منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب تاريخ ابن خلدون (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8921)

ميارى 12 - 8 - 2010 06:39 AM

وريكة
وأما وريكة فهم مجاورون لهنتاتة وبينهم فتنة قديمة وحرب متصلة ودماء مطلولة كانت بينهم سجالا‏.‏ وهلك فيها من الفريقين أمم إلى أن غلبهم هنتاتة باعتزازهم بالولاية فخضدوا منهم بنو يدر أمراء السوس الخبر عن بني يدر أمراء السوس من الموحدين بعد انقراض بني عبد المؤمن وتصاريف أحوالهم كان أبو محمد بن يونس من علية وزراء الموحدين من هنتاتة وكان المرتضى قد استوزره ثم سخطه وعزله سنة خمسين وستمائة وألزمه داره بتامصلحت وفر عنه قومه وحاشيته وقرابته‏.‏ وكان من أهل قرابته علي بن يدر من بني باداس ففر إلى السوس وجاهر بالخلاف سنة إحدى وخمسين ونزل بحصن تانصاصت سفح الجبل حيث يدفع والي السوس من درن وشيده وحصنه وتغلب على حصن تيسخت من أيدي صنهاجة وشيده وأنزل فيه ابن عمه حمدين‏.‏ ثم تغلب على بسيط السوس وجأجأ ببني حسان من أعراب المعقل من مواطنهم من نواحي ملوية إلى بلاد الريف فارتحلوا إليه وعاث بهم في نواحي السوس وأطاع له كثير من قبائله فاستوفى جبايتهم‏.‏ وأجلب على عامل الموحدين بتارودنت وضيق عليه المسالك وتفاقم أمره‏.‏ واتهم الوزير أبو محمد بن يونس بمداخلته وعثر على كتابه إلى علي بن يدر فأمر للمرتضى باعتقاله وقتله سنة اثنتين وخمسين‏.‏ وأغزى أبا محمد بن أصناك إلى بلاد السوس في عسكر الموحدين والجند وعقد له عليها فنزل تارودنت وتحصن علي بن يدر بتيونيوين وزحف إليه ابن أصناك في عسكره فهزمه ابن يدر وقتل كثيراً منهم ورجع إلى مراكش مفلولا‏.‏ وأقام علي بن يدر على حاله من الخلاف وأغزاه المرتضى محمد بن علي أزلماط في عسكر من الموحدين سنة ستين فهزمهم وقتل ابن زلماط فعقد المرتضى من بعده على السوس لوزيره أبي زيد بن بكيت فزحف إليه ودارت الحرب بينهما ملياً وانقلب من غير ظفر‏.‏ واستفحل أمر ابن يدر ببلاد السوس واستخدم الأعراب من بني الشبانات وذوي حسان‏.‏ وأطاعته القبائل من كزولة ولمطة وزكن ولخس من شعوب لمطة وصناكة‏.‏ وجبى الأموال واستخدام الرجال يقال كان جنده ألف فارس وكان بينه وبين كزولة فتن وحروب يستظهر في أكثرها بذوي حسان‏.‏ ولما استولى أبو دبوس على مراكش سنة خمس ومئتين وفرغ من تمهيد ملكه بها اعتزم على الحركة إلى السوس ورحل من مراكش وقدم بين يديه يحيى بن وانودين لاحتشاد القبائل ومر بالجبل ثم أسهل من تامسكروط إلى بسيط السوس ونزل على بني باداس قبيلة ابن يدر على فرسخين من تيونيوين‏.‏ وقصد تيزخت ومر بتارودنت وعاين أثر الخراب الذي بها من عيث ابن يدر ولما بلغ حصن تيزخت خيم بساحته وحشر أمماً من القبائل لحصاره وكان به حمدين ابن عم علي بن يدر فحاصره أياماً‏.‏ ولما اشتد عليه الحصار داخل علي بن زكداز من مشيخة بني مرين كان في جملة أبي دبوس فداخله في الطاعة وتقبل السلطان طاعته على النزول عن حصنه‏.‏ ثم أعجلته الحرب واقتحم عليهم الجبل ولجوا إلى الحصن وفر حمدين إلى بيت علي بن زكداز فأمره السلطان باعتقاله‏.‏ واستولى السلطان على الحصن وأنزل به بعض السادات لولايته‏.‏ وارتحل أبو دبوس إلى محاصرة علي بن يدر فحاصره أياماً ونصب عليه المجانيق‏.‏ ولما اشتد عليه الحصار رغب في الإقالة ومعاودة الطاعة فتقبل وأقلع السلطان عن حصاره وقفل إلى حضرته‏.‏ ولما استولى بنو مرين على ماركس سنة ثمان وستين استبد علي بن يدر بملك السوس واستولى على تارودنت وإيفري وسائر أمصاره وقواعده ومعاقله وأرهف حده للأعراب‏.‏ فزحفرا إليه وكانت عليه الدبرة وقتل سنة ثمان وستين وقام بأمره علي ابن أخيه عبد الرحمن بن الحسن مدة‏.‏ ثم هلك وقام بأمرهم أخوه علي بن الحسن بن يدر‏.‏ ولما صار أبو علي ابن السلطان أبي سعيد إلى ملك سجلماسة بصلح عقده مع أبيه كما نذكر في أخبارهم فنزلها وشيد ملكه بها واستخدم كافة عرب المعقل فرغبوه في ملك السوس وأطمعوه في أموال ابن يدر فغزاه من سجلماسة‏.‏ وفر ابن يدر أمامه إلى جبال نكيسة‏.‏ واستولى السلطان أبو علي على حصنه تانصاصت وصائر أمصار السوس واستصفى ذخيرته وأمواله ورجع إلى سجلماسة‏.‏ ثم استولى السلطان أبو الحسن من بعد ذلك عليه وانقرض ملك بني يدر‏.‏ ولحق به عبد الرحمن بن علي بن الحسن وصار في جملته‏.‏ وأنزل السلطان بأرض السوس مسعود بن إبراهيم بن عيسى اليرنياني من طبقة وزرائه وعقد له على تلك العمالة إلى أن هلك‏.‏ وعقد لأخيه حسون من بعده إلى أن كانت نكبة القيروان‏.‏ وهلك حسون وانفض العسكر من هنالك وتغلب عليه العرب من بني حسان والشبانات ووضعوا على قبائله الأتاوات والضرائب‏.‏ ولما استبد أبو عنان بملك المغرب من بعد أبيه أغزى عساكره السوس لنظر وزيره فارس بن ودرار سنة ست وخمسين فملكه واستخدم القبائل والعرب من أهله ورتب المسالح بأمصاره وقفل إلى مكان وزارته فانفضت المسالح ولحقت به‏.‏ وبقي عمل السوس ضاحياً من ظل الملك لهذا العهد وهو وطن كبير في مثل عرض البلاد الجريدية وهوائها المتصلة من لدن البحر المحيط إلى نيل مصر الهابط من وراء خط الاستواء في القبلة إلى الإسكندرية‏.‏ وهذا الوطن قبلة جبال درن ذو عمائر وقرى ومزارع وفدن وأمصار وجبال وحصون يخترقه وادي السوس ينصب من باطن الجبل إلى ما بين كلاوة وسكسيوة ويدفع إلى بسيطه ثم يمر مغرباً إلى أن ينصب في البحر المحيط والعمائر متصلة حفافي هذا الوادي ذات الفدن والمزارع وأهلها يتخذون فيها قصب السكر‏.‏ وعند مصب هذا الوادي من الجبل في البسيط مدينة تارودنت‏.‏ وبين مصب هذا الوادي في البحر ومصب وادي ماسة مرحلتان إلى ناحية الجنوب على ساحل البحر وهنالك رباط ماسة الشهير المعروف بتردد الأولياء وعبادتهم‏.‏ وتزعم العامة أن خروج الفاطمي منه‏.‏ ومنه أيضاً إلى زوايا أولاد بنو نعمان مرحلتان في الجنوب كذلك على ساحل البحر وبعدها على مراحل مصب الساقية الحمراء وهي منتهى مجالات المعقل في مشاتيهم‏.‏ وفي رأس وادي السوس جبل زكندر قبلة جبل الكلاوي‏.‏ وفي قبلة جبال درن جبال نكيسة تنتهي إلى جبال درعة ويعرف الآخر منها في الشرق بابن حميدي ويصب من جبال نكيسة وادي نول ويمر مغرباً إلى أن يصب في البحر‏.‏ وعلى هذا الوادي بلد تاكاوصت محط الرقاق والبضائع بالقبلة وبها سوق في يوم واحد من السنة يقصده التجار من الآفاق وهو من الشهرة لهذا العهد بمكان‏.‏ وبلد إيفري بسفح جبل نكيسة بينها وبين تاكاوصت مرحلتان وأرض السوس مجالات لكزولة ولمطة‏.‏ فلمطة منهم مما يلي درن وكزولة مما يلي الرمل والقفر‏.‏ ولما تغلب المعقل على بسائطه اقتسموها مواطن فكان الشبانات أقرب إلى جبال درن‏.‏ وصارت قبائل لمطة من أحلافهم وصارت كزولة من أحلاف ذوي حسان‏.‏ والأمر على ذلك لهذا العهد وبيد الله تصاريف الأمور‏.‏

دولة بني أبي حفص
الخبر عن دولة بني أبي حفص ملوك إفريقية من الموحدين ومبدأ أمرهم وتصاريف أحوالهم قد قدمنا أن قبائل المصامدة بجبل درن وما حوله كثير مثل‏:‏ هنتاتة وتينملل وهرغة وكنفيسة وسكسيوة وكدميوة وهزرجة ووريكة وهزميرة وركراكة وحاحة وبني ماغوس وكلاوة وغيرهم ممن لا يحصى‏.‏ وكان منهم قبل الإسلام وبعده رؤساء وملوك‏.‏ وهنتاتة هؤلاء من أعظم قبائلهم وأكثرها جمعاً وأشدها قوة وهم السابقون للقيام بدعوة الإمام المهدي والممهدون لأمره وأمر عبد المؤمن من بعده كما ذكرناه في أخباره‏.‏ واسم هنتات جدهم بلسان المصامدة بنتي وكان كبيرهم لعهد الإمام المهدي الشيخ أبو حفص عمر ونقل البيذق أن اسمه بلسانهم فاصكات‏.‏ وهنتاتة لهذا العهد يقولون أنه اسم جده وكان عظيماً فيهم متبوع غير مدافع وهو أول من بايع للإمام المهدي من قومه فجاء يوسف بن وانودين وأبو يحيى بن بكيت وابن يغمور وغيرهم منهم على أثره‏.‏ واختص بصحابة المهدي فانتظم في العشرة السابقين إلى دعوته‏.‏ وكان تلو عبد المؤمن فيهم ولم يكن مزية عبد المؤمن عليه إلا من حيث صحابة المهدي‏.‏ وأما في المصامدة فكان كبيرهم غير مدافع وكان يسمى بين الموحدين بالشيخ كما كان المهدي يسمى بالإمام وعبد المؤمن بالخليفة‏.‏ سمات لهؤلاء الثلاثة من بين أهل الدعوة تدل على اشتراكهم في الجلالة‏.‏ وأما نسبه فهو عمر بن يحيى بن محمد بن وانودين بن علي بن أحمد بن والال بن إدريس بن خالد بن إليسع بن إلياس بن عمر بن وافتن بن محمد بن نحية بن كعب بن محمد بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب هكذا نسبه ابن نخيل وغيره من الموحدين‏.‏ ويظهر منه أن هذا النسب القرشي وقع في المصامدة والتحم به واشتملت عليه عصبيتهم شأن الأنساب التي تقع من قوم إلى قوم وتلتحم بهم كما قلناه أول الكتاب‏.‏ ولما هلك الإمام وعهد بأمره إلى عبد المؤمن وكان بعيداً عن عصبية المصامدة إلا ما كان له من أثرة المهدي واختصاصه فكتم موت المهدي وعهد عبد المؤمن ابتلاء لطاعة المصامدة‏.‏ وتوقف عبد المؤمن عن ذلك ثلاث سنين ثم قال له أبو حفص نقدمك كما كان الإمام يقدمك فاعلم أن أمره منعقد‏.‏ ثم أعلن بيعته وأمضى عهد الإمام بتقديم وحمل المصامدة على طاعته فلم يختلف عليه اثنان‏.‏ وكان الحل والعقد في المهمات إليه سائر أيام عبد المؤمن وابنه يوسف واستكفوا به نوائب الدعوة فكفاهم مهمها‏.‏ وكان عبد المؤمن يقدمه في المواقف فيجلي فيهم‏.‏ وبعثه على مقدمته حين زحف إلى المغرب الأوسط قبل فتح مراكش سنة سبع وثلاثين وزناتة كلهم مجتمعون بمنداس لحرب الموحدين مثل‏:‏ بني ومانوا وبني عبد الواد وبني ورسيفان وبني توجين وغيرهم فحمل زناتة على الدعوة بعد أن أثخن فيهم‏.‏ ولأول دخول عبد المؤمن لمراكش خرج عليه الثائر بماسة وانصرفت إليه وجوه الغوغاء وانتشرت ضلالته في النواحي وتفاقم أمره فدفع لحربه الشيخ أبا حفص فحسم داءه ومحا أثر غوايته‏.‏ ولما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى إفريقية حركته الأولى لم يقدم شيئاً على استشارة أبي حفص‏.‏ ولما رجع منها وعهد إلى ابنه محمد خالفه الموحدون ونكروا ولايته ابنه فاستدعى أبا حفص من مكانه بالأندلس وحمل الموحدين على البيعة له‏.‏ وأشار بقتل يصلاتي الهرغي رأس المخالفين في شأنه فقتله وتم أمر العهد لابنه محمد‏.‏ ولما اعتزم عبد المؤمن على الرحلة إلى إفريقية سنة أربع وخمسين حركته الثانية لفتح المهدية استخلف الشيخ أبا حفص على المغرب وينقل من وصاة عبد المؤمن لبنيه أنه لم يبق من أصحاب الإمام إلا عمر بن يحيى ويوسف بن سليمان‏.‏ فأما عمر فإنه من أوليائكم وأما يوسف فجهزه بعسكرة إلى الأندلس تستريح منه‏.‏ وكذلك فافعل بكل من تكرهه من المصامدة‏.‏ وأما ابن مردنيش فاتركه ما تركك وتربص به ريب المنون واخل إفريقية من العرب وأجلهم إلى بلاد المغرب وأذخرهم لحرب ابن مردنيش إن احتجت إلى ذلك‏.‏ ولما ولي يوسف بن عبد المؤمن تخلف الشيخ أبو حفص عن بيعته ووجم الموحدون لتخلفه حتى استنبل غرضه في حكم أمضاه بمقعد سلطانه وأعجب بفضله فأعطاه صفقة يمينه وأعلن بالرضى بخلافته فكانت عند يوسف وقومه من أعظم البشائر وتسمى لها بأمير المؤمنين سنة ثلاث وستين‏.‏ ولما ولي يوسف بن عبد المؤمن وتحركت الفتنة بجبال غمارة وصنهاجة التي تولى كبرها سبع بن منغفاد سنة اثنتين وستين عقد للشيخ أبي حفص على حربهم فجلى في ذلك‏.‏ ثم خرج بنفسه فأثخن فيهم وكمل الفتح كما ذكرناه‏.‏ ولما بلغه سنة أربع وستين تكالب الطاغية على الأندلس وغمره بمدينة بطليوس واعتزم على الإجازة لحمايتها قدم عساكر الموحدين إليها لنظر الشيخ أبي حفص ونزل قرطبة وأمر من كان بالأندلس من السادة أن يرجعوا إلى رأيه فاستنقذ بطليوس من هوة الحصار وكانت له في الجهاد هنالك مقامات مذكورة‏.‏ ولما انصرف من قرطبة إلى الحضرة سنة إحدى وسبعين هلك عفا الله عنه في طريقه بسلا ودفن بها وكان أبناؤه من بعده يتناولون الإمارة بالأندلس والمغرب وإفريقية مع السادة من بني عبد المؤمن فولى المنصور ابنه أبا سعيد على إفريقية لأول ولايته وكان من خبرة مع عبد الكريم المنتزي بالمهدية ما ذكرناه‏.‏ واستوزر أبا يحيى بن أبي محمد بن عبد الواحد وكان في مقدمته يوم الأركة سنة إحدى وتسعين فجلى عن المسلمين وكان له في ذلك الموقف من الصبر والثبات ما طار له به ذكر‏.‏ واستشهد في ذلك الموقف وعرف أعقابه ببني الشهيد آخر الدهر وهم لهذا العهد بتونس‏.‏ ولما نهض الناصر إلى إفريقية سنة إحدى وستمائة لما بلغه من تغلب ابن غانية على تونس فاسترجعها ثم نازل المهدية فتعاوت عليه ذئات الأغراب‏.‏ وجمعهم ابن غانية ونزل قابس فسرح الناصر إليهم أبا محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص في عسكر من الموحدين فأوقع بابن غانية بتاجرا من نواحي قابس سنة اثنتين وستمائة وقتل جبارة أخو ابن عانية وأثخن فيهم قتلا وسبياً واستنقذ منهم السيد أبا زيد بن يوسف بن عبد المؤمن الوالي كان بتونس وأسره ابن غانية ورجع إلى الناصر بمكانه من حصار المهدية فكانت سبباً في فتحها‏.‏ وكان ذلك مما حمل الناصر على ولاية الشيخ أبي محمد بإفريقية حسبما نذكره إن شاء الله‏.‏

امارة ابن الشيخ أبي حفص بإفريقية
الخبر عن إمارة أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص بإفريقية وهي أولية أمرهم بها لما تكالب ابن غانية وأتباعه على إفريقية واستولى على أمصارها وحاصر تونس وملكها وأسر السعيد أبا زيد أميرها ونهض الناصر من المغرب سنة إحدى وستمائة كما ذكرناه فاسترجعها من أيديهم وشردهم عن نواحيها‏.‏ وخيم على المهدية يحاصرها وقد أنزل ابن غانية ذخيرته وولده بها وأجلب في جموعه خلال ذلك على قابس فسرح الناصر إليه الشيخ أبا محمد هذا في عساكر الموحدين‏.‏ وزحف إليهم بتاجرا من جهات قابس فهزمهم واستولى على معسكرهم وما كان بأيديهم وأثخن فيهم بالقتل والسبي واستنقذ السيد أبا زيد من أسرهم ورجع إلى الناصر بعسكره من حصار المهدية ظافراً ظاهراً‏.‏ وعاين أهل المهدية يوم مقدمه بالغنائم والأسرى فبهتوا وسقط في أيديهم وسألوا النزول على الأمان‏.‏ وكمل فتح المهدية ورجع الناصر إلى تونس فأقام بها حولا إلى منتصف سنة ثلاث وستمائة‏.‏ وسرح أثناء ذلك أخاه السيد أبا إسحاق ليتتبع المفسدين ويمحو مواقع عيثهم فدوخ ما وراء طرابلس وأثخن في بني دمر ومطماطة ونفوسة وشارف أرض سرت وبرقة وانتهى إلى سويقة ابن مذكور‏.‏ وفر ابن غانية إلى صحراء برقة وانقطع خبره‏.‏ وانكفأ السيد راجعاً إلى تونس‏.‏ واعتزم الناصر على الرحلة إلى المغرب وقد أفاء على إفريقية ظل الأمر وضرب عليهم سرادق الحماية‏.‏ وبدا له أن ابن غانية سيخالفه إليها وأن مراكش بعيد عن الصريخ وأنه لا بد من رجل يسد فيها مسد الخلافة ويقيم بها سوق الملك فوقف اختياره على أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص ولم يكن ليبعدوه لما كان عليه هو وأبوه في دولتهم من الجلالة وأن أمر بني عبد المؤمن إنما تم بوفاق الشيخ أبي حفص ومظاهرته وأنا أباه المنصور كان قد أوصى الشيخ أبا محمد به وبأخوته‏.‏ وكان يوليه صلاة الصبح إذا حضر شغل وأمثال ذلك‏.‏ وسرى الخبر بذلك إلى أبي محمد فامتنع وشافهه الناصر به فاعتذر فبعث إليه ابنه يوسف فأكرم موصله‏.‏ وأجاب على شريطة اللحاق بالمغرب بعد قضاء مهمات إفريقية في ثلاث سنين وأن يختار عليهم من رجالات الموحدين وأن لا يتعقب عليه في تولية ولا عزل فقبل شرطه فنودي في الناس بولايته ورفعت بين الموحدين رايته‏.‏ وارتحل الناصر إلى المغرب ورجع عنه الشيخ أبو محمد من باجة فقعد مقعد الإمارة بقصبة تونس في السبت العاشر من شوال سنة ثلاث وستمائة وأنفذ أوامره واستكتب أبا عبد الله محمد بن أحمد بن نخيل ورجع ابن غانية إلى نواحي طرابلس فجمع أحزابه وأتباعه من العرب من سليم وهلال‏.‏ وكان فيهم محمد بن مسعود البلط في قومه من الدواودة وعاودوا عيثهم وخرج إليهم أبو محمد سنة أربع وستمائة في عساكر الموحدين‏.‏ وتحيز إليه بنو عوف من سليم وهم‏:‏ مرادس وعلاق فلقيهم بشبرو وتواقعوا واحتربوا عامة يومهم ونزل الصبر‏.‏ ثم انفض عسكر ابن غانية آخر النهار واتبعهم الموحدون والعرب واكتسحوا أموالهم وأفلت ابن غانية جريحاً إلى أقصى مفره‏.‏ ورجع أبو محمد إلى تونس بالظفر والغنيمة‏.‏ وخاطب الناصر بالفتح واستنجاز وعده في التحول عن الولاية فحاطته بالشكر والعذر بمهمات المغرب عن إدالته وأنه يستأنف النظر في ذلك‏.‏ وبعث إليه بالمال والخيل والكساء للإنفاق والعطاء‏.‏ كان مبلغها مائتا ألف دينار اثنتان وألف وثمان مائة كسوة وثلاثمائة سيف ومائة فرس غير ما كان أنفذ إليه من سبتة وبجاية ووعده بالزيادة‏.‏ وكان تاريخ الكتب سنة خمس فاستمر أبو محمد على شأنه وترادفت الوقائع بينه وبين يحيى الميورقي كما نذكره‏.‏

وقيعة تاهرت وما كان من أبي محمد في تلافيها واستنقاذ غنائمها
كان يحيى بن غانية لما أفلت من وقيعة شبرو بدا له ليقصدن بلاد زناتة بنواحي تلمسان وقارن ذلك وصول السيد أبي عمران بن موسى بن يوسف بن عبد المؤمن والياً عليها من مراكش وخروجه إلى بلاد زناتة لتمهيد أنحائهم وجباية مغارمهم‏.‏ وكتب إليه الشيخ أبو محمد نذيراً بشأنه وأن لا يتعرض له وأنه في أتباعه فأبى من ذلك وارتحل إلى تاهرت وصحبه بها ابن غانية فانفض معسكره‏.‏ وفرت زناتة في حصونها وقتل السيد أبو عمران‏.‏ واستبيحت تاهرت فكان آخر العهد بعمرانها وامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي وانقلبوا إلى إفريقية فاعترضهم الشيخ أبو محمد بموضع فأوقع بهم واستنقذ الأسرى من أيديهم واكتسح سائر مغانمهم وقتل فيها كثير من الملثمين‏.‏ ولحق فلهم بناحية طرابلس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره‏.‏

واقعة نفوسة
ومهلك العرب والملثمين بها كان ابن غانية بعد واقعة شبرو واستفتاح أبي محمد تاهرت من يده خلص إلى جهات طرابلس وتلاحق به فل الملثمين وأوليائه من العرب‏.‏ وكان المجلي معه في مواقفة الدواودة من رياح وكبيرهم محمد بن مسعود فتدامروا واعتزموا على معاودة الحرب وتعاقدوا الثبات والصبر وانطلقوا يستألفون الأعراب من كل ناحية حتى اجتمع إليهم من ذلك أمم كان فيهم من رياح وزغب والشريد وعوف ودباب ونفاث‏.‏ واختلفوا في الاحتشاد وأجمعوا دخول إفريقية فبادرهم أبو محمد قبل وصولهم إليها‏.‏ وخرج من تونس سنة ست وأغذ السير إليهم وتزاحفوا عند جبل نفوسة واشتدت الحرب‏.‏ ولما حمي الوطيس ضرب أبو محمد بنتيه وفساطيطه‏.‏ وتحيز إليه بعض الفرق من بني عوف بن سليم واحتل مصاف ابن غانية‏.‏ واتبعه الموحدون إلى أن دخل في غيابات الليل وامتلأت أيديهم بالأسرى والغنائم وسيقت ظعائن العرب‏.‏ وقد كانوا قدموها بين يديهم للحفيظة واللياذ في الكر والفر فأصبحت مغنماً للموحدين وربات خدورهم سبياً‏.‏ وهلك في المعركة خلق من الملثمين وزناتة والعرب كان فيهم عبد الله بن محمد بن مسعود البليط بن سلطان وشيخ الدواودة وابن عمه حركات بن أبي شيخ بن عساكر بن سلطان وشيخ بني قرة وجرار بن ويغزن كبير مغراوة ومحمد بن الغازي بن غانية في آخرين من أمثالهم‏.‏ وانصرف ابن غانية مهيض الجناح مفلول الحد محفوفاً بالبأس من جميع جهاته وانقلب أبو محمد والموحدين أعزة ظاهرين واستفحل أمر أبي محمد بإفريقية وحسم علل الفساد منها واستوفى جبايتها‏.‏ وطالت مواقف حروبه ولم تهزم له فيها راية‏.‏ وهلك الناصر وولي ابنه يوسف المستنصر واستبد عليه المشيخة لمكان صغره وشغلوا بفتنة بني مرين وظهورهم بالمغرب فاستكفى بالشيخ أبي محمد في إفريقية وعول على غنائه فيها وضبطه لأحوالها وقيامه بملكها فأبقاه على عملها وسرب إليه الأموال لنفقاتها وأعطياتها ولم يزل بها إلى أن هلك سنة ثمان عشرة‏.‏

الخبر عن مهلك الشيخ أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص
وولاية ابنه عبد الرحمن كانت وفاة الشيخ أبي محمد فاتح سنة ثمان عشرة‏.‏ ولما هلك ارتاع الناس لمهلكه وافترق الموحدون في الشورى فريقين بين عبد الرحمن ابن الشيخ أبي محمد وإبراهيم ابن عمه إسماعيل ابن الشيخ أبي حفص فترددوا ملياً ثم اتفقوا على الأمير أبي زيد عبد الرحمن ابنه وأعطوه صفقة أيمانهم وأقعدوه بمجلس أبيه في الإمارة فسكن الثائر وشمر للقيام بالأمر عزائمه‏.‏ وأفاض العطاء وأجاز الشعراء‏.‏ واستكتب أبا عبد الله بن أبي الحسين وخاطب المستنصر بالشأن‏.‏ وخرج في عساكره لتمهيد النواحي وحماية الجوانب إلى أن وصل كتاب المستنصر بعزل لثلاثة أشهر من ولايته حسبما نذكره فارتحل إلى المغرب ومعه أخوانه‏.‏ وكاتبه ابن أبي الحسين ولحق بالحضرة‏.‏

ولاية ابي العلا وابنه على افريقية
الخبر عن ولاية السيد أبي العلا على إفريقية وابنه أبا زيد من بعده وأخبارهم فيها واعتراضاتهم في الدولة الحفصية لما بلغ الخبر إلى مراكش بمهلك أبي محمد بن أبي حفص وقارن ذلك عزلة السيد أبي العلا من إشبيلية ووصوله إلى الحضرة مسخوطاً‏:‏ وهو أبو العلا إدريس بن يوسف عبد المؤمن أخو يعقوب المنصور وعبد الواحد المخلوع المبايع له بعد ذلك‏.‏ وعول على الوزير ابن المثنى في جبر حاله فسعى له عند الخليفة وعقد له على إفريقية ووصل الخطاب بولايته ونيابة إبراهيم بن إسماعيل ابن الشيخ أبي حفص عنه خلال ما يصل واستقدم أبناء الشيخ أبي محمد إلى الحضرة‏.‏ وقرئ الكتاب شهر ربيع الأول من سنة ثماني عشرة فقام الشيخ بالنيابة في أمره واستعمل أحمد المشطب في وزارته وغلب عليه بطانته وأساء في الموالاة لقرابته‏.‏ واختص أبناء الشيخ أبا محمد بقبيحة وظن امتداد الدولة له‏.‏ ووصل السيل أبو العلا شهر ذي القعدة من السنة فنزل بالقصبة ونزل ابنه السيد أبا زيد بقصر ابن فاخر من البلد ورتب الأمور ونهج السنن‏.‏ ولشهر من وصوله تقبض على محمد بن نخيل كاتب الشيخ أبي محمد وعلى أخويه أبي بكر ويحيى واستصفى أموالهم واحتاز عقارهم وضياعهم‏.‏ وكان المستنصر عهد إليه بذلك لما كان أسفه بفلتات من القول والكتاب تنمى إليه أيام رياسته في خدمة أبي محمد فاعتقلهم السيد أبو العلا ثم قتله وأخاه يحيى لشهر من اعتقالهما بعد أن فر من سجنه وتقبض فقتل‏.‏ ونقل أبو بكر إلى مطبق المهدية فأردع به‏.‏ وخرج السيد أبو العلا من تونس سنة تسع عشرة في عساكر الموحدين إلى نواحي قابس لقطع أسباب ابن غانية منها فنزل قصر العروسيين وسرح ولده السيد أبا زيد في عسكر من الموحدين إلى درج وغدامس من بلاد الصحراء لتمهيدها وجبايتها‏.‏ وقدم بين يده عسكراً‏.‏ آخراً لمنازلة ابن غانية بودان وواعدهم هناك منصرفه من غدامس فأرجف بهم العرب في طريقهم بمداخلة ابن غانية‏.‏ ومال بذله في ذلك فانفض العسكر وزحفوا إلى قابس‏.‏ وأهمل السيد أبو زيد في غدامس إليهم فلقيه خبر مفرهم‏.‏ فلحق بأبيه وأخبره بالجلى في أمرهم فسخط قائد العسكر وهم بقتله‏.‏ وطرق السيد أبا العلا المرض فرجع إلى تونس‏.‏ وبلغه أن ابن غانية نهض من ودان إلى الزاب وأن أهل بسكرة أطاعوه فسرح السيد أبا زيد في عساكر الموحدين إليه ودخل ابن غانية الرمل فأعجزهم‏.‏ ورجع السيد أبو زيد إلى بسكرة فأنزل بهم عقابه من النهب والتخريب ورجع إلى تونس‏.‏ ثم بلغه أن ابن غانية قد رجع إلى جوانب إفريقية واجتمع إليه أخلاط من العرب والبربر فسرح السيد أبا زيد إليه في العساكر ونزل بالقيروان وخالفه ابن غانية إلى تونس فقصده السيد أبو زيد ومعه العرب وهوارة بظعائنهم ومواشيهم‏.‏ وتزاحفوا بمجدول فاتح إحدى وعشرين واشتد القتال وعضت الموحدون الحرب وأبلى هوارة وشيخهم بعرة ابن حناش بلاء جميلا‏.‏ وضرب بنتيه وتناغوا في الثبات والصبر فانهزم الملثمون وانجلت المعركة عن حصيد من القتلى من أصحاب ابن غانية واستولى الموحدون على معسكرهم‏.‏ وكان بلغ السيد أبا زيد خبر مهلك أبيه السيد أبي العلا بتونس في شعبان سنة عشرين‏.‏ فلما فرغ من مواقعة ابن غانية رجع إلى تونس وأقصر عن متابعته‏.‏ وخاطب المستنصر بمهلك أبيه وواقعه الملثمين وكان المستنصر قد عزله واستبدل منة بأبي يحيى بن أبي عمران التينمللي صاحب ميورقة ولم يصل إليه الخبر بعزله بعد‏.‏ وهلك الملك المستنصر إثر ذلك سنة عشرين وولي عبد الواحد المخلوع ابن يوسف بن عبد المؤمن فنقض تلك العقدة وكتب إلى السيد أبي زيد بالإبقاء على عمله ونقض ما أصدر المستنصر من عزله فأرسل عنانه في الولاية وبسط يده في الناس بمكروهه وتنكرت له الوجوه وانحرف عنه الناس بما كانوا عليه من الصاغية لأبي محمد بن أبي حفص وولده إلى أن عزل واستبدل بهم كما نذكره وركب البحر بذخائره وأهله فلحق بالحضرة‏.‏ الخبر عن ولاية أبي محمد عبد الله بن أبي محمد ابن الشيخ أبي حفص وما كان فيها من الأحداث لما هلك المخلوع وولي العادل ولى على إفريقية أبا محمد عبد الله بن أبي محمد عبد الواحد‏.‏ وولى على بجاية يحيى بن الأطاس التينمللي وعزل عنها ابن يغمور‏.‏ وكتب إلى السيد أبي زيد بالقدوم‏.‏ وكتب أبو محمد عبد الله إلى ابن عمه موسى بن إبراهيم ابن الشيخ أبي حفص بالنيابة عنه خلال ما يصل فخرج السيد أبو زيد في ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين واستقل أبو عمران موسى بأمر إفريقية واستمرت نيابته عليها زهاء ثمانية أشهر‏.‏ وخرج أبو محمد عبد الله من مراكش إلى إفريقية‏.‏ ولما انتهى إلى بجاية قدم بين يديه أخاه الأمير أبا زكريا ليعترضه طبقات الناس للقائه فوصل إلى تونس في شعبان من هذه السنة بعد أن أوقع في طريقه بولهاصة‏.‏ وكان أولاد شداد رؤساؤهم قد جمعوا لاعتراضه بناحية بونة فسرح أخاه الأمير أبا زكريا لحسم دائهم ولخروج الطبقات من أهل الحضرة للقائه فكان كذلك‏.‏ وخرج في رمضان من سنته وخرج معه الناس على طبقاتهم فلقوه بسطيف ووصل إلى الحضرة في ذي القعدة من آخر السنة وتزحزح أبو عمران عن النيابة‏.‏ ثم لحقه من المغرب أخوه أبو إبراهيم في صفر سنة أربع وعشرين فعقد له على بلاد قسطيلية وعقد لأخيه الأمير أبي زكريا على قابس وما إليها وذلك في جمادى من هذه السنة‏.‏ وبعد استقراره بتونس بلغه أن ابن غانية دخل بجاية عنوة ثم تخطى كذلك إلى تدلس وأنه عاث في تلك الجهات فرحل من تونس وعقد لأخويه كما ذكرناه‏.‏ وأغذ السير إلى فحص أبة فصبح به هوارة وقد كان بلغه عنهم السعي في الفساد فأطلق فيهم أيدي عسكره واعتقل مشايخهم وأنفذهم إلى المهدية‏.‏ ثم مر في أتباع ابن غانية فانتهى إلى بجاية وسكن أحوالها ثم إلى متيحة ومليانة فأدركه الخبر أن ابن غانية قصد سجلماسة فانكفأ راجعاً إلى تونس ودخلها في رمضان سنة أربع وعشرين ولم يزل مستبداً بإمارته إلى أن ثار عليه الأمير أبو زكريا وغلبه على الأمر كما نذكر‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 06:47 AM

الخبر عن ولاية الأمير أبي زكريا ممهد الدولة لآل أبي حفص بإفريقية
ورافع الراية لهم بالملك وأولية ذلك وبدايته لما قتل العادل بمراكش سنة أربع وعشرين وبويع المأمون بالأندلس بعث إلى أبي محمد عبد الله بتونس ليأخذ له البيعة على من بها من الموحدين‏.‏ وكان المأمون قد فتح أمره بالخلاف ودعا لنفسه قبل موت أخيه العادل بأيام فامتنع أبو محمد ورد رسله إليه فكتب بذلك لأخيه الأمير أبي زكريا وهو بمكانه من ولاية قابس‏.‏ وعقد له على إفريقية فأخذ له البيعة على من إليه وداخله في شأنها ابن مكي كبير المشيخة بقابس‏.‏ واتصل ذلك بأبي محمد فخرج من تونس إليهم‏.‏ ولما انتهى إلى القيروان نكر عليه الموحدون نهوضه إلى حرب أخيه وانتقضوا عليه وعزلوه‏.‏ وطير بالخبر إلى أخيه في وفد منهم فألفوه معملا في اللحاق برخاب بن محمد وأعراب طرابلس فبايعوه ووصلوا به إلى معسكرهم‏.‏ وخلع أبو محمد نفسه ثم ارتحل الأمير أبو زكريا إلى تونس فدخلها في رجب من سنة خمس وعشرين وأنزل أخاه أبا محمد بقصر ابن فاخر وتقبض على كاتبه أبي عمرو طرا من الأندلس‏.‏ واستكتبه أبو محمد فغلب على هواه وكان يغريه بأخيه فبسط الأمير أبو زكريا عليه العذاب إلى أن هلك‏.‏ ثم بعث أخاه أبا محمد في البحر إلى الخبر عن استبداد الأمير أبي زكريا بالأمر لبني عبد المؤمن لما اتصل به ما أتاه المأمون من قتل الموحدين بمراكش وخصوصاً هنتاتة وتينملل‏.‏ وكان منهم أخواه أبو محمد عبد الله المخلوع وإبراهيم وأنه أشاع النكير على المهدي في العصمة وفي وضع العقائد والنداء للصلوات باللسان البربري وإحداث النداء للصبح وتربيع شكل الدرهم وغير ذلك من سننه‏.‏ وأنه غير رسوم الدعوة وبذل أصول الدولة‏.‏ وأسقط اسم الإمام من الخطبة والسكة وأعلن بلعنه‏.‏ ووافق بلوغ الخبر بذلك وصول بعض العمال إلى تونس بتولية المأمون فصرفهم وأعلن بخلعه سنة ست وعشرين‏.‏ وحول الدعوة إلى يحيى ابن أخيه الناصر المنتزي عليه بجبال الهساكرة‏.‏ ثم اتصل به بعد ذلك عجز يحيى واستقلاله فأغفله واقتصر على ذكر الإمام المهدي وتلقب بالأمير ورسم علامته به في صدور مكتوباته‏.‏ ثم جدد البيعة لنفسه سنة أربع وثلاثين وثبت ذكره في الخطبة بعد ذكر الإمام مقتصراً على لفظ الأمير لم يجاوزه إلى أمير المؤمنين‏.‏ وخاض أولياء دولته في ذلك حتى رفع إليه بعض شعرائه في مفتتح كلمة مدحه بها‏:‏ ألا صل بالأمير المؤمنينا فأنت بها أحق العالمينا فزحزحهم عن ذلك وأبى عنه ولم يزل على ذلك إلى آخر دولته‏.‏

الخبر عن فتح بجاية وقسطنطينة
لما استقل الأمير أبو زكريا بالأمر بتونس وخلع بني عبد المؤمن نهض إلى قسطنطينة سنة ست وعشرين فنزل بساحتها وحاصرها أياماً‏.‏ ثم داخله ابن علناس في شأنها وأمكنه من غرتها فدخلها وتقبض على واليها السيد ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني بن يوسف العشري‏.‏ وولى عليها ابن النعمان‏.‏ ورحل إلى بجاية فافتتحها وتقبض على واليها السيد أبي عمران ابن السيد أبي عبد الله الخرصاني وصيرهما معتقلين في البحر إلى المهدية‏.‏ وأجريت عليهما هنالك الأرزاق وبعث بأهلهما وولدهما مع ابن أوماز إلى الأندلس فنزلوا بإشبيلية‏.‏ وبعث معهما إلى المهدية في الاعتقال محمد بن جامع وابنه وابن أخيه جابر بن عون بن جامع من شيوخ مرداس عوف وابن أبى الشيخ بن عساكر من شيوخ الدواودة فاعتقلوا بمطبق المهدية وكان أخوه أبو عبد الله اللحياني صاحب أشغال بجاية فصار في جملته وولاه بعدها الولايات الجليلة وكان يستخلفه بتونس في مغيبه‏.‏ وفي هذه السنة تقبض على وزيره ميمون بن موسى واستصفى أمواله وأشخصه إلى قابس فاعتقل بها مدة‏.‏ ثم غربه إلى الإسكندرية واستوزر مكانه أبا يحيى بن أبي العلا بن جامع إلى أن هلك فاستوزر بعده أبا زيد ابن أخيه الآخر محمد إلى أن هلك‏.‏

الخبر عن مهلك ابن غانية وحركة السلطان إلى بجاية
وولاية ابنه الأمير أبي يحيي زكريا عليها لما استقل الأمير أبو زكريا بإفريقية وخلع طاعة بني عبد المؤمن صرف عزمه أولا إلى مدافعة يحيى بن غانية عن نواحي أعماله فكانت له في ذلك مقامات مذكورة وشرده عن جهات طرابلس والزاب وواركلا‏.‏ واختط بواركلا المسجد لما نزلها في أتباعه وأنزل بالأطراف عساكره وعماله لمنعها دونه‏.‏ ولم يزل ابن غانية وأتباعه من العرب من أفاريق سليم وهلال وغيرهم على حالهم من التشريد والجلاء إلى أن هلك سنة إحدى وثلاثين وستمائة وانقطع عقبه فانقطع ذكره ومحا الله آثار فتنته من الأرض‏.‏ واستقام أمر الدولة ونبضت منها عروق الاستيلاء واتساع نطاق الملك‏.‏ ونهضت عزائمه إلى تدويخ أرض المغرب فخرج من تونس سنة اثنتين وثلاثين يوم بلاد زناتة بالمغرب الأوسط‏.‏ وأغذ السير إلى بجاية فتلوم بها‏.‏ ثم ارتحل إلى الجزائر فافتتحها وولى عليها‏.‏ ثم نهض منها إلى بلاد مغراوة فأطاعه بنو منديل بن عبد الرحمن‏.‏ وجاهر بنو توجين بخلافه فنزل البطحاء وأوقع بهم‏.‏ وتقبض على رئيسهم عبد القوي بن العباس فاعتقله وبعث به إلى تونس ودوخ المغرب الأوسط وقفل راجعاً إلى حضرته‏.‏ وعقد مرجعه من المغرب لابنة الأمير أبي يحيى زكريا علي بجاية وأنزله بها‏.‏ واستوزر له يحيى بن صالح بن إبراهيم الهنتاتي وجعل شواره لعبد الله بن أبي تهدى وجبايته لعبد الحق بن ياسين وكلهم من هنتاتة‏.‏ وكتب إليه بوصيته مشتملة على جوامع الخلال في الدين والملك والسياسة يجب إثباتها لشرف مغزاها وغرابة معناها ويأتي نصها فيما بعد‏.‏ كان لهوارة هؤلاء بإفريقية ظهور وعدد منذ عهد الفتح وكانت دولة العبيديين قد جرت عليهم بكلكلها لما كان منهم في فتنة أبي يزيد كما نذكره في أخبارهم‏.‏ وبقي منهم فل بجبل أوراس وما بعده من بلاد إفريقية وبسائطها إلى أبة ومرماجنة وسبيبة وتبرسق‏.‏ ولما انقرض ملك صنهاجة بالموحدين وتغلب الأعراب من هلال وسليم على سائر النواحي بإفريقية وكثروا ساكنها وتغلبوا عليهم أخذ هذا الفل بمذهب العرب وشعارهم وشارتهم في اللبوس والزي والظعون وسائر العوائد‏.‏ وهجروا لغتهم العجمية إلى لغتهم ثم نسوها كأن لم تكن لهم شأن المغلوب في الاقتداء بغالبه‏.‏ ثم كان لهم انحياش أول الدولة إلى الطاعة بغلب عبد المؤمن وقومه‏.‏ فلما استبد الأمير أبو زكريا وانقلبت الدولة إلى بني أبي حفص ظهر منهم التياث في الطاعة وامتناع عن المغرم وأضرار بالسابلة فاعتمل السلطان في أمرهم‏.‏ وخرج من تونس سنة ست وثلاثين مورياً بالغزو إلى أهل أوراس وبعث في احتشادهم فتوافدوا في معسكره‏.‏ ثم صبحهم في عسكره من الموحدين والعرب ففتك بهم قتلا وسبياً واكتسح أموالهم وقتل كبيرهم أبو الطيب بعرة ابن حناش وأفلت من أفلت منهم ناجياً بنفسه عارياً من كسبه فألانت هذه البطشة من حدهم وخضدت من شوكتهم واستقاموا على الطاعة بعد‏.‏ الخبر عن ثورة الهرغي بطرابلس ومآل أمره كان هذا الرجل من مشيخة الموحدين وهو يعقوب بن يوسف بن محمد الهرغي ويكنى بأبي عبد الرحمن وكان الأمير أبو زكرياء وقد عقد له على طرابلس وجهاتها وسرح معه عسكراً من الموحدين لحمايتها من أعراب دباب من بني سليم فقام بأمرها واضطلع بجباية رعاياها‏.‏ واستخدم العرب والبربر الذين بساحتها وكان بينه وبين الجوهري مصدوقة ود‏.‏ فلما قتل الجوهري سنة تسع وثلاثين كما قدمناه استوحش لها يعقوب الهرغي واستقدمه السلطان فتلكأ وبعث عنه أخاه ابن أبي يعقوب فازداد نفاره وحدثته نفسه بالاستبداد لما كان أثرى من الجباية وشعر لها أهل البلد‏.‏ فانطلقوا وهم يتخافون أن يعاجلوه قبل مداخلته العرب في أمره فتقبضوا عليه وعلى أخيه وعلى أتباعهما ليلة أجمعوا الثورة في صباحها‏.‏ وطيروا بالخبر إلى الحضرة فنفذ الأمر بقتلهم فقتلوا وبعث برؤوسهم إلى باب السلطان ونصبت أشلاؤهم بأسوار طرابلس وأصبحوا عبرة للمعتبرين وأنشد الشعراء في التهنية بهم وقامت للبشائر سوق لكائنتهم‏.‏ وكان ممن قتل معه محمد ابن قاضي القضاة بمراكش أبي عمران بن عمران‏.‏ وصل علقا إلى تونس وقصد طرابلس فاتصل بهذا الهرغي ونمى عنه أنه أنشأ خطبة ليوم البيعة فكانت سائقة حتفه‏.‏ وكان بالمهدية رجل من الدعاة يعرف بأبي حمراء اشتهر بالنجدة في غزو البحر وقدم على الأسطول فردد الغزو حتى هابه الغزى من أمم الكفر وأمنت سواحل المسلمين من طروقهم‏.‏ وطار له فيها ذكر ونمي أنه كان مداخلاً للجواهري والهرغي وأن القاضي بالمهدية أبا زكرياء البرقي اطلع على دسيستهم في ذلك فنفذ الأمر السلطاني للوالي بها أبي علي بن أبي موسى بن أبي حفص بقتل ابن أبي الأحمر وإشخاص القاضي إلى الحضرة معتقلاً فأمضى عهده‏.‏ ولما وصل البرقي إلى تونس فحص السلطان عن شأنه فبرئ من مداخلتهم فسرحه وأعاده إلى بلده‏.‏ وقتل بالحضرة رجل آخر من الجند اتهم بمداخلتهم وسعايته في قيامهم وكان له تعلق برحاب بن محمود أمير دباب فأوعز السلطان إلى بعض الدعار من زناتة فقتله غيلة ثم أهدر دمه‏.‏ وتتبع أهل هذه الخائنة بالقتل حتى حسم الداء ومحا شوائب الفتنة‏.‏

الخبر عن بيعة بلنسية ومرسية وأهل شرق الأندلس ووفدهم
لما استقل أبو جميل زيان بن أبي الحملات مدافع بن أبي الحجاج بن سعد ابن مردنيش بملك بلنسية وغلب عليها السيد أبا زيد ابن السيد أبي حفص وذلك عند خمود ريح بني عبد المؤمن بالأندلس وخروج ابن هود على المأمون ثم فتنته هو مع ابن هود وثورة ابن الأحمر بأرجونة واضطراب الأندلس بالفتنة‏.‏ وأسف الطاغية إلى ثغور الأندلس من كل جانب‏.‏ وزحف ملك أرغون إلى بلنسية فحاصرها وكانت للعدو سنة ثلاث وثلاثين سبع محلات لحصار المسلمين‏:‏ اثنتان منها على بلنسية وجزيرة شقر وشاطبة‏.‏ ومحلة بجيان ومحلة بطبيرة ومحلة بمرسية ومحلة بلبلة وأهل جنوة من وراء ذلك على سبتة‏.‏ ثم تملك طاغية قشتالة مدينة قرطبة وظفر طاغية أرغون بالكثير من حصون بلنسية والجزيرة وبنى حصن أنيشة لحصار بلنسية‏.‏ وأنزل بها عسكره وانصرف فاعتزم زيان بن مردنيش على غزو من بقي بها من عسكره واستنفر أهل شاطبة وشقر وزحف إليهم فانكشف المسلمون وأصيب كثير منهم‏.‏ واستشهد أبو الربيع بن سالم شيخ المحدثين بالأندلس وكان يوماً عظيماً وعنواناً على أخذ بلنسية ظاهراً‏.‏ ثم ترعدت عليها سرايا العدو‏.‏ ثم زحف إليها طاغية أرغون في رمضان سنة خمس وثلاثين فحاصرها واستبلغ في نكايتها‏.‏ وكان بنو عبد المؤمن بمراكش قد فشل ريحهم وظهر أمر بني أبي حفص بأفريقية فأمل ابن مردنيش وأهل شرق الأندلس الأمير أبا زكرياء للكرة وبعثوا إليه بيعتهم وأوفد عليه ابن مردنيش كاتبه الفقيه أبا عبد الله بن الأبار صريخاً فوفد وأدى بيعتهم في يوم مشهود بالحضرة وأنشد يستصرخه فيها للمسلمين وهي هذه‏:‏ أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إن السبيل إلى منجاتها درسا لها من عزيز النصر ما التمست فلم يزل منك عز النصر ملتمسا عاش مما تعانيه حشاشتها فطالما ذاقت البلوى صباح مسا كل شارقة إلمام بائقة يعود مأتمها عند العدى عرسا وكل غاربة أجحاف نائبة تثني الأمان حذاراً والسرور أسا قاسم الروم لا نالت مقاسمهم إلا عقائلها المحجوبة الأنسا وفي بلنسية منها وقرطبة ما يذهب النفس أو ما ينزف النفسا مدائن حلها الأشراك مبتسماً جذلان وارتحل الإيمان منبئسا وصيرتها العوادي عائثات بها يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا ما للمساجد عادت للعدى بيعاً وللنداء يرى أثناءها جرسا لهفاً عليها إلى استرجاع فائتها مدارساً للمثاني أصبحت درسا وأربعاً غنمت أيدي الربيع بها ما شئت خلع من موشية وكسا كانت حدائق للأحداق مونقة فصوخ النضر من أدواحها وعسا وحال ما حولها من منظر عجب يستوقف الركب أو يستركب الجلسا سرعان ما عاث جيش الكفر واحرباً عيث الدبا في مغانيها التي كبسا ورج أرجاءها لما أحاط بها فغادر الشم من أعلامها خنسا خلا له الجو وامتدت يداه إلى إدراك ما لم تنل رجلاه مختلسا وأكثر الزعم بالتثليث منفرداً ولو رأى راية التوحيد ما نبسا صل حبلها أيها المولى الرحيم فما أبقى المراس لها حبلا ولا مرسا وأحي ما طمست منها العداة كما أحييت من دعوة المهدي ما طمسا أيام صرت لنضر الحق مستبقاً وبت من نور ذاك الهدي مقتبسا وقمت فيها لأمر الله منتصراً كالصارم اهتز أو كالعارض انبجسا تمحو الذي كتب التجسيم من ظلم والصبح ماحية أنواره الغلسا هذي رسائلها تدعوك من كتب وأنت أفضل مرجو لمن يئسا وافتك جارية بالنخح راجية منك الأمير الرضي والسيد الندسا خاضت خضارة يعلوها ويخفضها عبابه فتعاني اللين والشرسا وربما سبحت والريح عاتية كما طلبت بأقصى شدة الفرسا مؤيد لو رمى نجماً لأثبته ولو دعا أفقاً لبى وما احتبسا إمارة تحمل المقدار رأيتها ودولة عزها يستصحب القعسا يبدي النهار بها من ضوئه شنبا ويطلع الليل من ظلمائه لعسا كأنه البدر والعلياء حالته تحف من حوله شهب القنا حرسا له الثرى والثريا خطتان فلا أعز من خطتيه ما سما ورسا يا أيها الملك المنصور أنت لها علياء توسع أعداء الهدى تعسا وقد تواترت الأنباء إنك من يحيى بقتل ملوك الصفر أندلسا طهر بلادك منهم إنهم نجس ولا طهارة ما لم تغسل النجسا وأوطئ الفيلق الجرار أرضهم حتى يطأطئ رأس كل من رأسا وانصر عبيداً بأقصى شرقها شرقت عيونهم أدمعا تهمي زكاً وخسا هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت داء متى لم تباشر حسمه انتكسا أملأ هنيئاً لك التمكين ساحتها جرداً سلاهب أو خطية دعسا وكانت قيمة ذلك مائة ألف دينار‏.‏ وجاءهم الأسطول بالممد وهم في هذا الحصار فنزل بمرسى دانية واستفرغ الممد بها ورجع بالناض إذا لم يخلص إليه من قبل ابن مردنيش من يتسلمه‏.‏ واشتد الحصار على أهل بلنسية وعدمت الأقوات وكثر الهلاك من الجوع فوقعت المراوضة على إسلام البلد فتسلمها جاقمة ملك أركون في صفر سنة ست وثلاثين وخرج عنها ابن مردنيش إلى جزيرة شقر فأخذ البيعة على أهلها للأمير أبي زكريا‏.‏ ورجع ابن الأبار إلى تونس فنزل على السلطان وصار في جملته وألح العدو على حصار ابن مردنيش بجزيرة شقر وأزعجه عنها إلى دانية فدخلها في رجب من سنته وأخذ عليهم البيعة للأمير أبي زكرياء‏.‏ ثم داخل أهل مرسية وقد كان بويع بها أبو بكر عزيز بن عبد الملك بن خطاب في مفتتح السنة فافتتحها عليه في رمضان من سنته وقتله وبعث ببيعتهم إلى الأمير أبي زكرياء‏.‏ وانتظمت البلاد الشرقية في طاعته وانقلب وفد ابن مردنيش إليه من تونس بولايته على عمله سنة سبع وثلاثين ولم يزل بها إلى أن غلبه ابن هود على مرسية وخرج عنها إلى لقنت الحصون سنة ثمان وثلاثين إلى أن أخذها طاغية برشلونة من يده سنة أربع وأربعين وأجاز إلى تونس والبقاء لله‏.‏

الخبر عن المجوسي وأوليته ومآل أمره
اسم هذا الرجل‏:‏ محمد بن محمد الجوهري وكان مشتهراً بخدمة ابن أكمازير الهنتاتي والي سبتة وغمارة من أعمال المغرب‏.‏ وكان حسن الضبط مترامياً إلى الرياسة‏.‏ ولما ورد على تونس وتعلق بأعمال السلطان نظر فيما يزلفه ويرفع من شأنه فوجد جباية أهل الخيام بأفريقية من البرابرة الموطنين مع الأعراب غير منضبطة ولا محصلة في ديوان فنبه على أنها مأكلة للعمال ونهبة للولاة فدفع إليها فأنمى جبايتها وقرر ديوانها وصارت عملاً منفرداً يسمى عمل العمود وطار له بذلك بين العمال ذكر جذب له السلطان أبو زكرياء بضبعه وعول على نصيحته وأثره باختصاصه‏.‏ ووافق ذلك موت أبي الربيع الكنفيتي المعروف بابن الغريغر صاحب الأشغال بالحضرة فاستعمل مكانه وكان لا يلي ذلك الخطة إلا كبير من مشيخة الموحدين فرشحه السلطان لها لكفايته وعنائه فظفر منها بحاجة نفسه واعتدها ذريعة إلى أمنيته فاتخذ شارة أرباب السيوف وارتبط الخيل واتخذ الآلة في حروبه مع أهل البادية إذا احتاج إليها‏.‏ وأسف أثناء ذلك أبا علي بن النعمان وأبا عبيد الله بن أبي الحسن بعدم الخضوع لهما فنصبا له وأغريا به السلطان وحفراه غائلة عصيانه‏.‏ وكان فيه إقدام أوجد به السبيل على نفسه ويحكى أن السلطان استشاره ذات يوم في تقويم بعض أهل الخلاف والعصيان فقال له‏:‏ عندي ببابك ألف من الجنود أرم بها من تشاء من أمثالهم فأعرض عنه السلطان واعتدها عليه‏.‏ وجعلها مصداقاً لما نمي عنه‏.‏ ولما قدم عنه عبد الحق بن يوسف بن ياسين على الأشغال ببجاية مع زكرياء ابن السلطان أظهر له الجوهري أن ذلك بسعايته وعهد إليه بالوقوف عند أمره والعمل بكتابه فألقى عبد الحق ذلك إلى الأمير أبي زكرياء فقام لها وقعد وأنف من استبداد الجوهري عليه‏.‏ ولم تزل هذه وأمثالها تعد عليه حتى حق عليه القول فسطا به الأمير أبو زكرياء وتقبض عليه سنة تسع وثمانين ووكل امتحانه إلى أعدائه ابن برعان والندرومي فتجلد على العذاب وأصبح في بعض أيامه ميتاً بمحبسه‏.‏ ويقال خنق نفسه وألقي شلوه بقارعة الطريق فتفنن أهل الشمات في العيث به وإلى الله المصير‏.‏

الخبر عن فتح تلمسان ودخول بني عبد الواد في الدعوة الحفصية
كان الأمير أبو زكرياء منذ استقل بأمر أفريقية واقتطعها عن بني عبد المؤمن كما ذكرناه متطاولاً إلى ملك الحضرة بمراكش والاستيلاء على كرسي الدعوة‏.‏ وكان يرى أن بمظاهرة زناتة له على شأنه يتم له ما يسمو إليه من ذلك فكان يداخل أمراء زناتة فيه ويرغبهم ويراسلهم بذلك على الأحياء من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين ومغراوة‏.‏ وكان يغمراسن منذ تقلد طاعة آل عبد المؤمن أقام دعوتهم بعمله متحيزاً إليهم سلماً لوليهم وحرباً على عدوهم‏.‏ وكان الرشيد منهم قد ضاعف له البر والخلوص وخطب منه مزيد الولاية والمصافاة وعاوده الإتحاف بأنواع الألطاف والهدايا تغمناً لمسراته وميلاً إليه عن جانب أقتاله بني مرين المجلبين على المغرب والدولة فاستكبر السلطان أبو زكرياء اتصال الرشيد هذا بيغمراسن وآله وهم جواره بالمحل القريب‏.‏ وبينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القوي أمير بني توجين وبعض ولد منديل بن عبد الرحمن أمراء مغراوة صريخاً على يغمراسن فسهلوا له أمره وسولوا له الاستبداد على تلمسان‏.‏ وجمع كلمة زناتة وإعداد ذلك ركاباً لما يرومه من امتطاء ملك الموحدين بمراكش وانتظامه في أمره وسلماً لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه وباباً لولوج المغرب على أهله فحركه أملاؤهم وهزه إلى النعرة صريخهم وأهاب بالموحدين وسائر الأولياء والعساكر إلى الحركة على تلمسان‏.‏ واستنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في طاعته من بني سليم ورياح بظعنهم فأهطلوا لداعيه‏.‏ ونهض سنة تسع وثلاثين في عساكر ضخمة وجيوش وافرة‏.‏ وسرح إمام حركته عبد القوي بن العباس وأولاد منديل بن محمد لحشد من بأوطانهم من أحياء زناتة وذؤبان قبائلهم وأحياء زغبة أحلافهم فى العرب‏.‏ وضرب معهم موعداً لموافاتهم في تخوم بلادهم‏.‏ ولما نزل صحراء زاغر قبلة تيطري منتهى مجالات رياح وبني سليم من المغرب تثاقل العرب عن الرحلة بظعنهم في ركاب السلطان وتلووا بالمعاذير فألطف الأمير أبو زكرياء الحيلة‏.‏ زعموا في استنهاضهم وتنبيه عزائمهم فارتحلوا معه حتى نازل تلمسان بجميع عساكر الموحدين وحشود زناتة وظعن العرب بعد أن كان قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة بالأعذار والدعاء إلى الطاعة فرجعهم بالخيبة‏.‏ ولما حلت عساكر الموحدين بساحة البلد وبرز يغمراسن وجموعه للقاء بصحبتهم ناشئة السلطان بالنبل فانكشفوا ولاذوا بالجدران وعجزوا عن حماية الأسوار فاستمكنت المقاتلة من الصعود‏.‏ ورأى يغمراسن أن قد أحيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتقاً في ذويه وخاصته‏.‏ واعترضه عساكر الموحدين فصمم نحوهم وجندل بعض أبطالهم فأفرجوا له ولحقوا بالصحراء ونسلت الجيوش إلى البلد من كل حدب فاقتحموه وعاثوا فيه بقتل النساء والصبيان واكتساح الأموال‏.‏ ولما تجلى غشي تلك الهيعة وحسر تيار الصدمة وخمدت نار الحرب راجع الموحدون بصائرهم وأنعم الأمير أبو زكرياء نظره فيمن يقلده أمر تلمسان والمغرب الأوسط وينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة بني عبد المؤمن والمدافعة عنها‏.‏ واستكبر ذلك أشرافهم وتدافعوه وتبرأ أمراء زناتة ضعفاً عن مقاومة يغمراسن علماً بأنه الفحل الذي لا يقرع أنفه ولا يطرق غيله ولا يصد عن فريسته‏.‏ وسرح يغمراسن الغارات في نواحي المعسكر فاختطف الناس من حوله واطلعوا من المراقب عليه‏.‏ ثم بعث وفده متطارحين على السلطان في الملامة والاتفاق واتصال اليد على صاحب مراكش طالب الوتر في تلمسان وأفريقية‏.‏ وأن يفرده بالدعوة الموحدية فأجابه إلى ذلك‏.‏ ووفدت أمه سوط النساء للاشتراط والقبول فأكرم موصلها وأسنى جائزتها وأحسن وفادتها ومنقلبها وسوغ ليغمراسن في شرطه بعض الأعمال بأفريقية وأطلق أيدي عماله على جبايته وارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله‏.‏ وفي أثناء طريقه وسوس إليه الموحدون باستبداد يغمراسن وأشاروا بإقامة منافسيه من زناتة وأمراء المغرب الأوسط شجى في صدره ومعترضاً عن مرامه وإلباسهم ما لبس من شارة السلطان وزيه فأجابهم وقلد كلا من عبد القوي بن عطية التوجيني والعباس بن منديل المغراوي ومنصور المليكشي أمر قومه ووطنه وعهد إليهم بذلك وأذن لهم في اتخاذ الآلة والمراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم فاتخذوه بحضرته وبمشهد من ملأ الموحدين‏.‏ وأقاموا مراسمها ببابه‏.‏ وأغذ السير إلى تونس قرير العين بامتداد ملكه وبلوغ وطره والإشراف على إذعان المغرب لطاعته وانقياده لحكمه وإدالة دعوة بني عبد المؤمن فيه بدعوته فدخل الحضرة واقتعد أريكته وأنشده الشعراء في الفتح وأسنى جوائزهم وتطاولت إليه أعناق الآفاق كما نذكره‏.‏ الخبر عن دخول أهل الأندلس في الدعوة الحفصية ووصول بيعة إشبيلة وكثير من أمصارها كان بإشبيلية أبو مروان أحمد الباجي من أعقاب أبي الوليد وأبو عمرو بن الجد من أعقاب الحافظ أبي بكر الطائر الذكر ورثا التجلة عن جدهما وأجراهما الخلفاء على سننهم‏.‏ وكانا مسمتين وقورين متبوعين من أهل بلدهما مطاعين في أفقهما‏.‏ وكان السادة من بني عبد المؤمن يعولون على شوراهما في مصرهما‏.‏ وكان بعدوة الأندلس التياث في الملك منذ وفاة المستنصر وانتزى بها السادة وافترقوا‏.‏ وثار بشرق الأندلس ابن هود وزيان بن مردنيش وبغربها ابن الأحمر‏.‏ وغلب ابن هود الموحدين وأخرجهم عنها‏.‏ وملك ابن هود إشبيلية سنة ست وعشرين واعتقل من كان بها من الموحدين‏.‏ ثم انتقضوا عليه سنة تسع بعدها وأخرجوا أخاه أبا النجاة سالماً وبايعوا الباجي وتسمى بالمعتضد واستوزر أبا بكر بن صاحب الرد ودخلت في بيعته قرمونة وحاصره ابن هود فوصل الباجي يده بمحمد بن الأحمر الثائر بأرجونة وجيان بعد أن ملك قرطبة‏.‏ وزحف ابن هود إليهم فلقوه وهزموه ورجعوا ظافرين فدخل الباجي إلى إشبيلة وعسكر بخارجها ثم انتهز فرصته في إشبيلية وبعث قريبه ابن أشقيلولة مع أهل أرجونة والنصارى إلى فسطاط الباجي فتقبضوا عليه وعلى وزيره وقتلوهما سنة إحدى وثلاثين‏.‏ ودخل ابن الأحمر إشبيلية ولشهر من دخوله إليها ثار عليه أهلها ورجعوا إلى طاعة ابن هود وولى عليهم أخاه أبا النجاة سالماً‏.‏ ولما هلك محمد بن هود سنة خمس وثلاثين صرف أهل إشبيلية طاعتهم إلى الرشيد بمراكش وولوا على أنفسهم محمد بن السيد أبي عمران الذي قدمنا أنه كان والياً بقسطنطينة وأن الأمير أبا زكرياء غلبه عليها واعتقله وبعث ولده إلى الأندلس فربي محمد هذا في كفالة أمه بإشبيلية‏.‏ ولما سار أهل إشبيلية للرشيد قدموه على أنفسهم وتولى كبر ذلك أبو عمرو بن الجد وبعثوا وفدهم إلى الحضرة فأقر السيد أبا عبد الله على ولايتهم‏.‏ واستمرت في دعوة الرشيد إلى أن هلك سنة أربعين‏.‏ وقد ملك الأمير أبو زكرياء تلمسان وأشرف على أعمال المغرب فاقتدوا بمن تقدم إلى بيعته من أهل شرق الأندلس ببلنسية ومرسية وبايعوا للأمير أبي زكرياء بن أبي محمد بن أبي حفص واقتدى بهم أهل شريش وطريف وبعثوا إليه وفدهم ببيعته سنة إحدى وأربعين‏.‏ وسألوا منه ولاية بعض أهل قرابته فولى عليهم أبا فارس ابن عمه يونس ابن الشيخ أبي حفص فقدم إشبيلية وقام بأمرها وسلم له ابن الجد في نقضها وإبرامها‏.‏ ثم انتقض عليه سنة ثلاث وأربعين وطرده من البلد إلى سبتة واستبد بأمر إشبيلية ووصل يده بالطاغية‏.‏ وعقد له السلم وضرب على أيدي أهل المغاورة من الجند وأسقطهم من ديوانه فقتلوه بإملاء قائدهم شفاف واستقل بأمر إشبيلية‏.‏ ورجع أبا فارس بن أبي حفص وولاه بدعوة الأمير أبي زكرياء فسخطهم الطاغية لذلك وانتقض عليهم وملك قرمونة ومرشانة‏.‏ ثم زحف إلى حصرهم وسألوه الصلح فامتنع‏.‏ وصار أمر البلد شورى بين القائد شفاف وابن شعيب ويحيى بن خلدون ومسعود بن خيار وأبي بكر بن شريح ويرجعون في أمرهم آخراً إلى الشيخ أبي فارس بن أبي حفص‏.‏ وأقاموا في هذا الحصار سنتين ونازلهم ابن الأحمر في جملة الطاغية وبعث إليهم الأمير أبو زكرياء المدد وجهز له الأسطول لنظر أبي الربيع بن الغريغر التينمللي‏.‏ وأوعز له إلى سبتة بتجهيز أسطولهم معه فوصل إلى وادي إشبيلية وغلبهم أسطول الطاغية على مرسية فرجع‏.‏ واستولى العدو عليها صلحاً سنة ست وأربعين بعد أن أعانهم ابن الأحمر بمدده وميرته‏.‏ وقدم الطاغية على أهل الدخن بها عبد الحق بن أبي محمد البياسي من آل عبد المؤمن والأمر لله‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 06:49 AM

الخبر عن بيعة أهل سبتة وطنجة وقصر ابن عبد الكريم
وتصاريف أحوالهم ومآل أمرهم كان أهل سبتة بعد إقلاع المأمون عنهم ونزول أخيه موسى عنها لابن هود قد انتقضوا وأخرجوا عنهم القشتيني والي ابن هود وقدموا عليهم أحمد الينشتي وتسمى بالموفق‏.‏ ثم رجعوا إلى طاعة الرشيد عندما بايعه أهل إشبيلية سنة خمس وثلاثين‏.‏ وتقبضوا على الينشتي وابنه وأدخلوا السيد أبا العباس ابن السيد أبي سعيد كان والياً بغمراة فولوه عليهم‏.‏ ثم عقد الرشيد على ديوان سبتة لأبي علي بن خلاص كان من أهل بلنسية واتصل بخدمة الرشيد فجلى فيها ودفعه إلى الأعمال فضبطها فولاه سبتة فاستقل بها‏.‏ وولى على طنجة يوسف ابن الأمير قائداً على الرحل الأندلسي وضابطاً لقصبتها‏.‏ حتى إذا هلك الرشيد سنة أربعين وقد استفحل أمر الأمير أبي زكرياء بأفريقية واستولى على تلمسان وبايعه الكثير من أمصار الأندلس فصرف ابن خلاص وجهه إليه‏.‏ وكان قد اقتنى الأموال واصطنع الرجال فدخل في دعوته وبعث الوفد ببيعته‏.‏ واقتدى به في ذلك أهل قصر ابن عبد الكريم فبعثوا بيعتهم للأمير أبي زكريا‏.‏ وعقد لابن خلاص على سبتة وما إليها فبعث بالهدية إليه في أسطول أنشأه لذلك سماه الميمون وأركب ابنه أبا القاسم فيه وافداً على السلطان ومعه الأديب إبراهيم بن سهل فعطب عند إقلاعه‏.‏ ولما رجع الأسطول من إشبيلية كما قدمناه على بقية هذا العطب وحزن أبي علي بن خلاص على ابنه رغب من قائده أبي الربيع بن الغريغر أن يحمله بجملته إلى الحضرة فانتقل بأهله واحتمل زخيرته‏.‏ ولما مر الأسطول بمرسى وهران نزل بساحلها فأراح وأحضر له تين فأكله فأصابه مغص في معاه هلك منه فجاءة سنة ست وأربعين‏.‏ وعقد السلطان على سبتة لأبي يحيى بن زكريا ابن عمه أبي يحيى الشهيد ابن الشيخ أبي حفص‏.‏ وبعث معه على الجباية أبا عمر بن أبي خالد الإشبيلي كان صديقاً لشفاف وعدواً لابن الجد‏.‏ ولما قتل شفاف لحق بالحضرة فولاه الأمير أبو زكرياء الخبر عن بيعة المرية لما هلك محمد بن هود بالمرية سنة خمس وثلاثين كما ذكرناه واسبتد وزيره أبو عبد الله محمد بن الرميمي بها وضبها لنفسه وضايقه ابن الأحمر فبعث ببيعته سنة أربعين إلى الأمير أبي زكرياء حين أخذ أهل شرق الأندلس بطاعته‏.‏ ولم يزل ابن الأحمر يحاصره إلى أن تغلب عليه سنة ثلاث وأربعين كما ذكرناه في أخباره‏.‏ وخرج منها إلى سبتة بأهله وذخيرته وأحله أبو علي بن خلاص محل البر والتكرمة وأنزله خارج المدينة في بساتين بنيونش وأجمع الثورة بأبي خلاص فنذر به وتغير له‏.‏ قلما رجع الأسطول من إشبيلية ركبه الرميمي ولحق بتونس فنزل على الأمير أبي زكرياء وحل من حضرته محل التكرمة‏.‏ واستوطن تونس وتملك بها الضياع والقرى وشيد القصور إلى أن هلك والبقاء لله وحده‏.‏

الخبر عن بيعة ابن الأحمر
كان محمد بن الأحمر قد انتزى على ابن هود ببلده أرجونة وتملك جيان وقرطبة وإشبيلية وغرب الأندلس وطالت فتنته مع ابن هود وراجع طاعته‏.‏ ثم انتقض عليه وبايع للرشيد سنة ست وثلاثين عندما بايعه أهل إشبيلية وسبته فلم يزلا على ذلك إلى أن هلك الرشيد على حين استفحال ملك الأمير أبي زكرياء بإفريقية وتأميله للنصرة والكرة فحول ابن الأحمر إليه الدعوة وأوفد بها أبا بكر بن عياش من مشيخة مالقة فرجعهم الأمير أبو زكرياء بالأموال للنفقات الجهادية‏.‏ ولم يزل يواصلها لهم من بعد ذلك إلى أن هلك سنة سبع وأربعين فأطلق ابن الأحمر نفسه من عقال الطاعة واستبد بسلطانه‏.‏

الخبر عن بيعة سجلماسة وانتقاضها
كان عبد الله بن زكريا الهزرجي من مشيخة الموحدين والياً بسلجماسة لبني عبد المؤمن‏.‏ ولما هلك الرشيد وبويع أخوه السعيد سنة أربعين ونميت إليه عن الهزرجي عظيمة من القول خشن بها صدره وبعث إليه مستعتباً فلم يعتبه‏.‏ ومزق كتابه فخشيه الهزرجي على نفسه واتصل به ما كان من استيلاء الأمير أبي زكرياء على تلمسان ونواحيها فخاطبه بطاعته وأوفد عليه بيعته فعقد له الأمير أبو زكرياء على سجلماسة وأنحائها وفوض إليه في أمرها ووعده بالمدد من المال والعسكر لحمايتها‏.‏ وخطب له عبد الله بسجلماسة وفر إليه من مراكش أبو زيد الكدميوي بن واكاك وأبو سعيد العود‏:‏ الرطب فلحق بتونس‏.‏ وأقام أبو زيد معه بسجلماسة‏.‏ وزحف إليه السعيد سنة إحدى وأربعين وقيل سنة أربعين ومن معسكره كان مفر أولئك المشيخة‏.‏ وخاطب السعيد أهل سجلماسة وداخلهم أبو زيد الكدميوي فغدروا بالهزرجي وثاروا به فخرج من سجلماسة وأسلمها وقام بأمرها أبو زيد الكدميوي‏.‏ وطير بالخبر إلى السعيد فشكر له فعلته وغفر له سالفته‏.‏ وتقبض على عبد الله الهزرجي بعض الأعراب وأمكن منه السعيد فقتله وبعث برأسه إلى سجلماسة فنصب بها ورجع من طريقه إلى مراكش وأقامت سجلماسة على دعوة عبد المؤمن إلى أن كان من خبرها ما نذكره في موضعه‏.‏

الخبر في بيعة مكناسة وما تقدمها من طاعة بني مرين
كان بين بني عبد الواد وبين بني مرين منذ أوليتهم وتقلبهم في القفار فتن وحروب ولكل منهما أحلاف في المناصرة وأشياع‏.‏ فلما التاثت دولة بني عبد المؤمن غلب كل منهما على موطنه وكانت السابقة في ذلك لبني عبد الواد لبعدهم عن حضرة مراكش حيث محشر العساكر ويعسوب القبائل‏.‏ ولما استبد الأمير أبو زكرياء بأمر إفريقية ودوخ المغرب الأوسط وافتتح تلمسان وأطاعه بنو عبد الواد حذر بنو مرين حينئذ غائلتهم‏.‏ وخافوا أن يظاهرهم الأمير أبو زكرياء عليهم فألانوا له في القول ولاطفوه على البعد بالطاعة وخاطبوه بالتمويل وأوجبوا له حق الخلافة ووعدوه أن يكونوا أنصاراً لدعوته وأعواناً في أمره ومقدمة في عسكره إلى مراكش وزحفه‏.‏ وحملوا من تحت أيديهم من قبائل المغرب وأمصاره على طاعتهم والاعتصام ببيعتهم ولم تزل المخاطبات بينهم وفي الأمير أبي زكرياء في ذلك من أميرهم عثمان بن عبد الحق وأخيه محمد من بعده‏.‏ ورسلهم تفد عليه بذلك مرة بعد أخرى إلى أن هلك الرشيد‏.‏ وقد استولى الأمير أبو زكرياء على تلمسان ودخل في دعوته قبائل زناتة بالمغرب الأوسط واستشرف أهل الأمصار من العدوتين إلى إيالته‏.‏ وكان أهل مكناسة قد اعتصموا بوصلة الأمير أبي يحيى بن عبد الحق وجاءهم وال من مراكش وأساء فيهم السيرة فتوثبوا به وقتلوه‏.‏ وبعثوا إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق فحملهم على بيعة الأمير أبي زكرياء فأنفذوها من إنشاء قاضيهم أبي المطرف بن عميرة سنة ثلاث وأربعين‏.‏ وضمن أبو يحيى بن عبد الحق حمايتهم خلال ما يأتيهم أمر السلطان من تونس ومدده‏.‏ وبلغ الخبر إلى السعيد فأرهف حده واعتزم على النهوض إليهم فخامهم الرعب وراجعوا طاعته وأوفدوا صلحاءهم وعلماءهم في الإقالة واغتفار الجريرة فتقبل ذلك إلى أن كان من حركته بعد ذلك ومهلكه ما هو معروف‏.‏

الخبر عن مهلك الأمير أبي يحيي زكرياء
ولي العهد بمكان إمارته من بجاية وتصيير العهد إلى أخيه محمد كان الأمير أبو زكرياء قد عقد لابنه أبي يحيى زكرياء على ثغر بجاية قاعدة ملك بني حماد وجعل إليه النظر في سائر أعمالها من الجزائر وقسطنطينة وبونة والزاب سنة ثلاث وثلاثين كما ذكرناه فاستقل بذلك وكان بمكان من الترشيح للخلاف بنفسه وجلاله وانتظامه في سلك أهل العلم والدين وإيناس العدل‏.‏ فولاه الأمير أبو زكرياء عهده سنة ثمان وثلاثين وأحضر الملأ لذلك وأشهدهم في كتابه وأوعز بذكره في الخطبة على المنابر مع ذكره‏.‏ وكتب إليه بالوصية التي تداولها الناس من كلامه ونصها‏:‏ اعلم سددك الله وأرشدك وهداك لما يرضيه وأسعدك وجعلك محمود السيرة مأمون السريرة‏.‏ إن أول ما يجب على من استرعاه الله في خلقه وجعله مسؤولا عن رعيته في جل أمرهم ودقه أن يقدم رضى الله عز وجل في كل أمر يحاوله وأن يكل أمره وحوله وقوته لله ويكون عمله وسعيه وذبه عن المسلمين وحربه وجهاده للمؤمنين بعد التوكل عليه والبراءة من الحول والقوة إليه‏.‏ ومتى فاجأك أمر مقلق أو ورد عليك نبأ مرهق فريض لبك وسكن جأشك وارع عواقب أمر تأتيه وحاوله قبل أن ترد عليه وتغشيه‏.‏ ولا تقدم إقدام الجاهل ولا تحجم إحجام الأخرق المتكاسل‏.‏ واعلم أن الأمر إذا ضاق مجاله وقصر عن مقاومته رجاله فمفتاحه الصبر والحزامة والأخذ مع عقلاء الجيش ورؤسائهم وفي التجارب من نبهائهم‏.‏ ثم الإقدام عليه والتوكل على الله فيما لديه والإحسان لكبير جيشك وصغيره الكثير على قدره والصغير على قدره‏.‏ ولا تلحق الحقير بالكبير فتجري الحقير على نفسك وتغلطه في نفسه وتفسد نية الكبير وتؤثره عليك فيكون إحسانك إليه مفسدة في كلا الوجهين ويضيع إحسانك وتشتت نفوس من معك‏.‏ واتخذ كبيرهم أباً وصغيرهم ابناً وأخفض لهم جناح الذل من الرحمة وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين‏.‏ واتخذ نفسك صغيرة وذاتك حقيرة وحقر أمورك ولا تستمع أقوال الغالطين المغلطين بأنك أعظم الناس قدراً وأكثرهم بذلا وأحسنهم سيرة وأجملهم صبراً فذاك غرور وبهتان وزور‏.‏ واعلم أن من تواضع لله رفعه الله‏.‏ وعليك بتفقد أحوال رعيتك والبحث عن عمالهم والسؤال عن سير قضاتهم فيهم ولا تنم عن مصالحهم ولا تسامح أحداً فيهم‏.‏ ومهما دعيت لكشف ملمة فاكشفها عنهم ولا تراع فيهم كبيراً ولا صغيراً إذا عدل عن الحق‏.‏ ولا تراع في فاجر ولا متصرف إلا ولا ذمة ولا تقتصر على شخص واحد في مسائل الرعية والمتظلمين‏.‏ ولا تقف عند مراده في أحوالهم‏.‏ واتخذ لنفسك ثقاة صادقين مصدقين لهم في جانب الله أوفر نصيب وفي رفع مسائل خلقه إليك أسرع مجيب‏.‏ وليكن سؤالك لهم أفذاذ فإنك متى اقتصرت على شخص واحد في نقله ونصحه حمله الهوى على الميل ودعته الحمية إلى تجنب الحق وترك قول الصدق‏.‏ وإذا رفع إليك أحد مظلمة وأنت على طريق فادعه إليك وسله حتى يوضح قصته لك‏.‏ وجاوبه جواب مشفق مصغ إلى قوله مصيخ إلى نازلته ونقله ففي إصاختك له وحنوك عليه أكبر تأنيس واعلم أن دماء المسلمين وأموالهم حرام على كل مؤمن بالله واليوم الآخر إلا في حق أوجبه الكتاب والسنة وعضدته أقاويل الشرعية والحجة أو في مفسد عائث في طرقات المسلمين وأموالهم جار على غيه في فساد صلاحهم وأحوالهم فليس إلا السيف فإن أثره عفاء ووقعه لداء الأدمغة الفاسدة دواء ولا تقل عثرة حسود على النعم عاجز عن السعي فإن إقالته تحمله على القول والقول يحمله على الفعل ووبال عمله عائد عليك‏.‏ فاحسم داءه قبل انتشاره وتدارك أمره قبل إظهاره واجعل الموت نصب عينيك ولا تغتر بالدنيا وإن كانت في يديك‏.‏ لا تنقلب إلى ربك إلا بما قدمته من عمل صالح ومتجر في مرضاته رابح‏.‏ واعلم أن الإيثار أربح المكاسب وأنجح المطالب والقناعة مال لا ينفد‏.‏ وقد قال بعض المفسرين في قوله عز من قائل‏:‏ ‏"‏ وتركنا عليه في الآخرين ‏"‏ إنه النبأ الحسن في الدنيا على ما خلد فيها من الأعمال المشكورة والفعلات الصالحة المذكورة‏.‏ فليكفك من دنياك ثوب تلبسه وفرس تذب به عن عباده‏.‏ وأرجو بك متى جعلت وصيتي هذه نصب عينيك لم تعدم من ربك فتحاً ييسره على يديك وتأييداً ملازماً لا يبرح عنك إلا إليك بمن الله وحوله وطوله‏.‏ والله يجعلك ممن سمع فوعى ولبى داعي الرشد إذا دعا إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏ تمت الوصية المباركة فعظم ترشيح الأمير أبي يحيى لذلك وعلا في الدولة كعبه وقوي عند الكافة تأميله وهو بحالة من النظر في العلم والجنوح للدين إلى أن هلك سنة ست وأربعين فأسى له السلطان واحتفل الشعراء في ريائه وتأبينه فكانوا يثيرون بذلك شجو السلطان ويبعثون حزنه وعقد العهد من بعده لأخيه الأمير أبي عبد الله محمد بحضور الملأ وإيداع الخاصة كتابهم بذلك في السجل إلى أن كان من خلافته ما نذكره بعد‏.‏

الخبر عن مهلك السلطان أبي زكرياء
وما كان عقبه من الأحداث كان السلطان أبو زكرياء قد خرج من تونس إلى جهة قسطنطينة للإشراف على أحوالها ووصل إلى باغاية فعرض العساكر بها ووافته هنالك الدواودة وشيخهم موسى بن محمد‏.‏ وكان منه اضطراب في الطاعة فاستقام‏.‏ وأصاب السلطان هنالك المرض فرجع إلى قسطنطينة‏.‏ ثم أبل من مرضه ووصل منها إلى بونة فراجعه المرض‏.‏ ولما نزل بظاهر بونة اشتد به مرضه‏.‏ وهلك لسبع بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين لاثنتين وعشرين سنة من ولايته ودفن بجامع بونة‏.‏ ثم نقل شلوه بعد ذلك إلى قسطنطينة سنة ست وستين بين يدي حصار النصارى تونس‏.‏ وبويع إثر مهلكة ابنه ولي عهده أبو عبد الله محمد كما نذكره‏.‏ وطار خبر مهلكه في الآفاق فانتقض كثير من أهل القاصية ونبذوا الدعوة الحفصية وعطل ابن الأحمر منابره من الدعوة الحفصية‏.‏ وتمسك بها يغمراسن بن زيان صاحب المغرب الأوسط فلم يزالوا عليها حيناً من الدهر إلى أن انقطعت في حصار تلمسان كما نذكره‏.‏ ولما بلغ الخبر بمهلكه إلى سبتة وكان بها أبو يحيى ابن الشهيد من قبل الأمير أبي زكرياء كما نذكره وأبو عمرو بن أبي خالد والقائد شفاف فثارت العامة وقتل ابن أبي خالد وشفاف وطردوا ابن الشهيد فلحق بتونس‏.‏ وتولى كبر هذه الثورة حجبون الرنداحي بمداخلة أبي القاسم العزفي‏.‏ واتفق الملأ على ولاية العزفي وحولوا الدعوة للمرتضى وذلك سنة سبع وأربعين‏.‏ وتبعهم أهل طنجة في الدعوة واستبد بها ابن الأمير وهو يوسف بن محمد بن عبد الله بن أحمد الهمداني كان والياً عليها من قبل أبي علي بن خلاص‏.‏ فلما صار الأمر للعزفي والقائد حجبون الرنداحي خالفهم هو إلى الدعوة الحفصية واستبد عليهم‏.‏ ثم خطب للعباسي وأشرك نفسه معه في الدكاء إلى أن قتله بنو مرين غدراً كما نذكره وانتقل بنوه إلى تونس ومعهم صهرهم القاضي أبو الغنم عبد الرحمن بن يعقوب من جالية شاطبة انتقل هو وقومه إلى طنجة أيام الجلاء فنزلوا بها وأصهر إليهم الأمير وارتحلوا معهم إلى تونس‏.‏ وعرف دين القاضي أبي القاسم وفضله ومعرفته بالأحكام والوثائق واستعمل في خطة القضاء بالحضرة أيام السلطان وكان له في ذكر‏.‏ ولما بلغ الخبر بمهلك الأمير أبي زكرياء إلى صقلية أيضاً وكان المسلمون بها في مدينة بلرم قد عقد لهم السلطان مع صاحب الجزيرة على الإشراك في البلد والضاحية فتساكنوا حتى إذا بلغهم مهلك السلطان بادر النصارى إلى العيث فيهم فلجوا إلى الحصون والأوعار ونصبوا عليهم ثائراً من بني عبس وحاصرهم طاغية صقلية بمعقلهم من الجبل‏.‏ وأحاط بهم حتى استنزلهم‏.‏ وأجازهم البحر إلى عدوته وأنزلهم بوجاره من عمائرها‏.‏ ثم تعدى إلى جزيرة مالطة فأخرج المسلمين الذين كانوا بها وألحقهم بأخوانهم‏.‏ واستولى الطاغية على صقلية وجزائرها‏.‏ ومحا منها كلمة الإسلام بكلمة كفره والله غالب على أمره‏.‏

الخبر عن بيعة السلطان أبي عبد الله المستنصر
وما كان في أيامه من الحوادث لما هلك الأمير أبو زكرياء بظاهر بونة سنة سبع وأربعين كما قدمناه اجتمع الناس على ابنه الأمير أبي عبد الله وأخذ له البيعة عمه محمد اللحياني على الخاصة وسائر أهل المعسكر وارتحل إلى تونس فدخل الحضرة ثالث رجب من السنة فجدد بيعته يوم وصوله وتلقب المستنصر بالله‏.‏ ثم جدد البيعة بعد حين واختار لوضع علامته‏:‏ الحمد لله والشكر لله وقام بأعباء ملكه وتقبض على خاصة أبيه الخصي كافور كان قهرمان داره فأشخصه إلى المهدية وأوعز إلى الجهات بأخذ البيعة على أهل العمالات فترادفت من كل جانب‏.‏ واستوزر أبو عبد الله بن أبي مهدي واستعمل على القضاء أبا زيد التوزري وكان يعلم ولد عمه محمد اللحياني الخبر عن ثورة ابن عمه محمد اللحياني ومقتله و مقتل أبيه كان للأمير أبي زكريا من الأخوة اثنان‏:‏ محمد وكان أسن منه ويعرف باللحياني لطول لحيته والآخر أبو إبراهيم وكان بينهم من المخالصة والمصافاة ما لا يعبر عنه‏.‏ ولما هلك الأمير أبو زكرياء وقام بالأمر ابنه أبو عبد الله المستنصر واستوزر محمد بن أبي مهدي الهنتاتي وكان عظيماً في قومه فأمل أن يستبد عليه لمكان صغره إذ كان في سن العشرين ونحوها‏.‏ واستصعب عليه حجر السلطان بما كان له من الموالي العلوجيين والصنائع من بيوت الأندلس‏.‏ فقد كان أبوه اصطنع منهم رجالا ورتب جنداً كثروا الموحدين وزاحموهم في مراكزهم من الدولة‏.‏ فداخل ابن أبي مهدي أخوي السلطان وبعث عندهما الأسف على ما فاتهما من الأمر فلم يجد عندهما ما أفل من ذلك‏.‏ فرجع إلى ابن محمد اللحياني فأجابه إلى ذلك‏.‏ وبايعه ابن أبي مهدي سراً ووعده المظاهرة‏.‏ ونمي الخبر بذلك إلى السلطان من عمه محمد اللحياني وحذره من غائلة ابنه وأبلغه ذلك أيضاً القاضي أبو زيد التوزري منتصحاً‏.‏ وباكر ابن أبي مهدي مقعده للوزارة بباب السلطان لعشرين من جمادى سنة ثمان وأربعين وتقبض على الوزير أبي زيد بن جامع‏.‏ وخرج ومشيخة الموحدين معه فبايعوا لابن محمد اللحياني بداره واستركب السلطان أولياءه‏.‏ وعقد للعاقد ظافر على حربهم فخرج في الجند والأولياء ولقي الموحدين بالمصلى خارج البلد ففض جمعهم وقتل ابن أبي مهدي وابن وازكلدن وسار ظافر مولى السلطان إلى دار اللحياني عم السلطان فقتله وابنه صاحب البيعة وحمل رؤوسهما إلى السلطان‏.‏ وقتل في طريقه أخاه أبا إبراهيم وابنه وانتهب منازل الموحدين وخربت‏.‏ ثم سكنت الهيعة وهدأت الثائرة وعطف السلطان على الجند والأولياء وجهل الاصطناع فأدر أرزاقهم ووصل تفقدهم‏.‏ وأعاد عبد الله بن أبي الحسين إلى مكانه بعد أن كان هجر أول الدولة وتزحزح لابن أبي مهدي عن رتبته وتضاءل لاستطالته فرجع إلى حاله واستقامت الأمور على ذلك‏.‏ ثم سعى عند السلطان بمولاه الظافر وقبحوا عنده ما أتاه من الأفتيات في قتل عميه من غير جرم‏.‏ ونذر بذلك فخشي البادرة ولحق بالدواودة وكان المتولي لكبر هذه السعاية هلال مولاه فقعد له مكانه واستنفر ظافر في جوار العرب طريداً إلى أن كان من أمره ما كان‏.‏

الخبر عن الآثار التي أظهرها السلطان في أيامه
فمنها شروعه في اختطاط المصانع الملوكية وأولها المصيد بناحية بنزرت‏.‏ اتخذه للصيد سنة خمسين فأدار سياجاً على بسيط من الأرض قد خرج نطاقه عن التحديد بحيث لا يراع فيه سرب الوحش فإذا ركب للصيد تخطى ذلك السياج إلى قوره في لمة من مواليه المتخصين وأصحاب بيزرته بما معهم من الجوارح بزاة وصقوراً وكلاباً سلوقية وفهوداً فيرسلونها على الوحش في تلك القوراء وقد وثقوا باعتراض البناء لها من أمام فيقضي وطراً من ذلك القنيص سائر يومه فكان ذلك من أفخم ما عمل في مثلها‏.‏ ثم وصل ما بين قصوره ورياض رأس الطائبة بحائطين ممتدين يجوزان عرض العشرة أذرع أو نحوها طريقاً سالكاً ما بينهما وعلى ارتفاع عشرة أذرع يحتجب به الحرم في خروجهن إلى تلك البساتين عن ارتفاع العيون عليهن فكان ذلك مصنعاً فخماً وأثراً على أيام الدولة خالداً‏.‏ ثم بنى بعد ذلك الصرح العالي بفناء داره ويعرف بقبة أساراك‏.‏ وأساراك بالسان المصمودي هو القوراء الفسيحة‏.‏ وهذا الصرح هو إيوان مرتفع السمك متباعد الأقطار متسع الأرجاء يشرع منه إلى الغرب وجانبيه ثلاثة أبواب لكل باب منها مصرعان من خشب مؤلف الصنعة ينوء كل مصراع منها في فتحة وغلقه بالعصبة أولي القوة‏.‏ ويفضي بابها الأعظم المقابل لسمت الغرب إلى معارج قد نصت للظهور عليها عريضة ما بين الجوف إلى القبلة بعرض الإيوان يناهز عمدها الخمسين أو نحوها ويفضي البابان عن جانبيه إلى طريقين ينتهيان إلى حائط القوراء‏.‏ ثم ينعطفان إلى ساحة القوراء يجلس السلطان فيها على أريكته مقابل الداخل أيام العرض والفود ومشاهد الأعياد فجاءت من أضخم الأواوين وأحفل المصانع التي تشهد بأبهة الملك وجلالة واتخذ أيضاً بخارج حضرته البستان الطائر الذكر المعروف بأبي فهر يشتمل على جنات وغير معروشات اغترس فيها من شجره كل فاكهة من أصناف التين والزيتون والرمان والنخيل والأعناب وسائر الفواكه وأصناف الشجر‏.‏ ونضد كل صنف منها في دوحة حتى لقد اغترس من السحر والطلح والشجر البري وسمى دوح هذه بالشعراء واتخذ وسطها البساتين والرياض بالمصانع والجوائز وشجر النور والنزه من الليم والنارنج والسرو والريحان وشجر الياسمين والخيري والنيلوفر وأمثاله‏.‏ وجعل وسط هذه الرياض روضاً فسيح الساحة وصنع فيه للماء حائزاً من عداد البحور جلب إليه الماء في القناة القديمة كانت ما بين عيون زغوان وقرطجنة تسلك بطن الأرض في أماكن وتركب البناء العادي ذا الهياكل الماثلة والقسي القائمة على الأرجل الضخمة في أخرى فعطف هذه القناة من أقرب السموات إلى هذا البستان‏.‏ وأمطاها حائطاً وصل ما بينهما حتى ينبعث من فوهة عظيمة إلى جب عميق المهوى رصيف البناء متباعد الأقطار مربع القنا مجلل بالكلس إلى أن يقمعه الماء فيرسله في قناة أخرى قريبة الغاية فتنبعث في الصهريج إلى أن يفهق حوضه وتضطرب أمواجه تترفه الحظايا عن السعي بشاطئه لبعد مداه فيركبن في الجواري المنشئات ثبجه فيتبارى بهن تباري الفتح ومثلت بطرفي هذا الصهريج قبتان متقابلتان كبراً وصغراً على أعمدة المرمر مشيدة جوانبها بالرخام المنجد ورفعت سقفها من الخشب المفدر بالصنائع المحكمة والأشكال المنمقة إلى ما اشتملت عليه ورفعت سقفها من الخشب المفدر بالصنائع المحكمة والأشكال المنمقة إلى ما اشتملت عليه هذنه الرياض من المقاصير والأواوين والحوائز والقصور غرفاً من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وتأنق في مبانيه هذه واستبلغ وعدل عن مصانع سلفه ورياضهم إلى متنزهاته من هذه فبلغ فيها الغاية في الاحتفال وطار لها ذكر في الأفاق‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 06:53 AM

الجزء الرابع

الخبر عن فرار أبي إسحاق وبيعة رياح له وما قارن ذلك من الأحداث
كان الأمير أبو إسحاق في إيالة أخيه المستنصر وكان يعاني من خلقه وملكته عليه شدة وكان السلطان يخافه على أمره وخرج سنة إحدى وخمسين لبعض الوجوه السلطانية ففر الأمير أبو إسحاق من معسكره ولحق بالدواودة من رياح فبايعوه بروايا من نواحي نقاوس واجتمعوا على أمره‏.‏وبايع له ظافر مولى أبيه النازع إليهم واعتقد منه الذمة والرتبة وقصدوا بسكرة وحاصروها ونادى بشعار طاعتهم فضل بن علي بن الحسن بن مزني من مشيختها‏.‏وائتمر به الملأ ليقتلوه ففر إليه وصار في جملته‏.‏ثم بايع له أهل بسكرة ودخلوا في طاعته ثم ارتحلوا إلى قابس فنازلوها واجتمعت عليه الأعراب من كل أوب‏.‏وأهم السلطان شأنه وتقبض على ولده فحبسهم بالقصبة جميعاً‏.‏ووكل بهم من يحوطهم وألطف ابن أبيلحسين الحيلة في فساد ما بين الأمير أبي إسحاق ومولاه ظافر وسار إلى المغرب‏.‏ثم لحق بالأندلس وافترق جموع الأمير أبي إسحاق فلحق بتلمسان وأجاز منها إلى الأندلس‏.‏ونزل على السلطان محمد بن الأحمر فرعى له عهد أبيه وأسنى له الجراية‏.‏وشهد هنالك الوقائع وأبلى في الجهاد‏.‏ولم يزل السلطان المستنصر يتاحف ابن الأحمر ويهاديه ويوفد عليه مشيخة الموحدين مصانعة في شأن أخيه واستجلاء لحاله إلى أن هلك‏.‏وكان من ولاية أخيه أبي إسحاق ما نذكر‏.‏ولحين مهلكه أجاز ظافر من الأندلس إلى بجاية‏.‏وأوفد ولده علي الواثق مستعتباً وراغباً في السبيل إلى الحج‏.‏وقلق المستولي على الدولة بمكانه وراسل شيخ الموحدين أبا هلال عياد بن محمد الهنتاني صاحب بجاية في اغتياله عن قصده فذهب دمه هدراً وبقي ولده عند بني توجين حتى جاءوا في جملة السلطان أبي إسحاق وبيد الله تصاريف الأمور‏.‏


الخبر عن بني النعمان ونكبتهم والخروج أثرها إلى الزاب
كان بنو النعمان هؤلاء من مشيخة هنتاتة ورؤسائهم وكان لهم في دولة الأمير أبي زكريا ظهور ومكان وخلصت ولاية قسطنطينة لهم يستعملون عليها من قرابتهم‏.‏واتصل لهم ذلك أول دولة المستنصر وكان كبيرهم أبو علي وتلوه ميمون وعبد الواحد وكان لهم في مداخلة اللحياني أثر‏.‏فلما استوسق للسلطان أمره وتمهدت دولته نكبهم وتقبض عليهم سنة إحدى وخمسين فأشخص أبو علي إلى الإسكندرية وقتل ميمون وانقرض أمرهم‏.‏وظهر أثر ذلك بالزاب خارج تسمى بأبي حمارة فخرج السلطان من تونس وقصده الزاب فأوقع به وبمجموعة وتقبض عليه وسيق إلى السلطان فقتله وبعث برأسه إلى تونس فنصب بها‏.‏وقفل السلطان إلى مقره فنزل بها وسخط وجوها من سليم‏:‏ من مرداس ودباب كان فيهم رحاب بن محمود وابنه فاعتقلهم وأشخصهم إلى المهدية فأودعهم بمطبقها ورجع إلى تونس ظافراً غانماً‏.‏


الخبر عن دعوة مكة ودخول أهلها في الدعوة الحفصية
كان صاحب مكة ومتولي أمرها من سادة الخلق وشرفائهم ولد فاطمة ثم من ولد ابنها الحسن صلوات الله عليهم أجمعين أبو نمي وأخوة إدريس وكانوا قائمين بالدعوة العباسية منذ حولها إليهم بمصر والشام والحجاز صلاح الدين يوسف بن أيوب الكردي وأمر الموسم وولايته راجعة إليه وإلى بنيه ومواليه من بعده إلى هذا العهد‏.‏وجرت بينهم وبين شرف الدين صاحب مكة مغاضبة وافقها استيلاء الططر على بغداد ومحوهم رسم الخلافة بها وظهور الدعوة الحفصية بإفريقية وتأميل أهل الآفاق فيها وامتداد الأيدي إليها بالطاعة‏.‏وكان أبو محمد بن سبعين الصوفي نزيلاً بمكة بعد أن رحل من بلده مرسية إلى تونس وكان حافظ العلوم الشرعية والعقلية وسالكاً مرتاضاً بزعمه على طريقة الصوفية‏.‏ويتكلم بمذاهب غريبة منها ويقول برأي الوحدة كما ذكرناه في ذكر المتصوفة الغلاة ويزعم بالتصوف في الأكوان على الجملة فأرهن في عقيدته ورمي بالكفر أو الفسق في كلماته وأعلن بالنكير عليه والمطالبة له شيخ المتكلمين بإشبيلية ثم بتونس أبو بكر بن خليل السكوني فتنمر له المشيخة من أهل الفتيا وحملة السنة وسخطوا حالته‏.‏وخشي أن تأسره البينات فلحق بالمشرق ونزل مكة وتذمم بجوار الحرم الأمين ووصل يده بالشريف صاحبها‏.‏فلما أجمع الشريف أمره على البيعة للمستنصر صاحب إفريقية داخله في ذلك عبد الحق بن سبعين وحرضه عليه وأملى رسالة بيعتهم وكتبها بخطه تنويهاً بذكره عند السلطان والكافة وتأميلاً للكرة ونصها‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على الأسوة المختار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً‏.‏‏"‏ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً وينصرك الله نصراً عزيزاً هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً ‏"‏‏.‏هذا النوع من الفتح أعني المبين هو من كل الجهات داخل الذهن وخارجه وهو الذي خصت به مكة وهو أعظم فتح نذر في أيام الدهر والزمان الفرد منه خير من أيام الشهر وبه تتم النعمة ويستقيم صراط الهداية وتحفظ النهاية وتغفر ذنوب البداية ويحصل النصر العزيز ونور السكينة وتتمكن قواعد مكة والمدينة‏.‏وكلمة الله عاملة في الموجودات بحسب قسمة الزمان‏.‏ثم لا يقال إنها متوقفة على شيء ولا في مكان دون مكان‏.‏وهذا الفتح قد كان بالقصد الأول والقدر الأكمل للمتبوع الذي أفاد الكمال الثاني كالسبع المثاني فإنه هو الأسوة صلى الله عليه وسلم وكل نعمة تظهر على سعيد ترجع إليه مثل التي ظهرت على خليقته وعلى يديه‏.‏وإن كانت نصبة مولده صلى الله عليه وسلم ورسالته تقتضي ختم الأنبياء بهذا القرن الذي نحن فيه وإمامنا فيه هو ختم الأولياء‏.‏فمن فتح عليه بفتح مكة تمت له النعمة ورفعت له الدرجة وضفت عليه الرحمة‏.‏ومن وصل سلطانه إليها فقد هدي الرشد وسار على صراطه ورجح ميزان ترجيحه على أقرانه وإرهاطه‏.‏ومن حرم هذا فقط حرم من ذلك والأمر هكذا‏.‏وسنة الله كذلك وصلى الله على رسوله الذي طلع المجد من مدينته بعد ما أطلعه من بلده ورضي الله عن خليفته المنتخب من عنصر خليفة عمر صاحب نبيه ثم من عمر صاحبه ووليه والحمد لله على نعمه‏.‏بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيد ولد آدم محمد‏.‏‏"‏ حتم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين‏.‏فيها يفرق كل أمر حكيم‏.‏أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين‏.‏رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ‏"‏‏.‏قد صح أن هذه الليلة فيها تنزل الآيات وترتقب البينات وفيها تخصيص القضايا الممكنة وأحكام الأكوان ويفرق الأمر ويفسر الملك الموكل بقبض الأرواح بحمل الآجال في الأزمان وفيها تقرر خطة الإمامة والملك وتقيض الإمامة بالهلك وهي في القول الأظهر في أفضل الشهور وفي السابع والعشرين منه كما ورد في الحديث المشهور‏.‏ثم هي في أم القرى وفي حرمها تقدر بقدر زائد ويعم فضلها إلا للحائد عن الفائد وإنما قلت هذا ورسمته ليعلم من وقف على الخطبة التي اقتضبتها والليلة التي فيها قرأتها أنها من أفضل المطالب التي قصدت وإن القرائن التي اجتمعت فيها ولها زادت على الفضائل التي لأجلها رصدت وأيضاً تأخر فيها مجد إمام عن إمام وبعد مجد إمامه وراء إمام هو وراء الإمام ورحمت فيها نفس خليفة عبرت وتلقب وعظمت فيها ذات خليفة تحيي التي سلفت فهذه نعمة بركة ينبغي أن يقرر حدها ويتحقق مجدها ولا يقدر قدرها فإنها ليلة قدر ليلة قدرها‏.‏والحمد لله حمداً واصلاً‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على واحد الله في عنايته سيدنا محمد ‏"‏ طسم تلك آيات الكتاب المبين ‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ منهم ما كانوا يحذرون ‏"‏ الحق الشاهد لنفسه المتفق من جميع جهاته وفي سنة الله التي لا تحول ولا تبدل والمتعارف من عادته التي ربطها بحكمته التي تعدل ولا تعدل إن لكل هداية نبوية ضلالة فرعونية وكذا الحال في الأولياء ومع كل مصيبة فرج ولا ينعكس الأمر في الأتقياء‏.‏ولكل ظلم ظالم متجبر قهر قاهر متكبر وعند ظهور ظفر المبطل يظهر قصد المحق المفضل‏.‏وفي عقب كل فترة أو فيها كلمة قائم بحق يغلب لا يغلب وفي كل دور أو قرن أمامة تطلب بشخصها ولا تطلب وكواكب الكفر إذا طلعت على أفق الإيمان فيه نكب آفلة وكلمة الله إذا عورضت تكر معارضتها قافلة‏.‏وإنما ذكرت ذلك بعد الذكر المحفوظ ليتذكر بالآيات الظاهرة إلى الآيات القاهرة‏.‏وليعلم كل مؤمن أن كلمة الله متصلة الاستصحاب والسبب وعاملة في الأشياء مع الأزمان والحقب وأن رجال الملة الحنفية أعلى المنازل والرتب‏.‏ولذلك يقول في نوع فرعون الأذل ونوع موسى الأجل‏:‏ أشخاصها متعددة وأكوانها متحدة والله غالب على أمره‏.‏وقد قيل إن الملة الحنفية المضرية تنصرها السيرة العمرية المحمدية المستنصرية‏.‏ولعل الذي أقام الدين وأطلعه من المشرق وأتلفه منه يجيره من المغرب ولا ينقله عنه فينبغي لمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما يجب كما يجب أن لا يتغير قصده ولا يتوقف عند سماع المهلكات حمده قد قيدت إقدام قوم بشرك الشرك وحملهم الضجر إلى الهلك بطاعة الترك وكع كيد الكنود هلك كنعان وكل بصر بصيرته ولبس لهم ثوب الذل بالعرض وجعل مصيبة الدين تفئته مع جحوده لسلطان السنة والفرض‏.‏وأما هامان المرتدين فليس هم بالمؤمنين وعلا فرعون الشر في الأرض والله يمن على المستضعفين في الأرض بنصر من عنده ويهلك المفسدين بجند من رفده‏.‏وينبغي أو يجب أن نضرب عن ذكر كائنة مدينة السلام فإنها تزلزل الطبع وتحمل الروح إلى ساحة الشام أو تفزع في صلاة كسوف شمس سرورها إلى التسليم بالاستسلام ونكبر أربع تكبيرات على الإنس ويوح بعد ذلك وعد وسلام وينتظر قيامه بقيام أمر محيي الدين والإسلام والحمد لله على كل حال‏.‏بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على الذي أعجزت خصاله العد والحد مسلم والطبقة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيثاً لا يعده عداً ‏"‏‏.‏وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعد ‏"‏‏.‏زاد أبو العباس الهمداني وأشار بيده إلى المغرب‏.‏وذكر بهاء الدين التبريزي في ملحمته التي زعم أنه لا يثبت فيها من الأخبار إلا ما صححته روايته ولا يذكر من الأحكام المنسوبة إلى الصنائع العملية إلا ما أبرزته درايته‏.‏ولا يعتبر من الأعلام الدينية إلى ما أدركته هدايته‏.‏قال في الترجمة الأولى‏:‏ إذا خرجت نار الحجاز يقتل خليفة بغداد ويستقيم ملك المغرب وتبسط كلمته في الأقطار ويخطب له على منابر خلفاء بني العباس و يكثر الدر بالمعبر من بلاد الهند‏.‏ذكرت هذا ليعلم المقام أيده الله أنه هو المشار إليه وأنه الذي يعول في إصلاح ما يفسد بحول الله عليه‏.‏ومن تأمل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يكون في آخر الزمان ‏"‏ الحديث تبين له ما أردناه وذلك يظهر من وجوه منها‏:‏ أن الخليفة المذكور لم يسمع به فيما تقدم ولا ذكر في الدول الماضية ولو ذكر لرددنا القول به وأهملناه لأجل تقييده بآخر الزمان‏.‏والثاني‏:‏ أن آخر الزمان الذي يراد به ظهور الشروط المتوسطة وأكثر العلامات المنذرة بالساعة هذا بعينه‏.‏الثالث‏:‏ لا خليفة لأهل الملة في وقتنا هذا غير الذي قصدناه‏.‏وهذه أقطار الملة منحصرة ومعلومة لنا من كل الجهات والذي يشاركه في الاسم ويقاسمه في إطلاقه فقط لا يصدق عليه إذ هو أضعف من ذرة في كرة ومن نملة رملة‏.‏وأفقر من قصد طالب السراب ويده مع هذا أيبس من التراب فصح بالسبر والتقسيم وبتصفح الموجودات والأزمان والدول والمراتب والنعوت أنه هو لا شريك له فيها والمصحح لذلك كله والذي يصدق وينطبق عليه مدلول الحديث كرمه الذي يعجز عنه الحد ولا يتوقف فيه العد‏.‏وهذا خليفة الملة كذلك وهذه دلائله هي أوضح من نار على علم‏.‏وهذه خصاله شاهدة له بفضائل السيف والقلم وهذه خزائنه تغلب الطالب وتعجز عن الدافع وهذه سعوده في صعوده وهذه متاجر تعويله على الله رابحة وهذه أحواله بالكلية صالحة وهذه سعايته ناجحة‏.‏ثم هذه وما النصر إلا من عند الله وصلى الله على عبده محمد بن عبد الله أنه من بكة وأنه للحق وأنه بسم الله الرحمن الرحيم وأنه إلى خضر لا تحصر الخصر ويحدر فيها الندر ويحافظ على سنة الرؤوف الرحيم‏.‏صلى الله عليه وسلم أما بعد فبهداهم اقتده الحمد لله الذي أحسن بمقام الإحسان وتمم النعمة وبين لمن تبين علم البيان وحكم لمن أحكم الحكمة وسبقت في صفات أفعاله صفة الرحمة وذكر الهداية في كتابه بعد ذكر النعمة هو الرؤوف بالبرية وهو الرحيم والحفي بالحنفية وهو القاهر الماضي المشيئة الذي يقبض ويبسط ويمضي المشيئة‏.‏شهد له بالكمال الممكن الذي أبرزه وخصصه وعرفه بالجلال من يسره لذلك وخلصه‏.‏هو الذي استعمل عليها من اختاره لإقامة النافلة والفرض وأعمى من أهلها من توسل له بنية العرض وأعتق العقاب وسر العقاب وأهمل العقاب بطاعة من يستعمر به الربع المعمور وأنعم على المستضعفين في الأرض بإمام بخر المجد في بحر خصاله يعد بعض البعض‏.‏سنته محمدية وسيرته بكرية وسريرته علوية وسلالته غمرية‏.‏فهذه ذرية وأنواع مجد بعضها من بعض بل هذه خطوط فصل الطول فيها مثل العرض‏.‏عرف بالرياسة العالية ووصف بالنفاسة السالية وشهد له بذلك الخاص والعام ونزه من النقائص‏.‏النزيه النفس ومن نزهه في سلطانه علمه العام‏.‏صلى الله على الأسوة الرؤوف بالمؤمنين سيدنا محمد الذي أنزل عليه التنزيل وكتب اسمه في صحيح القصص والنصوص ونبي الله به وبأئمة أمته الذين شبههم بالبنيان المرصوص وعلى آله وصحبه الكرام البررة الذين اصطفاهم وطهرهم ثم أيدهم فطهروا الأرض من الكفرة الفجرة‏.‏وأخرج من ظهورهم ذرياتهم بالدين أظهرهم ويسر بهم السبيل ثم السبيل يسرهم‏.‏ومنهم الخليفة المستنجد بالله المفضل على الناس ولكن أكثرهم ورضي الله عنهم وعنه وضاعف للمحب الثواب الدائم منهم ومنه‏.‏وبعد خدمة يتقدم فيها بعد الحمد والتصلية والدعاء للدولة الدالة على قبول الدعوة أصلية تحية بعضها مكية وكلها ملكوتية وروضة ريحها حضرة القدس ونشرها يحرك فيه صحبة النفث روح القدس‏.‏وتكبر عن أن تشتبه بالعنبر والند والورد وأزهار الربى والرياض‏.‏لأن المفارق للمادة مفارق لغير المفارق لها مفارقة السواد للبياض‏.‏ثم هي مع هذا واجبة القصد عذبة الورد تذكر الذاكر الذكي بعرفها الذكي لمدركات جنة الخلد والنعيم‏.‏وفي مثل هذه فليتنافس المتنافسون‏.‏وتدرك النفس النفيسة لذة النعيم لأنها ظاهرة طيبة وكريمة صيبة واقفة على حضرة الملك والسلطان ومدار ذلك النسك ومستقر الإمامة والجلالة ومعقل الهداية والدلالة وأصل الأصالة ودار المتقين وبيت العدالة وحزب اليقين‏.‏وإنسانها الأعظم معلي الموحدين على الملحدين وقائم الدين وقيمه ومقر الإسلام ومقدمه القائم بالدعوة العامة بعد أبيه إمام المجد والفخر ثم الأمة الذي إذا عزم أوهم بتخصيص مهمل اتخذ في خلده ما هو بالفعل مع ما هو بالقوة وأن يعرض له في طريق إعراضه الممكن العسير يسره سعده وساعده ساعد القوة وإن سمع بالحمد في جهة حدبه بخاصة خصاله بعد مجد الأبوة وفخر النبوة لا يذكر معه ولا عنده صعب الأمور إلا بالضد فإنه مظهر العناية الإلهية ومرءاة المجد والجد‏.‏هو علم العلم ثم هو محل الحلم اسمه متوحد في مدلوله كالاسم العلم وعهده لا يتوقف على اللسان ولا على رسوم القلم‏.‏كتب في السماء وسع به في الكرسي وكذلك العرش وما هنا إنما هو مما هنالك فهو الأعلى‏.‏وإن كان في الفرش هو شامخ القدر ظاهر الفضل شديد البطش‏.‏ثم هو مما ظهر عليه علم أن الشجاعة لم تتنقل من الإنسان إلى الأسد‏.‏ولا يقال هذا بحر العلم فينقل من الطبيعة إلى بحر الخلد لأن ذلك كله فيه برجه أكمل وبه وعليه وفي يديه بنوع أفضل بلغ ذروة النهاية المخصوصة بالمطالب العالية وحصل في الزمان الفرد ما حصله الفرد في الأيام الخالية‏.‏وبلغ في تبليغ حمده بصفاته ما بلغ الأشد عمره ونال غاية الإنسان ويتعجب منه في القيامة عمره وشره أمره طلعت سعوده على مولده ومطالعه كلمة مجده لأحكام الفلك وطالعه‏.‏إن حرر القول فيه وفهم شأنه قيل هو من فوق الأطلس والمكوكب وإن قيس سعده بالكمالات الثلاثة كان كالبسيط مع أي غاية تطلب بعد طاعته وأي تجارة تنظر مع بضاعته له الحمد بيده الملك والأمانة بل له الكل بفضل الله وفيه المقصد والسلامة لا بل له الفتح المبين وتتميم النعمة والهداية ونور السكينة وفيه الإمارة والعلامة‏.‏منير منكة بازاء بيت بكة خطب بخطبته والذي ذهب بالمدينة يطلب فلعله يسعفه في خطبته أفئدة السر تطير إذا سمحت بذكره والمهندات البتر تلين لباس ساعده‏.‏ويقول طباع أربابها بشكره دولة التوحيد توحدت له إذ هو واحدها الأوحد وسياسة التسديد تحكمت له فهو مدبرها الأرشد‏.‏ومع هذا كتابه أهملت صيت الصادين‏.‏وكورت شمس الفتح ثم الفتح والصيادين‏.‏وكذلك الثلاثة الذين من قبلهم لا نذكر معه الأديب حبيب في رد الإعجاز على الصدور فإنه الذي يعتبر في ذلك والذي يصدر عنه هو واقع في الصدور وافعل في طباع المهرة وفي نفوس الصدور يتأخر عن شعره شر الرجلين‏.‏وسمه نذكر الطبقة ثم شعراء نجد والخبب والجبلي والولد بعده والهذلي والمؤكد هو تقديمه في المغرب من ذلك‏.‏والهذلي علوم الأدب الخمسة تممها وسادسها وسابعها زاده من عند نفسه‏.‏وخليل النحو لو حضر عنده كان خليله في تحصيل نوعه وجنسه والفارسي تلميذه ثم الآخر بعده والأخفش الكبير ثم الصغير ما ضرب لهم من قبل في مثله بنصيب‏.‏وأقام أئمة النحو تنحو نحوه بنحو ينحوه نحو نحوه ثم لا يكون كالمصيب‏.‏وكل كوفي بل كل بصري يجب الظهور إذا سمع به اختفى والمنصف منهم هو الذي بنجوه اكتفى‏.‏أقيسة الفقه الثلاثة هذبها وحصلها وأصوله كما يجب علمها وفصلها‏.‏والمسائل الطبولية تكلم على مفصلها ومجملها وسهل الصعب من مخصصها ومهملها‏.‏وإن فسر كتاب الله المعجز عجز أرباب البلاغة بإجاز بعد إعجازه وإن تعرض لعوارض ألفاظه أظهر العجب في اختصاره وإيجازه‏.‏وإن شرع في شرح قصصه وجدله وفي تفسير ترغيبه وترهيبه‏.‏ومثله يبصر الناظر فيه والمستمع لما لم يسمع وما لم يبصر فإنه سلك بقدم كماله وتكميله على قنطرة بعد لم تعبر ويضطر الزعيم به بتحصيله إلى تجديد قنطرة أخرى وبعد هذا يفتقر في بيانه إليه في الأولى وإلى الله في الأخرى‏.‏وإن تكلم عن متشابهه ومحكمه علم الاصطلاح‏.‏ثم بيان النوع للخبير به وبمحكمه وكذلك القول على الناسخ والمنسوخ والوعد والوعيد‏.‏وإن يشاء طول في مطولاتهم واختصر من مختصراتهم فبيده الزيادة وضد المزيد وأما تحرير أمره ونهيه وأسراره ورقائقه وفواتح سوره وحقائقه‏.‏والذي يمال إنه لا من جنس الذي يكتسب والذي هو أعظم من الذي يرد وإليه الأحوال تنسب فهو الشارح لها والخبير بها وإن تأخر‏.‏وينوع في ذلك ويزيد غير الأول وإن تكرر‏.‏وأما علوم الحديث وأنواعها السبعة فهو بعلمها وصناعته بجملتها للعلماء يعلمها‏.‏والوارقة والضبط والخط وقفت عليه مهنة غايتها وحمله الأمر علوم الشريعة كلها عرفها ووعاها ورعاها حق رعايتها‏.‏وكل العلوم العقلية والنقلية ورجالها على ذهنه الطاهر من دنس النسيان والمقامات السنية المستنزلات العلوية أدركها بعد التبيان‏.‏فمن أراد أن يمدحه ويعدل عن إطلاق القول فقد اقترف أعظم الذنب‏.‏ومن ذكره ولم يتلذذ بذلك فقد جاء بما ينضح حمله الخبب ونعوت جمالها يمنع عن إدراكها نور المتصل وحضرة جلاله محفوظة بجدها وجدها وقاطعها الفنفصل‏.‏ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء قل اللهم مالك الملك الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏.‏هذه كلها‏.‏آياته والرابعة‏:‏ ‏"‏ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ‏"‏ فإنها هباته إن حدث المحدث بكرمه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده ونصر الله إذا جاء لا يرده وفتحه من ذا الذي عن السعيد يصده والمؤرخ يتذكره بتذكره الكلمات الهذلي من حيث المطالب إذ قال وقد سئل عن الإمام علي بن أبي طالب هو الإمام وفيه أربعة وهو واحدها حتى في رفع التشبيه وقطع السبب والعلم والحلم والشجاعة وفضل الحسب يسر بحكمته ويغبط بها متى يتبع جملته الباحث للحكيم ولا يشعر بشعره إذا تصفح نعوته الشاعر العليم وينشد طبعه في الحين والوقت والحزة ويخرج الحروف من مخارج الهمزة‏.‏شهدت لقد أوتيت جامع فضله وأنت على علمي بذاك شهيد أدام الله له المجد الذي يسلك به على النجدين وحفظ عليه مقامه الذي لا يحتقر فيه إلا جوهر النقدين وبسط له في العلم والقدرة وبارك له في نصيب النصرة وجهز به العسرة ورد به على الشرك والفتن الكرة وعرفه في كل ما يعتزمه صنعاً جميلا ولطفاً خفياً جليلا‏.‏وكفاه الشر المحض وخير الشرين كما كشف له عن الخير المحض وعلم السرين وأيده بروح منه في السر والسريرة وحفظه في حركاته وسكناته من الصغير والكبيرة‏.‏وجعل كلمته غالبة للضد والجند وبلغ صيته الجزائر والبربر ثم إلى السند والهند‏.‏وخلد ملكه وسلم فلكه ورفعه على أوج المجد بحده الطويل العريض‏.‏واهبط عدوه من شرف الأعلى إلى الحضيض‏.‏وفتح الله به باب الفتح في المشرق والمغرب بعد فتح الثغور وشرح بنصره وفتحه أوساط الصدور ومما استنبطته الضمائر من نفثات الصدور وأبر به كسر الظفر ووصل به ما انقطع من الأسباب‏.‏وعصم جنده من ضد الدنف الأنف وردهم إلى ردم الأبواب وقدس كلمته بعد الحرمين في البيت المقدس وسلك به مسلك السبل في المقيل والمعرس‏.‏وبعد هذا فهذه أدعيتنا بل هذه أوديتنا وهذه مسائلنا بل هذه وسائلنا وهذه تحية حياها ذو الفطرة السليمة وهذه خدمة يفتخر بها طبيعة النفس العليمة‏.‏واستنبت فيها الكتاب واستثبت فيها الجواب والموجب لإصدارها محبة أصلها ثابت وفرعها في العلى وحفز عليها حافزان‏:‏ شوق قديم ورعاية الآخرة والأولى بل الأمر الذي هو في خير الأمور من أوسطها وإذا نظم في عقد الأسباب الموجبة لهذه الخطابة يكون في وسطها فإنه يحكي أحكام الشأن والقصة ويعلم المقام أيده الله الذي حصل له في حرم الله وحرم نبيه من النصيب والحصة وفيه ينبغي أن تذهب الألفاظ وتلحظ عيون الأغراض وينفح المقاصد وجمل على جواهر الكمالات كالأعراض فمن ذلك ذكر الملة التي كملت وكبرت والأخرى التي كانت ثم غمرت وصغرت‏.‏والمنبر الذي صمد خطب خطبته على الخطيب وعرج إلى سماء السمو وهو على درجه والآخر الذي درج عنه خطيبه وضاق صدره الأمر حرجه وقرئت سورة الإمام بحرف المستنجد المستبصر لا بحرف المستعصم بن المستنصر‏.‏بسط القول وأطلق ترجمة عبد الله بعد ما قبضه الني أمات وأحيا وقبض على مقامه ودفع للإمام محمد بن يحيى وكان ذلك في يوم وصول الخبر بمصيبة الأخبار ثم في ليلة الآيات والاعتبار‏.‏ومن ذلك أيضاً بنعمة الحمد والدعاء الظاهر القول والمقبول في الحرم الشريف وانقياد الذي ظهر على طائفة الحق والسيد الشريف‏.‏ومن ذلك صعود علم الأعلام على جبل معظم الحج ومقر وفوق الحاج ووقف به المتكلم في مقام من كانت له سقاية الحاج وذكر كما يجب بما يجب في موقف الإمام مالك وعرف هنالك أنه الإمام والمالك لكل مالك‏.‏وتعرفت نكرة دعوة التوحيد بتخصيص خصوصية المخصوص بعرفة وتعارف بها من تعارف معه هناك ونعم التعارف والمعرفة‏.‏ثم ذكر عند المشعر الحرام وفي جهات حدود حرم المسجد الحرام وعظم اسمه بعد ذكر الله وذكر الوالدين وطلع الذاكر التركيب إلى الجدين الساكنين في الخلد والخالدين فلما وصل الحجيج إلى عقبة الجمرات ذكر مع السبع الأولى سبع مرات‏.‏وكذلك عند الركوع في مسجد الخيف وكل كلمات تمجيده بالكم والكيف وعند التوجه من هناك ويوم النفر قررت آياته المذكورة في كتاب الجفر‏.‏ثم جدد الذكر حول البيت العتيق بالحمد والشكر‏.‏فلما وصل العلم بانتقال بيت الملك والسلطان من بغداد في شهر رمضان أظهر الخفي المكنون فكان ذلك مع التسبيح والقرآن وكان الخادم في الزمان الأول وفي الذاهب ينتظر الخطفة من نحو عراق والمغرب‏.‏والآن وجد نفسها من نحو اليمن إقليم الأعراب والعرب‏.‏والذي حمل على هذا كله طاعة كاملة وغبطة عاملة والله تعالى بفضله يعصمه من كيد المعاند فإنه في إظهار دعوة التوحيد كالمجاهد والمكابد ومعاد التحية على المقام الأرفع والمقر الأنفع وعلى خدام حضرته العلية وأرباب دعوته الجلية وأنواع رحمته تعالى وبركاته‏.‏والحمد لله كما يجب وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وسلم‏.‏وكتب تجاه الكعبة المعظمة في الجانب الغربي من الحرم الشريف والحمد لله رب العالمين‏.‏ولما وصلت هذه البيعة استحضر لها السلطان الملأ والكافة وقرئت بمجمعهم وقام خطيبهم القاضي أبو البراء في ذلك المحفل فاسحنفر في تعظيمها والإشادة بحسن موقعها وإظهار رفعة السلطان ودولته بطاعة أهل البيت والحرم ودخولهم في دعوته‏.‏ثم جار بالدعاء للسلطان وأنفض الجمع فكان من الأيام المشهودة في الدولة‏.‏


الخبر عن الوفود من بني مرين والسودان وغيرهم
كان بنو مرين كما قدمناه قد تمسكوا بطاعة الأمير أبي زكريا ودخلوا في الدعوة الحفصية وحملوا عليها من تحت أيديهم من الرعايا مثل‏:‏ أهل مكناسة وتازى والقصر وخاطبوا السلطان بالتمويل والخضوع‏.‏ولما هلك السلطان وولي ابنه المستنصر ذلك ولاية المرتضى بمراكش‏.‏ثم كان بينهم وبين المرتضى من الفتنة والحرب ما ذكرناه ونذكره فاتصل ذلك بينهم وبعث الأمير أبو يحيى بن عبد الحق بيعة أهل فاس وأوفد بها مشيخة بني مرين على السلطان وذلك سنة اثنتين وخمسين فكان لها موقع من السلطان والدولة‏.‏وقابلهم من الكرامة كل على قدره وانصرفوا محبورين إلى مرسلهم ولما هلك أبو يحيى بن عبد الحق واستقل أخوه يعقوب بالأمر أوفد إليه ثاني رسله وهديته وطلب الإعانه من السلطان على المرتضى وأمر مراكش على أن يقيموا بها الدعوة له عند فتحها‏.‏ولم يزل دأبهم هذا إلى أن كان الفتح‏.‏وفي سنة خمس وخمسين وصلت هدية ملك كانم من ملوك السودان وهو صاحب برنو مواطنه قبلة طرابلس وكان فيها الزرافة وهو الحيوان الغريب الخلق المنافر الحلى والشيات فكان لها بتونس مشهد عظيم برز إليها الجفلى من أهل البلد حتى غص بها الفضاء وطال إعجابهم بشكل هذا الحيوان وتباين نعوته وأخذها من كل حيوان بشبه‏.‏وفي سنة ثمان وخمسين وصل دون الرنك أخو ملك قشتالة مغاضباً لأخيه ووفد على السلطان بتونس فتلقاه من المبرة والحباء بما يلقى به كرام القوم وعظماء الملوك ونزل من دولته بأعز مكان‏.‏وكان تتابع هذه الوافدات مما شاد بذكر الدولة ورفع من قدرها‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 06:55 AM

الخبر عن مقتل ابن الأبار وسياقة أوليته
كان هذا الحافظ أبو عبد الله بن الأبار من مشيخة أهل بلنسية وكان علامة في الحديث ولسان العرب وبليغاً في الترسيل والشعر‏.‏وكتب عن السيد أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن ببلنسية‏.‏ثم عن ابنه السيد أبي زيد‏.‏ثم دخل معه دار الحرب حين نزع إلى دين النصرانية ورجع عنه قبل أن يأخذ به‏.‏ثم كتب عن ابن مردنيش‏.‏ولما دلف الطاغية إلى بلنسية ونازلها بعث زيان بوفد بلنسية وبيعتهم إلى الأمير أبي زكريا وكان فيهم ابن الأبار هذا الحافظ فحضر مجلس السلطان وأنشد قصيدته على روي السين يستصرخه فبادر السلطان بإغاثتهم وشحن الأساطيل بالمدد إليهم من المال والأقوات والكسي فوجدهم في هوة الحصار إلى أن تغلب الطاغية على بلنسية‏.‏ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس غبطة بإقبال السلطان عليه فنزل منه بخير مكان ورشحه لكتب علامته في صدور رسائله ومكتوباته فكتبها مدة‏.‏ثم إن السلطان أراد صرفها لأبي العباس الغساني لما كان يحسن كتابتها بالخط المشرقي وكان آثر عنده من الخط المغربي فسخط ابن الأبار أنفة من إيثار غيره عليه وافتأت على السلطان في وضعها في كتاب أمر بإنشائه لقصور الترسيل يومئذ في الحضرة عليه وأن يبقى مكان العلامة منه لواضعها فجاهر بالرد ووضعها استبداداً وأنفة وعوتب على ذلك فاستشاط غضباً ورمى بالقلم وأنشد متمثلاً‏:‏ واطلب العز في لظى وذر الذل ولو كان في جنان الخلود فنمى ذلك إلى السلطان فأمر بلزومه بيته ثم استعتب السلطان بتأليف رفعه إليه عد فيه من عوتب من الكتاب واعتب‏.‏وسماه أعتاب الكتاب‏.‏واستشفع فيه بابنه المستنصر فغفر السلطان له وأقال عثرته وأعاده إلى الكتابة‏.‏ولما هلك الأمير أبو زكريا رفعه المستنصر إلى حضور مجلسه مع الطبقة الذين كانوا يحضرونه من أهل الأندلس وأهل تونس وكان في ابن الأبار أنفة وبأو وضيق خلق فكان يزري على المستنصر في مباحثه ويستقصره في مداركه فخشن له صدره مع ما كان يسخط به السلطان من تفضيل الأندلس وولايتها عليه‏.‏وكانت لابن أبي الحسين فيه سعاية لحقد قديم سببه أن ابن الأبار لما قدم في الأسطول من بلنسية نزل ببنزرت وخاطب ابن أبي الحسن بغرض رسالته ووصف أباه في عنوان مكتوبه بالمرحوم‏.‏ونبه على ذلك فاستضحك وقال‏:‏ إن أباً لا تعرف حياته من موته لأب خامل‏.‏ونميت إلى ابن أبي الحسين فأسرها في نفسه ونصب له إلى أن حمل السلطان على إشخاصه من بجاية‏.‏ثم رضي عنه واستقدمه ورجعه إلى مكانه من المجلس‏.‏وعاد هو إلى مساءة السلطان بنزعاته إلى أن جرى في بعض الأيام ذكر مولد الواثق وساءل عنه السلطان فاستبهم فعدا عليه ابن الأبار بتاريخ الولادة وطالعها فاتهم بتوقع المكروه للدولة والتربص بها كما كان أعداؤه يشنعون عليه لما كان ينظر في النجوم فتقبض عليه‏.‏وبعث السلطان إلى داره فرفعت إليه كتبه أجمع وألقى أثناءها فيما زعموا رقعة بأبيات أولها‏:‏ طغى بتونس حلف سموه ظلماً خليفة فاستشاط لها السلطان وأمر بامتحانه ثم بقتله قعصاً بالرماح وسط محرم من سنة ثمان وخمسين ثم أحرق شلوه وسيقت مجلدات كتبه وأوراق سماعه ودواوينه فأحرقت معه‏.‏


الخبر عن مقتل اللياني وأوليته وتصاريف أحواله
أصل هذا الرجل من لليانة قرية من قرى المهدية مضمومة اللام مكسورة الثانية وكان أبوه عاملا بالمهدية وبها نشأ ابنه أبو العباس‏.‏وكان ينتحل القراءة والكتاب حتى حذق في علوم اللسان‏.‏وتفقه على أبي زكرياء البرقي‏.‏ثم طالع مذاهب الفلاسفة ثم صار إلى طلب المعاش من الإمارة فولي أعمال الجباية‏.‏ثم صودر في ولايته على مال أعطاه وتخلص من نكبته فنهض في الولايات حتى شارك كل عامل في عمله بما أظهر من كفايته وتنميته للأموال حتى قصر بهم وأديل منهم‏.‏وكان الكثير منهم متعلقاً من ابن أبي الحسين رئيس الدولة بذمة خدمة فأسفه بذلك وأغرى به بطانة السلطان ومواليه حتى سعوا به عند السلطان وأنه يروم الثورة بالمهدية حتى خشن له باطن السلطان‏.‏فدخل عليه ذات يوم أبو العباس الغساني فاستجازه السلطان في قوله‏:‏ اليوم يوم المطر فقال الغساني‏:‏ ويوم رفع الضرر فتنبه السلطان واستزاده فأنشد‏:‏ والعام تسعة كمثل عام الجوهري فكات إغراء باللياني فأمر أن يتقبض عليه وعلى عدوه ابن العطار وكان عاملا‏.‏وأمر أبا زيد بن يغمور بامتحانهما فعذبهما حتى استصفى أموالهما والميل في ذلك على اللياني‏.‏وكان في أيام امتحانه يباكر موضع عمله‏.‏ثم نمي عنه أنه يروم الفرار إلى صقلية وبوحث بعض من داخله في ذلك فأقر عليه فدفع إلى هلال كبير الموالي من العلوج فضربه إلى أن قتله ورمى بشلوه إلى الغوغاء فعبثوا به وقطعوا رأسه ثم تتبع أقاربه وذووه بالنكال إلى أن الخبر عن انتقاض أبي علي الملياني بمليانة علي يد الأمير أبي حفص كان المغرب الأوسط من تلمسان وأعمالها إلى بجاية في طاعة السلطان منذ تغلب أبوه الأمير أبو زكرياء عليه وفتح تلمسان وأطاعه يغمراسن وكان بين زناتة بتلك الجهات فتن وحروب شأن القبائل اليعاسيب وكان مليانة من قسمة مغراوة بني ورسيفان وكانوا أهل بادية‏.‏وتقلص ظل الدولة عن تلك الجهات بعض الشيء‏.‏وكان أبو العباس الملياني من مشيخة مليانة صاحب فقه ورواية وسمت ودين رحل إليه الأعلام وأخذ عنه العلماء وانتهت إليه رئاسة الشورى ببلده‏.‏ونشأ ابنه أبو علي خلوا من الخلال متهالكاً في الرياسة متبعاً غواية الشبيبة فلما رأى تقلص ظل الدولة وفتن مغراوة مع يغمراسن ومزاحمته لهم حدثته نفسه بالاستبداد فخلع طاعة آل أبي حفص ونبذ دعوتهم وانبرى بها داعياً لنفسه‏.‏وبلغ الخبر إلى السلطان فسرح إليه أخاه الأمير أبا حفص ومعه الأمير أبو زيد بن جامع ودن الرنك أخو الفنش وطبقات الجند‏.‏فخرج من تونس سنة تسع وخمسين وأغذ السير إلى مليانة فنازلها مدة وشد حصارها حتى اقتحموها غلاباً‏.‏وفر أبو علي الملياني ولحق ببني يعقوب من آل العطاف أحد شعوب زغبة فأجاروه وأجازوه إلى المغرب الأقصى إلى أن كان من خبره ما نذكره بعد‏.‏ودخل الأمير أبو حفص مليانة ومهد نواحيها وعقد عليها إلى ابن منديل أمير مغراوة فملكها مقيماً فيها لدعوة السلطان شأن غيرها من عمالات مغراوة‏.‏وقفل الأمير أبو حفص إلى تونس ولقيه بطريقه كتاب السلطان بالعقد له على بجاية وإمارتها فكره ذلك غبطة بجوار السلطان‏.‏وترددت في ذلك رغبته فأديل منها بالشيخ أبي هلال عياد بن سعيد الهنتاني وعقد له على بجاية‏.‏ولحق الأمير أبو حفص بالحضرة إلى أن كان من خلافته ما نذكره بعد‏.‏وهلك شقيقه أبو بكر ابن الأمير أبي زكريا ثانية مقدمه إلى تونس سنة إحدى وستين فتفجع له الخليفة والقرابة والناس وشهد السلطان جنازته والبقاء لله وحده‏.‏الجبر عن فرار أبي القاسم بن أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد وخروجه في رياح كان أبو القاسم بن أبي زيد هذا في جملة ابن عمه الخليفة وتحت جرايته وأبوه أبو زيد هو القائم بالأمر بعد أبيه الشيخ أبي محمد ولحق بالمغرب‏.‏وجاء أبو القاسم في جملة الأمير أبي زكريا وأوصى به ابنه إلى أن حدثته نفسه بالتوثب والخروج‏.‏وخامره الرعب من إشاعة تناقلها الدهماء سببها أن السلطان استحدث سكة من النحاس مقدرة على قيمة من الفضة حاكى بها سكة الفلوس بالمشرق تسهيلا على الناس في المعاملات بإسرافها وتيسيراً لاقتضاء حاجاتهم‏.‏ولما كان لحق سكة الفضة من غش اليهود المتناولين لصرفها وصوغها وسمى سكته التي استحدثها بالحندوس‏.‏ثم أفسدها الناس بالتدليس وضربها أهل الريب ناقصة عن الوزن وفشا فيها الفساد‏.‏واشتد السلطان في العقوبة عليها فقطع وقتل وصارت ريبة لمن تناولها‏.‏وأعلن الناس بالنكير في شأنها وتنادوا بالسلطان في قطعها وكثر الخوض في ذلك وتوقعت الفتنة‏.‏وأشيع من طريق الحدثان الذي تكلف به العامة أن الخارج الذي يثير الفتنة هو أبو القاسم بن أبي زيد فأزال السلطان تلك السكة وعفا عليه وأهمه شأن أبي القاسم ابن عمه وبلغه الخبر فخامره الرعب إلى ما كان يحدث نفسه من الخروج ففر من الحضرة سنة إحدى وستين ولحق برياح ونزل على أميرهم شبل بن موسى بن محمد رئيس الدواودة فبايع له وقام بأمره‏.‏ثم بلغه اعتزام السلطان على النهوض إليه فخشي بادرته واضطرب أمر العرب من قبيله‏.‏ولما أحس أبو القاسم باضطرابهم وخشي أن يسلموه إذا أزادهم السلطان عليها تحول عنهم ولحق بتلمسان وأجاز البحر منها إلى الأندلس وصحب الأمير أبا إسحاق ابن عمه في مثوى اغترابهما بالأندلس‏.‏ثم ساءت أفعاله وعظم استهتاره‏.‏وفشا النكير عليه من الدولة فلحق بالمغرب وأقام بتينملل مدة‏.‏ثم رجع إلى تلمسان وبها مات‏.‏وقام الأمير أبو إسحاق بمكانه من جوار ابن الأحمر إلى أن كان من أمره ما نذكره‏.‏


الخبر عن خروج السلطان إلى المسيلة
لما اتصل بالسلطان شأن أبي قاسم ابن عمه أبي زيد وفضاله عن رياح إلى المغرب بعد عقدهم بيعته وأجلابهم على البلاد معه خرج من تونس سنة أربع وستين في عساكر الموحدين وطبقات الجند لتمهيد الوطن ومحو آثار الفساد منه وتقويم العرب على الطاعة‏.‏وتنقل في الجهات إلى أن وصل بلاد رياح فدوخها ومهد أرجاءها وفر شبل بن موسى وقومه الدواودة إلى القفر واحتل السلطان بالمسيلة آخر وطن رياح‏.‏ووافاه هنالك محمد من عبد القوي أمير بني توجين من زناتة مجدداً لطاعته ومتبركاً بزيارته فتلقاه من البرور تلقي أمثاله وأثقل كاهله بالحباء والجوائز وجنب له الجياد المقربات بالمواكب المثقلة بالذهب واللجم المحلات‏.‏وضرب له الفساطيط الفسيحة الأرجاء من ثياب الكتان وجدل القطن إلى ما يتبع ذلك من المال والظهر والكراع والأسلحة‏.‏وأقطع له مدينة مقرة وبلد أوماش من عمل الزاب وانقلب عنه إلى وطنه‏.‏ورجع السلطان إلى تونس وفي نفسه من رياح ضغن إلى أن صرف إليهم وجه تدبيره كما نذكره ولثانية احتلاله بالحضرة سنة خمس وستين كان مهلك مولاه هلال ويعرف بالقائد وكان له في الدولة مكان بما كان تلادا للسلطان وكان شجاعاً جواداً خيراً محبباً سهلا مقبلا على أهل العلم وذوي الحاجات وله في سبيل الخير آثار منقولة طار له بها ذكر فارتمض السلطان لمهلكه‏.‏


الخبر عن مقتل مشيخة الدواودة
كان شبل بن موسى وقومه من الدواودة قد فعلوا الأفاعيل في اضطراب الطاعة ونصب من لحق بهم من أهل هذا البيت للملك فبايعوا للأمير أبي إسحاق كما ذكرناه‏.‏ثم بعده لأبي القاسم ابن عمه أبي زيد‏.‏وخرج إليهم السلطان سنة أربع وستين ودوخ أوطانهم ولحقوا بالصحراء ودافعوه على البعد بطاعة ممرضة فتقبلها وطوى لهم على الثنا‏.‏ورجع إلى تونس فأوعز إلى أبي هلال عياد عامل بجاية من مشيخة الموحدين باصطناعهم واستئلافهم لتكون وفادتهم عليه من غير عهد‏.‏وجمع السلطان أحلافه من كعوب بني سليم ودباب وأفاريق بنه هلال‏.‏وخرج من تونس سنة ست وستين في عساكر الموحدين وطبقات الجند‏.‏ووافاه بنو عساكر بن سلطان أخوة بني مسعود بن سلطان من الدواودة فعقد لمهدي بن عساكر على إمارة قومه وغيرهم من رياح‏.‏وفر بنو مسعود بن سلطان مصحرين في أثرهم حتى نزل نقاوس وعسكروا بثنايا الزاب ورسلهم تختلف إلى أبي هلال إيناساً للمراجعة على يده للدخلة السابقة فأشار عليهم بالوفاد على السلطان وفاء بقصده من ذلك فتقبلوا إشارته‏.‏ووفد أميرهم شبل بن موسى بن محمد بن مسعود وأخوه يحيى وبنو عمهما أولاد زيد بن مسعود‏:‏ سباع بن يحيى بن دريد وابنه وطلحه بن ميمون بن دريد وحداد بن مولاهم ابن خنفر بن مسعود وأخوه فتقبض عليهم لحينهم وعلى دريد ابن تارير من شيوخ كرفة‏.‏وانتهبت أسلابهم وضربت أعناقهم ونصبت أشلاؤهم بزراية حيث كانت بيعتهم لأبي القاسم بن أبي زيد وبعث برؤوسهم إلى بسكرة فنصبت بها وأغذ السير غازياً إلى أحيائهم وحللهم بمكانها من ثناية الزاب‏.‏وصبحهم هنالك فأجفلوا وتركوا الظهر والكراع والأبنية فامتلأت أيدي العساكر وسدويكش منها ونجوا بالعيال والولد على الأقتاب والعساكر في أتباعهم إلى أن أجازوا وادي شدى قبلة الزاب وهو الوادي الذي يخرج أصله منه جبل راشد قبله المغرب الأوسط ويمر إلى ناحية الشرق مجتازاً بالزاب إلى أن يصب في سبخة نفزاوة من بلاد الجريد‏.‏فلما أجاز فلهم الوادي أصحروا إلى المفازة المعطشة والأرض الحرة السوداء المستحجرة المسماة بالحمادة فرجعت العساكر عنهم وانقلب السلطان من غماته ظافراً ظاهراً وأنشده الشعراء في التهنئة ولحق فل الدواودة بملوك زناتة فنزل بنو يحيى بن دريد على يغمراسن بن زيان وبنو محمد بن مسعود على يعقوب بن عبد الحق فأجاروهم وأوسعوهم حباء وملأوا أيديهم بالصلات ومرابطهم بالخيل وأحياءهم بالإبل ورجعوا إلى مواطنهم فتغلبوا على واركلا وقصور ريغة واقتطعوها من إيالة السلطان‏.‏ثم زحفوا إلى الزاب فجمع لهم عامله ابن عتو وكان موطناً بمقره ولقيهم على حدود أرض الزاب فهزموه واتبعوه إلى قطاوة فقتلوه عندها واستطالوا على الزاب وجبل أوراس وبلاد الحضنة إلى أن اقتطعتهم الدول إياها من بعد ذلك فصارت ملكاً لهم‏.‏هذه الأمة المعروفة بالإفرنجة وتسميها العامة بالافرانسيس نسبة إلى بلد من أمهات أعمالهم تسمى افرانسة‏.‏ونسبهم إلى يافث بن نوح وهم بالعدوة الشمالية من عدوتي هذا البحر الرومي الغربي ما بين جزيرة الأندلس وخليج قسطنطينة مجاورون الروم من جانب الشرق والجلالقة من جانب الغرب‏.‏وكانوا قد أخذوا بدين النصرانية مع الروم ومنهم لقنوا دينها‏.‏واستفحل ملكهم عند تراجع ملك الروم وأجازوا البحر إلى إفريقية مع الروم فملكوها ونزلوا أمصارها العظيمة مثل‏:‏ سبيطلة وجلولا وقرطاجنة ومرفاق وباغاية ولمس وغيرها من الأمصار وغلبوا على كل من كان بها من البربر حتى اتبعوهم في دينهم وأعطوهم طاعة الانقياد‏.‏ثم جاء الإسلام وكان الفتح بانتزاع الأعراب من أيديهم سائر أمصار إفريقية والعدوة الشرقية والجزر البحرية مثل أقريطش ومالطة وصقلية وميورقة ورجوعهم إلى عدوتهم‏.‏ثم أجازوا خليج طنجة وغلبوا القوط والجلالقة والبشكنس وملكوا جزيرة الأندلس وخرجوا من ثناياها ودورها إلى بسائط هؤلاء الإفرنجة فدوخوها وعاثوا فيها‏.‏ولم تزل الصوائف تتردد إليها صدراً من دولة بني أمية بالأندلس وكان ولاة إفريقية من الأغالبة ومن قبلهم أيضاً يرددون عساكر المسلمين وأساطيلهم من العدوة حتى غلبوهم على الجزر البحرية ونازلوهم في بسائط عدوتهم فلم تزل في نفوسهم من ذلك ضغائن فكان يخالجها الطمع في ارتجاع ما غلبوا عليه منها‏.‏وكان الربع أقرب إلى سواحل الشام وطمع فيها‏.‏فلما وصل أمر الروم بالقسطنطينية ورومة واستفحل ملك الفرنجة هؤلاء وكان ذلك على هيئة سمو الخلافة بالمشرق فسموا حينئذ إلى التغلب على معاقل الشام وثغوره وزحفوا إليها وملكوا الكثير منها واستولوا على المسجد الأقصى وبنوا فيه الكنيسة العظمى بدل المسجد ونازلوا مصر والقاهرة مراراً حتى جاد الله للإسلام من صلاح الدين أبي أيوب الكردي صاحب مصر والشام في أواسط المائة السادسة جنة واقية وعذاباً على أهل الكفر مصبوباً فأبلى في جهادهم وارتجع ما ملكوه وطهر المسجد الأقصى من إفكهم وكفرهم وهلك على حين غرة من الغزو والجهاد‏.‏ثم عاودوا الكرة ونازعوا مصر في المائة السابعة على عهد المالك الصالح صاحب مصر والشام وأيام الأمير أبي زكريا بتونس فضربوا أبنيتهم بدمياط وافتتحوها وتغلبوا في قرى مصر‏.‏وهلك الملك الصالح خلال ذلك وولي ابنه المعظم وأمكنت المسلمين في الغزو فرصة أيام فيض النيل ففتحوا الغياض وأزالوا مدد الماء فأحاط بمعسكرهم وهلك منهم عالم وقيد سلطانهم أسيراً من المعركة إلى السلطان فاعتقله بالإسكندرية حتى مر عليه بعد حين من الدهر وأطلقه على أن يمكنوا المسلمين من دمياط فوفوا له‏.‏ثم على شرط المسالمة فيما بعد فنقضه لمدة قريبة واعتزم على الحركة إلى تونس متجنباً عليهم فيما زعموا بمال أدعياء تجار أرضهم وأنهم أقرضوا اللياني‏.‏فلما نكبه السلطان طالبوه بذلك المال وهو نحو ثلاثمائة دينار بغير موجب يستنمون إليه فغضبوا لذلك واشتكوا إلى طاغيتهتم فامتعض لهم ورغبوه في غزو تونس لما كان فيها من المجاعة والموتان‏.‏فأرسل الفرنسيس طاغية الإفرنج واسمه سنلويس بن لويس وتلقب بلغة الإفرنج روا فرنس ومعناه ملك افرنس فأرسل إلى ملوك النصارى يستنفرهم إلى غزوها وأرسل إلى القائد خليفة المسيح بزعمهم فأوعز إلى ملوك النصرانية بمظاهرته وأطلق يده في أموال الكنائس مدداً له‏.‏وشاع خبر استعداد النصارى للغزو في سائر بلادهم وكان الذين أجابوه للغزو ببلاد المسلمين من ملوك النصرانية ملك الانكتار وملك اسكوسيا وملك تورك وملك برشلونة واسمه ريدراكون وجماعة آخرون من ملوك الإفرنج هكذا ذكر ابن الأثير‏.‏وأهم المسلمين بكل ثغر شأنهم وأمر السلطان في سائر عمالاته بالاستكثار من العدة وأرسل في الثغور لذلك بإصلاح الأسوار واختزان الحبوب وانقبض تجار النصارى عن تعاهد بلاد المسلمين‏.‏وأوفد السلطان رسله إلى الفرنسيس لاختبار حاله ومشارطته على ما يكف عزمه‏.‏وحملوا ثمانين ألفاً من الذهب لاستتمام شروطهم فيما زعموا فأخذ المال من أيديهم وأخبرهم أن غزوه إلى أرضهم‏.‏فلما طلبوا المال اغتل عليهم بأنه لم يباشر قبضه ووافق شأنهم معه وصول رسول عن صاحب مصر وأنشده قائلا من قول أبي مطروح شاعر السلطان بمصر‏:‏ قل للفرنسيس إذا جئته مقال صدق من وزير نصيح آجرك الله على ما جرى من قتل عباد نصارى المسيح أتيت مصراً تبتغي ملكها تحسب أن الزمر بالطبل ريح فساقك الحين إلى أدهم ضاق به عن ناظريك الفسيح وكل أصحابك أودعتهم بسوء تدبيرك بطن الضريح سبعون ألفاً لا يرى منهم إلا قتيل أو أسير جريح ألهمك الله إلى مثلها لعل عيسى منكم يستريح إن كان باباكم بذا راضياً فرب غش قد أتى من نصيح فاتخذوه كاهناً إنه أنصح من شق لكم أو سطيح وقل لهم إن أزمعوا عودة لأخذ ثأر أو لشغل قبيح دار ابن لقمان على حالها والقيد باق والطواشي صبيح تونس بما يسمع عنهم من المخالفات عذراً دافعهم به وصرف الرسل من سائر الآفاق ليومه‏.‏فوصل رسل السلطان منذرين بشأنهم وجمع الطاغية حشده وركب أساطيله إلى تونس آخر ذي القعدة سنة ثمان وستين فاجتمعوا بسردانية وقيل بصقلية‏.‏ثم واعدهم بمرسى تونس وأقلعوا ونادى السلطان في الناس بالنذير بالعدو والاستعداد له والنفير إلى أقرب المدائن وبعث الشواني لاستطلاع الخبر واستبهم أياماً‏.‏ثم توالت الأساطيل بمرسى قرطاجنة وتفاوض السلطان مع أهل الشورى من الأندلس والموحدين في تخليتهم وشأنهم من النزول بالساحل أو صدهم عنه فأشار بعضهم بصدهم حتى تنقذ ذخيرتهم من الزاد والماء فيضطرون إلى الإقلاع‏.‏وقال آخرون إذا أقلعوا من مرسى الحضرة ذات الحامية والعمد صبحوا بعض الثغور سواها فملكوه واستباحوه واستصعبت مغالبتهم عليه فواص السلطان على هذا وخلوا وشأنهم من النزول فنزلوا بساحل قرطاجنة بعد أن ملئت سواحل رودس بالمرابطة بجند الأندلس والمطوعة زهاء أربعة آلاف فارس لنظر محمد بن الحسين رئيس الدولة‏.‏ولما نزل النصارى بالساحل وكانوا زهاء ستة آلاف فارس وثلاثين ألفاً من الرجالة فيما حدثني أبي عن أبيه رحمهما الله‏.‏قال‏:‏ وكانت أساطيلهم ثلاثمائة بين كبار وصغار وكانوا سبعة يعاسيب كان فيهم الفرنسيس وأخوه جرون صاحب صقلية وصاحب الجزر والعلجة زوج الطاغية تسمى الرينة وصاحب البر الكبير وتسميهم العامة من أهل الأخبار ملوكاً ويعنون أنهم متباينون إذ ظاهروا على غزو تونس وليس كذلك‏.‏وإنما كان ملكاً واحداً وهو طاغية الفرنجة وأخوته وبطارقته عدد كل واحد منهم ملكاً لفضل قوته وشدة بأسه فأنزلوا عساكرهم في المدينة القديمة من قرطاجنة وكانت ماثلة الجدران اضطرم المعسكر بداخلها ووصلوا ما فصله الخراب من أسوارها بألواح الخشب ونضدوا شرفاتها وأداروا على السرر خندقاً بعيد المهوى وتحصنوا‏.‏وندم السلطان على إضاعة الحزم في تخريبها أو دفاعهم عن نزلها‏.‏وأقام ملك الفرنجة وقومه متمرسين بتونس ستة أشهر والمدد يأتيه في أساطيله من البحر من صقلية والعلوة بالرجل والأسلحة والأقوات‏.‏وسلك بعض المسلمين طريقاً في البحرية واتبعهم العرب فأصابوا غرة في العدو فظفروا وغنموا وشعروا بمكانهم فكلفوا بحراسة البحيرة وبعثوا فيها الشواني بالرماة ومنعوا الطريق إليهم وبعث السلطان في ممالكه حاشداً فوافته الأمداد من كل ناحية ووصل أبو هلال صاحب بجاية وجاءت جموع العرب وسدويكش وولهاصة وهوارة حتى أمده ملوك المغرب من زناتة وسرح إليه محمد بن عبد القوي عسكر بني توجين لنظر ابنه زيان‏.‏وأخرج السلطان ابنتيه وعقد لسبعة من الموحدين على سائر الجند من المرتزقة والمطوعة وهم‏:‏ إسماعيل بن أبي كلداسن وعيسى بن داود ويحيى بن أبي بكر ويحيى بن صالح وأبو هلال عياد صاحب بجاية ومحمد بن عبو وأمرهم كلهم راجع ليحيى بن صالح ويحيى بن أبي بكر منهم‏.‏واجتمع من المسلمين عدد لا يحصى وخرج الصلحاء والفقهاء والمرابطون لمباشرة الجهاد بأنفسهم والتزم السلطان القعود بإيوانه مع بطانته وأهل اختصاصه وهم الشيخ أبو سعيد المعروف بالعود وابن أبي الحسين وقاضيه أبو القاسم بن البراء وأخو العيش‏.‏واتصلت الحرب والتقوا في منتصف محرم سنة تسع بالمنصف فزحف يومئذ يحيى صالح وجرون‏.‏فمات من الفريقين خلق وهجموا على المعسكر بعد العشاء وتدامر المسلمون عنده ثم غلبوا عليه بعد أن قتل من النصارى زهاء خمسمائة فأصبحت أبنيته مضروبة كما كانت‏.‏وأمر بالخندق على المعسكر فتعاصرته الأيدي واحتفر فيه الشيخ أبو سعيد بنفسه وابتلي المسلمون بتونس وظنوا الظنون‏.‏واتهم السلطان بالتحول عن تونس إلى القيروان‏.‏ثم إن الله أهلك عدوهم وأصبح ملك الفرنجة ميتاً يقال حتف أنفه ويقال أصابه سهم غرب في بعض المواقف بأبته ويقال أصابه مرض الوباء ويقال وهو بعيد أن السلطان بعث إليه مع ابن جرام الدلاصي بسيف مسموم وكان فيه مهلكه‏.‏ولما هلك اجتمع النصارى على ابنه دمياط سمي بذلك لميلاده بها فبايعوه واعتزموا على الإقلاع‏.‏وكان أمرهم راجعاً إلى العلجة فراسلت المستنصر أن يبذل لها ما خسروه في مؤنة حركتهم وترجع بقومها فأسعفها السلطان لما كان العرب اعتزموا على الانصراف إلى مشاتيهم‏.‏وبعث مشيخة الفقهاء لعقد الصلح في ربيع الأول سنة تسع وستين فتولى عقده وكتابه القاضي ابن زيتون لخمسة عشر عاماً‏.‏وحضر أبو الحسن علي بن عمرو وأحمد بن الغماز وزيان بن محمد بن عبد القوي أمير بني توجين واختص جرون صاحب صقلية بسلم عقده على جزيرته‏.‏وأقلع النصارى بأساطيلهم وأصابهم عاصف من الريح أشرفوا على العطب وهلك الكثير منهم‏.‏وأغرم السلطان الرعايا ما أعطى العدو من المال فأعطوه طواعية‏.‏يقال إنه عشرة أحمال من المال وترك النصارى بقرطاجنة تسعين منجنيقاً‏.‏وخاطب السلطان صاحب المغرب وملوك النواحي بالخبر ودفاعه عن المسلمين وما عقده من الصلح وأمر بتخريب قرطاجنة وأن يؤتى بنيانها من القواعد فصير أبنتيها طامسة ورجع الفرنجة إلى دعوتهم فكان آخر عهدهم بالظهور والاستفحال ولم يزالوا في تناقص وضعف إلى أن افترق ملكهم عمالات‏.‏واستبد صاحب صقلية لنفسه وكذا صاحب نايل وجنوة وسردانية وبقي بيت ملكهم الأقدم لهذا العهد على غاية من الفشل والوهن‏.‏والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين‏.‏أصل هذا الرجل من بني سعيد رؤساء القلعة المجاورة لغرناطة وكان كثير منهم قد استعملوا أيام الموحدين بالعدوتين وكان جده أبو الحسن سعيد صاحب الأشغال بالقيروان‏.‏ونشأ حافده هذا في كفالته‏.‏ولما عزل وقفل إلى المغرب هلك ببونة سنة أربع وستمائة ورجع حافده محمد إلى تونس والشيخ أبو محمد بن أبي حفص صاحب إفريقية لذلك العهد فاعتلق بخدمة ابنه أبي زيد‏.‏ولما ولي الأمر بعد وفاة أبيه غلب محمد هذا على هواه‏.‏ثم جاء السيد أبو علي من مراكش على إفريقية وارتحل أبو زيد إلى مراكش ومحمد بن أبي الحسين إلى تونس واتصل الأمير أبي زكرياء لأول استبداده فغلب على هواه وكان مبختاً في صحابة الملوك‏.‏ولما ولي المستنصر أجراه على سننه برهة ثم تنكر له إثر كائنه اللحياني وعظمت سعاية أعدائه من البطانة وأشاعوا بمداخلته لأبي القاسم ابن مخدومه أبي زيد ابن الشيخ أبي محمد فنكبه السلطان واعتقله بداره تسعة أشهر‏.‏ثم سرحه وأعاده إلى مكانه وثار من أعدائه واستولى على أمور السلطان إلى أن هلك سنة إحدى وسبعين‏.‏وكان ابن عمه سعيد بن يوسف بن أبي الحسن صاحب أشغال الحضرة وكان قد أفنى مالا جسيماً ونال من الحضرة منالا‏.‏وكان الرئيس أبو عبد الله متفنناً في العلوم مجيداً في اللغة‏.‏يقرض الشعر فيحسن ويرسل فيجيد‏.‏وله من التواليف‏:‏ كتاب ترتيب المحكم لابن سيدة على نسق الصحاح للجوهري واختصاره وسماه الخلاصة‏.‏وكان في رياسته صليب الرأي قوي الشكيمة عالي الهمة شديد المراقبة والحزم في الخدمة وله شعر نقل منه التجاني وغيره‏.‏ومن أشهر ما نقل عنه من شعره يخاطب عنان بن جابر عن الأمير أبي زكريا لما خالف واتبع ابن غانية وهي على روي الراء كان قبلها أخرى على روي الدال‏.‏وكان له ولد اسمه سعيد وترقى في حياة أبيه المراتب السلطانية‏.‏ثم اغتبظ دون غايته‏.‏وفي ثالثة مهلكه كان مهلك الشيخ أبي سعيد عثمان بن محمد الهنتاتي المعروف بالعود الرطب ويعرف أهل بيته بالمغرب ببني أبي زيد‏.‏وكان منهم عبد العزيز المعروف بصاحب الأشغال كان فر من المغرب أيام السعيد لجفوة نالته ولحق بسجلماسة سنة إحدى وأربعين‏.‏وقد كان انتزى بها عبد الله الهزرجي وبايع للأمير أبي زكريا فأجازه عبد الله إلى تونس ونزل على الأمير أبي زكريا ونظمه في طبقات مشيخة الموحدين وأهل مجلسه‏.‏ثم حظي عند ابنه المستنصر بعد نكبة بني النعمان حظوة لا لم كفاء لها‏.‏واستولى على الرأي والتدبير إلى أن هلك سنة ثلاث وسبعين فشيع طيب الذكر ملحفاً بالرضوان من الخاصة والكافة والله مالك الأمور‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:30 AM

الخبر عن انتقاض أهل الجزائر وفتحها
كان أهل الجزائر لما رأوا تقلص ظل الدولة عن زناتة وأهل المغرب الأوسط حدثوا أنفسهم بالاستبداد والقيام على أمرهم وخلع ربقة الطاعة من أعناقهم فجاهروا بالخلعان‏.‏وسرح السلطان إليهم العساكر سنة تسع وستين وأوعز إلى صاحب ثغر بجاية وهو أبو هلال عياد بن سعيد الهنتاني فزحف إليها في عساكر الموحدين سنة إحدى وسبعين ونازلها مدة حول‏.‏وامتنعت عليه فأقلع عنها ورجع إلى بجاية وهلك بمعسكره ببني ورا سنة ثلاث وسبعين‏.‏ثم إن السلطان صرف عزمه إلى منازلتهم سنة أربع وسبعين وسرح إليهم العساكر في البر وأنفذ الأساطيل في البحر وعقد على عسكر تونس لأبي الحسن بن ياسين وأوعز إلى عامل بجاية بإنفاذ عسكر آخر فأنفذه لنظر أبي العباس بن أبي الأعلام ونهضت هذه العساكر براً وبحراً إلى أن نازلتها وأحاطت بها من كل جانب واشتد حصارها‏.‏ثم اقتحمت عنوة واستحر فيهم القتل وانتهبت المنازل وافتضح الكرائم في أبكارهن‏.‏وتقبض على مشيخة البلد فنقلوا إلى تونس مصفدين واعتقلوا بالقصبة إلى أن سرحهم الواثق بعد مهلك السلطان‏.‏


الخبر عن مهلك السلطان المستنصر ووصف شيء من أحواله
كان السلطان بعد فتح الجزائر قد خرج من تونس للصيد وتفقد العمالات فأصابه في سفره مرض ورجع إلى داره واشتدت علته وكثر الإرجاف بموته‏.‏وخرج يوم الأضحى سنة خمس وسبعين يتهادى بين رجلين ورجلاه لا يخطان الأرض‏.‏وجلس للناس في منبر متجلداً‏.‏ثم دخل بيته وهلك لليلته رضوان الله عليه وكان شأن هذا المستنصر في ملوك آل أبي حفص عظيماً‏.‏وشهرته طائرة الذكر بما انفسح أمد سلطانه ومدت إليه ثغور القاصية من العدوتين يد الاعتصام به‏.‏وما اجتمع بحضرته من أعلام الناس الوافدين على أبيه وخصوصاً الأندلس من شاعر مفلق وكاتب بليغ وعالم نحرير وملك أروع وشجاع أهيس متفيئين ظل ملكه متناغين في اللياذ به لطموس معالم الخلافة شرقاً وغرباً على عهده وخفوت صوت الملك إلا في إيوانه‏.‏فقد كان الطاغية التهم قواعد الملك بشرق الأندلس وغربها فأخذت قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وبلنسية سنة ست بعدها وإشبيلية سنة ست وأربعين‏.‏واستولى الططر على بغداد دار خلافة العرب بالمشرق وحاضرة الإسلام سنة ست وخمسين وانتزع بنو مرين ملك بني عبد المؤمن‏.‏واستولوا على حضرة مراكش دار خلافة الموحدين سنة ثمان وستين كل ذلك على عهده وعهد أبيه ودولتهم أشد ما كانت قوة وأعظم رفاهية وجباية وأوفر قبيلا وعصابة وأكثر عساكر وجنداً فأمله أهل العالم للكرة وأجفلوا إلى الإمساك بحقويه‏.‏وكانت له في الأبهة والجلال أخبار وفي الحروب والفتوح آثار مشهورة وفي أيلمه عظمت حضارة تونس وكثر ترف ساكنها‏.‏وتأنق الناس في الملابس والمراكب والمباني والماعون والأبنية فاستجادوها وتناغوا في اتخاذها وانتقائها إلى أن بلغت غايتها‏.‏ثم رجعت من بعده أدراجها والله مالك الأمور


الخبر عن بيعة الواثق يحيي بن المستنصر وهو المشهور بالمخلوع وذكر أحواله
لما هلك السلطان المستنصر سنة خمس وسبعين كما قدمناه اجتمع الموحدون وسائر الناس على طبقاتهم إلى ابنه يحيى فبايعوه ليلة مهلك أبيه وفي غدها وتلقب الواثق‏.‏وافتتح أمره برفع المظالم وتسريح أهل السجون وإفاضة العطاء في الجند وأهل الديوان وإصلاح المساجد وإزالة كثير من الوظائف عن الناس‏.‏وامتدحه الشعراء فأسنى جوائزهم وأطلق عيسى بن داود من اعتقاله ورده إلى حاله‏.‏وكان المتولي لأخذ البيعة على الناس والقيام بأمره سعيد بن يوسف بن أبي الحسين لمكانه من الدولة ورسوخه في الشهرة فقام بالأمر ولم يزل على ذلك إلى أن نكبه وأدال منه بالحببر‏.‏

الخبر عن نكبة ابن أبي الحسين واستبداد ابن الحببر علي الدولة
كان هذا واسمه يحيى بن عبد الملك الغافقي وكنيته أبو الحسن أندلسياً من أعمال مرسية وفد مع الجالية من شرق الأندلس أيام استيلاء العدو وكان يحسن الكتاب ولم يكن له من الخلال سواها فصرف في الآعمال ثم ارتقى إلى خدمة ابن أبي الحسين فاستكتبه ثم رقاه إلى ولاية الديوان فعظمت حاله وكانت له أثناء ذلك مداخلة للواثق ابن السلطان اعتدها له سابقة‏.‏فلما استوسق الأمر للواثق رفع منزلته واختصه بالشورى وقلده كتاب علامته‏.‏وكان سعيد بن أبي الحسين مزاحماً له منافساً لما كان أسف منه بقدميه‏.‏فأغرى به السلطان ورغبه في ماله فتقبض على سعيد بن أبي الحسين لستة أشهر من الدولة سنة ست وسبعين واعتقل بالقصبة‏.‏وتقبض على نقله ابن ياسين وابن صياد الرجالة وغيرهم وقدم على الأشغال مدافع من الموالي العلوجي‏.‏ووكل أبو زيد بن أبي الأعلام من الموحدين بمصادرة ابن أبي الحسين على المال وامتحانه‏.‏ولم يزل يستخرج منه حتى ادعى الإملاق واستحلف فحلف ثم ضرب فادعى مؤتمناً من ماله عند قوم استكشفوا عنه فأدوه‏.‏ثم دل بعض مواليه على ذخيرة بداره دفينة فاستخرج منها زهاء ستمائة ألف من الدنانير فلم يقبل بعدها مقاله وبسط عليه العذاب إلى أن هلك في ذي الحجة من سنته ودفن شلوه بحيث لم يعرف مدفنه واستبد أبو الحسن الحببر على الدولة والسلطان وبعث أخاه أبا العلى والياً على بجاية وأسف المشيخة والبطانة بعتوه واستبداده وما يتحشمونه من مباكرة بابه إلى أن عاد وبال ذلك على الدولة كما نذكره‏.‏


الخبر عن إجازة السلطان أبي إسحاق من الأندلس ودخول أهل بجاية في طاعته
كان السلطان المستنصر قد عقد على بجاية سنة ستين لأبي هلال عياد بن سعيد الهنتاتي وأدال به من أخيه الأمير أبي حفص فأقام والياً عليها إلى أن هلك ببني ورا سنة ثلاث وسبعين كما ذكرناه‏.‏وعقد عليها من بعده لابنه محمد فكان له غناء في ولايته واضطلع بأمره إلى أن هلك المستنصر وولى ابنه الواثق فبادر إلى إيتاء طاعته وبعث وفد بجاية بيعتهم‏.‏ثم قلد أبو الحسن الحببر القائم بالدولة أخاه إدريس ولاية الأشغال ببجاية فقام بها واقتنى الأموال وتحكم في المشيخة‏.‏وأنف محمد بن أبي هلال من استبداده عليه فهم إدريس بنكبته فخشي محمد بن أبي هلال بادرته وداخل بعض بطانته في قتله‏.‏وفاوض الملك فيه فعدوا عليه لأول ذي القعدة سنة سبع وسبعين بمقعده من باب السلطان فقتلوه ورموا برأسه إلى الغوغاء والزعانف فعبثوا به‏.‏ووافق ذلك حلول السلطان أبي إسحاق بتلمسان وكان عند بلوغ الخبر إليه بمهلك أخيه المستنصر أجمع أمره على الإجازة لطلب حقه بعدما تردد برهة‏.‏ثم اعتزم وأجاز إلى تلمسان ونزل على يغمراسن ابن زيان فقام لمورده واحتفل في مبرته‏.‏وفعل أهل بجاية وابن أبي هلال فعلتهم وخشوا بوادر السلطان بالحضرة فخاطبوا السلطان أبا إسحاق وأتوه بيعتهم وبعثوا وفدهم يستحثونه للملك فأجابهم ودخل إليهم آخر ذي القعدة من سنته فبايعه الموحدون والملأ من أهل بجاية‏.‏وقام بأمره محمد بن أبي هلال‏.‏ثم زحف في عساكرة إلى قسطنطينة فنازلها وبها عبد العزيز بن عيسى بن داود فامتنعت عليه فأقلع عنها إلى أن كان من أمره ما نذكره‏.‏


الخبر عن خروج الأمير أبي حفص بالعساكر للقاء السلطان أبي إسحاق
ثم دخوله في طاعته وخلع الواثق لما بلغ الخبر إلى الواثق ووزيره المستبد عليه ابن الحببر بدخول السلطان أبي إسحاق بجاية سرح العساكر إلى حربه وعقد عليها لعمه أبي حفص‏.‏واستوزر له أبا زيد بن جامع فخرج من تونس واضطرب معسكره ببجاية‏.‏وعقد الواثق على قسطنطينة لعبد العزيز بن عيسى بن داود لذمة صهر كانت له من ابن الحببر فتقدم إلى قسطنطينة ومانع عنها الأمير أبا إسحاق كما ذكرناه‏.‏ثم اضطرب رأى ابن الحببر في خروج الأمير أبي حفص وأراد انفضاض عسكره فكتب الواثق إلى أبي حفص ووزيره ابن جامع يغري كل واحد منهما بصاحبه فتفاوضا واتفقا على الدعاء للأمير أبي إسحاق وبعثوا إليه بذلك‏.‏واتصل الخبر بالواثق وهو بتونس منتبذاً عن الحامية والبطانة فاستيقن ذهاب ملكه وأشهد الملأ وانخلع عن الأمر لعمه السلطان أبي إسحاق غرة ربيع الأول من سنة ثمان وسبعين وتحول عن قصور الملك بالقصبة إلى دار الأقوري وانقرضت دولته وأمره‏.‏والبقاء لله وحده‏.‏


الخبر عن استيلاء السلطان أبي إسحاق على الحضرة
لما بلغ السلطان أبا إسحاق كتاب أخيه الأمير أبي حفص وابن جامع من باجة بادر مغذاً إليهم‏.‏ثم وافاه خبر انخلاع الواثق ابن أخيه بتونس فارتحلوا جميعاً وتسايل أهل الحضرة على طبقاتهم إلى لقائه وأتوه طاعتهم‏.‏ودخل الحضرة منتصف ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين ومحمد بن أبي هلال شيخ دولته‏.‏وعقد على حجابته لأبي القاسم ابن شيخ كاتب ابن أبي الحسين وعلى خطة الأشغال لابن أبي الحسن بن خلدون‏.‏كان مع وفد أبيه الحسن على الأمير أبي زكرياء من إشبيلية لذمة رعاها لهم بما كانت أم ولده أم الخلائف من هدايا ابن المحتسب أبي زكرياء محلهم‏.‏ورحل الحسن إلى المشرق ومات هنالك وبقي ابنه أبو بكر بالحضرة فاستعمله الأمير أبو إسحاق لأول دخوله في خطة الأشغال ولم يكن يليها إلا الموحدون كما قلناه‏.‏وعقد لفضل بن علي بن مزني على الزاب ولم يكن أيضاً يليها إلا الموحدون‏.‏لكن رعى لفضل بن مزني ذمة اغترابه معه إلى الأندلس فعقد له على الزاب ولأخيه عبد الواحد على بلاد قسطيلية‏.‏ثم تقبض على ابن الحببر وأمر باعتقاله ودفعه إلى موسى بن محمد بن ياسين للمصادرة والامتحان‏.‏ووجد مكان التمائم عليه طوابع وطلسمات مختلفة الأشكال والصور يسحر بها فيما زعموا مخدومه فحاق به وبالها‏.‏وكان شأنه في الامتحان والاستخلاف والهلاك بالعذاب شأن سعيد بن أبي الحسين منكوبه أيام دولته إلى أن هلك شهر جمادى الأولى من سنته والله لا يظلم مثقال ذرة‏.‏ولما اقتعد السلطان أبو إسحاق كرسي ملكه واستوثقت عرى خلافته تقبض على محمد بن أبي هلال وقتله لحين نكبته سنة ست وسبعين لما كان يتوقع منه من المكروه في الدولة وما


الخبر عن مقتل الواثق وولده
لما انخلع الواثق عن الأمر وتحول إلى دار الأقوري فأقام بها أياماً وكان له ثلاثة من الولد أصاغر‏:‏ الفضل والطاهر والطيب فكانوا معه‏.‏ثم نفي عنه للسلطان أبي إسحاق أنه يروم الثورة وأنه داخل في ذلك بعض رؤساء النصارى الجند فأقلق السلطان مكان ترشيحه واعتقله بمكان اعتقال بنيه هو من القصبة أيام أخيه المستنصر‏.‏لم بعث إليهم لليلته فذبحوا جميعاً شهر صفر سنة تسع وتسعين‏.‏واستوسق له الأمر وأطلق من عنان الإمارة لولده إلى أن كان من شأنهم ما يذكر‏.‏


الخبر عن ولاية الأمير أبي فارس ابن السلطان
أبي إسحاق على بجاية بعهد أبيه والسبب في ذلك كان للسلطان أبي إسحاق من الأبناء خمسة‏:‏ أبو فارس عبد العزيز وكان أكبرهم وأبو محمد عبد الواحد وأبو زكرياء يحيى وخالد وعمر‏.‏وكان السلطان المستنصر قد حبسهم عند فرار أبيهم إلى رياح في أيامه ببعض حجر القصر وأجرى عليهم رزقاً فنشئوا في ظل كفالته وجميم رزقه إلى أن استولى أبوهم السلطان أبو إسحاق على الملك فطلعوا بآفاقه‏.‏وطالت فروعهم في دوحه واشتملوا على العز واصطنعوا أهل السوابق من الرجال وأرخى السلطان لهم ظلهم في ذلك‏.‏وكان المجلي فيها كبيرهم أبو فارس بما كان مرشحاً لولاية العهد وكان ممن اصطنعه وألقى عليه رداء محبته في الناس وعنايته أحمد بن أبي بكر بن سيد الناس اليعمري وأخوه أبو الحسين لسابقة رعاها لهما وذلك أن أباهما أبا بكر بن سيد الناس كان من بيوت إشبيلية حافظاً بالحديث رواية له‏.‏ظاهرياً في فقهه على مذهب داود وأصحابه‏.‏وكانت لأهل إشبيلية خصوصاً من الأندلس وصلة بالأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص وبنيه منذ ولايته غرب الأندلس‏.‏فلما تكالب الطاغية على العدوة والتهم ثغورها واكتسح بسائطها‏.‏وأسف إلى قواعدها وأمصارها أجاز الأعلام وأهل البيوت إلى أرض المغربين وإفريقية‏.‏وكان قصدهم إلى تونس أكثر لاستفحال الدولة الحفصية بها‏.‏فلما رأى الحافظ أبو بكر اختلال أحوال الأندلس وقبح مصائرها وخفة ساكنها أجمع الرحلة عنها إلى ما كان بتونس من سابقته عند هؤلاء الخلفاء‏.‏فأجاز البحر ونزل بتونس فلقاه السلطان تكرمة وجعل إليه تدريس العلم بالمدرسة عند حمام الهوا التي أسستها أمه أم الخلائف‏.‏ونشأ بنوه أحمد وأبو الحسين في جو الدولة وحجر كفالتها للاختصاص الذي كان لأبيهم بها‏.‏وعدلوا عن طلب العلم إلى طلب الدنيا وتشوقوا إلى مراتب السلطان واتصلوا بأبناء السلطان أبي إسحاق بمكانهم من حجر القصر حيث أنزلهم عمهم بعد مذهب أبيهم فخالطوهم واستخدموا لهم‏.‏ولما استولى السلطان على الأمر ورشح ابنه أبا فارس العهد وأجراه على سنن الوزارة فاصطنع أحمد بن سيد الناس ونوه باسمه وخلع عليه لبوس كرامته‏.‏واختصه بلقب حجابته وأخوه أبو الحسين يناهضه في ذلك عنده‏.‏ونفس ذلك عليهما البطانة فأغروا السلطان أبا إسحاق بابنه وخوفوه شأنه‏.‏وإن أحمد بن سيد الناس داخله في التوثب بالدولة‏.‏وتولى كبر هذه السعاية عبد الوهاب بن قائد الكلاعي من علية الكتاب ووجوههم‏.‏كان يكتب العلامة يومئذ فسطا السلطان بابن سيد الناس سنة تسع وستين آخر ربيع استدعي إلى باب القصر فتعاورته السيوف هبراً ووري شلوه ببعض الحفر‏.‏وبلغ الخبر إلى الأمير أبي فارس فركب إلى أبيه في لبوس الحزن فعزاه أبوه عن ذلك بأنه ظهر لابن سيد الناس على المكر والخديعة بالدولة‏.‏وأماط سواده بيده ونجا أبو الحسين من هذه المهلكة‏.‏واعتقل في لمة من رجال الأمير أبي فارس وبطانته بعد أن توارى أياماً إلى أن أطلق من محبسه وكان من أمره ما نذكره بعد‏.‏واستبلغ السلطان في تأنيس ابنه ومسح الضغينة عن صدره وعقد له على بجاية وأعمالها وأنفذه إليها أميراً مستقلا‏.‏وأنفذ معه في رسم الحجابة جدي محمد ابن صاحب أشغاله أبي بكر بن الحسن بن خلدون فخرج إليها سنة تسع وستين وقام بأمرها إلى آخر دولته كما نذكره‏.‏


الخبر عن ثورة ابن الوزير بقسطنطينة ومقتله
اسم هذا الرجل أبو بكر بن موسى بن عيسى ونسبته في كومية من بيوت الموحدين‏.‏كان مستخدماً لابن كلداسن الوالي بقسطنطينة بعد ابن النعمان من مشيخة الموحدين أيام المستنصر‏.‏ووفد ابن كلداسن على الحضرة وأقام ابن وزير نائباً عنه بقسطنطينة فكان له غناً وصرامة‏.‏وولاه السلطان حافظاً على قسطنطينة‏.‏واتصلت ولايته وهلك المستنصر واضطربت الأحوال‏.‏ثم ولاه الواثق ثم السلطان أبو إسحاق وكان ابن وزير هذا طموحاً جموح الأمل وعلم أن قسطنطينة معقل ذلك القطر وحصنه فحدثته نفسه بالامتناع بها والاستبداد على الدولة‏.‏وساء أثره في أهلها فرفعوا أمرهم إلى السلطان أبي إسحاق واستعدوه فلم يعدهم لما رأى من مخايل انحرافه عن الطاعة‏.‏وكتب هو بالاعتذار والنكير لما جاءوا به فتقبل وأغضى له عن هناته‏.‏ولما مر به الأمير أبو فارس إلى محل إمارته من بجاية سنة تسمع وسبعين قعد عن لقائه وأوفد عليه جمعاً من الصلحاء بالمعاذير والاستعطاف فمنحه من ذلك كفاء مرضاته حتى إذا أبعد الأمير أبو فارس إلى بجاية اعتزم هو على الانتزاء‏.‏وكاتب ملك أرغون في جيش النصارى يكون معه في ثغره يردد بهم الغزو على أن يكون فيما زعموا داعية له فأجابه ووعده ببعث الأسطول إليه فجاهر بالخلعان وانتزى بثغر قسطنطينة داعياً لنفسه آخر سنة ثمانين‏.‏وزحف إليه الأمير أبو فارس من بجاية في عساكره واحتشد الأعراب وفرسان القبائل إلى أن احتل بميلة‏.‏ووفد عليه مشيخة من أهل قسطنطينة بمكر من الرغبة والتوسل بعثهم بها ابن وزير فأعرض عنهم وصبح قسطنطينة في أول ربيع سنة إحدى وثمانين فنازلها وجمع الأيدي على حصارها‏.‏ونصب المجانيق وقرب مقاعد الرماة وقاتلها يوماً أو بعض يوم وتسور عليهم المعقل من بعض جهاته‏.‏وكان المتولي لتسوره حاجبه محمد بن أبي بكر بن خلدون وأبلى ابن وزير عند الصدمة حتى أحيط به وقتل هو وأخوه وأشياعهما ونصبت رؤوسهم بسور البلد‏.‏وتمشى الأمير في سكك البلد مسكناً ومؤنساً وأمر برم ما تثلم من الأسوار وبإصلاح القناطر‏.‏ودخل إلى القصر وبعث بالفتح إلى أبيه بالحضرة‏.‏وجاء أسطول النصارى إلى مرسى القل في مواعدة ابن وزير فأخفق مسعاهم وارتحل لأمير أبو فارس ثالثة الفتح إلى بجاية فدخلها آخر ربيع من سنته‏.‏


الخبر عن قيادة أبناء السلطان العساكر إلى الجهات
كان السلطان يؤثر أبناءه بمراتب ملكة ويوليهم خطط سلطانه شغفاً بهم وترشيحاً لهم فعقد في رجب سنة إحدى وثمانين لابنه أبي زكرياء على عسكر من الموحدين والجند وبعثه إلى قفصة للإشراف على جهاتها‏.‏وضم مجابيها فخرج إليها وقضى شأنه من حركته وانصرف إلى تونس في رمضان من سنته‏.‏ثم عقد لابنه الآخر أبي محمد عبد الواحد على عسكره وأنفذه إلى وطن هوارة لاقتضاء مغارمهم وجباية ضرائبهم وفرائضهم وبعث معه عبد الوهاب ابن قائد الكلاعي مباشراً لذلك وواسطة بينه وبين الناس فانتهى إلى القيروان وبلغه شأن الدعي وظهوره في دباب بنواحي طرابلس فطير بالخبر إلى السلطان وأقبل على شأنه‏.‏ثم انتشر أمر الدعي فأنكفأ راجعاً إلى تونس‏.‏


الخبر عن صهر السلطان مع عثمان بن يغمراسن
كان السلطان لما أجاز البحر من الأندلس لطلب ملكه ونزل على يغمراسن بن زيان بتلمسان فاحتفل لقدومه وأركب الناس للقائه وأتاه ببيعته على عادته من سلفه لما علم أنه أحق بالأمر ووعد النصرة من عدوه والمؤازرة على أمره وأصهر إليه في إحدى بناته المقصورات في خيام الخلافة بابنه عثمان تشريفاً خطبه منه فولاه الإسعاف به‏.‏ولما استولى السلطان على حضرته واستبد بأحوال ملكه بعث يغمراسن ابنه إبراهيم المكنى بأبي عامر في وفد من قومه لإتمام ذلك العقد فاعتمد السلطان مبرتهم وأسعف طابتهم وأقاموا بالحضرة أياماً وظهر من إقدامهم في فتن الدعي مقامات وانصرفوا بظعينهم سنة إحدى وثمانين مجبورين محبورين‏.‏وابتنى بها عثمان لحين وصولها فكانت من عقائل قصورهم ومفاخر دولتهم وذكراً لهم ولقومهم آخر الأيام‏.‏


الخبر عن ظهور الدعي ابن أبي عمارة وما وقع من الغريب في أمره
هو أحمد بن مرزوق بن أبي عمارة من بيوتات بجاية الطارئين عليها من المسيلة ونشأ ببجاية وسيماً محترفاً بصناعة الخياطة غراً غمراً‏.‏وكان يحدث نفسه بالملك لما كان العارفون زعم يخبرونه بذلك‏.‏وكان هو بخط فيريه خطه ذلك‏.‏ثم اغترب عن بلده ولحق بصحراء سجلماسة واختلط بعرب المعقل وانتمى إلى أهل البيت وادعى أنه الفاطمي المنتظر عند الأغمار وأنه يحيل المعادن إلى الذهب بالصناعة فاشتملوا عليه وتحدثوا بشأنه أياماً‏.‏أخبرني طلحة بن مظفر من شيوخ العمارية إحدى بطون المعقل أنه رآه أيام ظهوره في المعقل ملتبساً بتلك الدعوى حتى فضحه العجز‏.‏ثم لما زهدوا فيه لعجز مدعاه ذهب يتقلب في الأرض حتى وصل إلى جهات طرابلس ونزل على دباب وصحب بينهم الفتى نصير مولى الواثق بن المستنصر وتلقب نوبى‏.‏ولما رآه تبين فيه شبهاً من الفضل ابن مولاه فطفق يبكي ويقبل قدميه فقال له ابن أبي عمارة‏:‏ ما شأنك فقص عليه الخبر فقال له‏:‏ صدقني في هذه الدعوى وأنا أثيرك من قاتلهم‏.‏وأقبل نصير على أمراء العرب منادياً بالسرور بابن مولاه حتى خيل عليهم‏.‏ثم لبس بما دس إلى ابن عمارة من محاورات وقعت بين العرب وبين الواثق قصها عليهم ابن أبي عمارة نفياً للريب بأمره فصدقوا واطمأنوا وأتوه بيعتهم‏.‏وقام بأمره مرعم بن صابر بن عسكر أمير دباب‏.‏وجمع له العرب ونازلوا طرابلس وبها يومئذ محمد بن عيسى الهنتاتي - ويشهر بعنق الفضة - فامتنعت عليهم ورحلوا إلى مجريس الموطنين بزنزور وجهاتها من هوارة فأوقعوا بهم‏.‏ثم سار في تلك النواحي واستوفى جبايته ولماية وزوارة وزواغة وأغرم نفوسه وغريان ومقر من بطون هوارة وضائع ألزمهم إياها واستوفاها‏.‏ثم زحف إلى قابس فبايع له عبد الملك بن مكي في رجب سنة إحدى وثمانين وأعطاه صفقته طواعية وفاه بحق آبائه فيما طوقوه ذريعة إلى الاستقلال الذي كان يؤمله وأعلن بخلافته ونادى في قومه واستخدم له بني كعب من سليم ورياستهم إذ ذاك في بني شيحة لعبد الرحمن بن شيحة فأجابوا داعية وأنابوا إلى خدمته‏.‏وتوافت إليه بيعة أهل جربة والحامة وقرى نفزاوة‏.‏ثم زحف إلى توزر وبلاد قسطيلية فأطاعوه ثم رجع إلى قفصة فبايع له أهلها وعظم أمره وعلا صيته‏.‏فجهز إليه السلطان أبو إسحاق العساكر من تونس كما نذكره‏.‏


الخبر عن انفضاض عساكر السلطان وتقويضه عن تونس
لما تفاقم أمر الدعي بنواحي طرابلس ودخل الكثير من أهل الأمصار في طاعته جهز السلطان عساكره وعقد لابنه الأمير أبي زكريا على حربه فخرج من تونس والقيروان واقتضى منها غرامات ووضائع واستأثر منها بأموال‏.‏ثم ارتحل إلى لقاء الدعي وانتهى إلى تمودة وبلغه هنالك ما كان من استيلاء الدعي على قفصة فأرجف العسكر وانفضوا من حوله‏.‏ورجع إلى تونس فدخلها آخر يوم من رمضان من سنته وارتحل الدعي على أثره من قفصة واحتل بالقيروان فبايع له أهلها واقتدى بهم أهل المهدية وصفاقس وسوسة فبايعوا له وكثر الإرجاف بتونس فاضطرب السلطان معسكره بظاهر البلد وسط شوال‏.‏وضرب الغزو على الناس واستكثر من العدد وخرج إلى معسكره بالمهدية وتلوم بها لإزاحة العلل‏.‏وارتحل الدعي من القيروان زاحفاً فتسربت إليه طبقات الجنود ومشيخة الموحدين رضي بمكانه وصاغية إلى بني المستنصر خليفتهم الطويل أمد الولاية عليهم ورحمة لما نال الواثق وأبناءه من عمهم‏.‏ثم انفض عن السلطان كبير الدولة موسى بن ياسين في معظم الموحدين ولقي الدعي بطريقه فاختل أمر السلطان وانتقضت على ملكه وفر إلى بجاية كما نذكره‏.‏


الخبر عن لحاق السلطان أبي إسحاق ببجاية
ودخول الدعي ابن أبي عمارة إلى تونس وما كان أمره بها ولما انفض معسكر السلطان أبي إسحاق آخر شوال من سنة إحدى وثمانين في خاصته وبعض جنوده ذاهباً إلى بجاية ومر بتونس فوقف عندها حتى احتمل أهله وولده وسار في كلب البرد فكان يعاني من قلة الأقوات وتعاور المطر والثلج شدة‏.‏يصانع القبائل في طريقه ببذل ماله‏.‏ثم مر بقسطنطينة فمنعه عاملها عبد الله بن يوقيان الهرغي من دخولها وقرب إليه بعض القرى من الأقوات وارتحل إلى بجاية فكان من أمره ما يذكر‏.‏ودخل الدعي ابن أبي عمارة إلى الحضرة وقلد موسى بن ياسين وزارته وأبا القاسم أحمد ابن الشيخ حجابته‏.‏وتقبض على صاحب الأشغال أبي بكر بن الحسن بن خلدون فاستصفاه وصاده على مال امتحنه عليه‏.‏ثم قتله خنقاً وصرف خطة الجباية إلى عبد الملك بن مكي رئي قابس‏.‏واستكمل ألقاب الملك وقسم الخطط بين رجال الدولة وصرف همه إلى غزو بجاية‏.‏


الخبر عن استبداد الأمير أبي فارس بالأمر عند وصول أبيه إليه
لما وصل السلطان أبو إسحاق إلى بجاية شهر ذي القعدة من سنته طريداً عن ملكه عاطلا عن حلى سلطانه انتقض عليه ابنه الأمير أبو فارس ومنعه من الدخول إلى قصره فنزل بروض الرفيع وأراده على الخلع فانخلع له‏.‏وأشهد الملأ من الموحدين ومشيخة بجاية بذلك وأنزله قصر الكوكب ودعا الناس إلى بيعته آخر ذي القعدة فبايعوه وتلقب المعتمد على الله‏.‏ونادى في أوليائه من رياح وسدويكش‏.‏وخرج من بجاية زاحفاً إلى الدعي واستخلف عليها أخاه الأمير أبا زكريا‏.‏وخرج معه عمه الأمير أبو حفص وأخوته فكان من أمرهم ما نذكر‏.‏


الخبر عن زحف الأمير أبي فارس للقاء الدعي ثم انهزامه أمامه
واستلحامه وأخوته في المعركة وما كان أثر ذلك من مهلك أبيهم السلطان أبي إسحاق وفرار أخيهم الأمير أبي زكرياء إلى تلمسان لما بلغ الخبر إلى الدعي باستبداد الأمير أبي فارس على أبيه واستعداده للقائه تقبض على أهل البيت الحفصي فاعتقلهم بعد أن هم بقتلهم‏.‏وخرج من تونس في عساكره من الموحدين وطبقات الجند في صفر سنة اثنتين وثمانين فانتهى إلى مرماجنة وتراءى الجمعان ثالث ربيع الأول فاقتتلوا علية يومهم‏.‏ثم اختل مصاف الأمير أبي فارس‏.‏وتخاذل أنصاره فقتل في المعركة وانتهب معسكره وقتل أخواته جميعاً صبراً‏:‏ عبد الواحد قتله الدعي بيده وعمر وخالد ومحمد بن عبد الواحد‏.‏وبعث برؤوسهم إلى تونس فطيف بها على الرماح ونصبت بأسوار البلد‏.‏ وتخلص عمه الأمير أبو حفص من الواقعة إلى أن كان من أمره ما نذكر‏.‏وبلغ خبر الواقعة إلى بجاية فاضطرب أهلها وماجوا بعضهم في بعض‏.‏وجمعهم قاضيهم أبو محمد عبد المنعم بن عتيق الجزائري للحديث في الشأن فتكالبوا وزجرهم ابنه فقتلوا‏.‏ثم أشخصوا القاضي إلى بلده في البحر‏.‏وخرج السلطان أبو إسحاق وابنه الأمير أبو زكرياء إلى تلمسان فقدم أهل بجاية عليهم محمد بن أسرعين قائماً فيهم بطاعة الدعي وخرج في أتباع السلطان فأدركه بجبل بني غبرين من زواوة فتقبض عليه ونجا الأمير أبو زكرياء إلى تلمسان وبقي السلطان أبو إسحاق ببجاية معتقلا ريثما بلغ الخبر إلى تونس وأرسل الدعي محمد بن عيسى بن داود فقتله آخر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وانقضى أمره ولله عاقبة الأمور‏.‏


الخبر عن ظهور الأمير أبي حفص وبيعته
وما كان على أثر ذلك من الأحداث قد ذكرنا أن الأمير أبا حفص حضر واقعة بني أخيه مع الدعي بمرماجنة فخلص من المعركة راجلا ونجا إلى قلعة سنان معقل هوارة القريب من مكان الملحمة ولاذ به في ذهابه إلى منجاته ثلاثة من صنائعهم‏:‏ أبو الحسين بن أبي بكر بن سيد الناس ومحمد بن القاسم بن إدريس الفازازي ومحمد بن أبي بكر بن خلدون وهو جد المؤلف الأقرب‏.‏وربما كانوا يتناقلونه على ظهورهم إذا أصابه الكلال‏.‏ولما نجا إلى قلعة سنان تحدث به الناس وشاع خبر منجاته إليها‏.‏وكان الدعي قد أسف العرب وثقلت وطأته عليهم بما كان يسيء الملكة فيهم‏.‏فليوم دخوله شكى إليه الناس عيثهم فتقبض على ثلاثة منهم وقتلهم وصلبهم‏.‏ثم سرح شيخ الموحدين عبد الحق بن تافراكين لحسم عللهم وأوعز إليه بالإثخان فيهم فاستلى من لقي منهم‏.‏ثم تقبض على مشايخ بني علاق وأودع سجونه منهم نيفاً على ثمانين فساء أثره فيهم وتطلبوا أعياص البيت وتسامعوا بخبر الأمير أبي حفص بمكانه من قلعة سنان فدخلوا إليه وأتوه بيعتهم في ربيع سنة ثلاث وثمانين‏.‏وجمعوا له شيئاً من الآلة والأخبية وقام بأمره أبو الليل بن أحمد أميرهم‏.‏وبلغ الخبر إلى الدعي فداخلته الظنة في أهل دولته‏.‏وتقبض على أبي عمران بن ياسين شيخ دولته وعلى أبي الحسن بن ياسين وابن وانودين وعلى الحسين بن عبد الرحمن يعسوب زناتة فامتحنهم واستصفى أموالهم‏.‏ثم قتلهم آخراً وتوجع لهم الناس واضطرب أمر الدعي إلى أن كان ما نذكره‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:32 AM

الخبر عن خروج الدعي ورجوعه واستيلاء السلطان أبي حفص على ملكه وغلبه ومهلكه
لما ظهر السلطان أبو حفص وبايعه العرب تسامع أهل الحضرة واجتمع إليه الناس وأوقع الدعي بأهل الدولة فمقتوه‏.‏وخرج من تونس يريد قتاله فأرجف به أهل معسكره ورجع منهزماً‏.‏ودخلت البلاد في طاعة السلطان أبي حفص ونهض إلى تونس فنزل بسحوم قريباً منها‏.‏وعسكر الدعي بظاهر البلد تجاهه وطالت بينهما الحرب أياماً والناس في كل يوم يستوضحون خبء الدعي ومكره إلى أن تبرأوا منه وأسلموه ودخل من مكان معسكره ولاذ بالاختفاء‏.‏ودخل السلطان البلد في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين واستولى على سرير ملكه وطهره من دنس فاضحه ودعيه واختفى الدعي بتونس وغاص في لجة ساكنها وأحاط به البحث فعثر عليه لليال من مدخل السلطان بدول بعض السوقة يعرف بأبي القاسم القرمادي فهدمت لحينها‏.‏وتل إلى السلطان فأحضر له الملأ ووبخه وساءله فاعترف بادعائه في بيتهم فأمر بامتحانه وقتله وذهب في غير سبيل مرحمة وطيف بشلوه ونصب رأسه‏.‏وكان عبد الله بن يغمور المباشر لقتله وكان خبره من المثلات‏.‏واستبد السلطان بملكه وتلقب المستنصر بالله‏.‏وبرز الناس إلى الدخول في طاعته‏.‏وبعث أهل القاصية بيعتهم من طرابلس وتلمسان وما بينهما‏.‏وعقد للشيخ أبي عبد الله الفازازي على عسكره وعلى الحروب والضاحية وأقطع البلاد والمغارم للعرب رعياً لذمة قيامهم بأمره ولم يكن لهم قبلها إقطاع‏.‏وكان الخلفاء قبله يتحامون عن ذلك ولا


الخبر عن استيلاء العدو على جزيرة جربة وميورقة ومنازلته المهدية وأجلابه على السواحل
كان من أعظم الحوادث في أيام هذا السلطان تكالب العدو على الجزر البحرية فاستولت أساطيلهم على جزيرة جربة في رجب من سنة ثلاث وثمانين ورياستها يومئذ من محمد بن سمون شيخ الوهبية ويخلف بن أمغار شيخ النكارة وهما فرقتا الخوارج‏.‏وزحف إليها المراكيا صاحب صقلية نائباً عن الفدريك بن الريداكون ملك برشلونة في أساطيله البحرية وكانوا فيما قيل سبعين أسطولا من غربان وشواني وضايقهم مراراً‏.‏ثم تغلبوا عليها فانتهبوا أموالها واحتملوا أهلها أسرى وسبياً يقال أنهم بلغوا ثمانية آلاف بعد أن رموا بالرضع في الجبوب فكانت هذه الواقعة من أشجى الوقائع للمسلمين‏.‏ثم بنوا بساحلها حصناً واعتمروه وشحنوه حامية وسلاحاً‏.‏وفرض عليهم المغرم مائة ألف دينار في السنة وأقاموا على ذلك‏.‏وهلك المراكيا على رأس المائة وبقيت الجزيرة في ملكة النصارى إلى أن أعادها الله في أواخر الأربعين والسبعمائة كما نذكر‏.‏وفي سنة خمس وثمانين ظفر العدو بجزيرة ميورقة ركب إليها طاغية برشلونة في أساطيله في عشرين ألفاً من الرجال المقاتلة ومروا بميورقة كأنهم سفر من التجار وطلبوا من أبي عمر بن حكم رئيسها النزول للاستقاء فأذن لهم‏.‏فلما تساحلوا آذنوا أهلها بالحرب فتزاحفوا ثلاثاً يثخن فيهم المسلمون في كلها قتلا وجراحة بما يناهزوا الآلاف والطاغية في بطارقته قاعد عن الزحف فلما كان في اليوم الثالث واستولت الهزيمة على قومه زحف الطاغية في العسكر فانهزم المسلمون ولحق إلى قلعتهم فانحصروا بها وعقدوا لابن حكم ذمة في أهله وحاشيته فخرجوا إلى سبتة ونزل الباقون على حكم العدو فأجارتهم إلى جارتها منورقة واستولى على ما فيها من الذخيرة والعدد والأمر بيد الله‏.‏وفي سنة ست وثمانين بعدها غدر النصارى بمرسى الخرز فاقتحموها بعد أن ثلموا أسوارها واكتسحوا ما فيها واحتملوا أهلها أسرى وأضرموا بيوتها ناراً‏.‏ثم مروا بمرسى تونس وانصرفوا إلى بلادهم وفيها أو في سنة تسع بعدها نازل أسطول العدو مدينة المهدية وكان فيهم الفرسان لقتالها فزحفوا إليها ثلاثاً ظفر بهم المسلمون في كلها‏.‏ثم جاء مدد أهل الأجم فانهزم العدو حتى اقتحموا عليهم الأسطول وانقلبوا خائبين وتمت النعمة‏.‏


الخبر عن استيلاء الأمير أبي زكرياء على الثغر العربي بجاية والجزائر وقسطنطينة
وأولية ذلك ومصائره
كان للأمير أبي زكرياء ابن السلطان أبي إسحاق من الترشيح للأمر بهديه وشرف همته وحسن ملكته ومخالطته أهل العلم ما شهد له بمغبة حاله وهو الذي اختط المدرسة للعلم بإزاء دار الأقوري حيث كان سكناه بتونس‏.‏ولما لحق بتلمسان بعد منجاته من مهلك أبيه ببجاية نزل على صهره عثمان بن يغمراسن بتلمسان وجاء في أثره أبو الحسين بن أبي بكر بن سيد الناس صنيعة أبيه وأخيه بعد أن خلص مع السلطان أبي حفص من الواقعة إلى مرماجنة‏.‏فلما بايع له العرب وبدت مخائل الملك رأى أبو الحسين إيثار السلطان للفازازي عليهم فنكب عنه ولحق بالأمير أبي زكرياء بتلمسان واستحثه لطلب ملكه‏.‏واستقرض من تجار بجاية هنالك مالا أنفقه في إقامة أبهة الملك له وجمع الرجال واصطنع الأولياء‏.‏وفشا


الخبر بما يرومه من ذلك فصده عثمان بن يغمراسن عنه
لما كان تقلد من طاعة السلطان أبي حفص على سننهم مع الخلفاء بالحضرة قبله فاعتزم الأمير أبو زكرياء على شأنه وخرج من تلمسان مورياً بالصيد الذي كان ينتحله أيام مقامه بينهم ولحق بداود بن هلال بن عطاف أمير بني يعقوب وكافة بني عامر من زغبة وأوعز عثمان بن يغمراسن إلى داود برده إليه فأبى من إخفار ذفته وارتحل معه بقومه إلى آخر بلاد زغبة ونزلوا على عطية بن سليمان بن سباع من رؤساء الدواودة فتلقاه بالطاعة وارتحلوا جميعاً إلى ضواحي قسطنطينة فدخل العرب وسدويكش في طاعته‏.‏ونزل البلد سنة ثلاث وثمانين وعاملها يومئذ ابن يوقيان من مشيخة الموحدين وكان صاحب الجباية بها أبو الحسن بن طفيل‏.‏كان له من العامل فداخل الأمير أبا زكرياء في شأن البلد وشرط لنفسه وصهره فأمضى السلطان شرطهم وأمكنوه من البلد‏.‏وأقاموا بها دعوته وارتحل إلى بجاية وكانت قد حدث فيها اضطراب بين أهلها أدى إلى الخلاف والتباين‏.‏واستحثوا الأمير أبا زكرياء فأغذ السير إليهم ودخلها سنة أربع وثمانين‏.‏ويقال إن ملكه لبجاية كان سابقاً على ملكه لقسطنطينة وهو الأصح فيما سمعناه من شيوخنا‏.‏وبعث إليه أهل الجزائر وتدلس بطاعتهم فاستولى على هذه الثغور العربية وتلقب المنتخب لإحياء دين الله‏.‏وأغفل ذكر أمير المؤمنين أدباً مع عمه الخليفة بالحضرة حيث ملأ الموحدين أهل الحل والعقد من الجماعة‏.‏ونصب للحجابة أبا الحسين بن سيد الناس فقام بها ورشح ملكه وملك بنيه بهذه الناحية الغربية وانقسمت به الدولة إلى أن خلص الأمر للملوك من عقبه واستولوا على الحضرة كما نذكر‏.‏


الخبر عن حركة الأمير أبي زكرياء إلى ناحية طرابلس ومنازلة عثمان في يغمراسن بجاية في مغيبه
لما استولى الأمير أبو زكرياء على الناحية الغربية واقتطعها من أعمال الحضرة اعتمل في الحركة على تونس فنهض إليها في سنة خمسة وثمانين‏.‏ووفد عليه عبد الله بن رحاب بن محمود من مشيخة دباب ومانعه الفازازي عن أحواز تونس فنازل قابس وحاصرها وكان له في قتالها أثر واستوت الهزيمة على مقاتلها ذات يوم فأثخن فيهم قتلاً وأسراً وهدم ربضها وأحرق المنازل في غابتها والنخل‏.‏وارتحل إلى مسراته وانتهى إلى الأبيض وأطاعه الجواري والمحاميد وآل سالم وعرب برقة وبلغه بمكانه من مسراته أن عثمان بن يغمراسن أسف إلى منازلة بجاية وكان من خبره أن الأمير أبا زكرياء لما فصل من تلمسان لطلب ملكه على كره منه وامتنع جاره داود بن عطاف من رده امتلأ له عداوة وانحرافاً وجدد البيعة لصاحب تونس وأوفد بها على ابن محمد الخراساني من صنائعه‏.‏وكان له أثناء ذلك ظهور على بني توجين ومغراوة بالمغرب الأوسط وضاق ذرع أهل الحضرة بمكان الأمير أبي زكرياء من مطالبتهم وتدويخه لقاصيتهم فدخلوا عثمان بن يغمراسن في منازلة معقله ثغر بجاية ليردوه إلى عقبه عنهم فزحف إلى بجاية سنة ست وثمانين ونازلها أياماً وامتنع عليه سائر ضواحيها ولم يظفر بأكثر من الاطلال عليها‏.‏وانكفأ الأمير أبو زكرياء راجعاً إلى بجاية سنة ست وثمانين إلى أن كان من أمره ما نذكر‏.‏


الخبر عن فاتحة استبداد أهل الجريد
كان في بعض الأيام بين سدادة وكنومة من عمل تقيوس فتنة قتل فيها ابن لشيخ سدادة وأقسم ليثأرن فيه بشيخ كنومة نفسه وكان عامل توزر محمد بن يحيى بن أبي بكر التينمللي من مشيخة الموحدين فتذم شيخ كنومة به وبذل له مالاً على نصره من عدوه فكاتب الحضرة وأعلن بخلاف أهل سدادة واحتشد لهم أهل نفطة وتقيوس وخرج هو في حشد أهل توزر غزاهم في بلدهم ولاذ بإعطاء الرهن وبذل المال فلم يقبل فأمدهم أهل نفزاوة وزحفوا إليه فانهزمت جموعه وأثخنوا فيهم قتلاً وأسراً إلى توزر وذلك سنة ست وثمانين‏.‏ثم عاود غزوهم عقب ذلك فبلخوا عليه ثم عقد لهم سلماً على الوفاء بمغارمهم واشترطوا أن لا حكم عليهم في سواهم وأن رؤساء نفزاوة منهم فأمضى شرطهم وكانت أول استبداد الجريد كما نذكر‏.‏


الخبر عن خروج عثمان ابن السلطان أبي دبوس داعياً لنفسه بجهات طرابلس
كان أبو دبوس آخر خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش لما قتل سنة ثمان وستين وستمائة وافترق بنوه وتقلبوا في الأرض لحق منهم عثمان بشرق الأندلس‏.‏ونزل على طاغية برشلونة فأحسن تكريمه ووجد هنالك أعقاب عمه السيد أبي زيد المتنصر أخي أبي دبوس في مثواهم من إيالة العدو‏.‏وكان لهم هنالك مكان وجاه لنزوع أبيهم السيد أبي زيد عن دينه إلى دينهم فاستبلغوا في مساهمة قريبهم هذا الوافد وخطبوا له من الطاغية حظاً‏.‏ووافق ذلك حصول مرغم بن صابر بن عسكر شيخ الجوالي من بني دباب في قبضة أسره وكان قد أسره العدى من أهل صقلية بنواحي طرابلس سنة اثنتين وثمانين وباعوه من أهل برشلونه فاشتراه الطاغية وأقام عنده أسيراً إلى أن نزع إليه عثمان بن أبي دبوس هذا كما ذكرناه‏.‏وشمر لطلب حقه في الدعوة الموحدية حيث كانت‏.‏وأمل الظفر في القاصيه لبعدها عن الحامية فعبر البحر إلى طرابلس وكان من حظوظ كرامته عند الطاغية أن أطلق له مرغم بن صابر وعقد له حلفاً معه على مظاهرته وجهز لهما الأساطيل وشحنها بالمدد من المقاتلة والأقوات على مال شرطوه له فنزلوا على طرابلس سنة ثمان وثمانين وأحتشد مرغم قومه وحملهم على طاعة ابن أبي دبوس ونازلوا البلد معه ومع جنده من النصرانية فحاصروها ثلاثاً وساء أثرهم فيها‏.‏ثم دخل النصارى بأسطولهم وأرسوا بأقرب السواحل إلى البلد وتنقل ابن أبي دبوس ومرغم في نواحي طرابلس بعد أن أنزلوا عليها عسكراً للحصار فاستوفوا من جباية المغارم والوضائع مالاً دفعوه للنصارى في شرطهم وانقلبوا بأسطولهم‏.‏وأقام ابن أبي دبوس يتقلب مع العرب‏.‏واستدعاه ابن مكي من بعد ذلك لأنه يشبه به في استبداده فلم يتم أمره إلى أن هلك بجربة والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏


الخبر عن مهلك أبي الحسين بن سيد الناس صاحب بجاية
وولاية ابن أبي جبي مكانه قد قدمنا سلف هذا الرجل وأوليته وأنه لحق بالأمير أبي زكريا بتلمسان وأبلى في خدمته فلما استولى الأمير أبو زكريا على الثغر الغربي واقتطعه عن أعمال الحضرة ة ونزل بجاية وضاهى بها تونس عقد لأبي الحسين بن سيد الناس على حجابته وفوض إليه بابه وأجراه في رياسته على سنن ابن أبي الحسين الرئيس قبله في دولة المستنصر الذين كانوا يتلقنون طرقه وينزعون إلى مراميه بل كانت رياسة هذا في حجابته أبلغ من رياسة ابن أبي الحسين لخلاء جو الدولة ببجاية من مشيخة الموحدين الذين يزاحمونه كما كان ابن أبي الحسين مزاحماً بهم فاستولى أبو الحسين بن سيد الناس على الدولة ببجاية وقام بأمر مخدومه أحسن قيام وصار إلى الحل والعقد وانصرفت إليه الوجوه وتمكن في يده الزمام إلى أن هلك سنة تسعين أعظم ما كان رياسة وأقرب من صاحبه مكاناً وسراً فأقام الأمير أبو زكريا مكانه كاتبه أبا القاسم ابن أبي جبى لا أدري من أوليته أكثر من أنه من جالية الأندلس ورد على الدولة وتصرف في أعمالها واتصل بأبي الحسين بن سيد الناس فاستكتبه ثم رقاه وخلطه بنفسه وأجره رسنه وتناول زمام الدولة من يد ابن سيد الناس فقادها في يد مطهر خدمته حتى عنت إليه الوجوه وأمله الخاصة واضطلع السلطان على اضطلاعه وكفايته في أمور مخدومه وهلك أبو الحسين بن سيد الناس فرشحه السلطان بخطته فقام بها سائر أيام ابنه الأمير أبي البقاء حتى كان من أمره ما نذكره بعد‏.‏


الخبر عن خروج الزاب عن طاعة الأمير أبي حفص إلى طاعة الأمير أبي زكريا صاحب بجاية وانتظام بسكرة في عمله
وكان السلطان أبو إسحاق قد عقد على الزاب لفضل بن علي بن مزني من مشيخة بسكرة كما قدمناه فقام بأمره‏.‏ولما هلك السلطان عدا عليه بعض أفاريق العرب الموطنين قرى الزاب بمداخلة قوم من أعدائه وقتلوه سنة ثلاث وثمانين كما نذكره‏.‏وأملوا الاستبداد بالبلد فدفعهم عنها المشيخة من بني رمان واستقلوا بأمر بلدهم وبايعوا للأمير أبي حفص صاحب الحضرة ودانوا بطاعته على السنن‏.‏وتوقعوا عادية منصور بن فضل بن مزني‏.‏وكان لحق بالحضرة عند مهلك أبيه فخاطبوا فيه السلطان أبا حفص ورموه بالدواهي فأمر باعتقاله وأودع السجن سبع سنين إلى أن فر منه ولحق بكرفة من أحياء هلال بن عامر وهم العرب المتولون أمر جبل أوراس‏.‏ونزل على الشبه من أفاريقهم فأركبوه وكسبوه ولحق ببجاية سنة اثنتين وتسعين فنزل بباب السلطان‏.‏ورغبه في ملك الزاب وصانع الحاجب ابن أبي جبى بأنواع التحف وضمن له تحويل الدعوة بالزاب لسلطانه الأمير أبي زكريا وتسريب جبايته إليه فاستماله بذلك وعقد له على الزاب وأمده بالعسكر ونازل بسكرة فامتنعت عليه‏.‏ورأى مشيختها بنو رمان بعدهم عن صريخ تونس وإلحاح عدوهم منصور بن فضل عليهم فأعلنوا بطاعة الأمير أبي زكريا وبعثوا إليه بيعتهم ووفدهم ورفع عادية ابن مزني عنهم فرجعهم بما أملوه من القبول وأن تكون أحكامهم إلى قائد عسكره‏.‏ونظر ابن مزني مصروفاً إلى الجباية فقط‏.‏ولما وصل الوفد إلى بسكرة خرجوا إلى القائد ومنصور بن مزني فأدخلوهما البلد ودانوا بالطاعة وتصرفت الأمور على ذلك إلى أن كان من أمر منصور بن مزني ما نذكره في أخباره ولم يزل الزاب في دعوة الأمير أبي زكريا وبنيه إلى أن استولى على الحضرة وبعده لهذا العهد كما تراه في الأخبار بعد إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن مهلك أبي عبد الله الفازازي شيخ الموحدين والحاجب أبي القاسم ابن الشيخ رؤساء الدولة بالحضرة
كان أبو عبد الله الفازازي من مشيخة الموحدين وكان خالصة للسلطان أبي حفص وعقد له على العساكر كما قدمناه ودفعه إلى الحروب وتمهيد النواحي فقام في ذلك المقام المحمود ودوخ الجهات واستنزل الثوار ودفعهم وجبى الخراج وكانت له في ذلك آثار مذكورة وفي بلاد الجريد ومشيختها تصاريف وأحوال‏.‏وهو الذي امتحن أحمد بن يملول بسعاية المشيخة من أهل توزر وكبح عنانه عن مراميه إلى الرياسة عليهم وهلك آخر حركاته إلى بلاد الجريد على مرحلتين من تونس سنة ثلاث وتسعين‏.‏ولسنة منها كان مهلك الحاجب أبي القاسم ابن الشيخ وكان من خبر أوليته أنه قدم من بلده دانية إلى بجاية سنة ست وعشرين واتصل بعاملها محمد بن ياسين فاستكتبه وغلب عليه‏.‏واستدعى ابن ياسين إلى الحضرة وابن الشيخ في جملته والتمس السلطان من يرشحه لكتابته ويخف عليه فأطنب ابن ياسين في وصف كاتبه أبي القاسم بن الشيخ وحلاه وابتلاه السلطان فلم يرضه وصرفه ثم راجع رأيه فيه واستحسنه ورسمه في خدمته‏.‏وأمر ابن أبي الحسين بتلقينه الآداب وتصريفه في وجوه الخدمة ومذاهبها فكان له ذلك غناء وخفة على مخدومه إلى أن هلك ابن أبي الحسين‏.‏وكان الخرج بدار السلطان موقوفاً على نظره من جملة ما إليه‏.‏وكان قلمه عاملاً فيه فأفرد ابن الشيخ بذلك بعد مهلكه إلى آخر أيام السلطان المستنصر‏.‏ولما ولي الواثق استبد ابن الحببر عليه كما قلناه فأبقاه على خطته واختصه لنفسه ودرجه في جملته‏.‏ثم جاءت دولة السلطان أبي إسحاق فأقامه في رسمه وزاحمه بأبي بكر بن خلدون صاحب أشغاله‏.‏وكان الرياسة الكبرى على عهده لبنيه أبي فارس ثم أبي زكريا وأبي محمد عبد الواحد من بعده‏.‏ثم كانت مضلة الدعي واستولى على ملكهم فاستخلص أبا القاسم ابن الشيخ واستضاف له إلى خطة التنفيذ كتاب العلامة في فواتح السجلات‏.‏فلما ارتجع السلطان أبو حفص ملكه وقتل الدعي خافه ابن الشيخ لما كان من رتبته عند الدعي فلاذ بالصلحاء لإثارة من الخير والعبادة وصلت بينهم وبينه فشفعوا له وتقبلها السلطان وأظهر لهم ذات نفسه في الحاجة إلى استعماله وقلده حجابته مجموعة إلى تنفيذ الخرج وصرف العلامة إلى غير ذلك من طبقة الدولة فلم يزل على ذلك إلى أن هلك سنة أربع وتسعين‏.‏وبقي اسم الحجابة من بعده في هذه الخطط الثلاث وأمر التدبير والحرب ورياستهما راجع إلى مشيخة الموحدين إلى أن تصرفت الأحوال وأديل بعضها من بعض كما يأتيك أثناء الأخبار وقلد السلطان من بعد ابن الشيخ حجابته لأبي عبد الله التحتي من طبقة الجند فقام بها إلى آخر الدولة والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏


الخبر عن مهلك السلطان أبي حفص وعهده بالأمر من بعده
لم يزل السلطان أبو حفص على أكمل حالات الظهور والدعة إلى أن استوفى مدته وأصابه وجعه أول في الحجة من سنة أربع وتسعين‏.‏ثم اشتد به الوجع وأهمه أمر المسلمين وما قلدوه من عدتهم فعهد لابنه عبد الله بالخلافة ثاني أيام التشريق‏.‏ونكره الموحدون لتخلفه عن المراتب بصغره وأنه لم يغتلم وتحدثوا في ذلك‏.‏وأفضى


الخبر إلى السلطان فأسخطه وعدل عنهم إلى الشورى
مع الولي أبي محمد المرجاني وكان فيه جميلاً وظنه به صالحاً‏.‏وكان الواثق بن المستنصر لما قتل هو وبنوه بمحبسهم فرت إحدى جواريه وقد اشتملت على حمل منه إلى رباط هذا الولي فوضعته في بيته فسماه الشيخ محمداً وعق عليه وأطعم الفقراء يومئذ عصيدة الحنطة فلقب بأبي عصيدة آخر الدهر‏.‏ثم صار بعد الاختفاء ودواعيه إلى قصورهم ونشأ في ظل الخلفاء من قومه حتى شب وبقيت له مع الولي أبي محمد ذم يثابر كل منهما على الوفاء بها فلما فاوضه السلطان أبو حفص في شأن العهد وقص عليه نكير الموحدين لولده أشار عليه الشيخ بصرف العهد إلى محمد بن الواثق فتقبل إشارته وعلم ترشيحه وأنفذ بذلك عهده بمحضر الملأ ومشيخة الموحدين وهلك آخر ذي الحجة سنة أربع وتسعين وإلى الله المصير‏.‏


الخبر عن بيعة السلطان أبي عصيدة وما كان أثرها من الأحوال
لما هلك السلطان أبو حفص اجتمع الملأ من الموحدين والأولياء والجند والكافة إلى القصبة فبايعوا بيعة عامة لولي عهده السلطان أبي عبد الله محمد ويلقب كما ذكرناه بأبي عصيدة بن السلطان الواثق في الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة أربع وتسعين فانشرحت لبيعته الصدور ورضيته الكافة وتلقب المستنصر بالله‏.‏وافتتح أمره بقتل عبد الله ابن السلطان أبي حفص لمكان ترشيحه وقلد وزارته محمد بن بريرزيكن من مشيخة الموحدين وأبقى محمد الشخشي على خطة الحجابة وصرف التدبير والعساكر ورياسة الموحدين إلى أبي يحيى زكرياء بن أحمد بن محمد اللحياني قتيل السلطان المستنصر عند تعرض ابنه للبيعة واستنامة الخلافة فقام بما دفع إليه من ذلك‏.‏وضايقه فيه عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين قبله حتى إذا نكب وهلك استبد هو على الدولة واستقل الشخشى بحجابته‏.‏وكان محمد بن إبراهيم بن الدباغ رديفاً له فيها‏.‏وكان من خبر ابن الدباغ هذا أن إبراهيم أباه وفد على تونس في جالية إشبيلية سنة ست وأربعين فولد هو بتونس ونشأ بها وأفاد صناعة الديوان وحسبانه - وكان من المبرزين فيه - أبي الحسن وأبي الحكم ابني مجاهد وأصهر إليهما في ابنه أبي الحسن فأنكحاه ورشحاه للأمانة على ديوان الأعمال‏.‏ولما استقل أبو عبد الله الفازازي بالرياسة استكتبه وكان طياشاً مستضعفاً على الخليفة فكان كاتبه محمد بن الدباغ يروضه لأغراض الخليفة إذا دسها إليه الحاجب ابن الشيخ فيقع ذلك من الخليفة أحسن المواقع‏.‏ولما ولي السلطان أبو عصيدة وكانت له عنده سابقة رعاها وكان حاجبه الشخشي بهمة غفلاً من أدوات الكتاب فاستكتب السلطان ابن الدباغ ثم رقاه إلى كتاب علامته سنة خمس وتسعين‏.‏وكان يتصرف فيها فأصبح رديفاً للشخشي في حجابته وجرت أمور الدولة على ذلك إلى أن هلك الشخشي سنة سبع وتسعين وقلده السلطان حجابته فاستقل لها على ما قدمناه من أن التدبير والحرب مصروف إلى مشيخة الموحدين


الخبر عن نكبة عبد الحق بن سليمان وخبر بنيه من بعده
كان أبو محمد عبد الحق بن سليمان رئيس الموحدين لعهد السلطان أبي حفص وأصله من تينملل الموطنين بتبرسق مذ أول الدولة كانت له ولسلفه الرياسة عليهم وصارت إليه رياسة الموحدين كافة بالحضرة أيام هذا السلطان وكان له خالصة وشيعة وكان حريصاً على ولاية ابنه عبد الله للعهد‏.‏وكان يدافع نكير الموحدين في ذلك فأسرها له السلطان أبو عصيدة‏.‏ولما استوثق له الأمر وقتل عبد الله بمحبسه تقبض على أبي محمد بن سليمان واعتقله في صفر سنة خمس وتسعين‏.‏ولم يزل معتقلاً إلى أن قتل بمحبسه على رأس المائة السابعة وفر عند نكبته ابناه محمد وعبد الله فأما عبد الله فلحق بالأمير أبي زكريا وصار في جملته إلى أن دخل تونس مع ابنه السلطان أبي البقاء خالد‏.‏وأما محمد فأبعد المفر ولحق بالمغرب الأقصى ونزل على يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين بمعسكره من حصار تلمسان فاستبلغ في تكريمه وأقام عنده مدة‏.‏ثم عاود وطنه ونزع عن طريقه إلى النسك ولبس الصوف وصحب الصالحين وقضى فريضة الحج واستمد عمره وحسنت فيه ظنون الكافة واعتقدوا فيه وفي دعائه وكثرت غاشيته لالتماس البركة منه‏.‏وأوجب له الخلفاء إزاء ذلك تجلة أخرى وأوفدوه على ملوك زناته مرة بعد مرة في مذاهب الود وقصود الخير‏.‏وحضر في بعضها الجهاد بجبل الفتح عندما نازلته عساكر السلطان أبي الحسن ولم يزل هذا دأبه إلى أن هلك في الطاعون الجارف في منتصف المائة الثامنة‏.‏


الخبر عن مراسلة يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين ومهاداته
كان السلطان أبو عصيدة لما استفحل أمره واستوسق ملكه حدث نفسه بغزو الناحية الغربية وارتجاع ثغورها من يد الأمير أبي زكرياء وكان الأمير أبو زكرياء قد انتقض عليه أهل الجزائر بعد مهلك عامله عليها من الموحدين من بني الكمازير وانبر بها بعده محمد بن علان من مشيختها‏.‏واستفحل أمر عثمان بن يغمراسن وبني عبد الواد من ورائه وتغلبوا على توجين ومغراوة ومليكش وكان شيعة لصاحب الحضرة بما كان متمسكاً بدعوتهم ومتقبلاً مذهب أبيه في بيعتهم فقويت غرائم السلطان أبي عصيدة لذلك ونهض من الحضرة سنة خمس وتسعين‏.‏وتجاوز تخوم عمله إلى أعمال قسطنطينة وأجفلت أمامه الرعايا والقبائل وانتهى إلى ميلة ومنها كان منقلبه إلى حضرته في رمضان من سنته‏.‏ولما ضايق عمل بجاية بغزوه أعمل الأمير أبو زكرياء نظره في تسكين الناحية الغربية ليفرغ عنها إلى مدافعة السلطان صاحب الحضرة فوصل يده بعثمان بن يغمراسن وأكد معه قديم الصهر بحادث الود والمواصلة‏.‏وفي خلال ذلك زحف يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين إلى تلمسان وألقى عليها بكلكله‏.‏واستجاش عثمان بن يغمراسن بالأمير أبي زكرياء فأمده بعسكر من الموحدين لقيهم عسكر من بني مرين بناحية تدلس فهزموهم وأثخنوا فيهم قتلاً‏.‏ورجع فلهم إلى بجاية وسرح يوسف بن يعقوب عساكر بني مرين إلى بجاية وعقد عليها لأخيه أبي يحيى بعد أن كان عثمان بن سباع وفد عليها نازعاً عن صاحب بجاية إليه ومرغباً له في ملكها فأوسع له في الحباء والكرامة ما شاء وبعث معه هذا العسكر فانتهى إلى بجاية وضايقوها ثم جاوزوها إلى تاكرارت وبلا سدويكش وعاثوا في تلك الجهات ودوخوها وانقلبوا راجعين إلى سلطان يوسف بن يعقوب بمعسكره من تلمسان‏.‏وكان السلطان أبو عصيدة صاحب الحضرة لما علم بأمداد الأمير أبي زكرياء لعثمان بن يغمراسن بعث إلى يوسف بن يعقوب عدوهم وحرضه على بجاية ونواحيها وسفر بينهما في ذلك رئيس الموحدين أبو عبد الله بن أكمارير أولى سفارته‏.‏ثم سفر ثانية سنة ثلاث وسبعمائة بهدية ضخمة أغرب فيها بسرج وسيف ومهامز من الذهب مرصعة الحلى بالفاخر من حصباء الياقوت والجوهر‏.‏ووافقه في هذه السفارة الثانية وزير الدولة أبو عبد الله بن برزيكن ورجعا بهدية ضخمة من يوسف بن يعقوب كان من جملتهما ثلاثمائة من البغال‏.‏واتصلت المخاطبات والسفارات والهدايا والملاطفات‏.‏وكان يوسف ابن يعقوب يكاتب السلطان في تلك الشؤون تعريضاً ويكاتب رئيس الموحدين أبا يحيى بن اللحياني تصريحاً وترددت عساكر بني مرين إلى نواحي بجاية إلى أن هلك يوسف بن يعقوب كما يأتي في أخباره‏.‏


الخبر عن مقتل هداج وفتنة الكعوب وبيعتهم لأبي دبوس
وما كان بعد ذلك من نكبتهم كان هؤلاء الكعوب قد أثرتهم الدولة واصطنعتهم منذ قيامهم بأمر الأمير أبي حفص فاعتزوا ونموا وبطروا النعمة وكثر عيثهم وفسادهم وطال إضرارهم بالسابلة وحطمهم للجنات وانتهابهم للزرع فاضطغن لهم العامة وحقدوا عليهم سوء آثارهم‏.‏ودخل رئيسهم هداج بن عبيد سنة خمس وسبعمائة إلى البلد فخزرته العيون وهمت به العامة وحضر المسجد لصلاة الجمعة فتجنوا عليه بأنه وطئ المسجد بخفه‏.‏وقال لمن نكر عليه ذلك‏:‏ ‏"‏ إني أدخل به مجلس السلطان ‏"‏ فثاروا به عقب الصلاة وقتلوه وجروا شلوه في سكك المدينة فزاد عيثهم وأجلابهم على السلطان‏.‏واستقدم أحمد بن أبي الليل شيخ الكعوب لذلك العهد عثمان بن أبي دبوس من مكانه بنواحي طرابلس ونصبه للأمر وأجلب به على الحضرة ونازلها‏.‏وخرج إليهم الوزير أبو عبد الله بن برزيكن في العساكر فهزمهم وسار بالعساكر لتمهيد الجهات وتسكين ثائر العرب فوفد عليه أحمد بن أبي الليل ومعه سليمان بن جانع من رجالات هوارة بعد أن راجع الطاعة‏.‏وصرف ابن أبي دبوس إلى مكانه فتقبض عليهما وبعث بهما إلى الحضرة فلم يزالا معتقلين إلى أن هلك أحمد بمحبسه سنة ثمان وقام بأمر الكعوب محمد بن أبي الليل ومعه حمزة ومولاهم ابنا أخيه عمر رديفين له‏.‏ثم خرج الوزير بالعساكر ثانية سنه سبع واستوفد مولاهم ابن عمر وتقبض عليه وبعث به إلى الحضرة فاعتقل مع عمه أحمد‏.‏وجاهر أخوة حمزة بالنفاق وأتبعه عليه قومه فكثر عيثهم وأضروا بالرعايا وكثرت الشكاية من العامة ولغطوا بها في الأسواق وتصايحوا‏.‏ثم نفروا إلى باب القصبة يريدون الثورة فسد الباب دونهم فرموا بالحجارة وهم في ذلك يعتدون ما نزل بهم من الحاجب ابن الدباغ ويطلبون شفاء صدورهم بقتله‏.‏ورفع أمرهم إلى‏.‏واستلحامهم جميعاً فأبى من ذلك السلطان وأمر بملاطفتهم إلى أن سكنت هيعتهم‏.‏ثم تتبع العقاب من تولى كبر ذلك منهم وانحسم الداء وكان ذلك في رمضان من سنة ثمان‏.‏واستمر العرب في غلوائهم إلى أن هلك السلطان فكان ما يأتي ذكره‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:34 AM

الخبر عن انتقاض أهل الجزائر واستبداد ابن علان بها
قد قدمنا ما كان من انتقاض أهل الجزائر أيام المستنصر ودخول عساكر الموحدين عليهم عنوة واعتقال مشيختهم بتونس حتى أطلقوا بعد مهلكه ولما استقل الأمير أبو زكرياء الأوسط بملك الثغور الغربية من بجاية وقسطنطينة‏.‏وكان الوالي على الجزائر ابن أكمازير من مشيخة الموحدين فبادر إلى طاعته بإتفاق من مشيخة الجزائر ووفدوا عليه وكتب لابن أكمازير بولايتها فلم يزل والياً عليهم إلى أن كان شأن بني مرين وزحفهم إلى بجاية‏.‏وكان ابن أكمازير قد أسن وهرم فأدركته الوفاة خلال ذلك‏.‏وكان ابن علان من مشيخة الجزائر مختصاً به ومتصرفاً في أوامره ونواهيه ومصدراً لأمارته‏.‏حصلت له بذلك الرياسة على أهل الجزائر سائر أيامه‏.‏ويقال كان له معه صهر‏.‏فلما هلك ابن أكمازير حدثته نفسه بالاستبداد والانتزاء‏.‏بالجزائر فبعث عن أهل الشوكة من نظرائه ليلة هلاك أميره وضرب أعناقهم وأصبح منادياً بالاستبداد‏.‏وشغل الأمير أبو زكرياء عنه بما كان من منازلة بني مريق ببجاية إلى أن هلك وبقيت في انتقاضها على الموحدين آخر الدهر إلى أن تملكها بنو عبد الواد كما نذكره‏.‏


الخبر عن مهلك الأمير أبي زكرياء صاحب بجاية وبيعة ابنه أبي البقاء خالد
كان الأمير أبو زكرياء قد استولى على الثغور الغربية كما قلناه واقتطعها من أعمال الحضرة وقسم الدعوة الحفصية بدولتين‏.‏وكان على غاية من الحزم والتيقظ والصرامة لم يبلغها سواه‏.‏وكان كثير الإشراف على وطنه والمباشرة لأعماله بنفسه وسد خلله‏.‏ولم يزل على ذلك إلى أن هلك على رأس المائة السابعة‏.‏وكان قد عهد بالأمر لابنه الأمير أبي البقاء خالد سنة ثمان وتسعين قبلها وعهد له على قسطنطينة وأنزله بها‏.‏فلما هلك الأمير أبو زكرياء جمع الحاجب أبو القاسم بن أبي أبي جبى مشيخة الموحدين وطبقات الجند وأخذ بيعتهم للأمير أبي البقاء وطير له بالخبر واستقدمه فقدم وبويع البيعة العامة‏.‏وأبقى ابن أبي جبى على حجابته واستوزر يحيى بن أبي الأعلام وقدم على صنهاجة أبا عبد الرحمن يعقوب بن خلوف منهم وتسمى المزوار‏.‏وقلد رياسة الموحدين أبا زكرياء يحيى بن زكرياء من أهل البيت الحفصي واستمر


الخبر عن سفارة القاضي الغبريني ومقتله
قد قدمناه ما كان من زحف بني مرين إلى بجاية بمداخلة صاحب تونس‏.‏ولما ولي السلطان أبو البقاء اعتزم على المواصلة مع صاحب تونس قطعاً للزبون عنه وعيي للسفارة في ذلك شيخ القرابة يبابة أبا زكرياء الحفصي ليحكم شأن المواصلة بينه وبينه وبعث مع القاضي أبا العباس الغبريني كبير بجاية وصاحب شوراها فأدوا رسالتهم وانقلبوا إلى بجاية ووجد بطانة السلطان السبيل في الغبريني فأغروه به وأشاعوا أنه داخل صاحب الحضرة في التوثب بالسلطان‏.‏وتولى كبر ذلك ظافر الكبير وذكره بجرائره وما كان منه في شأن السلطان أبي إسحاق وأنه الذي أغرى بني غبرين به فاستوحش منه السلطان وتقبض عليه سنة أربع وسبعمائة‏.‏ثم أغروه بقتله فقتل بمحبسه تلك وتولى قتله منصور الترك والله غالب على أمره‏.‏


الخبر عن سفارة الحاجب ابن ابني جبى إلى تونس
وتنكرالسلطان له بعدها وعزله ولما ولي السلطان أبو البقاء كانت عساكره بني مرين مترددة إلى أعمال بجاية بمداخلة صاحب تونس كما ذكرناه فدوخوا نواحيها‏.‏وكان ابن أبي جبى مستبداً على الدولة في حجابته فضاق ذرعه بشأنهم وأهمته حال الدولة معهم‏.‏ورأى أن اتصال اليد بصاحب الحضرة مما يكف عن غربهم فعزم على مباشرة ذلك بنفسه لوثوقه من سلطانه‏.‏فخرج من بجاية سنة خمس وسبعمائة وقدم على الحضرة رسولا عن سلطانه فاهتزت له الدولة وتلقي بما يجب له ولمرسله من البر وأنزله شيخ الموحدين ومدبر الدولة أبو يحيى زكرياء بن اللحياني بداره استبلاغاً في تكريمه‏.‏وقضى من أمر تلك الرسالة حاجة صدره وكان بطانة الأمير أبي البقاء خالد لما خلا لهم وجه سلطانهم منه تهافتوا على التنصح إليه والسعاية بابن أبي جبى عنده‏.‏وشمر لذلك يعقوب بن غمر وجلى فيه وتابعه عليه عبد الله الرخامي كاتب ابن أبي جبى وصديقه بما كان ابن طفيل قريبه يسخط عليه الناس ويوغر له صدورهم ببأوه وتحقيره بهم فألح له العداوة في كل جانحة وأسخطه على عبد الله الرخامي‏.‏وكان صديقه ومداخله فتولى من السعاية فيه مع يعقوب بن غمر كبرها وألقوا إلى السلطان أن ابن أبي جبى داخل صاحب الحضرة في تمكينه من ثغر قسطنطينة وبجاية بما كان علي بن الأمين العامل بقسطنطينة صهراً لابن أبي جبى وهو الذي ولاه عليها فاستراب السلطان به ونكر له بعد عوده من تونس‏.‏وخشي كل واحد منهما بادرة صاحبه‏.‏ثم رغب ابن أبي جبى في قضاء فرضه وتخلية سبيله إليه فأسف وخرج من بجاية ذاهباً إلى الحج ولحق بالقبائل من ضواحي قسطنطينة وبجاية فنزل عليهم وأقام بينهم مدة‏.‏ثم لحق بتونس وأقام بها إلى حين مهلك السلطان أبي عصيدة وبيعة أبي بكر الشهيد وحضر دخول الأمر أبي البقاء عليه بتونس وخلص من تيار تلك الصدمة فلحق بالمشرق وقضى فرضه‏.‏ثم عاد إلى المغرب ومر بإفريقية ولحق بتلمسان وأغرى أبا حمو بالحركة


الخبر عن حجابة أبي عبد الرحمن بن غمر ومصائر أموره
هو يعقوب بن أبي بكر بن محمد بن غمر السلمي وكنيته أبو عبد الرحمن‏.‏كان جده محمد فيما حدثني أهل بيتهم قاضياً بشاطبة وخرج مع الجالية أيام العدو إلى تونس ونزل بالربض الجوفي أيام السلطان أبي عصيدة وانتقل أبناؤه أبو بكر ومحمد إلى قسطنطينية ونزلا على ابن أوقيان العامل عليها من مشيخة الموحدين لعهد الأمير أبي زكرياء الأوسط فأوسعهما عناية وتكرمة‏.‏وولى أبا بكر على الديوان بالقل واستخلصه لنفسه‏.‏وكان يتردد إلى الحضرة ببجاية في شؤونه فاتصل بمرجان الخصي من موالي الأمير أبي زكرياء وخواص داره واستخدم على يده للأمير خالد وأمه من كرائم السلطان فحظي عندهم وتزوج ابنه يعقوب من ربيبات القصر وخوله ونشأ في جو تلك العناية‏.‏وأعلنوا بصحبة الحاج فضل قهرمان دار السلطان وخاصته فاستخدم له سائر أيامه إلى أن هلك‏.‏وكان الحاج فضل كثيراً ما يتردد إلى الأندلس لاستجلاب الثياب الحريرية من هنالك وانتقاء أصنافها‏.‏وكذلك إلى تونس لاستجادة الثياب منها‏.‏وبعثه السلطان آخر أمره إلى الأندلس فاستصحب ابن غمر وهلك الحاج فضل هنالك فعدل السلطان عن خطاب ابنه محمد إلى خطاب ابن غمر فأمره بإتمام ذلك العمل والقدوم به فقدم هو وابن الحاج فضل وساء لهما عن عملهما فكان ابن غمر أوعى من صاحبه فحلي بعينه وخف عليه واعتلق بذمة من خدمته أحظته عند السلطان ورقته فاستعمل في الجباية‏.‏ثم قلد أعمال الأشغال وزاحم ابن أبي جبى وعبد الله الرخامي وغصوا به فأغروا السلطان بنكبته‏.‏وأشخصه إلى الأندلس فأقام هنالك واستعطف السلطان أبا البقاء بعد مهلك أبيه وتشفع بوسائل خدمته فاستقدمه‏.‏وقدم مع علي وحسين ابني الرنداحي ركب معهما البحر إلى بجاية في مغيب ابن أبي جبى عن الحضرة فصادف من السلطان قبولا وشمر في السعاية بابن أبي جبى مع مرجان إلى أن تم له ما أراد من ذلك‏.‏وصرف ابن أبي جبى كما ذكرناه فقلد السلطان حجابته ليعقوب بن غمر‏.‏وقدم على الأشغال عبد الله الرخامي وكان ناهضاً في أمور الحجابة لمباشرتها مع مخدومه فأصبح رديفاً لابن عمر وخص بمكانه فأغرى به السلطان ودله على مكامن ثورته وعداوته فنكب وصودر وامتحن وغرب إلى ميورقة حتى افتداه يوسف بن يعقوب سلطان بني مرين حين أسره واستقدمه ليقلده أشغاله عند تنكره لعبد الله بن أبي مدين كما نذكره في أخباره‏.‏فهلك يوسف بن يعقوب دون ما أمل من ذلك وأقام الرخامي بتلمسان وبها كان مهلكه‏.‏واستقل يعقوب بن غمر بأعباء خطته واضطلع بها وفوض إليه السلطان في الإبرام والنقض فحول المراتب بنظره وأجرى الأمور على غرضه‏.‏وكان أول ما أتاه صرعته لمرجان مصطنعه ملأ صدر السلطان عليه وحذره مغبته فتقبض عليه وألقي في البحر يلتقمه الحوت فخلا وجه السلطان لابن غمر وتفرد بالعقد والحل إلى أن استولى السلطان أبو البقاء على الحضره وكان من أمره ما نذكره‏.‏


الخبر عن ثورة ابن الأمين بقسطنطينة وبيعة السلطان أبي عصيدة
ثم فتح السلطان أبي البقاء خالد لها وقتله كان يوسف بن الأمين الهمداني بعد أن قتله بطنجة أبناء أبي يحيى بن عبد الحق من بني مرين كما يأتي في وأخبارهم انتقل بنوه إلى تونس أيام المستنصر ورعى لهم السلطان وسيلة قيامهم بالدعوة الحفصية أيام أبي علي بن خلاص بسبتة وبعدها إلى أن غلبهم عليها العزفي كما نذكر في أخباره فلقاهم مبرة وتكريماً ونزلوا في الحضرة خير نزل تحت جراية ونعمة وعناية‏.‏وكان كبيرهم متحمقاً متعاطفاً فربما لقي من الدولة لذلك عسفاً‏.‏إلا أن الإبقاء عليهم كان مانعاً من اضطهادهم‏.‏ونشأ بنوهم في ظل ذلك النعيم‏.‏ثم هلك السلطان واضطربت الأمور وضرب الدهر ضرباته ولحق علي منهم بالثغر الغربي وتأكدت له مع ابن أبي جبى لحمة ونسب وذمة صهر وشجت بينهما عروقها‏.‏فلما استقل ابن أبي جبى بحجابة الأمير أبي زكرياء لم يأل جهداً في مشاركة علي بن الأمير وترقيته المنازل إلى أن ولاه ثغر قسطنطينة مستقلا بها وحاجباً للسلطان أبي بكر ابن الأمير أبي زكرياء وأنزله معه فقام بحجابته‏.‏وأظهر فيها غناءه وحزمه حتى إذا سخط السلطان ابن أبي جبى وصرفه عن حجابته تنكر أبو الحسن بن الأمين وخشي بوادر السلطان فحول الدعوة إلى صاحب الحضرة وطير إليه بالبيعة واستدعى المدد والنائب فوصله رئيس الموحدين والدولة أبو يحيى زكرياء بن أحمد بن محمد اللحياني وعقد البيعة لسلطانه سنة أربع وسبعمائة‏.‏وبلغ الخبر إلى السلطان أبي البقاء ببجاية فنهض إليه بالعساكر آخر سنة أربع وسبعمائة ونازله أياماً فامتنع عليه وهم بالإفراج عنه‏.‏ثم داخل رجل من بطانة ابن الأمين يعرف بابن موزة أبا الحسن بن عثمان من مشيخة الموحدين وكان معسكره بباب الوادي فناجزهم الحرب من هنالك حتى انتهى إلى السور فتسنمه المقاتلة بإغضاء ابن موزة لهم عنه‏.‏وركب السلطان في العساكر عند الصدمة ووقف على باب البلد وقد استمكن أولياؤه منه فخرج إليه بنو الغنفل وبنو باديس ومشيخة البلد فاقتحم البلد عنوة‏.‏ومضى أبو محمد الرخامي في رجال السلطان إلى دار ابن الأمين فغشيه بها وقد انفض عنه الناس واستحصن بغرفة من غرف داره واستمات فلاطفه الرخامي واستنزله‏.‏ثم حمله على برذون مستدبراً وأحضره بين يدي السلطان فقتل ونصب شلوه وأصح آية للمعتبرين‏.‏


الخبر عن حركة السلطان أبي البقاء إلى الجزائر
قد قدمنا ما كان من خبر انتقاض الجزائر على الأمير أبي زكرياء واستبداد ابن علان بها‏.‏فلما استولى السلطان أبو البقاء على الأمر وتمهدت له الأحوال وأقلع بنو مرين بعد مهلك يوسف بن يعقوب عن تلمسان أعمل السلطان نظره في الحركة إليها فخرج إليها سنة سبع أو ست وانتهى إلى متيجة ودخل في طاعته منصور بن محمد شيخ مليكش وجميع قومه ولجأ إليه راشد بن محمد بن ثابت بن منديل أمير مغراوة هارباً أمام بني عبد فأواه إلى ظله وألقى عليه جناح حمايته‏.‏واحتشد جميع من في تلك النواحي من القبائل‏.‏وزحف إلى الجزائر وأقام عليها أياماً فامتنعت عليه وانكفأ راجعاً إلى حضرته ببجاية وأقام مليكش على طاعته ومطاولته الجزائر بالقتال إلى أن كان من أمرها وتغلب بني عبد الواد عليها ما نذكره في أخبارهم‏.‏وجاء معه راشد بن محمد إلى بجاية متذمماً بخدمته إلى أن قتله عبد الرحمن بن خلوف كما يذكر في موضعه‏.‏


الخبر عن السلم وشروطه بين صاحب تونس وصاحب بجاية
لما افتتح السلطان أبو البقاء خالد قسطنطينة وقتل ابن الأمير وفرغ من ذلك الشأن أدرك أهل الحضرة الندم على ما استدبروا من مهادنة صاحب الثغر وقارن ذلك مهلك يوسف بن يعقوب الذي كانوا يرجونه شاغلا له فجنحوا إلى السلم وبعثوا وفدهم في ذلك إليه فأسدوا وألحموا‏.‏وشرط عليهم السلطان أبو البقاء أن من هلك منهما قبل صاحبه فالأمر من بعده للآخر والبيعة له فتقبلوا الشرط وحضر الملأ والمشيخة من الموحدين ببجاية ثم بتونس فأشهدوا بها على أنفسهم وربط ذلك العقد وأحكمت أواخيه إلى أن نقضه أهل الحضرة عند مهلك السلطان أبي عصيدة كما نذكره‏.‏


الخبر عن سفر شيخ الدولة بتونس أبي يحيي اللحياني لحصار جربة ومضيه منها إلى الحج
لما أمر هذا الصلح واستتم راجع رئيس الدولة أبو يحيى زكرياء بن اللحياني نظره لنفسه وأعمل فكره في الخلاص من أنشوطته وكان يؤمل رجوع الوفد المغربين بالمهدية من أمراء الديار المصرية إلى يوسف بن يعقوب فيصحبهم لقضاء فرضه وأبطأ عليه شأنهم فاعتزم على قصده وورى بحركته إلى جزيرة جربة لاسترجاعها من أيدي النصارى والرجوع عنها من بعد ذاك إلى الجريد لتمهيد أحواله‏.‏وتناول الرأي في الظاهر من أمره مع السلطان فأذن له‏.‏وسرح معه العساكر فخرج من تونس في جمادى سنة ست غازياً إلى جربة‏.‏ولم يزل يغذ السير حتى انتهى إلى مجازها‏.‏ثم عبر منه إلى الجزيرة وكان النصارى لما تغلبوا عليها سنة ثمان وثمانين شيدوا بها حصناً لاعتصام الحامية سموه بالقشتيل فنزل في العساكر عليه‏.‏وأنفذ الشيخ أبو يحيى عماله للجباية وأقام في منازلته شهرين‏.‏ثم انقطعت الأقوات واستعصى الحصن إلا بالمطاولة فرجع إلى قابس‏.‏ثم ارتحل إلى بلاد الجريد وانتهى إلى توزر ونزلها وأعنى في خدمته أحمد بن محمد بن وأنزله عبد الملك بن عثمان بن مكي بداره وصرح بما روى عنه من حجه‏.‏وصرف العساكر إلى الحضرة وولي بعده رياسة الموحدين وتدبير الدولة أبو يعقوب بن يزدوتن وتحول عن قابس إلى بعض جبالها تجافياً عن هوائها الوخم‏.‏وأقام في انتظار الركب الحجازي وكان مريضاً إلى أن أبل فتحول عنه إلى طرابلس وأقام بها عاماً ونصفه إلى أن وصل وفد الترك من المغرب الأقصى آخر سنة ثمان فخرج معهم حاجاً حتى قضى فرضه وعاد فكان من شأنه واستيلائه على منصب الخلافة ما يأتي ذكره‏.‏ووصل مدد النصرانية إلى قشتيل جربة سنة ثمان بعد منصرف العساكر عنهم وفيهم فردريك بن الطاغية صاحب صقلية فقاتلهم أهل الجزيرة من النكارين لنظر أبي عبد الله بن الحسن من مشيخة الموحدين ومعه ابن أومغار في قومه من أهل جربة فأظفرهم الله بهم‏.‏ولم يزل شأن هذه الجزيرة مع العدو كذلك منذ التاثت دولة صنهاجة وربما وقعت الفتنة بين أهلها من النكارة فتصل إحدى الطائفتين يدها بالنصارى إلى أن كان ارتجاعها في هذه النوبة سنة‏.‏وأربعين لعهد مولانا السلطان أبي يحيى كما نذكر في أخباره‏.‏مهلك السلطان ابي عصيدة


الخبر عن مهلك السلطان أبي عصيدة وبيعة أبي بكر الشهيد
كان السلطان أبو عصيدة بعد تملي سلطانه وتمهيد ملكه طرقه مرض الاستسقاء فأزمن منه‏.‏ثم مات على فراشه في ربيع الآخر سنة تسع ولم يخلف ابناً وكان بقصرهم سبط من أعقاب الأمير أبي زكرياء جدهم‏.‏ثم من ولد أبي بكر ابنه الذي ذكرنا وفاته في خبر شقيقه أبي حفص في فتح مليانة أيام السلطان المستنصر فلم يزل بنوه بقصورهم وفي ظل ملكهم‏.‏ونشأ منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن أبي بكر في إيالة السلطان أبي عصيدة وربي في حميم نعمته‏.‏فلما هلك السلطان أبو عصيدة ولم يعقب وكان السلطان أبو البقاء خالد قد نزع إليه حمزة بن عمر عند إياسه من خروج أخيه من محبسه فرغبه في ملك الحضرة واستحثه عليها‏.‏ثم وصل أبو علي بن كبير فنعى السلطان أبا عصيدة واستنهض السلطان أبا البقاء لملك تونس فنهض كما نذكره واستراب الموحدون بتونس بشأن حركته وخافوه على أنفسهم فبايعوا لهذا الأمير أبي زكرياء الذي عرف بالشهيد بما كان من قتله لسبع عشرة ليلة من بيعته وأبقى أبا عبد الله بن يرزيكن على وزارته وزحزح محمد بن الدباغ عن رتبة الحجابة‏.‏وتوعده لما كان يحقد عليه من التقصير به أيام سلطانه فكان عوناً عليه إلى أن هلك عند استيلاء السلطان أبي البقاء كما نذكره‏.‏


الخبر عن استيلاء السلطان أبي البقاء على الحضرة وانفراده بالدعوة الحفصية
لما بلغ السلطان أبا البقاء بمكانه من بجاية وأعمالها الخبر بمرض السلطان أبي عصيدة مع ما كان من العقد بينهما بأن من مات قبل صاحبه جمع الأمر من بعده للآخر داخلته الظنة أن ينقض أهل الحضرة هذا الشرط فاعتزم على النهوض لمشارقة الحضرة ووصل إليه حمزة بن عمر نازعاً عنهم فرغبه واستحثه وخرج من بجاية في عساكره وورى بالحركة إلى الجزائر لما كان من انتقاضهم على أبيه واستبداد ابن علان بها‏.‏ثم ارتحل إلى قصر جابر وعند بلوغه إليه ورد الخبر بمهلك السلطان أبي عصيدة وبيعة عنه وفصل من الحضرة ولحق بقسطنطينة وصرف منصور بن فضل إلى عمله بالزاب فكان من خلافه ما يذكر‏.‏وقام ابن غمر بخدمة السلطان أبي بكر فتصرف في حجابته‏.‏ثم داخله في الانتقاض على أخيه وبدت مخايل ذلك عليهم فارتاب لهم السلطان أبو البقاء وأحس علي بن غمر بارتيابه فلحق بقسطنطينة‏.‏وجهز السلطان أبو البقاء عسكراً وعقد عليها لظافر مولاه المعروف بالكبير وسرحه إلى قسطنطينة فانتهى إلى باجة وأراح بها إلى أن كان من أمره ما نذكره‏.‏وبادر ابن غمر إلى المجاهرة بالخلعان ودعا مولانا السلطان أبا بكر إليه فأجابه وأخذ له البيعة على الناس فتمت سنة إحدى عشرة وسبعمائة وتلقب بالمتوكل وعسكر بظاهر قسطنطينة إلى أن بلغه مجاهرة ابن الخلوف بخلافهم فكان ما نذكره‏.‏


الخبر عن استيلاء السلطان على بجاية وقتل ابن خلوف
وما كان من الإدارة في ذلك كان يعقوب بن الخلوف ويكنى أبا عبد الرحمن كبير صنهاجة جند السلطان الموطنين بنواحي بجاية وكان له مكان في الدولة وغناء في حروبهم ودفاع عدوهم‏.‏ولما نزلت عساكر بني مرين على بجاية مع أبي يحيى بن يعقوب بن عبد الحق سنة ثلاث وسبعمائة كان له في حروبهم مقامات مذكورة وآثار معروفة‏.‏وكان الأمير أبو زكرياء وابنه يستخلفونه ببجاية أزمان سفرهم عنها وكان يلقب بالمزوار‏.‏ولما هلك خلفه في سبيله تلك ابنه عبد الرحمن واستخلفه السلطان أبو البقاء على بجاية عندما نهض إلى تونس سنة تسع وأنزله بها وكان طموحاً لجوجاً مدلاً ببأسه وقومه ومكانه من الدولة‏.‏فلما دعا السلطان أبو بكر لنفسه وخلع طاعة أخيه وأخذ له أبو عبد الرحمن بن غمر البيعة على الناس وخاطبوه بأخذ البيعة له على من يليه ببجاية وأعمالها فأبى منها وتمسك بدعوة صاحبه ونفس على ابن غمر ما تحصل له بذلك من الحظ فجاهر بخلافهم‏.‏وجمع واحتشد وتقبض على صاحب الأشغال عبد الواحد ابن القاضي أبي العباس الغماري وعلى صاحب الليوان محمد بن يحيى القالون مصطنع الحاجب ابن غمر من أهل المرية كان أسدى إليه عند اجتيازه به معروفاً ورحل إليه عندما استولى على الرتبة ببجاية فكافأه عن معروفه واصطنعه وألقى إليه محبته ورقاه إلى الرتب وصرفه في أعمال الجباية وقلده ديوان بجاية فتقبض عبد الرحمن بن الخلوف عليه وعلى صاحبه‏.‏وجمع الناس وأعلن بالدعوة للسلطان أبي البقاء خالد‏.‏وارتحل السلطان أبو بكر من معسكره طاهر قسطنطينة وأغذ السير إلى بجاية ونزل مطلاً عليها واقتتل الناس عامة يومهم‏.‏وشرط ابن الخلوف على السلطان عزلة ابن غمر وترددت الرسل بينهم في ذلك‏.‏وكان الوزير أبو زكرياء بن أبي الأعلام من الساعين في هذا الإصلاح بما كان له من الصهر مع ابن الخلوف‏.‏وحين رجع إليه بامتناع السلطان عن شرطه منعه من الرجوع إليهم وحبسه عنده وأرجف أهل المعسكر بالسلطان وخاموا عن لقاء صنهاجة ومن معهم من مغراوة أهل الشوكة والعصبية والعديد والقوة‏.‏وأجفل السلطان من معسكره فانتهب وأخذت آلته وسلب من كان في المعسكر من أخلاط الناس ودخل السلطان إلى قسطنطينة في فل من عسكره‏.‏وبعث ابن خلوف عسكراً في أتباعه فوصلوا إلى ميلة فدخلوها عنوة‏.‏ثم وصلوا إلى قسطنطينة فقاتلوها أياماً ورجعوا إلى بجاية‏.‏وأقام السلطان واضطرب أمره وتوقع زحف ظافر إليه من باجة واتصل به أن أبا يحيى زكرياء بن أحمد اللحياني قفل من المشرق وأنه لما انتهى إلى طرابلس دعا لنفسه لما وجد بإفريقية من الاضطراب فبويع وتوافت إليه العرب من كل جهة فرأى السلطان من مذاهب الحزم أن يبعث إليه بالحاجب ابن أبي عبد الرحمن بن غمر ليشيد من سلطانه ويشغل أهل الحضرة عنه فورى بالفرار عن السلطان وتواطأ معه على المكر بابن خلوف في ذلك‏.‏ولحق ابن غمر باللحياني واستحثه لملك تونس وهون عليه الأمر وغدا السلطان عند فصول ابن غمر على منازله فكبسها وسطا بحاشيته وولى حجابته حسن بن إبراهيم بن أبي بكر بن ثابت رئيس أهل الجبل المطل على قسطنطينة والفل من كتامة ويعرف قومه ببني نليلان وكان قد اصطنعه من قبل وارتحل بالعسكر إلى بجاية سنة اثنتي عشرة‏.‏واستخلف على قسطنطينة عبد الله بن ثابت أخا الحاجب‏.‏واشيع بالجهات أن السلطان تنكر لابن عمر وسخطه وأنه ذهب إلى ابن اللحياني واستجاشه على الحضرة وبلغ ذلك ابن خلوف واستيقن اضطراب حال السلطان خالد بتونس فطمع في حجابة السلطان أبي بكر‏.‏وتوثق لنفسه منه بالعهد بمداخلة عثمان بن شبل وعثمان بن سباع بن يحيى من رجالات الدواودة والولي يعقوب الملاري من نواحي قسطنطينة‏.‏وأغذ السير إلى بجاية ولقي السلطان بفرجيوه من بلاد سدويكش فلقاه مبرة ورحباً‏.‏ثم استدعاه من جوف الليل إلى رواقه في سرب من مواليه المعلوجي فعاقرهم الخمر إلى أن ثمل واستغضبوه ببعض النزعات فغضب وأقذع فتناولوه طعناً بالخناجر إلى أن قتلوه وجروا شلوه فطرحوه بين الفساطيط وتقبض على سائر قومه وحاشيته وفر كاتبه عبد الله بن هلال فلحق بالمغرب‏.‏وارتحل السلطان مغذاً إلى بجاية فدخلها على حين غفلة‏.‏واستولى على ملك ابنه بالناحية الغربية واستوثق له أمرها وأقام في انتظار حاجبه ابن غمر إلى أن كان من الأمر ما نذكره‏.‏


الخبر عن مهلك السلطان أبي البقاء خالد واستيلاء السلطان أبي يحيى بن اللحياني على الحضرة
كان السلطان أبو البقاء خالد بعد بيعة السلطان أبي بكر بقسطنطينة قد اضطرب أحواله وجهز إليه العساكر لمنازلة قسطنطينة وعقد عليها لمولاه ظافر المعروف بالكبير فعسكر بباجة وأراح ينتظر أمر السلطان‏.‏وكان أبو يحيى زكرياء بن أحمد بن محمد اللحياني بن أبي محمد عبد الواحد ابن الشيخ أبي حفص قد بويع بطرابلس لما قفل من المشرق ورأى اضطراب الأحوال ووفد عليه الحاجب أبو عبد الرحمن بن غمر بهدية من السلطان أبي بكر وأنه ممده ومظاهره على شأنه فأحكم ذلك من عقدتة‏.‏وشد من أمره وتوافت إليه رجالات الكعوب أولاد أبي الليل وغيرهم فبايعوه واستحثوه للحضرة فارتحل إليها وبعث في مقدمته أولاد أبي الليل ومعهم شيخ دولته أبو عبد الله محمد بن محمد المزدوري فأغذوا السير إلى الحضرة‏.‏وبعث السلطان إلى مولاه ظافر بمكانه من باجة مستجيشاً فاعترضوه قبل وصوله وأوقعوا به واعتقلوا ظافراً وصبحوا تونس ثامن جمادى سنة إحدى عشرة ووقفوا بساحتها فكانت هيعة بالبلد قتل فيها شيخ الدولة أبو زكرياء الحفصي وعدا القاضي أبو إسحاق بن عبد الرفيع على السلطان‏.‏وكان متبوعاً صارماً قوي الشكيمة فأغراه بمدافعة العدو فخام عن لقائه واعتذر بالمرض وأشهد بالانخلاع عن الأمر وحل البيعة‏.‏ودخل أبو عبد الله المزدوري القصر فاستمكن ثم جاء السلطان أبو يحيى زكرياء بن اللحياني على أثره ثاني رجب فبويع العامة بظاهرها ودخل إلى البلد واستولى عليها وولى على حجابته كاتبه أبا زكرياء يحيى بن علي بن يعقوب على الأشغال بالحضرة ابن عمه محمد بن يعقوب‏.‏وبنو يعقوب هؤلاء أهل بيت بشاطبة من بيوت العلم والقضاء وقدموا إلى الحضرة مع الجالية وكان منهم أبو القاسم عبد الرحمن بن يعقوب وفد مع ابن الأمين صاحب طنجة كما قدمناه وتصرف في القضاء بإفريقية وولاه السلطان المستنصر قضاء الحضرة‏.‏وسفر عنه إلى ملوك مصر وكان بنو علي هؤلاء عبد الواحد ويحيى ومحمد من أقاربه وكان لهم ظهور في دولة السلطان أبي حفص وبعدها‏.‏وكان عبد الواحد منهم صاحب جباية الجريد وهلك بتوزر سنة اثنتين وسبعمائة‏.‏وكان السلطان أبو يحيى بن اللحياني قد استكتب أخاه أبا زكرياء يحيى أيام رياسته على الموحدين فحظي عنده واختصه ولازمه وحج معه‏.‏فلما ولي الخلافة أحظاه وولاه حجابته‏.‏ولما استقر بتونس واستوثق له الأمر أعاد الحاجب أبا عبد الرحمن بن غمر إلى مرسله السلطان أبي يحيى بعد أن وثق العهد معه على المهادنة وضمن له ابن غمر من ذلك ما رضيه وتمسك بابن عمه على ابن غمر فأقام عنده مكرماً متسع الجراية والإسهام إلى أن كان من الأمر ما نذكر‏.‏


الخبر عن قدوم ابن غمر على السلطان ببجاية ونكبة ابن ثابت وظافر الكبير
لما قدم ابن غمر على بجاية استبد بحجابته وكفالته كما كان وليوم وصوله فر عبد الله بن هلال كاتب ابن خلوف ولحق بتلمسان وشمر ابن غمر عزائمه للاضطلاع بأمره ودفع حسن بن إبراهيم بن ثابت عن الرتبة فلم يتزحزح له وخرج لجباية الوطن‏.‏ثم أغرى به السلطان وحذره من استبداده‏.‏بقسطنطينة لمكان معقله المجاور لها وسعايات تنصح بها حتى صادفت القبول لمكانه والوثوق بنصائحه‏.‏وخرج السلطان في العساكر من بجاية إلى قسطنطينة سنة ثلاث عشرة لنظر أحوالها‏.‏فلما انتهى إلى فرجيوه لقيه عبد الله بن ثابت فتقبض عليه وعلى أخيه حسن بن الحاجب سنة ثلاث عشرة وقتلهما بعد أن استصفى أموالهما ويقال إنه بعد خروج حسن بن ثابت إلى أعمال قسطنطينة بعث في أثره بعض مواليه وأوعز معهم إلى عبد الكريم بن منديل ورجالات سدويكش فقتلوه بوادي القطن‏.‏وإن السلطان لم يباشر نكبته‏.‏وكان ظافر الكبير بعد انهزامه وحصوله في أسر العرب كما قدمناه امتنعوا عليه وأطلقوه ولحق بالسلطان أبي بكر فأثره واستخلصه كما كان لأخيه وولاه على قسطنطينة عند نكبة ابن ثابت‏.‏واستكتب له أبا القاسم بن عبد العزيز لخلوه من الأدوات فأقام ظافراً والياً بقسطنطينة‏.‏ثم استقدمه السلطان إلى بجاية وقد غص ابن غمر بمكانه فأغرى به السلطان فتقبض عليه وأشخصه في السفين إلى الأندلس‏.‏كان السلطان أبو يحيى بعد انهزامه عن بجاية سنة عشر وبعث سعيد بن يخلف من مواليه إلى أبي حمو موسى بن عثمان بن يغمراسن‏.‏وكان قد أتيح له في زناتة المغرب الأوسط ظفر واعتزاز‏.‏وتملك أمصاره من أيدي بني مرين بعد مهلك يوسف بن يعقوب على تلمسان ودوخ جهاته‏.‏واستولى على أعمال مغراوة وتوجين وملك الجزائر واستنزل منها ابن علان الثائر بها‏.‏وملك تدلس من يد ابن خلوف فبعث إليه السلطان في المواصلة والمظافرة وأن تكون يدهما على ابن خلوف واحدة فطمع لذلك موسى بن عثمان في ملك بجاية ثم بلغه مهلك ابن خلوف واستيلاء السلطان على ثغره فاستمر على المطالبة وادعى أن بجاية له في شرطه وقارن ذلك لحاق صنهاجة إليه عند مهلك صاحبهم فرغبوه في ملك بجاية وضمنوا له أمرها‏.‏ثم قدم عثمان بن سباع بن يحيى مغاضباً للسلطان لما كان من افتياته عليه في ابن خلوف وإخفار ذمته وعهده فيه واستقر عنده ابن أبي جبى منذ منصرفه عن الحجابة ورجوعه من الحج فرغبوه في ذلك واستحثوه لطلب بجاية فسرح العساكر إليها لنظر محمد ابن عمه يوسف بن يغمراسن ومسعود ابن عمه أبي عامر إبراهيم ومولاه مسامح‏.‏وبعث معهما أبا القاسم بن أبي جبى الحاجب ففصلوا عنه من دار مقامته بشلف فأغذوا السير‏.‏وهلك ابن أبي جبى بجبل الزاب ونازلوا البلد‏.‏ثم جاوزوها إلى الجهات الشرقية فأثخنوا فيها ودخلوا جبل ابن ثابت ونالت منهم الحامية في المدافعة بالقتل والجراحة أعظم السيل وقفلوا راجعين فشيدوا حصناً بأصفون وشحنوه بالأقوات‏.‏ولما وصل محمد بن يوسف ومسامح وبخهما وطوفهما ذنب القصور والعجز وعزلهما‏.‏وبعث السلطان عسكراً في البر وأسطولاً في البحر بعد رجوعه من قسطنطينة سنة أربع عشرة لهدم حصن بني عبد الواد بأصفون خرب وانتهبت أقواته وعدده‏.‏وسرح أبو حمو عسكراً لحصار بجاية عقد عليه لمسعود ابن عمه أبي عامر إبراهيم بن يغمراسن فنازلوها سنة خمس عشرة واتصل لهم خروج محمد بن يوسف بن يغمراسن وبني توجين معه على أبي حمو وأنهم أوقعوا به وهزموه واستولوا على معسكره فأجفل مسعود بن أبي عامر وعسكره وأفرجوا عن بجاية‏.‏ووصل على أثرها خطاب محمد بن يوسف بالطاعة والانحياش فبعث السلطان إليه صنيعته محمد بن الحاج فضل بالهدية والآلة ووعده بالمظاهرة وتسويغ الإسهام التي كان ليغمراسن بإفريقية‏.‏وشغل بنو عبد الواد عن بجاية وخرج السلطان في عساكر الإشراف على وطنه إلى أن كان ما نذكره‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:37 AM

الخبر عن استبداد ابن غمر ببجاية
لم يزل ابن غمر مستبداً على السلطان في حجابته يرى أن زمامه بيده وأمره متوقف على إنفاذه‏.‏وصار يغريه ببطانته فيقتلهم ويغربهم وربما كان السلطان يأنف من استبداده عليه‏.‏وداخله بعض أهل قسطنطينة سنة ثلاث عشره في اغتياله ابن غمر فهموا بذلك ولم يتم ففطن لها ابن غمر فأوقع بهم وقسمهم بين النكال والعذاب فرقاً‏.‏ثم رجع السلطان إلى بجاية سنة ثلاث عشرة لما أهمهم حصاره واتصلت حاله معه على ذلك النحو من الاستبداد إلى أن بلغ السلطان أشده وأرهف حده وسطا بمحمد بن فضل فقتله في خلوة معاقرته من غير مؤامرة الحاجب‏.‏وباكر ابن غمر مقعده بباب السلطان فوجد شلوه ملقى في الطريق مضرجاً في ثيابه وأخبر أن السلطان سطا به فداخله الريب من استبداد السلطان وإرهاف حده وخشي بوادره وتوقع سعاية البطانة ونجي الخلوة‏.‏وتحيل في بعده عنه واستبداده بالثغر دونه فأغراه بطلب إفريقية من يد ابن اللحياني وجهزه بما يصلحه من الآلة والفساطيط والعساكر والخدام ورتب له المراتب‏.‏وارتحل السلطان إلى قسطنطينة سنة خمس عشرة‏.‏ثم تقدم غازياً إلى بلاد هوارة وأجفل عنها ظافراً بمن تعاطى قائدها من مواليهم فاستوفى جباية هوارة‏.‏وقفل إلى قسطنطينة سنة ست عشرة واستبد ابن غمر ببجاية ومدافعة العدو من زناتة عنها‏.‏واستخلف على حجابته السلطان محمد بن القالون وقرت عينه بما كان يؤمل من استبداده إلى أن كان من أمره ما نذكر‏.‏


الخبر عن سفر السلطان أبي يحيى اللحياني إلى قابس وتجافيه عن الخلافة
كان هذا السلطان أبو يحيى بن اللحياني قد طعن في السن وكان بصيراً بالسياسة مجرباً للأمور وكان يرى من نفسه العجز عن حمل الخلافة واستحقاقها مع أبناء الأمير أبي زكرياء الأكبر‏.‏وعلم مع ذلك استفحال صاحب الثغور الغربية الأمير أبي بكر واستغلاظ أمره بمن انتظم في ملكه وارتسم في ديوان جنده من أعياص زناتة وفحول شلوهم من توجين ومغراوة وبني عبد الواد وبني مرين‏.‏كانوا ينزعون إليه مع الأيام عن ملوكهم خشية على أنفسهم لما قاسموهم في النسب وساهموهم في يعسوبية القبيل وفحولية الشول‏.‏ومنهم من غلبوا على مواطنهم وملكوها عليهم مثل مغراوة وبني توجين ومليكش فاستكثف بذلك جند السلطان وكثرت جموعه وهابه الملوك‏.‏ونهض سنة ست عشرة إلى إفريقية وجال في بلاد هوارة وأخذ جبايتها كما ذكرناه فتوقع السلطان ابن اللحياني زحفه إليه بتونس‏.‏وكانت إفريقية مضطربة عليه وكان تعويله في الحماية والمدافعة على أوليائه من العرب تولى منهم حمزة بن علي عمر بن أبي الليل فحكمه في أمره وأشركه في سلطانه وأفرده برياسة العرب وأجره الرسن وسرب إليه الأموال وكثر بذلك زبون العرب واختلافهم عليه فاعتزم على التقويض عن إفريقية ونفض اليد من الخلافة فجمع الأموال والذخيرة وباع ما كان بمودعاتهم من الآنية والفرش والخرثي والماعون والمتاع حتى الكتب التي كان الأمير أبو زكرياء الأكبر جمعها واستجاد أصولها ودواوينها‏.‏أخرجت للوراقين فبيعت بدكاكينهم‏.‏فجمع من ذلك زعموا قناطير من الذهب تجاوز العشرين وجواليقين من حصى الدر والياقوت‏.‏وخرج من تونس إلى قابس مورياً بمشارفة عملها فاتح سبع عشرة بعد أن رتب الحامية بالحضرة وباجة والحمامات واستخلف بالحضرة أبا الحسن بن وانودين وانتهى إلى قابس فقام بها وصرف العمال في جهاتها إلى أن كان من بيعة ولده بتونس ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى‏.‏


الخبر عن نهوض السلطان أبي بكر إلى الحضرة ورجوعه إلى قسطنطينة
لما خرج السلطان من هوارة إلى قسطنطينة سنة ست عشرة كما قدمناه استبلغ في جهاز حركة أخرى إلى تونس فاحتشد وقسم العطاء وأزاح العلل واعترض الجنود عن طبقاتهم من زناتة والعرب وسدويكش‏.‏واستخلف على قسطنطينة الحاجب محمد بن القالون‏.‏وبعث إلى حاجبه الأعظم أبي عبد الرحمن بن غمر بمكانه من إمارة بجاية في مدد المال في النفقات والأعطيات‏.‏فبعث إليه منصور بن فضل بن مزني عامل الزاب‏.‏وكان ابن عمر لما رأى من كفايته وأنه جماعة للمال استضاف له عمل جبل أوراس والحضنة وسدويكش وعياض وسائر أعمال الضاحية فكانت أعمال الجباية كلها لنظره وأمواله في حسبان دخله وخرجه‏.‏فبعث ابن غمر ليقيم إنفاق السلطان‏.‏واستخلفه على خطة حجابته وارتحل السلطان من قسطنطينة في جمادى سنة سبع عشرة يطوي المراحل‏.‏ولقيه في طريقه وفود العرب وانتهى إلى باجة فانفضت وكان السلطان أبو يحيى اللحياني قد خرج عنها إلى قابس كما قدمناه واستخلف عليها أبا الحسن بن وانودين وبعث إليه بنهوض السلطان أبي بكر إلى تونس وأنه محتاج إلى المدافعة فاعتذر لهم اللحياني بما قبله من الأموال وأطلق يدهم في الجيش والمال فأركبوا واستلحقوا ورتبوا الديوان وأخرجوا ابنه محمد ويكنى أبا ضربة فأطلقوه من اعتقاله‏.‏وبغتهم الخبر بإشراف السلطان أبي بكر على باجة فخرجوا جميعاً من تونس‏.‏وخالفهم إلى السلطان مولاه ابن غمر بن أبي الليل‏.‏كان مضطغناً مع الدولة متربصاً بها لما كان اللحياني يؤثر عليه أخاه حمزة فلقي السلطان في دوين باجة فأعطاه صفقته واستحثه ووصل إلى تونس فنزل روض السناجرة من رياض السلطان في شعبان من سنة سبع عشرة‏.‏وخرج إليه الملأ وترددوا في البيعة بعض الشيء انتظاراً لشأن أبي ضربة وأصحابه‏.‏وكان من خبرهم أن السلطان لما أغذ السير من باجة بادر حمزة بن غمر إلى بطانة اللحياني وأوليائه بتونس فلقيهم وقد خرجوا عنها فأشار عليهم ببيعة أبي ضربة بن السلطان اللحياني ومزاحمة القوم به فبايعوه وزحفوا إلى لقاء السلطان‏.‏ودس حمزة إلى أخيه مولاهم أن يزحف بالمعسكر فأجفل السلطان من مقامته من روض السناجرة لسبعة أيام من احتلاله قبل أن يستكمل البيعة وارتحل إلى قسطنطينة ورجع عنه مولاهم من تخوم وطنه‏.‏وسرح منصور بن مزني إلى ابن غمر ببجاية ودخل أبو ضربة بن اللحياني والموحدون إلى تونس منتصف شعبان من سنته‏.‏وبويع بالحضرة البيعة العامة وتلقب بالمستنصر‏.‏وأراد أهل تونس على إدارة سور بالأرباض يكون سياجاً عليها فأجابوه إلى ذلك وشرع فيه‏.‏وأرهقه العرب في مطالبهم واشتطوا عليه في شروطهم إلى أن عاود مولانا السلطان حركته كما نذكر‏.‏


الخبر عن استيلاء السلطان أبي بكر على الحضرة وإيقاعه بأبي ضربة وفرار أبيه من طرابلس إلى المشرق
لما قفل السلطان من تونس إلى قسطنطينة بعث قائده محمد بن سيد الناس بين يديه إلى بجاية فارتاب ابن غمر بوصوله وتنكر له وشعر بذلك السلطان وأغضى له عنها وطلبه في المدد فاحتفل في الحشد والآلة والأبنية‏.‏وبعث إليه سبعة من رجال الدولة بسبعة عساكر وهم‏:‏ محمد بن سيد الناس ومحمد بن الحكم وظافر السنان وأخوه من موالي الأمير أبي زكرياء الأوسط ومحمد المديوني ومحمد المجرسي ومحمد البطوني‏.‏وبعث له من فحول زناتة وعظمائهم عبد الحق بن عثمان من أعياص بني مرين كان ارتحل إليه من الأندلس كما نذكر في خبره وأبا رشيد بن محمد بن يوسف من أعياص بني عبد الواد في من كان معهم من قومهم وحاشيتهم‏.‏وتوافوا بعساكرهم عند السلطان بقسطنطينة فاعتزم على معاودة الزحف إلى تونس وكان قد اختبر أحوال إفريقية وأحسن في ارتيادها فخرج في صفر من سنة ثمان عشرة واستعمل على حجابته أبا عبد الله بن القالون ومرادفه أبو الحسن بن عمر ووافاه بالأربس وفد هوارة وكبيرهم سليمان بن جامع وأخبروه بأن أبا ضربة بن اللحياني أجفل من باجة بعد أن نزلها معتزماً على اللقاء فارتحل مولانا السلطان مغذاً ولقيه مولاهم ابن غمر فراجع الطاعة وارتحلوا في أتباع أبي ضربة وجموعه حتى شارفوا على القيروان فخرج إليه عاملها ومشيختها فألقوا إليه باليد وأعطوا الطاعة‏.‏وارتحل السلطان راجعاً عن أتباع عدوه إلى الحضرة وقد ترك بها أبو ضربة بن اللحياني من بطانته محمد بن الغلاق ليمانع دونها فأخرج الرماة إلى ساحتها وقاتل العساكر ساعة من النهار‏.‏ثم اقتحموها عليه واستبيح عامة أرباضها وقتل ابن الغلاق ودخل السلطان إلى الحضرة في ربيع من سنته فأقام خلال ما انعقدت العامة‏.‏وقدم على الشرطة ميمون بن أبي زيد واستخلفه على البلد‏.‏ورحل في أتباع أبي ضربة بن اللحياني وجموعه فأوقع بهم بمصوح من جهات بلاد هوارة‏.‏وقتل من مشيخة الموحدين أبو عبد الله بن الشهيد من أهل البيت الحفصي وأبو عبد الله بن ياسين‏.‏ومن طبقات الكتاب أبو الفضل البجائي وتقبض على شيخ الدولة أبي محمد عبد الله بن يغمور‏.‏وقيد إلى السلطان فعفا عنه ونوهه ليومه‏.‏ثم أعاده إلى خطته بعد ذلك‏.‏ورجع السلطان إلى تونس في رجب من سنته‏.‏وكان السلطان أبو عيسى بن اللحياني لما بلغه الخبر بنهوض السلطان إلى تونس حركته الثانية سنة سبع عشرة وما كان من بيعة الموحدين والعرب لابنه أبي ضربة ارتحل من مقامته بقابس إلى نواحي طرابلس‏.‏ثم بلغه رجوع السلطان إلى قسطنطينة فأوطن طرابلس فبنى مقعداً لملكه بسور البلد مما يلي البحر سماه الطارمة وبعث العمال في الجهات لجباية الأموال‏.‏وبعث على جبال طرابلس أبا عبد الله بن يعقوب قريب حاجبه ومعه هجرس بن مرغم كبير الجواري من دباب فدوخ البلاد وفتح المعاقل وجبى الأموال وانتهى إلى برقة‏.‏واستخدم آل سالم وآل سليمان من عرب دباب ورجع إلى سلطانه بطرابلس‏.‏ووافاه الخبر بانهزام أبي ضربة ابنه فبعث حاجبه أبا زكرياء بن يعقوب ووزيره أبا عبد الله بن ياسين بالأموال لاحتشاد العرب ففرقوها في علاق ودباب وزحف أبو ضربة إلى القيروان‏.‏وبلغ الخبر إلى السلطان أبي بكر فخرج من تونس آخر شعبان سنة ثمان عشرة فأجفلوا عن القيروان‏.‏ثم تدامروا وعقلوا رواحلهم مستميتين بزعمهم حتى أطلت عليهم العساكر بمكان فج النعام فانفضت جموعهم وشردت رواحلهم وارتحلوا منهزمين والقتل والنهب يأخذ منهم مأخذه‏.‏ونجا أبو ضربة في فله إلى المهدية وكانوا مقيمين على دعوة أبيه فامتنع بها إلى أن كان من شأنه ما وبلغ الخبر إلى أبيه بمكانه من طرابلس فاضطرب معسكره وبعث إلى النصارى في أسطول يحمله إلى الإسكندرية فوافوه بستة أساطيل فاحتمل أهله وولده وركب البحر ومعه حاجبه أبو زكرياء بن يعقوب إلى الإسكندرية واستخلف على طرابلس أبا عبد الله بن أبي عمران من ذوي قرابته وصهره فلم يزل بها إلى أن استدعاه الكعوب ونصبوه للأمر وأجلبوا به على السلطان مراراً كما نذكره بعد‏.‏وركب السلطان أبو يحيى بن اللحياني البحر إلى الإسكندرية فنزل بها على السلطان محمد بن قلاون من ملوك الترك بمصر والشام‏.‏واستقدمه إلى مصر فعظم من مقدمه واهتز للقائه ونوه من مجلسه وأسنى من جرايته وأقطاعه إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين‏.‏ورجع السلطان أبو بكر إلى تونس بعد الواقعة على أبي ضربة وقومه بفج النعام فدخلها في شوال من سنته‏.‏واستقامت إفريقية على طاعته وانتظمت أمصارها وثغورها في دعوتها إلا الهدية وطرابلس كما ذكرناه إلى أن كان ما يأتي ذكره‏.‏


الخبر عن مهلك الحاجب ابن غمر ببجاية
وولاية الحاجب محمد بن القالون عليها ثم الإدالة منه بابن سيد الناس كان الحاجب ابن غمر لما استبد ببجاية سنة خمس عشرة وانتقل السلطان إلى قسطنطينة ولم يراجعها بعد‏.‏ثم رجع من تونس ثانية حركاته سنة سبع عشرة صرف إليه منصور بن فضل وبعث في أثره قائده أبا عبد الله محمد بن حاجب أبيه أبي الحسن بن سيد الناس يهيئ قصوره ببجاية للتحول إليها فرده ابن غمر وتنكر وطالبه السلطان في الممد فبادر به فأقطعه جانب الرضى‏.‏وعقد له على بجاية وقسطنطينة كما ذكرنا ذلك كله قبل‏.‏فاستبد ابن غمر بالثغر وما إليه من الأعمال مقتصراً على ذكر السلطان في الخطبة واسمه في السكة‏.‏وأقام على ذلك إلى أن ملك السلطان تونس واستولى على جهاتها وبعث إليه بابن عمه محمد بن غمر فعقد أبو عبد الرحمن الحاجب على قسطنطينة فمضى إليها وهو في خلال ذلك كله يدافع عساكر زناتة عن بجاية‏.‏وقد كان أبو حمو صاحب تلمسان بعد ظهوره على محمد بن يوسف واسترجاعه بلاد مغراوة وتوجين من يده كما قدمناه يسرب العساكر لحصارها‏.‏وابتنى بالوادي على مرحلتين منها قلعة تكر ليجمر بها الكتائب لحصارها‏.‏ثم هلك أبو حمو وولي ابنه أبو تاشفين من بعده سنة ثمان عشرة فتنفس فخنق الحصار عن بجاية ريثما كانت حركة السلطان إلى تونس وفتحها‏.‏ثم خرج أبو تاشفين من تلمسان لتمهيد أعماله وقتل محمد بن يوسف بمعقله من جبل وانشريش كما ذكرناه في أخبارهم فارتحل من هنالك غازياً إلى بجاية فأطل عليها في سنة تسع عشرة وبدا له من حصنها وكثرة مقاتلتها وامتناعها ما لم يحتسب فانكفأ راجعاً إلى تلمسان وأصاب ابن غمر المرض فبعث عن علي ابن عمه من مكان عمله بقسطنطينة وعهد إليه بأمره والقيام بولاية وهلك لأيام على فراشه في شوال من سنة تسع عشرة وقام علي بن غمر بأمر بجاية واتصل الخبر بالسلطان فأهمه شأن الثغر‏.‏وطير ابن سيد الناس إليه مع قهرمانة داره لتحصيل تراثه والبحث عن ذخيرته فاستوفى من ذلك فوق الكثرة من الصامت والذخيرة وقدم به على السلطان واستقدم معه علي بن غمر فأولاه السلطان من رضاه ما أحسب أمله‏.‏وأقام بالحضرة إلى أن كان منه خلاف مع ابن عمران‏.‏ثم راجع الطاعة وقد أحفظ السلطان لولاية عدوه‏.‏فلما عاد إلى تونس أوعز إلى مولاه نجاح وهلال بقتله فاغتالوه خارجاً من بستانه فأشووه وهلك من جراحته‏.‏


الخبر عن إمارة الأمير أبي عبد الله على قسطنطينة وأخيه الأمير أبي زكرياء على بجاية وتولية القالون علي حجابته
لما هلك ابن غمر أهم السلطان شأن بجايه بما كانت عليه من شأن الحصار ومطالبة بني عبد الواد لها فرأى أن يكثف الحامية بالثغور الغربية وينزل بها أبناءه للمدافعة والحماية فعقد على قسطنطينة لابنه الأمير أبي عبد الله وعقد على بجاية لابنه الأخر الأمير أبي زكرياء‏.‏وجعل حجابتها لأبي عبد الله بن القالون مستبداً عليهما لمكان صغرهما‏.‏وأكثف له الجند وأمره بالمقام ببجاية لممانعتها من العدو الملح على حصارها‏.‏وارتحلوا من تونس فاتح سنة عشرين في احتفال من العسكر والصحاب والأبهة‏.‏وأبقى خطة الحجابة خلواً ممن يقوم بها‏.‏وأبقى علي بن القالون‏.‏وبقي للتصرف في الأمور من رجالات السلطان أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الكردي الملقب بالمزوار‏.‏وكان مقدماً على بطانة السلطان المعروفين بالدخلة وعلى الأشغال الكاتب أبو القاسم بن عبد العزيز وسنذكر أوليتهما بعد‏.‏وانصرف إلى بجاية رافلاً في حلل العز والتنويه إلى أن كان من أمره ما نذكر‏.‏


الخبر عن استقدام ابن القالون والإدالة منه بابن سيد الناس في بجاية وبظافر الكبير في قسطنطينة
لما انصرف أبو عبد الله بن يحيى بن القالون إلى بجاية وخلا وجه السلطان فيه لبطانته عند ولايته بجاية بثوا فيه السعايات ونصبوا له الغوائل‏.‏وتولى كبر ذلك المزوار ابن عبد العزيز بمداخلة أبي القاسم بن عبد العزيز صاحب الأشغال‏.‏وعظمت السعاية فيه عند السلطان حتى داخلت فيه المظنة‏.‏وعقد لمحمد بن سيد الناس على بجاية نقله إليها من عمله باجة وكتب له عهده بخطه‏.‏واستقدم صاحبه محمد بن القالون فقدم وقد تغير السلطان له ودخل ابن سيد الناس بجاية وقام بأمر حصارها وحجابة أميرها إلى أن استقدم للحجابة وكان من أمره ما نذكره‏.‏ومر ابن القالون بقسطنطينة في طريقه إلى الحضرة فحدثته نفسه بالامتناع بها وداخل مشيختها في ذلك فأبوا عليه فأشخصهم إلى الحضرة نكالاً بهم‏.‏ونمي الخبر بذلك إلى السلطان فأسرها لابن القالون وعزم على استضافة الحجابة بقسطنطينة لابن سيد الناس فاستعفى مشيختها من ذلك واروه أن ابن الأمين قريبه وابن أخيه وذكروه ثورة أبيه فأقصر عن ذلك وصرف اعتزامه إلى مولاه ظافر الكبير وذلك عند قدومه من المغرب وكان من خبره أنه كان من موالي الأمير أبي زكرياء وكان له في دولة ابنه السلطان أبي البقاء ظهور وهو الذي زحف بالعسكر عندما استراب السلطان أبو البقاء بأخيه السلطان أبي بكر فأقام بباجة‏.‏وجاء المزدوري والعرب إلى تونس في مقدمة ابن اللحياني فزحف إليهم ففضوه وتقبضوا عليه كما ذكرنا ذلك كله‏.‏ثم لحق بعدها بمولانا السلطان أبي يحيى وأعاده إلى مكانه من الدولة وولاه قسطنطينة عند مهلك ابن ثابت سنة ثلاث عشر‏.‏ثم غص به ابن غمر وأغرى به السلطان فأشخصه في سفين إلى الأندلس وأجاز إلى المغرب‏.‏ونزل على السلطان أبي سعيد إلى أن بلغه الخبر بمهلك ابن غمر فكر راجعاً إلى تونس ولقاه السلطان مبرة وتكريماً‏.‏ووافق ذلك وصول الحاجب ابن القالون من بجاية فعقد السلطان لظافر هذا على حجابة ابنه بقسطنطينة الأمير أبي عبد الله فقدمها وقام بأمرها واستعمل ذويه وحاشيته في وجوه خدمتها وصرف من كان هنالك من الخدام أهل الحضرة إلى بلدهم‏.‏وكان بها أبو العباس بن ياسين متصرفاً بين يدي الأمير أبي عبد الله والكاتب أبو زكرياء بن الدباغ على أشغال الجباية وكانا قدما من الحضرة في ركاب الأمير أبي عبد الله فصرفهما القائد ظافر


الخبر عن ظهور ابن أبي عمران وفرار ابن القالون إليه
كان محمد بن أبي عمران هذا من عقب أبي عمران موسى بن إبراهيم ابن الشيخ أبي حفص وهو الذي ولي إفريقية نائباً عن أبي محمد عبد الله ابن عمه الشيخ أبي محمد عبد الواحد كتب له بها من مراكش لأول ولايته فأقام والياً عليها ثمانية أشهر إلى أن قدم آخر سنة ثلاث وعشرين وستمائة وأقام أبو عمران هذا في جملتهم إلى أن هلك ونشأ بنوه في ظل دولتهم إلى أن كان من عقبه أبو بكر والد محمد هذا فكان له صيت وذكر‏.‏وكان السلطان أبو يحيى زكرياء بن اللحياني قد رعى له ذمة قرابته ووصله بصهر عقده لابنه محمد على ابنته‏.‏واستخلفه على تونس عند خروجه عنها‏.‏ثم استخلفه على طرابلس عند ركوبه السفين إلى الإسكندرية‏.‏وكان أبو ضربة بعد انهزامه وافتراق جموعه اعتصم بالمهدية ونازله بها السلطان أبو بكر فامتنعت عليه فأقلع عنها على سلم عقده لأبي ضربة‏.‏وأقام حمزة بن عمر في سبيل خلافه على السلطان ويتقلب في نواحي إفريقية حتى عظم زبونه على السلطان ونزع إليه الكثير من الأعراب وكثرت جموعه فاستقدم محمد بن أبي عمران من مكان ولايته بثغر طرابلس‏.‏وزحف إلى تونس معارضاً للسلطان قبل اجتماع عساكره وكمال تعبيته فخرج السلطان أبو بكر من تونس في رمضان سنة إحدى وعشرين ولحق بقسطنطينة وصحبه إليها مولاهم ابن عمر‏.‏وكان الحاجب محمد بن يحيى بن القولون قد غصته البطانة والحاشية بالسعاية فيه عند السلطان وتبين له انحرافه عنه‏.‏وكان معز بن مطاعن الفزاري وزيره حمزة بن عمر وصاحب شوراه صديقاً للقالون ومخالصاً فداخله في الأجلاب بابن عمران‏.‏فلما خرج السلطان أمام زحفه تخفف القالون بتونس وركب من الغد في البلد منادياً بدعوة ابن أبي عمران‏.‏ودخل محمد بن أبي عمران ثانية خروج السلطان واستولى على الحضرة وأقام بها بقية سنته وصدر من الأخرى ولحق السلطان بقسطنطينة فجمع عساكره واحتشد جموعه‏.‏وأزاح العلل واستكمل التعبية وزحف منها في صفر سنة اثنتين وعشرين‏.‏وخرج ابن أبي عمران للقائه مع حمزة بن عمر في جموع العرب فلقيهم السلطان أولى وثانية بالرجلة وأوقع بهم وقتل شيخ الموحدين أبا عبد الله بن أبي بكر‏.‏وكان على مقدمتهم محمد بن منصور بن مزني وغيرهم وأثخنت العساكر فيهم قتلاً وأسراً وكان للسلطان فيها ظهور لا كفاء له‏.‏ثم تقبض على مولاهم ابن عمر فكان من خبره ما نذكره‏.‏


الخبر عن مقتل مولاهم ابن عمر وأصحابه من الكعوب
لما أتيح للسلطان من الظهور على ابن عمران وأتباعه والظفر بهم ما اتيح وصنع له فيهم رغم أنف مولاهم ابن عمر وظهرت من أصحابه كلمات أنبأت بفساد دخلتهم‏.‏ثم نمي للسلطان أن مولاهم داخل في الفتك به ابنه منصور وربيبه زعدان ومعدان ابني عبد الله بن أحمد بن كعب وسليمان بن جامع من شيوخ هوارة‏.‏وشى بذلك عنهم ابن عمهم عون بن عبد الله بن أحمد بعد أن داخلوه فيها فتنصح بها للسلطان‏.‏فلما عدوا على السلطان تقبض عليهم وبعثهم إلى تونس فاعتقلوا بها ورجع هو إلى الحضرة فدخلها في جمادى من سنته‏.‏وجدد البيعة على الناس وزحفت العرب في أتباعه حتى نزلوا بظاهر البلد وشرطوا عليه إطلاق مولاهم وأصحابه فأنفذ السلطان قتلهم فقتلوا بمحبسهم وبعث بأشلائهم إلى حمزة فعظم عنده موقع هذا الحزن وصرخ في قومه وتدامروا أن يثيروا بصاحبهم وأغذوا السير إلى الحضرة وابن أبي عمران معهم على حين افتراق العساكر وإراحة السلطان‏.‏وظنوا أنهم ينتهزون الفرصة فخرج السلطان عن تونس لأربعين يوماً من دخوله ولحق بقسطنطينة ودخل ابن أبي عمران إلى تونس فأقام بها ستة أشهر خلال ما احتشد السلطان جموعه واستكمل تعبيته‏.‏ونهض من قسطنطينة وزحف إليه ابن أبي عمران وحمزة بن عمر في جموعهم فأوقع السلطان بهم وأثخن فيهم وشردهم في النواحي وعاد إلى تونس فدخلها في صفر سنة ثلاث وعشرين ومضى حمزة لوجهه إلى أن كان من أمره ما نذكره‏.‏


الخبر عن واقعة رغيس مع ابن اللحياني وزناتة وواقعة الشقة مع ابن أبي عمران
لما انهزم حمزة بن عمر وابن أبي عمران عن تونس مرة بعد أخرى ورأى حمزة أن ابن أبي عمران غير مغن عنه فصرفه إلى مكان عمله بطرابلس وبعث إلى أبي ضربة ابن السلطان اللحياني بمقانه من المهدية فداخله في الصريخ بزناتة والوفود على سلطان بني عبد الواد فرحل معه أبو ضربة ووفدوا على أبي تاشفين صاحب تلمسان ورغبوه في الظفر ببجاية وأن يشغل صاحب تونس عن ملاها بترديد البعوث وتجهيز العساكر إليه فسرح معهم السلطان آلافاً من العساكر عقد عليها لموسى بن علي الكردي صاحب الثغر بتيمرزدكت وكثير الحاشية والرجالات‏.‏وارتحلوا من تلمسان يغذون السير وبلغ السلطان خبر فصولهم من تلمسان فبرز للقائهم من تونس في عساكره حتى انتهى إلى رغيس بين بونة وقسطنطينة‏.‏ولما أطلت عساكر زناتة والعرب اختل مصاف السلطان وانهزمت المجنبات وثبت في القلب وصدق العزيمة واللقاء فاختل مصافهم وانهزموا في شعبان سنة ثلاث وعشرين وامتلأت أيدي العساكر من أسلابهم من نساء زناتة ومن عليهن السلطان وأطلقهن‏.‏ورجع أبو ضربة وموسى بن علي الكردي في فلهم إلى تلمسان وعاد السلطان إلى حضرته لأيام من هزيمتهم‏.‏ولقيه الخبر في طريقه باجتماع العرب وابن أبي عمران بنواحي القيروان فتخطى الحضرة إليهم ولقيهم بالشقة وأوقع بهم ورجع إلى تونس في شوال من سنة أربع وعشرين‏.‏فاتبعه حمزة ومن معه إلى تونس وسبق إليهم بخبرهم عامر بن بوعلي بن كثير وسحيم بن‏.‏فخرج للقائهم من يومه في خف من الجنود بعد أن بعث عن عساكر باجة وقائدها عبد الله العاقل مولاه فصحبه العرب بنواحي شادلة فقاتلوه صدرها وحمي الوطيس ووصل عبد الله العاقل والناس متواقفون واشتدت الحرب‏.‏ثم كانت الهزيمة على العرب واستبيحت حرماتهم وافترقت جموعهم ورجع السلطان إلى البلد واستقر بالحضرة‏.‏


الخبر عن أجلاب حمزة بإبراهيم بن الشهيد وتغلبه على الحضرة
لما انهزم أبو ضربة بن اللحياني وحمزة بن عمر وعساكر بني عبد الواد لحق أبو ضربة بتلمسان فهلك بها ولقى حمزة بعده من الحروب مع السلطان ما لقي ويئس الكعوب من غلابه وتدامروا لفتنته والأجلاب عليه فوفد حمزة بن عمر على أبي تاشفين صريخاً ومعه طالب بن مهلهل قرنه في قومه ومحمد بن مسكين شيخ بني حكيم من أولاد القوس وكلهم من سليم ومعهم الحاجب ابن القالون فاستحثوا عساكره لصريخهم فكتب لهم السلطان كتيبة عقد عليها لموسى بن علي الكردي وأعاده معهم‏.‏ونصب لهم لملك تونس من أعياض أبي حفص إبراهيم بن الشهيد منهم وأبوه الشهيد هو أبو بكر بن أبي الخطاب عبد الرحمن الذي نصب للأمر عند مهلك السلطان أبي عصيمة وقتله السلطان أبو البقاء خالد كما ذكرناه‏.‏وكان إبراهيم هذا قد لحق بالعرب ونصبوه للأمر وأجلبوا به على تونس إثر واقعة رغيس‏.‏وبرزت إليهم العساكر فانهزموا كما ذكرناه ولحق بتلمسان وجاء هذا الوفد على أثره فنصبه السلطان أبو تاشفين لهم واستعمل على حجابته محمد بن يحيى بن القالون‏.‏وبعث معهم العساكر لنظر موسى بن علي الكردي وزحفوا إلى إفريقية‏.‏وخرج السلطان أبو بكر من تونس لمدافعتهم ذا القعدة من سنة أربع وعشرين وانتهى إلى قسطنطينة وعاجلوه قبل استكمال التعبية فنزلوا بساحتها‏.‏وأقام موسى بن علي على منازلتها بعساكر بني عبد الواد‏.‏وتقدم إبراهيم ابن الشهيد وحمزة بن عمر إلى تونس فدخلها في رجب سنة خمس وعشرين واستمكن منها وعقد على باجة لمحمد بن داود من مشيخة الموحدين‏.‏وثار عليه بعض ليالي رمضان بعض بطانة السلطان كانوا بالبلد في غيابات الاختفاء وكان منهم يوسف بن عامر بن عثمان وهو ابن أخي عبد الحق بن عثمان من أعياص بني مرين وفيهم القائد بلاط من وجوه الترك المرتزقة بالحضرة وابن جسار نقيب الشرفاء فاعتدوا واجتمعوا من جوف الليل وهتفوا بدعوة السلطان‏.‏وطافوا بالقصبة فامتنعت عليهم فعمدوا إلى دار كشلي من الترك المرتزقة وكان بطانة لابن القالون فقاتلوها وامتنعت عليهم‏.‏ثم أعجلهم الصباح عن مرامهم وتتبعوا بالقتل وفرغ من شأنهم وكان موسى بن علي ومن معه من العساكر لما تخلفوا عن ابن الشهيد لحصار قسطنطينة أقام عليها أياماً‏.‏ثم أقلع عنها لخمس عشرة ليلة من منازلته ورجع إلى صاحبه بتلمسان‏.‏وخرج السلطان من قسطنطينة فاستكمل الحشد والتعبية ونهض إلى تونس فأجفل منها ابن الشهيد وابن القالون ودخلها السلطان في شوال سنة خمس وعشرين واستولى على دار ملكه وأقام بها إلى أن كان من أمره ما نذكره‏.‏

ميارى 12 - 8 - 2010 07:39 AM

خبر عن حصار بجاية وبناء تيمرزدكت وانهزام عساكر السلطان عليها
كان أبو تاشفين مند خلا له الجو وتمكنت في الأمر منه القدم يلح على بجاية بترديد البعوث ومطاولة الحصار والسلطان أبو بكر يدفع لحمايتها من رجالات دولته وعظماء وزرائه الأول فالأول من أهل الكفاية والاضطلاع بما يدفع إليه من ذلك‏.‏وسرب إليهم المدد من الأموال والأسلحة والجنود وتعهد إليهم بالصبر والثبات في المواطن ونظره من وراء ذلك‏.‏وكان أبو تاشفين كلما أحس من السلطان أبي بكر بنهوض إلى المدافعة عنها أو عزم على غزو كتائبه المجمرة عليها رماه بشاغل يوهن عن عزمه ويمسك عنان بطشه‏.‏وكانت فتنة حمزة بن عمر من أدهى الشواغل في ذلك بما كان يخبب العرب عن الطاعة ويجمع الأحزاب للأجلاب على الحضرة وينصب الأعياص يطمعهم فيما ليس لهم من نيل الخلافة‏.‏وكان ذلك ديدناً متصلاً أزمان تلك المدة‏.‏ولما سرح أبو تاشفين العساكر سنة خمس وعشرين مع إبراهيم ابن الشهيد وحمزة بن عمر وأوليائهم من أهل إفريقية وعقد عليها لموسى بن علي من رجالاته فنازل قسطنطينة ثم أقلع عنها وعاود حصارها سنة ثمان وعشرين‏.‏وشن الغارة في نواحيها واكتسح الأموال ورجع إلى وادي بجاية فاختط مدينة بتيكلات على مرحلة منها وعلى قارعة الطريق الشارع من الغرب إلى الشرق وبما كانت بجاية زائغة عنه إلى البحر فاختطوا تلك المدينة وشيدوها وجمعوا الأيدي عليها وقسموها مسافات على جيوشهم فاستتمت لأربعين يوماً وسموها تيمرزدكت باسم حصنهم الأقدم بالجبل قبالة وجدة حيث امتنع يغمراسن على السعيد ونازله وهلك عليه كما ذكرناه في أخباره‏.‏وشحنوا هذه المدينة بالأقوات والمدد وعمروها بالمقاتلة من الرجل والفرسان والقبائل وأخذت بمخنق البلد‏.‏وقلق السلطان بمكانها فأوعز إلى قواد عساكره وأصحاب عمالاته من مواليه وصنائعه أن ينفروا بعساكرهم إلى صاحب الثغر محمد بن سيد الناس ويزحفوا معه إلى هذا البلد المخروب ويستميتوا دون تخريبه فنهض ظافر الكبير من قسطنطينة وعبد الله العاقل من هوارة وظافر السنان من بونة‏:‏ وتوافوا ببجاية سنة سبع وعشرين‏.‏وبلغ موسى بن علي خبرهم فاستنفر من وراءه من عساكر بني عبد الواد‏.‏وخرجت العساكر جميعاً من بجاية تحت لواء ابن سيد الناس‏.‏وزحف إلى العدو بمخيمهم من تيكلات فكانت الدبرة عليه وعلى أصحابه فقتل ظافر الكبير ورجع فلهم إلى بجاية‏.‏وداخلت ابن سيد الناس فيهم الظنة بما كان يداخل موسى بن عيسى في الزبون كل واحد منهما لصاحبه على سلطانه فمنعهم من دخول البلد ليلتئذ وأسحروا قافلين إلى أعمالهم وعقد السلطان على قسطنطينة لأبي القاسم بن عبد العزيز أياماً‏.‏ثم استقدمه إلى الحضرة ليستعين به محمد بن عبد العزيز المزوار في خطة حجابته بما كان غفلاً من الأدوات التي تحتاج إليها الحجابة‏.‏وعقد على حجابة ابنه الأمير أبي عبد الله بقسطنطينة لمولاه ظافر السنان إلى أن كان من تحويل بنائه ما نذكره‏.‏


الخبر عن مهلك الحاجب المزوار
وولاية ابن سيد الناس مكانه ومقتل ابن القالون هذا الرجل محمد بن القالون المعروف بالمزوار لا أدري من أوليته أكثر من أنه كردي من الأكراد الذين وفد رؤساؤهم على ملوك المغرب أيام أجلاهم الططر عن أوطانهم بشهرزور عند تغلبهم على بغداد سنة ست وخمسين وستمائة‏:‏ فمنهم من أقام بتونس ومنهم من تقدم إلى المغرب فنزلوا على المرتضى بمراكش فأحسن جوارهم‏.‏وصار قوم منهم إلى بني مرين وآخرون إلى بني عبد الواد حسبما نذكر في أخبارهم‏.‏ومن المقيمين بالحضرة كان سلف ابن عبد العزيز هذا إلى أن نشأ هو في دولة الأمير أبي زكرياء الأوسط صاحب الثغور الغربية وتحت كنف من اصطناعه‏.‏واختلط بأبنائه وقدم في جملة ابنه السلطان أبي بكر إلى تونس مقدماً في بطانته ورئيساً على الحاشية المسمين بالدخلة وكان يعرف لذلك بالمزوار‏.‏وكان شهماً وقوراً متديناً وله في الدولة حظ من الظهور وهو الذي تولى كبر السعاية في الحاجب ابن القالون حتى ارتاب بمكانه‏.‏وفر إلى ابن أبي عمران سنة إحدى وعشرين كما قدمناه‏.‏وولاه السلطان الحجابة مكانه فقام بها مستعيناً بالكاتب أبي القاسم بن عبد العزيز لخلوه هو من الأدوات‏.‏وإنما كان شجاعاً بهمة‏.‏ولم يزل على ذلك إلى أن هلك في شعبان سنة سبع وعشرين وأراد السلطان على الحجابة محمد بن خلدون جدنا الأقرب فأبى ورغب في الإقالة فأجحف جنوحاً لما كان بسبيله منذ سنين من الصاغية إلى الدين والرغبة في السكون والفرار من الرتب‏.‏وأشار على السلطان بصاحب الثغر محمد بن أبي الحسين بن سيد الناس لتقديمه سلفه مع سلف السلطان وكثرة تابعه وحاشيته وقوة شكيمته في الاضطلاع بما يدفع إليه‏.‏أجبرني بهذا الخبر أبي رحمه الله وصاحبنا محمد بن منصور بن مزني قال لي‏:‏ حضرت لاستدعاء جدكم إلى معسكر السلطان بباجة يوم مهلك المزوار وأدخله السلطان إلى رواقه وغاب ملياً ثم خرج وقد استفاض بين البطانة والحاشية أنه دعي إلى الخطة فاستنكرها‏.‏وأقام السلطان يومئذ في خطة الحجابة الكاتب أبا القاسم بن عبد العزيز يقيم الرسم‏.‏واستقدم خالصته محمد بن حاجب أبيه أبي الحسين بن سيد على بجاية وحجابة ابنه بها فدفع إليه للنيابة عنه في الحجابة صنيعته محمد بن فرحون ومعه كاتبه أبو القاسم بن المريد‏.‏وجرى الحال على ذلك ببجاية وعساكر زناتة تجوس خلالها ومعاقلهم تأخذ بمخنقها‏.‏وقدم القالون دوين مقدم ابن سيد الناس بشفاعة من نزيله علي بن أحمد سيد الدواودة وطمع في عوده إلى الخطة‏.‏وكان من خبره أنه لما تخلف عن السلطان بتونس في خدمة ابن أبي عمران أراد ركوب السفين إلى الأندلس فأعجلهم السلطان عن ذلك وخرج مع ابن أبي عمران فأجلب معه على الحضرة مراراً ولحق بتلمسان‏.‏ثم جاء مع ابن الشهيد وفعل الأفاعيل ثم انحل أمر ابن الشهيد ولحق هو بالدواودة من رياح‏.‏ونزل على علي بن أحمد رئيسهم لذلك العهد فأجاره وأنزله بطولقة من بلاد الزاب‏.‏وخاطب السلطان في شأنه واقتضى له الأمان حتى أسعف ووفد على الحضرة مع أخيه موسى بن أحمد وفي نفس القالون طمع في الخطة‏.‏وسبقه ابن سيد الناس إلى السلطان فاستقل بها‏.‏وجاء القالون من بعد فأوصله السلطان إلى نفسه واعتنر إليه ووعده وعقد له على قفصة فسار إليها وصحب موالي السلطان من المعلوجي بشير وفارح وأوعز ابن سيد الناس إلى مشيخة قفصة أن يقبضوا على حاميته ليتمكن الموالي منه‏.‏فلما نزل بساحة البلد دخل كشلي من جند الترك المرتزقة كان في جملته منذ أيام حجابته وكان يستظهر بمكانه‏.‏فلما دخل إلى البلد قتل في سككها فكانت لمقتله هيعة تسامع الناس لغطها من خارج البلد‏.‏وبرز القالون من فسطاطه وقد جث للرعب فتقدم إليه الموالي الذين جاءوا معه وتناولوه طعناً بالخناجر إلى أن هلك والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏


الخبر عن ولاية الفضل على بونة
كان السلطان قد عقد على بونة منذ أول دولته لمولاه مسرور المعلوجي فقام واضطلع بولايتها وكان من الغلظة ومراس الحروب بمكان‏.‏وكان لذلك غشوماً جباراً‏.‏وخرج إلى ولهاصة سنة‏.‏فاضطهدهم وذهبوا إلى مدافعته عن أموالهم فحاربهم‏.‏وبلغ خبر مهلكه إلى السلطان فعقد على بونة لابنه أبي العباس الفضل وبعثه إليها‏.‏وولى على حجابته وقيادة عسكره ظافراً السنان من مواليه المعلوجي فقام بما دفع إليه من ذلك أحسن قيام إلى أن كان من أمرهم ما نذكره‏.‏


الخبر عن واقعة الرياس وما كان قبلها من مهلك الأمير أبي فارس أخي السلطان
كان السلطان أبو بكر لما قدم إلى تونس قدم معه إخوته الثلاثة محمد وعبد العزيز وعبد الرحمن وهلك عبد الرحمن منهم وبقي الآخران وكانا في ظل ظليل من النعمة وحط كبير من المساهمة في الجاه‏.‏وكان في نفس الأمير أبي فارس تشوق إلى نيل المرتبة وتربص بالدولة‏.‏وكان عبد الحق بن عثمان بن محمد بن عبد الحق من فحول بني مرين وأعياص ملكهم قدم على الحضرة نازعاً إليها من الأندلس فنزل على ابن عمر ببجاية قبيل مهلكه سنة ثمان عشرة‏.‏ثم لحق بالسلطان فلقاه مبرة ورحباً ووفر حظه وحظ حاشيته من الجرايات والأقطاع‏.‏وجعل له أن يستركب ويستلحق وكان يستظهر به في مواقف حروبه ويتجمل في المشاهد بمكانه من سريره بما كان سيداً في قومه‏.‏وكان قد انعقدت له بيعة على أهل وطنه وكانت فيه غلظة وأنفة وإباء‏.‏وغدا في بعض أيامه على الحاجب ابن سيد الناس فتلقاه الإذن بالغمر فذهب مغاضباً ومر بدار الأمير أبي فارس فحمله على ذات صدره من الخروج والثورة وخرجا من يومهما في ربيع سنة تسع وعشرين ومروا ببعض أحياء العرب فاعترضهما أمير الحي فعرض عليهما النزول‏:‏ فأما عبد الحق فأبى وذهب لوجهه إلى أن لحق بتلمسان وأما الأمير أبو فارس فأجاب ونزل وطير بالخبر إلى السلطان فسرح لوقته محمد بن الحكيم من صنائعه وقواد دولته في طائفة من العسكر والنصارى وصبحوه في الحي وأحاطوا ببيت نزله فامتنع من الإلقاء باليد ودافع عن نفسه مستميتاً فقتلوه قعصاً بالرماح وجاءوا بشلوه إلى الحضرة فدفن بها‏.‏ونزل عبد الحق بن عثمان على أبي تاشفين خير نزل ورغبه فيما كان بسبيله من مطالبة الدولة الحفصية وتدويخ ممالكها ووفد على أثره حمزة بن عمر ورجالات سليم صريخاً على عادتهم‏.‏فأجاب أبو تاشفين صريخهم ونصب لهم محمد بن أبي عمران وكان من خبره أنه تركه السلطان اللحياني عاملاً على طرابلس‏.‏فلما انهزم أبو ضربة وانحل أمره استقدمه العرب وأجلبوا به على الحضرة سنة إحدى وعشرين فملكها ستة أشهر‏.‏ثم أجفل عنها عند رجوع السلطان إليها ولحق بطرابلس إلى أن انتقض عليه أهلها سنة أربع وعشرين وثاروا به وأخرجوه فلحق بالعرب وأجلبوا به على السلطان مراراً ينهزمون عنه في كلها‏.‏ثم لحق بتلمسان واستقر بها عند أبي تاشفين في خير جواره كرامة وجراية إلى أن وصل هذا الوفد إليه سنة تسع وعشرين فنصبه للأمر بإفريقية‏.‏وأمدهم بالعساكر من زناتة عقد عليهم ليحيى بن موسى من بطانته وصنائع أبيه‏.‏ورجع معهم عبد الحق بن عثمان بمن في جملته من بنيه وعشيرته ومواليه وحاشيته‏.‏وكانوا أحلاس حرب وفتيان كريهة فنهضوا جميعاً إلى تونس فزحف السلطان للقائهم وتراءى الجمعان بالرياس من نواحي بلاد هوارة سنة سبع وعشرين فدارت الحرب واختل مصاف السلطان وفلت جموعه‏.‏وأحيط به فأفلت بعد عصب الريق وأصابته في حومة الحرب جراحة وهن لها وقتل كثير من بطانته وحاشيته وكان من أشهرهم محمد المديوني‏.‏وانتهب المعسكر وتقبض على أحمد وعمر ابني السلطان فاحتملا إلى تلمسان حتى أطلقهما أبو تاشفين بعد ذلك في مراسلة وقعت بينه وبين السلطان فاتجه فيها أبو تاشفين وجنح إلى السلم وأطلق الابنين‏.‏ولم يتم شأن الصلح من بعد ذلك‏.‏وتقم ابن أبي عمران بعد الواقعة إلى تونس فدخلها في صفر سنة ثلاثين‏.‏واستبد عليه يحيى بن موسى قائد بني عبد الواد وحجر عليه التصرف في شيء من أمره ثم عاد يحيى بن موسى إلى سلطانه‏.‏ونهض السلطان أبو بكر من قسطنطينة إلى تونس بعد أن استكمل الحشد والتعبية فأجفل ابن أبي عمران عنها ودخل إليها السلطان في رجب من سنته إلى أن كان ما نذكره‏.‏


الخبر عن مراسلة ملك المغرب في الاستجاشة على بني عبد الواد وما تبع ذلك من المصاهرة
كان السلطان أبو بكر لما خلص من واقعة الرياس نجا إلى بونة وركب منها البحر إلى بجاية وقد ضاق فرعه بإلحاح عبد الواد على ممالكه وتجهيز الكتائب على ثغره وترديد البعوث إلى وطنه فأعمل نظره في الوفادة على ملك المغرب السلطان أبي سعيد ليذكره ما بين سلفه وسلفهم من السابقة مع ما لهم عند بني عبد الواد من الأوتار والإحن لمجث بذلك دواعيهم على مطالبة بني عبد الواد فيأخذ بحجزتهم عنه‏.‏ثم عين للوفادة عليه ابنه الأمير أبا زكرياء وبعث معه أبا محمد عبد الله بن تافراكين من مشيخة الموحدين لساناً لخطابه ونجياً لشوراه‏.‏وركب البحر من بجاية فنزلوا بمرسى غساسة واهتز صاحب المغرب لقدومه وأكرم وفادته واستبلغ في القرى والإجارة وأجاب دعاءهم إلى محاربة عدوهم وعدوه على شريطة اجتماع اليد عليها وموافاة السلطان أبي سعيد والسلطان أبي يحيى بعساكرهما تلمسان لموعد ضربوه لذلك‏.‏وكان السلطان أبو سعيد قد بعث سنة إحدى وعشرين يحيى الزنداجي قائد الأسطول بسبتة إلى مولانا السلطان أبي بكر في الإصهار على إحدى كرائمه وشغل عن ذلك بما وقع من شأن ابن أبي عمران‏.‏فلما وفد عليه ابن السلطان وأولياؤه أعاد الحديث في ذلك وعين للنيابة عنه في الخطبة من السلطان إبراهيم بن أبي حاتم العزفي وصرفه مع العدو فوافوا السلطان بتونس آخر سنة ثلاثين وقد طرد عدوه وشفا نفسه فجاءوه بأمنيته من حركة صاحب المغرب على تلمسان‏.‏وخطب منه إبراهيم للأمير أبي الحسن بن السلطان أبي سعيد فعقد على ابنته فاطمة شقيقة الأمير أبي زكرياء السفير إليهم وزفها إليه في أساطيله سنة إحدى وثلاثين‏.‏وتقدم لزفافها من مشيخة الموحدين أبو القاسم بن عتو ومحمد بن سليمان الناسك وقد مر ذكره فنزلت على محل وثير من الغبطة والعز وكان الشأن في مهرها وزفافها ومشاهد أعراسها وولائمها وجهازها كله من المفاخر للدولتين ولم يزل مذكوراً على الأيام‏.‏


الخبر عن حركة السلطان إلى المغرب وفرار بني عبد الواد وتخريب تامرزدكت
كان مهلك السلطان أبي سعيد على تفيئة ما قدمناه من الأخبار آخر سنة إحدى وثلاثين وولي السلطان أبو الحسن من بعده فبعث إلى ابن تاشفين يخاطبه في الغض عن عنان عيثه في بلاد الموحدين وطغيانه عليها فلح واستكبر وأساء الرد فنهد إليه في سبيل الصريخ لهم سنة اثنتين وثلاثين وطوى البلاد طياً إلى تلمسان وأفرجت عساكرهم عن بجاية إلى سلطانهم‏.‏وتقدم السلطان عن تلمسان لمشارفة أحوال بجاية والأخذ بحجرة العدو المحاصر لها‏.‏وبعث عسكراً من قومه مدداً لها عقد عليهم لمحمد البطوي وأركبهم أساطيله من سواحل وهران فدخلوها وقوبلوا بما يناسبهم من الكرامة والجراية‏.‏واستنهض السلطان أبو الحسن السلطان أبا بكر لحصار تلمسان معه كما كان شرط بين أبيه وبين ابنه الأمير أبي زكرياء فشرع السلطان في جهاز حركته وإزاحة علله‏.‏وأقام السلطان أبو الحسن بتاسالة في انتظاره شهراً حتى انصرم فصل الشتاء‏.‏وبلغه بمعسكره من تاسالة أن أخاه السلطان أبا علي صاحب سجلماسة انتقض وخرج إلى درعة فقتل عامله بها بعد أن كان داخله وعقد له بعد أبيه على المهادنة والتجافي عنه بمكانه من سجلماسة‏.‏فلما بلغه هذا الخبر كر راجعاً إلى المغرب لإصلاح شأنه‏.‏وكان السلطان أبو بكر قد خرج من تونس واحتفل في الحشد والتعبية فانتهى إلى بجاية وبعث مقدماته إلى ثغور بني عبد الواد المحيطة ببجاية فهزموا كتائبها‏.‏ثم زحف بجملته إلى تيمرزدكت وفرت عنها الكتائب المجمرة بها فأناخ عليها حتى خربها وانتهب أموالها وأسلحتها‏.‏ونسف آثارها وقفل عنها إلى بلد المسيلة أختها في الغي وموطن أولاد سباع بن يحيى من الدواودة كانت مشيختهم سليمان ويحيى ابنا علي بن سباع وعثمان بن سباع عمهم وابنه سعيد قد تمسكوا بطاعة أبي تاشفين وحملوا عليها قومهم ونهجوا للعساكر السبيل إلى وطئ بلاد الموحدين والعيث فيها ومجاذبة حبلها‏.‏وأقطعهم أبو تاشفين بلد المسيلة وجبل متنان ووانوغة وجبل عياض فأصاروها عن أعمالها فلما شرد السلطان عساكرهم عن بجاية وهدم ثغرهم عليها واسترجع أعمال يجاية إليها سار في جموعه إلى هذا الوطن ليسترجع أعماله ويجدد بها دعوته‏.‏وزاد في إغرائه بذلك علي بن أحمد كبير أولاد محمد أقتال أولاد سباع هؤلاء ونظرائهم وأهل أوتارهم ودخولهم فارتحل غازياً إلى المسيلة حتى المسيلة حتى نزلها واصطلم نعمها وخرب أسوارها وبلغه بمكانه منها شأن عبد الواحد ابن السلطان اللحياني وأجلابه على تونس وكان من خبره أنه قدم من المشرق بعد مهلك أبيه السلطان أبي يحيى زكرياء سنة تسع وعشرين فنزل على دباب وبايع له عبد الملك بن مكي رئيس المشيخة بقابس وتسامع به الناس وإفريقية شاغرة من الحامية والعساكر لنهوضهم مع السلطان فاغتنم حمزة بن عمر الفرصة واستقدمه فبايع له ورحل به إلى الحضرة فنزل بمساحتها ودخل عبد الواحد بن اللحياني وحاجبه ابن مكي إلى البلد فأقاموا بها ريثما بلغ الخبر إلى خ السلطان فقفل إلى الحضرة وبعث في مقدمته محمد البطوي من بطانته في عسكر اختارهم لذلك فأجفل ابن اللحياني وجموعه من تونس لخمس عشرة ليلة من نزولهم ودخل


الخبر عن نكبة الحاجب محمد بن سيد الناس وولاية ابن عبد العزيز وابن الحكيم من بعده
قد قدمنا أولية هذا الرجل وأن أباه أبا الحسين كان حاجباً للأمير أبي زكرياء ببجاية‏.‏ولما هلك سنة تسعين وستمائة خلف ابنه محمد هذا في كفالة السلطان ومرعى نعمته فاشتمل قصرهم عليه وأواه إلى حجره وأرضعه مع الكثير من بنيه ونشأ في كنفه‏.‏وكان الحجاب للدولة من بعد أبيه مثل ابن أبي جبى والرخامي صنائع لأبيه فكانوا يعرفون حقه ويؤثرونه في التجلة على أنفسهم‏.‏ولم يدرك في سن الرجولة والسعي في المجد إلا أيام ابن غمر آخرهم فكان له منه مكان‏.‏حتى إذا ارتحل السلطان أبو يحيى إلى قسطنطينة لطلب تونس وجهز له ابن غمر الآلات والعساكر وأقام له الحجاب والوزراء والقواد كان فيمن سرح معه محمد بن سيد الناس قائداً على عسكر من عساكره‏.‏وكان ظئراً للسلطان فكانت له عنده أثرة واختصاص وعقد له من بعد مهلك ابن غمر على بجاية لما عزل عنها القالون كما قدمناه فاستبد بها على السلطان وحماها دون عساكر زناتة ودفع في صدورهم عنها وكان له في ذلك كله مقامات مذكورة‏.‏وكانت بينه وبين قائد زناتة موسى بن علي مداخلة في زبون كل واحد منهما بمكان صاحبه على سلطانه وفطن لأمرهما‏.‏فأما أبو تاشفين فنكب موسى بن علي كما نذكره في أخباره وأما السلطان أبو بكر فأغضى لابن سيد الناس عنها‏.‏ثم استدعاه وقلده حجابته سنة سبع وعشرين كما قدمناه واستخلف على مكانه ببجاية محمد بن فرحون وأحمد بن المزيد للقيام بما كان يتولاه من مدافعة العدو وكفالة الأمير أبي زكرياء ابن السلطان‏.‏وقدم هو على السلطان وأسكنه بقصور ملكه وفوض إليه أمور سلطانه تفويض الاستقلال فجرى في طلق الاستبداد عليه وأرخى له السلطان حبل الإمهال واعتد عليه فلتات الدالة مع ما كانت الظنون ترجم فيه بالمداهنة في شأن العدو والزبون على مولاه باستغلاظهم‏.‏وأمهله السلطان لمكانه من حماية الثغر ببجاية والاستقلال به دونه حتى إذا تجلت غيابتهم وأطل أبو الحسن عليهم من مرقبه ونهض السلطان أبو بكر إلى بجاية وخرب تيمرزدكت فأغراه البطانه حينئذ بالحاجب محمد بن سيد الناس‏.‏وتنبه له السلطان فأحفظه له استبداده وتقبض عليه مرجعه من هذه الحركة في ربيع سنة ثلاث وثلاثين واعتقله‏.‏ثم امتحنه بأنواع العذاب لاستخراج المال معه فلم ينبس بقطرة فما زال يستغيث ويتوسل بسوابقه من الرضاع والمربى وسوابق أبيه عند سلفه حتى لذعه العذاب فأفحش ونال من السلطان وأقذع فقتل شدخاً بالعصي وجر شلوه فأحرق خارج الحضرة وعفا رسمه كأن لم يكن وإلى الله عاقبة الأمور‏.‏ولما تقبض السلطان على ابن سيد الناس ومحا أثر استبداده قلد حجابته الكاتب أبا القاسم بن عبد العزيز وقد كان قدم من الحمة عند مبايعة ابن مكي لعبد الواحد بن اللحياني فلحق بالسلطان في طريقه إلى تيمرزدكت فلم يزل معه إلى أن دخل حضرته وتقبض على ابن سيد الناس فولاه الحجابة وكان مضعفاً لا يقوم بالحرب فعقد السلطان على الحرب والتدبير لضيعته وكبير بطانته يومئذ محمد بن الحكيم وفوض له فيما وراء الحضرة وهو محمد بن علي محمد بن حمزة بن إبراهيم أحمد اللخمي ونسبه في بني العزفي الرؤساء بسبتة‏.‏وجده أحمد هو أبو العباس المذكور بالعلم والدين والد أبي القاسم المستقل برياسة سبتة بعد الموحدين وكان من خبر أوليته فيما حدثني به محمد بن يحيى بن أبي طالب العزفي آخر رؤساء العزفيين بسبتة والمنقضي أمرهم بها بانقضاء رياسته‏.‏وحدثني بها أيضاً حسين ابن عمه عبد الرحمن بن أبي طالب وحدثني بها أيضاً الثقة عن إبراهيم ابن عمهما أبي حاتم قالوا جميعاً‏:‏ إن أبا القاسم العزفي كان له أخ يسمى إبراهيم وكان مسرفاً على نفسه وأصاب دماً في سبتة وحلف أخوه أبو القاسم ليقتدن منه ففر ولحق بديار المشرق هذا آخر خبرهم‏.‏وإن محمد هذا من بنيه‏.‏وبقية الخبر عن أهل هذا البيت من سواهم أن إبراهيم أنجب محمداً وأنجب محمد حمزة ثم أنجب حمزة علياً فكلف بالقراءة واستظهر علم الطب واستقر في إيالة السلطان أبي زكرياء بالثغور الغربية‏.‏وأصاب السلطان وجع في بعض أزمانه وأعيى دواؤه فجمع له الأطباء وكان فيهم علي هذا فحدس على المرض وأحسن المداواة فوقع من السلطان أحسن المواقع واستخلصه لنفسه وخلطه بخاصته وأهل خلوته وصار له من الدولة مكان لا يجاريه أحد فيه‏.‏وكان يدعى في الدولة بالحكيم وبه عرف ابنه من بعده وأصهر إلى إحدى بيوت قسطنطينة فزوجوه وخلط أهله بحرم السلطان وولد له محمد ابنه بقصره ورضع مع الأمير أبي بكر ابنه ونشأ في حجر الدولة وكفالتها وعلى أحسن الوجوه من ترتيبها‏.‏ولما بلغ أشده صرف إليه رئيس الدولة يعقوب بن غمر وجه إقباله واختصاصه فكان له منه مكان أكسبه ترشيحاً للرياسة فيما بعد من بين خواص السلطان وخلصائه‏.‏لما نهض السلطان أبو يحيى إلى إفريقية قلده قيادة بعض العساكر ثم عقد له بعد مهلك ابن غمر على عمل باجة حين رقى ابن سيد الناس عنها إلى بجاية‏.‏وكان عمل باجة من أعظم الولايات في الدولة فاضطلع به‏.‏ثم لما أمر السلطان بطانته في نكبة ابن سيد الناس دفعه لذلك فولي القبض عليه وكمن له في عصبة من البطانة في بعض الحجر من رياض رأس الطابية‏.‏واستدعى ابن سيد الناس إلى السلطان ويمر بمكانهم فلما انتهى إليهم توثبوا به وشدوه كتافاً وتلوه إلى محبسه بالبرج المعد لقثاف مثله بالقصبة‏.‏وتولى ابن الحكيم من امتحانه وعذابه ما ذكرناه إلى أن هلك وعقد له السلطان مكانه على الحرب والتدبير من خططه وفوض إليه فيما وراء الحضرة كما قلناه‏.‏وجعل تنفيذ الأموال والكتاب على الأوامر لابن عبد العزيز فكان عدله في حمل الدولة إلا أن ابن الحكيم كان أسف فيه لما كان إليه من التدبير في الحرب والرئاسة على الكتابة لرياسة السيف على القلم فاضطلع برياسته وأحسن الغناء والولاية إلى أن كان من خبره ما نذكر‏.‏


الخبر عن فتح فقصة وولاية الأمير أبي العباس عليها
كان أهل الجريد منذ تقفص عنهم ظل الدولة عند انقسام الملك بين الثغور الغربية والحضرة وما إليها وصار أمرهم إلى الشورى بين المشيخة إلا في الأحايين يؤملون الاستبداد كما كانوا عليه من قبل الموحدين فقد جاء عبد المؤمن إلى إفريقية وبنو الرند على قفصة وقسطيلية وابن واطاس على توزر وابن مطروح على طرابلس فأملوا مثلها وشغل مولانا السلطان أبا بكر عنهم بعد استقلاله بالأمر وانفراده بالدعوة الحفصية شأن الفتنة مع آل يغمراسن بن زيان وأجلاب عساكرهم مع حمزة بن عمر على أوطانه‏.‏حتى إذا أخذ السلطان أبو الحسن بحرجتهم وأطل عليهم من مراقبه فعادوا إلى أوكارهم بعد أن أسفوا وتنفس مخنق الثغور الغربية من حصارهم وزال عن كاهل الدولة إصر معاناتهم‏.‏وسكن اضطراب الخوارج على الدولة وخفتت أصوات المرجفين في ممالكها وصرف السلطان نظره في أعطاف ملكه ومحو الشقاق من سائر أعماله وسمت همته في تدويخ القاصية من بلاد الجريد واستنقاذ أهلها من أيدي الذئاب العاوية والكلاب العادية زعماء أمصارها وأعراب فلاتها فنهض إلى قفصة سنة خمس وثلاثين‏.‏وقد كان استبد بشوراها يحيى بن محمد بن علي بن عبد الجليل بن العابد الشريدي من بيوتاتها فنازلها أياماً والعساكر تلح عليها بأنواع القتال ونصب عليها المجانيق فامتنعوا‏.‏ثم جمع الأيدي حتى قطع نخيلهم وإقلاع شجرائهم فنادوا بالأمان فأمنهم‏.‏وخرج إليه ابن عبد الجليل في ربيع الآخر من سنته فأشخصه إلى الحضرة وأنزله بها ورجالات من قومه بني العابد‏.‏وفر سائرهم إلى قابس فنزل في جوار ابن مكي ودخل أهل البلد في حكمه وتفيأوا بعد أن كانوا ضاحين من الملك كله فأحسن التجاوز عنهم وبسط المعدلة فيهم‏.‏وأحسن أمل ذوي الحاجات منهم بالإسهام والإقطاع وتجديد ما بأيديهم من المكتوبات السلطانية‏.‏ثم آثرهم بسكنى ولده المخصوص بعدئذ بعهده الأمير أبي العباس وأنزله بين ظهرانيهم وأوصاه بهم وعقد له على قسطيلية وما إليها‏.‏وجعل معه على ححابته أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وقفل إلى حضرته فدخلها في رمضان من سنته‏.‏


الخبر عن ولاية الأمير أبي فارس بن عزوز وأبي البقاء خالد على سوسة ثم إضافة المهدية إليها
لما نكب السلطان حاجبه ابن سيد الناس وولى محمد بن فرحون على حجابة ابنه الأمير أبي زكرياء وقارن ذلك ما نزل بيغمراسن من عدوهم وتفرغ السلطان للنظر في ملكه وتمهيد أحواله وأن يرسي قواعد أعماله بنجباء أبنائه‏:‏ فعقد على سوسة والبلاد الساحلية لولديه الأميرين عزوز وخالد شريكين في الأمر وأنزلهما بسوسة وأنزل معهما محمد بن طاهر من صنائع الدولة ومن بيوت أهل الأندلس القادمين في الجالية ورياسة سلفهم بمرسية معروفة في أخبار الطوائف‏.‏وكان أخوه أبو القاسم صاحب الأشغال بالحضرة فأقاما كذلك‏.‏ثم هلك محمد بن طاهر فاستقدم السلطان محمد بن فرحون من بجاية ثقة باستبداد ابنه وأن يولي من شاء على حجابته‏.‏وأنزل ابن فرحون مع هذين الأميرين لصغرهما سنة خمس وثلاثين‏.‏ثم استدعاه الأمير أبو زكرياء فرجع إليه وأقام هذان الأميران بسوسة حتى إذا نكب السلطان قائده محمد بن الحكيم واستنزل قريبه محمد بن الركراك من المهدية كان إنزاله بها ابن الحكيم لما افتتحها من يد المتغلب عليها من أهل رجيس ويعرف بابن عبد الغفار واتخذها حصناً لنفسه وأنزل بها قريبه هذا وأشحنها بالعدد والأقوات فلم يغن عنه‏.‏ولما هلك استنزل ابن الركراك وبعث السلطان عليهما ابنه الأمير أبا البقاء وأفرد الأمير أبا فارس بولاية سوسة فأقاما كذلك إلى أن كان من خبر مهلكهما ما نذكره‏.‏


الساعة الآن 05:33 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى