار عيسى إلى أرمينية على طريق الساحل‏.‏ وفيها عقد وصيـف لعبـد العزيـز بـن أبـي دُلَـف العِجْلِـيّ علـى أعمـال الجبـل‏.‏

وفي سنة ثلـاث وخمسيـن
عقـد لموسـى بـن بغـا علـى الجبـل فسـار وفـي مقدّمته مُفْلِح مولى بني الساج وقاتله عبد العزيز بن أبي دلف فانهزم ولجأ إلى قلعة لهادر وملك مفلح الكرخ وأخذ أهله وعياله وفيها مات ابن عبد الله بن طاهر ببغداد وولّى أخوه عبيد الله بعهده‏.‏ ثم بعث المعتز عن أخيه سليمان بطبرستان فولاّه مكانه وكان على الموصل سليمان بن عِمْران الأزدِي وكانت بينه وبين الأزْدِ حـروب بنواحي الموصل‏.‏ وفيها مات مُزاحم بن خاقان بمصر‏.‏ وفيها يعقوب الصفار سجستان وفارس وهراة وكان ابتداء دولته وولى بابكيال أحمد بن طولون على برّ مصر من قبله فكان إبتـداء لدولتـه‏.‏ ثـم أقطعهـا بعـد سنـة سبـع وخمسيـن ليارجـوج فولّـى عليهـا أحمـد بـن طولـون من قبله

وفي سنة خمـس وخمسيـن
أيـام المهتـدي استولـى مُسـاوِرُ الخارجـي علـى الموصـل وفيهـا ظهـر صاحـب الزنْج وكان ابتداء فتنته‏.‏

أخبار صاحب الزنج وابتداء فتنته
كان أكثر دعاة العَلًوّية الخارجين بالعراق أيام المُعْتَصِم وما بعده أكثرهمِ من الزيْدِيَّةِ وكان من أئمتهم علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد الشهير وكان نازلاً بالبصرة لما وقع البحث عليه من الخلفاء ظفروا بابن عمّه عليّ بن محمد بن الحسين فقتل بفدك ولأيام من قتله خرج رجـل بالـريّ يدّعي أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى المطلوب وذلك سنة خمس وخمسين ومائتين أيام المهتدي‏.‏ ولما ملك البصرة لقي عليّاً هذا حياً معروف النسب فرجع عن ذلك وانتسب إلى يحيى قتيل الجوزجان أخي عيسى المذكور‏.‏ ونسبـه المسعـوديُّ إلـى طاهـر بـن الحسيـن وأظنـه الحسيـن بـن طاهر بن يحيى المحدِّث بن الحسين بن جعفـر بـن عبـد اللـه بـن الحسيـن بـن علـيّ لـأن ابـن حـزم قـال فـي الحسيـن السبـط إنـه لا عقـب لـه إلّا من علـيّ بـن الحسيـن وقـال فيـه علـيّ بـن محمـد بـن جعفـر بـن الحسيـن بـن طاهـر‏.‏ وقـال الطبـري وابن حزم وغيرهم من المحقّقين إنه من عبد القيس واسمه عليّ بن عبد الرحيم من قرية من قرى الريّ ورأى كثـرة خـروج الزيديّـةِ فحدّثتـه نفسه بالتوثّب فانتحل هذا النسب ويشهد لذلك أنه كان على رأي الأزارقة من الخوارج ولا يكون ذلك من أهل البيت‏.‏ وسياقة خبره أنه كان اتصل بجماعة من حاشية المنتصر ومدحهم‏.‏ ثم شخص من سامرّا إلى البحرين سنة تسع وأربعين ادّعى أنه من ولد العباس بن أبـي طالـب ثـم مـن ولـد الحسين بن عبد اللَّه بن العباس ودعا الناس إلى طاعته فاتبعه كثير من أهـل حجـر وغيرها وقاتلوا أصحاب السلطان بسببه وعظمت فتنته فتحوّل عنهم إلى الإحساء ونزل على بني الشَمّاس من سعد بن تميم وصحبه جماعة من البحرين منهم يحيى بن محمد الأزرق وسليمان بن جامع فكانا قائدين له وقاتل أهل البحرين فانهزم وافترقت العـرب عنـه واتبعه علـيُ بـن أبـان وسـار إلـى البصـرة ونـزل فـي بنـي ضُبَيْعـةَ وعاملهـا يومئـذ محمـد بـن رجـاء والفتنـة فيها بين البلالِيَّةِ والسعدِيةِ وطلبه ابن رجاء فهرب وحبس ابنه وزوجته وجماعة من أصحابه فسـار إلـى بغـداد وأقـام بهـا حـولاً وانتسـب إلـى محمد بن أبي أحمد بن عيسى كما قلناه واستمال بها جماعة منهم جعفر بن محمد الصوحانيّ من ولد زبد بن صوحان ومسروق ورفيق غلامان ليحيى بن عبد الرحمن وسمّي مسروقاً حمزة وكناه أبا أحمد وسمّي رفيقاً جعفراً وكنّاه أبا الفضل‏.‏ ثم وثب رؤساء البِلالِيَّةِ والسعدِيّةِ بالبصرة وأخرجوا العامل محمد بن رجاء فبلغه ذلـك وهـو ببغـداد وأن أهلـه خلعـوه فرجـع إلـى البصـرة في رمضان سنة خمس وخمسين ويحيى بن محمد وسليمان بن جامع ومسروق ورفيق فنزل بقصر القَرْش ودعا الغلمان من الزنوج ووعدهم بالعتـق فاجتمـع لـه منهـم خلـق وخطبهـم ووعدهـم بالملك ورغَبَهُم في الإحسان وحلف لهم وكتب لهـم فـي خِرْقَـةٍ‏:‏ ‏"‏ إنّ اللّـه اشْتَـرَى مِـنَ المُؤمِنيـنَ أنفسهـم وأمْوَالَهُم ‏"‏ الآية‏.‏ واتخذها راية وجاءه موالي الزنـوج فـي عبيدهـم فأمـر كـل عبـد أن يضـرب مولـاه وحبسهم ثم أطلقهم ولم يزل هذا رأيه والزنوج فـي متابعتـه والدخـول فـي أمـره وهـو يخطبهـم فـي كـل وقـت ويرغِّبًهُـم‏.‏ ثـم عبـر دُجَيـلاً إلـى نهـر ميمون فأخرج عند الحميري وملكـه وسـار إلـى الأبلَّـةِ وبهـا ابـن أبـي عـون فخـرج إليـه فـي أربعـة آلـاف فهزمهـم ونال منهم‏.‏ ثم سار إلى القادِسِيَّةِ فنهبها وكثر سلاحهم وخرج جماعة من أهل البصرة لقتاله فبعث إليهم يحيى بن محمد في خمسمائة رجل فهزمهم وأخذ سلاحهم‏.‏ ثم طائفة أخرى كذلك وأخرى وخرج قائدان من البصرة فهزمهما وقتل منهما وكانت معهما سفن ألقتها الريح إلى الشطِّ فغنموا مـا فيهـا وقتلـوا وكثـر عيثـه وفسـاده‏.‏ وجاء أبو هلال مع الأتراك في أربعة آلاف مقاتل فلقيه على نهـر الريّـان فهزمـه الزنـج واستلحمـوا أكثـر أصحابـه‏.‏ ثم خرج أبو منصور أحد موالي الهاشميين في عسكـر عظيـم مـن اللـه والبلاليَّةِ والسعديَّةِ فسرح للقائهم علي بن أبان فلقي طائفة منهم فهزمهم‏.‏ ثم طائفة أخرى إلى مرفأ السفن وفيه نحو من ألفي سفينة فهرب عنها أهلها ونهبوها ثم جاءه عساكر أبي منصور وقعد الزنوج لهم بين النخل وعليهم علي بن أبي أبان ومحمد بن مسلم فهزموا العسكر وقتلوا منهم وأخذوا سلاحهم‏.‏ ثم سار فنهـب القـرى حتـى امتلـأت أيديهـم بالنهب‏.‏ ثم سار يريد البصرة ولقيته عساكرها فهزمهم الزنج وأثخنوا فيهم‏.‏ فلقيهـم بالسُـد وانهزمـوا هزيمـة شنعـاء كثـر فيهـا القتـل‏.‏ ووهن أهل البصرة وكتبوا إلى الخليفة فبعث إليهم جعلان التركي مدداً وولّى على الأبلّةِ أبا الأحْوص الباهلي وأمّه بجند الأتراك‏.‏ وقد بثّ صاحب الزنج أصحابه يميناً وشمالاً للغارة والنهب‏.‏ ولما وصل - إلى البصرة نزل على فرسخ منهـم وخنـدق عليـه وأقـام ستـة أشهـر يسرّح لحربهم الزيني مع بني هاشم ومرجف ثم بيّته الزنج فقتلوا جماعة من أصحابه وتحوّل عن مكانه ثم انصرف عن حربهم وظفر صاحب الزنج بعدد مـن المراكـب غنـم فيهـا أمـوالاً عظيمـة وقتـل أهلهـا وألـحّ بالغـارات علـى الأبلة إلى أن دخلها عَنْوَةً آخر رجب سنة ست وخمسين عاملها أبا الأحْوص عبيد اللَّه بن حميد الطوسي وخلقاً من أهلها واستباحها وأحرقها وبلغ ذلك أهل عبادان فاستأمنوا له وملكها واستولى على ما فيها من الأمـوال والسلـاح إلـى الأهـواز وبها إبراهيم بن المدبر على الخراج فهرب أهلها ودخلها الزنج ونهبوا وأسـروا ابـن المدبـر فخـاف أهـل البصـرة وافترق كثير منهم إلى البلدان‏.‏ وبعث المعتمد سعيد بن صالـح الحاجـب لحربهـم سنة سبع وخمسين فهزمهم وأخذ ما معهم وأثخن فيهم وكان ابن المدبر أسيـراً عندهـم فـي بيـت يحيـى بـن محمـد البَحْرَانِـيّ وقـد ضمن لهم مالاً كثيراً ووكّل به رجلين قد أخلفهم حتى حفر سَرَباً من البيت وخرج منه ولحق بأهله‏.‏ وفـي أوّل رجـب مـن سنـة ست وخمسين شغب الأتراك من الترك والدور بطلب أرزاقهم وبعث المهتدي أخاه أبا القاسم ومعه كفقا وغيره فشكوهم وعادوا وبلغ محمد بن بغا أنّ المهتدي قال للأتـراك إن الأمـوال عنـد محمـد وموسى ابني بغا فهرب إلى أخيه بالسِنْدِ وهو في مقاتلة موسى الشرابي فأمنه المهتدي ورجع ومعه أخوه حنون وكيغلغ فكتب له المهتدي بالأمان ورجع إلى أصحابه وحبسه وصادره على خمسة عشر ألف دينار ثم قتله وبعث بابكيال بكتابه إلى موسى بن بغا بأن يتسلم العسكر وأوصاه بمحاربة الشرابي وقتل موسى بن بغا ومفلح فقرأ الكتاب على موسى وتواطؤوا على أن يرجع بابكيال فيتدبر على قتل المهتدي فرجع ومعه يارجوج وأساتكين وسيما الطويل ودخلوا دار الخلافة منتصـف رجـب فحبـس بابكيـال مـن بينهم واجتمع أصحابه ومعه الأتراك وشغبوا‏.‏ وكان عند المهتدي صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور فأشار بقتله ومناجزتهم فركب في المغاربـة والأتـراك والفراغِنَـةِ علـى التعبيـة‏.‏ ومشـى والبلخـي فـي الميمنـة ويارجـوج في الميسرة ووقف هو في القلب ومعه أساتكين وغيره من القوّاد وبعث برأس بابكيال إليهم مع عتاب بن عتاب ولحق الأتراك من ميمنة المهتدي وميسرته بإخوانهم الأتراك فانهزم الباقـون عـن المهتـدي وولّـى منهزماً ينادي بالناس ولا يجيبه أحد وسار إلى السجن فأطلق المحبوسين ودخل دار أحمد بن جميل صاحب الشرطة وافتتحوا عليه وحملوه على بغل إلى الجوسق وحبس عند أحمد بن خاقان وأرادوه علـى الخلـع فأبـى واستمـات فأخرجـوا رقعـة بخطـه لموسـى بـن بغـا وبابكيـال وجماعة القوّاد أنه لا يغدر بهم ولا يقاتلهم ولا يهمّ بذلك ومتى فعل شيئاً من ذلك فقد جعل أمر الخلافة بأيديهم يولّون مَن شاؤوا فاستحلّوا بذلك أمره وقتلوه‏.‏ وقيل في سبب خلعه غير هذا وهو إن أهل الكرخ والدور من الأتراك طلبوا الدخول على المهتدي ليكلّموه فأذِنَ لهم وخرج محمد بن بغا إلى المحمدية ودخلوا في أربعة آلاف فطلبوا أن يعزل عنهم قوّاده ويصادرهم وكتابهم على الأهواز ويصير الأمر إلى أخوته فوعدهم بالإجابة وأصبحـوا مـن الغـد يطلبـون الوفـاء بمـا وعدهـم بـه فاعتـذر لهم بالعجز عن ذلك إلاّ بسياسة ورفق فأبـوا إلا المعاجلـة فاستخلفهـم علـى القيـام معـه فـي ذلـك بإيمـان البيعـة فحلفـوا ثم كتبوا إلى محمد بن بغا عن المهتدي وعنهم يعذلونه في غيبته عن مجلسهم مع المهتدي وأنهم إنما جاؤوا بشكوى حالهـم ووجـدوا الـدار خاليـة فأقامـوا ورجع محمد بن بغا فحبسوه في الأموال وكتبوا إلى موسى بن بغا ومفلح بالقدوم وتسليم العسكر إلى مَن ذكروه لهم وبعثوا مَن يقيّدهما إن لم يأتمرا ذلك‏.‏ ولما قرئت الكتب على موسى وأصحابه امتنعوا لذلك وساروا نحو سامرّا وخـرج المهتـدي لقتالهم على التعبية وترددت الرُّسل بينهم بطلب موسى أن يولّي على ناحيـة ينصـرف إليهـا ويطلـب أصحـاب المهتـدي أن يحضر عندهم فيناظرهم على الأموال إلى أن انفض عنهم أصحابه وسار هو ومفلح على طريق خراسان ورجع بابكيال وجماعة من القواد إلى المهتدي فقتـل بابكيال ثم أنِفَ الأتراك من مساواة الفراغنة والمغاربة لهم وأرادوا طردهم فأبى المهتدي ذلك فخـرج الأتـراك عـن الـدار بأجمعهـم طالبيـن ثـأر بابكيـال فركب المهتدي على التعبية في ستة آلاف مـن الفراغنة والمغَاربة ونحو ألف من الأتراك أصحاب صالح بن وصيف واجتمع الأتراك للحرب فـي عشـرة آلـاف فانهـزمٍ المهتمـي وكـان مـا ذكرناه من شأنه‏.‏ ثم أحضر أبو العبّاس أحمد بن المتوكل وكان محبوساً بالجوسق فبايعه الناس وكتب الأتراك إلى موسى بن بغا وهو غائـب فحضـر وكملت البيعة لأحمد بن المتوكل ولقّب المعتمد على اللّه واستوزر عبيد الله بـن يحيـى بـن خاقـان فأصبـح المهتـدي ثانـي يوم البيعة ميتاً منتصف رجب من سنة ست وخمسين على رأس سنة من ولايته‏.‏ ولم يـزل ابـن خاقـان فـي وزارتـه إلـى أن هلـك سنـة ثلـاث وستيـن مـن سقطـة بالميـدان سـالَ فيهـا دماغـه من مِنخَريه فاستوزر محمد بن مخلد‏.‏ ثم سخط كليه موسى بن بغا واختلفا فاستوزر مكانه سليمان بن وَهْب ثم عزله وحبسه وولّى الحسن بن مخلـد وغضـب الموفَّـق لحبسـه ابـن وهـب وعسكـر بالجانـب الغربِيّ وترددت الرًّسل بينهما فاتفقا وأطلقه وذلك سنة أربع وستّين‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:41 PM

وفي سنة سـت وخمسيـن
ظهـر بمصـر إبراهيـم بـن محمـد بـن يحيـى بـن عبـد اللَّـه بن محمد بن الحَنَفيةِ ويُعرف بالصومي يدعو إلى الرضا من آل محمد وملك أشياء من بلاد الصعيد‏.‏ وجاءه عسكر أحمد بن طولون من مصر فهزمهم وقتل قائدهم فجاء جيش آخر فانهزم أمامهم إلى الواحات وجمع هنالك جموعاً وسار إلى الأشمومين فلقيه هنالك أبو عبد الرحمن العُمَرِيّ وهو عبـد الحميـد بـن عبـد العزيـز بـن عبـد اللـه بـن عمـر كـان قـد أخـذ نفسـه بحـرب البجـاة وغـزو بلادهـم لمـا كـان منهـم فـي غزو بلاد المسلمين فاشتدّ أمره في تلك الناحية وكَثُرَ أتباعه‏.‏ وبعث إليه ابن طولون عسكراً فقال لقائده‏:‏ أنا ألبث هناك لدفع الأذى عن بلاد المسلمين فشاوِر أحمد بن طولون‏!‏ فأبى القائد إلّا مَن أجَزْته فهزمه العمري‏.‏ ولما سمع ابن طولون خبره أنكر عليهم أن لا يكونوا بذكره فيقي على حاله من الغارة على البجاة حتى أدوا الجزية‏.‏ فلما جاء الصولي من الأشمونين لقيه العمري فهزمه وعاد العمـري إلـى أسـوان واشتـدّ عَيْثُـهُ فبعـث إليـه ابـن طولون العساكر فهرب إلى عيذاب وأجاز البحر إلـى مكـة وافتـرق أصحابـه وقبـض عليـه والـي مكـة وبعـث بـه إلـى ابـن طولـون فحبسـه مدّة ثم أطلقه فرجـع إلـى المدينـة ومـات بها وفي هذه السنة ظهر علي بن زيد وجاءه الشاه بن ميكال من قبل المعتمـد في جيش كثيف فهزمه وأثخن في أصحابه‏.‏ فسرح المعتمد إلى حربه كيجور التركي فخرج عليّ عن الكوفة إلى القادِسِيَّةِ وملك كيجور الكوفة أوّل شوّال وأقام عليّ بن زيد ببلاد بنـي أسـد‏.‏ ثـم غـزا كيجـور آخـر ذي الحجـة فأوقـع بـه وقتل وأسر من أصحابه ورجع إلى الكوفة ثم إلى سرٌ مَن رأى وبقي علي هنالك إلى أن بعث المعتمد سنة تسع‏.‏ عسكراً فقتلوه بعبكـرا وانقطـع أمـره وقيـل سـار إلـى صاحـب الزنـج فقتلـه سنـة ستيـن وفـي هـذه السنـة غلـب الحسيـن بن زيد الطالبي على الريّ وسار موسى بن بغا إليه‏.‏

بقية أخبار الزنج
قـد تقَـدّم لنـا أن المعتمـد بعـث سعيـد بـن صالح الحاجب لحربهم فأوقع بهم ثم عاودوه فأوقعوا به وقتلوا من أصحابه وأحرقوأ عسكره ورجع إلى سامرّا فعقد المعتمد على حربهم لجعفر بن منصـور الخيـاط فقطـع عنهـم ميرة السفن‏.‏ ثم سار إليهم في البحر فهزموه إلى البحرين ثم بعث الخبيث عليّ بن أبان من قوّاده إلى إربل لقطع قنطرتها فلقي إبراهيم بن سيما منصرفاً من فـارس فأوقـع بهـم إبراهيـم وخـرج علـيّ بـن أبـان وسـار إبراهيـم إلـى نهر جيّ وأمر كاتبه شاهين بن بسطـام باتّباعـه‏.‏ وجـاء الخبـر إلـى علـيّ بـن أبـان بإقبـال شاهين فسار ولقيه وهزمه أشدّ من الأوّل وانصرف إلى جيّ‏.‏ وكـان منصـور بـن جعفـر الخيـاط منـذ انهـزم فـي البحـر لـم يعـد لقتـال الزنـج واقتصـر علـى حفر الخنادق وإصلاح السفن فزحف عليّ بن أبان لحصاره بالبصرة وضيّق علي أهل البلد وأشرف على دخولها وبعث لاحتشاد العرب فوافاه منهم خلف فدفعهم لقتـال أهـل البصـرة وفرقهـم علـى نواحيها فقاتلهم كذلك يومين ثم افتتحها عليِّ بـن أبـان منتصـف شـوٌال وأفحـش فـي القتـل والتخريب ورجع تم عاودهم ثانية وثالثة حتى طلبوا الأمان فأمنهم وأحضرهم في بعض دور الإمـارة فقتلهـم أجمعيـن وحـرق علـيّ بـن أبـان الجامـعِ ومواضـع مـن البصـرة واتسع الحريِق من الجبل إلى الجبل وعمّ النهب وأقام كذلك أياماً‏.‏ ثم ناس بالأمان فلم يظهر أحد وانتهى الخبر إلى الخبيث فصرف عليّ بن أبان وولّى عِليها يحيى بن محمد البحراني‏.‏

مسير المولد لحربهم
لما دخل الزنج البصرة وخرّبوها أمر المعتمد محمداً المعروف بالمولد بالمسير إلى البصرة وسار إلـى الأبلُةِ ثم نزل البصرة وأجتمع إليه أهلها وأخرج الزنج عنها إلى نهر معقل‏.‏ ثم بعث الخبيث قائـده يحيـى بن محمد لحرب المولد فقاتله عشرة أيام ووطن المولد نفسه المقّام وبعت الخبيث إلى يحيـى بـن محمد أبا الليث الأصْبَهَاني مدداً وأمرهم بتبييت المولد فبيّتوه وقاتلوه تلك الليلة والغد إلـى المسـاء‏.‏ ثـم هزمـوه وغنـم الزنـج عسكره واتّبعه البحراني إلى الجامدة وأوقع بأهلها ونهب تلك القرى أجمع وعاث فيها ورجع إلى نهر معقل‏.‏

مقتل منصور الخياط
كان الزنج لما فرغوا من البصرة سار عليّ بن أبان إلى جيّ وعلى الأهواز يومئذ منصـور بن جعفر الخياط قد ولّاه عليها المعتمد بعد مواقعته الزنج بالبحرين فسار إلى الأهواز ونـزل جـيّ وسـار علـيّ بـن أبـان قائـد الزنج لحربه‏.‏ وجاء أبو الليث الأصبهاني في البحر مدداً له وتقمّ إلى منصور من غير أمر عليّ فظفر منصور وقتل الكثير ممّن معه وأفلت منهزماً إلى الخبيـث‏.‏ ثـم تواقـع علـيّ بـن أبـان مـع منصـور فهزمـه واتّبعـه الزنـج فحمـل عليهـم وألقـى نفسـه في النهر ليعبـر إليهـم فغـرق وقيل تقدّم إليه بعض الزنج لما رآه فقتله في الماء‏.‏ ثم قتل أخوه خلف وغيره من العسكر وولّى يارجوج‏.‏ على عمل منصور اصْطَيْخُورَ من قوّاد الأتراك‏.‏

مسير الموفّق لحرب الزنج
كان أبو أحمد المُوَفَّقُ وهو أخو المعتمد بمكة وكان المعتمد قد استقدمه عندما اشتدّ أمـر الزنج وعقد له على الكوفة والحرمين وطريق مكة واليمن ثم عقد له علـى بغـداد والسـواد وواسـط وكـور دجلـة والبصـرة والأهـواز وأمـره أن يعقـد ليارجـوج علـى البصـرة وكور دجلة واليمامـة والبحرين مكان سعيد بن صالح‏.‏ ولما انهزم سعيد بن سعيد بن صالح عقد يارجوج لمنصور بن جعفر مكانه على البصرة وكور دجلة والأهواز ثم قتله كما قلنا‏.‏ فعقد المعتمد لأخيـه أبـي أحمـد الموفّـق علـى مصـر وقنسريـن والعواصـم وخلـع علـى مفلـح وذلـك فـي ربيـع سنة ثمانَ وخمسين وسيّرهما لحرب الزنج فساروا في عدّة كاملة‏.‏ وخرج المعتمد يشيّع أخاه وكان عليّ بن أبّان بجيّ ويحيى بن محمد البحرانـي بنهـر العبّـاس والخبيث في قلة من الناس وأصحابه مترددون إلى البصرد لنقل ما نهبوه‏.‏ فلما نزل الموفّق نهر معقـل أجفـل الزنـج إلـى صاحبهـم مرتاعيـن فأمر عليّ بن أبان بالمسير إليهم ولقي مفلحاً في مقدمة الموفّـق فاقتتلـوا وبينمـا هـم يقتتلـون إذ أصـاب مفلحـاً سهـم غَرِبٌ فقتل وانهزم أصحابه وأسر اِلكثير منهم ثم رحل الموفّق نحو الأبُلِّةِ ليجمع العساكر ونزل نهر أبي الأسَدِ ووقع الموتانُ في عسكره فرجـع إلـى بـادَرود وأقـام لتجهيـز الآلة وإزاحة العِلَل وإصلاح السفن‏.‏ ثمِ عاد إلى عسكر الخبيث فالتفوا واشتدّ الحرب بينهم على نهر أبي الخصيب وقَتل جماعةَ من الزِنْج واستنقذ كثيراً من النساء المَسبيات ورجع إلى عسكره ببادرود فوقع الحريق في عسكـره ورحـل إلـى واسـط وافترق أصحابه فرجع إلى سامرّا واستخلف على واسط‏.‏ كـان اصطَيْخـورُ لمـا وَلـيَ الـأهْوَازَ بعـد مَنْصُورٍ الخَياطِ بلغه مسير يحيى بن محمد قلائد الزنج إلى نهر العباس عند مسير الموفق إليهم فخرج إليه أصطيخُور فقاتله وعبر يحيى النهر وغنم سفن الميرة التي كانت عند أصطيخور وبعث طلائعهِ إلى دجلة فلقوا جيشَ المُوَفَقِ فرجعوا هاربين وطلائع الموفّق في أتباعهم وعبروا النهر منهزمين‏.‏ وبقي يحيى فقاتل وانهزم ودخل في بعض السفن جريحاً وغنم طلائع الموفّق غنائمهم والسفن وأحرقوا بعضها وعبروا الماخورَةَ على يحيى فأنزلـوه مـن سفنهم خشيةً على أنفسهم فسعى به طبيب كان يداوي جراحه وقبض عليه وحمل إلـى سامـرّا وقطـع ثـم قتـل ثم أنفذ الخبيث عَلِي بن أبان وسُلَيْمَانَ بن موسى الشعْراني من قوّاده إلـى الأهـواز وضـم إليهما الجيش الذي كان مع يحيى ومحمد البَحْرانيّ وذلك سنة تسع وخمسين اصطيخور بدَسْتِميانَ وانهزم أمامهما وغرق وهلك من أصحابه خلق وأسِرَ الحسنُ بن هزيمة والحسَنُ بن جعفر وغيرهما وحبسوا ودخل الزنْجُ الأهواز فأقاموا يفسدون في نواحيها ويغنمون إلى أن قَدِمَ موسى بن بَغا‏.‏

مسير ابن بغا لحرب الزنج
ولما ملك الزنْجُ الأهْوَازَ سنة تسعٍ وخمسين سرح المُعْتَمَدُ لحربهم موسى بن بغا على الأعمال فبعـث إلـى الـأهْوَازِ عبـد الرحمـن بـن مُفْلِح وإلى البَصْرَةِ إسحاق بن كِنْدَاجَق وإلى باذرود إبراهيمِ بـن سيمـا وأمرهـم بمحاربـة الزنـجِ‏.‏ فسـار عبـد الرحمـن إلـى عليٍّ بن أبان فهزمه أوّلاً ثم كانت لعبد الرحمـن الكـرّة ثانيـاً فأثخـن فيهـم ورجعـوا إلـى الخبيـث وجاء عبد الرحمن إلى حِصنِ نَهْدي فعكسر بـه وزحـف إليـه علـي بـن أبـان فامتنـع عليـه فسار إلى إبراهيم بن سيما ببارود فواقعه فانهزم أوّلاً إبراهيـم ثـم كانـت لـه الكـرّة ثانيـاً‏.‏ وسـار ابـن أبـان فـي الغِيـاض فأضرموهـا عليهم ناراً ففرّوا هاربين وأسر منهم جماعة‏.‏ وسار عبد الرحمن إلى عليّ بن أبان وجاءه المَدد من الخبيث في البحر فبينمـا عبـد الرحمـن فـي حربـه إذ بعـث علـي جماعـةً مـن خلفـه وشعر بهم فرجع القهقري ولم يصب منهم شيء إلا بعض السفنِ البَحْرِية‏.‏ ثم راجع عبد الرحمن حرب علي بن أبان وفى مقدّمَته طاشتمر فأوقعوا بعلي بن أبان ولحق بالخبيث صاحب الزنج وأقام عبد الرحمن بن مفلح‏.‏ وإبراهيـم يتناوبـان حـرب الخبيـث ويوقعـان به وإسحاق بن كنداجق بالبصرة يقطعِ عنه المدد وهو يبعـث لكـل منهما طائفة يقاتلونهم وأقاموا على ذنك سبعة عشر شهراً إلى أن صرفَ موسى بن بَغا عن حربهم وَوَليَهَا مَسْرورٌ البلخيّ كما نذكر‏.‏

استيلاء الصفار علي فارس وطبرستان
قد تقدّم استيلاء يَعْقوب بن الليث الصَفَّارِعلى فارس أيَّامَ المُعْتَزِّمن يد عليّ بن الحسين بن مقبل‏.‏ ثم عادت فارِسُ إلى الخلفاء ووليَهَا الحارث بن سيما وكان بها من رجال العراق محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي فاتفق مع أحمد بن الليث من الأكـراد الذيـن بنواحيهـا ووثبـوا بالحارث بن سيما فقتلوه واستولى ابن واصل على فارس سنة ست وخمسين وقام بدعوة المُعْتَمـدِ وبعـث عليهـا المعتمـد الحسن بن الفياض فسار إليه يعقوب بن الليث سنة سبع وخمسين وبلـغ ذلـك المعتمـد فكتـب إليـه بالنكير وبعث إليه المُوَفَق بولاية بَلْخٍ وطَخارَسْتَان فملكهما وقبض على رَتْبيل وبعث إلى المعتمد بِرُسُلِهِ وهداياه‏.‏ ثم رجع إلى بَسْت واعتزم على العَوْدِ إلى سِجِسْتَان فعجَّل بعض قُوّاده الرحيل قبله فغضب وأقام سنةً ثم رجع إلى سجستان‏.‏

استيلاء الصفار علي خراسان وانقراض أمر بني طاهر
منها ثم استيلاؤه علي طبرستان ثم جاء إلى هَـرَاةَ وحاصـر مدينـة نيسابـور حتـى ملكهـا ثـم سـار إلـى بوشنـج وقبـض علـى الحسيـن بـن علـيّ بـن طاهـر بـن الحسيـن وبعـث إليـه محمـد بن طاهر بن عبد الله شافعاً فيه فأبى من إطلاقه ثـم ولّـي علـى هـراة وبوشنـج وباذغيـس ورجـع إلـى سجستـانَ وكـان بهـا عبـد اللَّـه السحري ينازعه‏.‏ فلما قوي عليه يعقوب فرَّ منه إلى خراسان وحاصر محمد بن طاهر في نيسابور ورجع إليه الفقهاء فأصلحوا بينه وبين محمد وولّاه الطَبَسَيْن وقهَسْتَان وأرسل يعقوب في طلبه فأجاره محمد فسار يعقوب إليه بنيسابور فلم يطق لقاءه ونزل يعقوب بظاهرها فبعث محمد بعمومته وأهل بيتـه فتلقـوه‏.‏ ثـم خـرج إليـه فوبّخـه علـى التفريـط فـي عملـه وقبـض عليـه وعلـى أهـل بيتـه ودخـل نيسابور واستعمل كليها وأرسل إلى الخليفة بأن أهل خراسان استدعوه لتفريط ابن طاهر في أمره وغلبه العلويَ على طبرستان فبعث إليه المعتمد بالنكير والاقتصار علـى مـا بيـده وإلاّ سلك به سبيل المخالفين وذلك سنة تسع وخمسين‏.‏ وقيـل فـي ملكـه نيسابـور غيـر ذلـك وهو إن محمد بن طاهر أصاب دولته العجز والإدبار فكاتب بعـض قرابتـه يعقـوب بـن الصفّـار واستدعوه فكتب يعقوب إلى محمد بن طاهر بمجيئه إلى ناحية موزيا بقصد الحسن بن زيد في طبرستان وإن المعتمد أمره بذلك وإنه لا يعرض شيئـاً مـن أعمـال خراسـان‏.‏ وبعـث بعـدد قـوّاده عينـاً عليه يمنعه من البراح عن نيسابور وجاء بعده‏.‏ وقَدِمَ أخـاه عمـراً إلـى محمـد بـن طاهر فقبض عليه وعنَفه على الأعمال والعجز وقبض على جميع أهل بيته نحو من مائة وستّين رجَلاً وحملهم جميعاً إلى سجستان واستولى على خراسان ووثب نوّابه في سائر أعمالها وذلك لإحدى عشرة سنة وشهرين من ولاية محمد‏.‏ ولمـا قبـض يعقـوب علـى ابـن طاهر واستولى على خراسان هرب منازعه عبد اللَّه السَجَزي إلى الحسن بن زيد صاحب طبرستان فبعث إليه فيه فأجاره‏.‏ وسار إلى يعقوب سنة ستين وحاربه فانهزم الحسن إلى أرض الديلم وملك يعقوب سارية وآمل ومضى في أثر الحسين من عسكـره نحـو مـن أربعيـن ألفاً من الرجل والظهر ونجا بعد مشقّة شديدة وكتب إلى المعتمد بذلك وكان عبد اللَّه السجزيّ قد هرب بعد هزيمة الحسن العلوي إلى الريّ فسار يعقوب في طلبه وكتب إلى عامل الرقيّ يؤذنه بالحرب إن لم يدفعه إليه فبعث به إليه وقتله ورجع إلى سجستان‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:42 PM

استيلاء الحسن بن زيد علي جرجان
ولما هرب الحسن بن زيد إمام مفلح من طبرستان ورجع مفلح اعتزم الحسن على الرجوع إلى جرجان فبعث محمد بن طاهر إليِها العساكر لحفظها فلم يغنـوا عنهـا وجـاء الحسـن فملكهـا وضعـف أمـر ابـن طاهر في خراسان وانتقض عليه كثير من أعمالها وظهر المتغلِّبون في نواحيها وعـاث السلـاة مـن الخـوارج فـي أعمالهـا ولـم يقـدر علـى دفعهـم وآل ذلك إلى تغلب الصفار على ابن طاهر وانتزاع خراسان من يده كما ذكرنا‏.‏

فتنة الموصل
كان المُعْتَمَدُ قد ولّي على الموصل أشاتَكين من قُوَّاد الأتراك فبعث عليها هو ابنه أذْكَرْتَكين وسـار إليهـا فـي جمـاس سنـة تسـع وخمسيـن فأسـاء السيـرة وأظهـر المنكـر وعسـف بالناس في طلب الخوارج وتعرّض بعض الأيام رجل من حاشيته إلى امرأة في الطريق وتخلصها من يده بعض الصالحين فأحضره أذكرتكين وضربه ضرباً شديداً فاجتمع وجوه البلد وتآمروا في رفع أمرهم إلى المعتمد فركب إليهم ليُوقِعَ بهم فقاتلوه وأخرجوه واجتمعوا على يحيى بن سليمان وولّوه أمرهـم‏.‏ ولمـا كانـت سنـة إحـدى وستّيـن ولـي أستاكيـن عليهـا الهيثمُ بن عبد اللَّه بن العَمْدِ الثعلبيّ العدويّ وأمره أن يزحف لحربهم ففعل وقاتلوه أياماً وكثرت القتلى بينهـم ورجـع عنهـم الهيثـم وولّى أستاكين مكانه إسحاق بن أيوب الثعلبيّ جدّ بني حمدان وغيره وحاصرها مدة ومرض يحيـى بـن سليمـان الأميـر فـي أثنائهـا فطمـع إسحـاق فـي البلـد وجـدّ فـي الحصـار واقتحمهـا من بعض الجهات فأخرجوه وحملوا يحيى بن سليمان في قُبَّةٍ وألقوه أمام الصَّفِّ واشتدّ القتال ولم يزل إسحاق يراسلهم ويعدهم حسن السيرة إلى أن أجابوه على أن يقيم بالرَبْض فأقام أسبوعاً ثم حدّثت ممّن بايعه بعض الفعلات فوثبوا به وأخرجوه واستقر يحيى بن سليمان بالموصل‏.‏

حروب ابن واصل بفارس
فارس وتَغَلُّبه عليها سنة ست وخمسين فلما بلغ ذلك إلى المعتمد أضاف فارس إلى عبد الرحمن بن مُفلح وبعثه إلى الأهواز وأمدّه بطاشتمر وزحفوا من الأهواز إلى ابن واصل سنة إحدى وستين فسار معهم من فارس ومعه أبو داود العَلُّوس ولقيهم برام هرمز فهزمهم وقتل طاشتمـر وأسـر ابـن مفلـح وغنـم عسكرهم‏.‏ وبعث إليه المعتمد في إطلاق ابن مفلح فقتله خِفْيَةَ وسـار لحـرب موسـى بـن بغـا بواسـط وانتهـى إلـى الأهـواز وبهمـا إبراهيـم بـن سيمـا فـي جموع كثيرة‏.‏ ولما رأى موسى بن بغا اضطراب هذه الناحية استعفى المعتمد من ولايتهم فأعفاه وكان عند انصراف ابن مفلح عن الأهواز إلى فارس قد وليَ مكانه بالساج وأمره بمحاربة الزنج فبعث صهره عبد الرحمن لذلك فلقيه عليّ بن أبان قائد الزنج فهزمه عليّ وقتله وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم وملك الزِنْجُ الأهواز فعاثوا فيها‏.‏ ثـم عـزل أبـو السـاج عـن ذلـك وولّـى مكانـه إبراهيم بن سيما فلم يزل بها حتى انصرف موسى بن بغـا عـن الأعمـال كلهـا ولما هزم إبراهيم بن سيما بن واصل بن عبد الرحمن بن مفلح وقتله طمع يَعْقُوبُ الصًفّارُ في ملك فارس فسار من سِجِسْتان مجِداً ورجع ابن واصل من الأهواز وترك محاربة ابن سيما وأرسل خاله أبا بلال مِرْدَاس إلى الصفار وراجعه بالكتب والرّسل بحبس ابن واصل رسله ورحل بعد السير ليفجأه على بغتة وشعر به الصفّار فقال لخاله مرداس‏:‏ إن صاحبك قد غدر بنا وسار إليهم وقد أعيوا وتعبوا من شدة السير ومات أكثرهم عطشاً‏.‏ فلمـا تـراءى الجمعـان انهـزم ابن واصل دون قتال وغنم الصفّار ما في عسكره وما كان لابن مفلح واستولى على بلاد فارس ورتّب بها العُمَالَ وأوْقَع بأهل زَمّ لإعانتهم ابن واصل وطمع في الاستيلاء على الأهواز وغيرها‏.‏

مبدأ دولة بني سامان وراء النهر
كـان جدّهـم أسَدُ بن سامان من أهل خراسان وبيوتها وينتسبون في الفرس تارةً إلى سامَةَ بن لُـؤَيّ وإلـى ابن غالِبِ أخرى‏.‏ وكان لأسَدٍ أربعة من الوُلْدِ‏:‏ نوح وأحمد ويحيى وإلياس‏.‏ وتقدموا عنـد المأموَن أيام ولايته خُراسان واستعملهم ولما انصرف المأمون إلى العراق ولّي على خُراسان غسَّان بن عَبَّاد من قرابة الفَضل بن سَهْلٍ فولّى نوحاً منهم على سَمَرْقَنْد وأحمد على فَرْغَانَةَ ويحيـى علـى الشـاش وأشروسنـة وإليـاس علـى هَـراة‏.‏ فلمـا وَلـيَ طاهـر بـن الحُسَـيْن بعده أقرّهم على أعمالهـم‏.‏ ثـم مـات نـوح بـن أسـد فأقرّ أخويه يحيى وأحمد على عمله وكان حسن السيرة‏.‏ ومات إلياس بهراة فولّى عبد اللَّه بن طاهر مكانه ابنه أبا إسحاق محمد بن إلياس وكان لأحمد بن أسد من البنين سبعة نصر ويعقوب ويحيى وإسماعيل وإسحاق وأسد وكنيته أبو الأشعث وحميـد وكنيتـه أبـو غانـم‏.‏ فلمـا توفـي أحمـد استخلف ابنه نصراً على أعماله بسمرقند وما إليهما وأقـام إلـى أمـراض أيـام بنـي طاهـر وبعدهـم وكـان يلـي أعمالـه مـن قبـل ولـاة خراسـان إلـى حين إِقراض أيـام بنـي طاهـر‏.‏ واستولـى الصَفَّـارُ على خراسان فعقد المعتمد لنصر هذا على أعماله من قبله سنة إحدى وستّين ولما ملك يعقوب الصَفار خُراسان كما قلنا بعث نصر جيوشه إلى شط جَيْحون مَسْلَحَةً من الصفّار فقتلوا مقدّمهم ورجعوا إلى بُخارى وخشيهم واليها على نفسه ففرّ عنها فولّوا عليهم ثم عزلوا ثم ولّوا ثم عزلوا فبعث نصر أخاه إسماعيل لضبط بُخارى‏.‏ ثم وَليَ خُراسان بعد ذلك رافع بن هَرْثَمَةَ بدعوة بني طاهر وغلب الصفّار عليها وحصلت بينه وبين إسماعيـل صاحـب بخـارى موالـاة اتفقـا فيهـا علـى التعـاون والتعاضـد وطلـب منـه إسماعيل أعمال خوارَزْم فولّاه إيّاها وفسد ما بين إسماعيل وأخيه مضر وزحف نصر إليه سنة اثنتين وسبعين واستجاش إسماعيل برافع بن هرثمة فسار إليه بنفسه مدداً وصل إلى بخارى ثم أوقع الصلح بينه وبين أخيه خوفاً على نفسه وانصرف رافع ثم انتقض ما بينهما وتحاربا سنة خمس وسبعين وظفر إسماعيل بنصر‏.‏ ولما حضر عنده ترجّل له إسماعيلِ وقبل يده ورده إلى كرسيّ إمارته بسمرقند وأقام نائباً عنه ببخارى وكان إسماعيل خَيِّـراً مُكرمـاً مسير الموفق إلى البصرة لحرب الزنج وولاية العهد ولمـا استعفى موسى بن بغا من ولاية الناحية الشرقيةِ عزم المعتمد على تجهيز أخيه أبي أحمد المُوَفَّق فجلس في دار العامة وأحضر الناس على طبقاتهم وذلك في شوّال من سنة إحدى وستّيـن وعقـد لابنه جعفر العهد من بعده ولقِّبَه المُفوَّض إلى اللّه وضمّ إليه موسى بن بغا وولّاه إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خُراسان ونهر تصفق وعقد لأخيه أبي أحمد العهد بعده ولقَّبه الناصر لدين اللّه الموفّق وولاّه المشرق وبغداد وسواد الكوفة وطريق مكًة واليمن وكَسْكَر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والريّ وزَنْجَان والسنـد‏.‏ وعقـد لكـل واحـد منهمـا لواءَين أبيض وأسود وشرط أنه إن مات وجعفر لم يبلغ يتقدّم الموفّق عليه ويكون هو بعده وأخذت البيعة بذلك على الناس وعقد جعفر لموسى بن بغا على أعمال العرب واستوزر صاعـد بـن مُخْلِـد ثـم نكبـه سنـة اثنتيـن وسبعيـن واستصفـاه واستكتـب مكانـه الصُفَّـر إسماعيـل بـن بابـل وأمـر المعتمـد أخـاه الموفّـق بالمسيـر لحرب الزنج فبعثه في مقدمته واعتزم على المسير بعده‏.‏

وقعة الصفّار والموفّق
لما كان يعقوب الصفار ملك فارس من يد واصل وخراسان من يد ابن طاهر وقبض عليه صـرَّح المعتمـد بأنـه لم يُولَه ولا فعل ما فعل بإذنه وبعث ذلك مع حاجِّ خراسان وطَبَرْسَتان‏.‏ ثم سـار إلـى الأهـواز يريـد لقـاء المُعْتَمَـد وذلـك سنـة اثنتيـن وسبعيـن‏.‏ فأرسـل إليـه المعتمد إسماعيل بن إسحـاق وفهـواج مـن قـوّاد الأتـراك ليردّوه على ذلك وبعث معهما مَن كان في حبسه من أصحابه الذين حبسوا عندما قبض على محمد بن طاهر وعاد إسماعيل من عند الصَفَّارِ بعزمه على الموصل فتأخر الموفِّق لذلك عن المسير لحرب الـزِنْج ووصـل مـع إسماعيـل مـن عنـد الصَفَـار حاجبه ذرهم يطلب ولاية طبرْسَتَان وخُراسان وجَرْجَان والريّ وفارس والشرطة ببغداد فولاّه المعتمـد ذلـك كلـه مضافـاً إلى ما بيده من سِجِسْتَان وكَرْمان وأعاد حاجبه إليه بذلك ومعه عُمَرُ بن سيما كتب يقول‏:‏ لا بدّ من الحضور بباب المعتمد‏.‏ وارتحل من عسكر مكرم حاما وسار إليه أبو الساج من الأهواز لدخوله تحت ولايته فأكرمه ووصله وسار إلى بغداد‏.‏ ونهض من بغداد فعسكر بالزعْفَرَانِيةِ وأخوه مسرور البَلْخِيّ فقاتله منتصف رجب وانهزمت ميسرة الموفق وقتل فيها إبراهيم بن سيما وغيره من القوّاد‏.‏ ثم تراجعوا واشتدّت الحرب وجاء إلـى الموفّـق محمـد بـن أوش والدارانـي مَـدَداً مـن المعتمـد وفشل أصحاب الصفار لما رأوا مدد الخليفة فانهزموا وخرج الصفَار واتّبعهم أصحاب الموفّق وغنموا من عسكره نحواً من عشرة آلاف من الظهر ومن الأموال ما يؤد حمله وكان محمد بن طاهر معتقلاً معه في العسكر منذ قبض عليه بخراسان فتخلّص ذلك اليوم وجاء إلى الموفّقة وخلع عليه وولاّه الشرطة ببغداد وسار الصفار إلى خوزستان فنزل جند يسابور وأرسله صاحـب الزنـج يحثّـه على الرجوع ويعده المساعدة فكتب إليه‏:‏ ‏"‏ قل يا أيّها الكافرون لا أعبد ما تعبـدون ‏"‏ السورة‏.‏ وكان ابن واصل قد خالفت الصَفار إلى فارس وملكها فكتب إليه المعتمد بولايتها وبعث الصفّار إليه جيشاً مع عمر بن السريّ من قـوّاده فأخرجـه عنهـا وولّـى علـى الأهواز محمد بن عبد اللًه بن طاهر‏.‏ ثم رجع المعتمد إلى سامرّا والموفّق إلى واسط واعتزم الموفّق على أتباع الصفّار فقعد به المـرض عـن ذلـك وعـاد إلـى بغـداد ومعـه مسـرور البَلْخِـيّ سار بعد موسى وأقطعه ما لأبي الساج من الضياع والمنازل وقَدِمَ معه محمد بن طاهر فقام بولاية الشرطة ببغداد‏.‏

سياقة أخبار الزنج
قد ذكر أنّ مسروراً البَلْخِيّ سار بعد موسى بن بغا لحرب الزنـج ثـم سـار مسـرور للقـاء المعتمد وحضر الموفّق حرب الصَفَار وبلغ صاحب الزنج جاؤوا النواحي من العساكر فبعث سرايـاه فيهـا للنهـب والحـرق والتخريـب فـي بعـث سليمـان بـن جامـع إلـى البطيحـةِ وسليمـان بـن موسـى إلى القادِسيةِ‏.‏ وجاء أبو التركي في السفن يريد عسكر الزنج فأخذ عليه سليمان بن موسى وقاتله شهراً حتى تخلص وانحاز إلى سليمان بن جامـع وبعـث إليهمـا الخبيـث بالمـدد وكـان مسـرور قد بعث قبل مسيره من واسط جنداً في البحر إلى سليمان فهزمهم وأوقع بهم وقتل أسراهـم ونـزل بِقَرةِ مروان قريبَاً من يعقوب متحصِّناً بالغياض والأغوار‏.‏ وزحف إليه قائدان من بغـداد وهمـا أغَرْتَمِـش وحشيـش فـي العساكـر بـرّاً وبحراً وأمر سليمان أصحابه بالاختفاء في تلك الغِياض حتى يسمعوا أصوات الطبول‏.‏ وأقبل أغرتمش ونهض شرذمة من الزنج فواقعوا أصحابه وشاغلوهم وسار سليمان من خلفهم وضرب طبوله وعبروا إليهم في الماء فانهزم أصحاب أغرتمش وظهـر مـا كـان مختفيـاً وقتـل حشيـش وأتبعوهـم إلى العسكر وغنموا منه وأخذوا من القِطَع البحرية ثم استردّها أغرتمش من أيديهم وعاد سليمان ظافراً وبعث برأس حشيش إلى الخبيث صاحبه فبعث به إلى عليّ بن أبـان فـي نواحـي الأهواز وكان مسرور البلخيّ قد بعث إلى كور الأهواز أحمد بن كيتونة فنزل السوس وكان صاحب الأهـواز مـن قِبَـل الصفَّـار يكاتـب صاحـب الزنـج ويداريـه ويطلـب لـه الولاية عنه فشرط عليه أن يكون خليفة لابن أبان واجتمعا بتستر‏.‏ ولما رأى أحمد تظاهرهما رجع إلى السوس وكان عليّ بن أبان يروم خطبة محمد له بعمله فلما اجتمعا بتستر خطب للمعتضد والصفّار ولم يذكـر الخبيـث فغضـب علـيّ وسـار إلـى الأهـواز‏.‏ وجـاء أحمـد بـن كيتونـة إلـى تستـر فأوقـع بمحمـد بـن عبد اللَّه وتحصَّن منه بتستر‏.‏ وأقبل عليّ بن أبان إليه فاقتتلا واشتدّ القتال بينهما وانهزم عليّ بن أبان وقتل جماعة من أصحابه ونجا بنفسه جريحاً في الساريات بالنهر وعاد إلى الأهواز‏.‏ وسار منها إلى عسكر الخبيث واستخلـف علـى عسكـره بالأهـواز حتـى داوى جراحَـهُ ورجـع‏.‏ ثـم بعـث أخـاه الخليـل إلى أحمد بن كيتونة بعسكر مكرم فقاتله وقد أكمن لهم فانهزموا وقتل من الزنج خلق ورجع المنهزمون إلى علـي بـن أبـان وبعـث مسلحـةً إلـى السرقـان فاعترضهم جيش من أعيان فارس أصحاب أحمد بن كيتونة وقتلهم الزنج جميعاً فحظي عنده بذلك وبعث في أثر إبراهيم مَن قتله في سرخس‏.‏ ولمـا أراد الصَفَـارُ العـود إلـى سجستـان ولّـي علـى نيسابـور عزيـز بـن السرفـي وعلى هراة أخاه عمرو بـن الليـث فاستخلـف عمـرو عليهـا طاهـر بـن حفـص الباذغيسـي وسـار إلى سجستان سنة إحدى وستّيـن فجـاء الخبيـث إلـى أخيـه علـيّ وزيَّـن له أن يقيم نائباً عنه في أموره بخراسان وطلب ذلك مـن أخيـه يعقـوب فـأذنَ لـه‏.‏ ولمـا ارتحلـوا جمـع جمعاً وحارب علياً فأخرجه من بلده ثم غلب عزيز بن السريّ على نيسابور وملكهـا أوّل اثنتيـن وستّيـن وقـام بدعـوة بنـي طاهـر‏.‏ واستقـم رافـع بـن هرثمـة مـن رجالاتهـم فجعلـه صاحـب جيشـه وكتب إلى يَعْمُر بن سَرْكَب وهو يحاصر بلْخ يستقدمه فلم يثـق إليـه وسـار إلـى هـراة فملكهـا من يد طاهر بن حفص وقتله وزحف إليه أحمد وكانت بينهما مواساة‏.‏ ثم داخل بعض قوّاد أحمد الخجستاني في الغدر بعمر على أن يمكِّنَهُ من أخيه أبي طلحـة فكلـف ذلـك القائـد بـه فتـمّ ذلـك وكبسهـم أحمـد وقبض على يعمر وبعثه إلى نائبه بنيسابور فقتلـه وقتـل أبـا طلحـة القائـد الذي غدر بأخيه وسار إلى نيسابور في جماعة فلقي بها الحسين بـن طاهـر مرعـوداً مـن أصبهـان طمعـاً أن يدعو له أحمد الخجستاني كما كان يزعم حين أورد فلم يخطب فخطب له أبو طلحة وأقام معه بنيسابور فسار إليهما الخجستاني من هراة في اثني عشر ألفاً‏.‏ وقـدم أخـاه العبّـاس فخـرج إليـه أبـو طلحـة وهزمه فرجع أحمد إلى هراة ولم يقف على خبر أخيه وانتدب رافع وهرثمة إلى استعلـام خبـره واستأمـن إلـى أبـي طلحـة فأمنـه ووثـق إليـه‏.‏ وبعـث رافـع إلـى أحمد بخبر أخيه العباس ثم أنفذه طاهر إلى بَيْهَق لجباية مالها وضمَ معه قائدين لذلك فجبى المال وقبض على القائدين وانتقض‏.‏ وسار إلى الخجستاني ونزل في طريقه بقرية وبها عليٌ بن يحيى الخارجي فنزل ناحية عنه وركب ابـن طاهـر فـي أتباعـه فأدركـه بتلـك القريـة فأوقـع بالخارجي يظنه رافعاً ونجا رافع إلى الخجستاني‏.‏ وبعث ابن طاهر إسحاق الشرابي إلى جَرْجـان لمحاربـة الحسـن بن زيد والديْلَم منتصف ثلاث وستين فأثخن في الديلم ثم انتقض على ابـن طاهـر فسـار إليه وكبسه إسحاق في طريقه فانهزم إلى نيسابور واستضعفه أهلها فأخرجوه فأقـام إلـى فرسـخ منها وجمع جمعاً وحاربهم ثم كتب إلى أهل نيسابور إلى إسحاق باستدعائه ومساعدتـه علـيّ بـن طاهـر وأبي طلحة وكتب إلى أهل نيسابور عن إسحاق بالمواعدة‏.‏ وسار إسحاق أبو محمد في قِلَهٍّ من الجند فاعترضه أبو طلحة وقتله وحاضر نيسابور فاستقدموا الخجستاني من هَراة وأدخلوه‏.‏ وسـار أبـو طلحـة إلـى الحسـن بـن زيـد مستنجداً فأنجده ولم يظفر وعاد إلى بَلْخ وحاصرها سنة خمـس وستيـن وخـرج للخجستانـي مـن نيسابور به وحاربه الحسن بن زيد لمساعدته أبا طلحة‏.‏ وجاء أهل جرجان مدداً للحسن فهزمهم الخجستاني وأغرمهم أربعة آلاف ألف درهم‏.‏ ثم جـاء عمـرو بـن الليـث إلـى هـراة بعد وفاة أخيه يعقوب الصفَّار وعاد الخُجِسْتَانِيّ من جرجان إلى نيسابور وسار إليه عمرو من هراة فاقتتلا وانهزم عمرو ورجع إلى هراة وأقام أحمد بنيسابور‏.‏ وكانت الفقهاء بنيسابور يميلون إلى عمرو لتولية السلطان إيّاه فأوقع السجستاني بينهم الفتنة ليشغلهـم بهـا ثـم سـار إلـى هـراة سنـة سبع وستّين وحاصر عمرو بن الليث فلم يظفر منه بشيء فسار نحو سجستان وترك نائبه بنيسابور فأساء السيرة وقوى أهل الفساد فوثب بـه أهـل نيسابـور واستعانوا بعمرو بن الليث وبعث إليهم جنداً يقبض على نائب الخجستاني وأقاموا بها ورجـع مـن سجستـان فأخرجهـم وملكهـا وأقـام إلـى تمام سبع وستين وكاتب عمرو أبا طلحة وهو يحاصر بلخ فقَدِمَ عليه وأعطاه أموالاً واستخلفه بخراسان وسار إلى سجستان وسار أحمد إلـى سرخـس ولَقِيَـهُ أبـو طلحة فهزمه أحمد ولحق بسجستان وأقام أحمد بطَخَارِسْتَان‏.‏ ثم جاء أبو طلحة إلى نيسابور فقبض على أهل الخُجِسْتَانِيّ وعياله وجاء أحمد من طَخارِسْتَان إلى نيسابـور وأقـام بهـا‏.‏ ثـم تبيّـن لابـن طاهـر أنّ الخجستانـي إنما يروم لنفسه وليس على ما يدّعيه من القيام بأمرهم‏.‏ وكـان على خَوارِزْمَ أحمد بن محمد بن طاهر فبعث قائده أبا العباس النوْفَلِيّ إلى نيسابور في خمسة آلاف مقاتل وخرج أحمد أمامهم وأقام قريباً منهم وأفحش النوفي في القتل والضرب والتشويه وبعـث إليـه الخُجِسْتَانِـيّ فنهـاه عـن مثـل ذلـك فضـرب الرّسـل فلحـق أهـل نيسابـور بالخجستانـي واستدعـوه وجـاؤوا بـه وقبـض على النوفلي وقتله‏.‏ ثم بلغه أنّ إبراهيم بن محمد بن طَلْحَـةَ بـن عبـد اللَّـه بـن طاهـر بمرو فسار إليه من أسورد في يوم وليلة وقبض عليه وولّى عليها موسـى البَلْخـيّ ثـم وافاهـا الحسين بن طاهر فأحسن فيهم السيرة ووصل إليهم نحو عشرين ألف درهـم وكان الخجستاني لما بلغه أخذ والدته من نيسابور وهو بطخارستان وسار مُجِدّاً فلما بلغ هراة أداه غلام لأبي طلحة مستأمنَاً فأمنه وقربه فغصّ به وغلامه الخالصة عنده والجنود وطلـب الفرصـة فـي قتـل الخجستانـي وكـان قـد غـور ساقيـة قطلـغ فاتفقـا علـى قتلـه فقتلاه في شوّال سنة ثمانٍ وستّيـن‏.‏ وأنفـذ دامجـور خاتمـه إلـى الإسطبـل مـع جماعـة فركبـوا الـدواب وسـاروا بالخبـر إلـى أبي طلحة ليستقدموه وأبطأ ظهوره علـى القـوّاد فدخلـوا فوجـدوه قتيـلاً وأخبرهـم صاحـب الإسطبل بخبر الخاتم والدواب وطلبوا دامجـور فلـم يجـدوه ثـم عثـروا عليـه بعـد أيـام فقتلـوه واجتمعوا على رافع بن هرثمة وكان من خبره ما نذكره‏.‏

استيلاء الصفار على الأهواز
ثم سار يعقوب الصَفَّار من فارس إلى الأهواز وأحمد بن كيتونة قائد مسرور البلخي على الأهـواز مقيـم علـى تستـر فرحـل عنهـا ونـزل يعقوب جنديسابور ففرّ كلّ مَن كان في تلك النواحي مـن عساكـر السلطـان وبعـث إلى الأهواز من أصحابه الخضرَ بن المعير فأفرج عنها عليّ بن أبان والزنج ونزلوا السمرة ودخل خضر الأهواز وأقام أصحاب الخضر وابن أبان يُغير بعضهم على بعـض‏.‏ ثـم فـرّ ابـن أبـان وسـار إلـى الأهـواز فأوقـع بالخضـر وفتك في أصحابه وغنم ولحق الخضر بعسكر مكرم واستخرج ابن أبان ما كان بالأهواز ورجع إلى نهر السدرة‏.‏ وبعث يعقوب إلى الخضر مدداً وأمره بالكفّ عن قتال الزنج والمقام بالأهواز فأبى ابن أبان من ذلك إلاّ أن ينقل طعاماً ما كان هناك فنقله وتوادعوا‏.‏

استيلاء الزنج على واسط
قد تقدّم لنا واقعة أغرتمش مع سليمان بن جامع وظفر سليمان به فلما انقضى أمره سار سليمـان إلـى صاحـب الخبيـث ومـرّ فـي طريقـه بعسكـر تكيـن البخـاريّ وهـو يبـردود فلمـا حاذاه قريباً أشار عليه الجنانيّ أن يغير على العسكر في البحر ويستطرد لهم لينتهزوا منهم الفرصة ففعل وجاء مستطرداً وقد أكمنوا لهم الكمناء حتى أجازوا موضع الكمائن‏.‏ وركب سليمان إليهم وعطف الجناني على مَن في النهر وخرجت الكمائن من خلفهم فأثخنوا فيهم إلى معسكرهم ثم بيّتوهمِ ليلاً فنالوا منهم وانكشف سليمان قليلاً ثم عبر أصحابه وأتاهـم مـن وجـوه عديـدة بـرّاً وبحـراً فانهـزم تكّيـن وغنم الزنج عسكره‏.‏ ثم استخلف سليمان على عسكـره الجنانـي وسـار إلـى صاحـب الخبيـث سنـة ثلـاث وستّين‏.‏ ومضى الجنانيُ بالعسكر لطلب الميرة فاعترضه جُعلان من قوّاد السلطان وهزمه وأخذ سيفه‏.‏ ثم زحف منكجور ومحمد بن عليّ بن حبيب من القوّاد وبلغ الحجاجية فرجع سليمان مغذً إلـى طهتـا يريد جعلان وفي مقدمته الجَنانِيّ‏.‏ ثم كرّ إلى ابن خبيث فهزمه وقتل أخاه وغنم ما معه‏.‏ ثم سار في شعبان إلى قرية حسّان فأوقع بالقائد هناك جيش ابن خمار تكين وهزمه ونهب القرية وأحرقها‏.‏ ثم بعث العساكر في الجهات للنهب برّاً وبحراً واعترض جعلان بعضهم فأوقـع بهـم ثـم سـار سليمان إلى الرصافة فأوقع بالقائد بها واستباحها وغنم ما فيها ورجع إلى منزلـه بمدينـة الخبيـث وجاء مطر إلى الحجاجية فعاثَ فيها وأسر جماعة منها كان منهم القاضي سليمان فحمله إلى واسـط‏.‏ ثـم سـار إلـى طهتـا وكتـب الجنانـي بذلـك إلـى سليمـان فوافـاه لاثنتيـن مـن ذي الحجة وجاء أحمد بن كيتونة بعد أن كـان سـار إلـى الكوفـة وجبيـل فعـاد إلـى البريديّـة وصرف جعلان وضبط تلك الأعمال وأوقع تكين بسليمان وقتل جماعة من قوّاده‏.‏ ثم ولّي الموفَّـقُ علـى مدينة واسط محمد بن الوليد وجاءه في العساكر واستمدّ سليمان صاحبه بالخليل بن أبّان في ألف وخمسمائة مقاتل فزحف إلى ابن المولد وهزمه واقتحم واسط بها منكجور البخـاري فقاتله عامّة يومه ثم قتل ونهب البلد وأحرقها وانصرف سليمان إلى جبيل واستدعوه في نواحيها تسعين ليلة‏.‏ استيلاء ابن طولون على الشام كان على دمشق أيام المعتمد ماجور من قوّاد الأتراك فتوفي سنة أربع وستّين وقام ابنه عليّ مكانه‏.‏ وتجهّز أحمد بن طولون من مصر إلى دمشق وكتب إلى ابن ماجور بأن المعتمد أقطعه الشام والثغور فأجاب بالطاعة وسار أحمد واستخلـف علـى مصـر ابنـه العبّـاس ولقيـه ابـن ماجور بالرملةِ فولّاه عليها وسار إلى دمشق فملكها وأقرّ القوّاد على أقطاعهم‏.‏ ثم سار إلى حمص فملكها ثم حماة ثم حلب وكان على أنطاكية وطرسوس سيما الطويل من قوّاد الأتراك فبعـث إليـه ابـن طولـون بالطاعـة وأن يقـرّه علـى ولايتـه فامتنـع فسار إليه ودلُّوه على عَورة في سور البلد نصب عليها المجانيق وقاتله فملك عَنْوَة وقتل سيما في الحرب فسار ثم قصد طرسوس فدخلها واعتزم على المقام بها ويريد الغزو‏.‏ وشكا أهلها غلاء السعر وسألوه الرحيل فرحل عنهم إلى الشام ومضى إلى حرِّان وبها محمد بن أتامش فحاربه وهزمه واستولى عليها‏.‏ ثم جاءه الخبر بانتقاض ابنه العباس بمصر وأنه أخذ الأموال وسار إلى بَرْقَةَ فلم يكترث لذلك وأصلح أحوال الشام وأنزل بِحَرّان عسكراً وولّى مولاه لؤلؤاً على الرقَّة وأنزل معه عسكراً وبلغ موسـى بـن أتامـش خبـر أخيـه محمد فجمع العساكر وسار نحو جَرْجان وبها أحمد بن جيفونة من قـوِّاد ابـن طولـون فأهمـل مسيـره وقال له بعض الأعراب واسمه أبو الأعزّ لا يهمّك أمره فإنه طًيّاش قَلِق وأنا آتيك به‏!‏ فقال افعل‏!‏ وزاده عشرين رجلاً وسار إلى عسكر موسى بـن أتامـش فأكمَن بعض أصحابه ودخل العسكر بالباقي على زيّ الأعراب وقصد الخيل المرتبطة عند خيـام ابـن موسى فأطلقها وصاحوا فيها فنفرت واهتاج العسكر وركبوا واستطرد لهم أبو الأعزّ حتـى جـاوز الكميـن وموسـى فـي أوائلهـم فخـرج الكميـن وانهزم أصحاب موسى من ورائه وعطف عليـه أبـو الأعـزّ فأخـذ أسيـراً وجـاء بـه إلـى ابـن جيفونـة وبعـث بـه إلـى ابـن طولون فاعتقله وعاد إلى مصر وذلك سنة ست وستين‏.‏ ومـن أخبـار الزنـج أنّ سليمـان احتفـر نهراً يمرّ إلى سواد الكوفة ليتهيّأ له الغارة على تلك النواحي وكان أحمد بن كيتونة‏.‏ فكبسهم وهم يعلمون وقد جمروا عساكرهمِ لذلك فأوقع بهم وقتل منهـم نحـواً مـن أربعين قائداً وأحرق سفنهم ورجع سليمان مهزوماً إلى طَهْتَا‏.‏ ثم عدَت عساكر الزِنج على النًعْمَانِيَّةِ - واستباحوها وصار أهلها إلى جَرْجَرَايا وأجفل أهل السواد إلى بغداد وزحف علي بن أبان بعسكر الزنج إلى تَسْتُر فحاصرها وأشرف على أخذها‏.‏ وكان الموفّق استعمـل علـى كـور الأهـواز مسـروراً البَلْخِيّ فولّى عليها تكين البُخَاريّ فسار إليها ووافاها أهل تستـر فـي تلـك الحـال فأغـزى علـيّ بـن أبّـان وهزمـه وقتـل مـن الزنـج خلقـاً ونـزل تستـر‏.‏ وبعـث ابـن أبان جماعـة مـن قـوّاد الزنـج ليقيمـوا بقنطـرة فـارس وجاء عين بخبرهم إلى تكين فكبسهم وهزمهم وقتل منهـم جماعـة‏.‏ وسـار ابـن أبـان فانهـزم أمامـه وكتـب ابـن أبّـان إلى تكين يسأله الموادعة فوادعه بعض الشيء واتّهمه مسرور فسار وقبض عليه وحبسه عند عِجلان بن أبان وفرّ منه أصحابـه وطائفة إلى الزنج وطائفة إلى محمد بن عبد اللًه الكرخي ثم أمّن الباقين فرجعوا إليه‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:44 PM

موت يعقوب الصفّار وولاية عمرو أخيه
وفي سنة خمس وستّين أخريات شوّال منها مات يعقوب الصفَارُ وقد كان افتتح الرجح وقتل مَلِكَهَا وأسلم أهلُها على يده وكانت مملكةً واسعة الحمود‏.‏ وافتتح زابَلَسْتَانَ وهي غزنة وكان المعتمـد قـد استمالـه وقلّـده أعمـال فـارس‏.‏ ولمـا مات قام أخوه عمرو بن الليث وكتب إلى المعتمد بطاعته فولّاه المُوَفّقُ من قِبَلِهِ ما كان له من الأعمال‏:‏ خراسان وأصْبَهَانَ والسِنْد وسِجِسْتَان والشرْطة ببغداد وسُرّ مَن رَأى وقبله عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن طاهر وخلع الموفّق عمرو بن الليث وولّى على أصبهان من قبله أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف محمد بن أبي الساج‏.‏

أخبار الزنج مع أغرتمش
قـد كـان تقـدّم لنـا إيقاع سليمان بن جامع بأغرتمش وحربه بعد ذلك مع تكين وجعلان ومطر بن جامـع وأحمـد بـن كيتونـة واستيلـاؤه علـى مدينـة واسـط‏.‏ ثم ولي أغرتمش مكان تكين البخاريّ ما يتولّـاه مـن أعمـال الأهـواز فدخـل تستـر فـي رمضـان ومعـه مطر بن جامع وقتل جماعة من أصحاب أبّان كانوا مأسورين بها‏.‏ ثم سار إلى عسكر مكرم ووافاه هناك عليّ بن أبان والزنج فاقتتلوا ثـم تحاجـزوا لكثـرة الزنـج ورجع علي إلى الأهواز وسار أغرتمش إلى الخليل بن أبّان ليعبروا إليه من قنطرة أربل وجاءه أخوه عليّ وخاف أصحابه المخلفون بالأهواز فارتحلوا إلى نهر السروة وتحـارب علـي وأغرتمـش يومـاً ثـم رجـع علـي إلى الأهواز ولم يجد أصحابه فبعث مَن يردّهم إليه فلم يرجعوا‏.‏ وجاء أغرتمش وقتل مطر بن جامع في عدّة من القوّاد وجاء المَدد لابن أبّان من صاحبه الخبيث فوادعه أغرتمش وتركه‏.‏ ثـم بعـث محمـد بـن عبيـد اللَّـه إلـى أبِكْلـاي ابـن الخبيـث فـي أن يرفع عنه يد ابن أبان فزاد ذلك في غيظه وبعث يطالبه محمد بالخراج ودافعه فسار إليه وهرب محمد من رَامَهُرْمُز إلى أقصـى معاقله ودخل عليّ والزنج رامهرمز وغنموا ما فيها‏.‏ ثم صالحه محمد على مائتي ألف درهم وتـرك أعماله‏.‏ تم استنجده محمد بن عبيد الله على الأكراد على أن لعليّ غنائمهم فاستخلف علـي علـى ذلـك مُجْلِـز وطلـب منـه الرهـنَ فمطـل وبعث إليه الجيش فزحف بهم إلى الأكراد‏.‏ فلما نشب القتال انهزم أصحاب محمد فانهزم الزنج وأثخن الأكراد فيهم وبعث عليٌّ مَن يعترضهم فاستلبوهم وكتب عليّ إلى محمد يتهدده فاعتذر وردّ عليهم كثيراً من أسلابهم وخشي من الخبيث وبعـث إلـى أصحابـه مـالاً ليسألـوه فـي الرضـا عنـه فأجابهـم إلـى ذلـك علـى أن يقيـم دعوتـه فـي أعمال ففعل كذلك‏.‏ ثم سار ابن أبان لحصار مؤتة واستكثر من آلات الحصار وعلم بذلك مسرور البلخي وهو بكور الأهواز فسار إليه ووافاه عليها فانهزم ابن أبان وترك ما كان حمله هناك وقتل من الزنج خلق وجاء الخبر بمسير الموفّق إليهم‏.‏

استرجاع ابن الموفّق ما غلب عليه الزنج من أعمال دجلة
لما دخل الزنْجُ واسط وعاثوا فيها كما ذكرناه بعث المُوَفَّقُ ابنه أبا العَباس وهـو الـذي وَلـيَ الخلافة بعد المُعْتَمَدِ ولقِّبَ المُعْتَضِدُ فبعثه أبوه بين يديـه فـي ربيـع سنـة سـت وستّيـن فـي عشـرة آلـاف مـن الخيـل والرجـال وركـب لتشييعه وبعث معه السفُنَ في النهر عليها أبو حمزة نصر فسار حتى وافى الخيل والرَجْل والسفن النهرية وعلى مُقدمته الجناني وأنهم نزلوا الجزيرة قريباً من بردروبا وجاءهـم سليمـان بـن موسـى الشعرانـي مَدَداً بمثل ذلك وأن الزنج اختلفوا في الاحتشاد ونزلوا من السفـح إلـى أسفـل واسـط ينتهـزوا الفرصـة فـي ابـن الموفّـق لما يظنون من قِلّة درايَتِهِ بالحرب‏.‏ فركب أبـو العبـاس لاستعـلاء أمرهـم ووافـى نصيراً فلقيهم جماعة من الزنج فاستطرد لهم أوّلًا ثم كر في وجوه‏!‏ وصاح بنصير فرجع وركب أبو العبّاس السفن النهريّة فهزم الزنج وأثخن فيهم واتّبعهم ستّة فراسخ وغنم من سعيهم وكان ذلك أوّل الفتح‏.‏ ورجع سُلَيمان بن جامع إلى نهر الأمين وسليمان بن مؤمن الشعراني إلى سوق الخميس وأبو العباس على فرسخ من واسط يغاديهم القتال ويُراوحُهُم‏.‏ ثم احتشد سليمان وجاء من ثلاثة وجوه وركب في السفن النهرية وبرز إليه نُصَيْر في سفنه وركب معه أبو العباس في خاصّته وأمر الجند بمحاذاته من الشطِّ ونثب الحرب فوقعت الهزيمة على الزنج وغُنِمَتْ سُفُنُهُمْ وأفلت سليمان والجناني من الهلكة وبلغوا طَهْتا ورجع أبو العباس إلى معسكره وأمر بإصلاح السفن المغنومة وحفر الزنج في طريق الجبل الآبار وغطوها فوقع بعض الفرسان فيها فعـدل جنـد السلطان عن ذلك الطريق‏.‏ وأمر الخبيث أصحابه بالسفن في النهر وأغاروا على سفن أبي العَباس وغنموا بعضها وركب في أتباعهم واستنقذ سفنهم وغنم من سفنهم نحواً من ثلاثين وجد في قتالهم وتحضن ابن جامع بطهتا وسمّى مدينته المنصورة‏.‏ والشعراني بسوق الخميس وسمّى مدينته المنيعة‏.‏ وكـان أبـو العبـاس يُغيـر علـى الميـرة التـي تأتيهـم مـن سائـر النواحي وركب في بعض الأيام إلى مدينة الشعرانـي التـي سماهـا المنيعـة وركـب نُصَـيْرُ في النهر وافترقوا في مسيرهم واعترضت أبا العباس جماعةٌ من الزنج فمنعوه من طريق المدينة وقاتلوه مقدار نهاره وأشاعـوا قتـل نصيـر وخالفهـم نصير إلى المدينـة فأثخـن فيهـا وأضرمـوا النـار فـي بيوتهـا‏.‏ وجـاء الخبـر بذلـك إلـى أبـي العبـاس بسبـرة‏.‏ ثـم جـاء نصيـر ومعـه أسـرى كثيرون فقاتلوا الزنج وهزموهم ورجع أبو العباس إلى عسكره وبعث الخبيث إلى ابن أبان وابن جامع فأمرهما بالاجتماع على حرب أبي العباس‏.‏ وصول الموفق لحرب الزنج وفتح المنيعة والمنصورة كان المُوَفَقُ لما بعث ابنه أبا العباس لحرب الزِنْج تأخر لإمداده بالحشود والعُمَدِ وإزاحة علله ومسارقة أحواله فلما بلغه اجتماع ابن أبان وابن جامع لحربه سار من بغداد إليه فوصل إلى واسط في ربيع الأول من سنة سبع وستّين ولقيه ابنه وأخبره بالأحوال ورجع إلى عسكره‏.‏ ونـزل المُوَفَـقُ علـى نهـر شَـدَّاد ونزل ابنه شرقي دجلة على موهة بن مساور فأقام يومين ثم رحل إلى المنيعة بسوق الخميس سار إليها في النهر ونادى بالمقامة ولقيه الزنج فحاربوه‏.‏ ثم جاء الموفـق فانهزمـوا وأتّبعهم أصحاب أبي العباس فاقتحموا عليهم المنيعة وقتلوا خلقاً وأسروا آخرين وهرب الشعراني واختفى في الآجام آخـرون ورجـع الموفـقُ إلـى عسكـره وقـد استنقـذ مـن المسلمـات نحـو خَمْسَ عَشَرَةَ امرأةً ثم غدا على المنيعة فأمر بنهبها وهدم سورها وطمِّ خندقها وإحراق ما بقي من السُفنِ فيها وبيعت الأقوات التي أخذت فكانت لا حدّ لها فصرفت في الجند‏.‏ وكتب الخبيث إلى ابن جامع يحذره مثل ما نزل بالشعْرانيّ وجاءت العيون إلى الموفّق أن ابن جامـع بالحوانيـت فسـار إلـى الضبِيـةِ وأمـر ابنـه بالسيـرِ فـي النهـر إلى الحوانيت فلم يلقَ ابن جامع بها ووجد قائدين من الزنج استخلفهم عليها بحفظ الغلات ولحق بمدينته المنصورة بطهتا فقاتل ذلك الجند ورجـع إلـى أبيـه بالخبـر فأمـره بالمسيـر إليـه وسـار علـى أثـره بـرّاً وبحـراً حتـى نزلـوا علـى ميليـن مـن طهتا وركب لبيوني مقاعد القتال على المنصورة فلقيه الزنج وقاتلوه وأسروا جماعة من غلمانه‏.‏ ورمى أبو العباس بن الموفّق أحمد بن مهدي الجناني فمات وأوهن موته ثم ركب يوم السبت آخر ربيع من سنة سبع وعبّى عسكره وبعث السفن إلى البحر الذي يصل إلى المنصورة ثم صلّى وابتهل بالدعاء وقدِمَ ابنه أبا العباس إلى السور واعترضه الجنا فقاتلهم عليه واقتحموا وولّوا منهزمين إلى الخنادق وراءه فقاتلوه عندها واقتحمها عليه كلها ودخلت السفن المدينة من النهر فقتلوا وأسروا وأجلوهم عن المدينة ومـا اتصـل بهـا وهـو مقـدار فرسـخ وملكـه الموفّـق وأفلت ابن جامع فـي نفـر مـن أصحابـه‏.‏ وبلـغ الطلـاب فـي أثـره إلـى دجلـة وكثـر القتـل فـي الزنـج والأسـر واستنقـذ العبـاس مـن نسـاء الكوفـة وواسط وصبيانهم أكثر من عشرة آلاف وأعطى ما وجد في المنصورة من الذخائر والأموال للأجناد وأسر من نساء سليمان وأولاده عدّة‏.‏ ولما جاء جماعة مـن الزنـج إلـى الآجـام اختفـوا فأمـر بطلبهـم وهـدم سـور المدينـة وطـمّ خنادقهـا وأقام سبعة عشر يوماً حصار مدينة الخبيث المختارة وفتحها ثـم إن المُوَفَّـقَ عـرض عساكـره وأزاح علَلَهُـم وسـار معه ابنه أبو العبّاس إلى مدينة الخبيث فأشرف عليها ورأى من حصانتها بالأسوارِ والخنادق ووعر الطرق وما أعدّ من الآلات للحصار ومن كثـرة المقاتلـة مـا استعظمـه‏.‏ ولمـا عايـن الزنـجُ عساكـر الموفّـق دهشـوا وقدمِ ابنه أبا العباس في السفن حتى ألصقها بالأسوار فرموه بالحجارة في المجانيق والمقاليع والأيدي ورأوا من صبره وأصحابه مـا لـم يحتسبـوه‏.‏ ثـم رجعـوا وتبعهـم مستأمنـة مـن المقاتلـة والملّاحين نزعوا إلى الموفّق فقبلهم وأحسن إليهـم فتتابـع المُسْتَأمِنُـونَ فـي النهر فوكّل الخبيث بفوهة النهر من منعهم وتعبّى أهل السفن للحرب مـع بهبـود قائـد الخبيـث فزحـف إليـه أبـو العبـاس فـي السفـن وهزمه وقتل الكثير من أصحابه ورجع فاستأمن إليه بعض تلك السفن النهريّة وكثير من المقاتلة فأمّنهم وأقام شهراً لم يقاتلهم‏.‏ ثم عبَّى عساكـره منتصـف شعبـان فـي البـرّ والبحـر وكانـوا نحـواً مـن خمسيـن ألفـاً‏.‏ وكـان الزنـجُ فـي نحـو ثلثمائة ألف مقاتل فأشرف عليهم وناس بالأمان إلّا للخبيث ورمى بالرقَاع في السهام بالأمان فجـاء كثيـر منهـم ولـم يكـن حرب‏.‏ ثم رحل من مكانه ونزل قريباً من المختارة ورتّب المنازل من إنشاء السفن وشرع في اختطاط مدينة لنزله سفاها المُوَفَقِيَّةِ‏.‏ فأكمل بناءها وشيّد جامعها وكتب بحمل الأموال والميرة إليها وأغبّ الحرب شهراً فتتابعت الميرة إلى المدينة ورحل إليها التجّار بصنوف البضائع واستبحر فيها العمران ونفقت الأسواق وجلبت صنوف الأشياء‏.‏ ثم أمر الموفّق ابنه أبا العباس بقتال مَن كان من الزنج خارج المُخْتَارة فقاتلهم وأثخـن فيهـم فاستأمن إليه كثير منهم فأمّنهم ووصلهم وأقام الموفق أياماً يحاصر المحاربين ويصل المستأمنين واعترض الزنج بعض الوفاد الجائية بالميرة فأمر بترتيب السفن على مخارج الأنهار ووكل ابنه أبا العبّاس بحفظها وجاءت طائفة من الزنج بعض الأيام إلى عسكر نُصَيْر يريدون الإيقاع به فأوقع بهم وظفر ببعض القوّاد منهم فقتل رشقَاً بالسهام وتتابع المستأمنة فبلغوا إلى آخـر رمضـان خمسين ألفاً‏.‏ ثم بعث الخبيث عسكراً من الزِنْج مع عليّ بن أبان ليأتوا من صراء الموفّق إذا ناشَبَهُم الحرب ونمى إليه الخبر بذلك فبعث ابنه أبا العبّاس فأوقع بهم وحملت الأسرى والرؤوس في السفن النهرية ليراها الخبيث وأصحابه وظنوا أن ذلك تمويه فرميت الروس في المجانيق حتى عرفوها فظهـر منهم الجزع وتكرّرت الحرب في السفن بين أبي العباس وبين الزنج وهو يظهر عليهم في جميعها حتى انقطعت الميـرة عنهـم فاشتـد الحصـار عليهـم وخـرج كثيـر مـن وجـوه أصحابـه مستأمنين مثل محمد بن الحارث القُميّ وأحمد اليربوعي‏.‏ وكان من أشجع رجاله القميّ منهم موكلًا بحفظ السور فأمنهم الموفق ووصلهم وبعدة الخبيث قائلين من أصحابه في عشرة آلاف ليأتوا البُطيْحَة من ثلاثة وجوه فيعبروا من تلك النواحي ويقطعوا الميرة عن الموفق‏.‏ وبلغ الموفق خبرهم فبعث إليهم عسكراً مع مولاه ونزل فأوقع بهم وقتل وأسر وأخذ منهم أربعمائة سفينة‏.‏ ولما تتابع خروج المستأمنة وكل الخبيث من يحفظها وجهدهم الحصار فبعث جماعة من قواده إلى الموفق يستأمنون وان يناشبهم الحرب ليجدوا السبيل إليه فأرسل ابنه أبا العبّاس إلى نهر الغربـي وبـه علـيّ بـن أبـان فاشتـدّ الحـرب وظهـر أبـو العبّـاس علـي ابـن أبـان وأمدّه الخبيث بابن جامع ودامت الحرب عامّة يومهم وكان الظفـر لأبـي العبـاس وسـار إليـه المستأمنـة الذيـن واعـدوه‏.‏ وانصرف أبو العباس إلى مدينة الخبيث وقاتل بعض الزنج طمعاً فيهم لقتلهم فتكاثروا عليه ثم جـاءه المـدد مـن قبـل أبيـه فظهر عليهم‏.‏ وكان ابن جامع قد صعد في النهر وأتى أبا العباس من ورائه وخفقت طبولة فانكشف أصحاب أبي العباس ورجع منهزمة الزنج فأجَبَّت جماعة من غِلمَان الموفّق وعدة من أعلامهم وحامى أبو العباس عن أصحابه حتى خلصوا وقوي الزنج بهذه الواقعة فأجمع الموفّق العبور إلى مدينتهم بعسكره‏.‏ فعبى الناس لذلك من الغداة آخر ذي الحجّة واستكثر من المعابر والسُفُن وقصدوا حِصْنَ أو كان بالمدينة وفيها بكلاي بن الخبيث وابن جامع وابن أبان وعلية المجانيق والآلات فأمر غلمانه بالدنُـوّ منـه فخافـوا لاعتـراض نهـر الأتـراك بينهـم وبينـه فصـاح بهم فقطعوا النهر سبحاً وتناولوا الركن بالسلـاح يهدمونـه ثـم صعـدوا عليـه وملكوا ونصبوا به علم الموفق وأحرقوا ما كان عليه من الآلات وقتلوا من الزنج خلقاً عظيماً‏.‏ وكان أبو العباس يقاتلهم من الناحية الآخرى وابن أبّان قبالته فهزمه ووصل أصحاب أبي العباس إلى السور فثلموه ودخلوا ولقيهم ابن جامع فقاتلهم حتى ردّهم إلى مواقفهم‏.‏ ثم توافى الفَعَلَة فثلموا السور في مواضع ونصبوا على الخندق جسراً عبر عليه المقاتلة فانهزم الزنج عن السور وأتبعهم أصحاب الموفق يقتلونهم إلى دير ابن سمعان فملكه أصحاب الموفق وأحرقوه وقاتلهم الزنج هناك‏.‏ ثم انهزموا فبلغوا ميدان الخبيث‏.‏ فركب من هنالك وانهزم عنه أصحابه وأظلم الليل ورجع الموفّق بالناس وتأخر أبو العباس لحمل بعض المستأمنين في السفن واتّبعه بعض الزنج ونالوا من آخر السفن‏.‏ وكان بهبود بإزاء مسرورٍ البَلْخِيّ فنال من أصحابه واستأمن بعض المنهزمين من الزنج والأعراب بعثوا بذلك من عبادان والبصرة وكان منهم قائده ريحان أبو صالح المعرّي فأمنهم الموفق وأحسن إليهم وضمّ ريحان إلى أبي العباس‏.‏ وخـرج فـيِ المحـرّم إلـى الموفّـق مـن قـواد الخبيـث وثقاته جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان فأحسن إليـه الموفّـق وحملـه فـي بعـض السفـن إلـى قصـر الخبيـث فوقـف وكلـم الزنـوج فـي ذلـك وأقـام الموفـق أياماً استَجَم فيها أصحابه فلما كان منتصف ربيِع الثاني قصد مدينة الخبيث وفرّق القوّاد على جهاتها ومعهم النقّابون للسور ومن ورائهم الرماة يحمونهم‏.‏ وتقدّم إليهم أن لا يدخلوا بعد الهزم إلاّ بإذنـه فوصلـوا إلـى السـور وثلمـوه وحاربوا الزنج من ورائه وهزموهم وبلغوا أبعد مما وصلوا إليه بالأمـس‏.‏ ثـم تراجـع الزنـج وحاربـوا مـن المكامن فرجع أصحاب الموفّق نحو دجلة بعد أن نال منهم الزنج ورجع الموفّق إلى مدينته ولام أصحابه على تقدمتهم بغير إذنه‏.‏ ثـم بلـغِ الموفّـق أنّ بعـض الأعـراب مـن بني تميم يجلبون الميرة إلى الزنج فبعث إليهم عسكراً أثخنوا فيهم قتلاً وأسراً وجيء بالأسرى فقتلهم وأوعز إلى البصرة بقطع الميرة فانقطعت عن الزنج بالكليّة وجهدهم الحصار وكثر المستأمنة وافترق كثير من الزنج في القرى والأمصار البعيدة وبـث الموفّـق دعاتـه فيهم ومَن أبى قتلوه وعرض المستأمنين وأحسن إليهم ليستميلهم وتابع الموفّق وابنـه قتـال الزنج وقتل بهبود بن عبد الواحد من قوّاد الخبيث في ذَلك الحروب فكان قتله من أعظم الفتوح وكان قتله في السُفُن البَحْرِيَّةِ ينصب فيها أعلاماً كأعلام الموفّق ويخايل أطراف العَسكر فيصيب منهم‏.‏ وأفلت فـي بعـض الأيـام مـن يـد أبـي العبـاس بعـد أن كـان حصـل فـي قبضتـه‏.‏ ثم خيل أخرى لبعض السفن طامعاً فيها فحاربوه وطعنه بعض الغلمان منها فسقط في الماء وأخفـه أصحابـه فمـات بين أيديهم وخلع المُوَفُّقُ على الغلام الذي طعنه وعلى أهل السفينة‏.‏ ولما هلـك بَهبُـود قبـض الخبيـث علـى بعـض أصحابـه وضربهـم علـى مـا لـه فاستفسد قلوبهم وهرب كثير منهـم إلـى الموفّـق فوصلهـم ونـاس بالأمـان لبَقِيَّتِهِـم‏.‏ ثـم اعتـزم علـى العبـور إلـى الزنـج مـن الجانـب الغربي وكانت طرقه ملتفّة بالنخيل فأمر بقطعها وأدار الخنادق على معسكره حذراً من البيات‏.‏ ثم صعب على الموفّق القتال من الجانب الغربي لكثرة أوعاره وصعوبة مسالكه وما يتوجّه فيها على أصحابه من خيل الزنج لقلّة خبرتهم بها فصرف قصده إلى هدم أسوارهم وتوسعت الطرق فهدم طائفة من السور من ناحية نهر سلمى وباشر الحرب بنفسه واشتدّ القتال وكثرت القتلـى فـي الجانبين وفشت الجِراح وكانت في النهر قنطرتان يعبر منهما الزنج عند القتال ويأتون أصحاب الموفّق من ورائهم فأمر بهدمهما فهدمتا‏.‏ ثم هدم طائفة من السور ودخلوا الملينة وانتهوا إلى دار ابن سمعان من خزائن الخبيث ودواوينه‏.‏ ثـم تقدمـوا إلـى الجامـع فخرّبـوه وجـاؤوا بمنبـره إلـى الموفّـق بعد أن استمات الزنج دونه فلم يَغْنَوْا به‏.‏ ثم أكثروا من هدم السور وظهرت علامات الفتح ثم أصاب المُوَفَق في ذلك اليوم سهمٌ في صدره وذلك لخمس بقين من جمادى سنة تسع وستين فعاد إلى عسكره‏.‏ ثم صابح الحرب تقوية لقلوب الناس‏.‏ ثم لزم الفراش واضطرب العسكر وأشير عليه بالذهاب إلى بغداد فأبى فاحتجب عن الناس ثلاثة أشهر حتى اندمل جرحه‏.‏ ثم ركب إلى الحرب فوجد الزنج قد سددوا ما تثلم من الأسوار فأمر بهدمها كلِّها واتصل القتال مما يلِي نهر سلمى كما كان والزنج يظنون أنهم لا يأتون إلا منها فركب يوماً لقتالهم وبعث السفن أسفل نهر أبي الخصيب فانتهوا إلى قصر من قصور الزنج فأحرقوه وانتهبوا ما فيه واستنقذوا كثيراً من الساكن فيه‏.‏ ورجـع الموفّق آخر يومه ظافراً‏.‏ ثم بكّر لحربهم فوصلت المقدّمات دار أنكلاي بن الخبيث وهي متصلة بدار أبيه‏.‏ وأشار ابن أبّان بإجراء المياه على الساج وحفر الخنادق بين يدي العساكر وأمر الموفق بطمّ الخنادق والأنهار ورام إحراق قصره وقصده من دجلة فمنع مـن ذلـك كثـرة الحُماة عنه فأمر أن تسقف السفن بالأخشاب وتُطلى بالأدوية المانعة من الإحراق‏.‏ ورتّب فيها أنجاد أصحابه وباتَوا على أهبة الزحف من الغد‏.‏ وجاء كاتب الخبيث وهو محمد بن سمعان عشاء ذلك اليوم مستأمنَاً وبكّروا إلى الحرب وأكل الموفّق ابنه أبا العباس بإحراق منازل القواد المتصلة بقصر الخبيث ليشغلهـم عـن حمايتـه وقصـدت السفـن المطليـة قصـر الخبيـث فأحرقـوا الرواشن والأبنية الخارجة وعلت النار فيه ورموا بالنار على السفن فلم تؤثّر فيها‏.‏ ثم حصر الماء من النهر فزحفتَ السفن فلما جاء الدعاة إلى القصر أحرقوا بيوتاً كانت تَشرع علـى دجلـة واشتعلت النار فيها وقويت وهرب الخبيث وأصحابه وتركوها وما فيها‏.‏ واستولى أصحـاب الموفّـق علـى ذلـك كلـه واستنقـذوا جماعـة مـن النسـاء وأحـرق قصر أنكلاي ابنه وجرحـا وعـاد الموفّـق عشاء يومه مظفراً‏.‏ ثم بكّر من الغد للقتال وأمر نصيراً قائد السفن بقصد القنطـرة التـي كـان الخبيـث عملهـا فـي نهـر أبـي الخصيـب دون القنطـرة التـي كـان اتخذهـا وفـرّق العسكـر في الجهات فدخل نصير في أول المد ولصق بالقنطرة واتصل الشد من ورائه فلم يقدر على الرجوع حتى حسر الماء عنها وفطن لها الزنج فقصدوها فألقى الملاحون أنفسهـم فـي المـاء وألفـى نصيـر فنفسـه وقاتـل ابـن جامع ذلك اليوم أشَد قتال‏.‏ ثم انهزم وسقط في الحريق فاحترق ثم خَلُصَ بعد الجهد‏.‏ وانصـرف الموفّـق سالمـاً وأصابـه مـرض المفاصـل واتصل به إلى شعبان من سنته فأمسك في هذه المـدّة عـن الحرب حتى أبلى فأعاد الخبيث القنطرة التي غرق عندها نصير وزاد فيها وأحكمها وجعـل أمامهـا سكـراً من الحجارة ليضيق المدخل على السفن فبعث الموفّق طائفة من شرقي نهر أبي الخصيب وطائفة من بحريه ومعهم الفَعَلَة لقطع القنطرة وجعل أمامها سفناً مملوءة من القصب لتصيبها النار بالنفط فيحترق الجسر وفرّق جنده على القتال وساروا لما أمرهم عاشر شوّال وتقدّمـوا إلى الجسر ولقيهم أنكلاي بن الخبيث وابن أبان وابن جامع وحاموا على القنطرة لعلمهم بما في قطعها من المضرّة عليهم ودامت الحرب عليها إلى العشيّ‏.‏ ثم غلبهم أصحاب الموفّق عليها ونقضها النجَّارون ونقضوا الأثقال التي دونها وأدخلوا السفن بالقصب وأضرموها ناراً ووافت القنطـرة فأحرقتهـا ووصـل النجّـارون بذلـك إلـى مـا أرادوا‏.‏ وسهّل سبيل السفن في النهر وقتل من الزنج خلق واستأمن آخرون وانتقل الخبيث بعد حرق قصوره ومساكن أصحابه إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب ونقل أسواقه إليه وتبيّن ضعفه فانقطعت عنه الميرة وفقدت الأقوات وغَلَت حتى أكل بعضهم بعضاً وأجمعِ الموفق أن يحرق الجانب الشرقي كما أحرق الغربي‏.‏ فقصد دار الهمذان وكان حصيناً وعليه الآلات فلما انتهى إليها تعذّر الصعود لعلو السور فرموا بالكلاليب ونشبت في أعلام الخبيث وجذبوها فتساقطـت فانهـزم المقاتلة وصعد النفاطون فأحرقوا ما كان عليها من الآلة ونهبوا الأثاث والمتاع‏.‏ واتصل الحريق بما حولها من الدور واستأمن للموفّق جماعة من خاصة الخبيث فأمّنهم ودلّوه علـى سـوق عظيمة متصلة بالجسر الأول تسمى المباركة وبها التجار الذين بهم قوامهم فقصدها لإحراقها وحاربه الزنج بعدها وأضرم أصحابه النار فيها فاتصلت وبقي الحريق عامّة اليوم‏.‏ ثـم رجـع الموفّـق ثـم انتقـل التجار بأمتعتهم وأموالهم إلى أعلى المدينة ثم فعل الخبيث في الجانب الشرقي بعد هذه من حفر الخنادق وتغوير الطرق مثل ما كان فعل في الجانب الغربي واحتفر خندقـاً عريضـاً حَصَّـنَ بـه منـازل أصحابـه علـى النهـر الغربـي‏.‏ ثـم خـرق الموفـق باقـي السـور إلـى النهـر الغربي بعد حرب شديدة كانت عليه وكان للخبيث جمع من الزنج وهم أشجع أصحابه وقد تحصنوا بحصن منيع يخرجون على أصحاب الموفق عند الحرب فيعوقونهم فأجمع على تخريبه وجمع المقاتلة عليه برّاً وبحراً وفرّقهم على سائر جهاته وجهات الخبيث وأمدّ الخبيث الحصن بالمُهَلَبـيّ وابـن جامـع فلـم يغنـوا عنـه وانهزمـوا وتركـوا الحصـن في يدي أصحاب الموفّق وهزموه وقتلوا من الزنجِ خلقاً وخلصوا من الحصن كثيـراً مـن النسـاء والصبيـان ورجـع الموفّـق إلـى عسكـره ظافراً‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:45 PM

استيلاء الموفق علي الجهة الغربية
ولما هدم الموفّق سور دار الخبيث أمر بتوسعة الطرق للحرب وأحرق الجسر الأول الذي على نهـر أبـي الخصيـب ليمنـع مـن مدد بعضهم بعضاً فكان في إحراقه حرب عظيمة‏.‏ وأعدّت لذلك سفينة مُلِئَت قصباً وجعل فيها النفط وأرسلت في قوّة المدد فتبادر الزنوج إليها وغرّقوها‏.‏ فركب الموفّق إلى فوهة نهر أبي الخصيب وقصدهم من غربي النهر وشرقيه إلى أن انتهوا إلى الجسر من غربيه وعليه أنكلاي بن الخبيث وابن جامع فأحرقوه وفعال مثل ذلك من الجانب الشرقـي فاحتـرق الجسر والحظيرة التي كانت لإنشاء السفن وسجن كان هناك للخبيث‏.‏ وانحاز هو وأصحابه من الجانب الغربي‏.‏ واستأمن كثير من قوّاده فأمّنهم وأخرجـوا أرسالًـا وخـرج قاضيه هارباً ووكّل بالجسر الثاني من يحفظه‏.‏ وأمر الموفّق ابنه أبا العباس بأن يتجهّز لإحراقه فزحف في إنجاد غلمانه ومعه الفعلة والآلات‏.‏ وكان في الجانب الغربي أي العباس أنكلاي وابن مجامع وفي الجانب الغربي قبالة أسد مولى الموفق الخبيث نفسه والمهلبي‏.‏ وجاءت السفن في النهر وقاتلوا حامية الجسر فانهزم ابن مجامع وأنكلـاي وأضرمـت النار في الجسر ولما وافياه وهو مضطرم ناراً ألقيا أنفسهما في النهر فخلصا بعد أن غرق أصحابهما خلق واحترق الجسر واتصل الحريق بدُورهم وقصورهـم وأسواقهـم وافتـرق الجيـش فـي الجانبيـن ونهبـت دار الخبيـث واستنقـذ مَـن كـان فـي حبسـه من النسوة والرجال‏.‏ وأخرج ما كان في نهر أبي الخصيب من أصناف السفن إلى دجلة ونهبها أصحاب الموفّـق واستأمن أنكلاي بن الخبيث وعلم أبوه فثنـاه عـن ذلـك‏.‏ واستأمـن ابـن سليمـان بـن موسـى الشعراني من رؤساء قواده فأجيب بعد توقّف‏.‏ ولما خرج تبعه أصحـاب الخبيـث فقاتلهـم ووصـل إلـى الموفّـق فأحسـن إليـه واقتفـى أثـره فـي ذلـك شبـل بـن سالـم مـن قـوّاده وعَظُـمَ على الخبيث وأوليائـه استئمـان هـؤلاء وصـار شبـل بـن سالـم يخـرج فـي السرايـا إلـى عسكـر الخبيث ويُكثِر النكاية فيهم‏.‏ وفي خلال هذه الحروب واتصالها مَرِنَ أصحاب الموفّق على تخلّل تلك المسالك والشِعاب مع تضايقها ووعرها وأجمع الموفّق على قصد الجانب الشرقي في نهر أبي الخصيب وندب لذلك قوّاد المستأمنة لخبرتهم بذلك دون غيرهم ووعدهم بالإحسان والزيادة فأبوا وسألوه الإقالة فأبى لتتميّز مُنَاصَحَتهُم‏.‏ وجمع سفن دجلة من كل جانب وكان فيها عشرة آلاف مَلّاَح من المُرْتَزِقَةِ‏.‏ وأمـر ابنـه أبـا العبـاس بقصـد مدينـة الخبيـث الشرقيَّـةِ مـن جهاتهـا فسـار إلـى دار المهلبـي وهو في مائة وخمسيـن قطعـة مـن السفن قد شحنها بأنجاد غلمانه وانتخب عشرة آلاف مقاتل وأمرهمِ بالمسير حفافـي النهـر يشاهـد أحوالهـم وبكّـر الموفّـق لثمـانٍ خَلَـونَ من في القعدة زاحفاً للحرب فاقتتلوا مليّاً وصبـروا‏.‏ ثم انهزم الزنج وقتل منهم خلق وأسِرَ آخرون فقتلوا وقصد الموفّق بجمعه دار الخبيث وقد جمع الخبيث أصحابه للمدافعة فلم يغنوا عنه وانهزموا وأسلموها فنهبها أصحاب الموفّق وسبوا حريمه وبنيه وكانوا عشرين‏.‏ ونجا إلى دار المهلّبي ونهبها واشتغل أصحابهم جميعاً بنقل الغنائـم إلـى السفـن فأطمع ذلك الزنج فيهم وتراجعوا وردوا الناس إلى مواقفهم‏.‏ ثم صدق الموفّق الحملة عشيّ النهار فهزم الزنج إلى دار الخبيث ورجع الناس إلى عسكره ووصله كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون يستأذنه في القدوم عليه فأخر القتال إلى حضوره‏.‏ ولمـا وصـل غُلـام ابـن طولـون فـي ثالـث المحـرّم مـن سنـة سبعيـن وجـاء فـي جيـش عظيـم فأحسن إليهم المُوَفَـق وأجـرى لهـم الأرزاق على مراتبهم وأمره بالتأهُّب لقتال الخبيث‏.‏ وقد كان لما غلب على نهر أبي الخصيب وقُطِعَتِ القناطر والجسور التي عليه أحدث فيه سكراً وضيق جِرْيَةَ الماء ليمنع السُفُنَ من دخوله إذا حضر ويتعذرُ خروجها أمامه‏.‏ وبقي جَرْيُهُ لا يتهيأ إلا بإزالة ذلك السِـكْرِ‏.‏ فحـاول ذلـك مـدَّةً والزنـجُ يدافعـون عنـه‏.‏ ودفـع الموفـق لذلـك لؤلـؤاً فـي أصحابـه ليتمرّنـوا على حـرب الـزنْج فـي تلـك المسالـك والطرق فأحسنوا البلاء فيها ووصلهم وألحّ على العسكر وهو كل يوم يقتل مُقاتِلَتَهُمْ ويحرِقُ مساكنهم ويقتل المُسْتأمِنَة منهم‏.‏ وقد كان بقي بالجِهَةِ الغربِيَّة بقيَّة من أبنيِةِ ومزارع وبها جماعة يحفظونها‏.‏ فسار إليهم أبو العباس وأوقع بهم ولم يسلَـم منهـم إلّـا الشريد‏.‏ ثم غلبهم على السِكْرِ وأحرقه واعتزم على لقاء الخبيث وقدَّم ابنه أبا العبَّاسِ إلىِ دار المُهَلبِ وأضـافَ المستأمنـة إلـى شِـبْل بن سالمٍ وأمرهم أن ينتظروا بالقتال نفْخ لبوق ونَصْبَ عَلَمِهِ الأسود على دار الكَرْمَانِيّ‏.‏ ثم صَمَدَ إليهم وزحف الناسُ في البر النهر ونُفِخَتِ الأبْوَاقُ وذلك لثلاث بقين من المُحَرَّم سنة سبعين واشتدّ القتال وانهزم الزِنْجُ ومات منهم قتلاً وغَرَقَاً ما لا يُحصى واستولى المُوَفَّق على المدينة واستنقذوا لأسرى وأسروا الخليل وابن أبـان وأولادهمـا وعيـال أخيهما ومضى الخبيث ومعه ابنه نبهلاي وابن جامع وقوادٌ من الزِنْج إلى موضع بنهر السُفْيَانِيّ كانـوا أعـدّوه ملجـأ إذا غلـب علـى المدينـة واتبعه المُوَفّق في السُفُن ولؤلؤ في البرّ‏.‏ ثم اقتحم النهر بفرسه واتَّبعه أصحابه فأوقعوا بالخبيث ومَن معه حتى عبروا نهر السامان واعتصموا بجبل وراءه ورجع لؤلؤ عنهم وشكره المُوَفَّق ورفع منزلته واستبشر الناس بالفتح‏.‏ وجمع المُوَفٌق أصحابه فوبَّخهم على انقطاعهم عنه فاستعذروا بأنهم ظنّوا انصرافه‏.‏ ثم تحالفوا على الإقدام والثباتِ حتى يظفروا وسألوه أن ترد المعابِر التي يعبُرون فيها ليستميت الناس في حـرب عدوهـم فوعدهـم بذلك وأصبح ثالث صَفر فعبى المراكب وبعثهم إلى المراكز وردّ المعابر التي عبروا فيها وتقدّم العسكر فأوقعوا بالخبيث وأصحابه ففضوا جماعةً وأثخنوا فيهم قتلاً وأسراً وافترقوا كلّ ناحيةٍ‏.‏ وثَبُتَ مع الخبيث لمة من أصحابه فيهم المُهًلّبِيّ وذهب ابنه أنكِلاي وابـنُ جامِع وأتبع كلاً منهم طائفةً من العسكر بأمر أبي العباس بن المُوَفّق‏.‏ ثم أسر إبراهيم بن جعفر الهَمَذَانيّ فاستوثقوا منه‏.‏ ثم كرّ الخبيث والمنهزمون معه على مَن اتَبعهم من أهل العسكر فأزالوهم عن مواقفهم‏.‏ ثم رجعـوا ومضـى الموفّـق فـي اتّبـاع الخبيث إلى آخر نهر أبي الخصيب فلقيه غلام من أصحاب لُؤْلُؤ بـرأس الخبيـث وسـار أنكلـاي نحـو الدينـاريّ ومعـه المهَلّبـيّ‏.‏ وبعث الموَفّق أصحابه في طلبهمِ فظفر بهم وبمَن معهم وكانوا زهاء خمسة آلاف فاستوثق منهم ثم استأمن إليه وَرْمُونةُ وكان عند البُطَيْحَةِ قد اعتصم بمغايضَ وآجامٍ هنالك يُخيفُ السابِلَةَ ويغيرُ على تلـك النواحـي وعلـى الواردين إلى مدينة المُوَفّق‏.‏ فلما علم بموت الخبيث سُقِطَ في يده وبعث يستأمن فأمّنه الموفّق فحسُنَت توبته وردِّ الغصوبات إلى أهلها ظاهراً وأمر المُوَفَق بالنداء برجوع الزنْج إلى موطنهم فرجعوا وأقام الموفّق بمدينة المُوَفِّقيةِ ليأمن الناسُ بِمُقامه وولّى على البصرة والأبلَّة وكور دِجْلَةَ محمـد بـن حَمّـاد وقـدّم ابنـه أبـا العبـاس إلى بغداد فدخلها منتصف جمادى من سنة سبعين وكان خروج صاحب الزنْج آخر رمضان سنة خمس وخمسين وقتله أوّل صفر سنة سبعين لأربع عشرة سنة وأربعة أشهر من دولته‏.‏

ولاية ابن كنداج على الموصل
لما سار أحمد بن موسى بن بغا إلى الجزيرة وولّى موسى بن أتامش على ديار ربيعة فتغيَّر لذلك إسحاق بن كنداج وفارق عسكره وأوقع بالأكراد اليعقوبيَّةِ وانتهب أموالَهُم ثم لقي ابن مُساوِرَ الخارِجيّ فقتله وسار إلى الموصل فقاطع أهلها على مالٍ وكان عليهم عليّ بن داود قائداً فدفعه وسار ابن كنداج إليه فخرج عليُ بن داود واجتمع حمدان بن حمدون الثَعْلَبِيّ وإسحاق بن عُمَرَ بن أيُوب بن الخَطّاب الثعلَبِيّ العدوِيّ فكانوا خمسة عَشَرَ وجاءهم عليّ بن داود فلقِيَهُـمْ إسحـاق فـي ثلاثـة آلـاف فهزمهـم بدسيسـةٍ مـن أهـل مسيرتهـم‏.‏ وسـار حمـدان وعلي بن داود إلى نيسابـور وابـن أيُّـوب إلـى نصيبيـن وابـن كنـداجَ فـي أتباعـه فسـار عنهـا وأستجـار بعيسـى ابـن الشيخ الشَّيْبَانِي وهو بآمد وأبي العزّ موسى بن زُرَارَةَ وهو عامل أردن فأنجداه وبعث المعتمد إلى إسحاق بن كنداج بولاية الموصل فدخلها وأرسل إليه ابن الشيخ وابن زُرارَةَ مائة ألف دينار على أن يُقرّهم على أعمالهم فأبى فاجتمعوا على حربه فرجع إلى إجابتهم‏.‏ ثم حاربوه سنـة سبـع وستّيـن‏.‏ واجتمـع لحربـه إسحـاق بـن أيـوب وعيسى ابن الشيخ وأبو العزّ بن حمدان بن حمـدون فـي ربيعـة وثعلـب وبكـر واليمـن فهزمهـم ابـن كنـداج إلـى نُصيبيـن ثـم إلـى آمد وحَمّر عسكره الجِصار ابن الشيخ بآمد وكانت بينهم حروب‏.‏

حروب الخوارج بالموصل
كان مُساوِرُ الخارِجِيّ قد هلك في حروبه مع العساكر سنة ثلاث وستّين بالبوارسح وأراد أصحابه ولاية محمد بن حَرْداد بشهرزور فامتنع وبايعوا أيوب بن حيّان المعروف بالغُلام فقُتِل فبايعوا هارون بن عبد اللِّه البَجَلِيّ وكثُر أتباعه واستولى على بلد الموصل وخرج عليه من أصحابه محمد بن حَرْداد وكان كثير العبادة والزهْدِ يجلِسُ في الأرض ويلبَسُ الصوف الغَليظ ويركـبُ البقـر لئـلاَّ يفِـرّ مـن الحـرب‏.‏ فنـزل واسِـطَ وجـاء أهـل الموصـل فسـار إليهـم وهارون غائب في الأحشاد فادر إليه واقتتلا وانهزم هارون وقتل من أصحابه نحو مائتين‏.‏ وقصد بني ثَعْلَبَ مستنجداً بهم فأنجدوه وسار معه حمدان بن حمدون ودخل معه الموصل ودخل ابن حرداد واستمال هارون أصحابه ورجع إلى الحُدَيْثَةِ ولم يبقَ مع ابن حرداد إلّا قليل من الأكراد فمالوا إلى هارون بالموصل فخرج وأوقع بابن حرداد فقتله وأوقع بالأكراد الجلالِيةِ وكثر أتباعه وغلب علـى القُـرى والرساتيـق وجعـل علـى دجلـة مَـن يأخـذ الزكـاة مـن الأمـوال المُصَعـدَةِ والمنحـدِرة ووضع فيٍ الرساتيق مَن يقبض اعتبار الغلات واستقام أمره‏.‏ ثم جاء بنو ساسان لقتاله سنة ست وسبعين واستنجد بحمدان بن حمدون فجاءه بنفسه وسار إلى نهر الخازِنِ وانهزمت طليعتهم وانهزموا بانهزامها وجاء بنو شيبان إلى فسا فانجفل أهلها وأقـام هـارون وأصحابـه بالحُدَيْثَة‏.‏

أخبار رافع بن هرثمة من بعد الخجستاني
لما قُتِلَ أحمدُ الخُجِسْتَانِي سنة ثمانٍ وستِّين كما قدّمناه اجتمع أصحابه على هرثمة من قُوّاد محمـد بـن طاهـر وكـان رافع هذا لما استولى يَعْقُوبُ الصَفَار على نيسابور وزال بنو طاهِرٍ صار رافع في جملته وصَحْبِه إلى سِجِسْتَانَ‏.‏ ثم أقصاه عن خدمته وعاد إلى منزله بنواحي جي حتـى استخدمـه الخُجِسْتَانِـيُّ وجعله صاحبَ جيشه‏.‏ فلما قُتِلَ الخجستاني اجتمع الجيش عليه بهراة وأمروه وسار إلى نيسابور فحاصر بها أبا طلحة بن شركب وقد كان وصل إليها من جرجان فضيقَ عليه المخنق ففارقها أبو طلحة إلى مرو وولي هراة ابن الْمَهدِيّ وخطب لمحمَّد بن طاهر بِمَرْو وهَرَاة وزحف إليه عمرو بن الليث فهزمه وغلبه على ما بيده واستخلف عل مرو محمد بن سهل بن هاشم وخرج أبو طلحة إلى مَكْمَد واستعـان بإسماعيـل بـن أحمـد الساماني فأمده بعسكر وأخرج محمد بن سهـل وخطـب بهـا لعمـرو بـن الليـث سنـة إحـدى وسبعين‏.‏ ثم قلّد المُوَفَقُ تلك السنة أعمالَ خُراسان لمحمد بن طاهر وهو ببغداد فاستخلف عليها رافع بن الليث وأقر على ما وراء النهر نصر بن أحمد ووردت ووردت كُتُبُ المُوَفٌق بعزل عمرو بن الليث ولعنه فسار رافع إلى هَراة وقد كان بها محمَّدُ بن المهديّ خليفة أبي طلحة فثار عليه يوسـف بـن معبـد‏.‏ فلمـا جـاء رافـع استأمـن إليـه فأمّنـه واستعمل على هَراة مهدي بن مُحْسِن‏.‏ ثم سـار رافـع إلـى أبـي طلحـة بمـرو بعـد أن استمدّ إسماعيل بن أحمد وأمده بنفسه في أربعة آلاف فارس واستقدم عليّ بن مُحسِن الْمَرْوَروزيّ فقَدِمَ عليه في عسكره وساروا جميعاً إلى أبي طلحـة بمـرو سنـة اثنتيـن وسبعيـن فهزمـوه وعـاد إسماعيـل إلـى بخارى ولحق بأبي طلحة وبها مهدي فاجتمع معه على مخالفة رافع فهزمهما رافع ولحق أبو طلحة بعمرو بن الليث‏.‏ وقبض على مهـدي سنـة اثنتين وسبعين ثم خلّى سبيله وسار رافع إلى خوارِزم فجبى أموالها ورجع إلى نيسابور‏.‏ مغاضبة المعتمد للموفق ومسيرة ابن طولون وما نشأ من الفتنة لأجل ذلك كـان المُوَفَّقُ حدثت بينه وبين ابن طولون وحشة وأراد عزله وبعث موسى بن بغا في العساكر إليه سنة اثنتين وستّين فأقام بالرَّقَّةِ عشرة أشهر واختلف عليه العسكر فرجع‏.‏ وكان المُوَفَّقُ مُسْتَبِدّاً على أخيه المُعْتَمد منذ قيامه بأمر دولته مع ما كان من الكِفايَة والغَناء إلا أنه كان المعتمـد يتأفّـف مـن الحَـجْرِ‏.‏ وكتـب إلـى أحمـد بـن طولـون فـي السـرّ يشكـو ذلـك وأشـار عليـه باللحاق إليـه بِمِـصْرَ لينصـره‏.‏ وبعـث عسكـراً إلـى الرقَّـةِ فـي انتظاره وكان الموفّق مشغولًا بحرب الزنج فسار المُعْتَمدُ منتصف سنة تسـعٍ وستّيـن فـي القـوّاد ظهِـراً أنـه يتصيـد‏.‏ ثـم سـار إلـى أعمـال الموصـل وعليهـا يومئـذ وعلـى سائـر الجزيـرة أصحـاب كِنـداج‏.‏ وكتـب صاعِدُ بن مُخْلِد وزير الموفّق عن الموفّق إلى فلمـا وصـل المُعْتَمَـدُ إلـى عملـه أظهـر إسحـاق طاعتـه فارتحـل فـي خدمتـه إلـى أوّل عمل ابن طولون‏.‏ ثم اجتمع بالمعتمد والقـوّاد وفيهـم نَـيْزَك وأحمـد بـن خاقـان وغيرهـم فعذلهـم فـي المسيـر إلـى ابـن طولـون والمقام تحت يده وطال الكلام منهم ملياً‏.‏ ثم دعاهم إلى خيمته للمناظرة في ذلك أدباً مع المعتمـد وقيّدهـم وجاء إلى المُعْتَمَد فعذله في المسير عن دار خلافَتِه ومغاضَبَة أخيه وهو في دفـاع عـدوّه ومَـن يريـد خـراب ملكـه وحمـل الجميـع إلـى سامـرا وقطع ابن طولون الدعاء للموفق على منابره وأسقط اسمه من الطُرَرِ وغضب الموفـق بسبـب ذلـك علـى أحمـد بـن طولـون وحمـل المعتمد على أن يُشار بلعنه على المنابر‏.‏ وولـى إسحـاق بـن كنـداج علـى أعمالـه وفـوض إليـه مـن بـاب الشماسِيَـة إلـى إفريقيـة‏.‏ وكان لؤلؤ مولى ابن طولون عاملاً له على حِمْصَ وحَلَب وقَنِسْرين وديار مِصر من الجزيرة‏.‏ وكان منزله بالرقَةِ فانقض عليه في هذه السنة وسار إلى بالِسَ فنهبها وكتب إلى الموفق فمر بفرقيسيا وبها ابن صفـوان العُقَيْلِـيّ فحاربـه وغلبـه عليهـا وسلّمهـا إلـى أحمـد بـن مالـك بـن طَـوْق‏.‏ ووصـل إلـى الموفّـق في عسكر عظيم وهو يقاتل صاحبَ الزِنج فأكرمه المُوَفقُ وأحسن هو الغَنَاءَ في تلك الحرب‏.‏ ثم بعث ابن طولون في تلك السنة جيشه إلى مكّة لإقامة الْمَوْسِم وعامل مكّة هارون بن محمد ففارقهـا خوفـاً منهـم وبعـث الموفـق جعفـراً فـي عسكـرٍ فقـوي بهم هارون ولقوا أصحاب ابن طولون فهزمزهـم وصـادروا القائـد علـى ألف دينار‏.‏ وقرئ الكتاب في المسجد بلعن ابن طولون وانقلب أهل مصـر إلـى بلدهـم آمنيـن‏.‏ ولـم يـزل لؤلـؤ فـي خدمـة المُوَفَّـقِ إلـى أن قُبِـضَ عليـه سنـة ثلـاث وسبعيـن وصادره على أربعمائة ألف وأدْبَرَ أمره ثَمّ ثم عاد إلى مِصْرَ آخر أيام هارون بن خمارويه‏.‏ طولون ومسير ابن كنداج إلى الشام

ميارى 6 - 8 - 2010 09:46 PM

وفي سنة سبعين
انتقض بازمان الخادم بطَرْسوس وقبض على نائبه وسار إليه طولون في العساكـر وحاصـروه فامتنـع عليـه فرجع إلى إنطاكية فمرض هنالك لست وعشرين سنة من ولايته على مِصْرَ ووليَ بعده ابنه خَمارَوَيْه وانتقضت عليه دمشق فبعث إليها العساكر وعادت إلى طاعته‏.‏ وكان يومئذ بالموصل والجزيرة إسحاق بن كنداج وعلى الأنبار والرَحَبَة وطريق الفرات محمد بن أبي الساج فكاتبا المُوَفّقَ في المسير إلى الشام واستمدّاه فأذِنَ لهما ووعدهما بالمَدَد فسارا وملكا ما يجاورهما من بلاده واستولى إسحاق على أنطاكية وحلب وحِمص وكاتبه نائب دِمَشْق واجتمع على خمارويه فسار إِليه فهرب إلى شَيْزَر وهي في طاعـة خمارويـه ودمشق‏.‏ وجـاء أبـو العبَّـاس بـن المُوَفَّـقِ وهـو الْمُعْتَضِـدُ من بغداد بالعساكر فكبس شَيْزَر وقتل من جند ابن طولـون مقتلـةً عظيمـةً ولحـق فلُّهُـم بدمشـق وأبـو العبّـاس فـي اتِّباعهـم فجلَوْا عنها ومَلَكَها في شَعْبًانَ سنة إحدى وسبعين‏.‏ ورجعت عساكر خَمَارَوَيْه إلى الرَمْلَة فأقاموا بها وزحف إسحاق بن كنـداج إلـى الرَقَـةِ وعليهـا وعلـى الثغـور والعواصم ابن دعاصٍ من قِبَل خمارويه فقاتله وكان الظهور لإسحاق‏.‏ ثم زحف أبو العبّاس المُعْتَضِدُ من دمشق إلى الرملة وسـار خمارويـه مـن مِـصْرَ واجتمـع بعساكـره فـي الرملـة علـى مـاء الطواحيـن‏.‏ وكـان المعتضـد قـد استفسـد لابـن كنـداج وابـن أبـي الساج ونسبهما إلى الجُبْنِ في انتظارهما إياه في محاربة خمّارويه‏.‏ وعبّـى المُعْتَضِـدُ عساكـره ولقـيَ خمـارَوَيْه وقـد أكمَـن لـه فانهـزم خمّارويـه أوّلاً وملك المعتضد خيامه وشُغِلَ أصحابه بالنَّهْبِ فخرج عليهم الكميِن فانهزم المعتضد إلى دمشق فلم يفتح له أهلها فراح إلى طرسوس وأقام العسكران يقتتلان دون أمير وأقام أصحاب خمّارويه عليهم أخاه سعداً مكانه وذهبوا إلى الشام فملكوه أجمع وأذهبوا منه دعوة المُوَفَّق وابنه‏.‏ وبلغ الخبر إلى خمّارَوَيْه فسرّ وأطلق الأسرى الذين كانوا معه‏.‏ ثم سار أَهل طرسوس بأبي العبَّاس فأخرجوه وسـار إلى بغداد وولّوا عليهم مازيار فاستبدّ بها‏.‏ ثم دعا لخمّارَوَيه بعد أن وصله بمال جليل يقال أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة مِطْرَف وسلاحاً كثيراً فدعا له ثم بعث إليه بخمسين ألف دينار‏.‏ ثم تُوُفِّي الحسن بن زيد العَلَوِي صاحب طَبَرسَتَان في رجب سنة سبعين لعشرين سنة من ولايته ووليَ مكانه أخوه وكان على قزوين أتكوتكين فسار إلى الريّ في أربعة آلاف فارس وسـار إليـه محمـد بـن زيـد فـي عالـم كثير من الدّيْلَم والخراسانِيَّة والتقوا فانهزم محمد بن زيد وقُتِل من عسكره نحوٌ من ستة آلاف واسر ألفان وغنم أتكوتكين عسكراً وملك الريّ وأغرم أهلها مائـة ألـف دينـار وفـرّق عُمُّاله عليها‏.‏ وسار محمد بن زيدٍ إلى جَرْجَان ثم عزل عمرو بن الليث عن خُراسان وولّى عليها محمد بن طاهر واستخلف محمد بن رافع بن هَرْثَمَةَ وسار سنة خمس وسبعين إلى جَرْجان وهرب عنها ليلاً إلى استراباد فحاصره رافع فيها سنتين حتى أجهده الحصار ففز عنها ليكلاً إلى سارية فاتبعه فهرب عن طبرستان سنة سبع وسبعين واستأمـن رستـم بـن قـارِن إلـى رافـع بطبرستـان فأمنـه وبعـث إلـى سالـوس محمـد بـن هـارون نائبـاً عنـه وأتـاه بابـا علـي بن كاني مستأمناً‏.‏ ثم جاءه محمد وحاصرهما بسالوس وانقطعت أخبارهما عن نافع‏.‏ ثم جاءه الخبر بحصارهما فسار إليهما فارتحل محمد بن زيد إلى أرض الدَيْلَم فدخل رافـع خلفـه وأثخـن فيهـا نهبَاً وتخريباً إلى حدود قزوين وعاد إلى الريّ إلى أن توفي المعتمد سنة تسع وتسعين‏.‏ كـان ابـن أبـي السـاج فـي أعمالـه بِقِنَسْرين والفُرات والرحَبَة ينافِسُ إسحاق وهو على الجزيرة ويريِد التقدم عليه فحدثت لذلك منهما فتنة‏.‏ فخطب ابن أبي الساج لمخمارَوَيْه بن طولون‏.‏ وبعث ابنـه ديـوداد رهينـة إليـه فبعـث إليه خمارويه أموالاً جمَّة وسار إلى الشام واجتمع بابن أبي الساج ببالـس‏.‏ ثـم عبـر ابـن أبـي السـاج الفُـرات إلى الرقَّة وهزم إسحاق بن كنداج واستولى على أعماله وعبر خمّارويه ونزل الرقَّة‏.‏ ومضى إسحاق إلى قلعة ماردين وحاصره ابن أبي الساج بها ثم أفرج عنها وسار إلى سنجار لقتال بعض الأعراب فسار ابن كِنْداج من ماردين إلى الموصل فاعترضه ابن أبي الساج وهزمه فعاد إلى ماردين‏.‏ واستولى ابـن أبـي السـاج علـى الجزيـرة والموصل وخطب لخمّارويه ثـم لنفسـه بعـده وبعـث غلامـه فتحـاً إلـى أعمـال الموصـل لجبايـة الخراج‏.‏ وكان اليَعْقُوبِيةُ من السراةِ قريباً منه فهادنهم ثم غدر بهم فكبسهم وجاءهم أصحابهم من غير شعور بالواقعة فحملوا على أصحاب فتح فاستلحموهم‏.‏ ثم انتقض ابن أبي الساج واستبيح عسكـره‏.‏ وكـان له بحمْصَ مخلف من أثقاله فقَدِمَ خمّارويه طائفة من العسكرٍ إليها فاستولوا على ما فيها ومنعوا أبن أبي الساج من دخولها فسار إلى حلب ثم إلى الرًقَةِ وخمارويه في اتّباعه فعبـر الفُـرات إلـى الموصـل‏.‏ وجـاء خمارويه إلى بلد وأقام بها وسار ابن أبي الساج إلى الحُدَيْثَةِ‏.‏ وكان إسحاق بن كِنْداج قد لحق بخمارويه من ماردين فبعث معه جيشاً وجماعة من القواد وسار في طلب ابن أبي الساج وقد عبر دجلة فجمع ابن كِنْداج السُفُن ليوطئ جسراً للعبور‏.‏ وبينما هو في ذلك أسرى ابن أبي الساج من تكريت إلى الموصل فوصلها الرابعة وسار ابن كنـداج فـي اتّباعـه‏.‏ فاقتتلـوا بظاهـر الموصـل وابـن أبي الساج في ألفين فصبر واشتد القتال وانهزم ابـن كنـداج وهـو فـي عشريـن ألفـاً‏.‏ فخلـص إلـى الرقـة ومحمـد ابـن أبـي السـاج فـي اتباعـه‏.‏ وكتب إلى الموفّق يستأذنه في عبور الفُرات إلى بلاد خَمارَويه بالشام فأمره بالتوقُّف إلى وصول المدَدِ من عنده ومضى ابن كنداج إلى خمّارويه فجاء بجيوشه إلى الفُرات وتوافق مع ابن أبي الساج والفُـرات بينهمـا‏.‏ ثـم عبـرت طائفـة مـن عسكـر ابـن كنـداج فأوقعـوا بطائفـة مـن عسكر ابن أبي الساج فانهزمـوا إلـى الرقّـة فسـار ابـن أبـي الساج عن الرقّة إلى بغداد سنة ست وسبعين في ربيع منها فأكرمه المُوَفّق ووصله واستولى ابن كِنْداج على ديار ربيعة من أعمال الجزيرة وأقام بها وولى الموفـق محمـد بـن أبـي السـاج علـى أذربيِجـان فسـار إليها فخرج إليه عبد اللَّه بن الحُسَيْن الهَمَذاني عامل مراغة ليصده فهزمه ابن أبي الساج فحاصره وأخذ منه مراغة سنة ثمان وسبعين وقتله واستقرّ ابن أبي الساج في عمله بأذرَبيجَان‏.‏ كان عمرو بن الليث بعد مهلك أخيه يعقوب قد ولّاه الموَفَّقُ خراسانَ وأصبهانَ وسجستتان والسنـد وكرمان والشرطة ببغداد كما كان أخوه وقد ذكرنا ذلك قبل‏.‏ وكان عامله على فارس ابن الليث فانتقض عليه سنة ثمانٍ وستّين فسار عمرو لحربه فهزمه واستباح عسكره ونهب اصطخـر ثـم ظفِـرَت جيوشُـهُ بمحمـد وأسـره وحبسـه بكرمـان فأقـام بهـا ثـم بعث إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلف وهو بأصبهان يطلبه بالمال‏.‏ فبعث إليه بالأموال وبعث عمرو إلى الموفّق بثلثمائـة ألـف دينـار وبخمسيـن مَنّاً من المِسْكِ ومثلها من العَنْبَر ومائتين من العود وثلثمائة ثوب من الـوَشْي ومن آنية الذِّهَب والفِضَةِ والدوابّ والغلمان‏.‏ قيمة مائة ألف دينار‏.‏ واستأذنه في غزو محمد بن عُبَيْد الكُرْديّ وامهرْمُز فأذِنَ له فبعث قائداً من جيشه إليه فأسره وجاء به إلى عمرو‏.‏ ثـم عـزل المعتمـد سنـة إحـدى وستّيـن عمـرو بـن الليـث عمّـا كـان قلّـده من الأعمال وأدخل إليه الحاجّ من أهلها عند مُنْصَرِفِهِم من مكَّة فأعلمهم بعزله وأنه قد ولّى على خُراسان محمد بن طاهر وأمـر بلعـن عمـرو علـى المنابـر‏.‏ وجهّـز مُخلِـد بـن صاعد إلى فارِسَ لحرب عمرو واستخلف محمد بـن طاهـر علـى خُراسـان رافـع بـن هَرْثَمَـةَ‏.‏ وكتـب المعتمد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَف يأمره بقتاله وبعث إليه الجيوش فاقتتلوا مع عمرو وكان في خمسة عشر ألف مُقاتـل فانهـزم عمرو وخرج قائده الديلمي وقتل مائة من أعيانهم وأسر ثلاثة آلاف فاستأمن منهم وغنموا من عسكـره مـا لا يُحصـى‏.‏ ثـم زحـف للموَفـق سنـة أربـع وسبعيـن إلـى فـارس لحـرب عمـرو فأنفـذ عمرو ابنـه محمـداً إلـى أرًجـان فـي العساكـر وعلـى مقدمتـه أبـو طلحـة بن شركب وعباس بن إسحاق إلى سيـراف واستأمـن أبـو طلحـة إلى المُوَفق ففت ذلك في عَضُدِ عمرو وعاد إلى كَرْمان واستراب الموفـق بأبـي طلحـة فقبـض عليـه قريبـاً مـن شيـراز وجعـل مالـه لابنـه أبـي العباس المعتضد وسار في طلب عمرو فخرج من كرمان إلى سِجسْتان‏.‏ ومات ابنه محمد بالمفازة ورجع عنه الموفـق وسار رافع بن الليث من خراسان وغلب محمد بن زَيْدٍ على طبَرسَتان كما قدمناه وقـدِم عليه هنالك عليُ بـن الليـث هـو وابنـاه المعـدل والليـث ‏"‏ بـن حسـن أخيـه علـي ‏"‏ بكرمـان ثـم قتلـه رافـع سنة ثمانَ وستين‏.‏ مسيرة الموفق إلى أصبهان والجبل كـان كاتـب أتكوتكيـن أنهـى إلـى المُعْتَضِـد أنَّ لـه مـالاً عظيمـاً ببلاد الجبل فتوجه فلم يجد شيئاً‏.‏ ثم سـار إلـى الكـرخ ثـم إلـى أصبهـان يريـد أحمـد بـن عبد العزيز بن أبي دلف فتنخى أحمد عن البلد بعسكره وترك داره بفرشها لنُزُل المُوَفَق عند قدومه ثم رجع الموفق إلى بغداد‏.‏ قبض الموفق على ابنه أبي العباس ثم وفاته وقيام ابنه أبي العباس بالأمر بعده كـان المُوَفق بعد رجوعه من أصبهان نزل واسِطَ ثم عاد إلى بَغْدادَ وترك المُعْتَمَدُ وأمر ابنه أبا العبَّاس وهو المعتضد بالمسير إلى بعض الوجوه فأبى فأمر بحبسه ركب القواد من أصحابه واضطربت بغدادُ فركب المُوَفًق إلى المَيْدان وسكَّن الناس وقال‏:‏ إني احتجت إلى تقويم ابني فقوّمته فانصرف الناس وذلك سنة ست وسبعين‏.‏ كان عند منصَرَفه من الجبل قد اشتدّ به وجـع النـقْرِس ولـم يقـدر علـى الركوب فكان يحمل في المِحَفًةِ ووصل إلى داره في صفر من سنة سبع وطال مرضه وبعث كاتبه أبا الصَّقْرِ بن بُلْبُل إلى الميْدان فجاء بالمعتمد وأولاده وأنزله بداره ولم يأت دار الموفّق فارتاب الأولياء لذلك وعمد غِلْمَانُ أبي العبّاس فكسروا الأقفال المغلقة عليه وأخرجوه وأقعدوه عند رأس أبيه وهو يجود بنفسه فلما فتح عينه قرّبه وأدناه وجمع أبو الصقر عنده القوّاد والجند‏.‏ ثـم تسامـع النـاس أن الموفّـق حـيّ فتسلّلـوا عن أبي الصفر وأوّلهم محمد بن أبي الساج فلم يَسَعْ أبا الصقـر إلا الحضـور بدار الموفٌق فحضر هو وابنه وأشاع أعداءُ أبي الصقر أنه هرب بمال الموفّق إلـى المعتمـد فنهبـوا داره وأخرِجَـت نسـاؤه حُفـاةً عُـراةً ونُهِـبَ مـا يجـاوره من الدُور وفتقت السجـون ثـم خلـع المُوَفَّـقُ علـى ابنه أبي العبَّاس وأبي الصقر وركب إلى منزلهما وولّى أبو العباس غلامـه بـدار الشرطـة‏.‏ ثـم مات لثمانٍ بقين من صفر سنة ثمانٍ وسبعين ودفِنَ بالرصافة واجتمع القـوّاد فبايعوا ابنه أبا العبّاس المُعْتَضِد باللّه واجتمع عليه أصحاب أبيه ثم قبض المعتضد على أبي الصقر ابن بلبل وأصحابه وانْتُهِبَت منازلهم وولّى عبد اللًه بن سُليمان بن وهب الوِزَارَةَ وبعـث محمـد بـن أبـي السـاج إلى واسط ليردِّ غلامه وصيفاً إلى بغداد فأبى وصيف وسار إلى السُّوس فأقام بها‏.‏

القرامِطَة ابتداء أمر القرامطة
كان ابتداء أمرهم فيما زعموا أن رجلاً ظهر بسواد الكوفة سنة ثمانٍ وسبعين ومائتين يتسم بالزُهد وكان يدعى قُرْمُط يقال لركوبه على ثور كان صاحبه يدعى كَرْمَيْطة فعُرِّب وقيل بل اسمه حمدان ولقبه قرمط‏.‏ يقال وزعم أنه داعيةٌ لأهل البيت للمنتظر منهم‏.‏ واتَّبَعه العبَّاس فقبـض عليه الهَيْصَم عامل الكوفة وحبسه ففرّ من حبسه وزعم أن الإغلاق لا يمنعه‏.‏ ثم زعم أنـه الـذي بشَـر بـه أحمـد بـن محمـد بـن الحَنَفِيَّـة وجاء بكتاب تناقله القرامِطَة فيه بعد البسملة‏:‏ يقول الفرح بن عُثمانَ من قرية نَصرانة أنه داعِيَةُ المسيح وهو عيسى وهو الكلمة وهو المَهْدِيّ وهو أحمد بن محمَّد بن الحَنَفِيَّة وهو جِبريل‏.‏ وإن المسيح تصوّر له في جسم إنسان فقال له إنك الداعية وإنك الحُجَّةِ وإنك الناقة وإنك الدابَّة وإنك يحيى بن زكريّا وإنك روح القدس وعرفه أن الصلاة أربعُ ركعات قبل طلوع الشمس وركعتان قبل غروبها وأن الأذان بالتكبير في افتتاحه وشهـادة التوحيـد مرّتيـن ثم شهادة بالرسالة لآدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم عيسى ثم محمد صلوات اللـه عليهـم ثـم لأحمـد محمـد بـن الحَنَفِيّـة ويقـرأ الاستفتـاح فـي كـل ركعَـةٍ وهـو مـن المنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية والقبلة بيتُ المَقْدِس والجُمعة يوم الاثنين ولا يعمل فيه شيء‏.‏ والسورة التي تقرأ فيها‏:‏ الحمد لله بكلمته وتعالى لاسمه المُنْجد لأوليائه بأوليائه قل إن الأهلة مواقيت للناس ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام وباطنها أوليائـي الذيـن عرفوا عبادي سبيلي اتقوني يا أولي الألباب وأنا الذي لا أسأل عما أفعل وأنا العليم الحكيم وأنا الذي أبلو عبادي وأمتحن خلقي فمن صبر علـى بلائـي ومحنتـي واختبـاري ألقيتـه فـي جنتـي وفـي نعمتـي ومـن زال عـن أمري وكذب رسلي أخلدته مهاناً في عذابي وأتممت أجلي وأظهرت على ألسنة رسلي‏.‏ فأنا الذي لم يعل جبار إلا وضعته وأذللته فبئس الذي على أمره ودام جهالته‏.‏ وقـال‏:‏ لـن نَـبْرَح عليـه عاكفيـنَ وبـه موقنيـن أولئك هُمُ الكافرون‏.‏ ثم يركعُ ويقول في ركوعه مرتين‏:‏ سبحـان رَبّـي وربّ العِـزة وتعالى عمّا يَصِفُ الظالمون وفي سجوده‏:‏ الله أعلى مرتين الله أعظم مرة والصوم مشروع يوم المِهْرَجان والنَّيْرُوز‏.‏ والنبيذ حـرام والخمـر حلـال والغُـسْل مـن الجنابـة كالوضوء‏.‏ ولا يؤكل ذو ناب ولا ذو مخالب‏.‏ ومَن خالفهم وحارب وجب قتله وإن لم يحارب أخِـذت منـه الجزيـة وانتهـى‏.‏ إلـى غيـر ذلـك من شنيعة متعارضة يهدم بعضُها بعضاً وتشهد عليهم بالكَذِب‏.‏ وهذا الفَرَحُ بن يحيى الذي ذكر هذا أول الكتاب أنه داعِيَةُ القَرَامِطَةِ يُلقَب عندهم ذِكْرَوَيْه بن مَهْرَوَيْه‏.‏ ويقال‏:‏ إن ظهور هذا الرجل كان قبل مقتل صاحب الزنج وإنه سار إليه علـى الأمـان وقـال لـه‏:‏ إن ورئـي مائـة سيـف فتعـالَ نتناظَـرْ فلعلنا نتّفق ونتعاون‏.‏ ثم تناظرا فاختلفا وانصرف قُرمط عنه‏.‏ وكان يسمي نفسه القائم بالحق‏.‏ ويزعم بعض الناس أنه كان يرى رأي الأزارِقَةِ من الخوارج‏.‏

فتنة طرسوس
قد تقدم لنا انتقاض بازمان بطرسوس على مولاه أحمد بن طولون وأنه حاصـره عليـه وأنـه راجـع بعـد طاعـة ابنـه خَمـارَوَيْه ممـا حمـل إليـه مـن الأمـوال والأمتعـة والسلـاح فاستقـام أمره بطرسـوس مدّةً وغزا سنة ثمانٍ وسبعين بالصائفة مع أحمد الجُعْفِيّ وحاصروا اسْكَنْدا فأصيب بحجر مَنْجَنيق فرجع وهلك في طريقه ودُفِنَ بطرسوس‏.‏ وكان استخلف ابن عَجيف فأقَره خمارويـه وأمـده بالخيـل والسلـاح والمـال‏.‏ ثـم عزلـه واستعمـل عليهـا ابن عمّه ابن محمد بن موسى بن طولون‏.‏ ولما تُوُفِّي المُوَفًقُ نزعَ خادم من خواصِّه اسمه راغب إلى الشكِّ وطلب المُقَامَ بالثّغْرِ للجهـاد فـأذِنَ له المُعْتَضِدُ فسار إلى طرسوس وحطً أثقاله بها وسار إلي لقاء خمّارويه بدِمَشْقِ فأكرمـه واستجلـب أنسَـهُ فطـال مُقامه وألهم أصحابه بطرسوس أنه قبض عليه فأوصوا أهل البلد فـي ذلـك فوثبـوا بأميرهـم محمـد بـن موسـى حتـى يُطْلِقَ لهم راغبَ وبلغ الخبر إلى خمارويه فأطلقه فجـاء إليهـم ووبخهـم علـى فعلهـم فأطلقوا محمد بن موسى وسار عنهم إلى بيت المقدس فأعادوا ابن عجيف إلى وِلايَتِهِ‏.‏

فتنة أهل الموصل مع الخوارج
قد تقمّ لنا أن هارون بن سليمان كان على الشَرَاةِ من الخوارج وكان بنـو شَيْبـانَ يقاتلونهـم ويَغيـرون علـى الموصـل‏.‏ فلمـا كانـت سنـة تسـعٍ وسبعيـن جـاء بنـو شيبـان لذلـك وأغاروا على سُوى وغيرها من الأعمال فاجتمع هارونُ الشاري في الخوارج وحَمْدان بن حَمْدون الثعلبي على مدافعتهـم‏.‏ وكـان مـع بنـي شيبـان هـارون بـن سيمـا مولـى أحمـد بـن عيسـى بـن الشيـخ الشَيْبَانِـيّ بعثـه محمد بن إسحاق بن كِنْدَاجق والياً على الموصل عندما مات أبوه إسحاق ووليَ مكانه على أعماله بالموصل وديار ربيعَةَ فلم يَرْضَهُ أهل الموصل وطردوه فسار إلى بني شيبان مُسْتَنْجِداً بهم فلما التقى الجمعان انهزم بنو شيبان أولاً واشتغل أصحاب حمدان والخوارج بالنهب فكرّ عليهم بنو شيبان وظفروا بهم‏.‏ وكتب هارونُ بن سيما إلى محمَّدٍ بن إسحاق بن كِنْداجُق يستمدّه فسار بنفسه وخَشِيَهُ أهل الموصل فسار بعضهم إلى بغداد يطلبون عاملاً يكفيهم أمر ابـن كِنْداجُـق ومـرّوا فـي طريقهـم بمحمَّـد بـن يحيـى المجـروح الموكَـل بحفـظ الطريـق فألفـوه وقد وصل إليه بولاية العهد بالموصل فبادر ملكها وتواثق ابن كنداجق في مكانه وبعث إلى خمارويه بالهدية وشمـال إمارة الموصل كما كان من قبل فلم يُجِبْهُ إلى ذلك ثم عزل المجروح وولى بعده علي بن داود الكردي‏.‏

الصّوائف الصوائف أيام المعتمد
وصـل الخبـر فـي سنـة سبـع وخمسيـن بـأنّ ملـك الـروم بالقسْطَنْطينيّـة ميخائيـل بـن روفائيل وثب عليه قريبه مسك ويعرف بالصقلي فقتله لأربع وعشرين سنة من ملكه وملك مكانه‏.‏

وفي سنة تسع وخمسين
خرجت عساكر الروم فنازلوا سمسياط ثم نازلوا مليطة وقاتلهم أهلها فانهزموا وقتـل بطريـق مـن بطارقتهـم

وفي سنة ثلـاث وستين
استولى الروم على قلعة الصقالبة وكانت ثغراً لطرسـوس وتسمَّـى قلعـة كَرْكَـرَةَ فـرد المعتمـد ولايـة ثـغْر طرسـوس لابـن طولـون‏.‏ وكـان أحمـد بـن طولون قد خطب ولايتها من الموفَّق يريد أن يجعلها ركاباً لجهاده لخبرته بأحوالها‏.‏ وكان يردد الغزو من طرسوس إلى بلاد الروم قبل ولاية مِصْرَ فلم يُجِبْه الموفّق وولّى عليها المُوَفَّق محمد بن هارون الثعلبـي واعترضه السَراة أصحاب مساور وهو مسافر في دجْلةَ فقتلوه فولّى مكانه أماجور بن أولغ بن طُرخان من التُرْكِ فسار إليها وكان غِرّاً جاهلاً فأساء السيرة ومنع أقران أهل كركره ميرتهـم وكتبـوا إلـى أهل طرسوس يشكون فجمعوا لهم خمسة عشر ألف دينار فأخذها أماجور لنفسه وأبطأ على أهل القلعة شأنها‏.‏ فنزلوا عنها وأعطوها الروم وكثر أسف أهل طرسوس لذلـك بمـا كانـت ثغرَهُـم وعينـاً لهـم علـى العدوّ وبلغ ذلك المعتمَدُ لأحمد بن طولون بولايتها وفوّض إليهم أمر الثغور فولِيَها واستعمل فيها مَن يحفظ الثغر ويقيم الجِهاد وقارن ذلك وفاة أماجور عامل دمشق وملك ابن طولون الشام جميعها كما ذكرناه قبل‏.‏

وفي سنة أربـع وستّيـن
غـزا بالصائفـة عبـد اللـه بـن رشيـد بـن كـاوُس فـي أربعيـن ألفـاً مـن أهـل الثغـور الشامية فأثخن فيهم وغنم ورجع‏.‏ فلما رحل عن البَدْبَدون خرج عليه بطريق سلوقية وقرة كوكب وحرسية وأحاطوا بالمسلمين فاستمات المسلمون واستَلْحَمَهم الروم بالقتل ونجا فلُّهم إلى الثغـر وأسـر عبـد اللَّـه بـن كـاوس وحمـل إلـى القُسْطَنْطِيييـةِ

وفي سنة خمس وستين
خرج خمسة من بطارقـة الـروم إلىِ أدَنة فقتلوا وأسروا والي الثغور أوخرد فعزل عنها وأقام مرابطاً‏.‏ وبعث ملك الروم بعبد اللَه بـن كـاوس ومَـن معـه مـن الأسـرى إلـى أحمـد بـن طولـون وأهـدى إليـه عـدة مصاحف‏.‏

وفي سنة سـت وستيـن
لقـي أسطـول المسلميـن أسطـول الـروم عنـد صقليـة فظفـر الـروم بهـم ولحـق مَن سَلِـمَ منهـم بصقليـة وفيهـا خرجـت الروم على ديار ربيعَةَ واستنفر الناس ففرّوا ولم يطيقوا دخول الدرب لشدة البرد فيها‏.‏ وغزا عامل ابن طولون على الغور الشامِية فـي ثلثمائـة مـن أهـل طرسـوس واعترضهـم أربعـة آلـاف مـن الـروم مـن بلاد هِرقل فنال المسلمون منهم أعظم النَيل‏.‏

وفي سنة ثمانٍ وستين
خرج ملك الروم‏.‏ وفيها غزا بالصائفة خَلفُ الفَرغانيّ عامل ابن طولون على الثغور الشامِية فأثخن ورجع‏.‏

وفي سنة سبعيـن
زحـف الـروم فـي مائـة ألـف ونزلـوا قلميـة علـى ستـة أميال من طرسوس فخرج إليهم بازيار فهزمهم وقتل منهم سبعين ألفاً وجماعة من البطارقة وقتل مقدَّمهم بطريق البطارقة وغنم منهـم سبـع صلبـان ذهبـاً وفِضَّـةً وكـان أعظمهـا مكلَّـلاً بالجواهر‏.‏ وغنم خمسة عشر ألف دابّة ومن السروج والسيوف مثل ذلك وأربع كـراسٍ مـن ذهب ومائتين من فِضة وعشرين علماً من الديباج وآنية كثيرة‏.‏

وفي سنة ثلاث وسبعين
غزا بالصائفة بازيار وتوغَّل في أرض الروم وقتل وغنم وأسر وسبى وعاد إلى طرسوس‏.‏

وفي سنة ثمانٍ وسبعين
دخل أحمد الجُعفي طرسوس وغزا مع بازيار بالصائفة ونازلوا إسكندا فأصيب بازيار عليها بحجر منجنيق فرجع ومات في طريقه ودُفِنَ بطرسوس‏.‏ الولايات في النواحي الولايات بالنواحي أيام المعتز كانت الفتنة قد ملأت نواحي الدولة من أطرافها وأوساطها واستولى بنو سامان على ما وراء النهر والصفّار على سجستان وكرمان وملك فارسَ من يد عمال الخليفة وانتزع خراسان من بنـي طاهـر وكلهـم مـع ذلـك يقيمـون دعـوة الخليفـة‏.‏ وغلب الحسن بن زيد على طبرستان وجرحان مُنازعـاً بالدعـوة ومحاربـاً بالديلـم لابـن سامـان والصفّـار وعساكـر الخليفـة بأصبهـان واستولى صاحـب الزِنْج على البصرة والأبَلّة إلى واسط وكور دجلة منازعاً للدعوة ومُشاققاً وأضرم تلك النواحـي فتنـة‏.‏ ولـم يـزل الموفّـق فـي محاربتـه حتى حسم علَّته وقطع أثره واضطرمت بلاد الموصل والجزيـرة فتنةً بخوارج السراةِ وبالقرب من بني شَيْبان وتغلْب بالأكراد واستولى ابن طولون على مصر والشام مقيماً لدعوة الخلافة العباسية وابن الأغلب بإفريقية كذلك‏.‏ وأما المغرب الأقصى والأندلس فاقتطعا عن المملكة العبّاسيّة منذ أزمان كما قلنا ولم يكن لِلْمُعتَمَدِ مدة خلافته كلها حكم ولا أمر ونهي إنما كان مغلباً لأخيه الموفق وتحت استبداده ولم يكـن لهمـا جميعـاً كبيـر ولايـة فـي النواحـي باستيـلاء مَن استولى عليها ممّن ذكرناه إلا بعض الأجناس فلنذكـر مـا وصـل إلينـا مـن هذه الولايات أيام المعتمد فلأول ولايته استوزر عُبَيْدَ الله بن يحيى بن خاقـان وبعـث جعلـان لحرب الزنج بالبصرة فكان أمره معهم كما مرّ‏.‏ ثم ولّي عيسى ابن الشيخ مـن بنـي شيبـان علـى دمشـق فاستأثـر بهـا ومنـع الخـراج وجاءه حسين الخادم من بغداد يطلب المال فاعتـذر بأنـه أنفقـه علـى الجنـد فكتـب لـه المعتمـد عهـده فـي أرمينيَّة ليقيم بها دعوته وقلّد أماجور دمشـق وأعمالهـا فسـار إليهـا وأنفـذ عيسى ابن الشيخ ابنه منصوراً لقتال أماجور في عشرين ألفاً فانهزموا وقتل منصور وسار عيسى إلى أرمينية على طريق الساحل ودخل أماجور دمشق‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:50 PM

وفي سنة سـت وخمسيـن
سـار موسـى بـن بغـا لحـرب مُسَـاوِرٍ الخارجـيّ فلقيه ساحة جائعين فنال الخـوارج منهـم‏.‏ وفيهـا كـان وثـوب محمـد بـن واصـل بـن إبراهيـم التميمـي علـى الحـارث بـن سيمـا عامـل فارس فقتله وغلب عليها كما مرّ‏.‏ وفيها غلب الحسن بن زيد الطالبي على الري فسار إليها موسى بن بغا وغلب على عساكر الحسن وظهر علي بن زيد بالكوفة وملكها وبعث المعتمد لمحاربة كيجور التركي فخرج عنها إلى القادسية ثم إلى ختان ثمّ إلى بلاد بني أسد‏.‏ وغزاه

وفي سنة سبـع وخمسيـن
عقـد المعتَمَـدُ لأخيـه المُوَفَـق علـى الكوفة والحَرَمَيْن واليمن ثم على بغداد والسـواد إلـى البصـرة والأهـواز وأمـره أن يعقـد ليارجـوج على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد الحاجب‏.‏ وعقد يارجوج على ذلك لمنصور بن جعفر والخياط ونزل الأهواز‏.‏ ثم عقد المعتمد حرب الزنج بالبصرة لأحمد بن المُوَلّد فسار إليه وقاتل الزنج‏.‏ وكان بالبطائح سعيد بن أحمد الباهليّ متغلِّباً عليها فأخذه ابن المولد وبعث به إلى سامرّا‏.‏ وفيها تغلّـب يعقـوب الصفّـار علـى فـارس وبعـض أعمـال خُراسـان وولـاه المعتمد ما غلب عليها وفيها غلب الحَسَنُ بن زيد على خُراسان وانتقضت على ابن طاهر أعمال خُراسان‏.‏ وفيها اقتطـع المعتمـد مصر وأعمالها ليارجوج التُركْيّ فولَى عليها أحمد بن طولون ومات يارجوج لسنة بعدهـا فاستبـدّ ابـن طولـون بهـا وكان عبد العزيز بن أبي دلف على الريّ فخرج عليها خوفاً من جيـوش ابـن زيد صاحب طبرستان فبعث الحسن من قرابته القاسم بن علي بن القاسم فأساء فيها السيرة‏.‏

وفي سنة ثمـانٍ وخمسيـن
قُتِـلَ منصـور بـن جعفـر الخَيّـاط فـي حـرب الزنـج وولـى يارجـوج علـىِ أعمال منصور فولى عليها اصطيخور وهلك في حرب الزنج وعقد المُعتَمَدُ للمُوَفَقِ على ديار مصر وقِنْسريـن والعواصـم‏.‏ وبعثـه لحرب الزِنْج ومعه مُفْلِح فهلك في تلك الحرب‏.‏ وعقد المعتمد على الموصل والجزيرة لمسرورٍ البلخيّ فكانت بينه وبين مساوِر الشيباني حروب وكذلك بين الأكراد واليعقوبية وأوقع بهم كما مر وفيها رجع أحمد بن واصل إلى طاعة السُلطان وسلَم فارس للحسن بن الفياض‏.‏

وفي سنة تسع وخمسين
كان مهلك اصطيخور بالأهواز فأمر المعتمد موسى بن بغا بالمسير لحرب الزنج كما مر وفيها ملك يعقوب الصفار خُراسان وقبض على محمـد بـن طاهـر وكـان لمنكجـور علـى الكوفـة فسار عنها إلى سامرا بغير إذن وأمر بالرجوع فأبى وبعث المعتمد عدة من القواد فلقوه بَعكبرا فقتلوه وحملوا رأسه‏.‏ وفيهـا غلـب الحسـن بـن زيـد علـى قَوْمِـسَ وملكهـا وكانـت وقعـة بيـن محمَـد بن الفضل بن نيسان وبين دهشودان بن حسًان الدَيْلمِي فهزمه محمد‏.‏ وفيها غلب شركب الحمَال على مرو ونواحيها‏.‏

وفي سنة ستين
قام يعقوب بن الصفار على الحسن بن زيد فهزمه وملك طبرستان كما مر وأخـرج أهـل الموصـل عامِلهـم أتكوتكيـن بـن أساتكيـن فبعث عليهم أساتكين إسحاق بن أيوب في عشرين ألفاً ومعه حمدان بن حمدون الثعلبيّ فامتنع أهل الموصل منهم وولّوا عليهم يحيى بن سليمان فاستولى عليها‏.‏ وفيها قتلت الأعراب منكجور والي حِمْص فولّى بكتر‏.‏ وولى على أذرَبيجَـان الرذَيَنـي عُمَـرَ بـن علـي لمـا بلغـه أن عاملهمـا العـلاء بـن أحمـد الـأزديّ فُلِـج‏.‏ فلمـا أتـى الرذينـي حاربه العلاء فانهزم وقتل واستولى الرذيني على مخلفه قريباً من ألفيّ ألف وسبعمائـة ألـف درهم‏.‏ وفيها سار علي بن زيد القائد بالكوفة إلى صاحب الزنج فقتله‏.‏

وفي سنة إحدى وستين
عقد المعتمد لموسى بن بغا على الأهواز والبصرة والبحرين واليمامة مضافاً لما بيده‏.‏ فولّاها عبد الرحمن بن مُفْلِح وبعثه لحرب ابن واصل فهزمه ابن واصل وأسره كما مر‏.‏ ورأى موسى بن بَغا اضْطِراب تلك الناحية فاستعفى منها ووليهَا أبو الساج ومَلَكَ الزِنْجُ الأهوَازَ من يده فصُرِفَ عن ولايتها ووليها إبراهيم بن سيما وولي محمد بن أوْس البَلْخِي طريـق خُراسـان‏.‏ ثـم جـاء الصفـار إلـى فارِسَ فغلب عليها ابن واصل كما مر فجهز المعتمد أخاه المُوَفَّقُ إلى البصرة بعد أن ولاه المعتمد عهده بعد ابنه جعفر كما ذكرناه‏.‏ وبعت المُوَفَقُ ابنه أبا العبـاس لحـرب الزنـج فتقدمـا بيـن يديـه‏.‏ وفيهـا فـارق محمد بن زيد ولاية يعقوب الصفّار وسار ابن أبـي السـاج إلى الأهواز وطلب أن يوجه الحسين بن طاهر بن عبد اللًه بن طاهر إلى خُراسان وفيهـا استبـدّ نَصـرُ بـن أحمـد بـن لجهيـن بسَمرْقَنْد وما وراء النهر وولى أخاه إسماعيل بُخارا وفيها ولى المُعْتَمَد على الموصل الخُضر بن أحمد بن عُمَرَ بن الخَطاب‏.‏ وفيها رجع الحسَيْنُ بن زَيْد إلى طَبَرْسَتان وأخرج منها أصحاب الصفَّار وأحرق سالوس لممالأة أهلها الصفار وأقطع ضياعهم للدَيْلم وفيها نادى المعتمد في حاج خراسان والري وطَبَرسَتان وجَرْجـان بالنَّكيـر علـى مـا فعلـه الصفَار في خُراسان وابن طاهر وأنه لم يكن عن أمره ولا ولاه‏.‏ وفيها قتل مساور الشاربي يحيى بن جعفر من ولاة خراسان فسار مسرور البَلخيّ في طلبه والموفّق من ورائه‏.‏

وفي سنة اثنيـن وستيـن
كانـت الحـرب بيـن الموفـق والصفـار واستولـى الزنـج علـى البطيحـة ودسميسـان وولـى علـى الأهـواز كمـا ذكرنا وبعث مسرور البلخي أحمد بن ليتونة لحربهم كما مر‏.‏ وفيها ثار أحمد بن عبد اللـه الخُجِسْتانـي فـي خراسـان بدعـوة بنـي طاهـر وغلـب عيهـا الصفـار إلـى أن قتـل كمـا مـرِّ ذكره‏.‏ وفيها وقعت مغاضَبَة بين الموفق وابن طولون فبعث إليه الموفّق موسى بن بَغا فأقام بالرّقة حولاً وعجز عن المسير لقلة الأموال إلى العراق‏.‏ وفيهـا انصـرف عامـل الموصـل وهـو القطان صاحب مفلح فقتله بالبرية‏.‏

وفي سنة ثلاث وستين
استولى الصفار على الأهواز ومات مساور الشاربي وهو قاصد لقاء العساكر السُلطانيّة بالبواريخ فولى الخوارج مكانه هارون بن عبد الله البَلْخِي فاستولى على الموصل‏.‏ وفيها ظفر أصحاب الصفار بابن واصل‏.‏ وفيها هزم ابن أوس من طريق خُراسان وعـاد إلـى الموصل‏.‏ وفيها ظفر أصحاب الصفّار بابن واصل وأسروه ومات عُبَيْدُ اللَّه بن يحيى بن خاقان وزيرُ المُعْتَمدِ فاستوزر مكانه الحسن بن مُخلِد وكان موسى بن بَغا غائباً في غزو العرب فلما قَدِمَ خافه الحسين وتغيبَ فاستوزر مكانه سليمان بن وهب‏.‏ وفيها غلب أخو شَرْكَب الحمَّال على نيسابور وخرج عنها الحسين بن طاهر إلى مرو وبها خوارزم شاه يدعو لأخيه محمد‏.‏ وفيها ملك الزِنْجُ مدينة واسط وقاتله دونها محمد بن المُوَلّد فهزمه ودخلها واستباحها‏.‏ وفيها قبـض المعتمـد علـى وزيره سليمان بن وَهْب وولّى مكانه الحسن بن مُخْلِد وجاء المُوَفَقُ مع عبد اللَّـه بـن سليمـان شفيعـاً فلـم يُشْفِعـهُ فتحـوّل إلـى الجانب الغربي مُغاضباً واختلفت الرّسل بينه وبين المعتمد وكان مع الموفّق مسرور كيغلغ وأحمد بن موسى بن بغا‏.‏ ثم أطلق سليمان ودعا إلى الجوسـق وهـرب محمـد بـن صالـح بـن شيـرزا والقـواد الذيـن كانوا بسامُرّا مع المعتمد خوفاً من المُوَفَّق فوصلـوا إلـى الموصـل‏.‏ وكتـب الموفـق لأحمـد بـن أبـي الأصبـغ فـي قبـض أموالهم‏.‏ وفيها مات أماجور عامل دمشق وملك ابن طولون الشام وطرسوس وقتل عاملها سيما‏.‏

وفي سنة خمس وستين
وليَ مسرور البلخي على الأهواز وهزم الزنج‏.‏ وفيها مات يعقوب الصفًار وقام بأمره أخوه عمر ولاه الموفّق مكان أخيه بخراسان وأصبهان وسجستان والسند وكرمان والشُّرطة ببغداد‏.‏ وفيها وثب القاسم بن مهان بدُلف بن عبد العزيز بن أبي دلف بأصبهان فقتله فوثب جماعة من أصحاب دلف بالقاسم فقتلوه فولِيَ أصبهان أحمد بن عبد العزيز أخو دلف‏.‏ وفيها لحق محمد بن المولد بيعقوب الصفّار وقبضت أمواله وعِقاره ببغداد‏.‏ وفيها حبس الموفًق سليمان بن وهب وابنه عبد الله وصادرهما على تسعمائة ألف دينار - وفيها ذهب موسى بن أتامش وإسحاق بن كنداجق والفضل بن موسى بن بغا مُغاضبين‏.‏ وبعث الموفّق في أثرهم صاعد بن مخلد فردهم من صرصر‏.‏ وفيهـا استـوزر المُوَفّـق أبا الصقر إسماعيل بن بُلْبُل‏.‏

وفي سنة ستٍّ وستّين
ملك الزنجُ رامَهُرْمُز وغلـب أساتكين على الريّ وأخرج عنها عاملَها فُطْلَقْت‏.‏ ثم مضى إلى قزوين وبها أخوه كيغلغ فصالحه وملكها‏.‏ وفيها ولّى عليّ بن الليثِ على الشرطة ببغداد عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن طاهر وعلى أصبهان أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلف وعلى الحرَمَيْن وطريق مكة محمد بن أبـي الساج‏.‏ وولّى الموفّق على الجزيرة أحمد بن موسى بن بَغا فولّى من قِبَلِه على ديار ربيعَةَ موسى بن أتامش فغضب لذلك إسحاق بن كنداجق وفارق عسكر موسى وسار إلى بلد وأوقع بالأتراك اليَعقوبِيَّةِ‏.‏ ثم لقي ابن مساور الخارجيّ فقاتله‏.‏ وسار إلى الموصل وطلب من أهلها المال وخرج عليّ بن داود لقتاله مع إسحاق بن أيوب وحَمْدان بن حمدون وكانت بينهم حروب آخرها المعتمد وعقد لإسحاق بن كنداجق على الموصل وقد مرّ ذلك من قبل‏.‏ وفيها قتل أهلُ حِمْصَ عاملها عيسى الكرخيّ‏.‏ وفيها كانت بين لؤلؤ غلام ابن طولون وبين موسى بن أتامش وقعةً برأس عين وأسره لؤلؤ وبعث به إلى الرقّة‏.‏ ثم لقيه أحمد بن موسى فاقتتلـوا وغلـب أحمـد أولاً ثـم كـر لؤلـؤ فغلبهم وانتهوا إلى قرقيسيا ثم ساروا إلى بغداد وسامرّا‏.‏ وفيها أوقع أحمد بن عبد العزيز ببكتم فانهزم ولحق ببغداد وأوقع الخجستاني بالحسن بن زيد بجرجان فلحق بآمد وملك الخجستاني جرجان وأقطعه من طبرستان واستخلف على سارية الحسـنَ بـن محمَّد بن جعفر بن عبد الله العقيقي بن حسين الأصفر بن زين العابدين‏.‏ فلما انهزم الحسن بن زيد أظهر الحسن بن محمد أنه قتل ودعا لنفسه وحاربه الحسن بن زيد فظفر به وقتله‏.‏ وفيهـا ملـك الخُجِسْتَانِـيّ نيسابـور مـن يد عامل ابن عمرو بن الليث وفيها في صَفَر زحف الموفق لقتال صاحب الزنج فلم يزل يحاصره حتى اقتحم عليه مدينته وقتله منتصف سنة سبعين‏.‏ وفيها كانت الحرب بالمدينة بين بني حسن وبني جعفر‏.‏

وفي سنة سبع وستين
كانت الفتنة بالموصـل بيـن الخـوارج‏.‏ وفيهـا حبـس السلطـان محمـد بـن عبـد اللَّـه بن طاهر وجماعة من بيته اتّهمه عمـرو بـن الليـث بممالـأة الخُجستانيّ والحسين بن طاهر أخيه فكتب إلى المعتمد وحبسه‏.‏ وفيها كانت بين كيغلغ التركي وأحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وانهزم أحمد وملك كيغلغ همذان وفيهـا أزال الخُجستاني ذكر محمد بن طاهر من المنابر ودعا لنفسه بعد المعتمد وضرب السكَّة باسمـه وجـاء يريـد العـراق فانتهـى إلى الريّ ثم رجع‏.‏ وفيها أوقع أصحاب الساج بالهيثم العجلي صاحـب الكوفـة وغنموا عسكره‏.‏ وفيها أوقع أبو العباس بن الموفق بالأعراب الذين كانوا يجلبون الميرة بالزنج من بني تميم وغيرهم‏.‏

وفي سنة ثمـان وستيـن
كـان مقتـل الخجستانـي‏.‏ وأصحابـه بعـده‏.‏ علـى رافـع بـن هَرْثَمـة مـن قـوَّاد بني طاهر وملك بلاد خُراسان وخوارَزْم‏.‏ وفيها انتقض محمد بن الليث بفارِس على أخيه عمـرو فسار إليه وهزمه واستباح عسكره وملك أصطيخور وشيراز وظفر به فحبسه كما مرّ وفيها كانت وقعة بين أتكوتكين بن أساتكين وبين أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَف فهزمه أتكوتكيـن وغلبـه علـى قُـمّ‏.‏ وفيهـا بعـث عمـرو بـن الليـث عسكـراً إلـى محمد بن عبد اللّه الكردي‏.‏ وفيها انتقض لؤلؤ على مولاه أحمد بن طولون وسار إلى المُوَفق وقاتل معه الزِنْج وفيها سار المعتمد إلى ابن طولون بمصْرَ مُغاضباً لأخيه المُوَفّق‏.‏ وكتب المُوَفّق إلى إسحاق بن كِنداجُق بالموصـل بـردة فسـار معـه إلـى آخـر عملـه‏.‏ ثـم قبـض علـى القـوّاد الذين معه ورده إلى سامرا‏.‏ وفيها وثـب العامـة ببغـداد بأميرهـم الخَلَنْجِـيّ وكـان كاتـب عُبَـيْدِ اللـه بـن طاهر‏.‏ وقتل غلام له امرأة بسهم فلم يعدِهم عليه فوثبوا به وقتلوا من أصحابه ونهبوا منزله وخرج هارباً فركب محمد بن عبد وفيهـا وثـب بطرسـوس خلـق من أصحاب ابن طولون وعامله على الثغور الشاميَّة فاستنقذه أهل طرسـوس مـن يـده وزحـف إليهـم ابـن طولـون فامتنعـوا عليـه ورجـع إلـى حمـصَ ثـم إِلى دمشق‏.‏ وفيها كانت وقعة بين العَلَوِيّين والجعفريّين بالحجاز فقتل ثمانية من الجعفريين وخلصوا عامل المدينة من أيديهم‏.‏ وفيها عقد هارون بن الموفق لأبي الساج على الأنبار والرَحَبَةَ وطريق الفرات‏.‏ وولى محمـد بـن أحمـد علـى الكوفة وسوادها ودافعه عنها محمد بن الهيثم فهزمه محمد ودخلها‏.‏ وفيها مـات عيسـى بـن الشـيْخ عامـل الشَيْبَانِـيّ عامـل أرمينيـة وديـار بكـر‏.‏ وفيهـا عَظُمَت الفتنة بين المُوَفّق وابـن طولـون فحمـل المُعْتَمـد على لعنه وعزله وولى إسحاق بن كنداجق على أعماله إلى إفريقية وعلى شرطة الخاصة‏.‏ وقطع ابن طولون الخطبة للْمُوَفّق واسمه من الطِرَازِ‏.‏ وفيها ملك ابن طولون الرَحَبَةِ بعد مقاتلة أهلِها وَهَرَب أحمد بن مالك بن طوق إلى الشام‏.‏ ثم سار إلى ابن الشمَّاخ بقَرْقيسيا‏.‏

وفي سنة سبعيـن
كـان مقتـل صاحـب الـزنْج وانقـراض دعوتـه ووفـاة الحسـن بـن زَيْدٍ العَلَـوِيِّ صاحب طَبَرْسَتَان وقيام أخيه محمد بأمره ووفاة أحمد بن طولون صاحب مِصْر وولاية ابنه خَمَارَوَيْه ومسير إسحاق بن كِنْداجُق بابن دعامس عامل الرقَّة والثُغور والعواصم لابن طولون‏.‏

وفي سنة إحـدى وسبعيـن
ثـار بالمدينـة محمـد وعلـي ابنـا الحسـن بـن جعفـر بـن موسـى الكاظـم وقتـلا جماعـة مـن أهلهـا ونهبـا أمـوال النـاس ومنعـا الجُمعة بمسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شهراً وفيهـا عـزل المُعْتَمِـد عَـمْرو بـن الليـث مـن خُراسـان فقاتلـه أحمد بن عبد اللّه بن أبي دلف بأصْبَهان وهزمـه‏.‏ وفيهـا استعـاد خمارويـه الشـام مـن يـد أبـي العبَّـاس بـن الموفـق وفـرّ إلى طرسوس كما تقدمّ‏.‏ وفيهـا عقـد المعتمـد لأحمـد بـن محمـد الطائـي علـى المدينة وطريق مكَة وكان يوسف بن أبي الساج والي مكة وجاء بَدر غُلامُ الطائي أميراً على الحاج فحاربه يوسف على باب المسجد الحرام وَأسره فسار الجند والحاج بيوسف وأطلقوا بدراً من يده وحملوا يوسف أسيراً إلى بغداد‏.‏ وفـي منتصـف سنـة اثنتيـن وسبعيـن غلـب اتكوتكيـن علـى الـريّ مـن يد محمد بن زيد العَلَوِيّ سار هو من قَزْوين في أربعة آلاف ومحمد بن زَيْدٍ من طَبَرْسَتان في الدَيْلم وأهل خُراسان فانهزموا وقتـل منهـم ستـة آلـاف‏.‏ وفيهـا ثـار أهـل طرسـوس بأبـي العبـاس بـن المُوَفّـق وأخرجـوه إلـى بغـداد وولـوا عليهـم بازيـار‏.‏ وفيهـا توفـي سُلَيْمـان بـن وَهْبِ فـي حبـس الموفـق‏.‏ وفيهـا دخل حَمْدان بن حَمدون وهارون مدينة الموصل‏.‏ وفيها قدم صَاعد بن مخلد الوزير من فارس وقد كان بعثه الموفق إليها لحرب فرجع إلى واسط وركب القوّاد لاستقباله فترجلوا إليه وقبلوا يده ولم يكلمهم‏.‏ ثم قبـض الموفـق علـى جميـع أصحابـه وأهله ونهب منازلهم وكتب إلى بغداد بقبض ابنه أبي عيسى وصالح وأخيه عَبْدون واستكتب مكانه أبا الصَّقْر إسماعيل بن بلبل واقتصر به على الكتابة‏.‏ وفيها جاء بنو شَيْبان إلى الموصل فعاثوا في نواحيها واجمع هارون الشَارِبِيّ وأصحابه على قصدهـم وكتـب إلـى أحمـد بـن حمـدون الثَعْلبـي فجـاءَه وسـاروا إلـى الموصـل وعبـروا الجانـب الشرقي مـن دجلـة‏.‏ ثم ساروا إلى نهر الحادر فلما تراءى الجمعان انهزم هارون وأصحابه وانجلى سوى عنها‏.‏

وفي سنة ثلـاث وسبعيـن
وقعـت الفتنـة بيـن ابـن كِنْداجُـق وبيـن ابـن أبـي السـاج وسـار ابـن أبـي السـاج إلى ابن طولون واستولى على الجزيرة والموصل وخطب له فيها وقاتل الشراة كما ذكرنا‏.‏ وفيها قبـض المُوَفّـقُ علـى لؤلـؤ غلـام ابـن طولـون وصـادره علـى أربعمائـة ألـف دينـار‏.‏ وبقـي فـي إدبـار إلـى أن عاد إلى مِصرَ أيام هارون بن خَمَارَوَيْه‏.‏

وفي سنة أربع وسبعين
سار الموفق إلى فارس فاستولى عليها من يد عمرو بن الليث ورجع عمرو إلى كرمان وسِجِسْتان وعاد الموفق‏.‏ إلى بغداد‏.‏

وفي سنة خمس وسبعين
نقض‏.‏ ابن أبي الساج طاعة خمارويه وقاتله خمارويه فهزمه وملك الشـامِ مـن يـده وسـار‏.‏ إلـى الموصـل وخمارويـه فـي اتباعـه إلى بغداد ولحق ابن أبي الساج بالحُديْثةِ فأقام بها إلى أن رجع خمارويه‏.‏ وكان إسحاق بن كنداجق قد جاء إلى خمارَويه فبعث معه جيشاً وقواداً في طلب ابن أبي الساج واشتغل بعمل السفن للعبور إليه فسار ابن أبي الساج عنها إلى الموصل واتّبعه ابن كنداج وسار إلى الرقَة فاتّبعه ابن أبي الساج وكتب إلى الموفّق يستأذنـه في اتباعه إلى الشام‏.‏ وجاء ابن كنداج بالعساكر من عند خمارويه وأقام على حدود الشـام‏.‏ ثـم هـزم ابـن أبـي الساج فسار إلى الموفّق وملك ابن كنداج ديار ربيعة وديار مُضَر وقد تقدّم ذكر ذلك‏.‏ وفيها خرج أحمد بن محمد الطائي من الكوفة لحرب فارس العبدي كان يخيف السابلة فهزمه العبدي وكان الطائي على الكوفة وسوادها وطريق خُراسان وسامرا وشرطة بغداد وخراج بادردبـاد قطربـل‏.‏ وفيهـا قبـض الموفـق علـى ابنـه أبـي العباس وحبسه‏.‏ وفيها ملك رافع بن هَرْثَمَةَ جَرْجان من يد محمد بن زيْدٍ وحاصره في استراباذ نحواً من سنتين ثم فارقها الجيش لحربه فسـار عـن ساريـة وعـن طبرستـان سنـة سبـع وسبعيـن‏.‏ وأستأمـن رستـم بـن قارِن إلى رافع وقدم عليـه علـيّ بـن الليـث مـن حبـس أخيـه بكرمـان هـو وابنـاه العدل والليث‏.‏ وبعث رافع على سالوس محمد بن هارون وجاء إليه علي بن كاني مستأمِناً فحصرهما محمد بن زيد وسار إليه رافع ففرّ إلى أرض الدَيْلم ورافِع في اتباعه إلى حدود قزوين فسار فيها وأحرقها وعاد إلى الريّ‏.‏

وفي سنة ست وسبعين
رضي المُعْتَمِدُ عن عمرو بن الليث وولاه وكتب اسمه على الأعلام وولـى علـى الشُرْطـة ببغـداد مـن قِبَلِـه عُبَيْد اللّه بن عبد الله بن طاهر‏.‏ ثم انتقض فأزيل‏.‏ وفيها كان مسير الموفق إلى الجبل لأتكوتكين ومحاربة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وقد تقدمّ ذلـك‏.‏ وفيها ولّى الموفّقُ ابن أبي الساج على أذرَبَيجَان فسار إليها ودافعه عبد الله بن حسن الهمذانـي صاحـب مراغـة فهزمـه ابـن أبـي السـاج واستقر في عمله‏.‏ وفيها زحف هارون الشاري من الحديثة إلى الموصل يريد حربها ثم صانعه أهل الموصل ورحل عنهم‏.‏

وفي سنة سبع وسبعين
دعا مازيار بطرسوس لخمارَوَيْه بن أحمد بن طولون وكان أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة مطرف وسلاحاً كثيراً‏.‏ وبعث إليه بعد الدعاء بخمسين ألف دينار‏.‏

وفي سنة ثمان وسبعين
كانت وفاة المُوَفق وبيعة المُعْتَضِد بالعهد كما مرّ وفيها كان ابتداء أمر القَرامِطَـةِ وقـد تقـدّم‏.‏

وفي سنة تسـع وسبعيـن
خلـع جَعْفَر بن المعتمد وقدم عليه المعتضد وكانت الحـرب بيـن الخـوارج وأهـل الموصـل وبيـن بنـي شَيْبَـان‏.‏ وعلـى بنـي شيبـان هـارون بـن سيمـا مـن قبل محمَـد بـن إسحـاق بـن كِـنْداج ولـاه عليهـا فطـرده أهلهـا فزحف إليهم مع بني شيبانْ ودافع عن أهل الموصل هارون الشاري وحمدان بن حمدون فهزمهم بنو شيبان وخاف أهل الموصل من ابن سيما وبعثوا إلى بغداد يطلبون والياً فولَّى المعتمد عليهم محمد بن يحيى المجروح الموكل بحفظ الطريق وكان ينزل الحُدَيْثة فأقام بها أياماً ثم استبدل منه بعلي بن داود الكردي‏.‏ توفي المُعْتَمِد على الله أبو العبَّاس أحمد بن المُتَوَكِل لعشر بقين من رَجَب سنة تسع وسبعين ومائتين لثلاث وعشرين سنة من ولايته ودُفِنَ بسامُرا وهو أوّل من انتقل إلى بغداد وكان في خلافته مغلباً عاجزاً وكان أخوه الموفق مستَبِداً عليه ولم يكن له معه حكم في شيء‏.‏ ولما مات المُوَفق سنة ثمان وسبعين كما قدّمناه أقام مكانه ابنه أبا العباس أحمد المعتضد وحَجَرَ المُعْتَمِـدَ كمـا كـان أبـوه يَحجُـرُهُ وولّاه عهده كما كان أبوه‏.‏ ثم قسمه في العهد على ابنه جعفر ثم هلك فبايع الناس لِلْمُعْتَضِد بالخلافة صبيحة موته فولَّى غلامه بدراً الشرْطة وعُبَيْدَ اللّه بن سُلَيْمـانَ بـن وَهْب الوزارة ومحمد بن الشاري بن مالك الحرس‏.‏ ووفد عليه لأوّل خلافته رسول عمرو بن الليث بالهدايا وسأل ولاية خُراسان فعقد له عليها وبعث إليه بالخِلع والْلِواء ولأوَّل خلافته مات نصر بن أحمد السامانيّ ملك ما وراء النهر وقام مكانه أخوه إسماعيل‏.‏

مقتل رافع بن الليث
كـان رافـع بن الليث قد وضع يده على قرى السلطان بالريِّ وكتب إليه المُعْتَضِد برفع يده عنها فكتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دُلَف بإخراجه عن الريّ فقاتله وأخرجه وسار إلى جَرْجان ودخل نيسابور سنة ثلاث وثمانين فوقعت بينه وبين عمـر حـرب وانهـزم رافـع إلـى أسْوَرْد وخلص عمرو وابني أخيه من حبسه وهما العَدْلي واللَيْثُ ابنا علي بن الليث وقد تقـدّم خبرهمـا‏.‏ ثـم سـار رافـع إلـى هَـراة ورصـده عمـر بسرخـس فشعـر بـه ورجع إلى نيسابور في مسالك صعبة وطرق ضيقة واتبعه عمر فحاصره في نيسابور‏.‏ ثم تلاقيا وهرب عن رافع بعض قُوّاده إلى عمرو فانهزم رافع وبعث أخاه محمد بن هَرْثَمَةَ إلى محمد بن زيد يستمده كما شـرط لـه فلم يفعل‏.‏ وافترق عن رافع أصحابه وغلمانه وفارقه محمد بن هارون إلى أحمد بن إسماعيل في بخارى ولحق رافع بخَوارَزْم في فَلٌ من العسكر ومعه بقية أمواله وآلته ومرَّ في طريقه بأبي سعيد المرداني ببلد‏.‏ فاستغفلَه وغدر به وحمل رأسه إلى عمرو بن الليث بنيسابور وذلك في شوال سنة ثلاث وثمانين‏.‏

خبر الخوارج بالموصل
قد تقدَّم لنا أنَ خوارِجَ الموصل من الشراه استقدر عليهم بعد مُساوِر هارون الشاري وذكرنا شيئـاً مـن أخبارهـم‏.‏ ثـم خـرج عليـه سنـة ثمانيـن محمَّـد بـن عَبـادة ويعـرف بأبـي جـوزة من بني زهير من البقعاء وكان فقيراً ومعاشه ومعاش بنيه في التقاط الكمأة وغيرها وأمثال ذلك وكان يتدَيَّن ويُظهر الزُهد ثم جمع الجموع وحكم واستجمع إليه الأعراب من تلك النواحي وقبض الزَكَوات والأعشـار مـن تلـك الأعمال وبنى عند سنجار حِصْناً ووضع فيه أمتعته وماعونه وأنزل به ابنه أبا هلال في مائة وخمسين فجمع هارون الشاري أصحابه وبدأ بحصار الحِصْن فأحاط به ومحمد بـن عبـادة فـي داخلـه‏.‏ وجَـدّ فـي حصـاره حتـى أشـرف علـى فتحـه وقيـد أبـا هلـال ابنـه ونفـراً معـه وبعـث بنـو ثعلـب وهـم مـع هـارون إلـى مـن كـان بالحصـن مـن بنـي زهير فأمنوهم وملك هارون الحِصنَ‏.‏ ثم ساروا إلى محمد فلقيهم وهزمهم أولاً ثم كرّوا عليه مستميتين فهزموه وقتلوا من أصحابه ألفاً وأربعمائة‏.‏ وقسم هارون ماله ولحـق محمـد بآمـد فحاربـه صاحبهـا أحمـد بـن عيسى بن الشيخ فظفر به وبعثه إلى المُعتَضِدِ فسلخه حياً‏.‏

إيقاع المعتضد ببني شيبان واستيلاؤه علي ماردين
وفي سنة ثمانيـن سـار المُعْتَضـدُ إلـى بنـي شيبـان بـأرض الجزيـرة ففـروا أمامـه وأثـار علي طوائفَ من العرب عند السِّند فاستباحهم وسار إلى الموصل فجاءه بنو شَيْبَانَ وأعطوه رهنهـم علـى الطاعـة فغلبهـم وعـاد إلـى بغـداد‏.‏ وبعـث إلـى أحمـد بـن عيسـى بـن الشيـخ فـي أمـوال ابـن كنـداج التي أخذها بأحمد فبعث بها وبهل أياماً كثيرة معها‏.‏ ثم بلغه أن أحمد بن حمدون ممالئ لهارون الشـاري وداخل في دعوته فسار المعتضد إليه سنة إحدى وثمانين‏.‏ واجتمع الأعراب من بني ثعلب وغيرهم للقائه وقتل منهم وغرق في الزاب كثيراً وسار إلى الموصل‏.‏ ثم بلغه أن أحمد هرب عن ماردين وخلَّف بها ابنه فسار المعتضد إليه ونازله وقاتله يوماً ثم صعد من الغد إلى باب القلعة وصاح بابن حمدان واستفتح الباب ففتح له دَهَشاً وأمر بنقل ما في القلعة وهدمها وبعث في طلب حمدان وأخذ أمواله‏.‏

الولاية علي الجبل وأصبهان
عقد المُعتَضدُ سنة إحدى وثمانين لابنه عليّ وهو المكتفي على الريّ وقَزْوين وزَنْجان وأبهَر وقدم وهَمَذَان والدّيْنور فاستأمن إليه عامل الريّ لرافع بن الليث وهو الحسن بن علي كوره فأمنه وبعث به إلى أبيه‏.‏

عود حمدان إلى الطاعة
وفي سنة اثنتين وثمانين سار المُعتَضدُ إلى الموصل واستقدم إسحاق بن أيوب وحَمْدان بن حمدون فبادر إسحاق بقلاعه وأودع حرمه وأمواله فبعث إليه المعتضد العساكر مع وصيف ونصر القَسوري فمرّوا بذيل الزعفران من أرض الموصل وبه الحَسَنُ بن علي كوره ومعه الحسين بـن حمـدان‏.‏ فاستأمـن الحُسَـيْنُ وبعثـوا بـه إلـى المعتضـد فأمـر بهـدم القلعـة‏.‏ وسار وصيف في اتباع حمدان فواقعه وهزمه وعبر إلى الجانب الغربي من دجلة وسار في ديار ربيعة وعبرت إليه العساكر وحبسوه فأخذوا ماله وهرب وضاقت عليه الأرض فقصد خيمة إسحاق بن أيوب في عسكر المعتضد مستجيراً به فأحضره عند المعتضد فوكل به وحبسه‏.‏ هزيمة هارون الشاري ومهلكه كان المعتضدُ قد ترك بالموصل نصراً القسرويّ لإعادته العمال على الجباية وخرج بعض العمال لذلك فأغارت عليهم طائفة من أصحاب هارون الشاري وقتل بعضهم فكثر عَيْث الخوارج‏.‏ وكتـب نصـر القسـروي إلـى هـارون يهـدده فأجابـه وأسـاء في الرد وعرض بذكر الخليفة فبعث نصر بالكتاب إلى المعتضد فأمره بالجدّ في طلب هارون وكان على الموصل يكتم طاتشمر من مواليهم فقبض عليه وقيده وولى على الموصل الحسن كوره وأمر وُلاة الأعمال بطاعته فجمعهم وعسكـر بالموصـل وخنـدق علـى عسكـره إلـى أن أوقـع بالنـاس غلاتهـم‏.‏ ثـم سـار إلى الخوارج وعبر الزّاب إليهم فقاتلهم قتالاً شديداً فهزمهم وقتل منهم وافترقوا وسار الكثير منهم إلى أذرَبَيْجَان ودخل هارون البرية واستأمن وجوه أصحابه إلى المعتضد فأمٌنهم‏.‏ ثم سار المُعتضدُ سنة ثلاثٍ وثمانين في طلب هارون فانتهى إلى تكريت وبعث الحسين بن حمـدون فـي عسكـر نحو من ثلثمائة فارس واشترط أن جاء به إطلاق ابنه حمدان وسار جمعه وصيف وانتهى إلى بعض مخايِض دجلة فأرصد بها وصيفاً وقال‏:‏ لا تفارقوها حتى تروني‏!‏ ومضى في طلبه فواقعه وهزمه وقتل من أصحابه‏.‏ وأقام وصيف ثلاثة أيام فأبطأ عليه الأمر فسـار فـي اتبـاع ابـن حمـدان وجاء هارون منهزماً إلى تلك والمخاضة فعبر وابن حمدانَ في أثره إلـى حـي مـن أحيـاء العـرب قـد اجتـاز لهـم هارون فدلوا ابن حمدان عليه فلحقه وأسره وجاء به إلـى المعتضـد‏.‏ فرجـع المعتضـد آخـر ربيـع الـأول وخلـع على الحسين وأخوته وطوقه وأدخل هارون على الفيل وهو ينادي‏:‏ لا حكمَ إلا لله ولو كَرِهَ المشركون وكان صُغْديًّا‏.‏ ثم أمر المُعْتَضِدُ بحلّ القُّيود عن حَمْدان بن حَمْدون والإحسان إليه وِبإطلاقه‏.‏

وفي سنة اثنتيـن وثمانين
سار المعتضد من الموصل إلى الجبل فبلغ الكَرْخ فهرب عمرو بن عبد العزيـز بـن أبـي دُلَـف بيـن يديـه فأخـذ أمواله وبعث إليه في طلب جدّ كان عنده فوجهه إليه‏.‏ ثم بعث المُعْتَضِدُ وزيره عُبَـيْدَ اللـه بـن سليمـان إلـى ابنـه بالـري ليسيـر مـن هنالـك إلـى عُمَـرَ بـن عبـد العزيـز بالأمان فسار وأمنه ورجع إلى الطاعة فخلع عليه وعلى أهل بيته وكان أخوه بكر بن عبد العزيـز قـد استأمـن قبـل ذلـك إلـى عُبَـيْد اللّـه بـن سليمـان وبـدر فولـاه عملـه علـى أن يسير إلى حربه‏.‏ فلما وصل عمر في الأمان قال لبكر‏:‏ إِنَّما وليناك وأخوك عاص فامضيا إلـى أميـر المؤمنيـن وسـار عُبَـيْدُ اللّـه بـن سليمـان الوزيـر إلـى علـيّ بـن المعتضد بالري ولما بلغ الخبر إلى المعتضد بعث وصيفـاً مُوسَكيـن إلـى بكـر بـن عبـد العزيـز بالأهـواز فلحقـه بحـدود فـارس‏.‏ فمضـى بكـر إلـى أصبهـان ليلاً ورجع وصيف إلى بغداد وكتب المعتضد إلى بدر مولاه بطلب بكـر بـن عبـد العزيـز وحربه‏.‏ فأمر بذلك عيسى النوشري فقام به ولقي بكراً بنواحي أصْبَهان فهزمه بكر ثم عاد النوشري لقتاله سنة أربع وثمانين فهزمه بنواحي أصبهان واستباح عسكره‏.‏ ولجأ بكر إلى محمد بن زَيْد العَلَوِيّ بطَبَرْسَتَان وهلك بها سنة خمس وثمانين‏.‏ وكان عمَرُ لما مات أبوه قبض على أخيه الحارث ويكنّى أبا ليلى وحبسه في قلعةِ ردّ ووكـل بـه شفيعـاً الخادم‏.‏ فلما جاء المعتضد وأستأمن من عًمَرَ وهرب بكر وبقيت القلعة بيد شفيع بأموالها رغب إليه الحارث في إطلاقه فلم يفعل وكان شفيع يسامره كل ليلة وينصرف فحادثه ليلة ونادمه وقام شفيع لبعض حاجته فجعل الحارث في فراشه تمثالاً وغطَّاه وقال لجاريته قولي لشفيـع إذا عـاد هـو نائـم ومضـى‏.‏ فاختفـى في الدار وفك القيد عن رجله بمبرد ادخل إليه وبرد به مسماره‏.‏ ولما أخبِرَ شفيع بنومه مضى إلى مرقده وقصده أبو ليلى على فراشه فقتله وأمر أهل الدار واجتمِع عليه الناس فاستحلفهم ووعدهم وجمع الأكراد وغيرهم وخرج من القلعة ناقضـاً للطاعـة‏.‏ فسـار إلى عيسى النوشري وحاربه فأصاب أبا ليلى منْهم فمات وحُملَ رأسُهُ خبر ابن الشيخ بآمد

وفي سنة خمـس وثمانيـن
توفـي أحمـد بـن عيسـى بـن الشيـخ وقـام بأمـره فـي آمد وأعمالها ابنه محمد فسـار المعتضـد إليـه فـي العساكـر ومعـه ابنـه أبـو محمد علي المكتفي ومر بالموصل وحاصر المعتمد إلى ربيع الآخر من سنة ست وثمانين ونصب عليها المجانيق حتى استأمن لنفسه ولأهل آمد وخرج إلى المعتمد فخلع عليه وهدم سورها‏.‏ ثمّ بلغه أنه يروم الهرب فقبض عليه وعلى أهله‏.‏

خبر ابن أبي الساج
قـد تقـدم لنـا وِلايـة محمَـد بـن أبـي السـاج علـى أذرَبَيْجَـان ومدافعـة الحسين إياه عن مراغة ثم فتحها واستيلـاؤه علـى أعمـال أذربيجـان‏.‏ وبعـث المعتضـد سنـة اثنتيـن وثمانيـن أخـاه يوسـف بن أبي الساج إلى الصُدرَة مدداً لفتح القلانسيّ غلام الموفق فخرج يوسف فيمن أطاعه فولاه المعتضد على أعماله وبعث إليه بالخِلَع وأعطاه الرهن لما ضمن من الطاعة والمناصحة وبعث بالهدايا‏.‏

القرامِطَة
ابتداء أمر القرامطة بالبحرين والشام كـان فـي سنـة إحـدى وثمانيـن قـد جـاء إلـى القَطيـف بالبَـحْرَيْن رجـل تسمَـى بيحيـى بـن المهـدي وزعـم أنه رسول من المَهدِيّ وأنه قد ترب خروجه وتصد من أهـل القطيـف علـي بـن المُعَلـى بـن حَـمْدان الربادينـي وكـان متغالياً في التشَيع فجمع الشيعة وأقرأهم كتاب المهدِيّ ليشيع الخبر في سائر قرى البَحْرَيْن فأجابوا كلهم وفيهم أبو سعيد الجنابي وكان من عظمائهم‏.‏ ثم غاب عنهم يحيى بن المهديّ مدّةً ورجع بكتاب المهدي يشكرهم على إجابتهم وأمرهم أن يدفعوا ليحيى ستة دنانير وثلاثين عن كل رجل منهم ففعلوا‏.‏ ثم غاب وجاء بكتاب آخر بأن يدفعوا إليه خُـمْسَ أموالهـم فدفعـوا وقـام يتـردد فـي قبائـل قَيْس‏.‏ ثم أظهر أبو سعيد الجنابي الدعوة بالبَحْرَيْن سنة ست وثمانين واجتمع إليه القَرَامِطَة والأعراب وقتل واستباح وسار إلى القطيف طالباً البصرة وبلغت النفقة فيه أربعة عشر ألف دينار‏.‏ ثم قرب أبو سعيد من نواحي البصرة وبعث المعتضد إليهم المدد مع عبًاس بن الغَنَوِيّ وعزله عن فارس وأقطعه اليَمَامَة والبحرين وضمّ إليه ألفين من المُقاتِلَة وسار إلى البصرة وأكثر من الحشـد جنـداً ومُتَطَوعَـة‏.‏ فسـار ولقي أبا سعيد الجنابي ورجع من كان معه من بني ضَبِّةَ إلى البصرة‏.‏ ثم كان اللقاء فهزمه الجنابي وأسره واحتوى على معسكـره وحـرق الأسـرى بالنـار وذلـك فـي شعبان من هذه السنة‏.‏ وسار إلى هجر فملكها وأذن أهلها ورجع إلى أهل البصرة وبعثوا إليهم بالرواحل عليها الطعام والماء فاعترضهم بنو أسد وأخذوا الرواحـل وقتلـوا الفـلَّ واضطربت البصرة وتشوّف أهلها إلى الانتقال فمنعهم الواثقي ثم أطلق الجنابي العباس الغَنَوِيّ فركب إلى الأبُلَّة وسار منها إلى بغداد فخلع عليه المعتضد‏.‏ وأمّا ظهورهم بالشام فإن داعِيَتَهم ذَكْرَوَيْه بن مَهْرَوَيْه الَّذي جاء بكتاب المَهْدِيّ إلى العراق لما رأى الجيوش متتابعةً إلى القَرامِطة بالسواد وأبادهم القتل لحق بأعراب أسَد وطيئ فلم يجبه‏.‏ فبعث أولاده في كلب بن وَبْرَة فلم يجبه منهم إلاّ بنو القَلِيظِيٌ بنْ ضمْضم بن عديّ بن جناب فبايعوا ذكرويه ويسمى بيحيى ويكنى بأبي القاسم ولقبوه الشيخ وأنه من ولد إسماعيل الإمام بـن جعفـر الصـادق وأنـه يحيـى بـن عبـد اللـه بن يحيى بن إسماعيل‏.‏ فزعم أن له مائة ألف تابع وان ناقتـه التـي يركبهـا مأمـورة فمـن تبعهـا كـان منصـوراً‏.‏ فقصدهـم شبـل مولى المعتضدِ في العساكر من ناحية الرصافَةِ فقتلوه‏.‏ فسار إليهم شبل مولى أحمد بن محمد الطائي فأوقع بهم‏.‏ وجاء ببعض رؤسائهم أسيراً فأحضره المعتضد وقال له‏:‏ هل تَزْعُمون أنَّ روح الله وأنبيائه تحل في أجسادكم فتعصمكم من الزلل وتوفِّقكم لصالح العمل‏.‏ فقال له‏:‏ يا هذا أرأيت إن حفت روح إبليس فما ينفعك فاترك ما لا يعنيك إلى ما يعنيك‏.‏ قال له فقل فيما يعنيني فقال له‏:‏ قبـض رسـول اللـه صلـى اللـه عليه وسلم وأبوكم العبَّاس حي فلم يطلب الأمر ولا بايعه‏.‏ ثم مات أبـو بكـر واستخلـف عمـر وهو يرى العباس ولم يعهد إليه عمر ولا جعله من أهل الشورى وكانوا ستة وفيهم الأقرب والأبعد وهذا إجماع منهم على دفع جدك عنها‏.‏ فبماذا تستحقون أنتم الخلافة فأمر به المُعْتَضد فَعُذِّب وخُلِعَتْ عظامه ثم قطِّع مرتين ثم قتل‏.‏ ولمـا أوقـع شبـل بالقرامطـة بسـواد الكوفة ساروا إلى الشام فانتهوا إلى دمشق وعليها طُغْج بن جَف مولى أحمد بـن طولـون مـن قِبَـل ابنـه هـارون فخـرج إليهـم فقاتلهم مراراً هزموه في كلها‏.‏ هذه أخبار بدايتهم‏.‏ ونقبـض العنـان عنهـا إلى أن نذكر سياقتها عندما نعدّ أخبارهم على شريطتنا في هذا الكتاب كما تقدّم‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:52 PM

استيلاء ابن سامان علي خراسان من يد عمرو بن الليث وأسره ثم مقتله
لمـا تغَلّـب عمـرو بن الليث الصفَّار على خراسان من يد رافع بن الليث وقتله وبعث برأسه إلى المُعْتَضد وطلب منه أن يوليه ما وراء النهر مضافاً إلى ولاية خراسان كتب له بذلك فجهز الجيـوش لمحاربـة إسماعيـل بـن أحمـد صاحـب مـا وراء النهر وجعل عليهم محمد بن بشير من أخصّ أصحابه‏.‏ وبعث معه القوَّاد فانتهوا إلى آمد من شط جَيْحون وعبر إليهم إسماعيل فهزمهم وقتـل محمـد بـن بشيـر فـي ستـة آلـاف ولحـق الفَـلّ بعمـرو في نيسابور فتجَهّز وسار إلى بلخ وكتب إليه إسماعيل يستعطافه ويقول‏:‏ أنا في ثغر وأنت في دنيا عريضة فاتركني واستفد ألفتي فأبى‏.‏ وصعب على أصحابه عبور النهر لشدّته فعبر إسماعيل وأخذ الطرق على بلخ وصار عمرو محصـوراً‏.‏ ثـم اقتتلـوا وانهـزم عمـرو وتسـرَّب مـن بعـض المسالـك عـن أصحابـه فوجـد في أجَمَةٍ وأخذ أسيراً‏.‏ وبعـث بـه إسماعيـل إلـى سَمَرْقَـنْد ومـن هنـاك إلـى المعتضـد سنـة ثمـان وثمانيـن فحبسـه إلـى أن مـات المعتضد سنة تسع بعدها فقتله ابنه المُكْتَفِي‏.‏ وعقد لإسماعيل على خراسان كما كانت لعمرو وكان عمرو عظيم السياسة وكان يستكثر من المماليك ويجري عليهم الأرزاق ويفرقهم علـى قـوَّاده ليطالعـوه بأخبارهم‏.‏ وكان شديد الهيبة ولم يكن أحد يتجاسر أن يعاقب غلاماً ولا خادماً إلّا أن يرفعه إلى حُجَّابه‏.‏

استيلاء ابن سامان علي طبرستان من يد العلوي ومقتله
ولمـا بلـغ محمـد بـن زَيْدٍ العَلَوي صاحب طَبَرْسَتَان والديلم ما وقع بعمرو بن الليث وأنه أسر طمع هـو فـي خُراسـان وظـنّ أن ابـن إسماعيل لا يتجاوز عمله فسار إلى جرجان وبعث إليه إسماعيل بالكـف فأبـى فجهَـز لحربه محمد بن هارون وكان من قوًاد رافع بن الليث‏.‏ واستأمن إلى عمرو ثـم إلـى إسماعيـل فنظمـه فـي قـوَّاده وندبـه الـآن لحـرب محمـد بـن زيد فسار لذلك‏.‏ ولقيه على باب خُراسان‏.‏ فاقتتلوا قتالاً شديداً وانهزم محمد بن هارون أولاً وافترقت عساكر محمد بن زيد على النهب ثم رجع هو وأصحابه وانهزم محمد بن زيد وجرح جراحات فاحشة هلك منها لأيـام وأسـر ابنـه زيـد وبعـث بـه إسماعيـل إلـى بخـارى واجتـرأ عليـه وغنـم ابن هارون معسكرهم ثم سار إلى طبرستان فملكها وصار خراسان وطبرستان لبني سامان واتصلت لهم دولة نذكر سياقة أخبارها عند أفراد دولتهم بالذكر كما شرطناه في تأليفنا‏.‏

ولاية علي بن المعتضد علي الجزيرة والثغور
ولما ملك المعتضد آمد من يد ابن الشيخ كما قدَمناه سار إلى الرقة وتسلم قَنِسْرين والعواصم من يد عمال هارون بن خمارَويه لأنه كان كتب إليه أن يقاطعه على الشام ومِصرَ وتسلم إليه أعمال قنسرين ويحمل إليه أربعمائة ألف دينار وخمسين ألفاً‏.‏ فأجابوه وسار من آمد إلى الرقة فأنزل ابنه علياً الذي لقبه بعد ذلك بالمكتفي وعقد له على الجزيرة وقنسرين والعواصم سنة سـت وثمانيـن‏.‏ واستكتـب لـه الحسـن بـن عمـر النصرانـي واستقـدم وهـو بالرقّـة راغبَـاً مولـى الموفـق مـن طرسـوس فقدم عليه وحبسه وحبس ملنون غلامه واستصفى أموالهما‏.‏ ومات راغب لأيام من حبسه وقد كان راغب استبدْ بطرسوس وترك الدعاء لهارون بن خمارويه ودعا لبدر مولى المعتضد‏.‏ ولما جاء أحمد بن طبان للغز سنة ثلاث وثمانين تنازع معه راغب فركب أحمد البحـر فـي رجوعـه ولـم يُعَـرج علـى طرسـوس وتـرك بهـا دميانة غلام بازيار وأمدّه فقوي وأنكر على راغـب أفعاله بحمل دميانة إلى بغداد واستبد راغب وبادر إلى استدعاء المعتضد ونكبه كما قلناه وولى ابن الأخشاء على طرسوس فمات لسنة‏.‏ واستخلف أبا ثابت وخرج سنة سبع وثمانين غازياً فأسر وولى الناس عليهم مكانه علي بن الأعرابـي ولحـق بَمَلطِيَّـة فـي هـذه السنـة وصيـف مولـى محمـد بن أبي الساج صاحب بردعة وكتب إلى المعتمد يسأله ولاية الثغور وقد وطأ صاحبه أن يسير إليه إذا وليها فيقصدان ابن طولون ويملكـان مصـر مـن يـده وظهـر المعتضـد على ذلك فسار لاعتراضه وقدم العساكر بين يديه فأخفوه بعيـن زربـة وجـاؤوا بـه إلـى المعتضـد فحبسـه وأمـن عسكـره ورحل إلى قرب طرسوس واستدعى رؤساءهـا وقبـض عليهـم بمكاتبتهـم وصيفـاً وأمـر بإحـراق مراكب طرسوس بإشارة دميانة واستعمـل علـى أهـل الثغـور الحسـن بـن علـي كـوره وسـار إلـى أنطاكيـة وحلـب ورجـع منهـا إلى بغداد وقتل وصيفاً وصلبه‏.‏ واستقدم المكتفي بعد وفاة المعتضد الحسن بن علي وولى على الثغور مظفر بن حاج‏.‏ ثم شكا أهل الثغر منه فعزله وولى أبا العشائر بن أحمد بن نصر سنة تسعين‏.‏

حرب الأعراب
وفي سنة ست وثمانين اعترضت طيئ ركب الحاج بالأجيعر وقاتلوه ونهبوا أموال التجار ما قيمته ألف ألف دينار ثم اعترضوا الحاج كذلك سنة تسع وثمانين بالقرن فهزمهم الحاج وسلموا‏.‏ تغلب ابن الليث على فارس وإخراج بدر إياه وفي فاتح ثمان وثمانين جاء طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث في العساكر إلى بلاد فارس وأخرج منها عامل المعتضد وهو عيسى النَوْشَرِيّ كان على أصْبَهَـان فولـاه المعتَضِـد فـارس فسـار إليهـا فجـاءه طاهر وملكها‏.‏ وكتب إليه إسماعيل صاحب ما وراء النهر بأن المعتضد ولاه سجستان لذلك وعقد المعتضد لبدر مولاه على فارس وهرب عمال طاهر عنها وملكها بحر وجبى خراجها‏.‏ ثم مات المعتضد وسار مغرباً عن فارس فقتل بواسط وقاطع طاهِرُ بلاد فارس على مال يحمله فقلَّده المُكْتَفي ولايتها سنة تسعين‏.‏ الولايات في النواحي كـان أكثـر النواحـي فـي دولـة المعتضـد مغلبـاً عليهـا كخُراسـان ومـا وراء النهـر لابن شامان والبَحْرَيْن لِلْقَرَامِطَة ومِصْر لابن طولون وإفريقية لابن الأغلَب وقد ذكرنا من وَليَ الموصل‏.‏

وفي سنة خمس وثمانين
ولي المعتضد عليها وعلى الجزيرة والثغور الشامية‏.‏ مولاه‏.‏ ثم ملك آمد مـن يـد ابن الشيْخ وجعلها لابنه علي المُكْتَفي وأنزله الرقَة كما ذكرناه وعقد له على الثغور‏.‏ ثم عقـد بعـده للحسـن بـن علـي كـوره وولـى علـى فـارس بـدراً مولـاه‏.‏ ومات إسحاق بن أيوب بن عمر بـن الخطـاب الثعلبـي العَـدَوي أميـر ديـار ربيعـة فولـى المعتضـد مكانـه عبـد اللـه بـن الهَيْثَـم بـن عبد الله بن المَعْمَر‏.‏

وفي سنة ثمـان وثمانيـن
ظهر باليمن بعض العلويين وتغلب على صنعاء فجمع له بنو يعفر وقاتلوه فهزموه وأسروا ابنه وتجافى نحو خمسين فارساً وملك بنو يعفر صنعاء وخطبوا فيها للمُعْتَضِد وهلـك ابـن أبـي السـاج فـي هـذه السنة فولي أصحابه ابنه ديوداد‏.‏ ونازعه عمه يوسف بن رافع بابن أخيه وهزمه ومضى إلى بغداد علـى طريـق الموصـل واستقـل يوسـف بملـك أذرَبَيْجَـان وعـرض علـى ابـن أخيـه المقـام عنـده فأبـى وقلَـد المعتضـد لأول خلافته ديوان المشرق لمحمد بن داود بن الجرَّاح عوضاً عن أحمد بن محمد بن الفرات وديوان المغرب عليّ بن عيسى بن داود بن الجرّاح ومات وزيره عبيد اللّه بن سليمان بن وَهْب فولى ابنه أبا القاسم مكانه‏.‏ الصّوائِف

وفي سنة خمـس وثمانيـن
غـزا راغـب مولـى المُوَفّـق مـن طَرْسـوس في البحر فغنم مراكب الروم قتل فيهـا نحـواً مـن ثلاثـة آلـاف وأحرقهـا‏.‏ وخـرج الـروم سنـة سبـع وثمانيـن ونازلـوا طرسوس فقاتلهم أميرها واتبعهم إلى نهـر الرحـال فأسـروه‏.‏

وفي سنة ثمـان وثمانيـن
بعـث الحسـن بـن علـي كـوره صاحـب الثغـور بالصائفـة فغـزا وفتـح حصوناً كثيرة وعاد بالأسرى فخرجِ الروم في أثره براً وبحراً إلى كيسوم من نواحي حلب فأسروا نحواً من خمسة عشر ألفاً ورجعوا‏.‏

وفاة المعتضد وبيعة ابنه
كـان بَـدْرٌ مولـى المعتَضِـد عظيـم دولتـه وكـان القاسِـمُ بـن عُبَـيْدِ اللّه الوزير يروم نقل الخلافة في غير بني المعتضد وفاوض في ذلك بدراً أيّام المعتضد فأبى ولم يمكن القاسم مخالفته‏.‏ فلما مات المعتضـد كـان بـدر بفـارس بعثـه إليهـا المعتضـد لمـا بلغـه أن طاهِـرَ بـن محمـد بـن عمـرو بن الليث غلب عليهـا فبعـث بـدراً وولـاّه‏.‏ فلمـا مـات عقـد الوزير البيعة لابنه المُكْتَفي وخشي من بدر فيما اطلع عليـه منـه فأعمـل الحيلـة فـي أمـره‏.‏ وكـان المكتفي أيضاً يحقد لبدر كثيراً من منازعة معه أيام أبيه فـدس الوزيـر إلـى القـوّاد الذيـن مـع بـدر بمفارقتـه ففارقه العباس بن عمر الغَنَوي ومحمد بن إسحاق بـن كنـداج وخاقـان العِلْجِـي وغيرهـم فأحسـن الملتقـى إليهـم وسـار بـدر إلـى واسـط فوكل المكتفـي بـداره وقبـض علـى أصحابـه وأمـر بمحـو اسمـه مـن الفـراش والأعلـام‏.‏ وبعث الحسن بن علي كـوره في جيش إلى واسط وعرض على بدر ما شاء من النواحي فقال‏:‏ لا بدّ لي أن أشافه مولاي بالقول فخوف الوزير المكتفي خائنته ومنعه من ذلك وشعر أن بدراً بعث عن ابنه هلال فوكل به‏.‏ ثم بعث الوزير عن القاضي أبي عُمَر المالِكيّ وحمَله الأمان إلى بدر فجاء بأمانه وبعث الوزير من اعترضه بالطريق فقتله لست خلون من رمضان وحمل أهله شلوه إلى مكة فدفن بها لوصيته بذلك وحزن القاضي أبو عمر لاخفار ذمّته‏.‏

استيلاء محمد بن هارون علي الري ثم أسره وقتله
قد تقدّم لنا ذكر محمد بن هارون وانه كان من قوّاد رافع بن هرثمة ونظمه إسماعيل بن أحمد صاحـب مـا وراء النهـر فـي قـوّاده وبعثـه لحـرب محمـد بـن زيـد فهزمه واستولى على طبرستان وولاه إسماعيل عليها‏.‏ ثم انتقض ودعا بدعوة العلويَّة وبَيض وساعده ابن حسان الديْلَمِيّ‏.‏ وبعث إسماعيل العساكر لقتال ابن حسان فهزموه‏.‏ وكان على الريّ من قبل المُكْتَفي اغرتمش التركي فأساء السيرة فبعث أهل الري إلى محمد بن هارون أن يسيـر إليهـم ويولـوه فسـار وحـارب اغرتمـش فهزمـه وقتلـه وقتـل ابنيه وأخاه كيغلغ من القواد واستولى على الري وبعث المكتفي مولاه خاقان المفلحي لولاية الريّ في جيش كثيف فلم يصلها وبث المكتفي إلى إسماعيل بولايته ومحاربة محمد بن هارون فسار إسماعيل إليه وهزمه فخرج عن الريّ إلى قَزوين وزَنْجان‏.‏ ثم لحـق بطَبَرْسَتـان واستقـرّ مـع ابنـه مستجيـزاً ولمـا ملك إسماعيل الريّ ولّى على جَرْجان مولاه نارس الكبير وألزمه إحضار محمد بن هارون فكاتبه نارس وضمن له صلاح الحال فقبل وانصرف عن الديْلَم إلى بُخارى فبعث إسماعيل من اعترضه وحمل إلى بخارى مقيداً فمات في الحبس بعد شهر وذلك في شعبان سنة تسعين‏.‏

استيلاء المكتفي علي مصر وانقراض دولة ابن طولون
كان محمد بن سليمان من قوّاد بني طولون وكاتب جيشهم واستوحش منهم فلحق بالمعتضد وصرفوه في الخدم وكانت القرامطة عاثوا في بلاد الشام وحاصروا عامل بني طولون بدمشق وهو طغج بن جفّ وقتلوا قوِّاده‏.‏ وسار المكتفي إليهم فنزل الرَقًة وبعث محمد بن سُلَيْمان لحربهم ومعه الحسن بن حَمْدان والعساكر وبنو شيبان فلقيهم قرب حماة فهزمهم واتبعهم إلى الكوفـة‏.‏ وقبـض فـي طريقـه علـى أميرهـم صاحـب الشامـة فبعث به إلى المكتفي فرجع إلى بغداد وخلَّف محمد بـن سُلَيْمَـانَ فـي العساكـر فتبعهـم وأسـر جماعـة منهـم‏.‏ وبينمـا هـو يـروم العـود إلـى بَـغْداد جـاءه كتـاب بَـدْر الحمامِـيّ مولـى هارون بن خَمَارَوَيْه ومحمد فائق صاحب دمشق يستقدمانه إلى البلاد لعجز هارون عنها فأنهى ذلك محمد بن سليمان عند عوده إلى المُكْتَفي فأعاده وأمدهّ بالجنود والأموال وبعث دميانة غلام بازيار في الأسطول ليدخل من فوهة النيل ويحاصر مِصر ولما وصل ودنا من مصر كاتب القواد وخرج إليه رئيسهم بدر الحمامي وتتابع منهم جماعة وبرز هارون لقتاله فحاربه أياماً‏.‏ ثم وقعت بعض الأيام في عسكره هيعة ركب لها ليسكنها فأصابته حربة مات منها واجتمع أصحابـه علـى عمِـه شَيْبـان وبـذل الأمـوال فقاتلـوا معـه‏.‏ ثـم جاءهـم كتاب محمد بن سليمان بالأمان فأجابـوه وخالـف شيبـان إلـى مِصـرَ فاستولـى عليهـا وأستأمـن إليه شيبان سرّاً فأمَّنه ولحق به‏.‏ ثم قبـض علـى بنـي طولون وحبسهم واستصفى أموالهم وذلك في صفر سنة اثنتين وتسعين وأمره المكتفـي بإزالة آل طولون وأشياعهم من مِصر والشام ففعل وسار بهم إلى بغداد وولّى المكتفي على مصر عيسى النوشـري وخـرج عليـه إبراهيـم الخليجـي مـن قـوّاد بنـي طولـون يخلـف عـن محمـد بـن سليمان فخلفه وكثر جمعه وسار النوشري إلى الإسْكَنْدَريِـة عجـزاً عـن مدافعتـه واستولـى الخليجِي على مصر وبعث المكتفي بالجنود مع فاتك مولى المعتضد وأحمد بن كيغلغ وبدر الحمامي من قواد بني طولون فوصلوا سنة ثلاث وتسعين وتقدم أحمد بن كيغلغ وجماعة من القوّاد فلقيهم قرب العريش فهزمهم وقوي الأمر وبلغ الخبر إلى المُكْتَفي فعسكر ظاهر بغداد وانتهى مدة إلى تكريت فلقيه كتاب فاتك في شعبان يذكر أنهم هزموا الخليجي بعد حروب متصلة وغنموا عسكره‏.‏ ثم هرب واختفى بفسطاط مصر وجاء من دلّ عليه فأمر المُكْتَفي بحمله ومن معه إلى بغداد فبعثوا بهم وحُبِسوا‏.‏

دولة بني حَمْدَان ابتداء دولة بني حمدان
وفي سنة اثنتيـن وتسعيـن عقـد المُكْتفـي علـى الموصـل وأعمالهـا لأبـي الهيجـاء عبد اللهّ بن حَمْدان بن حَمْدون العَدْوِيِّ الثعْلَبِيّ فقلمها أول المحرِّم وجاء الصريخ مـن نينـوى بـأن الأكـراد الهَدْبانِيـة ومقدمهم محمد بن سلال قد أغاروا على البلاد وعاثوا فخرج في العساكر وعبر الجسر إلى الجانب الشرقي‏.‏ ولقيهم على الحارد فقاتلهم وقتل من قواد سليمان الحمداني ورجع عنهم وبعـث إلـى الخليفـة يستمده فأبطأ عليه المدد إلى ربيع من سنة أربع فلما جاءه المدد سار إلى الهَدبانِيَّـة وهـم مجتمعـون فـي خمسـة آلـاف بيـت فارتحلـوا أمامـه واعتصمـوا بجبـل السَلَقِ المشرف على الزاب فحاصرهم وعرفوا حقه فخذله أميرهم محمد بن سلال بالمراسلة فيِ الطاعة والرهـن وحـث أصحابـه خلـال ذلك المسير إلى أذرَبَيْجان وأتبعهم أبو الهيجاء فلحقهم صاعداً إلى جبل القِنْديل فنال منهم وامتنعوا بفروته‏.‏ ورجع أبو الهيجاء عنهم فلحقوا بأذْرَبَيْجان ووفد أبو الهَيْجاء على المُكْتَفي فأنجده بالعسكر وعـاد إلـى الموصـل‏.‏ ثـم سـار إلـى الأكراد بجبل السلف فدخله وحاصرهم بقنته وطال حصارهم واشتد البرد وعدمت الأقوات وطلب محمد بن سلال النجاة بأهله وولده فنجا واستولى ابن حمدان على أموالهم وأهليهم وأمنهم‏.‏ ثم استأمن محمد بن سلال فأمنه وحضر عنده وأقام بالموصل وتتابع الأكراد الحميديًة مستأمنين واستقام أمر أبي الهيجاء بالموصل‏.‏ ثمِ انتقض سنة إحدى وثلثمائة فبعث إليه المقتدر مؤنساً الخادم فجاء بنفسه مستأمناً ورجع به إلى بغداد فقبلـه المقتـدر وأكرمـه‏.‏ وبقـي ببغـداد إلـى أن انتقض أخوه الحسَيْن بديار ربيعة سنة ثلاث وثلثمائة وسـارت العساكـر فجـاؤوا بـه أسيراً‏.‏ فحبس المقتدر عند ذلك أبا الهيجاء وأولاده وجمع أخوته بداره ثم أطلقهم سنة وثلثمائة‏.‏

أخبار ابن الليث بفارس
قـد تقـم لنـا استقلـال طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث ببلاد فارس وأن المكتفي عقد له عليها سنـة تسعيـن ثـم إنـه تشاغـل باللهـو والصيد وأعرض عن أمور ملكه‏.‏ ومضى في بعض الأيام إلى سِجِسْتَانَ فوثب على فـارِس الليـث بـن علـي بـن الليـث وسيكـرى مولـى عمـرو بـن الليـث فاستوحش منهما أحد قوادهما يعرف بأبي قابوس وفارقهما إلى بغداد‏.‏ المُكْتَفي إليه‏.‏ ثم كتـب إليـه طاهـر فـي ردّ أبـي قابـوس إليـه ويحتسـب لـه مـا معـه مـن أمـوال الجباية فأعرض الخليفة عن ذلك‏.‏ الصوائف

وفي سنة إحـدى وتسعيـن
خـرج الـروم إلـى الثغـور في مائة ألف وقصد جماعة منهم الحدث‏.‏ ثم غزا بالصائفة من طرسوس القائد المعروف غلام زرافة ففتح مدينة أنطاكية وفتحها عنوة فقتل خمسة آلاف من مُقَاتِلَتِهِم وأسر مثلها‏.‏ واستنقذ من أسرى المسلمين مثلها وغنم ستين مـن مراكب الروم بما فيها من المال والمتاع والرقيق فقسمها مع غنائم أنطاكية فكـان السهـم ألـف دينار

وفي سنة اثنتين وتسعين
أغار الروم على مرعش ونواحيها فخرج أهل المصيصة وأهل طرسوس فأصيب منهم جماعة فعزل المكتفي أبا العشائر على الثغور وولى رستم بن بُرْد فكان على يديه الفداء وفودي ألف من المسلمين‏.‏ ثم أغارت الروم سنة ثلاث وتسعين على موارس من أعمال حلب وقاتلهم أهلها فانهزموا وقتل منهم خلق ودخلها الروم فأحرقوا جامعها وأخذوا من بقي فيها‏.‏

وفي سنة أربع وتسعين
غزا ابن كيغلغ من طرسوس فأصاب من الروم أربعة آلـاف سبيَـاً واستأمن بطريق من الروم فأسلم‏.‏ ثم عاود ابن كيغلغ الغزو وبلغ سَكَنْد وافتتحها وسار إلى الليس فبلغ خمسين ألف رأس وقتل من الروم خلقاً ثم استأمن البطريق المتولي الثغور من جهة الـروم إلـى المكتفي وخرج بمائتي أسير من المسلمين‏.‏ وكان ملك الروم قد شعر بأمره وبعث من يقبـض عليـه فقتـل الأسـرى المسلمـون من جاء للقبض عليه وغنموا عسكرهم‏.‏ واجتمع الروم على محاربة البطريق انذوقس وزحف المسلمون لخلاصه وخلاص من معه من الأسرى فبلغوا قونية وخربوهـا وانصـرف الـروم ومرَّ المسلمون في طريقهم بحصن أندوس فخرج معهم بأهله وسار إلى بغـداد‏.‏

وفي سنة إحـدى وتسعيـن
خـرِج التـرك إلـى مـا وراء النهـر فـي خلق لا يحصون فبعث إليهم إسماعيـل عسكـراً عظيمـاً مـن الجنـد والمتطوِّعـة فكبسوهـم واستباحوهـم‏.‏

وفي سنة ثلاث وتسعين
افتتح إسماعيل مدائن كثيرة من بلاد الترك والديلم‏.‏ الولايات بالنواحي قد ذكرنا ولايات خاقان المفلحي على الريّ ثم إسماعيل بن أحمد بـن سامـان بعـده وولايـة عيسـى النَوْشـرِيّ علـى مصـرَ بعـد انتزاعهـا مـن بنـي طولون وولاية أبي العشائر أحمد بن نصر على طرسوس وعزل مُظَفَّر بن حاج عنها سنة تسعين ثم عزل أبي العشائر وولاية رستم بن برد سنـة اثنتيـن وتسعيـن‏.‏ وانتـزاع الليث بن علي بن الليث بلاد فارس من يد طاهر بن محمد سنة ثلـاث وتسعيـن بعـد أن كان المُكْتفي عقد له عليها سنة تسعين وولاية أبي الهَيجاء عبد الله بن حمـدان علـى الموصـل سنـة ثلـاث وتسعيـن‏.‏ وفـي هـذه السنـة ثـار داعيَـةُ القَرامطَـة باليمن إلى صنعاء فملكهـا واستباحهـا وتغلَـب علـى كثيـر مـن مدن اليمن‏.‏ وبعث المُكْتَفي المُظَفَّر بن الحاج في شوّال مـن هـذه السنـة إلـى عملـه باليمـن فأقـام بـه‏.‏

وفي سنة إحدى وتسعين
توفي الوزير أبو القاسم بن عبيد الله واستوزر مكانه العباس بن الحسن‏.‏ وفاة المكتفي وبيعة المقتدر ثـم توفـي المكتفـي باللهّ أبو محمد علي بن المعتضد في شهر جمادى سنة خمس وتسعين لست سنيـن ونصـف مـن ولايتـه ودفـن بـدار محمـد بـن طاهر بعد أن عهد بالأمر إلى أخيه جعفر‏.‏ وكان الوزيـر العبـاس بـن الحسـن قـد استشـار أصحابه فيمن يوليه فأشار محمد بن داود بن الجرَّاح بعبد اللّـه بـن المُعْتَزَّ ووصفه بالعقل والرأي والأدب وأبو الحُسَيْن بن محمد بن الفُرات بجعفر بن المُعْتَضِد بعـد أن أطـال فـي مفاوضتـه وقـال له‏:‏ اتق اللّه ولا تولّ إِلَّا من خبرته ولا توَلّ البخيل فيضيِّق على الناس في الأرزاق ولا الطمَاع فيشره إلى أموال الناس ولا المُتَهاون بالدين فلا يجتنب المآثم ولا يطلب الثواب‏.‏ ولا تُوَلِ من خبر الناس وعاملِهم واطلع على أحوالهم فيستكثـر علـى النـاس نِعمهُم وأصلح الموجودين مع ذلك جَعْفرُ بن المعتضد‏.‏ قال ويحك وهو صبي فقال وما حاجتنا بمـن لا يحتـاج إلينـا ويستبد علينا‏!‏ ثم استشار علي بن عيسى فقال اتق الله وانظر من يصلح‏.‏ فمالت نفس الوزير إلى جعفر كما أشار ابن الفرات وكما أوصى أخوه فبعث صائفاً الخدمي فأتى به من داره بالجانب الغربي ثم خشي عليه غائلة الوزير فتركه في الحراقة وجاء إلى دار الخلافة فأخذ له البيعة على الحاشية‏.‏ ثم جاء الحراقة وأقعده على الأريكة‏.‏ وجاء الوزير والقُـواد فبايعـوه ولقـب المُقْتَدر بالله وأطلق يد الوزير في المال وكان خمسة عشر ألف ألف دينار فأخرج منه حق البيعة واستقام الأمر‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:52 PM

خلع المقتدر بابن المعتز وإعادته
ولمـا بويع المقتدر وكان عمره ثلاث عشرة سنة استصغره الناس واجمع الوزير خلعه والبيعة لأبي عبد الله محمد بن المُعْتَزّ وراسله في ذلك فأجاب وانتظر قدوم نارس حاجب إسماعيل بن سامان كان قد انتقض إلى مولاه وسار عنه فاستأذن في القدوم إلى بغداد وأذن له‏.‏ وقصد الاستعانـة بـه علـى موالـي المعتضـد‏.‏ وأبطـأ نـارس عليه وهلك أبو عبد الله بن المقتدر خلال ذلك فصـرف الوزيـر وجهه لأبي الحسين بن الموكل فمات فأقرّ المقتدر ثم بدا له وأجمع عزله واجتمع لذلك مع القواد والقضاة والكتّاب فراسلوا عبد الله بن المُعْتَز فأجابهم على أن لا يكون قتال‏.‏ فأخبروه باتفاقهم وأن لا منازع لهم‏.‏ وكان المتولون لذلك الوزير العباس بن الحُسَيْن ومحمد بن داود بن الجرّاح وأبا المثنى أحمد بن يعقـوب القاضـي ومـن القـواد الحسيـن بـن حَـمْدان وبحـر الأعْجَمِي ووصيف بن صوارتكين‏.‏ ثـم رأى الوزيـر أمـره صالحـاً مـع المقتـدر فبدا له في ذلك فأجمع الآخرون أمرهم واعترضه الحسين بـن حمـدان وبـدر الأعجمـي ووصيـف فـي طريـق لستانـة فقتلـوه لعشـر بقيـن مـن ربيـع الـأول سنـة سـت وتسعين وخلعوا المقتدر من الغد وبايعوا لابن المعتز‏.‏ وكان المقتدر في الحلبة يلعب الأكْرَةَ فلما بلغه قتل الوزير دخل الدار وأغلق الأبواب وجاء الحسين بن حمدان إلى الحلبة ليفتك به فلم يجده فقدم وأحضروا ابن المعتزّ فبايعـوه وحضـر النـاس والقُـوّاد وأربـاب الدواويـن سـوى أبـي الحسن بن الفرات وخواص المقتدر فلم يحضروا‏.‏ ولُقِبَ ابنُ المُعْتَزِّ المُرْتَضَى بالله واستـوزر محمـد بـن داود بـن الجَـراح وقَلـدَ علـي بـن موسـى الدواوين وبعث إلى المُقْتَدر بالخروج من دار الخلافة فطلب الإمهال إلى الليـل‏.‏ وفـال مؤنـس الخادم ومؤنس الخازن وعربت الحال وسائر الحاشية لا بد أن يبدي عذراً فيما أصابنا‏.‏ وباكر الحُسَيْنُ بن حَمْدان من الغَدِ دار الخلاقة فقاتله الغلمان والخدم من وراء السور وانصرف‏.‏ فلما جاء الليل سار إلى الموصل بأهله وأجمع رأي أصحاب المُقْتَدِرِ على قصد ابن المعتز في داره فتسلَّحـوا وركبوا في دجلة فلما رآهم أصحاب ابن المعتز اضطربوا وهربوا واتهموا الحسين بن حمدان أنه قد واطأ المقتدر عليهم وركب ابن المعتز وزيره محمد بن داود بن الجَرَّاح وخرجوا إلى الصحراء ظناً منهم أن الجند الذين بايعوهم يخرجون معهم وانهم يلحقون بسامرا فيمتنعون فلمـا تفـردوا بالصحـراء رجعـوا إلـى البلد وتسربوا في الدصر واختفى ابن الجرَاح في داره ودخل ابن المعتز ومولاه دار أبي عبد الله بن الجصَّاص مستجيراً به‏.‏ وثار العيارون والسُفْلُ ينتهبون‏.‏ وفشا القتل وركب ابن عَمْرَوَيْه صاحب الشرطة وكان ممـن بايع ابن المُعْتَز فنادى بثأر المقتدر مغالطاً فقاتله فهرب واستتر وأمر المقتدر مؤنساً الخـازن فزحـف فـي العسكـر وقبـض علـى وصيـف بـن صوارتكيـن فقتلـه وقبـض علـى أبـي القاضـي أبـي عمـر علـي بـن عيسـى والقاضـي محمـد بـن خَلَـف‏.‏ ثـم أطلقهـم وقبـض على القاضي أبي المُثنى أحمد بن يعقـوب قـال لـه بايع المقتدر‏!‏ قال هو صبيّ فقتله وبعث المقتدر إِلى أبي الحسن بن الفرات كان مختفياً فأحضره واستوزره‏.‏ وجاء سَوْسَنُ خادم ابن الجصاص فأخبر صافيـاً الخُرمـي مولـى المقتدر بمكانه عندهم فكبست الدار وأخذ ابن المعتز وحبس إلى الليل ثم خصيت خصيتاه فمات وسُلِم إلى أهله وأخذ ابن الجصاص وصودر على مال كثير وأخذ محمد بن داود وزير ابن المُعْتز وكان مستتراً فقتل‏.‏ ونفـي علـي بـن عيسى بن عليّ إلى واسط واستأذن من ابن الفرات في المسير إلى مكة فسار إِليها على طريق البصرة وأقام بها وصودر القاضي أبو عمر على مائة ألف دينار وسارت العساكـر فـي طلـب الحُسَـيْن بـن حَـمْدان إلـى الموصـل فلـم يظفـروا به وشفع وزير ابن الفرات في ابن عمرويـه صاحـب الشرطـة وإبراهيـم بـن كيغلـغ وغيرهم‏.‏ وبسط ابن الفرات الإحسان وأدر الأرزاق للعباسيين والطالبيين وأرضى القواد بالأموال ففرق معظم ما كان في بيت المال وبعث المقتدر القاسم بن سيما وجماعة من القواد في طلب الحسين بن حمدان فبلغوا قَرْقيسيا والرَحْبَةِ ولم يظفـروا بـه وكتب المقتدر إلى أخيه أبي الهيجاء وهو عامل الموصل بطلبه فسار مع القاسم بن سيما والقواد ولقوه عند تكريت فهزموه وبعث مع أخيه إبراهيم يستامن فأمنوه وجاؤوا به إلى بغـداد فخلـع عليـه المقتـدر وعقـد لـه علـى قـم وقاشان وعزل عنها العباس بن عمر الغَنَوِفي فسار إليها الحسين ووصل نارس مولى إسماعيل بن سامان فقلده المقتدر ديار ربيعة‏.‏ نسبة هؤلاء العُبَيْدِين إلى أول خُلفائهم وهو عُبَيْدُ الله المهدي بن محمد بن جعفر المُصَدق ابن محمد المكتوم ابن إسماعيل الإمام ابن جعفر الصادق ولا يلتفت لإنكار هذا النسب فكتـاب المعتضـد إلـى ابـن الأغلـب بالقَـيْرَوَان وابن مدرار يغريهم بالقبض عليه لما سار إلى المغرب شاهد بصحًة نسبهم وشعر الشريف الرضي‏:‏ ألبـس الـذُلَّ فـي بلـاد الأعـادي وَبِمِصْرَ الخَليفَـةُ العَلَـوِيُ مَنْ أبوهُ أبي وَمَوْلاه مَـوْلا ي إِذَا ضَامَني البَعِيـدُ القصـي لـفً عِرقـي بِعِرْقِه سَيِّدُ النَّا س جَمِيعاً محمَّدٌ وَعَلي وأمّا المحضر الذي ثبت ببغداد أيام القـادر بالقـدح فـي نسبهـم وشـد فيـه أعلـام الأئمـة مثـل القُدوري والصهَيْريّ وأبي العباس الأبيوردي وأبي حامد الأسفَراينيّ وأبي الفَضْل النسَوِيٌ وأبي جعفـر النًسْفـيّ ومن العَلَوِّيَةِ المُرْتَضى وابن البَطْخاوي وابن الأزرق زعيم الشيعة أبو عبد اللّه بن النعْمـان فهـي شهادة على السماع‏.‏ وكان ذلك متَصلاً في دولة العباسِيِّةِ منذ مائتين من السنين فاشيـاً فـي أمصارهـم وأعصارهـم‏.‏ والشهـادة علـى السمـاع فـيِ مثلـه جائـزة علـى أنَّها شهادة نفي ولا تُعارضُ ما ثبت في كتاب المُعتَضِد مع أن طبيعة الوجود في الانقياد لهم وظهور كلمتهم أدل شيء على صدق نسبهم‏.‏ وأمّا من جعل نسبهم في اليَهودية أو النصْرَانِية كميمون القَدّاح وغيره فكفاه إِثماً تَعَرُّضُه لذلك‏.‏ وأما دعوتهم التي كانوا يدعون لها فقد تقدم ذكرها في مذاهب الشيعة من مقدمة الكتاب‏.‏ وانقسمـت مذاهـب الشيعة مع اتفاقهم على تفضيّل عليّ على جميع الصحابة إلى الزَيْديةِ القائلين بِصِحةِ إمامَةِ الشَيْخَيْنِ مـع فضـل علـيّ ويجـوِّزون إمامـة المفضـول وهـو مذهـب زيـد الشهيـد وأتباعـه والرافضـة ويدعـون بالإماميـة المتبرئين من الشيْخَيْن بإهمالهما وصيَّة النبي صلى الله عليه وسلـم بخلافـة علـيّ‏.‏ مـع أنّ هـذه الوصيَّـة لـم تنقـل مـن طريـق صحيـح قـال بهـا أحـد من السلف الذين يقتدي بهم وإنما هي من أوضاع الرافِضَةِ‏.‏ وانقسم الرافِضَـة بعـد ذلـك إلـى اثنـي عَشَرِيـة نقلـوا الخلافـة مـن جعفـر بعـد الحسـن والحسيـن وعلـي زيـن العابديـن ومحمـد الباقـر وجعفـر الصـادق إلـى ابنـه موسـى الكاظـم وولـده علـى سلسلـة واحدة إلى تمام الاثني عشر وهو محمد المهدي وزعموا أنه دخل سردا‏.‏ وهم في انتظاره إلى الآن‏.‏ وإلى الإِسماعيلية نقلوا الخلافة من جَعْفر الصادق إلى ابنه إسماعيل ثم ساقوها في عقبه فمنهم من انتهـى بهـا إلـى عبيـد اللـه هـذا المهـدي وهـم العُبَيْدِيُّـون ومنهـم مـن ساقها إلى يحيى بن عبيد اللّه بن محمد المكتوم‏.‏ وهؤلاء طائفة من القرامِطَة وهي من كذباتهم ولا يعرف لمحمد بن إسماعيل ولد اسمـه عبيد اللّه‏.‏ وكان شيعة هؤلاء العُبَيْدِيين بالمشرق واليمن وإفريقية‏.‏ وسار بها إلى إفريقية رجلان يعرف أحدهما بالحُلْوَانِي والآخر بالسفيَاني أنفذهما الشيعة إلى هنالك وقالوا لهما إن العرب أرض بور فاذهبا واحرثاها في يحيا صاحب البذر وسارا لذلك ونـزلا أرض كتامـة أحدهما ببلد يسمى سوق حمار‏.‏ وفشـت هـذه الدعـوة منهمـا فـي أهـل تلـك النواحـي من البربر وخصوصاً في كتَامة‏.‏ وكانوا يزعمون أن النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم أوصى إلى عليّ بالخلافة بالنصوص الجليُّةِ وعدل عنها الصحابة إلـى غيره فوجب البراءة ممن عدل عنها‏.‏ ثم أوصى علي إلى ابنه الحسن ثم الحسن إلى أخيه الحسيـن ثـم الحسيـن إلى ابنه عليّ زَيْنِ العابدين ثم زين العابدين إلى محمد الباقر ثم محمد الباقر إلـى ابنـه جعفـر الصـادق ثم جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل الإمام ومنه إلى ابنه محمد ويسمونه المكتوم لأنهم كانوا يكتمون اسمه حذراً عليه ثم أوصى محمد المكتوم إلى ابنه جعفر المصدق وجعفـر المصـدق إلـى ابنـه محمـد الحبيـب ومحمـد الحبيـب إلـى ابنـه عُبَـيْدِ اللّـه المهـديّ الني دعا له أبو عبد الله الشيعي وكانت شيعهم منتشرين في الأرض من اليمن إلى الحجاز والبَحْرَيْن والطرق وخراسان والكوفة والبصرة والطالقان‏.‏ وكان محمد الحبيب ينزل سَلَمْيَةَ من أرض حمص وكان عادتهم في كل ناحية يدعون للرضا من آل محمد ويرومون إظهار الدعوة بحسب ما عليهم‏.‏ وكان الشيعة من النواحي يعلمون مكيهم فىِ أكبر الأوقات لزيارة قبر الحسين ثم يعرجون على سلميـة لزيـارة الأئمـة مـن ولـد إسماعيـل - وكان باليمن - من شيعتهم - ثم بعده لأئمة قوم يعرفون ببنـي موسـى ورجـل آخـر يعـرف بمحمـد بـن الفضل أصله من جَند‏.‏ وجاء محمد إلى زيارة الإمام محمد الحبيب فبعث معه أصحابه رستم بن الحسين بن حوشب بن داود النجار وهو كوفي الأصل وأمره بإقامة الدعوة وأن المهدي خارج في هذا الوقت فسار إلى اليمن ونزل على بني موسى وأظهر الدعوة هنالك للمهدي من آل محمد الذي ينعتونه بالنعوت المعروفة عندهم فاتبعه واستولى على كثير من نواحي اليمن‏.‏ وكان أبو عبد اللّه الحسن بن أحمد بن محمد بن زَكَريا المعـروف بالمُحْتَسِـب وكـان محتسبـاً بالبصرة‏.‏ وقيل إنما المحتسب أخوه أبو العباس المخطوم وأبو عبد الله يعرف بالعلم لأنه كان يعرف مذهب الإمامية الباطنية قَد اتصل بالإمام محمد الحبيب وخبر أهليته فأرسله إلى أبي حوشـب‏!‏ لـزم مجالستـه وأفـاد علمـه‏.‏ ثـم بعثه مع الحاج اليمني إلى مكة وبعث معه عبد الله بن أبي ملا فأتى الموسم ولقي به رجالات كتامة مثل حريث الحميلي وموسى بن مكاد فاختلط بهـم وعكفـوا عليـه لمـا رأوا عنـده مـن العبـادة والزهـد ووجـه إليهـم بـدراً مـن ذلـك المذهـب فاغتبـط واغتبطـوا وارتحـل معهـم إلـى بلدهـم ونـزل بهـا منتصف ربيع سنة ثمان وثلاثين وعين لهم مكان منزله بفتح الأحار وأن النص عنده من المهدي بذلك ولجهره بالمهدي وأن أنصاره الأخيار من أهل زمانه وان اسم أنصاره مشتق من الكتمان ولم يعينه واجتمع لمناظرته كثير من أهل كتامة فأبى ثم أطاعوه بعد فِتَنٍ وحروب‏.‏ واجتمعوا على دعوته وكانوا يسمونه أبا عبد الله المشرفـي والشيعـي‏.‏ ولمـا اختلـف كتامـة عليـه واجتمـع كثير منهم على قتله قام بنصرته الحسن بن هـارون وسـار بـه إلـى جبـل ايكجان وأنزله مدينة تاصروت من بلد زرارَة وقاتل من لم يتبعه بمن تبعـه حتـى استقامـوا جميعاً على طاعته‏.‏ وبلغ خبره إبراهيم بن أحمد بن الأغلب عامل إفريقية بالقيروان فأرسل إلى عامل ميلة يسأله عن أمره فحقره وذكر أنه رجل يلبـس الخشـن ويأمـر بالعبـادة والخيـر فأعـرض عنـه حتـى إذا اجتمـع لأبـي عبـد الله أمره زحف في قبائل كتامة إلى بلد ميلة فملكها على الأمان بعد الحصار فبعث إبراهيم بن أحمد بن الأغلب ابنه الأحول في عسكرهم يجاوز عشرين ألفاً فهزم كتامة وامتنع أبو عبد الله بجبل ايكجان وأحرق الأحـول مدينة تاصروت ومدينة ميلة وعاد إلى إفريقية وبنى أبو عبد الله بجبل ايكجان مدينة سماها دار الهجـرة‏.‏ ثـم توفي إبراهيم ابن الأغلب صاحب إفريقية وولى ابنه أبو العباس وقتل واستقرّ الأمر لزيادة الله وكان الأحول حمل العساكر لحضوره فاستقدمه زيادة الله وقتله‏.‏ وفاة الحبيب وإيصاؤه لابنه عبيد الله ولما توفي محمد الحبيب وأوصى لابنه عبيد الله وقال له أنت المهدي وتهاجر بعدي هجرةً بعيدة وترى مِحَناً شديدةً‏.‏ فقام عُبَيْدُ الله بالأمر وانتشرت دعوته‏.‏ وأرسل إليه أبو عبد الله الشيعي رجالاً من كتامة يخبرونه بما فتح الله عليهم وأنهم في انتظاره‏.‏ وشاع خبره وطلبه المكتفـي فهرب هو وولده نزار الذي ولي بعده وتلقب بالقائم‏.‏ وخرج معه خاصته ومواليه يريد المغـرب‏.‏ وانتهـى إلـى مِـصْرَ وعليهـا يومئـذ عيسـى النَوْشَـرِي فلبـس عُبَـيْد اللـه زي التجار يتستر به‏.‏ وجـاء كتـاب المكتفـي للنوشري بالقبض عليه وفيه صفته وحليته فبعث العيون في طلبه‏.‏ ونمي الخبر بذلك إلى عبيد الله من بعض خواص النوشري فخرج في رفقة ورآه النوشري وأحضره ودعاه للمؤاكلة فاعتذر بالصوم‏.‏ ثم امتحنه فلم تشهد له أحواله بشيء مما ذكر له عنه‏.‏ وقارن ذلك رجوع ابنه أبي القاسم يسأل عن كلب للصيد ضاع له فلما رآه النوشري وأخبر أنـه ولـد عبـد اللـه علـم أنَّ هـذه الدالـة في طلب الضائع منافية للرقْبَةِ والخوف فخلى سبيله وجد المهدي في السير وكان له كتب من الملاحم ورثها منقولة عن أبيه سرقت من رحله في تلك الطريـق‏.‏ ويقـال‏:‏ إن ابنـه أبـا القاسـم لمـا زحف إلى مصر أخذها من بلاد برقة‏.‏ ولما انتهى المهدي وابنه إلى طرابلـس وفارقـه التجـار أهـل الرفقـة قـدم أبـا العبـاس أخـا أبـي عبيـد اللـه الشيعـي إلـى أخيـه بكتامة ومر بالقيروان وقد سبق خبرهم إلى زيادة الله وهو يسأل عنهـم فقبـض علـى أبـي العبـاس وسألـه فأنكـر فحبسـه وكتـب إلـى طرابلـس بالقبـض علـى المهدي ففاته وسار إلى قسَنْطِينَةَ فعـدل عنهـا خشيـة علـى أبـي العباس أخي الشيعيّ المعتقل بالقيروان وذهب إلى سجلماسة وبها إليشع بن مدرار فأكرمه‏.‏ ثـم جـاءه كتـاب زيـادة اللـه ويقال كتاب المكتفي بأنه المهدي الذي داعيه في كتامة فحبسه وبعث زيـادة اللـه العساكـر إلـى كتامـة مع قريبه إبراهيم بن حيش وكانوا أربعين ألفاً فانتهى إلى قسَنْطِينَةَ فأقـام بهـا وهـم متحصِّنـون بخيلهم ستة أشهر‏.‏ ثم زحف إليهم ودافعهم عند مدينة بلزمة فانهزم إلـى القيـروان‏.‏ وكتـب أبـو عبـد اللـه بالفتـح إلـى المهـدي وهـو فـي محبسـه‏.‏ ثـم زحـف إلـى مدينـة طبنـة فحاصرهـا وملكهـا بالأمـان ثـم إلـى مدينة بلزمة عنوَةً فبعث زيادة الله العساكر مع هارون الطبني فانتهوا إلى مدينة دار ملوك وكانوا قد أطاعوا الشيعي فهدمها هارون وقتل أهلها وسار إلى الشيعي فانهزم من غير قتال وقتل‏.‏ وفتـح الشيعـي مدينـة عيسـى فزحـف - زيـادة اللـه في العساكر سنة خمس وتسعين ونزل الأربس ثـم أشـار عليـه أصحابـه بالرجـوع إلـى القيـروان ليكـون ردءاً للعساكـر‏.‏ فبعـث الجيـوش مـع إبراهيم بن أبي الأغلب من قرابته‏.‏ ورجع وزحف أبو عبد الله إلى باغاية فهرب عاملها وملكها ثم إلى مدينة مرماجنة فافتتحها عنوة وقتل عاملها ثم إلى مدينة تيفاش فملكها على الأمان واستأمن إليه القبائل من كل جهة فأمنهم وسار بنفسه إلى مسلبابة ثم إلى تبسة ثم إلى مجانة ففتحها على الأمان‏.‏ ثم سار إلى القصرين من قمودة وأمن أهلها وسار يريد رقادة‏.‏ وبلغ الخبر إلى إبراهيم بن أبي الأغلب وهو بالأربس أميراً على الجيش فخشي على زيادة الله برقادة لقلة عسكـره وارتحـل ذاهبـاً إليـه‏.‏ وسـار أبـو عبـد اللـه إلـى قسنطينـة فحاصرهـا وافتتحها على الأمان‏.‏ ورجـع إلـى باغايـة فأنـزل بهـا عسكـراً‏.‏ وعـاد إلـى أيكجـان فسـار إبراهيـم بـن أبـي الأغلـب إلى باغاية وحاصـر أصحـاب أبـي عبـد اللـه بهـا‏.‏ فبعـث أبـو عبـد اللـه عساكـره إلـى مـرج العرعـار فألفوا إبراهيم قد عاد عنهـا إلـى الأربـس‏.‏ ثـم زحـف أبـو عبـد اللـه إلـى إبراهيـم سنـة سـت وتسعيـن فـي مائـة ألـف مقاتل‏.‏ وبعث من عسكره من يأتي إبراهيم من خلفه وسار إليه فانهزم وأثخن فيهم أبو عبد الله بالقتل والأسر وغنم أموالهم وخيلهم وظهرهم‏.‏ ودخل الأريس فاستباحها ثم سار فنزل قمودة وبلغ الخبر إلى زيادة الله فهرب إلى مصر‏.‏ وافتـرق أهـل مدينـة رقـادة إلـى القيـروان وسوسـة ونهـب قصـور بنـي الأغلـب ووصل إبراهيم بن أبي الأغلـب إلـى القيـروان فنزل قصر الإمارة وجمع الناس ووعدهم الحماية وطلب المساعدة بطاعتهم وأموالهم فاعتذروا وخرجوا إلى الناس فأخبروهم فثاروا به وأخرجـوه‏.‏ وبلـغ أبـا عبـد اللـه الشيعـي هـربُ زيـادة اللـه وهـو يشبـه فدخـل إلـى رقـادة وقـدم بيـن يديـه عروبـة بـن يوسف وحسن بن أبي خنزير فساروا وأمنوا الناس‏.‏ وخرج أهل القيروان للقاء أبي عبد اللّه فأكرمهـم وأمنهـم ودخل رقادة في رجب سنة ست وتسعين ونزل قصورها وفرّق دورها على كتامة وناس بالأمان‏.‏ وتراجع الناس فأخرج العمال وطلب أهل الشر فهربوا وجمع أموال زيادة اللّه وسلاحه وأمر بحفظها وبحفظ جواريه واستأذنه الخطباء لمن يخطبون فلم يعين لهم أحد ونقـش علـى السِكَّة من أحد الوجهين بلغت حجة اللّه ومن الآخر تفرق أعداء الله وعلى السلاح عدّة في سبيل الله ووسم أفخاذ الخيل بالملك لله‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:54 PM

بيعة المهدي بسجلماسة
ولما ملك أبو عبد اللّه إفريقية لقيه أخوه أبو العباس منطلقاً من اعتقاله فاستخلفه عليها وترك معـه أبـا زاكـي تمـام بـن معـارك مـن قوّاد كَتامة‏.‏ وسار إلى المغرب ففرق القبائل من طريقه وخافته زَناتـة فدخلـوا فـي طاعتـه‏.‏ ولمـا قـرب مـن سجلماسـة إلـى المهـدي بمحبسـه يسألـه عـن خالـه فأنكـر ثم سأل ولده كذلك فأنكر وضرب رجاله فأنكروا ونمي الخبر إلى أبي عبد اللهّ فخشي عليهم وأرسـل إلـى اليسـع يتلطفـه فقتـل الرسل فأغذ آبو عبد الله السير وحاصره يوماً وهرب أليسع من الليل هو وأصحابه وبنو عمه‏.‏ وخرج أهل البلد إلى أبي عبد اللهّ فجاء إلى مجلس المهدي فأخرجه هو وابنه أبا القاسم واركبهما ومشى مع رؤساء القبائل بين يديهما وهو يقول‏:‏ هذا مولاكم ويبكي من شدة الفرح ثمِ أنزله بالمُخَيم وبعث في أثر اليسع فجيء به فجلد ثم قتل وأقام بسجلماسة أربعين يوماً ورجع إلى إفريقية ووصل إلى رقادة في ربيع من سنة ست وتسعيـن وجـدّد البيعـة للمهـدي واستولـى علـى ملـك بنـي الأغلـب بإفريقيـة‏.‏ وملـك مدرار سجلماسة ونزل برقادة وتلقب بالمهدي أمير المؤمنين‏.‏ وبعث دعاته في الناس فحملوهم على مذهبهم فأجابوا إلا قليلاً عـرض عليهـم السيـف وقسـم الأمـوال والجـواري فـي رجـال كتامـة وأقطعهم الأموال والأعمال ودوّن الدواوين وجبى الأموال وبعث العمال على البلاد‏.‏ فبعث على صقيلية الحسن بن أحمـد بـن أبـي خنزيـر فوصـل إلـى مـازر فـي عيـد الأضحـى مـن سنـة تسـع وتسعيـن فاستقضى بها إسحاق بن المنهال وأجاز البحر سنة ثمان وتسعين إلى بسط قلورية فأثخن فيهـا وعـاد وثـار به أهل صقلية سنة تسع وتسعين فحبسوه واعتذروا إلى المهدي لسوء سيرته فعذرهم وولى عليهم علي بن عمر البلوي فوصل إليهم خاتمة السنة المذكورة‏.‏

أخبار ابن الليث بفارس
قـد ذكرنـا مـن قبـل استيـلاء الليث بن علي بن الليث وسيكري مولى عمر بن الليث على فارس مـن يـد طاهـر بـن محمـد‏.‏ ثـم أخـرج سيكـري بعـد ذلـك الليث وانفرد بها وسار بن محمد بن عمرو فواقعه وانهزم طاهر وأسر سيكرى وأسر أخاه يعقوب وبعث بهًما إلى المقتدر مع كاتبه عبد الرحمـن بن جعفر الشيرازي وقد أمّره على ما يحمله وذلك سنة ست وتسعين - ثم سار إليه الليـث بـن علـي مـن سجستـان سنـة سبـع وتسعيـن فغلبـه وملـك فارس وهرب سيكرى إلى أرَّجان وأملَّـى المقتـدر بمؤنـس الخـادم فـي العساكـر فجـاء إلى أرجان وجاء الحسين بن حمدان من قُم إلى البيضـاء فـي إعانتـه لملاقاتـه وأضـل الطريق إلى مسالك صعبة أشرف على عسكر مؤنس‏.‏ وكان سيكري قد بعث أخاه إلى شيراز ليحفظها فلما أشرف على العسكر ظنه عسكر أخيه فثاروا إليه وانهزم عسكر الليث وأخذ أسيراً‏.‏ وأشار عليه أصحابه أن يقبض على سيكري ويطلب من المقتدر ولاية فارس مكانه فوافقهم طاهر ودس إليه فلحق بشيراز وعاد مؤنـس إلى بغداد بالليث أسيراً والحسين بن حمدان إلى عمله بقم‏.‏ ثـم أن عبـد الرحمـن بـن جعفر كاتب سيكري استولى على أمره وحسد أصحابه وأكثروا السعاية فيه عند سيكري فحبسه واستكتب مكانه إسماعيل بن إبراهيم اليمن فحمله على العصيان ومنع الحمل ودس عبد الرحمن بن جعفر من محبسه إلى الوزير ابن الفرات بذلك فكتب إلى مؤنـس وهـو بواسـط يأمـره بالعـود إلـى فـارس فسـار وأرسلـه سيكـري أنسه وسأل منه الوساطة في أمـره وشعـر ابـن الفرات بميل مؤنس إلى بغداد وسار محمد بن جعفر فهزم سيكري على شيراز فخلص إلى قم وتحصن بها وحاصره محمد بن جعفر‏.‏ ثم خرج إليه فهزمه ثانية ودخل مغارة خراسـان فلقيتـه عساكـر إسماعيـل إلـى بغـداد فحبسـا هنالك‏.‏ واستولى محمد بن جعفر من القواد علـى فارس وولى عليها قبيحاً خادم الأفشين‏.‏ ثم صارت ولايتها لبدر ابن عبد الله الحمامي وفي آخر سنة تسع وتسعين ومائتين قبض حرمه وقامت الهيعة ببغداد ثلاثة أيام ثم سكنت وذلـك لثلـاث سنيـن وثلاثـة أشهـر مـن وزارتـه‏.‏ فاستوزر مكانه أبا علي محمد بن يحيى بن عبيد الله بن يحيى فرتب الأمور وولي على الدواوين‏.‏ ثم زاد قرشه لضيق صدره وطيشه وعدوله عن مذاهب الرياسة إلى الوضاعة ومراجعة أصحاب الحاجات والحقوق إلى ما يريد قضاءه منها وكثرة التولية والعزل وتبجـح أصحابـه عليـه فـي إطلـاق الأمـوال وانبسـاط الجـاه بإفسـاد الأحوال‏.‏ واعتزم المقتدر على عزله بأبي الحسين بن أبي الفضل فاستدعاه من أصبهان‏.‏ ثم قبض عليه وعلى أبي الحسن ببغداد وأهمل رأي الوزراء وصار يرجع إلى قول النساء والخدم فطمـع العمـال فـي الأطـراف ثـم أخـرج ابن الفرات من محبسه وجعله في بعض الحجر وأحسن إليه وصار يعرض عليه مطالعات العمال وأراد أن يستوزره‏.‏ ثم بدا له واستدير علي بن عيسى مـن مكـة فاستـوزره لـأول سنـة إحـدى وثلثمائـة وقبـض علـى الخاقاني وحبسه وعين حرسياً عليه‏.‏ وقام علي بن عيسى بالوزارة وأصلح ما أفسده الخاقاني واستقامت الأمور‏.‏ قيام أهل صقلية بدعوة المقتدر ثم رجوعهم إلي طاعة المهدي قد ذكرنا ولاية علي بن عمر على صقلية من عبد الله المهدي سنة تسع وتسعين‏.‏ ثم أن أهل صقلية انتقضوا عليه وولوا عليهم أحمد بن وهب‏.‏ ثم انتقضوا عليه وأرادوا قتله فدعا إلى طاعة المقتدر وخطب له بصقلية وقطع خطبة المهدي وبعث اسطولاً إلى ناحية ساحـل إفريقيـة فلقـوا أسطـول المهـدي وعليـه الحسـن بـن أبـي خنزيـر فأحرقـوه وقتلـوا الحسـن ووصلـت خلـع السـواد وألويتـه لابـن وهـب مـن بغـداد‏.‏ ثـم جاءت أساطيل المهدي في البحر وفسد أمـر ابـن وهـب‏.‏ ثـم ثـارت أهـل صقليـة بـه سنـة ثلثمائـة وأسـروه وبعثـوا بـه إلـى المهدي مع جماعة من أصحابه فأمرهم بقتلهم على قبر ابن أبي خنزير‏.‏

ولاية العهد
وفي سنة إحـدى وثلثمائـة ولـى المقتـدر ابنه أبا العباس العهد وهو الذي ولي الخلافة بعد القاهر وسمي بالرافضي فولاه أبوه المقتدر العهد وهو ابن سنين وقلده مصر والمغرب واستخف له ظهور الأطروش وملكه خراسان كـان هـذا الأطـروش مـن ولـد عمـر بـن علـي زيـن العابديـن وهو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بـن عمـر وكـان قـد دخـل إلـى الديلـم بعـد قتـل محمـد بـن زيد ولبث فيهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام ويأخذ منهم العشر ويدافع عنهم ملكهم ابن حسان فأسلم على يديه منهم خلق كثير وبنى لهم المساجد وزحف بهم إلى ثغور المسلمين أراهم مثل قزوين وسالوس فأطاعوه وهـدم حصـن سالـوس‏.‏ ثـم دعاهـم إلـى غـزو طبرستـان وهـي فـي طاعـة ابـن سامـان وكان إسماعيل بـن أحمـد لمـا انتقـض بهـا محمـد بـن هـارون وقبـض عليـه إسماعيـل ولـى عليها أبا العباس عبد الله بن محمد بن نوح فأحسن السيرة وأظهر العدل وبالغ في الإحسان إلى العلوية الذين بها واستمال الديلم بالمهاداة والإحسان فاشتمل الناس عليه‏.‏ فمـا دعاهـم الحسن إلى غزو طبرستان‏.‏ لم يجيبوه من أجل ابن نوح‏.‏ ثم إن أحمد بن إسماعيل عزل ابن نوح عنها وولى عليها سلاماً فأساء السيرة ولم يحسن سياسة الديلم فهاجوا عليه فقاتلهم وهزمهم واستعفى من ولايتها‏.‏ فعاد إليها ابن نوح وصلحت الحال كما كانت إلى أن مـات فولـى عليهـا محمد بن إبراهيم بن صعلوك فأساء السيرة وتنكر للديلم فصادف الحسن منها الغرة ودعاهم إلى غزو طبرستان فأجابوه وسار إليه ابن صعلوك على من يرحله من سالوس بشاطئ البحر فانهزم وقتل من أصحابه أربعة آلـاف ولجـأ الباقـون إلـى سالـوس فحاصرهـم الأطروش حتى استأمنوا ورجع عنهم إلى آمد‏.‏ ثـم جـاء الحسـن بـن القاسـم العلوي الداعي صهر الأطروش إلى أولئك المستأمنين فقتلهم واستولى الأطـروش علـى طبرستـان ولحق ابن صعلوك بالري سنة إحدى وثلثمائة وسار منها إلى بغداد‏.‏ وكـان الأطـروش زيـدي المذهـب وجميـع الذيـن أسلمـوا علـى يـده فيما وراء اسعيد ‏"‏ ولى ‏"‏ إلى آمد كلهم على مذهب الشيعة‏.‏ ثم أن الأطروش العلوي تنحى عن آمد إلى سالوس بعد أن غلب عليها فبعث إليه صعلوك الري من قبل ابن سامان جيشاً فهزمهم وعاد إلى آمد‏.‏ ثم زحفت إليه عساكر السعيد صاحب خراسان سنة أربع وثلثمائة فقتلوه‏.‏ وكـان هـذا الأطـروش عـادلاً حسـن السيـرة لـم يـر مثلـه فـي أيامـه وأصابـه الصمـم من ضربة في رأسه بالسيف فـي الحـرب‏.‏ وقـال ابـن مسكويـه فـي كتـاب تجـارب الأمـم ويقـال فيـه الحسـن بـن علـي الداعـي وليس به وإنما الداعي الحسن بن القاسم صهره وسنذكره فيما بعد‏.‏ وكان له من الولد أبو الحسن وكان قواده من الديلم جماعة منهم ابن النعمان وكانت له ولاية جرجان وما كان بن كالـي وكـان علـى استرابـاذ ومعـرا‏.‏ ثـم كـان مـن قـواد ولـده من الديلم جماعة آخرون منهم أسفار بن شيرويه من أصحاب ما كان ابن كالي ومرداويج بن زياد من أصحاب أسفار وأسكري من أصحابه أيضاً وبنو بويه من أصحاب مرداوشج وسيأتي الخبر عن جميعهم إن شاء الله تعالى‏.‏

غلب المهدي علي الإسكندرية ومسير مؤنس إلي مصر
وفي سنة اثنتيـن وثلاثمائـة بعث عبيد الله المهدي عساكره من إفريقية إلى الإسكندرية مع قائمه خفاشة الكتابي فغلب عليها وسار إلى مصر وبلغ المقتدر فبعث مؤنساً الخادم في العساكر لمحاربته وأمده بالأموال والسلاح‏.‏ وسار إليهم وقاتلهم فهزمهم بعد وقائع متعددة قتل فيها من الفريقين وبلغ القتل والأسر من المغاربة سبعة آلاف ورجعوا إلى المغرب‏.‏

انتقاض الحسين على ابن حمدان بديار ربيعة وأسره
كان الحسين بن حمدان والياً على ديار ربيعة وطالبه الوزير علي بن عيسى بالمال فدافعه وأمره بتسليم البلاد إلى عمال السلطان فامتنع وكان مؤنس الخادم بمصر في محاربة عساكر المهدي صاحب إفريقية فجهز الوزير إلـى ابـن حمـدان رائقـاً الكبيـر فـي عسكـر سنـة ثلـاث وثلاثمائـة وكتـب إلـى مؤنـس أن يسيـر إلـى الجزيـرة لقتالـه بعـد فراغه من أصحاب العلوي بمصر فسار رائـق أولاً وهزمـه الحسيـن ولحـق بمؤنـس فأمره بالمقام بالموصل‏.‏ وسار نحو الحسين وتبعه أحمد بن كيغلـغ وانتهـى إلـى جزيـرة ابن عمر والحسين بأرمينية‏.‏ ورجع الكثير من عسكره إلى مؤنس‏.‏ ثم بعـث مؤنـس عسكـراً في أثره عليهم بليق ومعه سيما الجزري‏.‏ وجاء الصفواني واتبعوه فأدركوه وقاتلـوه فهزمـوه وجـاؤوا بـه أسيـراً ومعـه ابنه عبد الوهاب وأهله وكثير من أصحابه‏.‏ وعاد مؤنس إلى بغداد على الموصل فحبسه المقتدر وأغار على أبي الهيجاء بن حمدان وجميع أخوته وحبسهـم‏.‏ ثـم أطلـق أبـا الهيجـاء سنـة خمـس وقتـل الحسيـن سنـة سـت تقريبـاً كمـا نذكـر إن شـاء الله تعالى‏.‏

وزارة ابن الفران الثانية
كان الوزير أبو الحسن بن الفرات محبوساً كما ذكرنا وكـان المقتـدر يشـاوره ويرجـع إلـى رأيـه ويبغي بعض أصحاب المقتدر إعادته‏.‏ وبلغ ذلك الوزير علي بـن عيسـى فاستغفـى ومنعـه المقتدر‏.‏ ثم جاءت في بعض الأيام قهرمانة القصر تناظره في نفقات الحرم والحاشية وكسوتهم فألفتـه نائمـاً فلـم يوقظـه لهـا أحد‏.‏ فرجعت وشكت إلى المقتدر وأمه فقبض عليه في ذي القعدة من سنة أربع وثلاثمائة وأعاد ابن الفرات على أن يحمل إلى بيت المال ألف دينار وخمسمائة دينـار فـي كـل يـوم‏.‏ وقبـض علـى الوزيـر مـن قبلـه علـي بن عيسى والخاقاني وأصحابهما وصادرهم خبر ابن أبي الساج بأذربيجان قـد ذكرنـا استقرار يوسف بن أبي الساج على أرمينية وأذربيجان منذ مهلك أخيه محمد سنة ثمان وثمانين ومائتين وكان على الحرب والصلاة والأحكام وكان عليـه مـال يؤذيـه‏.‏ فلمـا ولـي الخاقاني وعلي بن عيسى الوزارة والتأمـت أمـور يوسـف فـي الاستبـداد وأخـر بعـض المـال واجتمع له ما يريده لذلك وبلغته نكبة الوزير علي بن عيسى فأظهر أن العهد وصل إليه بولاية الرقـي علـى يـد علـي بـن عيسـى‏.‏ وكـان حميـد بـن صعلـوك مـن قـواد بـن سامان قد بعث على الري وما يليها وقاطع عليها بمال يحمله فسار إليه يوسف سنة أربع وثلاثمائة فهرب إلى خراسان واستولى يوسف على الري وقزوين وزنجان وكتب إلى الوزير ابن الفرات بالفتح ويعتذر بأنه طرد المتغلبين ويذكر كثرة ما أنفق من ذلك وأنه كان بأمر الوزير علي بن عيسى وعهده إليه بذلك فاستعظم المقتدر ذلك وسئل علي بن عيسى فأنكر وقال سلموا الكتاب والحاشيـة والعهد واللواء اللذين كان يسير بهما مع بعض القواد والخدام‏.‏ فكتب ابن الفرات بالنكير على يوسف وجهز العساكر لحربه مع خاقان المفلحي ومعه أحمد بـن مسـرور البلخـي وسيمـا الخـزري ونحريـر الصغيـر وسـاروا سنـة خمـس وثلاثمائة فهزمهم يوسف وأسر منهم جماعة‏.‏ فبعث المقتدر مؤنساً الخادم في جيش كثيف لمحاربته‏.‏ وعزل خاقان المفلحي عن أعمال الجبل وولاها نحريراً الصغير‏.‏ وسار مؤنس واستأمن له أحمد بن علي أخو صعلوك فأمنه وأكرمه وبعث ابن أبي الساج في المقاطعة على أعمال الري بسبعمائة ألـف دينـار سـوى أرزاق الجنـد والخـدم فأبـى له المقتدر من ذلك عقوبة على ما أقدم عليه وولي علـى ذلـك العمل وصيفاً البهتمري وطلب ابن أبي الساج أن يقاطعه على ما كان بيده قبل الري من أذربيجان وأرمينية فأبى المقتدر إلا أن يحضر في خدمته‏.‏ فلما يئس ابن أبي الساج إلى مؤنس وقاتله فانهزم مؤنس إلى زنجان وقتل من قواده جماعة وأسر هلال بن بدر وغيره فحبسهم يوسف في أردبيل وأقام مؤنس بزنجان بجميع العساكر يستمد من المقتدر وابن أبي الساج يراسله في الصلح والمقتدر لا يجيب إلى ذلك‏.‏ ثم قاتله مؤنـس فـي فاتـح سنـة سبـع وثلاثمائـة عنـد أردبيـل فهزمـه وأسـره وعـاد بـه إلى بغداد أسيراً فحبسه المقتـدر وولـى مؤنس على الري ودنباوند وقزوين وأبهر وزنجان علي بن وهشودان وجعل أموالها لرجاله وولى مؤنس على أصبهان وقم وقاشان أحمد بن علي بن صعلوك وسارعن أذربيجان فوثـب سبـك مولـى يوسـف بـن أبـي الساج فملكها واجتمع عليه عسكر فولى مؤنس بن محمد بن عبيد الفارقي وسار بمحاربة سبك فانهزم وعاد إلى بغداد‏.‏ وتمكـن سبك في أذربيجان وسأل المقاطعة على مائتي ألف وعشرين ألف دينار في كل سنة فأجيب وعقد له عليها وكان مقيماً بقزوين فقتله على مراسة ولحق ببلده فولى المقتدر وصيفاً البكتمـري مكانـه علـى أعمال الري وولى محمد بن سليمان صاحب الجيش على الخوارج بها ثم وثب أحمد بن علي بن صعلوك صاحب أصبهان وقم على الري فملكها وكتب إليه المقتدر بالنكير وأن يعـود إلـى قـم فعـاد ثـم أظهـر الخلـاف وأجمـع المسيـر إلـى الـري وسـار وصيـف البكتمري لحربه‏.‏ وأمر نحرير الصغير أن يسير مدداً لبكتمري فسبقهم أحمد بن صعلوك إلى الري‏.‏ وملكها وقتل محمد بن سليمان صاحب الخوارج وبعث إلى نصر الحاجب ليصلح أمره بالمقاطعة على أعمال الري بمائة وستين ألف دينار وينزل عن قم فكتب له بذلك وولى غيره على قم‏.‏

خبر سجستان وكرمان
وكانـت سجستـان قـد صـارت لابن سامان منذ سنة ثمان وتسعين ومائتين ثم تغلب عليها كثير بـن أحمـد بـن صهفـود مـن يـده فكتـب المقتدر إلى عامل فارس وهو بدر بن عبد الله الحمامي أن يرسل العساكر لمحاربته ويؤمر عليهم دركاً ويجعل على الخراج بها زيد بن إبراهيم‏.‏ فسارت العساكر وحاربوا أهل سجستان فهزموهم وأسروا زيد بن إبراهيم وكتب كثير إلى المقتدر بالبراءة من ذلك وطوية أهل سجستان‏.‏ وأرسل المقتدر أن يسير لقتاله بنفسه فخاف كثير وطلـب المقاطعـة علـى خمسمائـة ألـف دينـار فـي كـل سنـة فأجيـب وقررت البلاد عليه‏.‏ وذلك سنة أربع وثلاثمائة‏.‏ وانتقض في هذه السنة بكرمان صاحب الخوارج بها أبو زيد خالد بن محمد المارداني وسار منها إلى شيراز يروم التغلب على فارس فسار إليه بـدر الحمامـي العامـل وحاربه فقتله وحمل رأسه إلى بغداد‏.‏

وزارة حامد بن العباس
وفي سنة سـت وثلاثمائـة قبض المقتدر على وزيره أبي الحسن بن الفرات بسبب شكوى الجند بمطله أرزاقهم واعتذر بضيق الأموال للنفقة في حروب ابن أبي الساج ونقص الارتياع بخروج الري عن ملكه‏.‏ فشغب الجند وركبوا وطلب ابن الفرات من الخليفة إطلاق مائتي ألف دينار من خاصته يستعين بها فنكر ذلك عليه لأنه كان ضمن القيام بأرزاق الأحشاد وجميع النفقات المرتبة‏:‏ فاحتج بنقص الارتياع وبالنفقة في الحرب كما تقدم فلم يقبل‏.‏ ويقال‏:‏ سعى فيه عند المقتـدر بأنـه يـروم إرسـال الحسين بن حمدان إلى أبي الساج فيحاربه وإذا سار عنده اتفقا على المقتدر فقتل المقتدر ابن حمدان وقبض على ابن الفرات في جمادى الآخرة وكان حامد بن العباس على الأعمال بواسط وكان منافراً لابن الفرات وسعى به عنده بزيادة ارتياعه على ضمانه فخشيه حامد على نفسه‏.‏ وكتب إلى نصر الحاجب والي والده المقتدر سعة نفسه وكثرة أتباعه وذلك عند استيحاشه مـن ابـن الفـرات‏.‏ فاستقدمـه مـن واسـط وقبـض على ابن الفرات وابنه المحسن وأتباعهما واستـوزر حامـداً فلـم يصـف حقـوق الـوزارة ولا سياستهـا وتحاشـى عليه الدواوين فأطلق المقتـدر علـي بـن عيسـى وأقامـه علـى الدواويـن كالنائب عن حامد‏.‏ فكان يزاحمه واستبد بالأمور دونه ولم يبق لحامد أمر عليه‏.‏ فأجابه ابن الفرات بأسفه منه‏.‏ وقال لشفيع اللؤلؤي‏:‏ قل لأمير المؤمنين حامد إنما حمله على طلب الوزارة أني طالبته بأكثر من ألفي ألف دينار من فضل ضمانه فاستشاط حامد وزاد في السفه فأنفذ المقتدر من رد ابن الفرات إلـى محبسـه شـم صودر وضرب ابنه المحسن وأصحابه وأخذت منهم الأموال‏.‏ ثم إن حامداً لما رأى استطالة علي بن عيسى عليه وكثرة تصرفه في الوزارة دونه ضمن للمقتدر أعمال الخوارج والضياع الخاصـة والمستحدثـة والقراريـة بسـواد بغـداد والكوفـة وواسط والبصرة والأهواز وأصبهان واستأذنه في الانحدار إلى واسط لاستخراج ذلك فانحدر واسم الوزارة له وأقام علي بن عيسـى يدبـر الأمـور فأظهـر حامـد سـوء تصرف في الأموال وبسط المقتدر يده حتى خافه علي بن عيسى‏.‏ ثم تحرك السعر ببغداد فشغبت العامة ونهبوا الغلال لأن حامداً وغيره من القواد كان يخزنون الغلال‏.‏ وأحضر حامد لمنعهم خضر فقاتلوه وفتقوا السجون ونهبوا دار الشرطة‏.‏ وأنفذ المقتـدر غريـب الحـال فـي العسكـر فسكـن الفتنـة وعاقـب المتصديـن للشـر وأمـر بفتـح المخازن التي للحنطة وببيعها فرخص السعر وسكن إلى منع الناس من بيع الغلال في البيادر وخزنها فرفع الضمان عن حامد وصرف عماله عن السواد ورد ذلك لعلي بن عيسى وسكن الناس‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 09:55 PM

وصول ابن المهدي وهو أبو القاسم إلى ابنه
وفي سنة سبـع وثلاثمائـة بعث المهدي صاحب إفريقية أبا القاسم في العساكر إلى مصر فوصل إلـى الإسكندريـة فـي ربيـع الآخـر وملكهـا ثم سار إلى مصر ونزل بالجيزة واستولى على الصعيد وكتب إلى أهل مكة في طاعته فلم يجيبوا‏.‏ وبعث المقتدر مؤنساً الخادم إلى مصر لمدافعته فكانت بينهم حروب كثر فيها القتلى من الجانبين وكان الظهور لمؤنس ولقب يومئذ بالمظفر‏.‏ ووصل من إفريقية أسطول من ثمانين مركباً للقائهم وعليهم سليمان الخادم ويعقوب الكتامي وأمر المقتدر بأن يسير إليهم أسطول طرسوس فسار في خمسة وعشرين مركباً وعليهم أبو اليمن ومعهـم المـدد والأنفـاط فغلبـوا أسطـول إفريقية وأحرقوا أكثر مراكبه‏.‏ وأسر سليمان الخادم ويعقوب الكتامـي فـي جماعـة قتـل أكثرهـم وحبـس سليمـان بمصـر وحمـل يعقـوب إلـى بغداد‏.‏ ثم هرب وعاد إلى إفريقية وانقطع المدد عن عسكر المغاربة فوقع الغـلاء عندهـم وكثـر الموتـان فـي النـاس والخيل فارتحلوا راجعين إلى بلادهم وسار عساكر مصر في أثرهم حتى أبعدوا‏.‏ بقية خبر ابن أبي الساج قد تقدم لنا أن مؤنساً حارب يوسف بن أبي الساج عامل أذربيجان فأسره وحمله إلى بغداد فحبس بها واستقر بعده في عمله سبك مولاه‏.‏ ثم إن مؤنساً شفع فيه سنة عشر فأطلقه المقتدر وخلع عليه‏.‏ ثم عقد له على أذربيجان وعلى الـري وقزويـن وأبهـر وزنجـان وعلـى خمسمائة ألف دينار في كل سنة سوى أرزاق العساكر‏.‏ وسار يوسف إلى أذربيجان ومعه وصيف البكتمري في العساكر ومر بالموصل فنظر في أعمالها وأعمال ديار ربيعة‏.‏ وقد كان المقتـدر تقـدم إليـه بذلـك‏.‏ ثـم سـار إلـى أذربيجان وقد مات مولاه سبك فاستولى عليها‏.‏ وسار سنـة إحـدى عشـرة إلى الري وكان عليها أحمد بن علي أخو صعلوك وقد اقتطعها كما قدمنا‏.‏ ثـم انتقـض علـى المقتـدر وهـادن ما كان بن كالي من قواد الديلم القائم بدعوة أولاد الأطروش في طبرستان وجرجان‏.‏ فلما جاء يوسف إلى الري حاربه أحمد فقتله يوسف وأنفذ رأسه إلى بغداد واستولى على الري في ذي الحجة وأقام بها مدة ثم سار عنها إلى همذان فاتح ثلاث عشرة واستخلف بها مولاه مفلحاً وأخرجه أهل الري عنهم فعاد يوسف إليهم في جمادى من سنته واستولى عليها ثانية‏.‏ ثم قلده المقتدر سنة أربع عشرة نواحي المشرق وأذن له في صرف أموالها في قواده وأجنـاده وأمره بالمسير إلى واسط ثم منها إلى هجر لمحاربة أبي طاهر القرمطي فسار يوسف إلـى أبي طاهر وكان بها مؤنس المظفر فرجع إلى بغداد وجعل له أموال الخراج بنواحي همذان وساوة وقم وقاشان وماه البصرة وماه الكوفة وماسبذان لينفقها في عسكره وتسعين بها على حرب القرامطة‏.‏ ولما سار من الري كتب المقتدر إلى السعيد نصر بن سامان بولاية الري وأمره بالمسير إليها وأخذها من فاتك مولى يوسف فسار إليها فاتح أربع عشرة فلما انتهى إلى جبل قارن منعه أبـو نصـر الطبـري من العبور وبذل له ثلاثين ألف دينار فترك سبيله وسار إلى الري فملكها من يد فاتك وأقام بها شهرين وولى عليها سيمجور الدواني وعاد إلى بخارى‏.‏ ثم استعمل على الـري محمـد بـن أبـي صعلـوك فأقـام بهـا إلـى شعبان سنة ست عشرة وأصابه مرض وكاتب الحسن بن القاسم الداعي وما كان بن كالي أميري الديلم في تسليم الري إليهما فقدما وسار عنها ومات في طريقه واستولى الداعي والديلم عليها‏.‏ بقية الخبران وزراء المقتدر قـد تقـدم الكلـام فـي وزارة حامد بن العباس وان علي بن عيسى كان مستبداً عليه في وزارته وكـان كثيـراً مـا يطـرح جانبـه وشـيء فـي توقعاتـه علـى عمالـه‏.‏ وإذا اشتكـى إليه أحد من نوابه يوقع علـى القصـة إنمـا عقـد الضمان على الحقوق الواجبة فليكف الظالم عن الرعية‏.‏ فأنف حامد من ذلك واستأذن في المسير إلى واسط للنظر في ضمانة فأذن له‏.‏ ثم كثرت استغاثة الخدم والحاشية في تأخر أرزاقهم وفسادها فإن علي بن عيسى كان يؤخرها وإذا اجتمعت عدة شهور أسقطوا بعضها وكثرت السعاية واستغاث العمال وجميع أصحاب الأرزاق بأنه حط من أرزاقهم شهرين من كل سنة فكثرت الفتنة على حامد‏.‏ وكان الحسن ابن الوزير ابن الفرات متعلقـاً بمفلـح الأسـود خالصة الخليفة المقتدر وكان شقيقه لأبيه وجرى بينه وبين حامد يوماً كلام فأساء عليه حامد وحقد له‏.‏ وكتب ابن الفرات إلى المقتدر وضمن له أموالاً فأطلقه واستوزره وقبض على علي بن عيسى وحبسه في مكانه وذلك سنة إحدى عشرة وجاء حامد من واسط فبعث ابن الفرات من يقبـض عليـه فهـرب مـن طريقـه واختفـى ببغـداد‏.‏ ثـم مضـى إلـى نصـر بـن الحاجب سراً وسأل إيصاله إلى المقتدر وأن يحبسه بدار الخلافة ولا يمكـن ابـن الفـرات منـه‏.‏ فاستدعـى نصـر الحاجـب مفلحـاً الخـادم حتى وقفه على أمره وشفع له في رفع المؤاخذة بما كان منه فمضى إلى المقتدر وفاوضه بما أحب وأمر المقتدر بإسلامه لابن الفـرات فحبسـه مـدة ثـم أحضـره وأحضـر لـه القضاة والعمال وناظره فيما وصل إليه من الجهات فأقر بنحو ألف ألف دينار‏.‏ وضمنه المحسن بن الفرات بخمسمائة ألف دينار فسلم إليه وعذبه أنواعاً من العذاب وبعثه إلى واسط ليبيع أمواله هناك فهلك في طريقه بإسهال أصابه‏.‏ ثـم صـودر علـي بـن عيسـى علـى ثلثمائة ألف دينار وعذبه المحسن بعد ذلك عليها فلم يستخرج منـه شيئـاً وسيره ابن الفرات أيام عطلته وحبسه بعد أن كان رباه وأحس إليه فقبض عليه مدة ثـم أطلقـه وقبـض علـى ابـن الجـوزي وسلمـه إلـى ابنـه المحسـن فعذبـه ثم بعثه إلى الأهواز لاستخراج الأمـوال فضربـه الموكـل بـه حتـى مـات‏.‏ وقبـض ابنـه على الحسين بن أحمد وكان تولى مصر والشام وعلى محمد بن علي المارداني وصادرهما علـى ألـف ألـف وسبعمائـة ألـف دينـار وصـادر جماعة من الكتاب سواهم ونكبهم‏.‏ وجاء مؤنس من غزاته فأنهى إليه أفعال ابن الفرات وما يعتمده من المصادرات والنكايات وتعذيب ابنه للناس فخافه ابن الفرات وخوف المقتدر منه‏.‏ وأشار بسيره إلى الشام ليقيم هنالك بالثغر فبعثه المقتدر وأبعده‏.‏ ثـم سعـى ابـن الفـرات بنصـر الحاجب وأغراه به وأطمعه في ماله وكان مكثراً واستجار نصر بأم المقتدر‏.‏ ثم كثر الأرجاف بابن الفرات فخاف وأنهى إلى المقتدر بأن الناس عادوه لنصحه للسلطـان واستيفـاء حقوقـه وركـب هـو وابنـه المحسـن إلـى المقتـدر فأوصلهمـا إليـه وأسهمهمـا وخرجا من عنده فمنعهما نصر الحاجب ودخل مفلح على المقتدر وأشار إليه بعزله فأسر إليه وفاقه على ذلك وأمر بتخلية سبيلهما‏.‏ واختفى المحسن من يومه‏.‏ وجاء نازوك وبليق من الغـد فـي جماعـة مـن الجنـد إلـى دار ابن الفرات فأخرجوه حافياً حاسراً‏.‏ وحمل إلى مؤنس المظفر ومعه هلال بن بدر ثم سلم إلى شفيع اللؤلؤي فحبس عنده وصودر على ألف ألف دينار وذلك سنة اثنتي عشرة‏.‏ وكـان عبـد اللـه أبـو القاسـم بـن علـي بـن محمـد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان لما تغير حال ابن الفـرات سعـى فـي الـوزارة وضمـن فـي ابـن الفـرات وأصحابـه ألفـي ألف دينار على يد مؤنس الخادم وهارون بن غريب الحال ونصر الحاجب فاستوزره المقتدر على كراهية فيه ومات أبوه علي علـى وزارتـه‏.‏ وشفـع إليـه مؤنـس الخـادم فـي إعـادة علـي بـن عيسـى مـن صنعـاء فكتـب لـه في العود وبمشارفة أعمال مصر والشام وأقام المحسن بن الفرات مختفياً مدة‏.‏ ثم جاءت امرأة إلى دار المقتـدر تنادي بالنصيحة فأحضرها نصر الحاجب فدلت على المحسن فأحضره نازوك صاحب الشرطة فسلم للوزير وعذب بأنواع العذاب فلم يستخرج منه شيء فأمـر المقتـدر بحمله إلى أبيه بدار الخلافة وجـاء الوزيـر أبـو القاسـم الخاقانـي إلـى مؤنـس وهـارون ونصـر فحذرهـم شـأن ابـن الفـرات وعائلتـه بدار الخلافة وأغراهم به فوضعوا القواد والجند وقالوا لا بد من قتل ابن الفرات وولده‏.‏ ووافق هؤلاء على ذلك فأمر نازوك بقتلهما فذبحهما‏.‏ وجاء هارون إلى الوزير الخاقاني يهنئه بذلك فأغمي عليه ثم أفاق وأخذ منه ألفي دينار وشفـع مؤنـس المظفـر فـي أبنيـه عبـد اللـه وأبـي نصـر فأطلقهمـا ووصلهمـا بعشريـن ألـف دينـار‏.‏ ثـم عـزل الخاقانـي سنـة ثلـاث عشـرة لأنـه أصابـه المرض وطال به وشغب الجند في طلب أرزاقهم فوقفت بـه الأحـوال وعزلـه المقتـدر وولى مكانه أبا العباس الخصي وكان كاتباً لأمه فقام بالأمر وأقر علي بـن عيسـى على أعمال مصر والشام فكان يتردد إليهما من مكة ثم إن الخصي اضطربت أموره وضاقـت الجبايـة وكـان مدمنـاً للسكـر مهمـلاً للأمـور ووكل من يقوم عنه فآثروا مصالحهم وأضاعوا مصلحته‏.‏ وأشار مؤنس المظفر بعزله وولاية ابن عيسى فعزل لسنة وشهرين‏.‏ واستقـدم علـي بن عيسى من دمشق وأبو القاسم عبد الله بن محمد الكلواذي بالنيابة عنه إلى أن يحضـر فحضـر أول سنـة خمـس عشرة واستقل بأمر الوزارة وطلب كفالات المصادرين والعمال وما ضمن من الأمـوال بالسـواد والأهـواز وفـارس والمغـرب فاستحضرهـا شيئـاً بعـد شـيء وأدر الـأرزاق وبسـط العطـاء وأسقـط أرزاق المغنيـن والمسامـرة والندمـان والصفاعنة‏.‏ وأسقط من الجند أصاغر الأولاد ومن ليس له سلاح والهرمى والزمني وباشر الأمور بنفسه واستعمل الكفاة‏.‏ وطلب أبا العباس الخصي في المناظرة واحضر له الفقهاء والقضاة والكتاب وسأله عن أموال الخوارج والنواحي والمصادرات وكفالاتها وما حصـل مـن ذلـك ومـا الواصـل والبواقـي فقـال لا أعلـم‏.‏ فسألـه عـن المـال الـذي سلمه لابن أبي الساج كيف سلمه بلا مصرف ولا منفق وكيف سلم إليه أعمال المشرق وكيف بعثه لبلاد الصحراء بهجر هو وأصحابه من أهل الغلول والخصب فقال ظننت منهم القدرة على ذلك‏.‏ وامتنع ابن أبي الساج من المنفق فقال‏:‏ وكيف استجزت ضرب حرم المصادرين فسكت ثم سئـل عـن الخـراج فخلـط فقـال أنـت غـررت أميـر المؤمنيـن من نفسك فهلا استعذرت بعدم المعرفة‏.‏ ثـم أعيـد إلـى محبسـه واستمـر علـي بن عيسى في ولايته‏.‏ ثم اضطربت عليه الأحوال واختلفت الأعمـال ونقـص الارتيـاع نقصـاً فاحشاً وزادت النفقات وزاد المقتدر تلك الأيام في نفقات الخدم والحرم ما لا يحصى وعاد الجند من الأنبار فزادهم في أرزاقهم مائتين وأربعين ألف دينار‏.‏ فلما رأى ذلك علي بن عيسى ويئس من انقطاعه أو توقفه وخشي من نصر الحاجب فقـد كـان انحـرف عنـه لميـل مؤنـس إليـه ومـا بينهمـا مـن المنافرة في الدولة فاستعفى من الوزارة وألح في ذلك وسكنه مؤنس فقال له أنت سائر إلى الرقة وأخشى على نفسي بعدك‏.‏ ثـم فـاوض المقتـدر نصراً الحاجب بعد مسير مؤنس فأشار بوزارة أبي علي بن مقلة فاستوزره المقتدر سنة ست عشرة وقبض على علي بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وأقام ابن مقلة بالوزارة وأعانه فيها أبو عبد الله البريدي لمودة كانت بينهما واستمرت حاله على ذلك‏.‏ ثم عزله المقتدر ونكبه بعد سنتين وأربعة أشهر حين استوحش من مؤنس كما نذكره وكان ابن مقلـة متهمـا بالميـل إليـه فاتفـق مغيبه في بعض الوجوه فقبض عليه المقتدر‏.‏ فلما جاء مؤنس سأل فـي إعادتـه فلـم يجبـه المقتـدر أراد قتلـه فمنعـه واستوزر المقتدر سليمان بن الحسن وأمر علي بن عيسى بمشاركته في الاطلاع على الدواوين وصودر ابن مقلة على مائتي ألف دينار وأقام سليمـان فـي وزارتـه سنـة وشهريـن وعلـي بـن عيسـى يشاركـه فـي الدواويـن‏.‏ وضاقـت عليـه الأحوال إضاقة شديدة وكثرت المطالبات ووقفت وظائف السلطان‏.‏ ثم أفرد السواد بالولايـة فانقطعـت مـواد الوزيـر لأنـه كـان يقيـم مـن قبلـه مـن يشتـري توقعـات الأرزاق ممن لا يقدر على السعي في تحصيلها من العمال والفقهـاء وأربـاب البيـوت فيشتريهـا بنصـف المبلـغ فيتعـرض بعـض من كان ينتمي لمفلح الخادم لتحصيل ذلك للخليفة وتوسط له مفلح فدافع لذلك وجاهر في تحصيله من العمال فاختلت الأحوال بذلك وفضح الديوان ودفعـت الأحوال لقطع منافع الوزراء والعمال التي كانوا يرتفقون بها وإهمالهم أمور الناس بسبب ذلك‏.‏ وعاد الخلل على الدولة وتحرك المرشحون للوزارة في السعاية وضمان القيام بالوظائف وأرزاق الجنـد‏.‏ وأشـار مؤنـس بـوزارة أبي القاسم الكلواذي فاستوزره المقتدر في رجب من سنة تسع عشرة وأقام في وزارته شهرين‏.‏ وكان ببغداد رجل من المخرفين يسمى الدانيالي وكان وراقاً ذكياً محتالاً يكتب الخطوط في الورق ويداويها حتى تتم بالبلى وقد أودعها ذكر من يراه من أهل الدولة برمـوز وإشـارات ويقسم له فيها من حظوظ الملك والجاه والتمكين قسمة من عالم الغيب يوهم أنها من الحدثان القديم المأثور عن دانيال وغيره وأنها من الملاحم المتوارثة عن آبائه ففعل مثـل ذلـك بمفلـح‏.‏ وكتب له في الأوراق م م م بأن يكون له كذا وكذا وسأله مفلح عن الميم فقال هو كناية عنك لأنـك مفلـح مولـى المقتـدر‏.‏ وناسـب بينـه وبيـن علامـات مذكـورة فـي تلـك الأوراق حتى طبقها عليه فشغـف بـه مؤنـس وأغنـاه‏.‏ وكـان يداخـل الحسيـن بـن القاسـم بـن عبـد اللـه بن وهب فرمز اسمه في كتـاب وذكـر بعض علاماته المنطبقة عليه وذكر انه يستوزره الخليفة الثامن عشر من بني العباس وتستقيـم الأمـور علـى يديـه ويقهـر الأعـادي وتعمـر الدنيـا فـي أيامـه‏.‏ وخلـط ذلـك في الكتاب بحدثان كثير وقع بعضه ولم يقع الآخر‏.‏ وقرأ الكتاب على مفلح فأعجبه وجاء بالكتاب إلى المقتدر فأعجب به الآخر وقال لمفلح من تعلم بهذه القصة فقال لا أراه إلا الحسين بن القاسم‏.‏ قال صدقت وإني لأميل إليه وقد كان المقتـدر أراد ولايتـه قبل ابن مقلة وقبل الكلواذي فامتنع مؤنس‏.‏ ثم قال المقتدر لمفلح إن جاءتك رقعـة منـه بالسعـي في الوزارة فأعرضها علي‏.‏ ثم سأل مفلح الدانيالي من أين لك الكتاب قال وراثة من آبائي وهو من ملاحم دانيال‏.‏ فأنهى ذلك إلى المقتدر واغتبطوا بالحسين وبلغ الخبر إليه فكتب إلى مفلح بالسعي في الوزارة فعرض كتابه على المقتدر فأمره بإصلاح مؤنس‏.‏ واتفـق أن الكلـواذي عمـل حسابـاً بمـا يحتـاج إليـه مـن النفقـات الزائدة على الحاصل فكانت سبعمائة ألف دينار وكتب عليه أهل الديوان خطوطهم وقال‏:‏ ليس لهذه جهة إلا ما يطلقـه أمير المؤمنين‏.‏ فعظم ذلك على المقتدر وأمر الحسين بن القاسم أن يضمن جميع النفقات وزيادة ألف ألف دينار لبيت المال‏.‏ وعرض كتابه على الكلواذي فاستقال وأذن للكلواذي لشهرين من وزارته وولى الحسين بن القاسم واشترط أن لا يشاركه علي بن عيسى في شيء من أموره وإخراجه الصافية‏.‏ واختص به الحسين بن اليزيدي وابن الفرات‏.‏ ولما ولي واطلع على نقصان الارتياع وكثره الإنفاق وضاف عليه الأمر فتعجل الجباية المستقبلة وصرفها في الماضية‏.‏ وبلغ ذلـك هـارون بـن غريـب الحـال فأنهاه إلى المقتدر فرتب معه الخصي واطلع على حسابه فألقى له حسبة ليس فيها رمزه‏.‏ فأظهـر ذلـك المقتـدر وجميـع الكتـاب واطلعـوا عليهـا وقابلـوا الوزيـر بتصديـق الخصـي فيمـا قالـه وقبـض علـى الحسيـن بـن القاسـم فـي شهـر ربيـع مـن سنة عشرين لسبعة أشهـر مـن ولايتـه‏.‏ واستـوزر أبـا الـروح الفضـل بـن جعفـر وسلـم إليـه الحسيـن فلـم يؤاخـذه بإساءته ولم يزل على وزارته‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 10:16 PM

أخبار القرامطة في البصرة والكوفة
كـان القرامطـة قـد استبـد طائفة منهم بالبحرين وعليهم أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجناني ورث ذلك عن أبيه واقتطعوا ذلك العمل بأسره عن الدولة كما يذكر في أخبار دولتهم عند إفرادها بالذكر‏.‏ فقد أبو طاهر البصرة سنة إحدى عشرة ومائتين وبها سبط مفلح فكبسها ليلاً في ألفين وسبعمائة وتسنموا الأسوار بالحبال وركب سبك فقتلوه ووضعوا السيف في الناس فأفحشوا في القتل وغرق كثير في الماء وأقام أبو طاهر بها سبعة عشر يوماً وحمل ما قدر عليه من الأموال والأمتعة والنساء والصبيان وعاد إلى هجر‏.‏ وولى المقتدر على البصرة محمـد بـن عبـد اللـه الفارقـي فانحـدر إليهـا بعد انصرافهم عنها‏.‏ ثم سار أبو طاهر القرمطي سنة اثنتـي عشـرة معترضـاً للحـاج فـي رجوعهـم مـن مكـة فاعتـرض أوائلهم ونهبهم وجاء الخبر إلى الحاج وهـم بعيـد وقد فنيت أزوادهم وكان معهم أبو الهيجاء بن حمدان صاحب طريق الكوفة‏.‏ ثم أغار عليهم أبو طاهر فأوقع بهم وأسر أبا الهيجاء أحمد بن بدر من أخوال المقتدر ونهب الأمتعة وسبي النساء والصبيان ورجع إلى هجر‏.‏ وبقـي الحجـاج ضاهيـن فـي الفقـر إلـى أن هلكوا ورجع كثير من الحرم إلى بغداد وأشغبوا واجتمع معهـم حـرم المنكوبيـن أيـام ابن الفرات فكان ذلك من أسباب نكبته‏.‏ ثم أطلق أبو طاهر الأسرى الذي عنده ابن حمدان وأصحابه وأرسل إلى المقتدر يطلب البصرة والأهواز فلم يجبه وسار من هجر لاعتراض الحاج وقد سار بين أيديهم جعفر بن ورقاء الشيباني في ألف رجل من قومه وكان صاحب أعمال الكوفة وعلى الحاج بمثل صاحب البحر وجنا الصفواني وطريف اليشكري وغيرهم في ستة آلاف رجل فقاتل جعفر الشيباني أولاً وهزمه‏.‏ ثم اتبع الحاج إلى الكوفة فهزم عسكرهم وفتك فيهم وأسرجنا الصفواني وهرب الباقون‏.‏ وملك الكوفة وأقام بظاهرها ستة أيـام يقيـم فـي المسجـد إلـى الليـل ويبيـت فـي عسكـره‏.‏ وحمـل مـا قـدر عليـه مـن الأمـوال والمتاع ورجع إلى هجر‏.‏ ووصل المنهزمون إلى بغداد فتقدم المقتدر إلى مؤنس بالخروج إلى الكوفة فسار إليهـا بعـد خروجهـم عنهـا واستخلـف عليها ياقوتاً ومضى إلى واسط ليمانع أبا طاهر دونها ولم يحج أحد هـذه السنـة وبعـث المقتـدر سنـة أربـع عشـرة عن يوسف بن أبي الساج من أذربيجان وسيره إلى واسـط لحـرب أبـي طاهـر‏.‏ ورجع مؤنس إلى بغداد وخرج أبو طاهر سنة خمس عشرة وقصد الكوفة وجاء الخبر إلى ابن أبي الساج فخرج من واسط آخر رمضان يسابق أبا طاهر إليها فسبقـه أبـو طاهـر وهرب العمال عنها واستولى على الأتراك والعلوفات التي أعدت بها‏.‏ ووصل ابـن أبـي السـاج ثامـن شـوال بعـد وصـول أبـي طاهر بيوم وبعث يدعوه إلى الطاعة للمقتدر فقال لا طاعة إلا لله فآذنه بالحرب وتزاحفوا يوماً إلى الليل‏.‏ ثـم انهـزم أصحـاب ابـن أبـي السـاج وأسروا ووكل أبو طاهر طبيباً يعالج جراحته ووصل المنهزمون ببغداد فأرجفوا بالهرب وبرز مؤنس المظفر لقصد الكوفة‏.‏ وقد سار القرامطة إلى عين التمر فبعث مؤنس من بغداد خمسمائة سرية ليمنعهم من عبور الفرات‏.‏ ثم قصد القرامطة الأنبار ونزلوا غربـي الفـرات وجـاؤوا بالسفـن مـن الحديثـة فأجـاز فيهـم ثلثمائـة منهـم وقاتلـوا عسكـر الخليفـة فهزموهـم واستولـوا علـى مدينـة الأنبـار‏.‏ وجـاء الخبـر إلـى بغـداد فخـرج الحاجـب فـي العساكر ولحـق بمؤنـس المظفـر واجتمعـوا فـي نيـف وأربعيـن ألـف مقاتـل إلـى عسكـر القرامطـة ليخلصـوا ابن أبي السـاج فقاتلهـم القرامطة وهزموهم‏.‏ وكان أبو طاهر قد نظر إلى ابن أبي الساج وهو يستشرف إلى الخلاص وأصحابه يشيرونه فأحضره وقتله وقتل جميع الأسرى من أصحابـه وكثـر الهـرج ببغداد واتخذوا السفن بالانحدار إلى واسط ومنهم من نقل متاعه إلى حلوان‏.‏ وكان نازوك صاحب الشرطة فأكثر التطواف بالليل والنهار وقتل بعض الدعار فاقصروا عن‏.‏ثـم سـار القرامطـة عـن الأنبار فاتحة سنة ست عشرة ورجع مؤنس إلى بغداد وسار أبو طاهر إلى الرحبة فملكها واستباحها واستأمن إليه أهل قرقيسيا فأمنهم وبعث السرايا إلى الأعراب بالجزيـرة فنهبوهـم وهربـوا بيـن يديـه وقـدر إليهـم الأتـاوة فـي كـل سنـة يحملونهـا إلـى هجـر‏.‏ ثـم سـار أبـو طاهر إلى الرقة وقاتلها ثلاثاً وبعث السرايا إلى رأس عين وكفر توثا وسنجار فاستأمنوا إليهم وخرج مؤنس المظفر من بغداد في العسكر وقصد الرقة فسار أبو طاهر عنها إلى الرحبة ووصلها مؤنس وسار القرامطة إلى هيت فامتنعت عليهم فساروا إلى الكوفة‏.‏ وخـرج مـن بغـداد نصـر الحاجـب وهـارون بـن غريـب وبنـي بـن قيـس فـي العساكر إليها ووصلت جند القرامطة إلى قصر ابن هبيرة‏.‏ ثم مرض نصر الحاجب واستخلف على عسكره أحمد بن كيغلغ وعاد فمـات فـي طريقـه وولـى مكانـه علـى عسكـره هـارون بـن غريـب وولـى مكانـه فـي الحجة ابنه أحمد‏.‏ ثم انصرف القرامطة إلـى بلادهـم ورجـع هـارون إلـى بغـداد فـي شـوال مـن السنـة‏.‏ ثـم اجتمـع بالسـواد جماعات من أهل هذا المذهب بواسط وعين التمر وولى كل جماعة عليهم رجلاً منهم فولى جماعـة واسـط حريث بن مسعود وجماعة عين التمر عيسى بن موسى وسار إلى الكوفة ونزل بظاهرها وصرف العمال عن السواد وجبي الخراج‏.‏ وسار حريث إلى أعمال الموفق وبنى بها داراً سماها دار الهجرة واستولى على تلك الناحية وكان صاحـب الحـرب بواسـط بنـي بـن قيس فهزموه فبعث إليه المقتدر هارون بن غريب في العساكر وإلى قرامطة الكوفة صافيا البصري فهزموهم من كل جانب وجاؤوا بأعلامهم بيضاء عليها مكتوب‏:‏ ‏"‏ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فـي الـأرض ‏"‏ الآيـة وأدخلـت إلـى بغـداد منكوسـة واضمحـل أمـر القرامطـة بالسواد‏.‏

استيلاء القرامطة على مكة وقلعهم الحجر الأسود
ثـم سار أبو طاهر القرمطي سنة تسع عشرة إلى مكة وحج بالناس منصور الديلمي فلما كان يوم التروية نهب أبو طاهر أموال الحجاج وفتك فيهم بالقتل حتى في المسجد والكعبة واقتلع الحجـر الأسـود وحملـه إلـى هجـر وخـرج إليه أبو مخلب أمير مكة في جماعة من الأشراف وسألوه فلم يسعفهم وقاتلوه فقتلهم وقلع باب البيت وأصعد رجلاً يقتلع الميزاب فسقط فمات وطرح القتلى في زمزم ودفن الباقين في المسجد حيث قتلوا ولم يغسلوا ولا صلي عليهم ولا كفنوا‏.‏ وقسم كسوة البيت على أصحابه ونهب بيوت أهل مكة وبلغ الخبر إلى المهدي عبيـد اللـه بإفريقية وكانوا يظهرون الدعاء له فكتب إليه بالنكير واللعن ويتهدده على الحجر الأسود فرده وما أمكنه من أموال الناس واعتذر عن بقية ما أخذوه بافتراقه في الناس‏.‏

خلع المقتدر وعوده
كـان مـن أول الأسبـاب الداعيـة لذلـك أن فتنـة وقعـت بين ماجوريه هارون الحال ونازوك صاحب الشرطة في بعض مذاهب الفواحش فحبس نازوك ماجوريه هارون وجاء أصحابه إلـى محبس الشرطة ووثبوا بنائبه وأخذوا أصحابهم من الحبس‏.‏ ورفع نازوك الأمر إلى المقتدر فلم يعد أحداً منهما لمكانهما منه فعاد الأمر بينهما إلى المقاتلة‏.‏ وبعث المقتدر إليهما بالنكير فاقصـرا واستوحـش هـارون وخرج بأصحابه ونزل البستان النجمي وبعث إليه المقتدر يسترضيه فأرجف الناس أن المقتدر جعله أمير الأمـراء فشـق ذلـك علـى أصحـاب مؤنـس‏.‏ وكـان بالرقـة فكتبـوا إليـه فأسـرع العـود إلى بغداد ونزل بالشماسية مستوحشاً من المقتدر ولم يلقه وبعث ابنه أبا العباس ووزيره ابن مقلة لتلقيـه وإيناسـه فلـم يقبـل وتمكنـت الوحشـة وأسكـن المقتدر ابن خاله هارون معه في داره فازداد نفور مؤنس‏.‏ وجاء أبو العباس بن حمدان من بلاده في عسكر كبير فنزل عند مؤنس وتردد الأمراء بين المقتدر ومؤنس وسار إليه نازوك صاحب الشرطة وجاءه بني بن قيس‏.‏ وكان المقتدر قد أخـذ منه الدينور وأعادها إليه مؤنس واشتمل عليه‏.‏ وجمع المقتدر في داره هارون بن غريب وأحمد بن كيغلغ والغلمان الحجرية والرجال المصافية‏.‏ ثم انتقض أصحاب المقتدر وجاؤوا إلى مؤنـس وذلـك فـي فتـح سنـة سبـع عشـرة‏.‏ فكتـب مؤنـس إلـى المقتـدر بـأن النـاس ينكـرون سرقـه فيما أقطع الحرم والخدم من الأموال والضياع ورجوعه إليهم في تدبير ملكه ويطالبه بإخراجهم من الدار وإخراج هارون بن غريب معهم وانتزاع ما في أيديهـم مـن الأمـوال والأملـاك‏.‏ فأجـاب المقتـدر إلـى ذلـك وكتـب يستعطفـه ويذكره البيعة ويخوفه عاقبة النكث وأخرج هارون إلى الثغور الشامية والجزرية فسكن مؤنس ودخل إلى بغداد ومعه ابن حمدان ونازوك والناس يرجفون بأنه خلع المقتدر‏.‏ فلمـا كـان عشـر محـرم مـن هـذه السنة ركب مؤنس إلى باب الشماسية وتشاور مع أصحابه قليلاً ثم رجعوا إلى دار الخليفة بأسرهم وكان المقتدر قد صرف أحمد بن نصـر القسـوري عـن الحجابة وقلدها ياقوتاً وكان على حرب فارس فاستخلف مكانه ابنه أبا الفتح المظفر‏.‏ فلما جاء مؤنس إلى الدار هرب ابن ياقوت وسائر الحجبة والخدم والوزير وكل من بالدار ودخل مؤنس فأخرج المقتدر وأمه وولده وخواص جواريه فنقلهم إلى داره واعتقلهم بهـا وبلـغ الخبـر هارون بن غريب بقطربل فدخل إلى بغداد واستتر ومضى ابن حمدان إلى دار ابن طاهر فأحضر محمد بن المعتضد وبايعوه ولقبوه القاهر بالله‏.‏ وأحضروا القاضي أبا عمر المالكي عند المقتـدر للشهـادة عليـه بالخلـع وقـام ابـن حمـدان يتأسـف لـه ويبكـي ويقول‏:‏ ‏"‏ كنت أخشى عليك مثل هذا ونصحتك فلم تقبـل وآثـرت قـول الخـدم والنسـاء علـى قولـي ومـع هـذا فنحـن عبيـدك وخدمك ‏"‏‏.‏ وأودع كتاب الخلع عند القاضي أبي عمر ولم يظهر عليه أحداً حتى سلمه إلى المقتـدر بعـد عـوده فحسـن موقـع ذلك منه وولاه القضاء ولما تم الخلع عمد مؤنس إلى دار الخليفة فنهبها ومضى ابن نفيس إلى تربة أم المقتدر فاستخرج من بعض قبورها ستمائة ألف دينار وحملها إلى القاهر‏.‏ وأخـرج مؤنـس علـي بـن عيسـى الوزيـر من الحبس وولى علي بن مقلة الوزارة وأضاف إلى نازوك الحجابة مع الشرطة وأقطع ابن حمدان حلوان والدينور وهمـذان وكرمـان والصيـدرة ونهاونـد وشيراز وماسبذان مضافاً إلى ما بيده من أعمال طريق خراسان وكان ذلك منتصف المحرم‏.‏ ولما تقلد نازوك الحجابة أمر الرجالة بتقويض خيامهم من الدار وأدالهم ابن جالة من أصحابه فأسفهم بذلك وتقدموا إلى خلفاء الحجاب بأن يمنعوا الناس من الدخول إلا أصحاب المراتب فاضطربت الحجرية لذلك فلما كان سابع عشر المحرم وهو يوم الاثنين بكر الناس إلى الخليفة لحضور الموكب وامتلأت الرحاب وشاطئ دجلة بالناس وجاء الرجالة المصافية شاكي السلاح يطالبون بحق البيعة ورزق سنة وقد بلغ منهم الحنق على نازوك مبالغه‏.‏ وقعد مؤنس عن الحضور ذلك اليوم وزعق الرجالة المصافية فنهى نازوك أصحابه أن يعرضوا لهم فزاد شغبهم وهجموا على الصحن المنيعي ودخل معهم من كان على الشط من العامة بالسلـاح والقاهـر جالس وعنده علي بن مقلة الوزير ونازوك‏.‏ فقال لنازوك‏:‏ اخرج إليهم فسكنهم فخرج وهو متحامل من الخمار فتقدم إلى الرجالة للشكوى بحالهم ورأى السيوف في أيديهم فهرب فحدث لهم الطمع فيه وفي الدولة واتبعوه فقتلوه وخادمه عجيفاً ونادوا بشعار المقتدر‏.‏ وهرب كل من في الديار من سائر الطبقات وصلبوا نازوك وعجيفاً على شاطىء دجلة‏.‏ ثم ساروا إلى دار مؤنـس يطلبـون المقتـدر وأغلـق الخـادم أبـواب دار الخليفـة وكانـوا كلهـم صنائـع المقتـدر‏.‏ وقصـد أبـو الهيجـاء حمـدان الفـرات فتعلـق بـه القاهـر واستقـدم به فقال له اخرج معي إلى عشيرتـي أقتـل دونـك فوجـد الأبـواب مغلقـة فقال له ابن حمدان‏:‏ قف حتى أعود إليك ونزع ثيابه ولبس بعض الخلقان وجاء إلى الباب فوجده مغلقاً والناس من ورائه فرجع إلى القاهر وتمالأ بعض الخدام على قتله فقاتلهم حتى كشفهم ودخل في بعض مسارب البستان فجاؤوه فخرج إليهم فقتلوه وحملوا رأسه‏.‏ وانتهى الرجالة إلى دار مؤنس يطلبون المقتدر فسلمه إليهم وحملوه على رقابهم إلى دار الخلافة فلما توسط الصحن المنيعي اطمأن وسأل عن أخيه القاهر وابن حمدان وكتب لهما الأمان بخطه وبعث فيهما فقيل له أن ابن حمدان قد قتل فعظم عليه وقال واللـه مـا كـان أحمد بسيف في هذه الأيام غيره وأحضر القاهر فاستدناه وقبل رأسه وقال له لا ذنـب لـك ولـو لقبـوك المقهـور لكـان أولى من القاهر وهو يبكي ويتطارح عليه حتى حلف له على الأمان فانبسط وسكن‏.‏ وطيف برأس نازوك وابن حمدان وخرج أبو نفيس هارباً من مكان استتاره إلى الموصل ثم إلى أرمينية ولحق بالقسطنطينية فتنصر وهرب أبو السرايا أخو أبي الهيجاء إلى الموصل وأعـاد المقتـدر أبـا علـي بـن مقلـة إلـى الـوزارة وأطلـق للجنـد أرزاقهـم وزادهـم‏.‏ وبيـع مـا فـي الخزائـن بأرخـص الأثمـان وأذن فـي بيع الأملاك لتتمة الأعطيات وأعاد مؤنساً إلـى محلـه مـن تدبيـر الدولـة والتعويـل عليـه فـي أمـوره‏.‏ ويقال إنه كان مقاطعاً للمقتدر وإنه الذي دس إلـى المصافيـة والحجريـة بمـا فعلـوه ولذلـك قعـد عـن الحضور إلى القاهر‏.‏ ثم إن المقتدر حبس أخاه أخبار قواد الديلم وتغلبهم على أعمال الخليفة قـد تقـدم لنـا الخبـر عـن الديلـم فـي غيـر موضع من الكتاب وخبر افتتاح بلادهم بالجبال والأمصار التي تليها أمثل طبرستان وجرجان وسارية وآمد واستراباذ وخبر إسلامهم على يد الأطروش وأنه جمعهم وملك بهم بلاد طبرستان سنة إحدى وثلثمائة وملك من بعده أولاد والحسن بن القاسم الداعي صهره واستعمل منهم القواد على ثغورها‏.‏ فكان منهم ليلى بن النعمان كانت إليـه ولايـة جرجـان عـن الحسـن بـن القاسـم الداعـي سنـة ثمـان وثلاثيـن‏.‏ وكانـت بيـن بنـي سامـان وبين بنـي الأطـروش والحسـن بـن القاسم الداعي وقواد الديلم حروب هلك فيها ليلى بن النعمان سنة تسـع وثلاثمائـة لـأن أمر الخلفاء كان قد انقطع عن خراسان وولوها لبني سامان‏.‏ فكانت بسبب ذلك بينهم وبين أهل طبرستان من الحروب ما أشرنا إليه‏.‏ ثـم كانـت بعـد ذلك حرب مع بني سامان فولاها من قواد الديلم شرخاب بن بهبودان وهو ابن عـم ماكـان بـن كالـي وصاحـب جيـش أبي الحسن الأطروش وقاتله سيمجور صاحب جيش بني سامـان فهزمـه وهلـك شرخـاب وولـى ابـن الأطـروش ما كان ابن كالي على استراباذ‏.‏ فاجتمع إليه الديلـم وقدمـوه علـى أنفسهم واستولى على جرجان كما يذكر ذلك كله في أخبار العلوية‏.‏ وكان مـن أصحـاب مـا كـان هـذا أسفـار ابـن شيرويـه من قواد الديلم عن ما كان إلى قواد بني سامان‏.‏ فاتصـل ببكـر بـن محمـد بـن اليسع بنيسابور وبعثه في الجنود لافتتاح جرجان وبها أبو الحسن بن كالـي نائبـاً عـن أخيـه ماكـان وهـو بطبرستـان‏.‏ فقتـل أبـو الحسـن وقـام بأمـر جرجـان علـي بـن خرشيـد‏.‏ وعلى أسفار ابن شيرويه إلى حمايتها من ما كان فزحف إليهم من طبرستان فهزموه وغلبوه عليها ونصبوا أبا الحسن وعلي بن خرشيد‏.‏ فزحف ماكان إلى أسفار وهزمه وغلبه على طبرستان ورجع إلى بكر بن محمد بن اليسع بجرجان‏.‏ ثـم توفـي بكـر سنة خمس عشرة فولى نصر بن أحمد بن سامان أسفار بن شيرويه مكانه على جرجان وبعث أسفار عن مرداوبج بن زيار الجبلي وقدمه على جيشه وقصدوا طبرستان فملكوها‏.‏ وكان الحسن بن القاسم الداعي قد استولى على الري وأعمالها من يد نصر بن سامان ومعه قائده ماكان بن كالي‏.‏ فلما غلب أسفار على طبرستان زحف إليه الداعـي وقائـده ماكـان فانهزمـا وقتـل الداعـي ورجـع ماكـان الـري واستولـى أسفـار بـن شيرويـه على طبرستان وجرجان‏.‏ ودعا لنصر بن أحمد بن سامان ونزل سارية واستعمل على آمد هارون بـن بهـرام‏.‏ ثـم سـار أسفـار إلـى الري فأخذها من يد ماكان بن كالي وسار ماكان إلى طبرستان واستولى أسفار على سائر أعمال الري وقزوين وزنجان وأبهروقم والكرخ وعظمت جيوشـه وحدثته نفسه بالملك فانتقض على نصـر بـن سامـان صاحـب خراسـان واعتـزم علـى حربـه وحرب الخليفة‏.‏ وبعـث المقتـدر هـارون بـن غريـب الحـال في عسكر إلى قزوين فحاربه أسفار وهزمه وقتل كثيراً مـن أصحابـه‏.‏ ثـم زحـف إليـه نصـر بـن سامـان مـن بخـارى فراسله في الصلح وضمان أموال الجباية فأجابه وولاه ورجع إلى بخارى فعظـم أمـر أسفـار وكثـر عيثـه وعسـف جنـده وكـان قائـده مرداويج من أكبر قواده قد بعثه أسفار إلى سلار صاحب سميرم والطرم يدعوه إلى طاعته‏.‏ فاتفـق مـع سلار على الوثوب بأسفار وقد باطن في ذلك جماعة من قواد أسفار ووزيره محمد بـن مطـرف الجرجانـي‏.‏ ونمـي الخبـر إلـى أسفـار وثـار بـه الجنـد فهـرب إلى بيهق‏.‏ وبراء مرداويج من قزويـن إلى الري وكتب إلى ماكان بن كالي يستدعيه من طبرستان ليظاهره على أسفار فقصد ما كان أسفار فهرب أسفار إلى الري ليتصل بأهله وماله وقد كان أنزلهم بقلعة المرت وركب المفازة إليها ونمي الخبر إلى مرداويج فسار لاعتراضه‏.‏ وقدم بعض قواده أمامه فلحقه القائد وجـاء بـه إلـى مرداويـح فقتلـه ورجع إلى الري ثم إلى قزوين وتمكن في الملك وافتتح البلاد وأخذ همـذان والدينـور وقـم وقاشـان وأصبهـان وأساء السيرة في أهل أصبهان وصنع سريراً من ذهب لجلوسه‏.‏ فلما قوي أمره نازع ماكان في طبرستان فغلبه عليها‏.‏ ثم سار إلى جرجان فملكها وسار ما كان على الديلم مستنجداً بأبي الفضل الثائر بها وسار معه إلى طبرستان فقاتلهم عاملها من قبل مرداويح بالقسم ابن بايحين وهزمهم ورجع الثائر إلى الديلم وسار ماكان إلى نيسابور ثم سار إلى الدامغان فصده عنها القسم فعاد إلى خراسان‏.‏ وعظم أمر مرداويج واستولـى علـى بلـد الـري والجبـل واجتمع إليه الديلم وكثرت جموعه وعظم خرجه‏.‏ فلم يكف ما في يده من الأعمال فسما إلى التغلب على النواحي فبث إلى همذان الجيوش مع ابن أخته وكانت بها عساكر الخليفة مع محمد بن خلف فحاربهم وهزمهم وقتل ابن أخت مرداويـج‏.‏ فسار من الري إلى همذان وهرب عسكر الخليفة عنها وملكها مرداويج عنوة واستباحها‏.‏ ثم أمن بقيتهم‏.‏ وأنفذ المقتدر هارون بن غريب الحال في العساكر فلقيه مرداويج وهزمهم واستولى على بلاد الجبل وما وراء همذان وبعث قائده إلى الدينور ففتحها عنـوة وانتهـت عساكـره إلـى حلـوان فقتل وسبى‏.‏ وسار هارون إلى قرقيسيا فأقام بها واستمد المقتدر وكان معه اليشكري من قـواد أسفـار وكـان قـد استأمن بعد أسفار إلى الخليفة وسار في جملته‏.‏ وجاء مع هارون في هـذه الغـزاة إلـى نهاونـد لحمـل المـال إليـه منهـا‏.‏ فلمـا دخلها استمدت عينه إلى ثروة أهلها فصادرهم علـى ثلاثـة آلاف ألف دينار واستخرجها في مدة أسبوع وجند بها جنداً ومضى إلى أصبهان وبها يومئذ ابن كيغلغ قبل استيلاء مرداويج عليها فقاتله أحمد وانهزم وملك اليشكري أصبهان ودخل إليها أصحابه وقام بظاهرها‏.‏ وسـار أحمـد بـن كيغلـغ فـي ثلاثيـن فارسـاً إلـى بعـض قـرى أصبهان وركب اليشكري ليتطوف على السـور فنظـر إليهم فسار نحوهم فقاتلوه وضربه أحمد بن كيغلغ على رأسه بالسيف فقد المغفر وتجـاوزه إلـى دماغـه فسقـط ميتاً‏.‏ وقصد أحمد المدينة ففر أصحاب اليشكري ودخل أحمد إلى أصبهـان وذلـك قبـل استيـلاء عسكـر مرداويـج عليها فاستولى عليها وجمدوا له فيها مساكن أحمد بـن عبد العزيز بن أبي دلف العجلي وبساتينه وجاء مرداويح في أربعين أو خمسين ألفاً فنزلها وبعث جمعاً إلى الأهواز فاستولوا عليها والي خوزستان كذلك وجبى أموالها وقسم الكثير منها في أصحابه وادخر الباقي وبعث إلى المقتدر يطلب ولاية هذه الأعمال وإضافة همذان وماه الكوفة إليها على مائتي ألف دينار كل سنـة فأجابـه وقاطعـه وولـاه وذلـك سنـة تسـع عشـرة‏.‏ ثم دعا مرداويح سنة عشرين أخاه وشكمير من بلاد كيلان فجاء إليه بدوياً حافياً بما كـان يعانـي مـن أحـوال البـداوة والتبـذل فـي المعـاش ينكـر كل ما يراه من أحوال الترف ورقة العيش‏.‏ ثـم صـار إلـى ترف الملك وأحوال الرياسة فرقت حاشيته وعظم ترفه وأصبح من عظماء الملوك وأعرفهم بالتدبير والسياسة‏.‏ كان بداية أمره عاملاً على الأهواز وضبط ابن ماكرلان هذا الاسم بالموحـدة والـراء المهملـة نسبـة إلـى البريـد‏.‏ وضبطـه ابـن مسكويـه باليـاء المثنـاة التحتانيـة والـزاي نسبـة إلـى يزيـد بـن عبـد اللـه بـن المنصور الحميري كان جده يخدمه ولما ولي علي بن عيسى الوزارة واستعمل العمال وكان أبو عبد الله قد ضمن الخاصة بالأهواز وأخوه أبو يوسف على سوق فائق من الاقتصارية وأخوه على هذا‏.‏ فلما وزر أبو علي بن مقلة بذل له عشرين ألف دينار على أن يقلده أعمالاً فائقة فقلده الأهواز جميعها غيـر السـوس وجناسبـور وقلـد أخـاه أبـا الحسـن القرآنيـة وأخاهمـا أبـا يوسف الخاصة والأسافل وضمن المال أبا يوسف السمسار وجعل الحسين بن محمد المارداني مشرفـاً علـى أبي عبد الله فلم يلتفت إليه وكتب إليه الوزير ابن مقلة بالقبض على بعض العمال ومصادرته‏.‏ فأخذ منه عشرة آلاف دينار واستأثر بها على الوزير فلما نكب ابن مقلة كتب المقتـدر بخطه إلى الحاجب أحمد بن نصر القسوري بالقبض على أولاد البريدي وأن لا يطلقهم إلا بكتابـه فقبـض عليهـم وجـاء أبـو عبـد اللـه بكتـاب المقتـدر بخطـه بإطلاقهـم‏.‏ وظهـر تزويره فأحضرهم إلى بغداد وصودروا على أربعمائة ألف دينار فأعطوها‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 10:26 PM

الصوائف أيام المقتدر
سار مؤنس المظفر سنة ست وتسعين في العساكر من بغداد إلى الفرات ودخل من ناحية ملطيـة ومعـه أبـو الأغـر السلمـي فظفـر وغنـم وأسـر جماعـة‏.‏

وفي سنة سبع وتسعين
بعث المقتدر أبا القاسم بن سيما لغـزو الصائفـة سنـة ثمـان وتسعيـن‏.‏

وفي سنة تسـع وتسعيـن
غـزا بالصائفـة رستـم أمير الثغور ودخل من ناحية طرسـوس ومعـه دميانـة وحاصـر حصـن مليـح الأرمنـي ففتحـه وأحرقـه‏.‏

وفي سنة ثلاثمائـة
مـات اسكنـدروس بـن لـاور ملـك الـروم وملـك بعـده ابنه قسطنطين ابن اثنتـي عشـرة سنـة‏.‏

وفي سنة اثنتيـن وثلاثمائـة
سـار علـي بـن عيسى الوزير في ألف فارس لغزو الصائفـة لبسـر الخـادم عامـل طرسـوس ولـم يتيسـر لهـم الدخـول فـي المصيـف فدخلـوا شاتية في كلب البرد وشدته وغنموا وسبوا‏.‏

وفي سنة اثنتيـن وثلاثمائـة
غـزا بسـر الخـادم والـي طرسـوس بلـاد الـروم ففتـح وغنـم وسبـى وأسـر مائـة وخمسين وكان السبي نحواً من ألفي راس‏.‏

وفي سنة ثلاث وثلاثمائة
أغارت الروم على ثغور الجزيرة ونهبوا حصن منصور وسبوا أهله بتشاغل عسكر الجزيرة بطلب الحسين بن حمدان مع مؤنس حتى قبض عليه كما مر‏.‏ وفي هذه السنة خرج الروم إلى ناحية طرسوس والفرات‏.‏ فقاتلـوا وقتلـوا نحـواً مـن ستمائـة فـارس‏.‏ وجاء مليح الأرمني إلى مرعش فعاث في نواحيها‏.‏ ولم يكن للمسلمين في هذه السنة صائفة‏.‏

وفي سنة أربع
بعدها سار مؤنس المظفر بالصائفة ومر بالموصل فقلد سبكا المفلحي باريدي وقردي من أعمال الفرات وقلد عثمان العبودي مدينة بلد وسنجار ووصيفاً البكتمري باقي بلاد ربيعة وسار إلى ملطية فدخل منها وكتب إلى أبي القاسم علي بن أحمد بن بسطام أن يدخـل مـن طرسـوس فـي أهلها ففتح مؤنس حصوناً كثيرة وغنم وسبى ورجع إلى بغداد فأكرمه المعتضد وخلع عليه‏.‏

وفي سنة خمس وثلاثمائة
وصل رسولان من ملك الروم إلى المقتدر في المهادنة والفداء فتلقيا بالإكرام وجلس لهما الوزير في الأبهة وصف الأجناد بالسلاح العظيم الشأن والزينـة الكاملـة فأديـا إليـه الرسالـة وأدخلهمـا مـن الغـد على المقتدر وقد احتفل في الأبهة ما شاء‏.‏ فأجابهما إلى مـا طلـب ملكهـم‏.‏ وبعـث مؤنسـاً الخـادم للفداء وجعله أميراً على كل بلد يدخله إلى أن ينصرف‏.‏ وأطلق الأرزاق الواسعة لمن سار معه من الجنود وأنفذ معه مائة وعشرين ألف دينار للفدية‏.‏ وفيهـا غـزا الصائفـة جنـا الصفوانـي فغنـم وغـزا وسيـر نمالـي الخادم في الأسطول فغنم‏.‏ وفي السنة بعدها غزا نمالي في البحر كذلك وجنا الصفواني فظفر وفتح وعاد وغزا بشر الأفشين بلاد الروم ففتح عدة حصون وغنم وسبى‏.‏

وفي سنة سبع
غزا نمالي في البحر فلقي مراكب المهدي صاحب إفريقية فغلبهم وقتل جماعة منهم وأسر خادماً للمهدي‏.‏

وفي سنة عشر وثلاثمائة
غزا محمد بن نصر الحاجب من الموصل على قاليقلا فأصاب من الروم‏.‏ وسار أهل طرسوس من ملطية فظفروا واستباحوا وعاثوا‏.‏

وفي سنة إحـدى عشـرة
غـزا مؤنـس المظفـر بلـاد الروم فغنم وفتح حصوناً‏.‏ وغزا نمالي في البحر فغنـم ألـف رأس مـن السبي وثمانية آلاف من الظهر ومائة ألف من الغنم وشيئاً كثيراً من الذهب والفضة‏.‏

وفي سنة اثنتي عشرة
جاء رسول ملك الروم بالهدايا ومعه أبو عمر بن عبد الباقي يطلبان الهدنة وتقرير الفداء فأجيبا إلى ذلك‏.‏ ثم غدروا بالصائفة فدخل المسلمون بلاد الروم فأثخنوا ورجعـوا‏.‏

وفي سنة أربـع عشـرة
خرجـت الروم إلى ملطية ونواحيها من الدمستق ومليح الأرمني صاحـب الـدروب وحاصـروا ملطيـة وهربـوا إلـى بغـداد واستغاثـوا فلم يغاثوا‏.‏ وغزا أهل طرسوس بالصائفة فغنموا ورجعوا‏.‏

وفي سنة خمس عشرة
دخلت سرية من طرسوس إلى بلاد الروم فأوقـع بهـم الـروم وقتلـوا أربعمائة رجل صبراً وجاء الدمستق في عساكر من الروم إلى مدينة دبيل وبها نصر السبكي فحاصرها وضيق مخنقها واشتد في قتالها حتى نقـب سورهـا ودخـل الـروم إليهـا ودفعهـم المسلمـون فأخرجوهـم وقتلـوا منهـم بعـد أن غنمـوا مـا لا يحصـى وعاثوا في أنعامهم فغنموا من الغنم ثلاثمائـة ألـف رأس فأكلوهـا‏.‏ وكـان رجـل مـن رؤساء الأكراد يعرف بالضحاك في حصن له يعرف بالجعبـري فتنصـر وخـدم ملـك الـروم فلعيـه المسلمون في سنة الغزاة فأسروه وقتلوا من معه‏.‏

وفي سنة ست عشرة وثلاثمائة
خرج الدمستق في عساكر الروم فحاصر خلاط وملكها صلحـاً وجعل الصليب في جامعها ورحل إلى تدنيس ففعل بها كذلك‏.‏ وهرب أهل أردن إلى بغداد واستغاثوا فلم يغاثوا‏.‏ وفيهـا ظهـر أهل ملطية على سبعمائة رجل من الروم والأرمن دخلوا بلدهم خفية وقدمهم مليح الأرمنـي ليكونـوا لهـم عونـاً إذا حاصروهـا فقاتلهـم أهل ملطية عن آخرهم‏.‏

وفي سنة سبع عشرة
بعث أهل الثغور الجزرية مثل ملطية وفارقين وآمد وارزا يستمدون المقتدر في العساكر وإلا فيعطوا الأتاوة للروم فلم يمدهم فصالحوا الروم وملكوا البلاد‏.‏ وفيها دخل مفلح الساجي بلاد الـروم‏.‏

وفي سنة عشريـن
غـزا نمالـي بلـاد الـروم مـن طرسـوس ولقي الروم فهزمهم وقتل منهم ثلثمائة وأسـر ثلاثـة آلـاف وغنـم مـن الفضـة والذهـب شيئـاً كثيـراً وعـاد بالصائفـة فـي سنته في حشد كثير وبلغ عمورية فهرب عنها من كان تجمع إليها من الروم ودخلها المسلمون فوجدوا من الأمتعة والأطعمة كثيراً فغنموا وأحرقوا وتوغلوا في بلاد الروم يقتلون ويكتسحون ويخربون حتى بلغوا انكموريـة التـي مصرهـا أهـده وعادوا سالمين‏.‏ وبلغت قيمة السبي مائة ألف وستة وثلاثين ألف دينار‏.‏ وفي هذه السنة راسل ابن الريداني وغيره من الأرمن في نواحي أرمينية وحثوا الروم على قصد بلاد الإسلام فساروا وخربوا نواحي خلاط وقتلوا وأسروا فسار إليهم مفلح غلام يوسـف بـن أبـي السـاج من أذربيجان في جموع من الجند والمتطوعة فأثخن في بلاد الروم حتى يقـال إن القتلـى بلغـوا مائـة ألف وخرب بلاد ابن الريداني ومن وافقه وقتل ونهب‏.‏ ثم جاءت الروم إلى سميساط فحصروها وأمدهم سعيد بن حمدان وكان المقتدر ولاه الموصل وديار ربيعة على أن يسترجع ملطية من الروم‏.‏ فلما جاء‏.‏ رسول أهل سميساط إليهم فأجفل الروم عنها فسار إلى ملطية وبها عساكر الروم ومليح الأرمني صاحب الثغور الرومية وبني ابن قيس صاحب المقتدر الذي تنصر‏.‏ فلما أحسوا بإقبال سعيد هربوا وتركوها خشية أن يثب بهم أهلها وملكها سعيد فاستخلف عليها وعاد إلى الموصل‏.‏

الولايات على النواحي أيام المقتدر
كان بأصبهان عبد الله بن إبراهيم السمعي عاملاً عليها خالف لأول ولاية المقتدر وجمع من الأكـراد عشـرة آلـاف وأمـر المقتـدر بمـرا الحمامـي عامل أصبهان بالمسير إليه‏.‏ فسار إليه في خمسة آلاف من الجند وأرسل من يخوفه عاقبة المعصية فراجع الطاعة وسار إلى بغداد واستخلف علـى أصبهـان‏.‏ وكـان علـى اليمـن المظفر بن هاج‏.‏ ففتح ما كان غلب عليه الحرثي باليمن وأخذ الحاتمـي مـن أصحابـه‏.‏ وكـان علـى الموصـل أبو الهيجاء بن حمدان وسار أخوه الحسين بن حمدان وأوقـع بأعـراب كلـب وطـيء وأسـر سنـة أربـع وتسعيـن‏.‏ ثـم سـار إلـى الأكراد المتغلبين على نواحي الموصـل سنـة خمـس وتسعيـن فاستباحهـم وهربـوا إلـى رؤوس الجبـال‏.‏ وخرج بالحاج في سنة أربع وتسعين رصيف بن سوارتكين فحصره أعراب طيء بالقتال وأوقعهم فهزمهـم ومضـى إلـى وجهه‏.‏ ثم أوقع بهم هنالك الحسن بن موسى فأثخن فيهم‏.‏ وكان على فارس سنة ست وتسعين اليشكري غلام عمرو بن الليث فلما تغلب وكان على الثغور الشامية أحمد بن كيغلغ في سنة سبع وتسعين ملك الليث فارس من يد اليشكري ثم جـاءه مؤنـس فغلبـه وأسـره ورجـع اليشكـري إلـى عملـه كمـا مـر فـي خبـره‏.‏

وفي سنة ست وتسعين
وصـل ناسـر موسى بن سامان وقلد ديار ربيعة وقد مر ذكره‏.‏ وفيها رجع الحسين بن حمدان من الخلاف وعقد له على قم وقاشان فسار إليها ونزل عنها العباس بن عمر الغنوي‏.‏

وفي سنة سبـع وتسعيـن
توفـي عيسـى النوشـري عامـل مصـر وولـى المقتـدر مكانـه تكيـن الخـادم‏.‏

وفي سنة ثمـان وتسعيـن
توفـي منيـح خـادم الأفشيـن وهـو علـى فـارس وكـان معـه محمد بن جعفر الفريابي فماتـا معـاً وولـى علـى فـارس عبـد اللـه بن إبراهيم المسمعي وأضيفت إليه كرمان‏.‏ وفيها وليت أم موسى الهاشمية قهرمة دار المقتدر وكانت تؤدي الرسائل عن المقتدر وأمه إلى الوزراء وعن الوزراء إليهما‏.‏ وفي سنه تسع وتسعين كان على البصرة محمد بن إسحاق بن كنداج وجاء إليه القرامطة فقاتلهم فهربـوا‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 11:14 PM

وفي سنة ثلاثمائـة
عـزل إبراهيـم بـن عبـد اللـه المسمعـي عـن فـارس وكرمـان ونقـل إليهـا بـدر الحمامـي عامـل أصبهان وولى على أصبهان علي بن وهشودان‏.‏ وفيها ولي بشير الأفشين طرسوس وفيها قلد أبو العباس بن المقتدر مصر والمغرب وهو ابن أربع سنين واستخلف له على مصر مؤنس المظفر وقلد معين الطولوني المعونة بالموصل‏.‏ ثم عزل واستعمل مكانه نحرير الصغيـر‏.‏ وفيهـا خالـف أبـو الهيجـاء عبـد اللـه بـن حمـدان بالموصل فسار إليه مؤنس وجاء به على الأمان‏.‏ ثم قلد الموصل سنة اثنتين وثلاثمائة فاستخلف عليها وهو ببغداد‏.‏ ثم خالف أخوه الحسيـن سنـة ثلثمائـة وسـار إليـه مؤنـس وجـاء بـه أسيـراً فحبـس‏.‏ وقبـض المقتـدر علـى أبي الهيجاء وأخوته جميعاً فحبسـوا‏.‏ وفيهـا ولـى الحسيـن بـن محمـد بـن عينونـة عامـل الخـراج والضيـاع بديـار ربيعـة بعد وفاة أبيه محمد بن أبي بكر‏.‏

وفي سنة أربـع
عـزل علـي بـن وهشـودان صاحـب الحـرب بأصبهـان بمنافـرة وقعت بينه وبين أحمد بن شاه صاحب الخراج وولى مكانه أحمد بن مسرور البلخي‏.‏ وأقام ابن وهشودان بنواحي الجبل‏.‏ ثم تغلب يوسف بن أبي الساج عليها كما مر وسار إليه مؤنس سنة سبع فهزمه وأسره وولى على أصبهان وقم وقاشان وساوة أحمد بن علي بل صعلوك وعلى الري ودنباوند وقزوين وأبهر وزنجان علي بن وهشودان اسمط عاه من الجبل فولـاه ووثـب بـه عمـه أحمـد بن مسافر صاحب الكرم فقتله بقزوين‏.‏ فاستعمل مكانه على الحرب وصيفاً البكتمري وعلى الخراج محمد بن سليمان‏.‏ ثـم سـار أحمـد بـن صعلـوك إليهـا فقتـل محمـد بـن سليمـان وطرد وصيفاً ثم قاطع على الأعمال بمال معلوم كما مر‏.‏ وكان على أعمال سجستان كثير بن أحمد مقهور متغلباً عليها فسار إليه أبو الحمامي عامل فارس فخافه كثيراً وقاطع على البلاد وعقد له عليها‏.‏ وكان على كرمان سنة أربـع وثلاثمائة أبو زيد خالد بن محمد المارداني فانتقض وسار إلى شيراز فقاتله بدر الحمامي وقتلـه‏.‏ وفـي هـذه السنـة قتـل مؤنـس المظفـر عنـد مسيـره إلـى الصائفـة وانتهائـه إلـى الموصل فولوا على بلـد باريـدي وقردى سبكاً المفلحي وعلى مدينة بلد وسنجار وباكري عثمان العبودي صاحب الحرب بديار مصر فولى مكانه وصيف البكتمري فعجز عن القيام بها فعزل وولى مكانه جنا الصفواني‏.‏ وكان علـى البصـرة فـي هـذه السنـة الحسـن بـن الخليـل تولاهـا منـذ سنيـن ووقعـت فتـن بينـه وبين العامة في مضر وربيعة واتصلت وقتل منهم خلق‏.‏ ثم اضطروه إلى الالتحاق بواسط فاستعمـل عليهـا أبـا دلـف هاشـم بـن محمـد الخزاعي ثم عزل لسنة وولى سبكاً المفلحي نيابة عن

وفي سنة ست وثلاثمائة
عزل عن الشرطة نزار وجعل فيها نجيح الطولوني فأقام في الأرباع فقهاء يعمل أهل الشرطة بفتواهم فضعفت الهيبـة بذلـك وكثـر اللصـوص والعيـارون وكبسـت دور التجار واختطفت ثياب الناس‏.‏

وفي سنة سبع وثلثمائة
ولي إبراهيم بن حمدان ديار ربيعة وولي بني بن قيس بلاد شهرزور واتسعت عليه فاستمد المقتدر وحاصرها‏.‏ ثم قلد الحرب بالموصل وأعمالها وكان على الموصل قبله محمد بن إسحاق بن كنداج وكان قد سار لإصلاح البلاد فوقعت فتنة بالموصل فرجع إليها فمنعوه الدخول فحاصرهم‏.‏ وعزلـه المقتـدر سنة ثلاث وثلاثمائة وولي مكانه عبد الله بن محمد الغساني‏.‏

وفي سنة ثمان وثلاثمائة
ولى المقتدر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان على طريق خراسان والدينور وفيها ولى على دقوقا وعكبرا وطريق الموصل بدراً الشرابي‏.‏

وفي سنة تسع
ولى المقتدر على حرب الموصل ومعونتها محمد بن نصر الحاجب فسار إليها وأوقع بالمخالفين من الأكراد المادرانيـة‏.‏ وفيهـا ولـى داود بـن حمـدان علـى ديـار ربيعـة‏.‏

وفي سنة عشـر
عقـد ليوسـف بـن أبـي السـاج على الري وقزوين وأبهر وزنجان وأذربيجان على تقدير العلوية كما مر‏.‏ وفيها قبض المقتدر على أم موسى القهرمانة لأنها كانت كثيرة المال وزوجت بنت أختهـا مـن بعـض ولـد المتوكـل كـان مرشحـاً للخلافـة وكـان محسنـاً‏.‏ فلمـا صاهرتـه أوسعـت في الشوار واليسار والعرس وسعى بها إلى المقتدر أنها استخلصت كالقواد فقبض عليها وصادرها على أموال عظيمة وجواهر نفيسة‏.‏ وفيها قتل خليفة نصر بن محمد الحاجب بالموصل قتله العامة فجهز العساكر من بغداد وسار إليها‏.‏

وفي سنة إحدى عشرة
ملك يوسف بن أبي الساج الري من يد أحمد بن علي صعلوك وقتله المقتدر وقد مر خبره‏.‏ وفيها ولى المقتدر بنى بن قيس على حرب أصبهان وولى محمد بن بدر المعتضدي على فارس مكان ابنه بدر عندما هلك‏.‏

وفي سنة اثنتي عشرة
ولى على أصبهـان يحيـى الطولونـي وعلـى المعاون والحرب بنهاوند سعيد بن حمدان‏.‏ وفيها توفي محمد بن نصـر الحاجـب صاحـب الموصـل وتوفـي شفيع اللؤلؤي صاحب البريد فولى مكانه شفيع المقتدري‏.‏

وفي سنة ثلـاث عشـرة
فتـح إبراهيم المسمعي عامل فارس ناحية القفص من حدود كرمان وأسر منهـم خمسـة آلـاف‏.‏ وكـان فـي هـذه السنـة ولـي علـى الموصـل أبـا الهيجـاء عبـد الله بن حمدان وابنه ناصر الدولة خليفة فيها فأفسد الأكراد والعرب بأرض الموصل وطريق خراسان وكانت إليه فكتب إليه ابنه ناصر الدولة سنة أربع عشرة بالانحدار إلى تكريت للقائه فجاءه في الحشد وأوقـع بالعرب والأكراد الخلالية وحسم علتهم‏.‏ وفيها قلد المقتدر يوسف بن أبي الساج أعمال الشرق وعزله عن أذربيجان وولاه واسط وأمده بالسير إليها لحرب القرامطة وأقطعه همذان وساوة وقم وقاشان وماه البصرة وماه الكوفة‏.‏ للنفقة في الحرب وجعل على الري من أعماله نصر بن سامان فوليها وصار من عماله كما مر‏.‏ وفيها ولى أعمال الجزيرة والضياع بالموصل أبـا الهيجـاء عبـد اللـه بـن حمـدان وأضيـف إليـه باريدي وقردي وما إليهما‏.‏ وفيها قتل ابن أبي الساج كما مر‏.‏

وفي سنة خمس عشرة
مات إبراهيـم المسمعـي بالنوبندجـان وولى المقتدر على مكانه ياقوت وعلى كرمان أبا طاهر محمد بن عبد الصمد‏.‏

وفي سنة ست عشرة
عزل أحمد بن نصر القسوري عن حجبة الخليفة ووليها ياقـوت وهـو علـى الحـرب بفـارس واستخلـف عليهـا ابنه أبا الفتح المظفر‏.‏ وفيها ولى على الموصل وأعمالها يونس المؤنسي وكان على الحرب بالموصل ابن عبد الله بن حمدان وهو ناصر الدولة فغضب وعاد إلى الخلافة‏.‏ وقتل في تلك الفتنة نازوك وأقر على أعمال قرس وباريدى التي كانت بيد أبي الهيجاء ابنه ناصر الدولة الحسن وعلى أعمال الموصل نحريراً الصغير‏.‏ ثـم ولـى عليهـا سعيـداً ونصـراً ابنـي حمـدان وهمـا أخـوا أبـي الهيجـاء‏.‏ وولـى ناصـر الدولة على ديار ربيعة ونصيبين وسنجار والخابور ورأس عين وميافارقين من ديار بكر وأرزن على مقاطعة معلومـة‏.‏

وفي سنة ثمـان عشـرة
صـرف ابنـا رائـق عـن الشرطـة ووليهـا أبو بكر محمد بن ياقوت عن الحجبة وقلد أعمال فارس وكرمان‏.‏ وقلد ابنه المظفر أصبهان وابنه أبا بكر محمداً سجستان وجعل مكان ياقوت وولده في الحجبة والشرطة إبراهيم ومحمد ابنا رائق فأقام ياقوت بشيراز وكـان علـي بـن خلـف ابـن طيان على الخوارج فتعاقدا على قطع الحمل عن المقتدر إلى أن ملك علي ابن بوبه بلاد فارس سنة ثلاث وعشرين وفي هذه السنة غلب مرداويح على أصبهان وهمذان والري وحلوان وقاطع عليها بمال معلوم وصارت في ولايته‏.‏ استيحاش مؤنس من المقتدر ومسيره إلى الموصل كان الحسين بن القاسم بن عبد الله بن وهب وزيراً للمقتدر وكان مؤنس منحرفاً عنه قبل الوزارة حتى أصلح بليق حاله عند مؤنس فوزر واختص به بنو البريدي وابن الفرات‏.‏ ثم بلغ مؤنساً أن الحسين قد واطأ جماعة من القواد في التدبير عليه فتنكر له مؤنس وضاقت الدنيا علـى الحسيـن وبلغـه أن مؤنسـاً يكبسـه فانتقـل إلـى دار الخلافـة وكتـب الحسيـن إلى هارون بن غريب الحال يستقدمه وكان مقيماً بدير العاقول بعد انهزامه من مرداويح كتب إلى محمد بن ياقوت يستقدمه من الأهواز فاستوحش مؤنس‏.‏ ثم جمع الحسين الرجال والغلمان الحجرية فـي دار الخلافة وأنفـق فيهـم فعظمـت نفـرة مؤنـس وقـدم هـارون مـن الأهـواز فخـرج مؤنـس مغاضبـاً للمقتدر وقصد الموصل وكتب الحسين إلى القواد الذين معه بالرجوع فرجع منهم جماعة وسار مؤنس في أصحابه ومواليه ومعه من الساجية ثمانمائة من رجالهم وتقدم الوزير بقبض أملاكه وأملاك من معه وأقطاعهم فحصل منه مال كثير واغتبط المقتدر به لذلك ولقبه عميد الدولة ورسم اسمه في السكة وأطلق يده في الولاية والعزل فولى على البصرة وأعمالها أبا يوسف يعقوب بن محمد البريدي على مبلغ ضمنه وكتب إلى سعيد وداود ابني حمدان وابن أخيهما ناصر الدولة الحسين بن عبد الله بمحاربة مؤنس فاجتمعوا على حربه إلا داود فإنـه توقـف لإحسان مؤنس إليه وتربيته إياه‏.‏ ثم غلبوا عليه فوافقهم على حربه وجمع مؤنس في طريقه رؤساء العرب وأوهمهم أن الخليفة ولـاه الموصـل وديار ربيعة فنفر معه بعضهم واجتمع له من العسكر وزحف إليه بنو حمدان في ثلاثين ألفا فهزمهم وملك مؤنس الموصل في صفر عشرين وجاءته العساكر من بغداد والشام ومصـر رغبة في إحسانه‏.‏ وعاد ناصر الدولة بن حمدان إلى خدمته وأقام معه بالموصل ولحق سعد ببغداد‏.‏

مقتل المقتدر وبيعة القاهر
ولما ملك مؤنس الموصل أقام بها تسعة واجتمعت العساكر فانحدر إلى بغداد لقتال المقتدر وبعـث المقتدر الجنود مع أبي بكر محمد بن ياقوت وسعد بن حمدان فرجع عنهم العسكر إلى بغداد ورجعوا‏.‏ وجاء مؤنس فنزل بباب الشماسية والقواد قبالته وندب المقتدر ابـن خالـه هارون بن غريب إلى الخوارج لقتاله فاعتذر ثم خرج وطالبوا المقتدر بالمال لنفقات الجنـد فاعتذر وأراد أن ينحدر إلى واسط ويستدعي العساكر من البصرة والأهواز وفارس وكرمان فرفه ابن ياقوت عن ذلك وأخرجه للحرب وبين يديه الفقهاء والقواد والمصاحف مشهورة وعليه البـردة والنـاس يحدقـون بـه فانهزم أصحابه ولقيه علي بن بليق من أصحاب مؤنس فعظمه وأشار عليه بالرجوع ولحقه قوم من المغاربة والبربر فقتلوه وحملوا رأسه وتركوه بالعراء فدفن هنالك‏.‏ ويقـال‏:‏ إن علـي بـن بليق أشار إليهم بقتله‏.‏ ولما رأى مؤنس ذلك ندم وسقط في يده وقال والله لنقتلن جميعاً وتقدم إلى الشماسيـة وبعـث مـن يحتـاط علـى دار الخلافـة وكـان ذلـك لخمـس وعشرين سنة من خلافة المقتدر‏.‏ فاتسع الخرق وطمع أهل القاصية في الاستبداد وكان مهملاً لأمـور خلافتـه محكمـاً للنسـاء والخـدم فـي دولتـه مبـذراً لأموالـه‏.‏ ولمـا قتـل لحـق ابنـه عبد الواحد بالمدائن ومعه هارون بن غريب الحـال ومحمـد بن ياقوت وإبراهيم بن رائق‏.‏ ثم اعتزم مؤنس على البيعة لولده أبي العباس وكان صغيـراً فعزلـه وزيـره أبـو يعقـوب إسماعيـل النويحـي فـي ولايـة صغيـر فـي حجـر أمـه وأشـار بأخيه أبي منصور محمد بن المعتضد فأجاب مؤنس إلى ذلك على كره وأحضروه وبويع آخر شوال من سنـة عشريـن ولقبـوه القاهـر بالله‏.‏ واستحلفه مؤنس لنفسه ولحاجبه بليق وابنه علي واستقدم أبا علي بن مقلة من فارس فاستوزره واستحجب علي بن بليق‏.‏ ثـم قبـض علـى أم المقتـدر وضربها على الأموال فحلفت فأمرها بحل أوقافها فامتنعت فأحضر هو القضاة وأشهد بحل أوقافهـا ووكل في بيعها فاشتراها الجند من أرزاقهم وصادر جميع حاشية المقتدر واشتد في البحث عن ولده وكبس عليهم المنازل إلى أن ظفر بأبي العباس الراضي وجماعة من أخوته وصادرهـم وسلمهـم علـي ابـن بليـق إلـى كاتبه الحسين بن هارون فأحسن صحبتهم وقبض الوزير ابن مقلة على البريدي واخوته وأصحابه وصادرهم على جملة من المال‏.‏

خبر ابن المقتدر وأصحابه
قـد ذكرنا أن عبد الواحد بن المقتدر لحق بعد مقتل أبيه بالمدائن ومعه هارون بن غريب الحال ومفلح ومحمد بن ياقوت وابنا رائق ثم انحدروا منها إلى واسط وأقاموا بها وخشيهم القاهر على أمره واستأمن هارون بن غريب على أن يبذل ثلاثمائة ألف دينار وتطلق له أملاكه فأمنه القاهـر ومؤنـس وكتـب له بذلك وعقد له على أعمال ماه الكوفة وماسبذان ومهروبان وسار إلى بغداد وسار عبد الواحد بن المقتدر فيمن معه من واسط ثم إلى السوس وسوق الأهواز وطردوا العمال وجبوا الأموال‏.‏ وبعـث مؤنـس إليهـم بليقـاً في العساكر وبذل أبو عبد الله البريدي في ولاية الأهواز خمسين ألف دينـار فأنفقـت فـي العساكر‏.‏ وسار معهم وانتهوا إلى واسط ثم إلى السوس فجاز عبد الواحد ومـن معـه مـن الأهواز إلى تستر ثم فارقه جميع القواد واستأمنوا إلى بليق إلا ابن ياقوت ومفلحا ومسـرورا الخـادم وكـان محمـد بن ياقوت مستبدا على جميعهم في الأموال والتصرف فنفروا لذلك واستأمنوا لأنفسهم ولابن المقتدر إلى بليق فأمنهم بعد أن استأمنوا محمد بن ياقوت وأذن لهم‏.‏ ثـم استأمـن هـو علـى بليق إلى أمان القاهر ومؤنس وساروا إلى بغداد جميعهم فوفى لهم القاهر وأطلق لعبد الواحد أملاكه وترك لامه المصادرة التي صادرها واستولى أبو عبد الله البريدي على أعمال فارس وأعاد أخوته إلى أعمالهم‏.‏

مقتل مؤنس وبليق وابنه
لما رجع محمد بن ياقوت من الأهواز واستخلصه القاهر واختصه لخلواته وشوراه وكانت بينه وبين الوزير ابن علي بن مقلة عداوة فاستوحش لذلك ودس إلى مؤنس أن محمد بن ياقوت يسعـى بـه عنـد القاهـر وأن عيسـى الطبيـب سفيره في ذلك فبعث مؤنس علي بن بليق لإحضار عيسـى وتقـدم علـي بـن بليـق بالاحتياط على القاهر فوكل به أحمد بن زيرك وضيق على القاهر وكشـف وجـوه النسـاء المختلفـات إلـى القصر خشية إيصالهم الرقاع إلى القاهر حتى كشفت أواني الطعام ونقل بليق المحابيس من دار الخلافة إلى داره وفيهم أم المقتدر فأكرمها علـي بـن بليـق وأنزلها عند أمه فماتت في جمادى من سنة إحدى وعشرين‏.‏ وعلم القاهر أن ذلك من مؤنس وابن مقلة فشرع في التدبير عليهم‏.‏ وكان طريف السيكمري ونشرى من خـدم مؤنـس قـد استوحشـا مؤنس لتقدم بليق وابنه عليهما‏.‏ وكان اعتماد مؤنس على الساجية وقد جاؤوا معه مـن الموصـل ولـم يـوف لهـم فاستوحشـوا لذلـك فداخلهـم القاهر جميعاً وأغراهم بمؤنس وبليق وبعث إلى أبي جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله وكان مختصاً بابن مقلة وصاحب رأيه فوعده بالوزارة فكان يطالعه بالأخبار‏.‏ وشعر ابن مقلة بذلك فأبلغوا إلى مؤنس وبليق واجمعوا على خلع القاهر واتفق بليق وابنه علي وابن مقلة والحسن بن هارون على البيعة لأبي أحمد بن المكتفي فبايعوه وحلفوا له وأطلعوا مؤنساً على ذلك فأشار بالمهل وتأنيس القاهر حتى يعرفوا من واطأه من القواد والساجية والحجرية فأبوا وهونوا عليه الأمر في استعجال خلعه فأذن لهم فأشاعوا أن أبا طاهر القرمطي ورد الكوفة وندبوا علي بن بليق للمسير إليه ليدخـل للـوداع ويقبض على القاهر وابن مقلة كان نائماً فلما استيقظ أعاد الكتاب إلى القاهر فاستراب‏.‏ ثم جاءه طريف السيكري غلام مؤنس في زي امرأة مستنصحاً فأحضره وأطلعه على تدبيرهم وبيعتهم لأبي أحمد بن المكتفي فأخذ القاهر حذره وأكمن الساجية في دهاليز القصر وممراته وجاء علي بن بليق في خف من أصحابه واستأذن فلم يؤذن لـه وكـان ذا خمـار فغضـب وأفحـش فـي القـول فأخـرج الساجيـة فـي السلـاح وشتمـوه وردوه وفـر عنـه أصحابـه وألقـى بنفسه في الطيار وعبر إلى الجانب الغربي‏.‏ واختفى الوزير ابن مقلة والحسن بن هارون وركب طريـف إلـى دار القاهـر فأنكـر بليـق مـا جـرى لابنـه وشتم الساجية وقال‏:‏ لا بد أن أستعدي الخليفة عليهم وجاء إلى القاهر ومعه قواد مؤنس فلم يأذن له وقبض عليه وحبسه وعلى أحمد بن زيرك صاحب الشرطة وجاء العسكر منكرين لذلك فاسترضاهم ووعدهم بالزيادة وبإطلـاق هـؤلاء المحبوسيـن فافترقـوا وبعـث إلـى مؤنس بالحضور عنده ليطالعه برأيه فأبى فعزله وولى طريف السيكري مكانه وأعطاه خاتمه وقـال‏:‏ قـد فوضـت إلـى ابنـي عبـد الصمـد ما كان المقتدر فوضه إلي ابنه محمد وقلدتك خلافته ورياسـة الجيـش وإمارة الأمراء وبيوت الأموال كما كان مؤنس وامض إليه وأحمله إلى دار الخلافة مرفهاً عليه لئلا يجتمع إليه أهل الشر ويفسد ما بيننا وبينه‏.‏ فسار طريف إلى مؤنس وأخبره بأمـان القاهر له ولأصحابه وحمله على الحضور عنده وهون عليه أمره وأن القاهر لا يقدر على مكروهة‏.‏ فركب وحضر فقبض عليه القاهر وحبسه قبل أن يراه وندم طريف على ما فعل واستوحش‏.‏ واستوزر القاهر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيد الله ووكل بدور مؤنس وبليق وابنه علي وابن مقلة وابن زيرك وابن هارون ونقل ما فيها وأحرقت دار ابن مقلة وجاء محمـد بـن ياقـوت وقـام بالحجبة فتنكر له طريف السيكري والساجية فاختفى ولحق بابنه بانارس وكتب إليه القاهر بالعتـب علـي ذلـك وولـاه الأهـواز وكـان الـذي دعـا طريفـاً السيكـري إلـى الانحراف عن مؤنس وبليق أن مؤنساً رفع رتبة بليق وابنه عليه بعد أن كانا يخدمانه فأهملا جانبـه‏.‏ ثـم اعتـزم بليـق علـى أن يوليـه مصر وفاوض في ذلك الوزير ابن مقلة فوافق عليه ثم أراد علي بن بليق عمل مصر لنفسه ومنع من إرسال طريف فتربص بهم‏.‏ وأما الساجية فكانوا مع مؤنس بالموصل وكان يعدهم ويمنيهم‏.‏ ولما ولي القاهر واستبد بأمره لم يف لهم‏.‏ وكان من أعيانهم الخادم صندل وكان له بدار القاهر خادم اسمه مؤتمن باعه واتصل بالقاهر قبل الخلافة فلما شـرع فـي التدبيـر علـى مؤنـس وبليـق بعـث مؤنسـاً هـذا إلـى صنـدل يمـت إليـه تقديمـه ويدخلـه فـي أمـر القاهـر وإزالـة الحجـر عنـه‏.‏ فقصد إلى صندل وزوجته وتلطف ووصف القاهر بما شاء من محاسن الأخلاق وحمل زوجته على الدخول إلى دار القاهر حتى شافهها بما أراد إبلاغه إلى صنـدل وداخل صندل في ذلك سيما من قواد الساجية واتفقوا على مداخلة طريف السيكري فـي ذلـك لعلمهـم باستيحاشـه مـن مؤنـس فأجابهـم علـى شريطـة الإبقاء على مؤنس وبليق وابنه وأن لا يزال مؤنس من مرتبته وتحالفوا على ذلك من الجانبين‏.‏ وطلب طريف عهد القاهر بخطه فكتب وزاد فيه أنه يصلي بالناس ويخطب لهم ويحج بهم ويغزو معهم ويتئد لكشف المظالم وغير ذلك من حسن السيرة وكان جماعة من الحجرية قد أبعدهـم ابـن بليـق وأدال منهـم بأصحابـه فداخلهـم طريـف فـي أمـر القاهـر فأجابـوه‏.‏ ونمـي الخبـر بذلك إلى ابن مقلة وإلى بليق وأرادوا القبض على قواد الساجية والحجرية‏.‏ ثم خشوا الفتنة ودبروا على القاهر فلم يصلوا إليه لاحتجابه عنهم بالمرض‏.‏ فوضعوا أخبار القرامطة كما قدمناه‏.‏ ولما قبض القاهر على مؤنس ولي الحجابة سلامة الطولوني‏.‏ وعلى الشرطة أحمد بن خاقان واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم ابن عبد الله مكان ابن مقلة وأمر بالنداء على المتسترين والوعيـد لمـن أخفـى وطلـب أبـا احمـد بـن المكتفـي فظفـر بـه وبنـي عليـه حائطـاً فمـات‏.‏ ثم ظفر بعلي فقتلـه‏.‏ ثـم شغـب الجنـد فـي شعبـان ومعهـم أصحـاب مؤنـس وثـاروا ونادوا بشعاره وطلبوا إطلاقه وأحرقـوا روشن دار الوزير أبي جعفر‏.‏ فعمد القاهر إلى بليق في محبسه وأمر به فذبح وحمل الرأسيـن إلـى مؤنـس‏.‏ فلمـا رآهمـا مؤنـس استرجـع ولعـن قاتلهمـا فأمـر بـه فذبـح وطيـف بالرؤوس‏.‏ ثم أودعت بالخزانة‏.‏ وقيل إن قتل علي بن بليق تأخر عن قتل أبيه ومؤنس لأنه كان مختفياً فلما ظفـر بـه بعدهمـا قتلـه‏.‏ ثـم بعـث القاهـر إلـى أبـي يعقـوب إسحـاق بـن إسماعيـل اليوصحي فأخذ من محبس الوزير محمد بن القاسم وحبسه وارتاب الناس من شدة القاهر وندم الساجية والحجرية علـى مداخلته في ذلك الأمر‏.‏ ثم قبض القاهر على وزيره أبي جعفر وأولاده وأخيه عبيد الله وخدمه لثلاثة أشهر ونصف من ولايته ومات لثمان عشرة ليلة من حبسه واستوزر مكانه أبا العباس أحمد بن عبيد الله بن سليمان الحصيبي‏.‏ ثم استبد القاهر على طريف السيكري واستخـف بـه فخافـه وتنكـر ثـم أحضـره بعـد أن قبـض علـى الوزير أبي جعفر فقبض عليه وأودعه السجن إلى أن خلع القاهر‏.‏

ميارى 6 - 8 - 2010 11:15 PM

دولة بني بويه
ابتداء دولة بني بويه كان أبوهم أبو شجاع بويه من رجالات الديلم وكان له أولاد علي والحسن وأحمد فعلي أبو الحسن عماد الدولة والحسن أبو علي ركن الدولة وأحمد أبو الحسن معز الدولة‏.‏ ونسبهم ابن ماكـولا فـي الساسانيـة إلـى بهرامجـور بن يزدجرد وابن مسكويه إلى يزدجرد بن شهريار وهو نسب مدخول لأن الرياسة على قوم لا تكون في غير أهل بلدهم كما ذكرنا في مقدمة الكتاب‏.‏ ولما أسلم الديلم على يد الأطروش وملك بهم طبرستان وجرجان وكان من قواده ماكان بن كالـي وليلـى بـن النعمـان وأسفـار بـن شيروبـه ومرداويج بن وزيار وكانوا ملوكاً عظاماً وازدحموا في طبرستان فساروا لملك الأرض عند اختلـاط الدولـة العباسيـة وضعفهـا وقصـدوا الاستيـلاء على الأعمال والأطراف‏.‏ وكان بنـو بويـه مـن جملـة قـواد ماكـان بـن كالـي‏.‏ فلمـا وقـع بينـه وبيـن مرداويـج مـن الفتنة والخلاف ما تقدم وغلبه مرداويج على طبرستان وجرجان عادوا إلى مرداويج لتخف عنه مونتهم على أن يرجعوا إليه إذا صلح أمره فساروا إلى مرداويج فقبلهم وأكرمهم‏.‏ واستأمن إليـه جماعـة مـن قـواد مـا كـان فقتلهم وأولادهم وولى علي بن بويه على الكرج وكان أكبر أخوته‏.‏ وسار جميعهم إلى الري وعليها وشمكير بن وزيار أخو مرداويج ومعه وزيره الحسين بن محمد الملقب بالعميد فاتصل به علي بن بويه وأهدى إليه بغلة كانت عنده ومتاعاً وندم مرداويج علـى ولايـة هـؤلاء المستأمنـة من قواد ماكان فكتب إلى أخيه وشمكير بالقبض على الباقين وأراد أن يبعث في أثر علي بن بويه فخشي الفتنة وتركه‏.‏ واستولـى ابـن بويـه علـى أرجـان وخالفـه وشمكيـر أخـو مرداويـح إلـى أصبهـان فملكهـا‏.‏ وأرسل القاهر إلـى مرداويـح بـأن يسلـم أصبهـان لمحمـد بـن ياقـوت ففعـل‏.‏ وكتـب أبـو طالـب يستدعيـه ويهـون عليه أمر ابن ياقوت ويغريه به فخشي ابن بويه من كثرة عساكر ياقوت وأمواله وأن يحصل بينه وبين ابنه تأهبات فتوقف فأعدى عليه أبو طالب وأراه أن مرداويج طلب الصلح من ابن ياقوت وخوفه اجتماعهما عليـه‏.‏ فسـار ابـن بويـه إلـى أرجـان فـي ربيـع سنـة إحـدى وعشريـن ولقيتهـم هنالـك مقدمـة ابن ياقوت فانهزمت فزحف ابن ياقوت إليهم وبعث عماد الدولة أخاه ركن الدولة الحسن إلى كازرون وغيرها من أعمال فارس فجبى أموالها ولقي عسكر ابن ياقوت هنالك فهزمهم ورجع إلـى أخيـه‏.‏ وخشـي عمـاد الدولـة مـن اتفـاق مرداويـج مع ابن ياقوت فسار إلى اصطخر واتبعه ابن ياقوت وشيعه إلى قنطرة بطريق كرمان اضطروا إلى الحرب عليها‏.‏ فتزاحفوا هنالك واستأمن بعض قواده إلى ابن ياقوت فقتلهم فاستأمن أصحابه وانهزم ابن ياقوت واتبعه ابن بويه واستباح معسكره وذلك في جمادى سنة اثنتين وعشرين‏.‏ وأبلى أخوه معز الدولة أحمد في ذلك اليوم بلاء حسناً ولحق ابن ياقوت بواسط وسار عماد الدولة إلى شيراز فملكها وأمن الناس واستولى على بلاد فارس وطلب الجند أرزاقهم فعجز عنها وعثر على صناديق من مخلف ابن ياقوت وذخائر بني الصفار فيها خمسمائة ألف دينار فامتلـأت خزائنـه وثبـت ملكـه‏.‏ واستقـر ابن ياقوت بواسط وكاتبه أبو عبد الله اليزيدي حتى قتل مرداويـج‏.‏ عـاد إلـى الأهواز ووصل عسكر مكرم وكانت عساكر ابن بويه سبقته فالتقوا بنواحي أرجـان‏.‏ وانهـزم ابـن ياقـوت فأرسل أبو عبد الله اليزيدي في الصلح فأجابه ابن بويه واستقر ابن ياقـوت بالأهـواز ومعـه ابـن اليزيـدي وابـن بويـه ببلـاد فـارس‏.‏ ثم زحف مرداويح إلى الأهواز وملكها من يد ابن ياقوت ورجع إلى واسط وكتب إلى الراضي‏.‏ وكان بعد القاهر كما نذكره والي وزيره أبي علي بن مقلة بالطاعة والمقاطعة فيما بيده من البلاد بأعمال فارس على ألف ألف درهم فأجيب إلى ذلك وبعث إليه باللواء والخلع وعظم شأنه في فارس وبلغ مرداويح شأنه فخاف غائلته وكان أخوه وشمكير قد رجع إلى أصبهان بعد خلع القاهر وصرف محمد بن ياقوت عنها فسار إليها مرداويح للتدبير على عماد الدولة وبعث أخاه وشمكير علـى الـري وأعمالها‏.‏

خلع القاهر وبيعة الراضي
ولما قتل القاهر مؤنساً وأصحابه أقام يتطلب الوزير أبا علي بن مقلة والحسن بن هارون وهما مستتـران وكانا يراسلان قواد الساجية والحجرية ويغريانهم بالقاهر فإنهم غروه كما فعل بأصحابه قبلهم‏.‏ وكان ابن مقلة يجتمع بالقواد ويراسلهم ويجيء إليهم متنكراً ويغريهم ووضعوا على سيما أن منجماً أخبره أنه ينكب القاهر ويقتله ودسوا إلى معبر كان عنده أموال على أن يحذره من القاهر فنفـر واستوحـش وحفـر القاهـر مطاميـر فـي داره فقيـل لسيمـا والقـواد إنمـا صنعت لكـم فـازدادوا نفـرة‏.‏ وكـان سيمـا رئيـس الساجيـة فارتـاب بالقاهـر وجمـع أصحابـه وأعطاهم السلاح وبعث إلى الحجرية فجمعهم عنده وتحالفوا على خلع القاهر وزحفـوا إلـى الدور وهجموا عليه فقام من النوم ووجد الأبواب مشحونة بالرجال فهرب إلى السطح ودلهم عليـه خـادم فجـاؤوه واستدعـوه للنـزول فأبى فتهددوه بالرشق بالسهام فنزل وجاؤوا به إلى محبس طريـف السيكـري فحبسـوه مكانـه وأطلقـوه حتـى سمـل بعـد ذلـك وذلـك لسنـة ونصـف من خلافته‏.‏ وهـرب الحصيبـي وزيـره وسلامـة حاجبـه‏.‏ وقد قيل في خلعه غير هذا وهو أن القاهر لما تمكن مـن الخلافـة اشتـد علـى الساجيـة والحجريـة واستهـان بهـم فتشاكـوا ثـم خافـه حاجبـه سلامـة لأنـه كان يطالبه بالأموال ووزيره الحصيبي كذلك وحفر المطامير في داره فارتابوا به كما ذكرنا‏.‏ وأسر جماعة من القرامطة فحبسهـم بتلـك المطاميـر وأراد أن يستظهـر بهـم علـى الحجريـة والساجيـة فتنكـروا ذلـك وقالـوا فيـه للوزيـر وللحاجـب فأخرجهـم مـن الـدار وسلمهـم لمحمـد بـن ياقوت صاحب الشرطة وأوصاه إليهم فازداد الساجية والحجرية ريبة‏.‏ ثم تنكر لهم القاهر وصار يعلن بذمهم وكراهتهم فاجتمعوا لخلعه كما ذكرنا‏.‏ ولما قبض القاهر بعثوا عن أبي العباس بن المقتدر وكان محبوساً مع أمه فأخرجوه وبايعوه في جمادى سنة اثنتين وعشرين وبايعه القواد والناس وأحضر علي بن عيسى وأخاه عبد الرحمن وصدر عن رأيهما وأراد علي بن عيسى على الوزارة فامتنع واعتذر بالنكير وأشار بابن مقلة فأمنه واستوزره‏.‏ وبعث القضاة إلى القاهر ليخلع نفسه‏.‏ فأبى فسمل وأمـن ابـن مقلـة الحصيبي وولاه وولى الفضل بن جعفر بن الفرات نائباً عنه من أعمال الموصل وقردي وباريدي وماردين وديار الجزيرة وديار بكر وطريق الفرات والثغور الجزرية والشامية وأجناد الشام وديار مصر يعزل ويولي من يراه في الخراج والمعادن والنفقات والبريد وغير ذلك‏.‏ وولى الراضي على الشرطة بدراً الحمامي وأرسل إلى محمد بن رائق يستدعيه وكان قـد استولـى على الأهواز ودفع عنها ابن ياقوت من تلك الولاية إلى السوس وجنديسابور وقد ولى على أصبهان وهو يروم المسير إليها‏.‏ فلما ولي الراضي استدعاه للحجابة فسار إلى واسط وطلـب محمـد بـن ياقـوت الحجابـة فأجيـب إليهـا فسـار في إثر ابن رائق وبلغ ابن رائق الخبر فسار مـن واسـط مسابقـاً لابـن ياقـوت بالمدائـن توقيع الراضي بالحرب والمعادن في واسط مضافاً إلى ما بيـده مـن البصـرة والمعـادن‏.‏ فعـاد منحدراً في دجلة ولقيه ابن ياقوت مصعداً ودخل بغداد وولي الحجبـة وصارت إليه رياسة الجيش ونظر في أمر الدواوين وأمرهم بحضور مجلسه وأن لا ينفقوا توقيعاً في ولاية أو عزل أو إطلاق إلا في الإيثار والمجلس فقط‏.‏

مقتل هارون
كان هارون بن غريب الحال على ماه الكوفة والدينور وماسبذان وسائر الأعمال التي ولاها القاهر إياه فلما خلع القاهر واستخلف الراضي رأى هارون أنه أحق بالدولة من غيره لأنه ابن خـال المقتـدر فكاتـب القـواد ووعدهم وسار من الدينور إلى خانقين وشكا ابن مقلة وابن ياقوت والحجريـة والساجيـة إلـى الراضـي فـأذن لهـم فـي منعـه فراسلـوه أولاً بالممانعـة والزيـادة علـى ما في يده مـن الأعمال فلم يلتفت إليهم وشرع في الجباية فقويت شوكته‏.‏ فسار إليه محمد بن ياقوت في العساكـر وهـرب عنـه بعـض أصحابـه إلـى هـارون وكتـب إلـى هـارون يستميله فلم يجب وقال لا بد من دخول بغداد‏.‏ ثم تزاحفوا لست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين فانهزم أولاً أصحاب ابن ياقوت ونهب سوادهم‏.‏ وسار محمـد حتـى قطـع قنطـرة تبريـز وسـار هـارون منفرداً لاعتراضه فدخل في بعض المياه وسقط عن فرسه ولحقه غلام لمحمد بن ياقوت فقطع نكبة ابن ياقوت قد ذكرنا أنه كان نظر في أمر الدواوين وصير ابن مقلة كالعاطل فسعى بـه عنـد القاضـي وأوهمه خلافه حتى أجمع القبض عليه في جمادى سنة ثلاث وعشرين فجلس الخليفة على عادتـه وحضـر الوزيـر وسائـر النـاس علـى طبقاتهم يريد تقليد جماعة من القواد للأعمال واستدعـى ابـن ياقـوت للخدمـة في الحجبة على عادته فبادر وعذل به إلى حجرة فحبس فيها وخفـار‏.‏ وبعـث الوزيـر ابـن مقلة إلى دار محمد من يحفظها من النهب وأطلق يده في أمور الدولة واستبـد بهـا وكـان ياقـوت مقيمـاً بواسـط فلمـا بلغـط القبض على ابنه انحدر إلى فارس لمحاربة ابن بويـه وكتـب يستعطـف الراضـي ويسألـه إبقـاء ابنـه ليساعـده علـى شأنه‏.‏ ولم يزل محمد محبوساً إلى أن هلك سنة أربع عشرة في محبسه‏.‏

خبر البريدي
كان أبو عبد الله البريدي أيام ابن ياقوت ضامناً للأهواز فلما استولى عليها مرداويج وانهزم ابن ياقـوت كمـا مـر رجـع البريـدي إلـى البصرة وصار يتصرف في أسافل الأهواز مع كنانة ياقوت‏.‏ ثم سـار إلـى ياقوت فأقام معه بواسط فلما قبض على ابن ياقوت وكتب ابن مقلة إليه وإلى ياقوت يعتذر عن قبض ابن ياقوت ويأمرهما بالمسير لفتح فارس فسار ياقوت على السوس والبريدي على طريق الماء حتى انتهيا إلى الأهواز‏.‏ وكان إلى أخويه أبي الحسن وأبي يوسف ضمان السوس وجنديسابور وادعيا أن دخل البلاد أخذه مرداويج‏.‏ وبعث ابن مقلة ثانياً لتحقق ذلك فوافاهم وكتب بصدقهم فاستولى ابن البريدي ما بين ذلك على أربعة آلاف ألف دينار‏.‏ ثم أشـار أبـو عبـد الله بن علي بن ياقوت بالمسير لفتح فارس وأقام هو لجباية الأموال فحصل منها بغيتـه‏.‏ وسـار ياقـوت فلقيـه ابـن بويـه علـى أزجـان فهزمـه وسـار إلـى عسكـر مكرم‏.‏ واتبعه ابن بويه إلى رامهرمز وأقام بها إلى أن اصطلحا‏.‏

مقتل ياقوت
قـد تقدم لنا انهزام ياقوت من فارس أمام عماد الدولة ابن بويه إلى عسكر مكرم واستيلاء ابن بويه على فارس‏.‏ وكان أبو عبد الله البريدي بالأهواز ضامناً كما تقدم‏.‏ وكان مع ذلك كاتبا لياقـوت‏.‏ وكـان ياقـوت يستنيـم إليـه ويثـق بـه‏.‏ وكـان مغفلاً ضعيف السياسة فخادعه أبو عبد الله البريـدي وأشـار عليه بالمقام بعسكر مكرم وأن يبعث إليه بعض جنده الواصلين من بغداد تخفيفاً للمؤنـة وتحذيراً من شغبهم‏.‏ وبعث إليه أخاه بذلك أبا يوسف ودفع له من مال الأهواز خمسين ألـف دينـار‏.‏ ثـم قطـع عنـه فضـاق الحـال عليـه وعلـى جنـده وكـان قـد نـزع إليـه من أصحاب ابن بويه طاهر الحمل وكاتبه أبو جعفر الصهيري ثم انصرف عنه لضيق حاله إلى غربي تستر ليتغلب على ماه البصرة فكبسه ابن بويه وغنـم عسكـره وأسـر الصهيـري فشفـع فيـه وزيـره وأطلقـه فلحق بكرمان واتصل بعد ذلك بمعز الدولة ابن بويه واستكتبه‏.‏ ولما انصرف طاهر عن ياقوت كتب إلى البريدي يشكو ضعفه واستطالة أصحابه فأشار عليه بإرسالهـم إلـى الأهـواز متعرفيـن لقومهـم‏.‏ فلمـا وصلـوا إليه انتقى خيارهم ورد الباقين وأحسن إلى مـن عنـده‏.‏ وبعـث ياقـوت إليـه فـي طلـب المعـز فلـم يبعـث إليـه فجـاءه بنفسـه فتلقاه وترجل إليه وقبل يده وأنزله بداره وقام في خدمته أحسن مقام ووضع الجند على الباب يشغبون ويرومون قتله فأشـار إليـه بالنجـاة‏.‏ فعاد إلى عسكر مكرم فكتب إليه يحذره اتباعهم وأن عسكر مكرم على ثمانية فراسخ من الأهواز وأرى أن تتأخر بتستر فتتحصن بها‏.‏ وكتب له على عامل تستر بخمسين ألف دينار وعذله خادمه مؤنس في شأن ابن البريدي وأراه خديعته‏.‏ وأشار إليـه باللحـاق ببغـداد وأنـه شيـخ الحجريـة وقد كاتبوك فسر إلى رياسة بغداد وإلا فتعاجل إلى البريدي وتخرجه عن الأهواز فصم عن نصيحته وأبى من قبول السعاية فيه وتسايل أصحابه إلى ابن البريدي حتى لم يبق معه إلا نحو الثمانمائة‏.‏ وجاءه ابنه المظفر ناجياً من حبس الراضي بعد أسبوع فأطلقه وبعثه إلى أبيه فأشار عليه بالمسيـر إلى بغداد فإن حصل على ما يريد وإلا فإلى الموصل وديار ربيعة ويتملكها فأبى عليه أبـوه ففارقـه إلـى ابـن البريـدي فأكرمـه ووكل به‏.‏ ثم حذر ابن البريدي غائله ياقوت فبعث إليه بأن الخليفة أمره بإزعاجه من البلاد إما إلى بغداد وإما إلى بلاد الجبل ليوليه بعض أعمالها فكتب يستمهلـه فأبى من المهلة وبعث العساكر من الأهواز وسار ياقوت إلى عسكر مكرم ليكبس ابن البريدي هنالك فصبح البلد ولم يجده وجاءت عساكر ابن البريدي مع قائد أبي جعفر الجمال فقاتلـه مـن أمامـه وأكمـن آخرين من خلفه فانهزم وافترق أصحابه وحسا إلى حائط متنكراً فمر به قوم ابن البريدي فكشفوا وجهه وعرفوه فقتلوه وحملوا رأسه إلى العسكر فدفنه الجمال وبعث البريـدي إلـى تستـر فحمـل مـا كـان لياقـوت هنالـك وقبـض علـى ابنـه المظفـر وبعثه إلى بغداد واستبد بتلك الأعمال وذلك سنة أربع وعشرين‏.‏


الساعة الآن 07:53 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى