![]() |
الخبر عن وفاة الأمير أبي عبد الله صاحب قسطنطينة من الأبناء
وولاية بنيه من بعده إقباله وألقى عليه محبته لما كان يتوسم في شواهده من الترشيح وما تحلى به من خلال الملك.وكان الناس يعرفون له حق ذلك.وذلك أن ابن عمر كان مستبداً بالثغور الغربية: بجاية وقسطنطينة ومدافعاً عنها العدو من زناتة المطالبين لها.فلما هلك ابن عمر سنة تسع عشرة كما قدمناه صرف السلطان نظره إلى ثغوره فعقد على بجاية لابنه الأمير أبي زكرياء وعقد على حجابته لابن القالون وسرحه معه لمدافعة العدو وعقد على قسطنطينة لابنه الأمير أبي عبد الله ومعه أحمد بن ياسين.وخرجوا جميعاً من تونس سنة عشرين ونزل كل بعمله.وقدم ظافر الكبير من الغرب فولاه السلطان حجابة ابنه قسطنطينة وأنزله بها إلى أن هلك سنة سبع وعشرين على تيمرزدكت كما ذكرناه فجاء حجابته من تونس أبو القاسم بن عبد العزيز الكاتب فأقام أربعين يوماً.ثم رجع إلى الحضرة وأضاف السلطان حجابة قسطنطينة لابن سيد الناس إلى حجابة بجاية وبعث إليها نائباً عنه مولاه هلال النازع إليه عن موسى بن علي قائد بني عبد الواد فقام بحضرة الأمير أبي عبد الله إلى أن كانت نكبة ابن سيد الناس عندما بلغ الأمير أبو عبد الله أشده وجرى في طلق استبداده ففوض له في عمله السلطان وأطلق من عنانه وكان يؤامره في شأنه ويناجيه في خلوته.وأنزل معه بقسطنطينة مولاه نبيلاً من المعلوجي يقيم له رسم الحجابه.ثم استدعى ظافر السنان من تونس سنة أربع وثلاثين لقيادة الأعنة والحرب فقدم لذلك وأقام سنة ونصفها.ثم رجع وقام نبيل بحجابته كما كان.ودفع ليعيش بن.من صنائع الدولة لقيادة العساكر وحماية الأوطان فقاسمه لذلك مراسم الخدمة ورتب الدولة.واستمرت حال الأمير أبي عبد الله على ذلك والأيام تزيده ظوراً ومساعيه الملوكية تكسبه خلالاً وترشيحاً إلى أن اغتبط دون غايته وإعتاقه الأجل عن مداه فهلك رضوان الله عليه آخر سبع وثلاثين وقام بأمره من بعده كبير بنيه الأمير أبو زيد عبد الرحمن فعقد له السلطان أبو بكر على عمل أبيه لنظر نبيل مولاهم لمكان صغره واستمرت حالهم على ذلك إلى آخر الدولة وكان من أمرهم ما نذكره بعد والله تعالى أعلم. الخبر عن شأن العرب ومهلك حمزة ثم أجلاب بنيه على الحضرة وانهزامهم ومقتل معز وزيرهم وما قارن ذلك من الأحداث لما ملك السلطان أبو الحسن تلمسان وأعمالها وقطع دابر آل زيان واجتث أصلهم وجمع كملة زناتة على طاعته واستتبعهم عصباً تحت لوائه.ودانت القبائل بالانقياد له وتخبت القلوب لرعبه ووفد عليه حمزة بن عمر يرغبه في ممالك إفريقية ويستحثه لها ديدنه مع أبي تاشفين من قبله فكف بالبأس من غلوائه وزجره عن خلافه على السلطان وشقاقه.ونهج له بالشفاعة سبيلاً إلى معاودة طاعته والعمل بمرضاته فرجع حمزة إلى السلطان عائذاً بحلمه متوسلاً بشفاعة صاحبه زعيماً بإذعانه وقطع مواد الخلاف من العرب باستقامته فتلقاه السلطان بالقبول وإسعاف الرغبة والجزاء على المناصحة والمخالصة.ولم يزل حمزة بن عمر من لدن رضى مولانا السلطان عنه وإقباله عليه صحيح الطاعة خالص الطوية منادياً بمظاهرة محمد بن الحكم قائد حربه وشهاب دولته على تدويخ إفريقية وتمهيد أعمالها وحسم أدواء الفساد منها.وأخذ الصدقات من جميع ظواعن البدو الناجعة في أقطارها وجميع الطوائف المتعاصين بالثغور على إلقاء اليد للطاعة والكف عن أموال الجباية فكانت لهذا القائد آثار في ذلك مهدت من الدولة وأرغمت أنوف المتعاطين للاستبداد في القاصية حتى استقام الأمر وانمحى أثر الشقاق فاستولى على المهدية سنة تسع وثلاثين وغلب عليها ابن عبد الغفار المنتزي بها من أهل رجيس واستولى على تبسة وتقبض على صاحبها محمد بن عبدون من مشيختها وأودعه سجن المهدية إلى أن أطلق بعد نكبته ونازل توزر من بعد ذلك حتى استقام ابن يملول على طاعته المضعفة.واسترهن ولده ونازل بسكرة غير مرة يدافعه يوسف بن منصور بن مزني بذمة عليه يدعيها من السلطان أبي بكر وسلفه.ويعطيه الجباية عن يد مع ما كان له من الإعتلاق بخدمة السلطان أبي الحسن فيتجافى عنه ابن الحكيم لذلك بعد استيفاء مغارمه.وزحف إلى بلاد ريغة فافتتح قاعدتها تقرت واستولى على أموالها وذخيرتها وسار إلى جبل أوراس فافتتح الكثير من معاقله.وعصفت ريح الدولة بأهل الخلاف من كل جانب وجاست عساكر السلطان خلال كل أرض.وفي أثناء ذلك هلك حمزة بن عمر سنة اثنتين وأربعين على يد أبي عون علي بن كبير أحد بطون بني كعب بطعنة طعنه بها غيلة فأشواه وقام بأمره من بعده بنوه وكبيرهم يومئذ عمر وداخلتهم الظنة أن قتله بإملاء الدولة فاعصوصبوا وتدامروا واستجاشوا بأقتالهم أولاد مهلهل فجيشوا معهم وزحف إليهم ابن الحكيم في عساكر السلطان من زناتة والجند ففلوه واستلحموا كثيراً من وجوههم.ورجع إلى الحضرة فتحصن بها واتبعوه فنزلوا بساحتها سنة ثلاثين وقاتلوا العساكر سبع ليال.ثم اختلفوا ونزع طالب بن مهلهل في قومه إلى طاعة السلطان فأجفلوا وخرج السلطان على تفيئة ذلك في جمادى من سنته في عساكره وأحزابه من العرب وهوارة فأوقع بهم برقادة من ضواحي القيروان.ورجع إلى حضرته آخر رمضان من سنته.وذهبوا مقلولين إلى القفر ومروا في طريقهم بالأمير أبي العباس بقفصة فرغبوه في الخلاف على أبيه وأن يجلبوا به على الحضرة فأملى لهم في فلك حتى ظفر بمعز بن مطاعن وزير حمزة وكان رأس النفاق والغواية فتقبض عليه وقتله وبعث برأسه إلى الحضرة فنصب بها.ووقع ذلك من مولانا السلطان أحسن المواقع.ثم وفد بعدها على الحضرة فبايع له بالعهد في آخر سنته في محفل أشهده الملأ من الخاصة والكافة بإيوان ملكه وكان يوماً مشهوداً قرئ فيه سجل العهد على الكافة وانفضوا منه داعين للسلطان.وراجع بنو حمزة الطاعة من بعدها واستقاموا عليها إلى أن كان من أمرهم ما نذكره. الخبر عن مهلك الحاجب ابن عبد العزيز وولاية أبي محمد بن تافراكين من بعده وما كان على تفيئة ذلك من نكبة ابن الحكيم هذا الرجل اسمه أحمد بن إسماعيل بن عبد العزيز الغساني وكنيته أبو القاسم وأصل سلفه من الأندلس انتقلوا إلى مراكش واستخدموا بها للموحدين واستقر أبوه إسماعيل بتونس.ونشا أبو القاسم بها واستكتبه الحاجب ابن الدباغ ولما دخل السلطان أبو البقاء خالد إلى تونس ونكب ابن الدباغ لجأ ابن عبد العزيز إلى الحاجب ابن غمر وخرج معه من تونس إلى قسطنطينة واستقر ظافر الكبير هنالك فاستخدمه إلى أن غرب إلى الأندلس كما قدمناه.ثم استعمله ابن غمر على الأشغال بقسطنطينة سنة ثلاث عشرة فقام بها وتعلق بخدمة القانون بعد استبداد ابن غمر ببجاية.فلما وصل السلطان أبو بكر إلى تونس سنة ثمان عشرة استقدمه القالون واستعمله على أشغال تونس.ثم كانت سعايته في القالون مع المزوار بن عبد العزيز إلى أن فر القالون سنة إحدى وعشرين وولي الحجابة المزوار بن عبد العزيز وكان أبو القاسم بن عبد العزيز هذا رديفاً لضعف أدواته.ولما هلك ابن عبد العزيز المزوار بقي أبو القاسم بن عبد العزيز يقيم الرسم إلى أن قدم ابن سيد الناس من بجاية وتقفد الحجابة كما قدمناه فغص بمكان ابن عبد العزيز هذا وأشخصه عن الحضرة وولاه أعمال الحامة.ثم استقدم منها عندما ظهر عبد الواحد بن اللحياني بجهات قابس فلحق بالسلطان في حركته إلى تيمرزدكت وأقام في جملة السلطان إلى أن نكب ابن سيد الناس وولي الحجابة بالحضرة كما ذكرنا ذلك لكله من قبل إلى أن هلك فاتح سنة أربع وأربعين فعقد السلطان على حجابته لشيخ الموحدين أبي محمد عبد الله بن تافراكين.وكان بنو تافراكين هؤلاء من بيوت الموحدين في تينملل ومن آيت الخمسين.وولي عبد المؤمن كبيرهم عمر بن تافراكين على فاس أول ما ملكها الموحدون سنة أربعين وخمسمائة إلى أن فتحوا مراكش فكان عبد المؤمن يستخلفه عليها أيام مغيبه على الإمارة والصلاة.ولما ثار بمراكش عبد العزيز وعيسى ابنا أومغار أخي الإمام المهدي سنة إحدى وخمسين كان أول ثورتهم أن اعترضوا عمر بن تافربكين عند ندائه للصلاة فقتلوه وفضحهم الصبح واستلحمهم العامة ثم كان ابنه عبد الله بن عمر من بعده من رجالات الموحدين ومشيختهم.ولما عقد الخليفة يوسف بن عبد المؤمن على قرطبة لأخيه السيد أبي إسحاق أنزل معه عبد الله بن عمر بن تافراكين للمشورة مع جماعة من الموحدين كان منهم يوسف بن وانودين وكان عبد الله المقدم فيهم.وجاء ابنه عمر من بعده متقبلاً مذهبه مرموقاً تجلته.ولما ولي السيد أبو سعيد بن عمر بن عبد المؤمن على إفريقية ولاه قابس وأعمالها إلى أن استنزله عنها يحيى بن غانية سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.ثم كان منهم بعد ذلك عظماء في الدولة وكبراء من المشيخة آخرهم عبد العزيز بن تافراكين خالف الموحدين بمراكش لما نقضوا بيعة المأمون فاغتالوه في طريقه إلى المسجد عند الأذان بالصبح بما كان محافظاً على شهود الجماعات.ورعاه له المأمون في أخيه عبد الحق وبنيه أحمد ومحمد وعمر فلما استلحم الموحدون وعمهم الجزع ارتحل عبد الحق مورياً بالحج ونزل على السلطان المستنصر فأنزله بمكانه من الحضرة وسرحه بعض الأحايين إلى الحامة لحسم الداء فيها.وقد كان يوقع الخلاف من مشيختها فحسن غناؤه فيها وقتل أهل الخلاف وحسم العلل.وولاه السلطان أبو إسحاق على بجاية بعد مقتل محمد بن أبي هلال فاضطلع بها.ولما ولي الدعي ابن أبي عمارة سرحه في عسكر من الموحدين لقهر العرب وكف عدوانهم فأثخن فيهم ما شاء.ولم يزل معروفاً بالرياسة مرموقا بالتجلة إلى أن هلك.وكان بنو أخيه عبد العزيز وهم: أحمد ومحمد وعمر جاءوا على أثره من المغرب فنزلوا بالحضرة خير منزل وغذوا بلبان النعمة والجاه فيها.وكان أحمد كبيرهم.وولاه السلطان أبو حفص على قفصة ثم على المهدية ثم استعفى من الولاية وكان السلطان أبو عصيدة يستخلفه على الحضرة إذا خرج منها على ما كان لأوليه إلى أن هلك لأول المائة الثامنة سنة ثلاث.ونشأ ابناه أبو محمد عبد الله وأبو العباس أحمد في حجر الدولة وجو عنايتها.وأصهر عبد الله منهما إلى أبي يعقوب بن يزدوتن شيخ الدولة في ابنته فعقد له عليها.وأصهر من بعده أخوه أحمد إلى أبي محمد بن يغمور في ابنته فعقد له أيضاً عليها.واستخلص أبو ضربة اللحياني كبيرهما أبا محمد عبد الله وآثره بصحابته فلم يزل معه إلى أن كانت الوقيعة عليه بمصوح وتقبض على كثير من الموحدين فكان في جملتهم.ومن عليه السلطان أبو بكر ورقاه في رتب عنايته إلى أن ولأه الوزارة بعد الشيخ أبي محمد بن القاسم.ثم قدمه شيخاً على الموحدين بعد مهلك شيخهم أبي عمر بن عثمان سنة اثنتين وأربعين وبعثه إلى ملك المغرب مع ابنه الأمير أبي زكرياء صاحب بجاية صريخاً على بني عبد الواد فجلى في خدمة ابن السلطان وعرض سفارته.وتوجه لإيثار بعدها إليه واختص بالسفارة إلى ملك المغرب سائر أيامه.وغص الحاجب ابن سيد الناس بمكانه وهم بمكروهه فكبح السلطان عنانه عنه ويقال أنه أفضى إليه بذات صدره من نكبته.ولما انقسمت خطط الدولة من الحرب والتدبير ومخالصة السلطان وتنفيذ أوامره بين ابن عبد العزيز الحاجب وابن الحكيم القائد كان له هو القدح المعلى في المشورة والتدبير وكانوا يرجعون إليه ويعولون على رأيه وكان ثالث أثافيهم ومصقلة آرائهم.ولما هلك الحاجب ابن عبد العزيز وكان السلطان قد أضمر نكبة ابن الحكيم لما كان يتعاطاه من الاستبداد ويحتجنه من أموال السلطان وأسر الحاجب ابن عبد العزيز إلى السلطان زعموا بين يدي مهلكه بالتحذير من ابن الحكيم وسوء دخلته وأنه فاوضه أيام نزول العرب عليه بساح تونس سنة اثنتين وأربعين كما قدمناه في الإدالة من السلطان ببعض الأعياص من بني أبي دبوس كانوا معتقلين بالحضرة ألقاها الغدر على لسانه ضجراً من قعود السلطان عن الخروج بنفسه إلى العرب وسأمه مما هو فيه من الحصار فاعتدها عليه ابن عبد العزيز حتى ألقاها إلى السلطان عند موته وبرئ منها إليه فأودعها أذناً واعية وكان حتف ابن الحكيم فيها.فلما هلك وولي شيخ الموحدين أبو محمد بن تافراكين فاوضه في نكبة ابن الحكيم وكان بتربص به لما كان بينهما من المنافسة.وكان ابن الحكيم غائباً عن الحضرة في تدويخ القاصية وقد نزل جبل أوراس واقتضى مغارمه وتوغل في أرض الزاب واستوفى جبايته من عامله يوسف بن منصور وتقدم إلى ريغ ونازل تغرت وافتتحها وامتلأت أيدي عساكرهم من مكاسبهم وحليهم.واتصل به خبر مهلك ابن عبد العزيز وولاية أبي محمد بن تافراكين الحجابة فنكر ذلك لما كان يظن أن السلطان لا يعدل بها عنه.وكان يرشح لها كاتبه أبا القاسم بن واران ويرى أن ابن عبد العزيز قبله لم يتميز بها إيثاراً عليه فبدا له ما لم يحتسبه فظن الظنون ونعر ثم أصحب وأغذ السير إلى الحضرة وقد واكب السلطان أبا محمد بن تافراكين في نكبته وأعد البطانة للقبض عليه وقدم على الحضرة منتصف ربيع من سنة أربع وأربعين وجلس له السلطان جلوساً فخماً فعرض عليه هديته من المقربات والرقيق والأنعام حتى إذا انفض المجلس وشيع السلطان وزراءه وانتهى إلى بابه أشار إلى البطانة فأحدقوا به وتلوه إلى محبسه.وبسط عليه العذاب لاستخراج الأموال فأخرجها من مكامن احتجانها وحصل منها في مودع السلطان أربعمائة ألف من الذهب العين ومثلها أو ما يقاربها من الجوهر والعقار إلى أن استصفى.ولما أمتك عظمه ونفد ماله خنق بمحبسه في رجب من سنته وذهب مثلاً في الأيام.وغرب ولده مع أمه إلى المشرق وطوح بهم الاغتراب إلى أن هلك منهم من هلك وراجع الحضرة علي وعبيد منهم في آخرين من أصاغرهم بعد أيام وأحوال والله يحكم لا معقب لحكمه. |
الخبر عن شأن الجريد واستكمال فتحه
وولاية ابنه أبي العباس عليه وولاية صاحب قابس أحمد بن مكي علي جزيرة جربة كان أمر الجريد قد صار إلى الشورى مند شغلت الدولة بمطالبة زناتة بني عبد الواد وما نالها لذلك من الاضطراب واستبد مشيخة كل بلد بأمره ثم انفرد واحد منهم بالرياسة وكان محمد بن يملول من مشيخة توزر هو القائم فيها والمستبد بأمرها كما سنذكره.ولما فرغت الدولة إلى الاستبداد وأرهف السلطان حمده للثوار وعفا على آثار المشيخه بقفصة وعقد لابنه الأمير أبي العباس على بلاد قسطيلية.ونزل بقفصة فأقام بها ممهداً لأمارته مردداً بعوثه إلى البلاد اختباراً لما يظهرون من طاعته.وزحف حاجبه أبو القاسم بن عتو بالعساكر إلى نفطة ابتلاء لطاعة رؤسائها بني مدافع المعروفين ببني الخلف وكانوا أخوة أربعة استبدوا في رياستها في شغل الدولة عنهم فسامهم سوء العذاب ولاذوا بجدران الحصون التي ظنوا أنها مانعتهم وتبرأت منهم الرعايا فأدركهم الدهش وسألوا النزول على حكم السلطان فجنبوا إلى مصارعهم وصلبوا على جذوعهم آية للمعتبرين وأفلت السيف علياً صغيرهم لنزوعه إلى العسكر قبل الحادثة فكانت له ذمة واقية من الهلكة.وانتظم الأمير أبو العباس بلد نفطة في ملكته وجدد له العقد عليه أبوه.وتملك الكثير من نفزاوة.ولما استبيحت نفطة ونفراوة سمت همته إلى ملك توزر جرثومة الشقاق وعش الخلاف والنفاق وخشي مقدمها محمد بن يملول مغبة حاله وذهب إلى مصانعة قائد الدولة محمد بن الحكيم بذات صدره فتجافى عنه إلى أن كان مهلكها في سنة واحدة واضطرب أمر توزر وتواثب بنوه وأخوته وقتل بعضهم بعضاً.وكان أخوه أبو بكر معتقلا بالحضرة فأطلقه السلطان من محبسه بعد أن أخذ عليه المواثيق بالطاعة والجباية ومضى إلى توزر فملكها وطالبه الأمير أبو العباس صاحب قفصة وبلاد قسطيلية بالانقياد الذي عاهد عليه فنازعه ما كان في نفسه من الاستبداد.وصارت توزر لذلك شجاً معترضاً في صدر إمارته فخاطب أباه السلطان أبا بكر.وأكراه به فنهض إليه سنة خمس وأربعين وانتهى إلى قفصة وطار الخبر إلى أبي بكر بن يملول رئيسها يومئذ فأدركه الدهش وانفض من حوله الأولياء وجاهر بطاعة السلطان ولقائه ففر عنه كاتبه وكاتب أبيه المستولي على أمره علي بن محمد التمودي المعروف الشهرة ولحق ببسكرة في جوار يوسف بن مزني واتخذ السلطان السير إلى توزر فخرج إليه أبو بكر بن يملول وألقى إليه بيده وخلط نفسه بجملته.ثم ندم على ما فرط من أمره وأحس بالنكراء من الدولة ونذر بالمهلكة فلحق بالزاب ونزل على يوسف بن منصور ببسكرة فتلقاه من الترحيب والقرى بما يحدث به الناس.ولما استولى السلطان على توزر وانتظمها في أعماله عقد عليها لابنه الأمير أبي العباس وأنزله بها وأمكنه من رمتها ورجع السلطان إلى الحضرة ظاهراً عزيزاً وتملأ أيام ملكه إلى أن هلك على فراشه كما نذكر.واتصلت ممالك الأمير أبي العباس في بلاد الجريد وشاور أبو بكر بن يملول توزر مراراً يفلت في كلها من المهلكة إلى أن مات ببسكرة سنة سبع وأربعين قبل مهلك السلطان كما نذكر.وأقام الأمير أبو العباس بمحل إمارته ولم يزل يمهد الأحوال ويستنزل الثوار.وكان ابن مكي قد امتنع عليه بقابس وكان من خبره أنه لما رجع عبد الملك من تونس مع عبد الواحد بن اللحياني الذي كان حاجباً له ذهب ابن اللحياني إلى المغرب وأقام هو بقابس.ثم استراب بمئال أمره مع السلطان حين ذهب ملك آل زيان وأوفد أخاه أحمد بن مكي على السلطان أبي الحسن متنصلاً من ذنوبه متذمماً بشفاعة منه إلى السلطان أبي بكر فشفع له وأعاده السلطان إلى مكان رياته.واستقام هو على الطاعة ونكب عن سنن العصيان والفتنة.وكان لأحمد بن مكي حظ من الخلال والأدوات ونفس مشغوفة بالرياسة والسرو.وكان يقرض الشعر فيجيد ويرسل فيحسن وكان خط كتابه أنيقاً ينحو به منحى الخط الشرقي شأن أهل الجريد فيمتع ما شاء فكانت لذلك كله في نفى الأمير أبي العباس صاغية إليه.وكان هو مستريباً بالمخالطة لما شاء من إثارة السالفة.ولم يزل الأمير أبو العباس يفتل له في الذروة والغارب إلى أن جمعها مجلس السيدة أمة الواحدة أخت مولانا السلطان قافلة من حجها فمسح ما كان في صدره وأحكم له عقد مخالصته واصطنعه لنفسه فحل من إمارته بمكان غبطة واعتزاز.وعقد له السلطان على جزيرة جربة واستضافها إلى عمله وأنزل عنها مخلوف بن الكماد من صنائعه كان افتتحها سنة ثمان وثمانين وعقد له السلطان عليها ونزلها أحمد بن مكي.واستقل أخوه عبد الملك برياسة قابس وأقاما على ذلك وجردا عزائمهما في ولاية أبي الخبر عن مهلك الوزير أبي العباس بن تافراكين كان السلطان أبو بكر عند نكبته لقائده ابن الحكيم استعمل على حجابته شيخ الموحدين أبا محمد بن تافراكين كما ذكرناه وفوض إليه فيما وراء بابه وعقد على الوزارة لأخيه أبي العباس أحمد.وكان أبو محمد جلس بالباب لمكان الحجابة فدفع إلى الحرب وقود العساكر وإمارة الضاحية أخاه أبا العباس فقام بما دفع إليه من ذلك.وكان بنو سليم بعد مهلك حمزة بن عمر نقموا ما كان عليه من الإذعان وسموا إلى الخلاف والعناد فكان من أبناء حمزة في ذلك من الأجلاب على الحضرة ما ذكرناه.وكان سحيم ابن.من أولاد القوس بن حكيم بهمة غوار ومارد خلاف وعناد وكان السلطان قد ولى على حجابة ابنه الأمير أبي العباس في أعمال الجريد أبا القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وكان يناهض بني تافراكين بزعمه في الشرف وينفس عليهم ما أتاهم الله من الرتبة والحظ فلما ولي أبو محمد الحجابة ملئ منه حسداً وحفيظة وداخل فيما زعموا سحيماً هذا الغوي في النيل من أبي العباس بن تافراكين صاحب العساكر وشارطه على ذلك بما أداه إليه وتكاتموا أمرهم.وخرج أبو العباس بن تافراكين فاتح سنة سبع في العساكر لجباية هوارة فوفد عليه سحيم هذا وقومه وضايقوه في الطلب.ثم انتهزوا الفرصة بعض الأيام وأجلبوا عليه فانفض معسكره وكبا به فرسه فقتل وحمل شلوه إلى الحضرة فدفن بها.وجاهر سحيم بالخلاف وخرج إلى الرمال فلم يزل كذلك إلى حين مهلك السلطان كما نذكره. الخبر عن مهلك الأمير أبي زكرياء صاحب بجاية من الأبناء وما كان بعد ذلك من ثورة أهل بجاية بأخيه الأمير أبي حفص وولاية ابنه الأمير أبي عبد الله كان السلطان أبو بكر لما هلك الحاجب ابن غمر عقد على بجاية لابنه الأمير أبي زكرياء كبير ولده وأنفذه إليها مع حاجبه محمد بن القالون كما ذكرناه وجعل أموره تحت نظره.ثم رجع القالون إلى تونس فأنزل معه ابن سيد الناس كذلك فلما استبد بحجابة الحضرة جعل على حجابته أبا عبد الله بن فرحون.ثم لما تقبض على ابن سيد الناس وعلى ابن فرحون وقد استبد الأمير أبو زكرياء بأمره وقام على نفسه فوض السلطان إليه الأمر في بجاية وبعث إليه ظافر السنان مولى أبيه الأمير أبي زكرياء الأوسط قائداً على عسكره والكاتب أبا إسحاق بن غلان متصرفاً في حجابته فأقام ببابه مدة.ثم صرفهما إلى الحضرة وقدم لحجابته أبا العباس أحمد بن أبي زكرياء الرندي كان أبوه من أهل العلم وكان ينتحل مذهب الصوفية الغلاة ويطالع كتب عبد الحق بن سبعين.ونشأ أحمد هذا ببجاية واتصل بخدمة السلطان وترقى في الرتب إلى أن استعمله الأمير أبو زكرياء كما قلناه.ثم هلك وقد أنف السلطان أبو بكر من انتزاء هؤلاء السوقة على حجابة ابنه فأنفذ لهم حضرته كبير الموحدين يومئذ صاحب السفارة أبا محمد بن تافراكين سنة أربعين وسبعمائة فأقام أحوال ملكه وعظم أبهة سلطانه وجهز العساكر لسفره وأخرجه إلى أعماله فطاف عليها وتفقدها وانتهى إلى تخومها من المسيلة ومقرة.ولم يستكمل الحول حتى سخطه مشيخة من أهل بجاية لما نكروا من الأبهة والحجاب حتى استغلظ عليهم باب السلطان وتولى كبر ذلك القاضي ابن أبي يوسف تعنتاً وملالاً واستعفى هو من ذلك فأعفي وعاد إلى مكانه بالحضرة.ثم استقدم الأمير أبو زكرياء حاجبه الأول لعهد ابن سيد الناس وهو أبو عبد الله محمد بن فرحون وقد كان السلطان بعثه في غرض الرسالة إلى ملك المغرب في الأسطول الذي بعثه مدداً للمسلمين عند إجازة السلطان أبي الحسن إلى طريف.وكان أخوه زيد بن فرحون قائد ذلك الأسطول بما كان قائد البحر ببجاية فلما رجع ابن عبد الله بن فرحون من سفارته تلك أذن له في المقام عند الأمير أبي زكرياء واستعمله على حجابته إلى أن هلك فولى من بعده في تلك الخطة ابن القشاش من صائع دولته.ثم عزله وولى عليها أبا القاسم بن علناس من طبقة الكتاب اتصل بدار هذا الأمير وترقى في ديوانه إلى أن ولاه خطة الحجابة.مم عزله بعلي بن محمد بن المنت الحضرمي وكان أبوه وعمه قدما مع جالية الأندلس وكانا ينتحلان القراءات.وأخذ أهل بجاية عن عمه أبي الحسن علي القراءات وكان طموحاً للرياسة واتصل بحظية كانت لمولى أبي زكرياء تسمى أم الحكم قد غلبت على هواه فرسخت على ابن المنت هذا خطة الحجابة واستعمله فيها فقام بها وأصلح مونات السلطان وأحوال مقامته في سفره وجهز له العساكر وجاد في نواحي أعماله.وهلك هذا الأمير في إحدى سفاراته وهو على حجابته بتاكرارت من أعمال بجاية من مرض كان أزمن به في ربيع الأولى سنة سبع وأربعين وكان ابنه الأمير أبو عبد الله في حجر مولاه فارح من معلوجي بن سيد الناس.وكانوا اصطنعوه فألفوه قابلاً للترشيح فأقام مع ابن مولاه ينتظر أمر الخليفة وبادر حاجبه الأول أبو القاسم بن علناس إلى الحضرة وأنمى الخبر إلى الخليفة فعقد على بجاية لابنه الأمير أبي حفص كان معه الحضرة وهو أصاغر ولده وأنفذه إليها مع رجاله وأولي اختصاصه.وخرج معه أبو القاسم بن علناس فوصل إلى بجاية ودخلها على حين غفلة.وحمله الأوغاد من البطانة على إرهاف الحد وإظهار السطو فخشي الناس البوادر وائتمروا.ثم كانت في بعض الأيام هيعة تمالأ فيها الكافة على التوثب بالأمير القادم فطافوا بالقصبة في سلاحهم ونادوا بإمارة ابن مولاهم.ثم تسوروا جدرانها واقتحموا داره وملكوا عليه أمره وأخرجوه برمته بعد أن انتهبوا جميع موجوده وتسايلوا إلى دار الأمير أبي عبد الله محمد ابن أميرهم ومولاهم بعد أن كان معتزماً على التقويض عنهم واللحاق بالخليفة جده.وأذن له في ذلك عمه الأمير القادم فبايعوه بداره من البلد.ثم نقلوه من الغد إلى قصره بالقصبة وملكوه أمرهم.وقام بأمره مولاه فارح ولقبه باسم الحجابة واستمر حالهم على ذلك.ولحق الأمير أبو حفص بالحضرة آخر جمادى الأولى من سنته لشهر من يوم ولايته إلى أن كان من شأنه بعد مهلك مولانا السلطان ما نذكره.وتدارك السلطان أمر بجاية وبعث إليهم أبا عبد الله بن سليمان من كبراء الصالحين من مشيخة الموحدين يسكنهم ويؤنسهم وبعث معهم كتاب العقد عليها لحافده الأمير أبي عبد الله محمد بن الأمير أبا زكرياء ذهاباً مع مرضاتهم لسكنت نفوسهم وأنسوا بولاية ابن مولاهم وجرت الأمور إلى مصايرها كما نذكره.مهلك السلطان ابي بكر وولاية ابنه الخبر عن مهلك مولانا السلطان أبي بكر وولاية ابنه الأمير أبي حفص بينما الناس في غفلة من الدهر وظل ظليل من العيش وأمن من الخطوب تحت سرادق من العز وذمة واقية من العدل إذ ريع السرب وتكدر الشرب وتقلصت ظلال العز والأمن وتعطل فناء الملك ونعي السلطان أبو بكر بتونس فجأة من جوف الليل ليلة الأربعاء ثاني رجب سنة سبع وأربعين وسبعمائة فهب الناس من مضاجهم متسايلين إلى القصر يستمعون نبأ النعي وأطافوا به سائر ليلتهم تراهم سكارى وما هم بسكارى.وبادر الأمير أبو حفص عمر ابن السلطان من داره إلى القصر فملكه وضبط أبوابه واستدعى الحاجب أبا محمد بن تافراكين من داره ودعوا المشيخة من الموحدين والموالي وطبقات الجند وأخذ الحاجب عليهم البيعة للأمير أبي حفص.ثم جلس من الغداة جلوساً فخماً على الترتيب المعروف في الدولة أحكمه الحاجب أبو محمد لمعرفته بعوائدها وقوانين ترتيبها لقنه عن أشياخه أهل الدولة من الموحدين وغدا عليه الكافة في طبقاتهم فبايعوا له وأعطوه صفقة إيمانهم.وانفض المجلس وقد انعقدت بيعته وأحكمت خلافته.وكان الأمير خالد ابن مولانا السلطان مقيماً بالحضرة قدمها سائراً منذ أشهر وأقام متملياً من الزيارة فلما سمع النعي فر من ليلته وتقبض عليه أولاد منديل من الكعوب وردوه إلى الحضرة فاعتقل بها.وقام أبو محمد بن تافراكين بخطة الحجابة كما كان وزيادة تفويض واستبداد إلا أن بطانة السلطان كانوا يكثرون السعاية فيه ويوغرون صدره عليه بذكر منافسات ومناقشات سابقة بين الحاجب والأمير أيام أبيه واتصل ذلك غصاً بمكانه ونذر الحاجب بذلك منهم فأعمل الحيلة في الخلاص من صحابتهم كما نذكر بعد. |
الخبر عن زحف الأمير أبي العباس ولي العهد من مكان إمارته بالجريد إلى الحضرة
وما كان من مقتله ومقتل أخويه الأميرين أبي فارس عزوز وأبي البقاء خالد كان السلطان أبو بكر قد عهد إلى ابنه الأمير أبي العباس صاحب أعمال الجريد كما ذكرناه سنة ثلاث وأربعين فلما بلغه مهلك أبيه وما كان من بيعة أخيه نعى على أهل الحضرة ما جاءوا به من نقض عهده.ودعا العرب إلى مظاهرته على أمره فأجابوه ونزعوا جميعاً إلى طاعته عن طاعة أخيه بما كان مرهفاً لحده في الاستبداد والضرب على أيدي أهل الدولة من العرب وسواهم.وزحف إلى الحضرة ولقيه أخوه أبو فارس صاحب عمل سوسة لقيه بالقيروان فأتاه طاعته وصار في جملته وجمع السلطان أبو حفص عمر جموعه واستركب واستلحق وأزاح العلل وأخرج غرة شعبان وارتحل عن تونس وحاجبه أبو محمد بن تافراكين قد نذر منه بالهلكة واعتمل في أسباب النجاة حتى إذا تراءى الجمعان رجع الحاجب إلى تونس في بعض الشغل وركب الليل ناجياً من المغرب.وبلغ خبر مفره إلى السلطان فأجفل واختل مصافه وتحيز إلى باجة فتلوم بها وتخلف عنه أهل المعسكر فلحقوا بالأمير أبي العباس وملك الحضرة ثامن رمضان ونزل برياض رأس الطابية وأطلق أخاه أبا البقاء من معتقله.ثم دخل إلى قصره سبع ليال من ملكه وصبحه الأمير أبو حفص ثامنها فاقتحم عليه البلد لصاغية كانت له في قلوب الغوغاء من غشيانه أسمارهم وطروقه منازلهم أيام جنون شبابه وقضاء لذاته في مرباه.وفتك بأخيه الأمير أبي العباس.ولسرعان ما نصب رأسه على القناة وداست شلوه سنابك العسكر وأصبح آية للمعتبرين.وثارت العامة بمن كانت بالبلد من وجوه العرب ورجالاتهم فقتلوا في تلك الهيعة من كتب عليه القتل.وتلوا كثيراً منهم إلى السلطان فاعتقلهم وقتل أبا الهول بن حمزة بن عمر من بينهم.وتقبض على أخوته خالد وعزوز وأمر بقطعهم من خلاف فقطعوا وكان فيه مهلكهم.واستوسق ملكه بالحضرة واستعمل على حجابته أبا العباس أحمد بن علي بن رزين من طبقة الكتاب كان كاتباً للشخشي الحاجب وبعده للقائد ظافر الكبير.واتصل بالسلطان أبي بكر لأول ملكه بالحضرة فأسف علي بن عمر بولاية ابن القالون الحاجب فخاطب السلطان فيه ونكبه.ثم أطلق من محبسه ومضى إلى المغرب ونزل على السلطان أبي سعيد فأحمد نزله.ثم رجع إلى الحضرة ولم يزل مشنوءاً أيام السلطان كلها واستكتب الأمير أبو حفص ولده محمداً وكانت له به وصلة فلما استوسق له الملك بعد مفر أبي محمد بن تافراكين كما ذكرناه ولى أباه أبا العباس هذا على حجابته وعقد على حربه وعساكره لظافر مولى أبيه وجده المعروف بالسنان واستخلص لنجواه وسرة مكتبه أبو عبد الله محمد بن الفضل بن نزار من طبقة الفقهاء ومن أهل البيوت النابهة بتونس كان له بها سلف مذكور واتصل بدار السلطان وارتسم بها مكتباً لولده.وقرأ عليه هذا الأمير أبو حفص فيمن قرأ عليه منهم فكانت له من أجل ذلك خصوصية به ومزيد عناية عنده.ولما استبد بأمره كان هو مستبداً بشوراه وجرت الحال على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكره. الخبر عن استيلاء السلطان أبي الحسن على إفريقية ومهلك الأمير أبي حفص وانتقال الأبناء من بجاية وقسطنطينة إلى المغرب وما تخلل ذلك من الأحداث كان السلطان أبو الحسن يحدث نفسه منذ ملك تلمسان وقبلها بملك إفريقية ويتربص بالسلطان أبي بكر وشر له حسواً في ارتغاء.فلما لحق به حاجبه أبو محمد بن تافراكين بعد مهلكه رغبه في سلطانها واستحثه للقدوم عليها وحرك له الحوار فتنبهت لذلك عزائمه.ثم وصل الخبر بمهلك ولي العهد وأخويه وخبر الواقعة فأحفظه ذلك بما كان من رضاه بعهده وخطة الوفاق على ذلك بيده في سجله وذلك أن حاجب الأمير أبي العباس وهو أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين كان سفر عن السلطان لآخر أيامه إلى السلطان أبي الحسن بهدية.وحمل سجل العهد فوقف عليه السلطان أبو الحسن وسأل منه أمضاه لمولاه وكتاب ذلك بخطه في سجله فخطه بيمينه وأحكم له عقده.فلما بلغه مهلك ولي العهد تعلل بأن النقض أتى على ما أحكمه فأجمع غزو إفريقية ومن بها فعسكر ظاهر تلمسان وفرق الأعطيات وأزاح العلل.ثم رحل في صفر من سنة ثمان وأربعين يجر الدنيا بما حملت.وأوفد عليه أبناء حمزة بن عمر أمراء البدو بإفريقية ورجالات الكعوب أخاهم خالداً يستصرخه لثأر أخيه أبي الهول الهالك يوم الواقعة فأجابهم.ونزع إليهم أيضاً أهل القاصية بإفريقية بطاعتهم فجاءوا في وفد واحد: ابن مكي صاحب قابس وابن يملول صاحب توزر وابن العابد صاحب قفصة ومولاهم ابن أبي عنان صاحب الحامة وابن الخلف صاحب نفطة فلقوه بوهران وأتوه بيعتهم رغبة ورهبة وأدوا بيعة ابن ثابت صاحب طرابلس ولم يتخلف عنهم إلا لبعد داره.ثم جاء من بعدهم وعلى أثرهم صاحب الزاب يوسف بن منصور بن مزني ومعه مشيخة الموحدين الدوادرة وكبيرهم يعقوب بن علي فلقوه ببني حسن من أعمال بجاية فأوسع الكل حباء وكرامة وأسنى الصلاة والجوائز وعقد لكل منهم على بلده وعمله.وبعث مع أهل الجزائر الولاة للجباية لنظر مسعود بن إبراهيم اليرنياني من طبقة وزرائه وأغذ السير إلى بجاية فلما أطلت عساكره عليها توامر أهلها في الامتناع ثم أنابوا وخرج أميرها أبو عبد الله محمد بن الأمير أبي زكرياء فأتاه طاعته وصرفه إلى المغرب مع إخوانه وأنزله ببلد ندرومه.وأقطع له الكفاف من جبايتها وبعث على بجاية عماله وخلفاءه.وسار إلى قسطنطينة فخرج إليه أبناء الأمير أبي عبد الله يقدمهم كبيرهم الأمير أبو زيد فأتوه طاعتهم وأقبل عليهم وصرفهم إلى المغرب وأنزلهم بوجدة وأقطعهم جبايتها وأنزل بقسطنطينة خلفاءه وعماله وأطلق القرابة من مكان اعتقالهم بها وفيهم أبو عبد الله محمد أخو السلطان أبي بكر وبنوه ومحمد ابن الأمير خالد وإخوانه وبنوه وأصارهم في جملته حتى صرفهم الغرب من الحضرة من بعد ذلك.ووفد عليه هنالك بنو حمزة بن عمر ومشايخ قومهم الكعوب فأخبروه بإجفال المولى أبي حفص من تونس مع ظواعن أولاد مهلهل واستحثوه باعتراضهم قبل لحاقهم القفر وسرح معهم العساكر في طلبه لنظر حمو العشري من مواليه وسرح عسكراً آخراً إلى تونس لنظر يحيى بن سلسمان من بني عسكر ومعه أبو العباس بن مكي وسارت العساكر لطلب الأمير أبي حفص فأدركوه بأرض الحامة من جهات قابس وصبحوهم فدافعوا عن أنفسهم بعض الشيء.ثم انفضوا وكبا بالأمير أبي حفص جواده في بعض نافقاء الجرابيع وانجلت الغيابة عنه وعن مولاه ظافر راجلين فتقبض عليهما وواثقهما قائد الكتائب في قيده حتى إذا جن الليل وتوقع أن يفلتهما العرب من أساره قبل أن يصل بهما إلى مولاه فذبحهما وبعث برؤوسهما إلى السلطان أبي الحسن فوصلا إليه بباجة.وخلص الفل من الواقعة إلى قابس فتقبض عبد الملك بن مكي على رجالات من أهل الدولة كان فيهم أبو القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وصخر بن موسى من رجالات سدويكش وغيرهما من أعيان الدولة فبعث بهم ابن مكي إلى السلطان.فأما ابن عتو وصخر بن موسى وعلي بن منصور فقطعهم من خلاف واعتقل الباقين وسيقت العساكر إلى تونس.ثم جاء السلطان على أثرهم ودخل الحضرة في الزي والاحتفال في جمادى الآخرة من سنته وخفيت الأصوات وسكنت الدهماء وانقبضت أيدي أهل الفساد.وانقرض أمر الموحدين إلا ذبالاً في بونة فإنه عقد عليها للمولى الفضل ابن مولانا أبي بكر لمكان صهره ووفادته عليه بين يدي مهلك أبيه.ثم ارتحل السلطان إلى القيروان ثم إلى سوسة والمهدية وتطوف على المعالم التي بها ووقف على آثار ملوك الشيعة وصنهاجة في مصانعها ومبانيها والتمس البركة في زيارة القبور التي تذكر للصحابة والسلف من التابعين والأولياء وقفل إلى تونس ودخلها آخر شعبان من سنته. الخبر عن ولاية الأمير أبي العباس الفضل على بونة وأولية ذلك ومصائره كان السلطان أبو الحسن قد أصهر إلى السلطان أبي بكر قبيل مهلكه في إحدى كرائمه وأوفد عليه في ذلك عريف بن يحيى كبير بني سويد من زغبة وصاحب شوراه وخالصة سره مع وفد من رجالات دولته من طبقات الفقهاء والكتاب والموالي كان فيهم صاحب الفتيا بمجلسه أبو عبد الله السطي وكاتب دولته أبو الفضل بن عبد الله بن أبي مدين وأمير الحرم عنبر الخصي فأسعف السلطان وعقد له على حظيته عزونة شقة ابنه الفضل وزفها إليه بين يدي مهلكه مع أخيها الفضل ومعه أبو محمد عبد الواحد من مشيخة الموحدين وأدركهم الخبر بمهلك السلطان في طريقهم.فلما قدموا على السلطان أبي الحسن تقبلهم بقبول حسن ورفع مجلس الفضل ولما استتب له ملكها أعرض له عن ذلك إلا أنه رعى له ذمة الصهر وسابقة الوعد فأقنعه بالعقد على بونة مكان عمله منذ أيام أبيه وأنزله بها عندما رحل عنها إلى تونس.واضطغن المولى الفضل من ذلك حقداً لما كان يرجوه من تجافيه له عن ملك آبائه ولحق وفادته وصهره وأقام بمكان عمله منها يؤمل الكرة إلى أن كان من أمن ما نذكره والله أعلم. الخبر عن بيعة العرب لابن أبي دبوس وواقعتهم مع السلطان أبي الحسن بالقيروان وما قارن ذلك كله من الأحداث كان السلطان أبو الحسن لما استوسق له ملك إفريقية أسف العرب بمنعهم من الأمصار التي ملكوها بالإقطاعات والضرب على أيديهم في الأتاوات فوجموا لذلك واستكانوا لغلبته وتربصوا الدوائر.وربما كان بعض البادية منهم يشن الغارات في الأطراف فيعتدها السلطان من كبرائهم.وأغاروا بعض الأيام في ضواحي تونس فاستاقوا الظهر الذي كان للسلطان في مراعيها وأظلم الجو بينهم وبينه وخشوا عاديته وتوقعوا بأسه.ووفد عليه أيام الفطر من رجالاتهم خالد بن حمزة وأخوه أحمد من بني كعب وخليفة بن عبد الله بن مسكين وخليفة بن بوزيد من رجالات حكيم.وساءت ظنونهم في السلطان لسوء أفعالهم فداخلوا عبد الواحد بن اللحياني في الخروج على السلطان.وكان من خبر عبد الواحد هذا أنه بعد إجفاله من تونس سنة اثنتين وثلاثين كما ذكرناه لحق بأبي تاشفين فأقام عنده في مبرة وتكرمة.ولما أخذ السلطان أبو الحسن بمخنق تلمسان واشتد حصارها سأل عبد الواحد من أبي تاشفين تخليته للخروج فودعه وخرج للسلطان أبي الحسن فنزل عليه.ولم يزل في جملته إلى أن احتل بإفريقية.فلما خشن ما بينه وبين الكعوب والتمسوا الأعياص من بني أبي حفص ينصبونهم للأمر رجوا أن يظفروا من عبد الواحد بالبغية فداخلوه وارتاب لذلك وخشي بادرة السلطان فرفع إليه الخبر فتقبض السلطان عليهم بعد أن أحضرهم معه فأنكروا وبهتوا.ثم وبخهم واعتقلهم وعسكر بساحة الحضرة لغزوهم وتلوم لبعث الأعطيات وإزاحة العلل وبلغ الخبرإلى أحيائهم فقطع اليأس أسباب رجائهم.وانطلقوا يحزبون الأحزاب ويلتمسون للملك الأعياص.وكان أولاد مهلهل أقتالهم وعديلة حملهم قد أيأسهم السلطان من القبول والرضى بما بلغوا في نصيحة المولى أبي حفص ومظاهرته فلحقوا بالقفر ودخلوا الرمال فركب إليهم فتيتة بن حمزة وأمه ومعهما ظواعن أبنائهما متذممين لأولاد مهلهل بالعصبية والقرابة فأجابوهم واجتمعوا بقسطيلية وتواهبوا التراث والدماء وتدامروا بما شملهم من رهب السلطان وتوقع بأسه.وتفقدوا من أعياص الموحدين من ينصبونه للأمر وكان بتوزر أحمد بن عثمان بن أبي دبوس آخر خلفاء بني عبد المؤمن بمراكش وقد ذكرنا خبره وخروجه بجهات طرابلس وأجلابه مع العرب على تونس أيام السلطان أبي عصيدة.ثم انفضوا وبقي عثمان بجهات قابس وطرابلس إلى أن هلك بجزيرة جربة واستقر بنو ابنه عبد السلام بالحضرة بعد حين فاعتقلوا بها أيام السلطان أبي بكر.ثم غربهم إلى الإسكندرية مع أولاد ابن الحكيم عند نكبته كما ذكرنا ذلك كله فنزلوا بالإسكندرية وأقبلوا على الحرف لمعاشهم.ورجع أحمد هذا من بينهم إلى المغرب واستقر بتوزر واحترف بالخياطة.ولما تفقد العرب الأعياص دلهم على نكرته بعض أهل عرفانه فانطلقوا إليه وجاءوا به وجمعوا له الآلة ونصبوه للأمر وتبايعوا على الاستماتة.وزحف إليهم السلطان في عساكره من تونس أيام الحج من سنة ثمان ولقيهم بالثنية دون القيروان فغلبهم وأجفلوا أمامه إلى القيروان.ثم تدامروا ورجعوا مستميتين ثاني محرم سنة تسع فاختل مصافه ودخل القيروان وانتهبوا معسكره بما يشتمل عليه وأخذوا بمخنقه إلى أن اختلفوا وأفرجوا عنه وخلص إلى تونس كما نذكر والله تعالى أعلم. |
الخبر عن حصار القصبة بتونس ثم الإفراج عن القيروان وعنها وما تخلل ذلك
كان الشيخ أبو محمد بن تافراكين أيام حجابته للسلطان أبي بكر مستبداً بأمره مفوضاً إليه في سائر شؤونه فلما استوزره السلطان أبو الحسن لم يجره على مألوفه لما كان قائماً على أمره وليس التفويض للوزراء من شأنه.وكان يظن أن السلطان أبا الحسن سيكل إليه أمر إفريقية وينصب معه الفضل للملك.وربما زعموا أنه عاهده على ذلك فكان في قلبه من الدولة مرض وكان العرب يفاوضونه بذات صدورهم من الخلاة والأجلاب فلما حصلوا على البغية من الظهور على السلطان أبي الحسن وعساكره وأحاطوا به في القيروان تحيل ابن تافراكين في الخروج عن السلطان لما تبين فيه من النكراء منه ومن قومه.وبعث العرب في لقائه وأن يحملوه حديث فيئهم إلى الطاعة فأذن له وخرج إليهم.وقلدوه حجابة سلطانهم ثم سرحوه إلى حصار القصبة.وكان السلطان عند رحيله من تونس خلف بها الكثير من حرمه وأبنائه ووجوه قومه واستخلف عليها يحيى بن سليمان العسكري من كبار بطانته وأهل مجلسه ووجوه قومه.فلما كانت واقعة القيروان واتصل الخبر بتونس كانت لبناته هيعة خشي عليها عسكر السلطان على أنفسهم فلجأ من كان معهم بتونس إلى قصبتها وأحاط بهم الغوغاء فامتنعت عليهم واتخذوا الآلة للحصار وفرقوا الأموال في الرجال وعظم فيها غناء بشير من المعلوجي الموالي فطار له ذكر.وكان الأمير أبو سالم ابن السلطان أبي الحسن قد جاء من المغرب فوافاه الخبر دوين القيروان فانفض معسكره ورجع إلى تونس فكان معهم بالقصبة.ولما خرج ابن تافراكين من هوة الحصار بالقيروان إليهم طمعوا في الاستيلاء على قصبة تونس وفض ختامها فدفعوه إلى ذلك.ثم لحق به سلطانهم ابن أبي دبوس وعانى من ذلك ابن تافراكين صعباً لكثرة الرجل الذين كانوا بها ونصبوا المجانيق عليها فلم يغن شيئاً وهو أثناء ذلك يحاول النجاة لنفسه لاضطراب الأمور واختلال الرسوم إلى أن بلغه خلوص السلطان من القيروان إلى سوسة.وكان من خبره أن العرب بعد إيقاعهم بعساكره أحاطوا بالقيروان واشتدوا في حصارها وداخل السلطان أولاد مهلهل من الكعوب وحكيماً من بني سليم في الإفراج عنه واشترط لهم على ذلك الأموال واختلف رأي العرب لذلك ودخل عليه فتيتة بن حمزة بمكانه من القيروان زعيماً للطاعة فتقبله وأطلق إخوانه خالداً وأحمد ولم يثق إليهم ثم دخل إليه محمد بن طالب من أولاد مهلهل وخليفة بن بو زيد وأبو الهول بن يعقوب من أولاد القوس وأسرى معهم بعسكره إلى سوسة فصبحها منها في أساطيله إلى تونس وسبق الخبر إلى ابن تافراكين بتونس فتسلل من أصحابه وركب السفين إلى الإسكندرية في ربيع سنة تسع وأربعين.وأصبحوا وقد تفقدوه فاضطربوا وأجفلوا عن تونس وخرج أهل القصبة من أولياء السلطان فملكوها وخربوا منازل الحاشية فيها.ونزل السلطان بها من أسطوله في ربيع الآخر فاستقلت قدمه من العثار ورجا الكرة لولا ما قطع أسبابها عنه مما كان من انتزاء أبنائه بالمغرب على ما نذكره في أخبارهم.وأجلب العرب وابن أبي دبوس معهم على الحضرة ونازلوا بها السلطان فامتنعت عليهم فرجعوا إلى مهادنته فعقد لهم السلم ودخل حمزة بن عمر إليه وافداً فحبسه إلى أن تقبض على ابن أبي دبوس وأمكنه منه فلم يزل في محبسه إلى أن رحل إلى المغرب ولحق هو بالأندلس كما نذكره في أخباره وأقام السلطان بتونس ووفد عليه أحمد بن مكي فعقد لعبد الواحد بن اللحياني على الثغور الشرقية طرابلس وقابس وصفاقس وجربة وسرحه مع ابن مكي فهلك عند وصوله إليها في الطاعون الجارف وعقد لأبي القاسم بن عتو من مشيخة الموحدين وهو الذي كان قطعه بإغراء أبي محمد بن تافراكين.فلما ظهر خلافه أعاد ابن عتو إلى مكانه وعقد له على بلاد قسطيلية وسرحه إليها وأقام هو بتونس إلى أن كان ما نذكره. الخبر عن استيلاء الأمير الفضل على قسطنطينة وبجاية ثم استيلاء أمرائهما عليهما كان سنن السلطان أبو الحسن في دولته بالمغرب وفود العمال عليه آخر كل سنة لإيراد جبايتهم والمحاسبة على أعمالهم فوفدوا عليه عامهم ذلك من قاصية المغرب ووافاهم خبر الواقعة بقسطنطينة وكان معهم ابن مزني عامل الزاب وفد أيضاً بجبايته وهديته وكان معهم أبو عمر تاشفين ابن السلطان أبي الحسن كان أسيراً من يوم واقعة طريف.وقعت المهادنة الطاغية وبين أبيه فأطلقه وأوفد معه جمعاً من بطارقته وقدموا معه على أبيه ووفد معه أخوه عبد الله من المغرب وكان أيضاً معهم وفد السودان من أهل مالي في غرض السفارة واجتمعوا كلهم بقسطنطينة.فلما اتصل بهم خبر الواقعة على السلطان كثر الاضطراب وتجلبت السفاه من الغوغاء إلى ما بأيديهم وخشي الملأ من أهل البلد على أنفسهم فاستدعوا أبا العباس الفضل من عمله ببونة.ولما أطل على القسطنطينة ثارت العامة بمن كان هنالك من الوفود والعمال وانتهبوا أموالهم واستلحموا منهم وخلص أبناء السلطان مع وفود السودان والجلالقة إلى بسكرة مع ابن مزني وفي خفارة يعقوب بن علي أمير الدواودة فأوسعهم ابن مزني قرى وتكرمة إلى أن لحقوا بالسلطان أبي الحسن بتونس في رجب من سنة تسع.ودخل المولى الفضل إلى قسطنطينة وأعاد ما ذهب من سلطان قومه.وشمل الناس بعدله وإحسانه وسوغ الإقطاع والجوائز ورحل إلى بجاية لما أنس من صاغية أهلهما إلى الدعوة الحفصية.فلما أطل عليها ثأر أهلها بالعمال الذين كان السلطان أنزلهم بها استباحوهم وأفلتوا من أيدي نكبتهم بجريعة الذقن ودخل المولى الفضل إلى بجاية واستولى على كرسي ملكها ونظمها مع قسطنطينة وبونة في ملكه.وأعاد ألقاب الخلافة ورسومها وشياتها كما كانت واعتزم على الرحيل إلى الحضرة.وبينما هو يحدث نفسه بذلك إذ وصل الخبر بقدوم أمراء بجاية وقسطنطينة من المغرب وكان من خبرهم أن الأمير أبا عنان لما بلغه خبر الواقعة بأبيه وإنتزاء منصور ابن أخيه أبي مالك بالبلد الجديد دار ملكهم وأحس بخلاص أبيه من هوة الحصار بالقيروان فوثب على الأمر ودعا لنفسه ورحل إلى المغرب كما نذكره في أخباره.وسرح الأمير أبا عبد الله محمد ابن الأمير أبي زكرياء صاحب بجاية من الأبناء إلى عمله وأمده بالأموال وأخذ عليه المواثيق ليكونن له رداء عون أبيه وليحول بينه وبين الخلوص إليه متى مر به.وانطلق أبو عبد الله إلى بجاية وقد سبقه إليها عمه الفضل واستولى عليها فنازله بها وطال حصارها ولحق به بمكانه من منازلتها نبيل المولى من المعلوجي مع أبناء الأمير أبي عبد الله وكافل بنيه من بعده.وتقدم إلى قسطنطينة وبها عامل من قبل الفضل فثار به الناس لحينه ودخل نبيل وملك البلد وأقام فيها دعوة أبي زيد ابن الأمير أبي عبد الله.وكان الأمير أبو عنان استصحبه وإخوانه إلى المغرب وبعد احتلاله بفاس سرحهم إلى مكان إمارتهم بقسطنطينة بعد أن أخذ عليهم الموثق في شأن أبيه بمثل موثق ابن عمهم فجاءوا على أثر نبيل مولاهم ودخلوا البلد.واحتل أبو زيد منها بمكان إمارته وسلطان قومه كما كان قبل رحلتهم إلى المغرب.ولم يزل الأمير أبو عبد الله ينازل بجاية إلى أن بيتها بعض ليالي رمضان من سنته بمداخلة بعض الأشياع من زعانفتها داخلهم مولاه وكافله فارح في ذلك فسرب فيهم الأموال وواعدوه للبيات وفتحوا له باب البر من أبوابها فاقتحمها وفاجأهم هدير الطبول فهب السلطان من نومه وخرج من قصره فتسنم الجبل المطل عليها متسرباً في شعابه إلى أن وضح الصباح وظهر عليه فجيء به إلى ابن أخيه فمن عليه واستبقاه وأركبه السفين إلى بلده بونة في شوال من سنة تسع وأربعين.ووجد بعض الأعياص من قرابته قد ثاروا بها وهو محمد بن عبد الواحد من ولد أبي بكر ابن الأمير أبي زكرياء الأكبر كان هو وأخوه عمر بالحضرة وكان لعمر منهما النظر على القرابة.فلما كان هذا الاضطراب لحقوا بالفضل وتركهم ببونة عند سفره إلى بجاية فحدثتهم أنفسهم بالانتزاء فلم يتم لهم الأمر.وثارت بهم الحاشية والعامة فقتلوا لوقتهم ووافى الفضل إلى بونة وقد انجلت غيابتهم ومحيت آثارهم ودخل إلى قصره وألقى عصا تسياره واستقل الأمير أبو عبد الله ابن الأمير أبي زكرياء ببجاية محل إمارة أبيه والأمير أبو زيد بن الأمير أبي عبد الله بقسطنطينة محل إمارة أبيه والأمير أبو العباس الفضل ببونة محل إمارته منذ عهد الإمرة والسلطان أبو الحسن بتونس إلى أن كان من أمرهم ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن حركة الفضل إلى تونس بعد رحيل السلطان أبي الحسن إلي المغرب كان العرب بعد ما قدمنا من طاعتهم وإسلامهم السلطان ابن أبي دبوس قد انقبضوا عن السلطان أبي الحسن وأجلبوا عليه ثانية وتولى كبر ذلك فتيتة بن حمزة وخالف إلى السلطان أخوه خالد مع أولاد مهلهل وافترق أمرهم.وخرج كبيرهم عمر بن حمزة حاجاً واستقدم فتيتة وأصحابه الأمير الفضل من مكان إمارته ببونة لطلب حقه واسترجاع ملك آبائه فأجابهم ووصل إلى أحيائهم آخر سنة تسع فنازلوا تونس وأجلبوا عليها.ثم أفرجوا عنها وعاودوا منازلتها أول سنة خمسين وأفرجوا عنها آخر المصيف.واستدعاهم أبو القاسم بن عتو صاحب الجريد من مكان عمله بتوزر فدخل في طاعة الفضل وحمل أهل الجريد كلهم عليها واتبعه في ذلك بنو مكي وانتقضت إفريقية على السلطان أبي الحسن من أطرافها فركب أساطيله إلى المغرب أيام الفطر من سنة خمسين.ونهض المولى الفضل إلى تونس وبها أبو الفضل ابن السلطان أبي الحسن كان أبوه قد عقد له عليها عند رحيله إلى المغرب تفادياً من ثورات الغوغاء ومعرات هيعتهم وأمن عليه بما كان قد عقد له من الصهر مع عمر بن حمزة في ابنته فلما أطلت رايات المولى الفضل على تونس أيام الحج نبضت عروق التشيع للدعوة الحفصية وأحاطت الغوغاء بالقصر ورجموه بالحجارة.وأرسل أبو الفضل إلى بني حمزة متذمماً بصهرهم فدخل عليه أبو الليل وأخرجه ومن معه من قومه إلى الحي.واستركب له من رجالات بني كعب من أبلغه مأمنه وهداه السبيل إلى وطنه ودخل الفضل إلى الحضرة وقعد بمجلس آبائه من الخلافة وجدد ما طمسه بنو مرين من معالم الدولة واستمر أمره على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن مهلك الفضل وبيعة أخيه المولى أبي إسحاق في كفالة أبي محمد بن تافراكين وتحت استبداده لما دخل أبو العباس الفضل إلى الحضرة واستبد بملكها عقد إلى حجابته لأحمد بن محمد بن عتو نائباً عن عمه أبي القاسم ريثما يصل من الجريد وعقد على جيشه وحربه لمحمد بن الشواش من بطانته.وكان وليه المطارد به أبو الليل فتية بن حمزه مستبداً عليه في سائر أحواله مشتطاً في طلباته.وأنف له بطانته من ذلك فحملوه على التنكر له وأن يديل منه بولاية خالد أخيه.وبعث عن أبي القاسم بن عتو وقد قلده حجابته وفوض إليه في أمره وجعل مقاد الدولة بيده فركب إليه البحر من سوسة واستأنف له خالد بن حمزة ظهيراً على أخيه بعد أن نبذ إليه عهده وفاوضهم أبو الليل بن حمزة قبل استحكام أمورهم فغلب على السلطان وحمله على عزله قائده محمد بن الشواش فدفعه إلى بونة على عساكرها.واضطرمت نار الفتنة بين أبي الليل بن حمزة وأخيه خالد وكاد شملهم أن ينصدع.وبينما هم يحشون نار الحرب ويجمعون الجموع والأحزاب إذ قدم كبيرهم عمر وأبو محمد عبد الله بن تافراكين من حجهم.وكان ابن تافراكين لما احتل بالإسكندرية بعث السلطان أبو الحسن فيه إلى أهل المشرق وخاطب ملوك مصر في التحكيم فيه فأجاره عليه الأمير المستبد على الدولة حينئذ بيبغاروس وخرج من مصر لقضاء فرضه وخرج عامئذ عمر بن حمزة لقضاء فريضه الحج أيضاً فاجتمعا في مشاهد الحج آخر سنة خمسين وتعاقدا على الرجوع إلى إفريقية والتظاهر على أمرهما وقفلا فألفيا خالداً وفتيتة على الصفين فأشار عمر بن داية فاجتمعا وتواقفا ومسح الإحن من صدورهما وتواطأوا جميعاً على المكر بالسلطان وبعث إليه فتية بالمراجعة فقبله واتفقوا على أن يقلد حجابته أبا محمد بن تافراكين حاجب أبيه وكبير دولته ويديل به من ابن عتو فأبى.ثم أضحت ونزلت أحياؤهم ظاهر البلد واستحثوا السلطان للخروج إليهم ليكملوا عقد ذلك معه فخرج ووقف بساحة البلد إلى أن أحاطوا به ثم اقتادوه إلى بيوتهم وأذنوا لابن تافراكين في دخول البلد فدخلها لإحدى عشرة من جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين.وعمد إلى دار المولى أبي إسحاق إبراهيم ابن مولانا السلطان أبي بكر فاستخرجه بعد أن بذل لأمه من العهود والمواثيق ما رضيته وجاء به إلى القصر وأقعده على كرسي الخلافة وبايع له الناس خاصة وعامة وهو يومئذ غلام مناهز فانعقدت بيعته ودخل بنو كعب فأتوه طاعتهم وسيق إليه أخوه الفضل ليلتئذ فاعتقله وغط من جوف الليل بمحبسه حتى فاض.ولاذ حاجبه أبو القاسم بن عتو يومئذ بالاختفاء في غيابات البلد وعثر عليه لليال فامتحن وهلك في امتحانه وخوطب العمال في الجهات بأخذ البيعة على من قبلهم فبعثوا به.واستقام ابن يملول صاحب توزر على الطاعة وبحث بالجباية والهدية واتبعه صاحب نفطة وصاحب قفصة وخالفهم ابن مكي وذهب إلى الأجلاب على ابن تافراكين لما كان قد كفل السلطان وحجره عن التصرف في أمره واستبد عليه إلى أن كان ما نذكر إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم. الخبر عن حركة صاحب قسطنطينة إلى تونس وما كان من حجابة أبي العباس بن مكي وتصاريف ذلك لما استولى أبو محمد بن تافراكين على تونس وبايع للمولى أبي إسحاق بالخلافة واستبد عليه نقم عليه الأمراء شأن استبداده وشمر ابن مكي للسعي عليه بمنافسة كانت بينهما قديمة من لدن أيام السلطان أبي بكر.واستعان على ذلك بأولاد مهلهل مقاسمي أولاد أبي الليل في رياسة الكعوب ومجاذبيهم حبل الإمارة.فلما رأوا صاغية بن تافراكين إلى أولاد أبي الليل أقتالهم أجمعوا له ولهم وحالفوا بني حكيم من قبائل علاق وأجلبوا على الضواحي وشنوا الغارة.ثم وفدوا على الأمير أبي زيد صاحب قسطنطينة وأعمالها يستحثوهم للنهوض إلى إفريقية واستخلاص ملك آبائه ممن استبد عليه واحتازه فسرح معه عسكرين لنظر ميمون ومنصور الجاهل من مواليه وموالي أبيه وارتحلوا من قسطنطينة.وارتحل معهم يعقوب بن علي كبير الدواودة بمن معه من قومه.وسرح أبو محمد بن تافراكين من الحضرة للقائهم عسكراً مع أبي الليل بن حمزة لنظر مقاتل من موالي السلطان والتقى الجمعان ببلاد هوارة سنة اثنتين وخمسين فكانت الدبرة على أولاد أبي الليل.وقتل يومئذ أبو الليل فتيتة بن حمزة بيد يعقوب بن سحيم من أولاد القوس شيوخ بني حكيم ورجع فلهم إلى تونس فامتدت أيدي أولاد مهلهل وعساكر قسطظينة في البلاد وجبوا الأموال من أوطان هوارة وانتهوا إلى أبة.ثم قفلوا راجعين إلى قسطنطينة.وولي على أولاد أبي الليل مكان فتيتة أخوه خالد بن حمزة وقام بآمرهم.وكان أبو العباس بن مكي أثناء ذلك يكاتب المولى أبا زيد صاحب قسطنطينة من مكان ولايته بقابس ويعده من نفسه الوفادة والمدد بالمال والأحزاب والقيام بأعطيات العرب حتى إذا انصرم فصل الشتاء وفد عليه مع أولاد مهلهل فلقاه مبرة وتكريماً.وعقد له على حجابته وجمع عساكره وجهز آلته وأزاح علل تابعه ورحل من قسطنطينة سنة ثلاث وخمسين من صفر وجهز أبو محمد بن تافراكين سلطانه أبا إسحاق بما يحتاج إليه من العساكر والآلة وجعل على حربه ابنه أبا عبد الله محمد بن نزار من طبقة الفقهاء ومشيخة الكتاب كان يعلم أبناء السلطان الكتاب ويقرئهم القرآن كما قدمناه وفصل من تونس في التعبية حتى تراءى الجمعان بمرماجنة وتزاحفوا فاختل مصاف السلطان أبي إسحاق وافترقت جموعه وولوا منهزمين.واتبعهم القوم عشية يومهم ولحق السلطان بحاجبه محمد بن تافراكين بتونس وجاءوا على أثره فنازلوا تونس أياماً وطالت عليها الحرب.ثم امتنعت عليهم وارتحلوا إلى القيروان ثم إلى قفصة وبلغهم أن ملك المغرب الأقصى السلطان أبا عنان بعد استيلائه على المغرب الأوسط زحف إلى التخوم الشرقية وانتهى إلى المرية.وكان صاحب بجاية أبو عبد الله قد خالفهم إلى قسطنطينة بمداخلة أبي محمد بن تافراكين واستجاشته.ونازل جهات قسطنطينة وانتسف زروعها وشن الغارات في بسائطها فبلغه أنه رجع إلى بجاية منكمشاً من زحف بني مرين واعتزم الأمير أبو زيد على مبادرة ثغره ودار إمارته قسطنطينة.ورغب إليه أبو العباس بن مكي من أولاد مهلهل أن يخلف بينهم من إخوانه من يجتمعون إليه ويزاحفون به فولى عليهم أخاه أبا العباس فبايعوه وأقام فيهم هو وشقيقه أبو يحيى زكرياء إلى أن كان من شأنه ما نذكر وانصرف الأمير أبو زيد عند ذلك من قفصه يغذ السير إلى قسطنطينة واحتل بها في جمادى من سنته والله تعالى أعلم. |
الخبر عن وفادة صاحب بجاية على ابني عنان واستيلاؤه عليه وعلى بلده ومطالبته قسطنطينة
كان بين الأمير أبي عبد الله صاحب بجاية وبين الأمير أبي عنان أيام إمارته بتلمسان ونزول الأعياص الحفصيين بندرومة ووجدة أيام أبيه كما ذكرناه اتصال ومخالصة أحكمها بينهما نسب الشباب والملك وسابقة الصهر: فكان للأمير أبي عبد الله من أجل ذلك صاغية إلى بني مرين أوجد بها السبيل على ملكه.ولما مر به السلطان أبو الحسن في أسطوله عند ارتحاله من تونس كما قدمناه أمر أهل سواحله بمنعه الماء والأقوات من سائر جهاتها رعياً للذمة التي اعتقدها مع الأمير أبي عنان في شأنه وجنوحاً إلى تشييد سلطانه.ولما أوقع السلطان أبو عنان ببني عبد الواد سنة ثلاث وخمسين واستولى على المغرب الأوسط ونجا فلهم إلى بجاية أوعز إلى الأمير أبي عبد الله باعتراضهم في جهاته والتقبض عليهم فأجابه إلى ذلك وبعث العيون بالمراصد فعثروا في ضواحي بجاية على محمد ابن سلطانهم أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن وعلى أخيه أبي ثابت الزعيم ابن عبد الرحمن وعلى وزيرهم يحيى بن داود بن مكن فأوثقوهم اعتقالا وبعث بهم إلى ثم جاء على أثرهم فتلقاه بالقبول والتكرمة وأنزله بأحسن نزل.ثم دس إليه من أغراه بالنزول له عن بجاية رغبه فيما عند السلطان إزاء ذلك من التجلة والإدالة منها بمكناسة المغرب والراحة من زبون الجند والبطانة وإخفاقاً مما سواه إن لم يتعهده فأجاب إليه على اليأس والكره وشهد مجلس السلطان في بني مرين بالرغبة في ذلك فأسعف وأسنيت جائزته وأقطعت له مكناسة من أعمال المغرب.ثم انتزعها لأيام قلائل ونقله في جملته إلى المغرب وبعث الأمير أبو عبد الله مولاه فارحاً المستبد كان عليه ليأتيه بأهله وولده وعقد أبو عنان على بجاية لعمر بن علي ابن الوزير من بني واطاس وهم ينتسبون بزعمهم إلى علي بن يوسف أمير لمتونة فاختصه أبو عنان بولايتها لمتات هذا النسب الصنهاجي بينه وبين أهل وطنها منهم.وانصرفوا جميعاً من المرية.ولما احتلوا بجاية تآمر أولياء الدعوة الحفصية بها من صنهاجة والموالي وتمشت رجالاتهم في قتل عمر بن علي الوزير وأشياع بني مرين وتصدى لذلك زعيم صنهاجة منصور بن إبراهيم بن الحاج في رجالات من قومه بإملاء فارح كما زعموا.وغدوا عليه بداره من القصبة فأكب عليه منصور يناجيه فطعنه وطعن آخر منهم القاضي ابن فركان بما كان شيعة لبني مرين.ثم أجهزوا على عمر بن علي ومضى القاضي إلى داره فمات.واتصلت الهيعة بفارح فركب إليها وهتف الهاتف بدعوة صاحب قسطظينة محمد بن أبي زيد وطيروا إليه بالخبر واستحثوه للقدوم.وأقاموا على ذلك أياماً.ثم تآمر الملأ من أهل بجاية في التمسك بدعوة صاحب المغرب خوفاً من بوادره فثاروا بفارح وقتلوه أيام التشريق من سنة ثلاث وبعثوا برأسه إلى السلطان بتلمسان.وتولى كبر ذلك صاحبه من موالي ابن سيد الناس ومحمد ابن الحاجب أبي عبد الله بن سيد الناس ومشيخة البلد واستقدموا العامل بتدلس من بني مرين وهو يحيى بن عمر بن عبد المؤمن من بني ونكاسن فبادر إليهم.وسرح السلطان أبو عنان إليها حاجبه أبا عبد الله محمد بن أبي عمرو في الكتائب فدخلها فاتح سنة أربع وخمسين.وذهبت صنهاجة في كل وجه فلحق كبراؤهم وذوو الفعلة منهم بتونس وتقبض على هلال مولى ابن سيد الناس لما داخلته فيه من الظنة وعلى القاضي محمد بن عمر لما كان شيعة لفارح عرفاء الغوغاء من أهل المدينة وأشخصهم معتقلين إلى المغرب.وصرف نظره إلى يمهيد الوطن واستدعى كبراء العرب وأهل النواحي وأعمال بجاية وقسطنطينة.وفد عليه يوسف بن مزني صاحب الزاب ومشيخة الدواودة فاسترهن أبناءهم على الطاعة وقفل بهم إلى المغرب.واستعمل أبو عنان على بجاية موسى بن إبراهيم اليرنيابي من طبقة الوزراء وبعثه إليها.ولما وفدوا على السلطان جلس لهم جلوساً فخماً ووصلوا إليه ولقاهم تكرمة ومبرة وأوسعهم حباء وإقطاعاً وأنفذ لهم الصكوك والسجلات وأخذ على طاعتهم العهود والمواثيق والرهن وانقلبوا إلى أهلهم.وعقد لحاجبه أبي عمرو على بجاية وأعمالها وعلى حرب قسطنطينة من ورائها ورجعه إليها فدخلها في رجب من سنته.وأوعز السلطان إلى موسى بن إبراهيم بالولاية على سدويكش والنزول ببني ياورار في كتيبة جهزها هنالك لمضايقة قسطنطينة وجباية وطنها وكل ذلك لنظر الحاجب ببجاية وكان بقسطنطينة أبو عمر تاشفين ابن السلطان أبي الحسن معتقلا من لدن واقعة بني مرين بها.وكان موسوساً في عقله معروفاً بالجنون عند قومه.وكان الأمراء بقسطنطينة قد أسنوا جرايته في اعتقاله وأوله من المبرة والحفاوة كفاء نفسه.فلما زحفت كتائب بني مرين إلى بني ياورار آخر عمر بجاية وأذنوا قسطنطينة ومن بها بالحرب والحصار نصب المولى أبو زيد هذا الموسوس أبا عمر ليجأجئ به رجالات بني مرين أهل العسكر ببجاية وبني ياورار وجهز له الآلة وتسامعوا بذلك فنزع إليهم الكثير منهم.وخرج نبيل حاجب الأمير أبي زيد إلى أهل الضاحية من بونة ومن كان على دعوته من سدوبكش والدواودة فجمعهم وزحفوا جميعاً إلى وطن بجاية واتصل الخبر بالحاجب ببجاية فبعث في الدواودة من مشاتيهم بالصحراء فأقبلوا إليه حتى نزلوا التلول.ووفد عليه أبو دينار بن علي بن أحمد واستحثه للحركة على قسطنطينة فاعترض عساكره وأزاح عللهم وخرج من بجاية في ربيع من سنة خمسين فكر أبو عمر ومن معه راجين إلى قسطنطينة.وزحف الحاجب فيمن معه من بني مرين والدواودة وسدويكش ولقيهم نبيل الحاجب بمن معه فكانت عليه الدبرة واكتسحت أموال بونة ورجع ابن أبي عمر بعساكره إلى قسطنطينة فأناخ سبعاً.ثم ارتحل عنها إلى ميلة وعقد يعقوب بن علي بين الفريقين صلحاً على أن يمكنوه من أبي عمر الموسوس فبعثوا به إلى أخيه السلطان أبي عنان فأنزله ببعض الحجر ورتب عليه الحرس.وسار الحاجب في نواحي أعماله وانتهى إلى المسيلة واقتضى مغارمها ثم انكفأ راجعاً إلى بجاية وهلك فاتح ست وخمسين.وعقد السلطان على بجاية وأعمالها بعده لوزيره عبد الله بن علي بن سعيد من بني يابان وسرحه إليها فدخلها وزحف إلى قسطنطينة فحاصرها وامتنعت عليه فرجع إلى بجاية.ثم زحف من العام المقبل سنة سبع وخمسين كذلك ونصب عليها المجانيق فامتنعت عليه ورجف في معسكره بموت السلطان فانفضوا وأحرق مجانيقه.ورجع إلى بجاية وجمر الكتائب ببني ياورار لنظر موسى بن إبراهيم اليرنياني عامل سدويكش إلى أن كان من الإيقاع به وبعسكره ما نذكره إن شاء الله تعالى.والله أعلم. الخبر عن حادثة طرابلس واستيلاء النصارى عليها ثم رجوعها إلى ابن مكي كانت طرابلس هذه ثغراً منذ الدول القديمة وكانت لهم عناية بحمايتها لما كان وضعها في البسيط وكانت ضواحيها قفراً من القبائل فكان النصارى أهل صقلية كثيرا ما يحدثون أنفسهم بملكها.وكان ميخائيل الأنطاكي صاحب أسطول رجار قد تملكها من أيدي بني خيزرون من مغراوة آخر دولتهم ودولة صنهاجة كما ذكرنا.ثم رجعها ابن مطروح ودخلت في دعوة الموحدين ومرت عليها الأيام إلى أن استبد بها ابن ثابت ووليها من بعده ابنه في أعوام خمسين وسبعمائة منقطعاً عن الحضرة مقيماً رسم الدعوة.وكان تجار الجنويين يترددون إليها فاطلعوا على عوراتها وائتمروا في غزوها واتعدوا لمرساها فوافوه سنة خمس وخمسين وانتشروا بالبلد في حاجاتهم.ثم بيتوها ذات ليلة فصعدوا أسوارها وملكوها عليهم.وهتف هاتفهم بالحرب وقد لبسوا السلاح قارتاعوا وهبوا من مضاجعهم.فلما رأوهم بالأسوار لم يكن همهم إلا النجاة بأنفسهم.ونجا ثابت بن عمر مقدمهم إلى حلة الجواري أعراب وطنها من دباب إحدى بطون بني سليم فقتل لدم كان أصابه منهم.ولحق أخوته بالإسكندرية واستباحها النصارى.واحتملوا في سفنهم ما وجدوا بها من الخرثى والمتاع والعقائل والأسرى وأقاموا بها.وداخلهم أبو العباس بن مكي صاحب قابس في فدائها فاشترطوا عليه خمسين ألفاً من الذهب العين فبعث فيها لملك المغرب السلطان أبي عنان يطرفه بمثبوتها.ثم تعجلوا عليه فجمع ما عنده واستوهب ما بقي من أهل قابس والحامة وبلاد الجريد فجمعوها له حسبة ورغبة في الخبر.وأمكنه النصارى من طرابلس فملكها واستولى عليها وأزال ما دنسها من وضر الكفر.وبعث السلطان أبو عنان بالمال إليه وأن يرد على الناس ما أعطوه وينفرد بمثوبتها وذكرها فامتنعوا إلا قليلا منهم ووضع المال عند ابن مكي لذلك ولم يزل ابن مكي أميراً عليها إلى أن هلك كما نذكره في أخباره إن شاء الله تعالى. الخبر عن بيعة السلطان أبي العباس أمير المؤمنين ومفتتح أمره السعيد بقسطنطينة كان الأمير أبو زيد قد ولي الأمر من بعد أبيه الأمير أبي عبد الله بولاية جده الخلية أبي بكر وكان أخوته جميعاً في جملته ومنهم السلطان أبو العباس أمير المؤمنين لهذا العهد والمفرد بالدعوة الحفصية.وكان الناس من لدن مهلك أبيهم يرون أن الوارثة لهم وأن الأمر فيهم حتى لقد يحكى عن شيخ وقته الولي أبي هادي المشهور الذكر وكان من أهل المكاشفة أنه قال ذات يوم وقد جاءوا لزيارته بأجمعهم على طريقتهم وسنن أسلافهم في التبرك بالأولياء فدعا لهم الشيخ ما شاء ثم قال: البركة إن شاء الله في هذه العشر وأشار إلى الأخوة مجتمعين.وكان الحزى والمنجمون أيضاً يخبرون بمثلها ويحومون بظنونهم على أبي العباس من بينهم لما يتفرسون فيه من الشواهد والمخايل.فلما كان من منازلة أخيه أبي زيد لتونس سنة ثلاث وخمسين ما قدمناه ثم ارتحل عنها إلى قفصة وأراد الرجوع إلى قسطنطينة للإرجاف بشأن السلطان أبي عنان وأنه زحف إلى آخر عمله من تخوم بجاية رغب حينئذ إليه أولاد مهلهل أولياؤه من العرب وشيعته وحاجبه أبو العباس بن مكي صاحب عملي قابس وجربة أن يستعمل عليهم من أخوته من يقيم معه لمعاودة تونس بالحصار فسرح أخاه مولانا أبا العباس فتخلف معهم في ذلك وفي جملته شقيقه أبو يحيى فأقاما بقابس.وكان صاحب طرابلس محمد بن ثابت قد بعث أسطوله لحصار جربة فدخل الأمير أبو العباس بمن معه إلى الجزيرة وخاضوا إليها البحر فأجفل عسكر ابن ثابت وأفرجوا عن الحصن.ثم رجع السلطان إلى قابس وزحف العرب أولاد مهلهل معه إلى تونس وحاصروها أياماً فامتنعت عليهم.ورجع إلى أعمال الجريد وأوفد أخاه أبا يحيى زكرياء على السلطان صريخاً سنة خمس وخمسين فلقاه مبرة ورحباً وأسنى جائزته وأحسن وعده وانكفأ راجعاً عنه إلى وطنه.ومر بالحاجب ابن أبي عمرو عند إفراجه عن قسطنطينة ولحق بأخيه بمكانه من قاصية إفريقية واتصلت أيديهما على طلب حقهما.وفي خلال ذلك فسد ما بين أبي محمد بن تافراكين صاحب الأمر بتونس وبين خالد بن حمزة كبير أولاد أبي الليل فعدل عنه إلى أقتاله أولاد مهلهل واستدعاهم للمظاهرة فأقبلوا عليه.وتحيز خالد إلى السلطان أبي العباس وزحفوا إلى تونس فنازلوها سنة ست وخمسين وامتنعت عليهم فأفرجوا عنها واستقدمه أخوه أبو زيد إثر ذلك لينصره من عساكر بني مرين عندما تكاثفوا عليه وضاق به الحصار فأجابه وقدم عليه بخالد واستخلف على قسطنطينة أخاه أبا العباس فدخلها ونزل بقصور الملك منها وأقام بها مدة وعساكر بني مرين قد ملأت عليه الضاحية فدعا الأولياء إلى الاستبداد وأنه أبلغ في المدافعة والحماية لما كانوا يتوقعون من زحف العساكر إليهم من بجاية فأجاب وبويع سنة خمس وخمسين وانعقد أمره.وزحف عبد الله بن علي صاحب بجاية إلى قسطنطينة في سنته وفي سنة سبع بعدها فحاصرها ونصب المجانيق.ثم أجفل آخراً للإرجاف كما ذكرناه.وتنفس مخنق الحصار عن قسطنطينة وكان الأمير أبو زيد أخوه لما ذهب مع خالد إلى تونس ونازلها امتنعت عليه ورجع وقد استبد أخوه بأمر قسطنطينة فعدل إلى بونة وراسل أبا محمد بن تافراكين في سكنى الحضرة والنزول لهم عن بونة فأجابه ونزل عنها الأمير أبو زيد لعمه السلطان أبي إسحاق وتحول إلى تونس فأوسعوا له المنازل وأسنوا الجرايات والجوائز وأقام في كفالة عمه إلى أن كان من أمره ما نذكره. الخبر عن واقعة موسى بن إبراهيم واستيلاء أبي عنان بعدها على قسطنطينة وما تخلل ذلك من الأحداث لما استبد السلطان أبو العباس بالأمر وزحفت إليه عساكر بجاية وبني مرين فأحسن دفاعها عن بلده.وتبين لأهل الضاحية مخايل الظهور فيه فداخله رجالات من سدويكش من أولاد المهدي بن يوسف في غزو موسى بن إبراهيم وكتائبة المجمرة ببني ياورار ودعوا إلى ذلك ميمون بن علي بن أحمد وكان منحرفاً عن أخيه يعقوب ظهير بني مرين ومناصحهم فأجاب.وسرح السلطان أخاه أبا يحيى زكرياء معهم بمن في جملته من العساكر وصبحوهم في غارة شعواء فلما شارفوهم ركبوا إليهم فتقدموا قليلا ثم أحجموا واختل مصافهم وأحيط بهم وأثخن قائد العساكر موسى بن إبراهيم بالجراحة واستلحم بنوه زيان وأبو القاسم ومن إليهم وكانوا أسود هياج وفرسان ملحمة في آخرين من أمثالهم وتتبعوا بالقتل والنهب إلى أن استبيحوا ونجا فلهم إلى بجاية ولحقوا بالسلطان أبي عنان.ولما بلغه الخبر قام في ركائبه وقعد وفتح ديوان العطاء وبعث وزراءه للحشد في الجهات.واعترض الجنود وأزاح العلل وشكى له موسى بن إبراهيم بقعود عبد الله بن علي صاحب بجاية عن نصره فسخطه ونكبه وعقد مكانه ليحيى بن ميمون بن مصمود وتلوم بعده أشهراً في تجهيز العساكر وبعث السلطان أبو العباس أخاه أبا يحيى إلى تونس صريخاً لعمه السلطان أبي إسحاق فأعجله الأمر عن الإياب إليه وارتحل أبو عنان في عساكره.ثم بعث في مقدمته وزيره فارس بن ميمون بن ودرار وزحف على أثره في ربيع سنة ثمان وخمسين وأغذ السير إلى قسطنطينة وقد نازلها وزيره ابن ودرار قبله.فلما نزل بساحتها وقد طبق الأرض الفضاء بجيوشه وعساكره وجم أهل البلد وأدركهم الدهش فانفضوا وتسللوا إليه وتحيز السلطان أبو العباس إلى القصبة فامتنع بها حتى توثق لنفسه بالعهد.ثم نزل إليه فكفاه تكرمة ورحباً وبنى له الفساطيط في جواره.ثم بدا له في أيام قلائل فنقض عهده وأركبه السفن إلى المغرب وأنزله بسبتة.ورئت عليه الحرس بعث خلال ذلك إلى بونة فدخلت في طاعته وفر عنها عمال الحضرة.ولما استولى عقد على قسطنطينة لمنصور بن خلوف شيخ بني يابان من قبائل بني مرين.ثم بعث رسله إلى أبي محمد بن تافراكين في الأخذ بطاعته والنزول عن تونس فردهم وأخرج سلطانه المولى أبا إسحاق مع أولاد أبي الليل ومن إليهم من العرب بعد أن جهز له العساكر وما يصلحه من الآلة والجند وأقام هو بتونس وأجمع أبو عنان النهوض إليه ووفد إليه أولاد مهلهل يستحثون لذلك فسرح معهم عسكراً في البر لنظر يحيى بن رحو بن تاشفين بن معطي كبير تيربيعين من قبائل بني مرين وصاحب الشورى في مجلسه وسرح عسكراً آخراً في أسطول لنظر محمد بن يوسف المعروف بالأبكم من بني الأحمر من الملوك بالأندلس لهذا العهد فسبق الأسطول وصبحوا تونس وقاتلوها يوماً أو بعض يوم.وأتيح لهم الظهور فخرج عنها أبو محمد بن تافراكين ولحق بالمهدية واستولت عساكر بني مرين على تونس في رمضان سنة ثمان وخمسين ولحق يحيى بن رحو بعسكره فدخل البلد وأمضى فيها أوامر السلطان.ثم دعاه أولاد مهلهل إلى الخروج لمباغتة أولاد أبي الليل وسلطانهم فخرج معهم لذلك وأقام ابن الأحمر وأهل الأسطول بالبلد.وفي خلال ذلك جاهر يعقوب بن علي بالخلاف لما تبين من نكراء السلطان أبي عنان وإرهاف حده للعرب ومطالبتهم بالرهن وقبض أيديهم عن الأتاوات ومسح أعطافه بالمدارات فلم يقبلها يعقوب بالرمل وأتبعه السلطان فأعجزه فعدا على قصوره ومنازله بالتل والصحراء فخربها وانتسفها.ثم رجع إلى قسطنطينة وارتحل منها يريد إفريقية وقد نهض المولى أبو إسحاق بمن معه من العرب للقائه وانتهوا إلى فحص سبتة.ثم تمشت رجالات بني مرين وائتمروا في الرجوع عنه حذراً أن يصيبهم بإفريقية ما أصابهم من قبل فانفضوا متسللين إلى المغرب.ولما خف المعسكر من أهله أقصر عن القدوم على إفريقية فرجع إلى المغرب بمن بقي معه واتبع العرب آثاره وبلغ الخبر إلى أبي محمد بن تافراكين بمكان منجاته من المهدية فصار إلى تونس.ولما أطل عليها ثار أهل البلد بمن كان عندهم من عسكر بني مرين وعاملهم فنجوا إلى الأساطيل ودخل أبو محمد بن تافراكين إلى الحضرة وأعاد ما طمس من الدولة.ولحق به السلطان أبو إسحاق بعد أن تقدم الأمير أبو زيد في عسكر الجنود والعرب لاتباع آثار بني مرين ومنازلة قسطنطينة فأتبعه إلى تخوم عملهم ورجع أبو زيد إلى قسطنطينة وقاتلها أياماً فامتنعت عليه فانكفأ راجعاً إلى الحضرة.ولم يزل مقيماً بها إلى أن هلك عفا الله عنه.وكان أخوه أبو يحيى زكرياء قد لحق بتونس من قبل صريخاً كما قلناه فلما بلغهم أن قسطنطينة قد أحيط بها تمسكوا به فلحق به الفل من مواليهم وصنائعهم فكانوا معه إلى أن يسر الله أسباب الخير والسعادة للمسلمين وأعاد السلطان أبا العباس إلى الأمر من بعد مهلك أبي عنان كما نذكر ومد إيالته على الخلق فطلع على الرعايا بالعدل والأمان وشمول العافية والإحسان وكف أيدي العدوان.ورتع الناس من دولته في ظل ظليل ومرعى جميل كما نذكره بعد إن شاء الله. |
الخبر عن انتقاض الأمير أبي يحيى زكريا بالمهدية
ودخوله في دعوة أبي عنان ثم نزوله عنها إلى الطاعة وتصاريف ذلك كان الحاجب أبو محمد عند رجوعه إلى الحضرة صرف عنايته إلى تحصين المهدية يعدها للدولة وزراً من حادث ما يتوقعه من المغرب وأهله فشيد من أسوارها وشحن بالأقوات والأسلحة مخازنها ومستودعاتها وعقد عليها للأمير زكرياء أخي السلطان أبي إسحاق وكان في كفالته وأنزله بها.وبعث على حجابته أحمد بن خلف من أوليائه وذويه مستبداً عليه فقام على ذلك حولا أو بعضها.ثم ضجر الأمير أبو يحيى زكرياء من الاستبداد عليه واستنكف من حجره في سلطانه فبيت أحمد بن خلف فقتله وبعث عن أبي العباس أحمد بن مكي صاحب جربة وقابس ليقيم له رسم الحجابة بما كان مناوئاً لأبي محمد بن تافراكين فوصل إليه وطيروا بالخبر إلى السلطان أبي عنان صاحب المغرب وبعثوا إليه ببيعتهم واستحثوه لصريخهم.واضطراب أمرهم وسرح أبو محمد بن تافراكين إليها العسكر فأجفلوا أمامه ولحق المولى أبو يحيى زكرياء بقابس واستولى عليها العسكر واستعمل عليها أبو محمد بن تافراكين محمد بن الجكجاك من قرابة ابن ثابت اصطنعه عندما وقعت الحادثة على طرابلس ولحق به فاستعمله على المهدية.ولما وصل الخبر إلى أبي عنان بشأن المهدية جهز إليها الأسطول وشحنه بالمقاتلة والرجل وعين الوالي والخاصة فألفوها قد رجعت إلى إيالة الحضرة ووصل إليها ابن الجكجاك وقام بها وحسن غناؤه فيها إلى أن كان من أمره ما نذكر.وأقام الأمير زكرياء بقابس وأجلب به أبو العباس بن مكي على تونس.ثم بعثوه بالدواودة ونزل على يعقوب بن علي وأصهر إليه في ابنة أخيه سعيد فعقد له عليها.ولما استولى أخوه أبو إسحاق على بجاية استعمله على سدويكش بعض الأعوام ولم يزل بين الدواودة إلى أن هلك سنة ست وسبعين كما نذكره بعد. الخبر عن استيلاء السلطان أبي إسحاق على بجاية وإعادة الدعوة الحفصية إليها لما رجع السلطان أبو عنان من قسطنطينة إلى المغرب أراح بسبتة وسرح عساكره من العام المقبل إلى إفريقية لنظر وزيره سليمان بن داود فسار في نواحي قسطنطينة ومعه ميمون بن علي بن أحمد أديل به من يعقوب على قومه من الدواودة وعثمان بن يوسف بن سليمان شيخ أولاد سباع منهم.وحضر معه يوسف بن مزني عامل الزاب أوعز إليه السلطان بذلك فدوخ الجهات وانتهى إلى آخر وطن بونة واقتضى المغارم.ثم انكفأ راجعاً إلى المغرب.وهلك السلطان أبو عنان إثر قفوله سنة تسع وخمسين واضطرب أمر المغرب.ثم استقام على طاعة أخيه السلطان أبي سالم كما نذكره وكان أهل بجاية قد نقموا على عاملهم يحيى بن ميمون من بطانة السلطان أبي عنان سوء ملكته وشدة سطوته وعسفه فداخلوا أبا محمد بن تافراكين على البعد في التوثب به فجهز إليهم السلطان أبا إسحاق بما يحتاج إليه من العساكر والآلة ونهض من تونس ومعه ابنه أبو عبد الله على العساكر.وتلقاهم يعقوب بن علي وظاهرهم على أمرهم وسار أخوه أبو دينار في جملتهم.ولما أطلوا على بجاية ثارت الغوغاء بيحيى بن ميمون العامل كان عليهم منذ عهد السلطان أبي عنان فألقى بيده وتقبض عليه وعلى من كان من قومه وأركبوا السفين إلى الحضرة وأودعهم أبو محمد بن تافراكين سجونه تحت كرامة وجراية إلى أن من عليهم من بعد ذلك وأطلقهم إلى المغرب.ودخل السلطان أبو إسحاق إلى بجاية سنة إحدى وستين واستبد بها بعض الاستبداد وحاجبه وكافله أبو محمد يدبر أمره من الحضرة.ثم استقدم ابنه ونصب لوزارة السلطان أنجا محمد عبد الواحد بن محمد من أكمازير من مشيخة الموحدين فكان يقيم لهم رسم الحجابة.وقام بأمر الرجل بالبلد من الغوغاء علي بن صالح من زعانفة بجاية وأوغادها التف عليه الشرار والدعار وأصبحت له بهم شوكه كان له بها تغلب على الدولة إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم. الخبر عن فتح جربة ودخولها في دعوة السلطان أبي إسحاق صاحب الحضرة هذه الجزيرة جربة من جزر هذا البحر الذي يمر قريباً من قابس وإلى الشرق عنها قليلا طولها من المغرب إلى المشرق ستون ميلا وعرضها من ناحية المغرب عشرون ميلا.ومن ناحية الشرق خمسة عشر ميلا.وبينها وبين قرقنة في ناحية المغرب ستون ميلا وشجرها التين والنخل والزيتون والعنب واختصت بالتفاح وعمل الصوف للباسهم يتخذون منه الأكسية المعلمة للاشتمال وغير المعلمة للباس.وتجلب منها إلى الأقطار فينتقيه الناس للباسهم.وأهلها من البربر من كتامة وفيهم إلى الآن سدويكش وصدغيان من بطونهم وفيهم أيضاً من نفزة وهوارة وسائر شعوب البربر.وكانوا قديماً على رأي الخوارج وبقي بها إلى الآن فرقتان منهم: الوهبية وهم بالناحية الغربية ورياستهم ببني سمومن والنكارة وهم بالناحية الشرقية.وجربة فاصلة بينهما.والظهور والرياسة على الكل ببني سمومن.وكان فتحها أول الإسلام على يد رويفع بن ثابت بن سكن بن عدي بن حارثة من بني ملك بن النخار من الأنصار من جند مصر ولاه معاوية على طرابلس سنة ست وأربعين فغزا إفريقية وفتح جربة سنة سبع بعدها وشهد الفتح حنش بن عبد الله الصنعاني ورجع إلى برقة فمات بها.ولم تزل في ملكة المسلمين إلى أن دخل دين الخوارج إلى البربر فأخذوا به.ولما كان شأن أبي يزيد سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة فأخذوا بدعوته بعد أن دخلوها عنوة وقتل مقدمها يومئذ ابن كلدين وصلبه.ثم استردها المنصور إسماعيل وقتل أصحاب أبي يزيد.ولما غلبت العرب صنهاجة على الضواحي وصارت لهم أخذ أهل جربة في إنشاء الأساطيل وغزو السواحل.ثم غزاهم علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس سنة تسع وخمسمائة بأساطيله إلى أن انقادوا وضمنوا قطع الفساد وصلح الحال.ثم تغلب النصارى عليها سنة تسع وعشرين وخمسمائة عند تغلبهم على سواحل إفريقية.ثم ثار أهلها عليهم وأخرجوهم سنة ثمان وأربعين.ثم تغلبوا عليها ثانية وسبوا أهلها واستعملوا على الرعية وأهل الفلح.ثم عادت للمسلمين ولم تزل مترددة بين المسلمين والنصارى إلى أن غلب عليها الموحدون أيام عبد المؤمن واستقام أمرها إلى أن استبد بنو أبي حفص بإفريقية.ثم افترق أمرهم بعد حين واستبد المولى أبو زكرياء ابن السلطان أبي إسحاق بالناحية الغربية وشغل صاحب الحضرة بشأنه كما قدمناه فتغلب على هذه الجزيرة أهل صقلية سنة ثمان وثمانين وستمائة وبنوا بها حصن القشتيل مرثع الشكل في كل ركن منه برج وبين كل ركنين برج.ويدور به حفير وسوران.وأهم المسلمين شأنها ولم تزل عساكر الحضرة تتردد إليها كما تقدم إلى أن كان فتحها أيام السلطان أبي بكر على يد مخلوف بن الكماد من بطانته سنة ثمان وثلاثين واستضافها ابن مكي صاحب قابس إلى عمله فأضافها إليه وعقد له عليها فصارت من عمله سائر أيام السلطان ومن بعده.واتصلت الفتنة بين أبي محمد بن تافراكين وبين ابن مكي وبعث الحاجب أبو محمد بن تافراكين عن ابنه أبي عبد الله وكان في جملة السلطان ببجاية كما قلناه.ولما وصل إليه سرحه في العساكر لحصار جربة وكان أهلها قد نقموا على ابن مكي سيرته فيهم ودسوا إلى أبي محمد بن تافراكين بذلك فسرح إليه ابنه في العساكر سنة ثلاث وستين.وكان أحمد بن مكي غائباً بطرابلس قد نزلها منذ ملكها من أيدي النصارى وجعلها داراً لإمارته فنهض العسكر من الحضرة لنظر أبي عبد الله ابن الحاجب أبي محمد ونهض الأسطول في البحر فنزلوا بالجزيرة وضايقوا القشتيل بالحصار إلى أن غلبوا عليه وملكوه وأقاموا به دعوة صاحب الحضرة.واستعمل أبو عبد الله بن تافراكين كاتبة محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون كان من صنائع الدولة منذ العهد وكانت لأبيه قرابة من ابن عبد العزيز الحاجب يرقى بها إلى ولاية الأشغال بتونس مناهضاً لأبي القاسم بن طاهر الذي كان يتولاها يومئذ فكان رديفه عليها إلى أن هلك ابن طاهر فاستبد هو بها منذ أيام الحاجب أبي محمد واتصل ابنه محمد هذا بخدمة ابن الحاجب واختص بكتابته إلى أن استعمله على جربة عند استيلائه عليها هذه السنة وانكفأ راجعاً إلى الحضرة فلم يزل محمد بن أبي العيون والياً عليها.ثم استبد بها على السلطان بعد مهلك الحاجب وفرار ابنه من السلطان إلى أن غلبه عليها السلطان أبو العباس سنة أربع وسبعين كما نذكره. الخبر عن عودة الأمراء من المغرب واستيلاء السلطان أبي العباس على قسطنطينة لما هلك السلطان أبو عنان قام بأمره من بعده وزيره الحسن بن عمر ونصب ابنه محمد السعيد للأمر كما نذكره في أخباره.وكان يضطغن للأمير أبي عبد الله صاحب بجاية فتقبض عليه لأول أمره واعتقله حذراً من وثوبه على عمله فيما زعم.وكان السلطان أبو العباس بسبتة منذ أنزله السلطان أو عنان بها ورتب عليه الحرس كما ذكرنا فلما انتزى على الملك منصور بن سليمان من أعياص ملكهم ونازل البلد الجديد دار الملك ودخل في طاعته سائر الممالك والأعمال بعث في السلطان أبي العباس واستدعاه من سبتة فنهض إليه.وانتهى في طريقه إلى طنجة.ووافق ذلك إجازة السلطان أبي سالم من الأندلس لطلب ملكه.وكان أول ما استولى عليه من أعمال المغرب طنجة وسبتة فاتصل به السلطان أبو العباس وظاهره على أمره إلى أن نزع إليه قبيلة بنو مرين عن منصور بن سليمان المنتزي على ملكهم فاستوسق أمره واستتب سلطانه به ودخل فاس.وسرح الأمير أبا عبد الله من اعتقال الحسن بن عمر كما قدمناه.ورعى للسلطان أبي العباس ذمة سوابقه القديمة والحادثة فرفع مجلسه وأسنى جرايته ووعده بالمظاهرة على أمره واستقروا جميعاً في إيالته إلى أن كان من تغلب السلطان أبي سالم على تلمسان والمغرب الأوسط ما نذكره في أخبارهم.واتصل به ثورة أهل بجاية بعاملهم يحيى بن ميمون ورجالات قبيلهم فامتعض لذلك.وحين قفل إلى المغرب نفض يده من الأعمال الشرقية.ونزل للسلطان أبي العباس عن قسطنطينة دار إمارته ومثوى عزه ومنبت ملكه فأوعز إلى عاملها منصور بن خلوف بالنزول له عنها وسرحه إليها وسرح معه الأمير أبا عبد الله ابن عمه لطلب حقه في بجاية والأجلاب على عمه السلطان أبي إسحاق جزاء بما نال من بني مرين عند افتتاحها من المعرة.وارتحلوا من تلمسان في جمادى من سنة إحدى وستين وأغذوا السير إلى مواطنهم.فأما السلطان أبو العباس فوقف منصور بن خلوف عامل البلد على خطاب سلطانه بالنزول عن قسطنطينة فنزل وأسلمها إليه وأمكنه منها فدخلها شهر رمضان سنة إحدى وستين واقتعد سرير ملكه منها وتباشرت بعودته مقاصر قصورها فكانت مبدءاً لسلطانه ومظهراً لسعادته ومطلعاً لدولته على ما نذكر بعد.وأما الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية فلحق بأول وطنها واجتمع إليه أولاد سباع أهل ضاحيتها وقفرها من الدواودة.ثم زحف إليها فنازلها أياماً وامتنعت عليه فرحل عنها إلى بني ياورار واستخدم أولاد محمد بن يوسف والعزيزيين أهل ضاحيتها من سدويكش.ثم نزعوا عنه إلى خدمة عمه ببجاية فخرج إلى القفر مع الدواودة إلى أن كان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى. |
الخبر عن وصول الأخ الأمير أبي يحيي زكرياء من تونس وافتتاحه بونة واستيلائه عليها
كان الأمير أبو يحيى زكريا منذ بعثه أخوه أبو العباس إلى عمهما السلطان أبي إسحاق صريخاً لهم لم يزل مقيماً بتونس وبلغه استيلاء السلطان أبي عنان على قسطنطينة فخشي الحاجب أبو محمد بن تافراكين بادرته وتوقع زحفه إليه وغلبه إياه على الأمر.ورأى أن يحصر جناحه في أخيه ويتوثق به فاعتقله بالقصبة تحت كرامة ورعي.وبعث فيه السلطان أبو الحسن بعد مراوضة في السلم فأطلقه وانعقد بينهما السلم.ولما وصل الأمير أبو يحيى إلى أخيه بقسطنطينة عقد له على العساكر وزحف إلى بونة فملكها سنة اثنتين وستين وعقد له عليها وأنزله بها مع العساكر وأصارها تخماً لعمله واستمرت حالها على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن استيلاء الأمير أبي عبد الله على بجاية ثم على تدلس بعدها لما قدم السلطان أبو عبد الله من المغرب ونازل بجاية فامتنعت عليه خرج إلى أحياء العرب كما قدمناه ولزم صحابته أولاد يحيى بن علي بن سباع فغربوا في الوفاء بها.وأقام بين ظهرانيهم وفي حللهم متقلباً في طلب بجاية برحلة الشتاء والصيف وتكفلوا نفقة عياله ومؤنة حشمه وأنزلوه ببلد المسيلة من أوطانهم وتجافوا له عن جبايتهم وأقام على ذلك سنين خمساً ينازل بجاية في كل سنة منها مراراً.وتحول في السنة الخامسة عنهم إلى أولاد علي بن أحمد ونزل على يعقوب بن علي فأسكنه بمقرة من بلاده إلى أن بدا لعمه المولى أبي إسحاق رأيه في اللحاق بتونس لما توقع من مهلك حاجبه وكافله أبي محمد بن تافراكين أسره إليه بعض الحزى فحذر مغبته ووقع لذلك في نفوس أهل بجاية انحراف عنه ومرج أمرهم وراسلوا أميرهم الأقدم أبا عبد الله من مكانه بمقرة.وظاهره على ذلك يعقوب بن علي وأخذ له العهد على رجالات سدويكش أهل الضاحية وارتحلوا معه إلى بجاية ونازلها أياماً.ثم استيقن الغوغاء اعتزام سلطانهم على التقويض عنهم وسيموا ملكة علي بن صالح الذي كان عريفاً عليهم فثاروا به ونبذوا عهده وانفضوا من حوله إلى الأمير أبي عبد الله بالرسة من ساحة البلد.ثم قادوا إليه عمه أبا إسحاق فمن عليه وخلى سبيله إلى حضرته فلحق بها واستولى أبو عبد الله على بجاية محل إمارته في رمضان سنة خمس وستين على علي بن صالح ومن معه من عرفاء الغوغاء أهل الفتنة فاستصفى أموالهم ثم أمضى حكم الله في قتلهم.ثم نهض إلى تدلس لشهرين من ملكه بجاية فغلب عليها عمر بن موسى عامل بني عبد الواد ومن أعياص قبيلهم وتملكها في آخر سنة خمس.وبعث عني من الأندلس كنت مقيماً بها نزيلا عند السلطان أبي عبد الله بن أبي الحجاج بن الأحمر في سبيل اغتراب ومطاوعة تقلب منذ مهلك السلطان أبي سالم الجاذب بضبعي إلى تنويهه والراقي بي في خطط كتابته من ترسيل وتوقيع ونظر في المظالم وغيرها.فلما استدعاني هذا الأمير أبو عبد الله بادرت إلى امتثاله " ولو شاء الله ما فعلوه ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير " فأجزت البحر شهر جمادى من سنة ست وقلدني حجابته ودفع إلي أمور مملكته وقمت في ذلك المقام المحمود إلى أن أذن الله بانقراض أمره وانقطاع دولته ولله الخلق والأمر وبيده تصاريف الأمور. الخبر عن مهلك الحاجب أبي محمد بن تافراكين واستبداد سلطانه من بعده كان السلطان أبو إسحاق آخر دولته ببجاية قد تحين مهلك حاجبه المستبد عليه أبي محمد بن تافراكين لما كان أهل صناعة التنجيم يحدثونه بذلك فأجمع الرحلة إليها وانفض عنه أهل بجاية إلى ابن أخيه كما قدمناه.واستولى عليه ثم أطلقه إلى حضرته فلحق بها في رمضان سنة خمس وستين.وتلقاه أبو محمد بن تافراكين وراءه مرهف الحد للاستبداد الذي لفه ببجاية فكايله بصاع الوفاق وصارفه نقد المصانعة وازدلف بأنواع القربات.وقاد إليه الجنائب ومنحه من الذخائر والأموال وتجافى له عن النظر في الجباية.ثم أصهر إليه السلطان في كريمته فعقد له عليها وأعرس السلطان بها.ثم كان مهلكه عقب ذلك سنة ست وستين فوجم السلطان لنعيه وشهد جنازته حتى وضع بملحده من المدرسة التي اختطها لقراءة العلم إزاء داره جوفي المدينة.وقام على قبره باكياً وحاشيته يتناولون التراب حثياً على جدثه فغرب في الوفاء معه بما تحدث به الناس واستبد من بعده بأمره وأقام سلطانه لنفسه.وكان أبو عبد الله الحاجب ابن أبي محمد غائباً عن الحضرة.خرج منها بالعساكر للجباية والتمهيد فلما بلغه خبر مهلك أبيه داخلته الظنة وأوجس الخيفة فصرف العسكر إلى الحضرة وارتحل مع حكيم من بني سليم وعرض نفسه على معاقل إفريقية إلى كان يتظنن أنها خالصة لهم.فصلى محمد بن أبي العيون كاتبه عن جربة ومحمد بن الجكجاك صنيعتهم وبطانتهم عن المهدية.وبعث إليه السلطان بما رضيه من الأمان فأصحب بعد النفور وبادر إلى الحضرة فتلقاه السلطان بالبر والترحيب وقلده حجابته وأنزله على مراتب العز والتنويه.ونكر هو مباشرة السلطان للناس ورفعه للححاب ولم يرضه لما ألف من الاستبداد منذ عهد أبيه فأظلم الجو بينه وبين السلطان ودبت عقارب السعايه لمهاده الوثير فتنكر وخرج من تونس ولحق بقسطنطينة ونزل بها على السلطان أبي العباس مرغباً له في ملك تونس ومستحثاً فأنزله خير نزل ووعده بالنهوض معه إلى إفريقية بعد الفراغ من أمر بجاية لما كان بينه وبين ابن عمه صاحبها من الفتنة كما نذكره بعد.واستبد السلطان أبو إسحاق بعد مفر ابن تافراكين عنه ونظر في أعطاف ملكه وعقد على حجابته لأحمد بن إبراهيم اليالفي مصطنع الحاجب أبي محمد من طبقة العمال وعلى العساكر والحرب لمولاه منصور سريحه من المعلوجي ورفع الحاجب بينه وبين رجال دولته وصنائع ملكه حتى باشر جباة الخراج وعرفاء الحشم وأوصلهم إلى نفسه وألغى الوسائط بينهم وبينه إلى حين مهلكه كما نذكر ذلك إن شاء الله تعالى والله أعلم. الخبر عن استيلاء السلطان أبي العباس على بجاية ومهلك صاحبها ابن عمه لما ملك الأمير أبو عبد الله بجاية واستقل بإمارتها تنكر للرعية وساءت سيرته فيهم بإرهاف الحد للكافة وإسخاط الخاصة فنغلت الصدور ومرضت القلوب واستحكمت النفرة وتوجهت الصاغية إلى ابن عمه السلطان أبي العباس بقسطنطينة لما كان أسوس منه وأغلب للذاته وأقوم على سلطانه.وكانت بينهم فتنة وحروب جر بها المنافسة في تخوم العمالتين منذ عهد الآباء.وكان السلطان أبو العباس أيام نزوله على السلطان أبي سالم محمود السيرة والخلال عنده مستقيم الطريقة في مثوى اغترابه.وربما كان ينقم على ابن عمه هذا بعض النزعات المعرضة لصاحبها للملامة فيستثقل نصيحته.ونغل بذلك ضميره فلما استولى على بجاية عاد إلى الفتنة فشبها وشمر عزائمه لها فكان مغلباً فيها.واعتلق منه يعقوب بن علي بذمة في المظاهرة على السلطان أبي العباس فلم يغن عنه وراجع يعقوب سلطانه.ثم جهز هو العساكر من بجاية لمزاحمة تخوم قسطنطية ففضها أبو العباس فنهض إليه ثانية بنفسه في العساكر وتراجع العرب من أولاد سباع بن يحيى وجمع هو أولاد محمد وزحف فيهم وفي عسكر من زناتة والتقى الفريقان بناحية سطيف فاختل مصاف أهل بجاية وانهزموا واتبعهم السلطان أبو العباس إلى تاكرارت وجال في عمله ووطئ نواحي وطنه وقفل إلى بلده.ودخل الأمير أبو عبد الله إلى بجاية وقد استحكمت النفرة بينه وبين أهل بلده فدسوا إلى السلطان أبي العباس بقسطنطينة بالقدوم عليهم فوعدهم من العام القابل وزحف سنة سبع وستين في عساكره وشيعته من الدواودة أولاد محمد وانضوى إليه أولاد سباع شيعة بجاية بالجوار والسابقة القديمة لما نكروا من أحوال سلطانهم.وعسكر الأمير أبو عبد الله بلبزو في جمع قليل من الأولياء وأقام بها يرجو مدافعة ابن عمه بالصلح فبيته السلطان بمعسكره من لبزو وصبحه في غارة شعواء فانفض جمعه وأحيط به وانتهب المعسكر ومر إلى بجاية فأدرك في بعض الطريق وتقبض عليه وقتل قعصاً بالرماح.وأغذ السلطان أبو العباس السير إلى بجاية فأدرك بها صلاة الجمعة تاسع عشر شعبان من سنة سبع وستين وكنت بالبلد مقيماً خرجت إليه في الملأ وتلقاني بالمبرة والتنويه.وأشار إلي بالاصطناع واستوسق له ملك جده الأمير أبي زكريا الأوسط في الثغور العربية وأقمت في خدمته بعض شهر.ثم توجست الخيفة في نفسي وأذنته في الانطلاق فأذن لي تكرماً وفضلا وسعة صدر ورحمة ونزلت على يعقوب بن علي.ثم تحولت عنه إلى بسكرة ونزلت على ابن مزني إلى أن صفا الجو واستقبلت من أمري ما استدبرت لثلاث عشرة سنة من انطلاقي عنه في خبر طويل نقصه من شأني فأذن لي وقدمت عليه فقابلتني وجوه عنايته وأشرقت علي أشعة بخته كما نذكر ذلك من بعد إن شاء الله تعالى. الخبر عن زحف أبي حمو وبني عبد الواد إلى بجاية ونكبتهم عليها وفتح تدلس من أيديهم بعدها كان الأمير أبو عبد الله صاحب بجاية لما اشتدت الفتنة بينه وبين ابن عمه السلطان أبي العباس مع ما كان بينه وبين بنتي عبد الواد من الفتنة عند غلبه إياهم على تدلس تكاءد عن حمل الغداوة من الجانبين وصغى إلى مهادنة بني عبد الواد فنزل لهم عن تدلس وأمكن منها قائد العسكر المحاصر لها.وأوفد رسله على سلطانهم أبي حمو بتلمسان وأصهر إليه أبو حمو في ابنته فعقد له عليها وزفها إليه بجهاز أمثالها.فلما غلبه السلطان أبو العباس على بجاية وهلك في مجال حربه أشاع أبو حمو الامتعاض له لمكان الصهر وجعلها ذريعة إلى الحركة على بجاية.وزحف من تلمسان يجر الشوك والمدد في آلاف من قومه وطبقات العسكر والجند.وتراجع العرب حتى انتهى إلى وطن حمزة فأجفل أمامه أبو الليل بن موسى بن زغلي في قومه بني يزيد وتحصنوا في جبال زواوة المطلة على وطا حمزة.وبعث إليه رسله لاقتضاء طاعته فأوثقهم كتافاً وكان فيهم يحيى حافد أبي محمد صالح نزع من السلطان أبي العباس إلى أبي حمو وكان عيناً على غرات أبي الليل هذا بما بينهما من المربى والجوار في الوطن فجاء في وفد الرسالة عن أبي حمو فتقبض عليهم وعليه فقتله وبعث برأسه إلى بجاية.وامتنع على أبي حمو وعساكره فأجازوا على بجاية ونزل معسكره بساحتها وقاتلها أياماً.وجمع الفعلة على الآلات للحصار.وكان السلطان أبو العباس بالبلد وعسكره مع مولاه بشير بتاكرارت ومعهم أبو زيان بن عثمان بن عبد الرحمن وهو ابن عم أبي حمو من أعياص بيتهم وكان من خبره أنه كان خرج من المغرب كما نذكره في أخباره.ونزل على السلطان أبي إسحاق بالحضرة ورعى له أبو محمد الحاجب حق بيته فأوسع في كرامته.ولما غلب الأمير أبو عبد الله على تدلس بعث إليه من تونس ليوليه عليها ويكون رداء بينه وبين بني حمو ويتفرغ هو للأجلاب على وطن قسطنطينة فبادر إلى الإجابة وخرج من تونس.ومر السلطان أبو العباس بمكانه من قسطنطينة فصده عن سبيله واعتقله عنده مكرماً.فلما غلب على بجاية وبلغه الخبر بزحف أبي حمو أطلقه من اعتقاله ذلك واستبلغ في تكرمته وحبائه ونصبه للملك وجهز له بعض الآلة.وخرج في معسكر مولاه بشير ليجأجئ به بني عبد الواد عن ابن عمه أبي حمو لما سيموا من ملكته وعنفه.وكان زغبة عرب المغرب الأوسط في معسكر أبي حمو وكانوا حذرين مغبة أمره معهم فراسلوا أبا زيان وائتمروا بينهم في الأرجاف بالمعسكر.ثم تحينوا لذلك أن يشب الحرب بين أهل البلد وأهل المعسكر فأجفلوا خامس في الحجة وانفض المعسكر وانتهوا إلى مضائق الطرقات بساح البلد فكظت بزحامهم وتراكموا عليها فهلك الكثير منهم وخففوا من الأثقال والعيال والسلاح والكراع ما لا يحيط به الوصف.وأسلم أبو حمو عياله وأمواله فصارت نهبا واحتلبت حظاياه إلى السلطان فوهبها لابن عمه ونجا أبو حمو بنفسه بعد أن طاح في كظيظ الزحام عن جواده فنزل له وزيره عمران بن موسى عن مركوبه فكان نجاؤه عليه ولحق بالجزائر في الفل.ثم لحق منها بتلمسان واتبع أبو زيان أثره واضطرب المغرب الأوسط كما نذكره في أخباره.وخرج السلطان أبو العباس من بجاية على إثر هذه الواقعة فنازل تدلس وافتتحها وغلب عليها من كان بها من عمال بني عبد الواد وانتظمت الثغور الغربية كلها في ملكه كما كانت في ملك جده الأمير أبي زكرياء الأوسط حين قسم الدعوة الحفصية بها إلى أن كان ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.كان أبو عبد الله ابن الحاجب أبي محمد بن تافراكين لما نزع عن السلطان أبي إسحاق صاحب الحضرة لحق بحلل أولاد مهلهل من العرب ووفدوا جميعاً على السلطان أبي العباس فاتح سنة سبع وستين يستحثونه إلى الحضرة ويرغبونه في ملكها فاعتذر لهم بما كان عليه من الفتنة مع ابن عمه صاحب بجاية.وزحف إليها في حركة الفتح.وصاروا في جملته فلما استكمل فتح بجارة سرح معهم أخاه المولى أبا يحيى زكريا في العساكر فصاروا معه إلى الحضرة وابن تافراكين في جملته فنازلوها أياماً وامتنعت عليهم فأقلعوا على سلم ومهادنة انعقدت بين صاحب الحضرة وبينهم وقفل المولى أبو يحيى بعسكره إلى مكان عمله.ولحق ابن تافراكين بالسلطان فلم يزل في جملته إلى أن كان من فتح تونس ما نذكر. الخبر عن مهلك السلطان أبي إسحاق صاحب الحضرة وولاية ابنه خالد من بعده لم تزل حال السلطان أبي إسحاق بالحضرة على ما ذكرناه ويختلف في الفتنة والمهادنة مع السلطان أبي العباس طوراً بطور واستخلص لدولته منصور أبي حمزة أمير بني كعب يستظهر به على أمره ويستدفع برأيه وشوكته فخلص له سائر أيامه.وعقد سنة تسع وستين لابنه خالد على عسكر لنظر محمد بن رافع من طبقات الجند من مغراوة مستبداً على ابنه.وسرحه مع منصور بن حمزة وقومه وأوعز إليهم بتدويخ ضواحي بونة واكتساح نعمها وجباية ضواحيها فساروا إليها.وسرح الأمير أبو يحيى زكرياء صاحب عسكره مع أهل الضاحية فأغنوا في مدافعتهم وانقلبوا على أعقابهم فكان آخر العهد بظهورهم.ولما رجعوا إلى الحضرة تنكر السلطان لمحمد بن رافع قائد العسكر وخرج من الحضرة ولحق بقومه بمكانهم من لحقه من أعمال تونس.واستقدمه السلطان بعد أن استعتب له فلما قدم تقبض عليه وأودعه السجن.وعلى إثر ذلك كان مهلك السلطان فجاءة ليلة من سنة سبعين بعد أن قضى وطراً من محادثة السمر وغلبه النوم آخر ليلة فنام ولما أيقظه الخادم وجده ميتاً فاستحال السرور وعظم الأسف وغلب على البطانة الدهش.ثم راجعوا بصائرهم ودفعوا الدهش عن أنفسهم وتلافوا أمرهم بالبيعة لابنه الأمير أبي البقاء خالد فأخذها له على الناس مولاه منصور سريحه من المعلوجي وحاجبه أحمد بن إبراهيم البالقي وحضر لها الموحدون والفقهاء والكافة.وانفض المجلس وقد انعقد أمره إلى جنازة أبيه حتى واروه التراب.واستبد منصور وابن البالقي على هذا الأمير المنصوب للأمر فلم يكن له تحكم عليهما.وكان أول ما افتتحا به أمرهما أن تقبضا على القاضي محمد بن خلف الله من طبقة الفقهاء كان نزع إلى السلطان من بلده نفطة مغاضباً لمقدمها عبد الله بن علي بن خلف فرعى له نزوعه إليه واستعمله بخطة القضاء بتونس عند مهلك أبي علي عمر بن عبد الرفيع.ثم ولاه قيادة العساكر إلى بلاد الجريد وحربهم فكان فيه غناء واستدفعوه مرات بجبايتهم يبعثون بها إلى السلطان ومرات بمصانعة العرب على الأرجاف بمعسكره.وكان ابن البالقي يغص بمكانه من السلطان فلما استبد على ابنه أعظم فيه السعاية وتقبض عليه وأودعه السجن مع محمد بن علي بن رافع.ثم بعث عليهما من داخلهما في الفرار من الاعتقال حتى دبروه معه وظهر على أمرهما فقتلهما في محبسهما خنقاً والله متولي الجزاء منه " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ".ثم أظهر ابن البالقي من سوء سيرته في الناس وجوره عليهم وعسفه بهم وانتزاع أموالهم وإهانة سبال الأشراف ببابه منهم ما نقموه وضرعوا إلى الله في إنقاذهم من ملكته فكان ذلك على يد مولانا السلطان أبي العباس كما نذكر إن شاء الله تعالى. |
الخبر عن فتح تونس واستيلاء السلطان عليها واستبداده بالدعوة الحفصية في سائر عمالات إفريقية وممالكها
لما هلك السلطان أبو إسحاق صاحب الحضرة سنة سبعين كما قدمناه وقام بالأمر مولاه منصور سريحه وحاجبه البالقي ونصبوا ابنه الأمير خالداً للأمر صبياً لم يناهز الحلم غراً فلم يحسنوا تدبير أمره ولا سياسة سلطانه وأسخطوا لوقتهم منصور بن حمزه أمير بني كعب المتغلبين على الضاحية بما أطمعوه بسوء تدبيرهم في شركته لهم في الأمر.ثم قلبوا له ظهر المجن فسخطهم ولحق بالسلطان أبي العباس وهو مطل علهم بمرقبة من الثغور الغربية مستجمع للتوثب فاستحثه لملكهم وحرضه على تلافي أمرهم ورم ما تثلم من سياج دولتهم.وكان الأحق بالأمر لشرف نفسه وجلاله واستفحال ملكه وسلطانه وشياع الحديث عن عدله ورفقه وحميد سيرته وأمان أهل مملكته من نظر يعقب نظره فيهم أو استبداد سواه عليهم فأجاب صريخه وشحذ للنهوض عزمه.وكان أهل قسطنطينة قد بعثوا بمثل ذلك فسرح إليهم أبا عبد الله ابن الحاجب أبي محمد بن تافراكين لاختبار طاعتهم وابتلاء دخلتهم فسار إليهم واقتضى بيعاتهم وطاعتهم وسارع إليها يحيى بن يملول مقدم توزر والخلف بن الخلف مقدم نفطة فأتوها طواعية.وانقلب عنهم وقد أخذوا بدعوة السلطان وأقاموها.ثم خرج السلطان من بجاية في العسكر وأغذ السير إلى المسيلة وكان بها إبراهيم ابن عمه الأمير أبي زكرياء الأخير جأجأ به أولاد سليمان بن علي من الدواودة من مثوى اغترابه بتلمسان ونصبوه لطلب حقه في بجاية من بعد أخيه الأمير أبي عبد الله وكان ذلك بمداخلة أبي حمو صاحب تلمسان ومواعيد بالمظاهرة مخلفة.فلما انتهى السلطان إلى المسيلة نبذوا إلى إبراهيم عهده وتبرأوا منه ورجعوه من حيث جاء وانكفأ راجعاً إلى بجاية.ثم نهض منها إلى الحضرة وتلقته وفود إفريقية جميعاً بالطاعة وانتهى إلى البلد فخيم بساحتها أياماً يغاديها القتال ويراوحها.ثم كشف عن مصدوقته وزحف إلى أسوارها وقد ترجل أخوه والكثير من بطانته وأوليائه فلم يقم لهم شيء حتى تسنموا الأسوار برياض رأس الطابية فنزل عنها المقاتلة وفروا إلى داخل البلد.وخامر الناس الدهش وتبراوا بعضهم من بعض وأهل الدولة في موكبهم وقوف بباب الغدر من أبواب القصبة.فلما رأوا أنهم أحيط بهم ولوا الأعقاب وقصدوا باب الجزيرة فكسروا أقفاله وثار أهل البلد جميعاً بهم فخلصوا سلطانهم من البلد بعد عصب الريق ومضى الجند في أتباعهم فأدرك أحمد بن البالقي فقتل وسيق رأسه إلى السلطان.وتقبض على الأمير خالد فاعتقل ونجا العلج منصور سريحه برأس طمرة ولجام وذهل عن القتال دون الأحبة.ودخل السلطان القصر واقتعد أريكته وانطلقت أيدي العيث في ديار أهل الدولة فاكتسحت بما كان الناس يضطغنون عليهم تحاملهم على الرعية واغتصاب أموالهم فاضطرمت نار العيث في دورهم ومخلفهم فلم تكد أن تنطفئ ولحق بعض أهل العافية معرات من ذلك لعموم النهب وشموله حتى أطفأه الله ببركة السلطان وجميل نيته وسعاد أمره.ولاذ الناس منه بالملك الرحيم والسلطان العادل وتهافتوا عليه تهافت الفراش على الذبال يلثمون أطرافه ويجأرون بالدعاء له ويتنافسون في التماح محياه إلى أن غشيهم الليل.ودخل السلطان قصوره وخلا بما ظفر من ملك آبائه وبعث بالأمير خالد وأخيه في الأسطول إلى قسطنطينة فعصفت بهما الريح وانخرقت السفينة وتقاذفت الأمواج إلى أن هلكا.واستبد السلطان بأمره وعقد لأخيه الأمير أبي يحيى زكرياء على حجابته.ورعى لابن تافراكين حق انحياشه إليه ونزوعه فجعله رديفاً لأخيه واستمر الأمر على ذلك إلى أن كان من أمره ما نذكر إن شاء الله تعالى. الخبر عن انتقاض منصور بن حمزة وأجلابه بالعم أبي يحيي زكرياء على الحضرة وما كان عقب ذلك من نكبة ابن تافراك كان منصور بن حمزة هذا أمير البدو من بني سليم بما كان سيد بني كعب.وكان السلطان أبو إسحاق يؤثره بمزيد العناية وجعل له على قومه المزية.وكان بنو حمزة هؤلاء منذ غلبوا السلطان أبا الحسن على إفريقية وأزعجوه منها قد استطالت أيديهم عليها وتقاسموها أوزاعاً وأقطعهم أمراء الحضرة السهمان في جبايتها زيادة لما غلبوا عليه من ضواحيها وأمصالها استئلافاً لهم على المظاهرة وإقامة الدعوة والحماية من أهل الثغور الغربية فملكوا الأكثر منها وضعف سهمان السلطان بينهم فيها.فلما استولى هذا السلطان أبو العباس على الحضرة واستبد بالدعوة الحفصية كبح أعنتهم عن التغفب والاستبداد وانتزع ما في أيديهم من الأمصار والعمالات التي كانت من قبل خالصة للسلطان.وبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبونه فأحفظهم ذلك وأهمهم شأنه وتنكر منصور بن حمزة وقلب ظهر المجن ونزع يده من الطاعة وغمسها في الخلاف وتابعه على خروجه على السلطان أبو صعنونة أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسكين شيخ حكيم.وارتحل بأحيائه إلى الدواودة صريخاً مستحيشاً بالأمير أبي يحيى ابن السلطان أبي بكر المقيم بين ظهرانيهم من لدن فعلته بالمهدية وانتزائه بها على أخيه المولى أبي إسحاق كما ذكرنا فنصبوه للأمر وبايعوه وارتحل معهم وأغذوا السير إلى تونس.ولقيه منصور بن حمزة في أحيائه بنواحي تبسة فبايعوا له.وأوفدوا مشيختهم على يحيى بن يملول شيطان الغواية المارد على الخلاف يستحثونه للطاعة والمدد لمداخلة كانت بينهم في ذلك سول لهم فيها بالمواعيد وأملى لهم حتى إذا غمسوا أيديهم في النفاق والأجلاب سوفهم عن مواعيده ضنانة بماله فأسرها منصور في نفسه واعتزم من يومئذ على الرجوع إلى الطاعة.ثم رحلوا للأجلاب على الحضرة وسرح السلطان أبو العباس أخاه الأمير أبا يحيى زكرياء للقيهم في العساكر وتزاحفوا وأتيح لمنصور وقومه ظهور على عساكر السلطان وأوليائه لم يستكمله وأجلبوا على البلد أياماً.ونمي إلى السلطان أن حاجبه عبد الله بن تافراكين داخلهم في تبيين البلد فتقبض عليه وأشخصه في البحر قسطنطينة فلم يزل بها معتقلا إلى أن هلك سنة ثمان وثمانين.ثم سرب السلطان أمواله فانتقض على منصور قومه وخشي مغبة حاله وسوغه السلطان جائزته فعود الطاعة ابنه ونبذ إلى سلطانه زكرياء العم عقده ورجعه على عقبه إلى الدواودة.والتزم طاعة السلطان والاستقامة على المظاهرة إلى أن هلك سنة ست وتسعين قتله محمد ابن أخيه فتيتة في مشاجرة كانت بينهما طعنه لها فأشواه ورجع جريحاً إلى بيته وهلك دونها آخر يومه.وقام بأمر بني كعب بعد صولة ابن أخين خالد وعقد له مولانا السلطان على أمرهم واستمرت الحال إلى أن كان من أمرهم ما نذكره. الخبر عن فتح سوسة والمهدية كان سوسة منذ واقعة بني مرين بالقيروان وتغلب العرب على العمالات أقطعها السلطان أبو الحسن لخليفة بن عبد الله بن مسكين فيما سوغ للعرب من الأمصار والإقطاعات مما لم يكن لهم فاستولى عليها خليفة هذا ونزلها واستقل بجبايتها وأحكامها.واستبد بها على السلطان ولم يزل كذلك إلى أن هلك وقام بأمره في قومه عامر ابن عمه مسكين أيام استبداد أبي محمد بن تافراكين فسوغها له كذلك متقبلا من قبله.ثم قتله بنو كعب وقام بأمر حكيم من بعده أحمد الملقب أبو صعنونة بن محمد أخي خليفة بن عبد الله بن مسكين فاستبد بسوسة على السلطان واقتعدها دار إمارته وربما كان ينتقض على صاحب الحضرة فيجلب عليها من سوسة ويشن الغارات في نواحيها حتى لقد أوقع في بعض أيامه بمنصور سريحه مولى السلطان أبي إسحاق عساكره فتقبض عليه واعتقله بسوسة أياماً ثم من عليه وأطلقه وعاود الطاعة معه ولم يزل هذا دأبهم.وكانت لهم في الرعايا آثار قبيحة وملكات سيئة ولم يزالوا يضرعون إلى الله في إنقاذهم من أيدي جورهم وعسفهم إلى أن تأذن الله لأهل إفريقية باقتبال الخير وفيء ظلال الأمر.واستبد مولانا السلطان أبو العباس بالحضرة وسائر عمالات إفريقية وهبت ريح العز على العرب في جميع النواحي فتنكر أهل سوسة لعاملهم أبي صعنونة هذا وأحس بنكرائهم وخرج عنهم وتجافى للسلطان عن البلد.وثارت عامتها لعماله فأجهضوهم ونزل عمال السلطان بها.ثم كانت من بعد ذلك حركة المولى أبي يحيى إلى نواحي طرابلس ودوخ جهاتها واستوفى جباية عمالها.وكان بالمهدية محمد بن الجكجاك استعمله عليها الحاجب أبو محمد بن تافراكين أيام ارتجاعه إياها من يد أبي العباس بن مكي والأمير أبي يحيى زكرياء المنتزي بها ابن مولانا السلطان أبي بكر كما مر.وأقام ابن الجكجاك أميراً عليها واستبد بها بعد موت الحاجب.فلما وخزته شوكة الاستطالة من الدولة وطلع نحوه قتام العساكر فرق من الاستيلاء عليه وركب أسطوله إلى طرابلس ونزل على صاحبها أبي بكر بن ثابت لذمة صهر قديم كانت بينهما.وبادر مولانا السلطان إلى تسلم المهدية وبعث عليها عماله وانتظمت في ملكه واطردت أحوال الظهور والنجح وكان بعد ذلك ما نذكره إن شاء الله تعالى. الخبر عن فتح جربة وانتظامها في ملك السلطان كان محمد بن أبي القاسم بن أبي العيون منذ ولاه أبو عبد الله بن تافراكين على هذه الجزيرة قد تقبل مذاهب جيرانها من أهل قابس وطرابلس وسائر الجريد في الامتناع على السلطان ومصارفة الاستبداد وانتحال مذاهب الإمارة وطرقها ولبوس شارتها.وقد ذكرنا سلفه من قبل وأن والده كان صاحب الأشغال بالحضرة أيام الحاجب أبي محمد بن تافراكين وأنه اعتلق بمكاتبة ابنه أبي عبد الله فولاه على جربة عند افتتاحه إياها وأنه قصده عند مفره عن المولى أبي إسحاق لينزل جربة معولاً على قديم اصطناعه إياه فمنعه.ثم داخل شيوخ الجزيرة من بني سمومن في الامتناع على السلطان والاستبداد بأمرهم فأجابوه وأقام ممتنعاً سائر دولة المولى أبي إسحاق وابنه من بعده.ولما استولى مولانا السلطان أبو العباس على تونس داخله الروع والدهش وصار إلى مكاثر رؤساء الجريد في التظافر على المدافعة بزعمهم فأجرى في ذلك شأواً بعيداً مع تخلفه في مضماره بقديمه وحديثه.وصادف السلطان سوء الامتثال والتياث الطاعة ومنع الجباية فأحفظه ولما افتتح أمصار الساحل وثغوره سرح ابنه الأمير أبا بكر في العساكر إلى جربة ومعه خالصة الدولة محمد بن علي بن إبراهيم من ولد أبي هلال شيخ الموحدين وصاحب بجاية لعهد المستنصر وقد تقدم ذكره.وأمده بالأسطول في البحر لحصارها.ونزل الأمير بعسكره على مجازها ووصل إلى مرساها فأطاف بحصن القشتيل وقد لاذ ابن أبي العيون بجدرانه وافترق عنه شيوخ الجزائر من البربر وانحاش بطانته من الجند المستخدمين معه بها.ولما رأوا ما لا طاقة لهم به وأن عساكر السلطان قد أحاطت بهم براً وبحراً نزلوا إلى قائد الأسطول وأمكنوه من الحصن وبادروا إلى معسكر الأمير فأقبل معهم الخاصة أبو عبد الله بن أبي هلال فيمن معه من بطانة الأمير وحاشيته فاقتحموا الحصن وتقبضوا على محمد بن أبي العيون ونقلوه من حينه إلى الأسطول واستولوا على داره وولوا على الجزيرة وارتحلوا قافلين إلى السلطان.ووصل محمد بن أبي العيون إلى الحضرة ونزل بالديوان فأركب إلى القصبة على جمل وطيف به على أسواق البلد إظهاراً لعقوبة الله النازلة به وأحضره السلطان فوبخه على مرتكبه في العناد ومداخلته أهل الغواية من أمراء الجريد في الانحراف عنه.ثم تجافى عن دمه وأودعه السجن إلى أن هلك سنة تسع وسبعين. |
الخبر عن استقلال الأمراء من الأبناء بولاية الثغور الغربية
كان السلطان عندما استجمع الرحلة إلى إفريقية باستحثاث أهلها لذلك ووفادة منصور بن حمزة شيخ الكعوب مبرغباً فيها فأهمه عند ذلك شأن الثغور الغربية وأجال اختياره في بنيه يسبر أحوالهم ويفتش عن الأكفاء لهذه الثغور منهم فوقع نظره أولاً على كبير ولده المخصوص بعناية الله في إلقاء محبته عليه الأمير أبي عبد الله فعقد له.بجاية وأعمالها وأنزله بقصور الملك منها وأطلق يده في مال الجباية وديوان الجند.واستعمل على قسطنطينة وضواحيها لمولاه القائد بشير سيف دولته وعنان حربه ناشئ قصره وتلاد مرباه.وكانت لهذا الرجل نخوة من الصرامة والبأس ودالة بالقديم والحادث وخلال لقيها أيام التقلب في أواوين الملك.وكان ملازماً ركاب مولاه في مطارح اغترابه وأيام تحيصه.وربما لقي عند إلحاحه على قسطنطينة من المحنة والاعتقال الطويل ما أعاضه الله عنه بجميل التنويه وعود العز والملك إلى مولاه على أحسن الأحوال.وظفر من ذلك بالبغية وحصل من الرتبة على الأمنية.وكان السلطان يثق بنظره في العساكر ويبعثه في مقدمة الحروب وكان عند استيلائه على بجاية وصرف عنايته إليها ولاه أمر قسطنطينة وأنزله بها وأنزل معه ابنه الأمير أبا إسحاق وجعل إليه كفالته لصغره ثم استنفره بالعسكر عند النهوض إلى إفريقية فنهض في جملته وشهد معه الفتح.ثم رجعه إلى عمله بقسطنطينة بمزيد التفويض والاستقلال فلم يزل بما دفع من ذلك إلى أن هلك.وكان السلطان قد أوفد ابنه أبا إسحاق على ملك المغرب السلطان عبد العزيز عندما استولى على تلمسان مهنياً بالظفر ملفحاً غراس الود وأوفد معه شيخ الموحدين ببابه أبا إسحاق بن أبي هلال وقد مر من قبل ذكره وذكر أخيه فتلقاهما ملك المغرب بوجوه المبرة والاحتفاء ورجعهما بالحديث الجميل عنه سنة ثلاث وسبعين.ونزل الأمير أبو إسحاق بقسطنطينه دار إمارته وعقد له السلطان عليها وألقاب الملك ورسومه مصروفة إليه.والقائد بشير مولى ابنه مستبد عليه لمكان صغره إلى أن هلك بشير سنة ثمان وسبعين عندما استكمل الأمير أبو إسحاق الخلال واستجمع للإمارة فجدد له السلطان عهده عليها وفوض إليه في إمارتها وقام بما دفع إليه من ذلك أحسن مقام وأكفأه مصدقاً الظنون التي كانت تومئ إليه وشهادة المخايل التي دلت عليه فاستقبل هذان الأميران بثغر بجاية وقسطنطينة وأعمالها مفوضاً إليهما في الإمارة مأذوناً لهما في اتخاذ الآلة وإقامة الرسوم الملوكية والشارة.وكان الأمير أبو يحيى زكرياء الأخ الكريم مستقلاً أيضاً ببونة وعملها منذ استيلائه عليها قد أضافها السلطان إليه وأصارها في سهمانه فلما ارتحلوا إلى إفريقية عام الفتح وتيقن الأخ أبو يحيى طول مغيبه واغتباط السلطان أخيه بكونه معه عقد عليه لابنه الأمير أبي عبد الله محمد وأنزله بقصره منها وفوض إليه في إمارتها لما استجمع من خلال الترشيح والذكر الصالح في الدين.واستمر الحال على ذلك لهذا العهد وهو سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة والله مدبر الأمور. الخبر عن فتح قفصة وتوزر وانتظام أعمال قسطنطينة في طاعة السلطان كان أمر هذا الجريد قد صار شورى بين رؤساء أمصاره فيما قبل دولة السلطان أبي بكر لاعتلال الدولة حينئذ بانقسامها كما مر فلما استبد السلطان أبو بكر بالدعوة الحفصية وفرغ من الشواغل صرف إليهم نظره وأوطأهم عساكره.ثم نهض بنفسه فمحى أثر الشورى منها وعقد لابنه أبي العباس عليها كما قلناه.فلما كان بعد مهلكه من اضطراب إفريقية وتغلب الأعراب على نواحيها ما كان منذ هزيمة السلطان أبي الحسن وبني مرين بالقيروان عاد أهل الشورى في الجريد إلى دينهم من التوثب على الأمر والاستبداد على السلطان وتناغى رؤساؤهم بعد أن كانوا سوقة في انتحال مذاهب الملك وشاراته يقتعدون الأرائك ويعقدون في المشي بين السكك المواكب ويهينون في إيوانهم سبال الأشراف ويتخذون الآلة أيام المشاهد آية للمعتبرين في تقلب الأيام وضحكة لأهل الشمات حتى لقد حدثتهم أنفسهم بألقاب الخلافة وأقاموا على ذلك أحوالا والدولة في التياثها.فلما استبد السلطان أبو العباس بإفريقية وعمالاتها وأتيح منه بالحضرة البازي المطل من مرقبه والأسد الحادر في عرينه وأصبحوا فرائس له يتوقعون انصبابه إليهم وتوثبه بهم داخلوا حينئذ الأعراب في مدافعته عنهم بإضرام نار الفتنة واقتعاد مطية الخلاف والنفاق يفتون بذلك في عزائمه.وأرخى هو لهم طيل الأمهال وفسح لهم مجال الإيناس بالمقاربة والوعد رجاء الفيئة إلى الطاعة المعروفة والاستقامة على الجادة فأصروا وازدادوا عناداً ونفاقاً.فشمر لهم عن عزائمه ونبذ إليهم عهدهم على سواء.ونهض من الحضرة سنة سبع وسبعين في عساكره من الموحدين وطبقات الجند والموالي وقبائل زناتة ومن استألف إليه من العرب أولاد مهلهل وحكيم وإظاهر أولاد أبي الليل على المدافعة عن أهل الجريد وواقفوا السلطان أياماً.ثم أجفلوا أمامه وغلبهم السلطان على رعاياهم مرنجيزة وكانوا من بقايا بني يفرن عمروا ضواحي إفريقية مع ظواعن هوارة ونفوسة ونفزاوة.وكانت للسلطان عليهم مغارم وجبايات وافرة.فلما تغلب العرب على بسائط إفريقية وتنافسوا في الإقطاعات كانت ظواعن مرنجيزة هؤلاء في أقطاع أولاد حمزة فكانت جبايتهم موفورة ومالهم دثراً بما صاروا مدداً لهم بالمال والكراع والزرع والأدم وبالفرسان منهم يستظهرون في حروبهم مع السلطان ومن قومهم فاستولى السلطان عليهم في هذه السنة واكتسح أموالهم وبعث برجالهم أسرى إلى سجون الحضرة وقطع بها عنهم أعظم مادة كانت تمدهم فخمد بذلك من عتوهم وقص من جناحهم آخر الدهر ووهنوا لها.ثم عاد السلطان إلى حضرته وافترق أشياعه ونزع عنهم أبو صعنونة فتألف مع أولاد أبي الليل ورجعوا إلى الحضرة فأجلبوا بساحلها أياماً وشنوا الغارات عليها.ثم انفضوا عنها وخرج على أثرهم لأول فصل الشتاء وتساحل إلى سوسة والمهدية فاقتضى مغارم الأوطان التي كانت لأبي صعنونة ثم رجع إلى القيروان وارتحل منها يريد قفصة.وجمع أولاد أبي الليل للمدافعة عنها وسرب فيهم صاحب توزر الأموال فلم تغن عنه.وزحف السلطان إلى قفصة فنازلها ثلاثاً ولجوا في عصيانهم وقاتلوه فجمع الأيدي على قطع نخيلهم فتسايلت إليه الرعية من أماكنهم وأسلموا أحمد بن العابد مقدمهم وابنه محمد المستبد عليه لكبره وذهوله فخرج إلى السلطان واشترط له ما شاء من الطاعة والخراج ورجع إلى البلد وقد ماج أهلها بعضهم في بعض وهموا بالخروج فسابقهم ابنه أحمد المستبد على أبيه.وكان السلطان سرح أخاه أبا يحيى في الخاصة والأولياء إلى البلد فلقيه محمد هذا في ساحتها فبعث به إلى السلطان ودخل هو إلى القصبة وتملك البلد.وتقبض السلطان على محمد بن العابد لوقته وسيق إليه أبوه من البلد فجعل معه واستولى على داره وذخائره.واجتمع الملأ والكافة من أهل البلد عند السلطان وأتوه بيعتهم عليها لابن أبي بكر وارتحل يغذ السير إلى توزر وقد طار الخبر بفتح قفصة إلى ابن يملول فركب لحينه واحتمل أهله وما خف من ذخيرته ولحق بالزاب.وطير أهل توزر بالخبر إلى السلطان فلقيه أثناء طريقه وتقدم إلى البلد فملكها واستولى على ذخيرة ابن يملول ونزل بقصوره فوجد بها من الماعون والمتاع والسلاح وآنية الذهب والفضه ما لا يعتد لأعظم ملك من ملوك الأرض وأحضر بعض الناس ودائع كانت عندهم من نفيس الجوهر والحلى والثياب وبرءوا منها إلى السلطان.وعقد السلطان على توزر لابنه المنتصر وأنزله قصور ابن يملول وجعل إليه إمارتها.واستقدم السلطان الخلف بن الخلف صاحب نفطة فقدم عليه وأتاه طاعته وعقد له على بلده وولاية حجابة ابنه بتوزر وأنزله معه وقفل إلى الحضرة.وقد كان أهل الخلاف من العرب عند تغلبه على أمصار الجريد خالفوه إلى التلول فلما قصد حضرته اعترضوه دونها فأوقع بهم وفل من غربهم وأجفلوا إلى الجهات الغربية يؤملون منها كرة لما كن ابن يملول قد جأجأ بهم إلى خدمة صاحب تلمسان والاستجاشة به فوفد عليه بتلمسان منصور بن خالد منهم ونصر ابن عمه منصور صريخين به على عادة صريخهم بأبي تاشفين سلفه فدافعهم بالمواعد وتبينوا منها عجزه وانكفوا راجعين.ووفد صولة على السلطان بعد أن توثق له لنفسه فاشترط له على قومه ما شاء ورجع إليهم فلم يرضوا بشرطه.ونهض السلطان من الحضرة في العساكر والأولياء من العرب وأجفلوا أمامه فاتبعهم وأوقع بهم ثلاث مرات واقفوه فيها.ثم أجقلوا ولحقوا بالقيروان وقدم وفدهم على السلطان بالطاعة والاشتراط له كما يشاء فتقبل ووسعهم عفوه وصاروا إلى الانقياد والاعتمال في مذاهب السلطان ومرضاته وهم على ذلك لهذا العهد. الخبر عن ثورة أهل قفصة ومهلك ابن الخلف لما استقل الخلف بن علي بن الخلف بحجابة المنتصر ابن السلطان وعقد له مع ذلك على عمله بنفطة فاستخلف عليها عامله ونزل بتوزر مع المنتصر.ثم سعى به أنه يداخل ابن يملول ويراسله فبث عليه العيون والأرصاد وعثر على كتابة بخط كاتبه المعروف إلى ابن يملول وإلى يعقوب بن علي أمير الدوادوة يحرضهما على الفتنة فتقبض عليه وأودعه السجن.وبعث عماله إلى نفطة واستولى على أمواله وذخائره وخاطب أباه في شأنه فأمهله بعد أن تبين نقضه للطاعة وسعيه في الخلاف.وكان السلطان قبل فتح قفصة قد نزع إليه من بيوتاتها أحمد بن أبي زيد وسار في ركابه إليها.فلما استولى على البلد رعى له ذمة نزوعه إليه وأوصى به ابنه أبا بكر فاستولى على مشورته وحله وعقده وطوى على النث.ثم حدثته نفسه بالاستبداد وتحين له المواقيت واتفق أن سار الأمير أبو زكرياء من قفصة لزيارة أخيه المنتصر بتوزر وخلف بالبلد عبد الله التريكي من مواليهم وكان السلطان أنزله معه وولاه حجابته فلما توارى الأمير عن البلد داخل ابن أبي زيد زعنفة من الأوغاد وطاف في سكك المدينة والهاتف معه ينادي بالثورة ونقض الطاعة.وتقدم إلى قفصة فأغلقها القائد عبد الله دونه وحاربها فامتنعت.عليه.وقرع عبد الله الطبل بالقصبة واجتمع عليه أهل القرى فأدخلهم من باب كان بالقصبة يفضي إلى الغابة فكثروا شيع ابن أبي زيد وتسلل عنه الناس فلاذ بالاختفاء.وخرج القائد من القصبة فتقبض على كثير من أهل الثورة فأودعهم السجن واستولى على البلد.وسكن الهيعة وطار الخبر إلى المولى أبي بكر فأغذ السير منقلباً إلى قفصة.ولحين دخوله ضرب أعناق المعتقلين من أهل الثورة وأمر الهاتف فنادى في الناس بالبراءة من ابن أبي زيد وأخيه.ولأيام من دخوله عثر بهما الحرس في مقاعدهم بالباب مستترين بزي النساء فتقبضوا عليهما وتفوهما إلى الأمير فضرب أعناقهما وصلبهما في جذوع النخل.وكانا من المترفين فأصبحا مثلاً في الأيام وقد خسرا دينهما ودنياهما وذلك هو الخسران المبين.وارتاب المنتصر صاحب توزر حينئذ بابن خلف وحذر مغبة حاله فقتله بمحبسه وذهب في غير سبيل مرحمة وانتظم السلطان أمصار الجربد كلها في طاعته واتصل ظهوره إلى أن كان ما نذكر. |
الخبر عن فتح قابس وانتظامها في ملكة السلطان هذا البلد
لم يزل في هذه الدولة الحفصية لبني مكي المشهور ذكرهم في هذه العصور وما إليها.وسيأتي ذكر أخبارهم ونسبهم وأوليتهم في فصل نفرده لهم فيما بعد.وكان أصل رياستهم فيها اتصالهم بخدمة الأمير أبي زكرياء الأول أيام ولايته قابس سنة ثلاث وعشرين وستمائة فاختصوا به وداخلهم في الانتقاض على أخيه أبي محمد عبد الله عندما استجمع لذلك فأجابوه وبايعوا له فرعى لهم هذه الوسائل عندما استبد بإفريقية وأفردهم برياسة الشورى في بلدهم.ثم سموا إلى الاستبداد عندما فشل ريح الدولة عن القاصية بما حدث من فتن وانفراد الثغور الغربية بالملك.ولم يزالوا جانحين إلى هذا الاستبداد سانحين إليه بثأر الفتن والانتقاض على السلطان ومداخلة الثوار والأجلاب بهم على الحضرة والدولة أثناء ذلك في شغل عنهم وعن سواهم من أهل الجريد منذ أحقاب متطاولة بما كان من انقسام الدولة وإلحاح صاحب الثغور الغربية على ثم استبد مولانا السلطان بالدعوة الحفصية في سائر عمالات إفريقية وشغله عنهم شاغل الفتنة مع صاحب تلمسان في الأجلاب على الحضرة مع جيوشه ومنازلتهم ثغر بجاية وتسريبه جيوش بني عبد الواد مرة بعد أخرى مع الأعياص من بني أبي حفص والعرب إلى إفريقية.وكان المتولي لرياسة قابس يومئذ عبد الملك بن مكي بن أحمد بن عبد الملك ورديفه فيها أخوه أحمد وكانا يداخلان أبا تاشفين صاحب تلمسان في الأجلاب على الحضرة مع جيوشه والثوار القادمين معهم.وربما خالفوا السلطان إلى الحضرة أزمان مغيبه عنها كما وقع له مع عبد الواحد بن اللحياني وقد مر ذكر ذلك.فلما استولى السلطان أبو الحسن على تلمسان وانمحى أثر بني زيان فرغ السلطان أبو بكر لهؤلاء الثوار الرؤساء بالجريد الدائنين بالانتقاض سائر أيامهم.وزحف إلى قفصة فملكها فذعروا ولحق أحمد بن مكي بالسلطان أبي الحسن متذمماً بشفاعته بعد أن كان الركب الحجازي من المغرب مر بقابس وبه بعض كرائم السلطان فأوسعوا حباءها وسائر الركب قرى وحباء.وقدموا ذلك وسيلة بين يدي وفادته فتقبل السلطان وسيلته وكتب إلى مولانا السلطان أبي بكر شافعاً فيهم لذمة السلطان والصهر فتقبل شفاعته وتجاوز عن الانتقام منهم بما اكتسبوا.ثم هلك مولانا السلطان أبو بكر وهاج بحر الفتنة والخلاف وعادت الدولة إلى حالها من الانقسام واشتدت على صاحب الحضرة وجوه الانتصاف منهم فعاد بنو مكي وسواهم من رؤساء الجريد إلى حالهم من الاستبداد على الدولة.وقطع أسباب الطاعة ومنع المغارم والجباية ومشايعة صاحب الغربية زبونا على صاحب الحضرة.فلما استبد مولانا السلطان أبو العباس بالدعوة الحفصية وجمع الكلمة واستولى على كثير من الثغور المنتقضة تراسل أهل هذه القصور الجريدية وتحدثوا فيما دهمهم وطلبوا وجه الخلاص منه والامتناع عليه.وكان عبد الملك بن مكي أقعدهم بذلك لطول مراسه الفتن وانحياشه إلى الثوار وكان أحمد أخوه ورديفه قد هلك سنة خمس وستين وانفرد هو برياسة قابس فراسلوه وراسلهم في الشأن وأجمعوا جميعاً على تخبيب العرب على السلطان وتسريب الأموال فيهم ومشايعة صاحب تلمسان بالترغيب في ملك إفريقية فانتدبوا لذلك من كل ناحية.وبعثوا البريد إلى صاحب تلمسان فأطمعهم من نفسه وعللهم بالمواعيد الكاذبة والسلطان أبو العباس مقبل على شأنه يفتل لهم في الفروة والغارب حتى غلب أولاد أبي الليل الذين كانوا يعدونهم بالمدافعة عنهم وافتتح قفصة وتوزر ونفطة.وتبين لهم عجز صاحب تلمسان عن صريخهم فحينئذ بادر عبد الملك إلى هراسلة السلطان يعده من نفسه الطاعة والوفاء بالجباية ويستدعي لاقتضاء ذلك منه بعض حاشيته فأجابه إلى ذلك وبعث وافده إليه ورجع إلى الحضرة في انتظاره فطاوله ابن مكي ثم اضطرب أمره وانتقض عليه أهل ضاحيته بنو أحمد إحدى بطون دباب وركبوا إليه فحاصروه وضيقوا عليه واستدعوا المدد لذلك من الأمير أبي بكر صاحب قفصة وأمدهم بعسكر وقائد فنازلوه واشتد الحصار.واتهم ابن مكي بعض أهل البلد بمداخلتهم فكبسهم في منازلهم وقتلهم وتنكرت له الرعية وساء حاله ودس إلى بعض المفسدين من العرب من بني علي في تبييت العسكر المحاصرين له واشترط لهم على ذلك ما رضوه من المال فجمعوا لهم وبيتوهم فانفضوا ونالوا منهم.وبلغ السلطان خبرهم فأحفظه وأجمع الحركة على قابس وعسكر بظاهر الحضرة في رجب سنة إحدى وثمانين وتلوم أياماً حتى استوفى العطاء واعترض العساكر وتوافت أحياء أوليائه من أولاد مهلهل وأحلافهم من سائر سليم.ثم ارتحل إلى القيروان وارتحل منها يريد قابس وقد استكمل التعبية.وبادر إلى لقائه والأخذ بطاعته مشيخة دباب أعراب قابس من بني سليم.ووفد منهم خالد بن سباع بن يعقوب شيخ المحاميد وابن عمه علي بن راشد فيمن إليهم يستحثونه إلى منازلة قابس فأغذ السير إليها وقدم رسله بين يديه بالإنذار لابن مكي.وانتهوا إليه فرجعهم بالإنابة والانقياد إلى الطاعة.ثم احتمل رواحله وعبأ ذخائره وخرج من البلد ونزل على أحياء دباب هو وابنه يحيى وحافده عبد الوهاب ابن ابنه مكي الهالك منذ سنين من قبل.واتصل الخبر إلى السلطان فبادر إلى البلد ودخلها في ذي القعدة من سنته واستولى على منازل ابن مكي وقصوره.ولاذ أهل البلد بطاعته وولى عليها من حاشيته وكان أبو بكر بن ثابت صاحب طرابلس قد بعث إلى السلطان بالطاعة والانحياش ووافته رسله دوين قابس.فلما استكمل فتحها بعث إليه من حاشيته لاقتضاء ذلك فرجعهم بالطاعة وأقام عبد الملك بن مكي بعد خروجه من قابس بين أحياء العرب ليالي قلائل.ثم بغته الموت فهلك ولحق ابنه وحافده بطرابلس فمنعهم ابن ثابت الدخول إليها فنزلوا بزنزور من قراها في كفالة الجواري من بطون دباب.ولما استكمل السلطان الفتح وشؤونه انكفأ راجعاً إلى الحضرة فدخلها فاتح اثنتين وثمانين ولحقه رسله من طرابلس بهدية ابن ثابت من الرقيق والمتاع بما فيه الوفاء بمغارمه بزعمه.ووفد عليه بعد استقراره بالحضرة رسل أولاد أبي الليل متطارحين في العفو عنهم والقبول عليهم فأجابهم إلى ذلك ووفد صولة بن خالد شيخهم وقبله أبو صعنونه شيخ حكيم ورهنوا أبناءهم على الوفاء واستقاموا على الطاعة.واتصل النجح والظهور والأمر على ذلك لهذا العهد وهو فاتح ثلاث وثمانين وسبعمائة والله مالك الأمور لا رب غيره. الخبر عن استقامة ابن مزني وانقياده وما اكتنف ذلك من الأحوال كان هؤلاء الرؤساء المستبدون بالجريد والزاب منذ فرغ السلطان لهم من الشواغل واسترابوا بمغبة حالهم معه ومراوغتهم له بالطاعة يرومون استحداث الشواغل ويؤملون لها سلطان تلمسان لعهدهم أبا حمو الأخير وأنه يأخذ بحجزته عنهم أن وصلوا به أيديهم واستحثوه لذلك لائتلافهم مثلها من سلف قومه.وابن حمو وأبي تاشفين من قبله قياساً متورطاً في الغلط بعيداً من الإصابة لما نزل بسلطان بني عبد الواد في هذه العصور من الضعف والزمانة وما أصاب قومهم من الهلاك والشتات بأيديهم وأيدي عدوهم وتقدمهم في هذا الشأن أحمد بن مزني صاحب بسكرة لقرب جواره واشتهار مثلها من سلفه فأتبعوه وقلدوه وغطى هواهم جميعاً على بصيرتهم.وقارن ذلك نزول الأمير أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عم أبي حمو علي بن يملول بتوزر عند منابذة سالم بن إبراهيم الثعالبي إياه وكان طارد به أياماً.ثم راجع أبا حمو وصرفه سنة ثمان وسبعين فخرج من أعمال تلمسان وأبعد المذهب عنهم ونزل على ابن يملول بتوزر.وطير الخبر إلى إمامه في تلك الفتنة أحمد بن مزني واغتبطوا بمكان أبي زيان وأن تمسكهم به ذريعة إلى اعتمال أبي حمو في مرضاتهم وإجابته إلى داعيهم وركض بريدهم إلى تلمسان في ذلك ذاهباً وجائياً حتى أعيت الرسل واشتبهت المذاهب ولم يحصلوا على غير المقاربة والوعد لكن على شريطة التوثق من أبي زيان.وبينما هم في ذلك إذ هجم السلطان على الجريد وشرد عنه أولاد أبي الليل الذين تكفلوا لرؤسائه بالمدافعة.وافتتح قفصة وتوزر ونفطة ولحق يحيى بن يملول ببسكرة واستصحب للأمير أبا زيان فنزل على ابن مزني وهلك لأيام قلائل كما ذكرنا.واستحكمت عندها استرابة يعقوب بن علي شيخ رياح بأمره مع السلطان لما سلف منه في مداخلة هؤلاء الرهط وتمسكهم بحقويه والمبالغة في العذر عنهم.ثم غيرته بأنظاره من مشيخة الدواودة الذين انحاشوا إلى السلطان فأفاض عليهم عطاءه واختصهم بولايته فحدث لذلك منه نفرة واضطراب وارتحل إلى السلطان أبي حمو صاحب تلمسان فاتح اثنتين وثمانين يستجيشه لهؤلاء الرهط ويهزه بها إلى البدار بصريخهم.ونزل على أولاد عريف أوليائه من سويد وأوفد عليه ابنه فتعلل لهم بمنافرة حدثت في الوقت بينه وبين صاحب المغرب وأنه لهم بالمبرصاد متى رابهم ريب من نهوض السلطان أبي العباس إليهم تمسك بذلك طرف التوثق من أبي زيان وربما دس إليهم بمشارطة اعتقاله وإلقائه في غيابات السجون.وفي مغيب يعقوب هذا طرق السلطان تمحيص من المرض أرجف له المفسدون بالجريد ودس شيع آل يملول بخبره إلى صبي من أبناء يحيى مخلف ببسكرة فذهل ابن مزني عن التثبت لها ذهاباً مع صاغية الولد وأوليائه وجهزهم لانتهاز الفرصة في توزر مع العرب المشارطين في مثلها بالمال وأغذ السير إلى توزر على حين غفلة من الدهر وخف من الجند فجلى المنتصر وأوليائه في الامتناع وصدق الدفاع وتمحصت بهذا الابتلاء طاعة أهل توزر ومخالصتهم وانصرف أبن يملول بإخفاق من السير واليم من الندم وتوقع للمكاره.ووافق ببسكرة قدوم يعقوب بن علي مرجعه من الغرب فبالغ في تغييبهم بالملامة على ما أحدثوا بعده من هذا الخرق المتسع المعيي على الراقع.وكان السلطان لأول بلوغ الخبر بأجلابهم على توزير وممالأة ابن مزني على ابنه وأوليائه أجمع النهوض إلى بسكرة وعسكر بظاهر الحضرة وفتح ديوان العطاء وجهز آلات الحصار.وسرى الخبر بذلك إليهم فخلصوا نجياً ونفضوا عيبة آرائهم فتمحض لهم اعتقال أبي زيان الكفيل لهم بصريخ أبي حمو على زعمه فتعللوا عليه ببعض النزعات وتورطوا في إخفار ذمته وطيروا بالصريخ إلى أبي حمو وانتظروا فما راعهم إلا وافده بالعذر عن صريخهم والإعاضة بالمال فتبينوا عجزه ونبذوا عهده وبادروا لتخلية السبيل لأبي زيان والعذر له لما كان السلطان نكر عليهم من أمره فارتحل عنهم ولحق بقسطنطينة.وحملهم ابن علي على اللياذ بالطاعة وأوفد ابن عمه متطارحاً وشافعاً فتقبل السلطان فيئته ووسيلته وأغضى لابن مزني عن هناته وأسعفهم بكبير دولته وخالصه سره أبي عبد الله بن أبى هلال ليتناول منه المخالصة.ويمكن له الألفة وتمسح عن هواجس الارتياب والمخافة.وكان لقاؤه أشهى إليهم من الحياة ففصل عن الحضرة وانتهى السلطان في ذي القعدة آخر سنة اثنتين وثمانين لتفقد أعماله وابتلاء الطاعة من أهل أوطانه.ولما وصل وافد السلطان إلى ابن.مزني ألقى زمامه إليه وحكمه في ذات يده وقبله ومحى أثر المراوغة واستجد لبوس الانحياش والطاعة وبادر إلى استجادة المقربات وانتقى صنوف التحف.وبعث بذلك في ركاب الوافد مع الذي عليه من الضريبة المعروفة محملاً أكتاد ثقاته وظهور مطاياه.ووصلوا معسكر السلطان بساح تبسة فاتح ثلاث وثمانين فجلس لهم السلطان جلوساً فخماً ولقاهم قبولاً وكرامة فعرضوا الهدية وأعربوا عن الانحياش والطاعة وحسن موقع ذلك من السلطان وشملهم إحسان السلطان في مقاماتهم وجوائزه على الطبقات في انصرافهم وانقلبوا بما ملأ صدورهم إحساناً ونعمة وظفروا برضى السلطان وغبطته.وحسبهم بها أمنية وبيد الله تصارف الأمور ومظاهر الغيوب. الخبر عن انتقاض أولاد أبي الليل ثم مراجعتهم الطاعة قد ذكرنا ما كان من رجوع أولاد أبي الليل هؤلاء إلى طاعة السلطان إثر منصرفه من فتح قابس وأنهم وفدوا عليه بالحضرة فتقبلهم وعفا عنهم كبائرهم واسترهن على الطاعة أبناءهم واقتضى بالوفاء على ذلك إيمانهم.وخرج الأخ الكريم أبو يحيى زكرياء في العساكر لاقتضاء المغارم من هوارة التي استأثروا بها في فترة هذه الفتن.وارتحل معه أولاد أبي الليل وأحلافهم من حكيمن حتى استوفى جبايته وجال في أقطار عمله.ثم انكفأ راجعاً إلى الحضرة ووفدوا معه على السلطان يتوسلون به في إسعافهم بالعسكر إلى بلاد الجريد لاقتضاء مغارمهم على العادة واستيفاء إقطاعاتهم فسرح السلطان معهم لذلك أبا فارس وارتحلوا معه بأحيائهم وكان ابن مزني وابن يملول من قبله وابن يعقوب بن علي كثيراً ما يراسلونهم ويستدعونهم لمثل ما كانوا فيه من الانحراف ومشايعة صاحب تلمسان.ولما اعتقلوا أبا زيان ببسكرة كما ذكرناه وثوقاً بصريخ أبي حمو ومظاهرته.نبضت عروق الخلاف في أولاد أبي الليل ونزعوا إلى اللحاق بيعقوب بن علي رجاء فيما توهموه من استغلاظ أمرهم بصاحب تلمسان ويأساً من معاودة التغلب الذي كان لهم على ضواحي إفريقية ففارقوا الأمير أبا فارس بعد أن أبلغوه مأمنه من قفصة وساروا بأحيائهم إلى الزاب فلم يقعوا على الغرض ولا ظفروا بالبغية ووافوا يعقوب وابن مزني وقد جاءهم وافد أبي حمو بالقعود عن نصرتهم والأمير أبو زيان قد انطلق لسبيله عنهم فسقط في أيديهم وعاودهم الندم على ما استدبروا من أمرهم وحملهم يعقوب على مراجعة السلطان وأوفد أبنه محمداً في ذلك مع وافد العزيز أبي عبد الله محمد بن أبي هلال فتقبلهم وأحسن التجاوز عنهم.وبعث أبا يحيى أخاه لاستقدامهم أماناً لهم وتأنيساً.وبذل لهم فوق ما أملوه من مذاهب الرضى والقبول واتصال النجح والظهور والحمد لله وحده.تغلب ابن يملول على توزر وارتجاعها منه قد كان تقدم لنا أن يحيى بن يملول لما هلك ببسكرة تخلف صبياً اسمه أبو يحيى وذكرنا كيف أجلب على توزر سنة اثنتين وثمانين مع لفيف أعراب رياح ومرداس.فلما كان سنة ثلاث وثمانين بعدها وقعت مغاضبة بين السلطان وبين أولاد هلال من الكعوب وانحدروا إلى مشاتيهم بالصحراء فبعث أميرهم يحيى بن طالب عن هذا الصبي أبي يحيى من بسكرة ونزل بأحيائه بساح توزر ودفع الصبي إلى حصارها واجتمع عليه شيعته من نواحي البلد وأوشاب من أعراب الصحراء وأجلبوا على البلد وناوشوا أهلها القتال وكان بها المنتصر ابن السلطان فقاتلهم أياماً.ثم تداعى شيعهم من جوانب المدينة وغلبوا عساكرهم وأحجروهم بالبلد ثم دخلوا عليهم وخرج المنتصر ناجياً بنفسه إلى بيت يحيى بن طالب.واستذم به فأجاره وأبلغه إلى مأمنه بقفصة وبها عاملها عبد الله التريكي.واستولى ابن يملول على توزر واستنفد ما معه وما استخرجه من ذخائرهم بتوزر في أعطيات العرب وزادهم جباية السنة من البلد بكمالها ولم يحصل على رضاهم.وبلغ الخبرإلى السلطان.بتونس فشمر عزائمه وعسكر بظاهر البلد واعترض الجند وأزاح عللهم وارتحل إلى ناحية الأربص وهو يستألف الأعراب ويجمع لقتال أولاد مهلهل أقتالهم وأعداءهم أولاد أبي الليل وأولياءهم وأحلافهم ليستكثر بهم حتى نزل فحص تبسة فأراح بهم أياماً حتى توافت أمداده من كل ناحية ثم نهض يريد توزر.ولما احتل بقفصة قدم أخاه الأمير أبا يحيى وابنه الأمير المنتصر في العساكر ومعهما صولة بن خالد بقومه أولاد أبي الليل وسار على أثرهم في التعبية.ولما انتهى أخوه وابنه إلى توزر حاصروها وضيقوا عليها أياماً.ثم وصل السلطان فزحف إليها العساكر من جوانبها وقاتلوها يوماً إلى المساء.ثم باكروها بالقتال فخذل ابن يملول أصحابه وأفردوه فذهب ناجياً بنفسه إلى حلل العرب ودخل السلطان البلد واستولى عليه وأعاد ابنه إلى محل إمارته منه وانكفأ راجعاً إلى قفصة.ثم إلى تونس منتصف أربع وثمانين.ولاية الأمير زكرياء ابن السلطان على توزر ثم عاد ابن يملول إلى الأجلاب على توزر من السنة القابلة وخرج السلطان في عساكره فكر راجعاً إلى الزاب ونزل السلطان قفصة ووافاه هنالك ابنه المنتصر وتظلم أهل توزر من أبي القاسم الشهرزوري الذي كان حاجباً للمنتصر فسمع شكواهم وأنهى إليه الخاصة سوء دخلته وقبيح أفعاله فقبض عليه بقفصة واحتمله مقيداً إلى تونس.وغضب لذلك المنتصر وأقسم لا يلي على توزر.وسار معه السلطان إلى تونس وولى على توزر الأمير زكرياء من ولده الأصاغر لما كان يتوسم فيه من النجابة فصدقت فراسته فيه وقام بأمرها وأحسن المدافعة عنها وقام باستئلاف الشارد من أحياء العرب وأمرائها حتى تم أمره وحسنت ولايته والله متولي الأمور بحكمته سبحانه. |
الساعة الآن 05:27 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |