منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   واحة الأدب والشعر العربي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=199)
-   -   شعراء من فلسطين (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=26512)

أرب جمـال 12 - 8 - 2012 04:08 AM

حيفا في سواد العيون
المصدر : ديوان "حيفا في سواد العيون"
دمشق : أوائل تشرين الثاني 1950
يحق لحسن البحيري أن يهيم عشقا في بلاده، أو ليست فلسطين ؟! فكيف إذا كانت مهد مولده وممشى صباه عروس المدائن " حيفا " ، بقدر الحب تأتي اللوعة ، فيسافر في ذكرياته وتنزف أيامه الماضية قصائد ولا أروع ، فنعيش في حيفا دون أن نعيش ، ونبكي عليها ولم نرها إلا من خلال عيونه ، ولا يظل الأمر هكذا بل نهيم بوطن غادرتنا محسوساته ولم تغادرنا أحاسيسه ، لعيني حيفا وسواد عيونها التي أرمدت في أيام الاحتلال ، هو لا يبكي أطلالا ، ولكن يذكر عهدا وحسب الوفي أن يذكر اشتياقه ويكتبه في دفتر الأيام ...
يوم غادرت مسقط رأسي مدينتي الحبيبة ((حيفا)) ، بعد ظهر الخميس في 23 نيسان عام 1948م لم يكن ليمر في توهم خيالي إني أغادرها إلى غير رجعة .. فلقد ركبت البحر إلى "عكا" (نحو ست عقد بحرية) على أن أمضى فيها ليلتي ، ثم أعود بعد أن يخفُ جحيمُ الموت .. ولكن : تقفون والفلك المحرك دانب وتقدرون فتضحك الأقدار!
ما أَشرقتْ عينــاكِ إلاَّ خْاننـــي
بصَبابتي .. صبري .. وحُسْنُ تجملي
وتَحسَّستْ كفّـايَ من أَلـَم الجــوى
سهماً مغارسُ نَصْلـهِ في مقتلـــي
وتسارعتْ من مُهْجَتــي في وجنتـي
حُمْر المــدامع جــَدولاَ في جَدولِ
فَلقد رأيـتُ بلحظ عينـــكِ إذ رَنـــَتْ
والِتّيهُ يَكْحَلُهـا بمِيـــل تَـــدلُّلِ
(( حيفا )) وشاطئـها الحبيبَ، وسَفحـهَا
وذُرىً تعـالتْ للسِّـاكِ الأَعْـــزَلِ
ومُنىً تقَضــتْ في فَسيـح رِحابـها
وهوىً تولَّــى في الشبــاب الأولِ
ورأيتُ هَيْمَنــَة الأَمــانِ مُطَمـأَنَ
اللهفــاتِ من غَدْرِ الصُّروفِ الحُوَّلِ
بِظِلالِ أهـدابٍ تــَرِفُّ غَضــارةً
كظلالِ أَهْـدابِ الغمــام المثْقَــلِ
وذكرتُ من عُمــر النعيم مَضـاءه
بِصِبىً على رُودِ الليــالي مُعْجَــلِ
والعيْشُ بُسْتـانٌ وبَسْمــَةُ ســعدهِ
فجرٌ بأفراحِ المشــارق يَنجلــي ..
والنجــم يَسحبُ من مَشارفِ اُفْقـِهِ
ذيلَ الإباءِ إلى مَشــارِفِ مَنــْزلي
عينٌ رأيـتُ بِسْحــرِها وفُتونــها
أحلامَ عَهْـدٍ بالصَّفــاءِ مُظـــلّلِ
ولمحـتُ بين سوادِهـا وبياضــِها
ظِلَّ الصَّنَوْبَرِ في أعالي (( الكَرْمـلِ ))
فعلى جفــونكِ لاحَ طَـيفُ ربيعـه
والحُسْنُ يوطئه بســاطَ المُخمَــلِ
والسَّوْسَنُ المطلــولُ بَيْن صخـوره
خَفِــقُ العِطافِ على أغاني البُلْبـلِ
ومَضاجعُ الأحبــابِ في أحضـانه
بَيْنَ الخَمَائلِ من حَريـرٍ مَوصْــلي
والرّيح ُ تَشْــدو في مَلاعبِ دَوْحـهِ
نَغَمــاً تنـام له عيونُ العُـــذَّلِ
جَبَلُ أَطــَلَّ على مرابــع أُنْســهِ
قَمَري . . وغـابَ وَتِمُّه لم يكُمــلِ
وغَرَســْتُ بين شعافــِهِ وشِعابِــهِ
زَهـْر الصِّـبا وَرَوَيْتُه من سَلْسَلـي
ورعيتــه بالرُّوح من لَفــحٍ .. ومن
نَفْحٍ ومن غِيَـر الزمــانِ النُّــزَّلِ
فنَما على جُهــْدِ الضَّنى .. وعَنائــِه
وزكا على جُرحٍ عَسيـرِ المَحْمَــلِ
حتى استوى سُوقاً .. وَهَدْهَدَ خاطــري
مَجْنىً .. وأكمامُ الرًّجـاءِ بَسَمْنَ لـي
قَطَفـَتهْ كـفٌ غيـرُ كفّــى عَنْــوَةُ
وجَناهُ من أرضي غريـبُ المِنْجــلِ
فإذا رنــوتُ إلى لحــاظـكِ تائـهاً
من سِرِّها في جُنـْح ليْــلٍ أَلْيَــلِ
مُتَــعَثِّرَ اللحظَاتِ ، مَشْدُوهَ الأســى
أَهْفـو لِحَــظٍ مُدْبِــرٍ أو مُقبــِل
وأنــا أَرُودُ بِلَهَفْتــي وصَبابتــي
أَلَقَ السَّنى من وَجْهــكِ المتهــلِّلِ
فَتَلَفَّتــي ، لا تَعْطِفــي جِيدَ الحَـيا
عنّي ، ففي عينيكِ غايةُ مأْمَلـي ....

أرب جمـال 12 - 8 - 2012 04:09 AM

قلمٌ لمْ يفارقُه الحنين
بقلم : سمير عطيه
كانت الدواوين الثلاثة التي أصدرها الشاعر قبل نكبة فلسطين ، كافية لينقش اسمه في جبال الكرمل قبل أن يضطر لمغادرة الوطن . خمسون عاما قضاها بعد ذلك بعيدا عن وطنه ومدينته ورغم ذلك ظلّ وفيّا يغني لفلسطين ويضع "حيفا في سواد العيون "في الأيام التي كانت حبلى بالثورات في فلسطين، وُلد الشاعر حسن البحيري في " وادي النسناس " أحد أودية جبل الكرمل في مدينة حيفا عام 1921، ورغم اليتم الذي عاشه، وقساوة زوج الأم فيما بعد، ظلّ الشّاعر متمسكا بأمله في أن يحتضن القلم والدّفتر حتى ولو كان ذلك خلف أسوار المدرسة التي حُرم منها فيما بعد .
الظروف القاسية التي عاشها لم تكن لتتغلب على رقة روحه ومشاعره، ولم تكن لتحاصر حلمه، وكان مدينة حيفا بسهولها وجبالها هي محضن الحب الذي لجأ إليه الشاعر، فكان أن أصدر ثلاثة دواوين شعرية وهو لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره. ولعلّ رغبته في أن تتم طباعة هذه الدواوين في القاهرة هي باب الشهرة التي مكنت القراء والنقاد من الاهتمام بشعره، خاصة وأنّ هذه الدواوين قد سلمت من أعمال التخريب والنهب من قِبل الصهاينة عند احتلالهم لمدينة حيفا.
وإذا توقفنا عند هذه الدواوين الثلاثة فسنجد كيف أثّرت مدينة حيفا بجمالها الخلاب على الروح الرّقيقة للشاعر الذي سكب هذه الرقة في كؤوس الدواوين شعرا عذبا. فديوانه الأول "الأصائل والأسحار" الذي طُبع عام 1943، وديوانه الثاني "أفراح الربيع" والذي طبع في العام الذي تلاه، وأخيرا ديوان "ابتسام الضّحى"، والذي تمت طباعته قبل النكبة بعامين فقط "1946م"، كل هذه العناوين التي تأخذ من طبيعة المدينة عناوين لأعماله الشعرية، فتقرِّبه من أبناء المدرسة الرومانسية، ونقول تقربه لأنه لم يُحلق في فضاء الطبيعة تاركا جرح الوطن النازف دون أيّ ضماد، ولعلّ قصيدة " الشرق...أو أرض البلاد " التي جاءت في ديوان الشعري "ابتسام الضحى" تعطي صورة واضحة عن هذه المشاعر تجاه الوطن :
أرضَ البلادِ نَعِمتِ تحتَ لوانا وبقيتِ ما بقيَ الزَّمانُ حِمانا
ويقول فيها مخاطبا بلده :
وَلَتَبْقينَّ لنا على طولِ المَدَى روْضاً غرسْنا فيهِ زهـر َمُنانا
لا تسْتَهِنْ يا غَـربُ إنَّـا أُمَّةٌ كُتِبَ اسمُها لِذُرَى العُلا عُنوانا

هذه الصورة التي استقاها من تجربة التاريخ، وحركة الزَمان المتواصلة، وتلك الوقفة التي رأى من خلالها صورة مجد أمته الذي مضى، لا تتركه بعيدا عن الشعراء العرب الكبار في تاريخ الشعر من أمثال البحتري وابن زيدون وأحمد شوقي. ولذلك لم يكن غريبا أن يُعيد الشاعرُ القارئَ إلى دروس الماضي، ومدرسة التاريخ، وهو فيذلك يحاول رمي طوق النجاة لأبناء شعبه وأمته وهو يراهم وسط أمواج " الاستعمار الانجليزي " المتلاطمة، والعواصف "الصهيونية" التي كانت تعصف بالوطن آنذاك، وهو في ذلك التوجه يتجاوز حوادث الزمن إلى دروس تمتد في عمرها طويلا لتعيش في نبض الشعوب وهكذا يرسم فهمه لرسالة الشعر والأدب:
فلكٌ يدورُ...وحادثاتٌ تنْثَني.... وقوابلُ الأيّامِ غِبْنَ بيانا
لا يخدَعَنَّكَ أنْ صَفا وجهُ الزَّمانِ الجهْمِ فهوَ مُلَوَّنٌ ألوانا
لا تأمَنَنَّ الدَّهرَ في وثباتِهِ....فالدَّهرُ يلبسُ كلَّ يومٍ شانا
لا تغفونَّ على نشيدٍ خادِعٍ...قدْ سَجَّعتهُ لكَ المنى ألحانا
فلنوقِظنَّكَ منْ سُباتِكَ يقظةً...تَذَرُ الزَّمانَ وراءَها حسرانا

ورغم أنه يصور لنا جراح وطنه في مناسبة العيد، إلا أنّ المفارقة العجيبة أنّ ذكرى العيد قد ظلّت تؤرّق نفسه، وتجدد الحزنَ في نفسه ففي هذا الديوان يكتب بيتين من الشِّعر، يكون لهما ما بعدهما:
يُهنئِّنُي بالعيدِ منْ ظنَّ أنَّ لي...سوى برءِ أوطاني الجريحةِ عيدا
أَرَى الشَّرقّ مَطْوِيَّ الفُؤادِ عَلى الأسَى...فَلا عيدَ إلَّا أنْ أراهُ سَعيدا

لقد كانت مناسبة العيد حاضرة في ذات الشّاعر، وكانت مناسبة لمحطات يتوقف عندها الشاعر على امتداد عمره، فنراه في مطلع العقد التاسع من القرن العشرين يكتب رسالة في عيد ولكن في هذه المرّة من دمشق العاصمة التي استقرّ بها بعد ضياع وطنه .
ومما يوجع القلب في قراءتنا لهذه الدواوين التي سبقت نكبة الوطن، أنّ ابتسام الضّحى الذي رآه شاعرنا في جبل الكرمل قد تبدّل "عبسا وجهما"، أماّ أفراح الرّبيع التي كانت في ديوانه الآخر فلم تمض عليها الأيام وبعض السنوات حتى تحولت إلى أتراح الدّيار ومواجع، والأصائل والأسحار لم تدم في زمن الشاعر كتبدل أوقات كلها تلدُ إبداعا وشعرا، ولذلك يتوقف الشاعر عن النشيد سنوات طويلة بعد النكبة بلغت خمس وعشرين عاما، ليطلق حنينه إلى مدينته التي تركها مرغما،، ويترك قصائده تسافر مع أطيار السنونو في ديوانه " حيفا في سواد العيون "بعد أن تركها حبيسة القلب والأوراق زمنا طويلا، وفي هذه الإطلالة الحزينة والكئيبة الأولى منذ ضياع وطنه، تتزاحم الكلمات في ديوانه من غير نشاز، وتطفو على سطح المشاعر أشواق وأشواك، ورغم أنه يترك عنوان الديوان لمدينته "حيفا " إلا أن القصيدة الأولى في الديوان والتي سبقت المقدمة تكون لفلسطين، الأم والوطن والفؤاد المكلوم:
أيا فلسطينُ يا عُمقَ الأسى غُصَصا...ويا سُهادَ الضَّنَى نَاْيا وحِرمانا
على تَوَالي اللَّيالي في تُجَهُّمِها...والعُمرُ يمضي بها غَمّا وأحْزانا
إنِّي لَأسْمَعُ- والآلامُ تَصْهَرُني...فالجرحُ يَسْعَرُ في جنْبيَّ نيرانا
مِنْ كُلِّ ما فيكِ من سَهلٍ ومن جبلٍ...ما باتَ يرثي بِهِ أهلاً وأَعوانا

لقد تركت الفاجعة أثرها، ولعل الشاعر من أقدر الناس على نقل مشاعره إلى النّاس، وكان الشاعر حسن البحيري من هؤلاء، فها هو ينكأ الجراح الفلسطينية، ويُعيد شريط الذكريات، وتمرُّ عليه الأشواق بكل أطيافها، ولحيفا نصيب، أو ليست هي التي في سودا العيون؟؟ وبين جوانح الصدور؟
"حيفا" وأنتِ مِزاجُ الرُّوحِ في رَمَقي...وعُمقُ جُرْحِ الهَوى في مُوجَعي الخفقِ
يَشُدُني لكِ شوقٌ لو غَمستُ لَهُ...يراعَ شعريَ في صَوْبِ الحيا الغَدِقِ
ورحتُ بالحبِّ والذِّكرى أُصَوِّرُهُ... دمعاً على الخدِّ أوْ حرْفاً على الورقِ
لجفَّ حبري ولم ْأبلغْ قرارةَ ما...ضمَّتْ جوانحُ صَدري منْ لَظَى حُرَقي

وكأنّ الشاعر لم يكتفي بقصائده المعبرة، وكأنّ الفاجعة أكبر من أيّ قصيدة، وأعظم من كل الكلمات، فالإهداء الذي تصدّر هذا الديوان ينبض بالأنين، ويفيض بالحنين، فتراه ينثر الحروف والكلمات على صفحات الورق، وهو بعد أن يكتب يختم بأبيات شعرية ويعود إلى شاعريّته، ولكن للنثر في شخصية هذا الأديب نصيب، ففي الإهداء في ديوان "حيفا في سواد العيون" خير مثال على ما نقول، خاصة وهو يخاطب الوطن المنكوب:
( وأنتِ يا فلسطين ، يا ذات التُّراب الأقدس ... يا أوّل ما جال في رئتيَّ من أنفاس الحياة إني لم أغادرك طائعا ولا مختارا ، ولكنها أعاصير المقادير هبّت عليَّ عاصفةً ، راجفةً ، عاتية ... بعد ظهر يوم الخميس ، في الثاني والعشرين من شهر نيسان ، عام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف ، فانتزعتني منك انتزاعا ..! ولعلِّي كنت يومئذ آخر من أُكرهَ على مغادرة أوّل أرض مسّ جسمي ترابُها ...) .
أرأيت أخي القارئ كيف يصف الشاعر تمسكه بأرضه ؟؟ إنه آخر من أرغمه الصهاينة على ترك بيته ، لأنه ظلّ متمسكا به ، متشبثا بحلمه ، متعلقا بوطنه . وفي هذه الكلمات أيضا نقرأ تأثره بالشعر العربي في قول الشّاعر :
بلادٌ بها شقَّ الشَّبابُ تمائمي...وأَوَّلُ شيءٍ مسَّ جلدي ترابُها
ويمضي في دموعه الشعرية ليصل إلى حيفا وما تحمل في نفسه من أشواق يكابدها ليل نهار، ولعل ّ في الأبيات ما يُغني عن أيّ شرح أو تعليق !!
ما أَشرقتْ عينـاكِ إلاَّ خْانني بصَبابتي.. صبري.. وحُسْنُ تجملي
وتَحسَّستْ كفّايَ من أَلَم الجوى سهمـاً مغارسُ نَصْلهِ في مقتلـي
فَلقد رأيتُ بلحظ عينكِ إذ رَنَتْوالِتّيهُ يَكْحَلُهـا بمِيــل تَـــدلُّلِ
(
حيفا) وشاطئها الحبيبَ، وسَفحهَا وذُرىً تعـالتْ للسِّماكِ الأَعْـــزَلِ
عينٌ رأيتُ بِسْحرِها وفُتونهـا أحلامَ عَهْـدٍ بالصَّفـاءِ مُظــلّلِ
ولمحتُ بين سوادِها وبياضِها ظِلَّ الصَّنَوْبَرِ في أعالي (الكَرْمـلِ)

ولعلها من القصائد المتميزة في الأدب الفلسطيني في موضوع "التغزل بالوطن" ، وطلب الوصال معه وكأنه صب عاشق ولهان يبحث في عيون حبيبته عن الأمل :
فإذا رنــوتُ إلى لحــاظـكِ تائـهاً من سِرِّها في جُنـْح ليْــلٍ أَلْيَــلِ
مُتَــعَثِّرَ اللحظَاتِ، مَشْدُوهَ الأســى أَهْفـو لِحَــظٍ مُدْبِــرٍ أو مُقبــِل
وأنــا أَرُودُ بِلَهَفْتــي وصَبابتــي أَلَقَ السَّنى من وَجْهــكِ المتهــلِّلِ
فَتَلَفَّتــي، لا تَعْطِفــي جِيدَ الحَـيا عنّي، ففي عينيكِ غايةُ مأْمَلـي....

الخذلان :
لم تغب العروبة عن شعر البحيري ، فكانت في أولى دواوينه كما رأينا، ورأينا كيف امتدت قوافيه لتقف عند حدود التاريخ ومدرسة الأيام ، وملاحم البطولة والأمجاد للأجداد . ولكنّ ما جرى على أرض فلسطين كان عظيما ، وخذلان بعض العرب لأهلهم في فلسطين لم يمر سريعا عند الشاعر ، فها هو يحكي بكل لوعة وأسى عن خذلان القريب ، ولأنّ ظلم ذوي القربى أشد مرارة فإنّ هذه القصيدة تأتي طبيعية في سياق التاريخ والأحداث وردة الفعل النفسي ، كيف لا والشعر أحاسيس ومشاعر ورقة وعذوبة ، يخدشه الأسى ، ويجرحه التخاذل:
أما فيكُمْ ملوكَ العُرْبِ ذو هَدْيٍ ولا مُرْشَدْ
يخِفُّ لِنُصرةِ الإسلامِ لمّا صاحَ واستَنجدْ
وَدَوَّى غوثه الملهوف يحمله الصَّدى الأَسْودْ
وأنتمْ في ظلالِ اليُمن غُصنُ مُناكمو وَرَّدْ
تُعزُّونَ الأَسى بالقولِ لا أَجدى ولا أنجدْ
فلو أبصرتمو "صهيونَ" لما هَبَّ واستَأسدْ
وصَالَ على كريِم العِرْضِ صولةَ غاشمٍ أنكدْ

وفي ذكرى وعد بلفور، وما تحمله من دلالات خطيرة وآلام عظيمة في وجدان الفلسطيني، يعود الشاعر ليترك وصاياه إلى النّاس، تحمل معانيه تجاوزا للحادثة على معاني أعمق وآفاق فكرية وإنسانية أوسع:
يا منْ جهدتمْ بالكلامِ فأزَّ فى الأفواهِ رَعدَا
لا يمَّحي جرحُ العروبةِ منْ فؤادٍ كادَ يرْدَى
بالقولِ نمقَهُ اللِّسانُ فسالَ للأسماعِ شَهدا
يا أيُّها الباكونَ يُجرونَ الدُّموعَ جوىً وسُهدا
ما نالَ ذو حقٍّ هوى بالدَّمعِ يَفْرُقُ مِنْهُ خَدَّا
فالحقُّ يُؤخَذُ بالصِّفاحِ تَؤُدُّها الأبطالُ أدَّا
والمجدُ يبنيهِ القويُّ ومَا بَنى ذو الضَّعفِ مجدا

فلسطين دائما :
ظل الوطن هو البطل الحقيقي في معظم قصائد الشاعر الذي امتدت حياته منذ النكبة وحتى وفاته في عام 1998 خمسة عقود كاملة . ومن ديوان (لفلسطين أُغنّي) مروراً ب (جنة الورد) و(سأرجع) وليس انتهاء بديوان (لعيني بلادي) يرسم شعر حسن البحيري صورته في وجدان المستمعين، ويترك فلسفة الحب تنتشر بشكل جديد حين نقرأ ديوان ( ظلال الجمال..قصائد حب)، ففيه قصيدة (حبيبتي فلسطين) التي تفيض رقة وعذوبة وشوق إلى دياره.
وقصيدة (دمعة في ربيع الكرمل) الذي يرى من خلالها دمعة المشتاق، ولوعة المفارق لأحبته .

البحيري والشعراء:

قد يظن البعض أنّ الشاعر في مهجره بدمشق انزوى يبكي على وطنه الضائع ومدينته المغتصبة، ولكن من يملك مثل روح الشاعر لا يمكن أن يقبل بالقعود، خاصة وأنه يرى الأمة تمر في منعطف خطير.
من هذا المنطلق زاول شاعرنا العديد من الأعمال، وتقلب في مختلف الوظائف في المجال التعليمي والإذاعي. ومن خلال عمله الإذاعي أخذ يبث أشواق المغتربين إلى الوطن عبر شعره، ويدعو على تخليص الدّيار من المحتلين.
أما من حيث علاقاته مع غيره من الشّعراء فقد عقد البحيري صداقات مع الشعراء الفلسطينيين والسوريين والشعراء العرب الآخرين، وكان من ضمنهم الشاعر الإماراتي سلطان العويس حيث كانا يتفقان في حبهما للشعر العربي المتمسك بقوة الألفاظ وجزالتها.
مكانة الشاعر:
بلغ عدد الدواوين الشعرية للشاعر حسن البحيري خمسة عشر ديوانا شعريا بالإضافة إلى رواية كتبها قبل النكبة وطبعا قبل عدة سنوات من وفاته (رجاء-1990). كما أن ترجم بعض قصص الأطفال عن الإنجليزية، إضافة إلى عدد من المخطوطات .
قال عنه الدكتور محمد عطوات مؤلف كتاب الاتجاه الإسلامي فـي الشعر الفلسطيني المعاصر : ينطلق الشاعر في الاتجاه الديني من تصور ديني في نظرته إلى الكون والإنسان والحياة ، وفي نظرته إلى القضايا والأحداث ، والأشخاص والمشكلات ، وفي تعبيره عن العواطف والمشاعر . ومن أبرز شعراء هذا الاتجاه في فلسطين، حسب التسلسل الزمني خمسة شعراء من بينهم حسن البحيري.
أما الدكتور محمد الجعيدي فقد اعتبره من رواد التجديد حين قال في كتابه مصادر الأدب الفلسطيني الحديث: وفي هذه الفترة" الثلاثينيات" يمكننا أيضاً أن نعتبر من بوادر التجديد قصيدة "أحلام البحيرة" النثرية لحسن البحيري . ونجد عند الدكتور رياض آغا تفصيلا في جانب آخر حين يقول في إحدى دراساته: لم يكن شعر المنفى كما سماه يوسف الخطيب، أقل شأناً من شعر المعتقل، وقد أتيح لي أن أعرف عن قرب صناجة فلسطين (حسن البحيري) رحمه الله، وكان في أواخر أيامه يعمل مدققاً للغة العربية في هيئة الإذاعة والتلفزيون السورية، وكنت يومها أحد المسئولين في الهيئة، وأذكر غيرته على اللغة، وحزنه الشديد حين يقع خطأ نحوي على ألسنة المذيعين والمذيعات، وكنت أشاركه هذا الحرص على لغتنا العربية، لأنها الوطن الأم الذي إن فقدناه فقدنا انتماءنا إلى العروبة، وكان البحيري مغرماً بالجرس الشعري.

ونذكر سريعا بعض المؤلفات التي تناولت سيرة الشاعر وعطائه الأدبي ومنها: الوطنية في شعر حسن البحيري من تأليف : صبري دياب، وكتاب .. الشاعر حسن البحيري : صورة قلمية في رحلة إلى الأعماق من تأليف الدكتور حسني محمود.
رحم الله شاعرنا، فقد أخلص في حبّه لوطنه ، وجعل من قلمه نشيدا يغني للديار، ويتغنى بالأبطال المدافعين عن حياض الوطن وكرامة الأمة ومقدساتها:

ثاروا.. ولَيسَ لِنارِ ثَورَتِهِمْ علَى الباغي خُمودُ
فَهُمُ الزَّلازِلُ والنَّوازِلُ والصَّواعِقُ والرُّعودُ
وصَدَى بُطولَتهِمْ علَى فَمِ كُلِّ عاصفةٍ نَشيدُ


أرب جمـال 12 - 8 - 2012 04:21 AM

الشاعر حكمت العتيلي

نبذة
ولد الشاعر العتيلي في 8/8/1938 في بلدة عتيل قضاء طولكرم، وانتقل بعد دراسته الابتدائية هناك إلى طولكرم، لينهي دراسته الثانوية وينتقل من طولكرم إلى دار المعلمين، في عمان، لتؤهله ليصبح مدرسا للغة العربية. حصل لدى تخرجه على مهنة معلم في مدينة معان الأردنية، لكن لم يطل به المقام هناك، حيث عين مدرسا للعربية في أرامكو بالسعودية، وهناك عين بعد زمن ليس طويلا محررا لمجلة قافلة الزيت التي تصدر بالعربية، حيث أمضى ما مجموعه خمسة عشر عاما.

انتقل في مطلع عام 1976 مع عائلته إلى سان دييجو في جنوب كاليفورنيا، ليمضي هناك خمسة عشر عاما أخرى من الغربة. وفي بداية تسعينيات القرن الماضي انتقل إلى منطقة لوس أنجيلوس، حيث التقى بمجموعة من الشعراء والكتاب والصحفيين، وأسس معهم المنتدى الثقافي العربي الأمريكي، الذي مازال قائما حتى الآن، وانضم الشاعر إلى تجمع الكتاب والأدباء الفلسطينيين في بداية تأسيسه وساهم بتأسيس لقاء الأربعاء في منطقة لوس أنجيلوس الذي ظل يساهم فيه سبع سنوات طويلة زاخرة بالأدب والشعر والثقافة.

اقترن الشاعر العتيلي بالفنانة التشكيلية أمل عتيلي وأنجب منها (جاد, عادل, سرى)، وكانت زوجته أمل خير معين له في رحلة شقائه الطويلة والتي ظلت ملازمة له منذ كان شاباً يافعاً إلى أن انتهى به المقام على فراش المرض.

شكل صدور مجلة " الأفق الجديد " المقدسية، عام 1961، جامعة أدبية ينهل من رحابها عطشى الأدب، في الأردن وخارجه، على أيدي الرواد الأوائل، كما على أيدي جيل جديد من الأدباء والشعراء. ولعل من أبرز الأسماء التي وقف أمامها محبو الشعر، طويلاً وبكثير من الإعجاب ، حينذاك ، كان اسم الشاعر حكمت العتيلي، الذي قلما خلا عدد من مجلة الأفق الجديد من قصيدة جديدة له، والذي امتد اسمه إلى خارج الأردن، واحتلت قصائده صفحات منيرة من كبريات المجلات الأدبية المتخصصة كـ"الآداب" و"الأديب".

صدر للشاعر حكمت العتيلي ديوان وحيد في منتصف ستينيات القرن الماضي حمل اسم (يا بحر) عن دار الآداب في بيروت. وبسبب سنوات غربته القاسية، لم يتسن للشاعر التواصل مع قرائه ومحبيه على الرغم أن لديه ما يقرب من ستة دواوين شعر جاهزة للنشر، نشر بعض قصائدها في مجلات ثقافية متخصصة مثل (إبداع)، (جسور)، (أخبار الأدب) كما واصل كتاباته النثرية والشعرية في صحف مهجرية كان أهمها صحيفة (الوطن) الأسبوعية التي تصدر في لوس أنجيلوس.

منذ أكثر من سنتين بدأت صحته بالتدهور التدريجي، نتيجة مرض السكر، الذي استطاع أن يدمر طاقة كليتيه، بعد ذلك بدأ كل شيء لديه بالانهيار، منذ عام وهو يقيم إقامة شبه دائمة في المستشفى، الذي دخله قبل ستة أشهر تقريبا حتى رحيله.

كان المرحوم في غيبوبة دائمة لمدة من شهر ونصف، إلى أن سكت نبضه، لكن ظلت نوارس شعره تحلق في سماء بلدته عتيل وغربته الطويلة.

توفي يوم الخميس الموافق 23 فبراير/شباط في لوس أنجيلوس بجنوب كاليفورنيا، الشاعر الفلسطيني حكمت العتيلي، الذي حمل هموم أمته العربية عامة وشعبه الفلسطيني خاصة، حتى آخر لحظة في حياته. وقد توفي العتيلي عن عمر يناهز السابعة والستين عاما.

أرب جمـال 12 - 8 - 2012 04:22 AM

عاشق البحر .. على سرير المرض
الأحد ١٩ شباط ( فبراير ) ٢٠٠٦م
بقلم
عيسى بطارسه
بين سرير طبي يقبع في منتصف غرفة صغيرة تستسلم لرائحة الأدوية الثقيلة، ولمجموعة كبيرة من الأجهزة، مختلفة الوظائف التي تحشر نفسها، وتحشر زوايا الغرفة فيما بينها، وبين غرف العناية المركزة، في أكبر مستشفيات مدينة ويتير في جنوب كاليفورنيا، تعثرت رحلة عمر الشاعر الفلسطيني حكمت العتيلي. وخرجت أو أخرجت مرغمة عن مسار سبعة وستين عاما، لتقف بلا حول أمام الفاصل الصغير بين الموت والحياة.
ورغم الحب الذي يحيطه به أفراد عائلته، وأصدقاؤه ومحبوه، فلقد قرر أو قرر له أن يدخل شبه غيبوبة، لم يخرج منها حتى هذه اللحظة، وبعد مرور أكثر من خمسة أسابيع.
لا أحد من سكان الأرض يعرف أين ومتى ستصب هذه الغيبوبة، ومن أي الأبواب سيخرج حكمت العتيلي في نهايتها، لكنه من المؤكد أنه يقف يوميا، وجها لوجه أمام الأذرع السوداء العنيدة الفولاذية، هو نفس الموت الذي صرخ في وجهه منذ أكثر من أربعين عاما:
يا سارق الأحباب ..
أنت !
خرج من زيارة من زياراته الكثيرة لنفس المستشفى، قبل عامين وفي يده قصيدته الأخيرة الجميلة الدامعة العينين المتشبثة بالحياة التي يقول فيها:
مازال في القنديل زيت،
ما زال لي امرأة
وأولاد
وأحباب وبيت،
لكأن في قلبي صهيل صاخبُ
لكأن ألفا من جياد ٍ
في دمي تتواثبُ".
هل نضب زيت القنديل هذه المرة يا حكمت؟
هل تعب الصهيل في قلبك، وانكفأ على نفسه؟
وهل كفت الجياد عن التواثب، وانضمت لأحبائك الذين يقفون أمام الوقت والساعات والدقائق بقلوب مكسورة خائفة مرتعشة لا تعرف ما تتوقع، ولا أين سيوصلها ويوصلك الدعاء ولا اللهفة ولا الدموع ولا الطب الذي يرفع يديه قليلا قليلا كل يوم حائرا فيما يفعله أمام هذه الانهيارات المتوالية.
وماذا ظل لدينا غير: يا رب ..)
كان ذلك في نهاية عام 1990، حيث كنا نتناول العشاء في منزل صديقنا يعقوب خوري، في مدينة ليكوود في منطقة لوس أنجيليس، يقيمه احتفاء بالصديقين الكبيرين الزائرين من الأردن الأديب فخري قعوار والناقد نزيه أبو نضال، عندما فوجئنا بمضيفنا يقول بدون سابق إنذار، أنه ذهب ليلة الأمس هو وحكمت العتيلي الي اجتماع الصندوق العربي الفلسطيني. توقفت يدي باللقمة في منتصف طريقها إلى فمي، لدي سماعي اسم حكمت العتيلي، ونظرت بشكل عفوي إلى وجه صديقي فخري، حيث كان بدوره يحملق في وجهي، كأنه يريد أن يسألني إذا كنت سمعت ما سمع، سبقني فخري إلى سؤال مضيفنا: هل قلت حكمت العتيلي؟
ـ نعم، حكمت العتيلي، هل تعرفه؟
ـ حكمت الشاعر؟
قال يعقوب وقد قلب يديه بحيرة
ـ شاعر؟ لا علم لي بذلك!
تدخلت وفي نيتي حسم الموقف
ـ هل معك رقم هاتفه؟
قال فخري دون أن يعطيه فرصة للجواب
ـ هل ستلتقي به قريبا؟
ـ بعد يومين في اجتماع الصندوق
سألته عن علاقة حكمت بالصندوق، فقال أنه رئيسه لهذه الدورة
قال له فخري
ـ أرجو أن تسأله إذا كان هو الشاعر حكمت، وأن تخبرنا بأسرع وقت ممكن!
بعد يومين، اتصل بنا يعقوب من ليكوود وقال أنه سأل حكمت عن قضية الشعر، وأنه أي حكمت استغرب ذلك وقال أنه لم يخبر أحدا منذ قدم من سان دييجو، فكيف عرف ذلك، وقال له صديقنا أن فلانا وفلانا وفلانا سألوني عنك، وأردف أنه لم يبد عليه أنه يعرف أيا منكم.
قال فخري لأنه في الحق لا يعرفنا، لكننا نعرفه حق المعرفة.
على شواطئ قصائد حكمت العتيلي، وقفنا نمعن النظر في أمواجه وأنوائه وقواربه ونوارسه، ونرى في الكثير من صوره المستحدثة الحية النابضة المعبرة، ما يدعو للانبهار.
ولعل قصائد حكمت العتيلي، هي ما أنار لي، ليس حبي المطلق للشعر وحسب، بل حسمت لي ترددي في مراحلي الأولي بين كتابة القصة أو كتابة القصيدة.
قر قرارنا تلك الليلة أن ندعو الشاعر حكمت، لنتعرف اليه عن قرب، وليتحفنا ببعض من شعره، الى العشاء الذي يقام بعد يومين، وداعا للضيفين العزيزين، مع نخبة من الناشطين والصحفيين والكتاب في المنطقة. ولقد كنت أحفظ لشاعرنا عن ظهر قلب، مقاطع من قصائده وجدت لها منذ ثلاثين عاما، مستقرا في ذاكرتي كما في قلبي:
عيناكِ كالزمان كالبحار،
كرحلة طويلة بلا قرار،
يخوضها من مطلع النهار،
لمطلع النهار،
مسافر حزين
في قلبي يا بحرُ حملتك غنوه ،
في عيني صلاةً ودعاءْ
وأتيتكَ أرجوك ثباتَ الخطوة،
ونشدتك لي أملاً ورجاء.
قل للنورس أنا
سنغسلهُ بندى الفرحةِ ان جاءْ
أنا سنصلي كي يرجع
صبحاً ومساءْ
ولدتني أمي ذات نهار مشمس،
فعشقتُ الشمس أنا
مذ ولدتني أمي،
ورأيت أبي يغرس أشجار الزيتون الغضه فيما يغرس
فجرى حب الزيتون بدمي .
ولي في الدار أشيائي الصغيرةُ،
مثلما للبحر أشياؤه:
أعاصيري، هدوئي، ضجتي، صمتي،
وأمواجي، حياتي، غربتي، موتي!
ولكني مللت الدارَ، بحراً مله ماؤه .
إذا كان الشاعر محمود درويش قد لقب على أيدي بعض النقاد بعاشق التراب، فحكمت العتيلي هو عاشق البحر والنوارس بلا منازع. فأنت تكاد تسمع هدير البحر، أو اصطفاق أجنحة النوارس على الماء في كل ما كتب حكمت العتيلي من شعر، طوال حياته، فهو عاشق وفي لهذا العشق، أمين له، وقد يقوي هذا الهدير وقد يخف مثله مثل خفق أجنحة نوارسه، حسب موضوع القصيدة.
دنا الشاعر إيليا أبو ماضي من البحر قليلا حين قال في طلاسمه:
"قد سألت البحر يوما
هل أنا يا بحر منكا؟
هل صحيح ما رواه
بعضهم عني وعنكا؟
أم ترى ما زعموا زورا وبهتاناً وإفكا؟
ضحكت أمواجه مني وقالت .. لست أدري"
أما حكمت العتيلي، فلم يكتفِ بالوقوف أمام البحر، ومغازلته مغازلة الخائف، بل دنا منه أكثر، لمسه بأصابعه، غمس رموش عينيه بمائه المالح، ليتسنى له أن يرى في العمق أكثر، وأن يصغي السمع لأنفاس البحر، على نحو يتيح له أن يترجمها بدقة لا متناهية، وأن يرقب عن قرب تلك الأعماق الغامضة الرهيبة القاتلة حينا، الثائرة حيناً، الحنونة حينا آخر:
"في عينيك رأيت الحزن نديا كالنعناع البري
حزنا دفاقاً أي حنان فياض قدسي
ولقد قلت حزنا يا بحر
وصرخت عطبنا يا بحرُ
وليس صدفة أن ديوان شعره الوحيد الذي صدر له، في منتصف الستينات، عن دار الآداب البيروتية، يحمل اسم يا بحر.
صافحته كما لو كنت أعرفه منذ دهور، وصافحني وهو لا يعرفني. كان خفيض الصوت، هادئ السمات، في عينيه وحشة غربة طويلة، ربما سكنتهما نتيجة لهذا الرحيل المتواصل، وعدم الاستقرار الأزلي الذي عاشه شاعرنا العتيلي منذ مراحل حياته المبكرة. ربما منذ اضطرته دراسته أن يرحل عن قريته عتيل وهو بعد في مطلع مرحلته الثانوية، ليستقر في مدينة طولكرم، كما سيظهر لاحقاً.
عندما تأملت وجهه، كادت عشرات الصور الشعرية التي أوقفتني أمامها مذهولاً، منذ زمن طويل، الحائرة الثائرة الباكية الشاكية المتمردة المؤمنة، جميعها ترفرف حوله مثل مجموعة من الفراشات التائهة، لا يراها أحد غيري، حتى هو نفسه. صحيح أن صديقي فخري، كان يعشق شعره مثلي، لكن شيئا ما خاصا، كنت أحس أنه يصبغ همومي وأحلامي بنفس اللون الذي كان يصبغ به هموم وأحلام حكمت.
قرأ لنا قصيدة، يبحث فيها عن حبيبته، في مدينة كبيرة مزدحمة، ربما كما هي لوس أنجيليس. كان صوته يميل إلى الهمس، ولاحظت أنه لم يرفع رأسه من الورقة التي تحمل قصيدته، ليرى وقع ما يقرأ في عيون مستمعيه. وطوال الجلسة كان يجيب على أسئلتنا باقتضاب، ولكن بعمق.
في القصيدة عاد الشاعر بلا حبيبته، وعدت أنا وفي نيتي أن حكمت سيكون في هذا المغترب، صديقي الأقرب.
ولد الشاعر حكمت العتيلي، في 8/8/1938، في بلدة عتيل قضاء طولكرم. يقول عنها الشاعر دائما، أنها مركز الكرة الأرضية بلا منازع. في عتيل أنهى حكـــــمت دراسته الابتدائية فقط، حيث أتم دراسته الثانوية في مدينة طولكرم. تفتحت براعمه الشعرية مبكرة، وبدا لديه اهتمام خـــاص باللغة العربية نحوها وصرفها، دفعه لهذا الاهتــــــمام، إضافة إلى جده لأمه، معلموه الذين توسموا فيه نبوغا من نوع خاص.
بعد مرحلة الثانوية، أتم دراسته في دار المعلمين في عمان، وفيها كلفه أستاذ اللغة العربية، فائز علي الغول برئاسة تحرير مجلة القلم، التي فتحت له نوافذ أدبية فسيحة، وأهلته ليصبح مدرسا للغة العربية، وقد تم تعيينه، في مدينة معان الصحراوية، حيث عاش قسوة تجربة الغربة، والبعد عمن يحب، وعما تعود عليه، خفف من غلواء قسوة التجربة، مجموعة من الأصدقاء المعلمين، الذين نشأ بين بعضهم وبين حكمت العتيلي، صداقات حقيقية جميلة، كثيرا ما نراها تطل برأسها في بعض قصائده حتى المتأخرة منها.
من معان خطفته وظيفة مدرس أخرى للغة العربية، لموظفي شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) في المملكة العربية السعودية، ثم عين في نفس الشركة، بعد وقت قصير، محررا لمجلة قافلة الزيت، التي تصدرها أرامكو باللغة العربية، حيث قضى خمسة عشر عاما هناك، في انقطاع شبه كامل عن الحركة الأدبية في العالم العربي، إلا في إجازاته القصيرة التي كان يمضيها في ربوع الوطن.
خلال هذه السنوات الجافة من عمره، كان ينشر قصائده في المجلات العربية، ولا يتاح له أن يراها مطبوعة، حيث كانت كل الصحف والمجلات والنشرات التي تصدر خارج المملكة ممنوعة من دخولها.
بعد مرحلة أرامكو، هاجر بعائلته المكونة من زوجته الفنانة أمل عبد المجيد، التي صممت له غلاف ديوانه الوحيد يا بحر وما لبثت أن دخلت قلبه، لتصمم لهما طريق الحياة، وترسم أجمل ثلاث لوحات تزين عشهما، وهي ولديهما جاد وعادل وابنتهما الوحيدة سرى، الذين ولدوا جميعهم في السعودية. هاجر إلى أمريكا، في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي، حيث أقام خمسة عشر عاما أخرى في مدينة ساندييغو في جنوب كاليفورنيا، وفيها حصل على شهادة الماجستير في الإدارة العامة، قبل أن ينتقل إلى ضواحي مدينة لوس أنجيليس، ليتم له فيها أن يلتقي بمن كون معهم ما أسموه بالمنتدى الأدبي.
بعد أن توطدت صداقتنا، أنا والشاعر الصديق حكمت العتيلي، وبدأت هذه الصداقة تنسج حولنا خيمة، إن لم تكن تصد أوجاع الغربة، وهمومها، فقد كانت تلقي فوقها وشاحا يخفف من حدة ألوانها الفاقعة. وقليلا قليلا تصبح الأشياء في ظل قصيدة جميلة جديدة، لا بأس بها. وبدأنا نعود للحياة وتعود الحياة إلينا، على الأقل شعريا. وبدأنا ربما للمرة الأولى، في هذا المغترب، نفقد الإحساس بلا جدوى وباللامبالاة.
بعد حين انضم إلى موكبنا الصغير، الذي يبحر ضد تيار الغربة، الشاعرة الفلسطينية المبدعة سلوى السعيد، وانضم إلينا القاص الفلسطيني الشاب نظام المهداوي، الذي يصدر جريدة أسبوعية باسم الوطن، حيث شكلت لمنتدانا الثقافي منبرا هاما، وقفزة نوعية مهمة. وكان معنا كذلك الناقد السوري اللبناني، والقاص إنعام الجندي، وانظم إلينا الاقتصادي العراقي الدكتور صاحب ذهب، وهو محب للشعر، يكتب القصيدة الكلاسيكية، ولكن ليس علي نحو متواصل، كما انضمت إلينا أيضا الكاتبة السورية الدكتورة وفاء سلطان، ومن مصر الموسيقي والصحفي صلاح كناكري.
وجد كل منا نفسه في منتدانا الشهري هذا، الذي كنا نقيمه في بيت واحد منا على التوالي مرة كل شهر، نستمع فيه إلى إبداعاتنا. لقد شكل عطفة جديدة مهمة لكل منا، ووقفة نحتاجها تجعلنا نحس بإنسانيتنا، وبتواصلنا مع الحياة، كل ذلك بعد سنوات من الإحساس بالضياع المطبق.
بعد أن دبت الحياة في أوصالنا المتجمدة بدأت شاعرية حكمت العتيلي، تعود إلى طبيعتها الثرة، وبدأت تشكل ينبوع عطاء لا يشحب، يغيب عني يومين أو ثلاثة، فيجيئني صوته على الهاتف فرحا مشرقا ليسمعني ملحمته مملكة القش :
يمضغون القات في مملكة القشِ
كأن القات ترياق الحياة.
ويحنون لعهد الجاهليه،
ويصلون لعشرين مليك وأمير وصنم
ويجافون الأله!
فألو الأمر هنا،
يعتنقون الوثنيه،
وألو الأمر هنا
قد وسموا كل الجباه
مثلما توسم بالكي الغنم(...)

أرب جمـال 12 - 8 - 2012 04:23 AM

للبحر هذا الكأس !
1-
للبحر هاجسُهُ،
ولي كالبحر هاجسْ
وله نوارسُهُ،
ولي دأبُ النوارسْ!
وله نفائسُهُ..
وكم أحرزْتُ منه على نفائس!
2-
للبحرِ هذا الكأسُ!
عاشَ البحرُ هذا العاشقُ الأزليُّ!
هذا الناسكُ الوثنيُّ،
هذا العابدُ الأوحدْ!
كم من إلهٍ عمّد البحرُ الوفيُّ،
ونصّب البحرُ الأبيُّ..
على رعاياهُ التي لولاهُ لم تؤمنْ ولم تَرْتدْ!
للبحرِ هذا الكأسُ!
أجذلَ من نسيم الصبح يلقاني..
ببسمته التي ارتسمتْ على شفتيه مِثْلَ هلالْ!
متلهفا ألقاهُ،
يهتفْ بي،
بصوتٍ غير مشحون ولا عالٍ ولا مُتعالْ:
(بالحضنِ!
ها قد عُدْتَ يا ولدي!
تعالَ تعالْ!
عَتقَ النبيذُ وأترعَ السّاقي الكؤوسَ وأنت في المنفى..
ولا مِنْ صاحبٍ من بعد ما ودّعتَ أوفى!
بالحضن!
هيّا ادخلْ إلى مقصورتي كي نحتسي نخبَك!
ونخطَّ في سفرِ الهوى فصلا يوثّق للورى حبيّ وحبَّكْ!)
فأغذ خطوي غير هبّابٍ،
وأعبرها،
وأخشعُ،
ثم أركعُ،
ثم أسجدْ!
وأهيبُ بالرّيح العتية أن تسوق الماشطات على عَجَلْ:
(سَرِّحنَ موْجَ البحر يا أبهى الحواري،
إن أمشاطَ العقيقِ على لْجَيْنِ الشطِّ تنتظرُ!
غَسِّلنَ وجْهَ البحرِ بالأَرَجِ المعتّقِ..
إن أحقاق الطيوبِ بمسْكها العبّاقِ تنهمرُ!
زَيّنّهُ..
حضّرْنَهُ!)
وأظلّ أدعو، أبتهلْ،
وأفيقُ من إغماءتي جَزِعاوَجِلْ!
للَّه دُّر الماشطاتِ فإنَّهُنْ..
في خفّةٍ وبراعةٍ من سِحْرِهنّ..
غَسّلْنَهُ،
سرّحنَهُ،
لبسنَهُ أحلى الحللْ،
فغدا محيطا مكتمِلْ!
وبدا كأروع ما يكون، ومدّ لي..
يده التي التمعت بقفاز الزّبدْ،
أمسكتها بتشبثٍ لا ينثني أو يتئدْ!
سرنا أنا والبحر مبتهجين باللقيا!
خِدْنينِ لا نلوي علي شيءٍ من الدنيا!
3-
للبحر ديدنُهُ
ولي كالبحرِ ديدنْ!
وله على الأيام معدنهُ،
ولي معدنْ!
وله هو الباقي طوالَ الدهرْ..
شِيمٌ تناقِضُ بعضَها:
مدٌّ يليه الجزرْ!
عسر يليه اليسرْ!
غضب يليه صفاءْ!
ضحك يليه بكاءْ!
ريحٌ تهبُّ كما تشاءْ
طورا رخاء،
طوْراً بلاءْ!
وأنا.. أنا العبْدُ الفقيرُ الأعزلُ،
ألراحلُ المستعجلُ،
شيمي العتيدةُ كلُّها..
مقدورة منذورة لا تُبْدَلُ!
أودسة فردية الأبعادْ!
بالموت تبدأ لحظة الميلادْ!
أعيى فؤادي كنهها!
4-
للبحر هذا الكأسُ!
ليت الريح تسمح أن أراقصها على شرفِهْ!
أو ليتها تذور رماد الروحِ في قلبِ العبابْ!
البحر مينائي، وفي كنََفِهِ..
أوَدْعتُ آخرَ ما كنزتُ من الرغابْ!
للبحرِ هذا الكأسُ!
موتي هنا عرسٌ بهيجُ الأنسْ!
نغَمٌ له جِرْسٌ، ورَجْعٌ واصطخابْ!
للبحر أول كأسْ!
للبحرِ آخر كأسْ!
أوّاهُ.. قد نَفَذَ الشرابْ!

أرب جمـال 12 - 8 - 2012 04:24 AM

أحلام محمد الدرة
1-
كان محمّد..
لمّا استشهد،
أَنضرَ،
أصغر..
من بُرعمِ وردْ!
أحلى،
أَطلى..
من قطرةِ شَهْدْ!
وله -كانت- أحلامٌ يانعةٌ غضَّه!
ملأى بجيادٍ من فضّهْ،
ومراكبَ ماسٍ، تمخرُ أمواجاً نورانيّه!
ورفوفِ نوارسَ سحريّه..
آتيةِ من جزُرٍ ذاتِ شواطئَ من مرجانٍ ولآلي!
لا يسكنها غيرُ الأطفالِ!
جُزُرٍ مفْعمةٍ ببراءتهمْ!
جَذْلى بشقاوتهمْ!
تزْخَرُ بالفرحِ الطّفليَّ،
سعادتُها بعضُ سعادتهمْ!
وله -كانت - فلسفةٌ واضحةٌ جدا:
(وطني لا أرضى عنه الخلدا..
بدلاً.. أبدا، أبدا!
ودمي للقدسِ فِدى!)
كانَ يرى..
أرتالَ القصْفِ الهمجيَّ،
وهي تدكُّ قُرى..
غافيةً في ذُعرٍ قسريِّ!
كان يرى أشْتالَ الزّنبقِ تُحرَقْ!
وعروقَ الريحانِ تُمزّقْ!
وغِراسَ الزّيتونِ الثّكلى تُغتالُ!
وقبابَ معابدِ بيت المقدسِ تنهالُ:
فيصلّي، يدعو كنبيِّ أمييّ:
( يا ربّ، بحقّ المصحفْ!
أرجوكَ إلهي أن تُوقفَ هذا القصفَ المُجْحِفْ!)
ويظلّ يصلّي حتى تحرقَ خدّيهِ دُموعُهْ!
والقصفُ الهمجيُّ الغادرُ لا يتوقفْ!
والجرحُ العربيُّ النّاعِرُ ينزِفْ!
كانَ محمّدُ يعرفْ..
أن لا رَيبَ بأنّ إلهُ البيتِ سيحمي بَيتَهْ!
والإبنَ.. المهدا!
لكنْ لا البيتَ حماهُ اللهُ!
غفرانَ اللهِ! ولا المهدَ حماهُ يسوعُهْ!
بل حلَكَ الليلُ، وكَلكَلَ وامْتدّا!
وملاكَ الموتِ بعينيهِ رآهُ..
يتنقلُ بين رياضِ الأطفالِ، يوزع مَوْتَهْ،
ويُغيرُ على الدّورِ، ليحصدَ أحلامَ العُزّلِ حصْدا!
فبكى، في صمتٍ لهنيهاتٍ ثمّ تماسكَ.. ألغى صَمْتَهْ!
شيّعَ أحلامَ طفولتِهِ، وتحدّى!
أقسَمَ أن بحجارتِهِ سيُقاومْ..
دبّاباتِ الجيشِ الغاشمْ!
أنْ يصمدَ، أنْ يتصدّى!
وإن استشهدَ.. يا لَيْتَهْ!
2 –
لم يرمِ محمّدُ أحجاراً ظُهرَ اليومْ!
فلقدْ رُفِعَ أذانُ الجمعهْ،
وتسارع كلُّ القوْمْ:
نحو المسجدِ، في حيّ القلْعَهْ!
كان محمّد في جانبِ والدِهِ، ظِلّهْ!
كان يقيمُ عزيزاً، في قلبِ جَمالَ،
وفي المُقْلَهْ!
كان الأملَ الواعدَ والموعودا..
بِغدٍ حُرِّ، كانَ الحلُمَ المنشودا..
بالأرضِ المغسولةِ مِنْ وضرِ المحتلِّ!
كانَ القَهرَ يمورُ ويغلي،
يرفضُ أن تبقى القدسُ رهينهْ!
في قبضةِ طُغمةِ أو غادٍ مجنونهْ!
كان جمالُ يردّدُ:
( من أجل محاميدِ الأرضِ سَنوري نارَ الثّوره!
حتى تشرقَ في أرضِ فلسطينَ الحرّةِ، شمسٌ حرّه!)
ثم انهمَرَ رصاصُ الأوغادِ!
صاح جمالٌ: (إنّا عُزّلُ!
هذا أصغرُ أولادي!
لم نفعل شيئاً!
لم نفعل شيئا!)
لكن لم يكُ غير رصاص الأوغادِ يجيبُ!
قال محمّد: ( يا أبتاهُ أُصِبْتُ!
ولكنْ لا تأس فإنّ الأسعافَ قريبُ!)
إلا أنّ نوارسَ بيضاءَ تحلّقُ فوقهما،
وجياداً من فضّه،
تسحبُ مركبةً من ماسِ نُورانيٍّ
كانت أَقربْ!
حملتهُ،
تهادتْ صُعُداً!
يا للموكبِ، يا للموكبْ!
3-
كان محمّد..
لمّا استشهد،
أسطعَ إشعاعٍ بثّتهُ الشمسُ!
كي تمحو هذا الليلَ الجاثمَ فوقَ القدسِ..
تَباركتْ القدسُ!

أرب جمـال 12 - 8 - 2012 04:24 AM

هدير الريح
إلى الغالية أمل، وإلى الأعزّاء سلوى وكلاديس وعيسى ونظام ونويل

1. عمتِ مساءً أيتُها الرّوحُ!
العينُ سِراجٌ نوّاسٌ، والقلبُ حزينٌ مجرُوحُ!
ماذا تجدي الآهُ، وفيمَ يُهدهِدُنا مرُّ اللومْ..
حينَ يُكلكِلُ ليلُ الشّجوِ، ويُطفئُ قِنديلُ التّبّانةِ
آخرَ ومضاتِ السّهرِ استِعداداً للنّومْ؟
ماذا تجدي الدّمعةُ في زمنٍ يَرزحُ بالهمّْ؟
سيّدتي أيتُها الرّوحُ ..
جئتُكِ ملتَاعاً علّكِ تخفينَ عن القلبِ نُدوبَ اللوعَه
علّكِ عن عينيّ المجهَدَتينِ تلمّينَ بقايا الدّمعه
يا أيّتُها الراضِيةُ المرضيّةِ ضمّيني بحنوِّ الشّطِ على بَطريقٍ مجروحِ
فكي كلَّ قيودِ اللوعةِ عن مِعصميَ المقرُوحِ
مدّي لي سُلمَ أقواسٍ قزَحيّه
زيني بالبشرى مِعراجي نحو أواوينٍ قُدسيّه،
بي توقٌ للملكوتِ الأعلى لا يعدِلُهُ تَوقُ
ويُعششُ في أصقاعِ فؤادي للحريّةِ شوقٌ يغمُرهُُ الشّوقُ!
ضقتُ بآلامي فالقلبُ عليلٌ والموطنُ مأسُورُ
وجناحي مَنتوفٌ، نزّافٌ، مكسورُ
رُحماكِ ملاذي سيدتي الرّوحَ وعمتِ مساءَ
ورفلتِ بِقفطانٍٍ يتلالا ويشعُّ ضياءَ
قولي لي هل قربُتْ لحظتنا، هل صَدقَ الوعدُ،
وهل أزفَ المكتُوبُ، وهل جاءَ!
* * *
2. أسألُ بحري الهادئَ فيمَ تلاشى الصّخبُ؟
ولماذا البَحارةُ قد هجَروا المركبَ، أين تولّوا، ذَهبوا؟
ولماذا يتداعى زبدُ الموجِ وينقلبُ ..
محضَ هباءٍ لا بُشرى في طيّاتِه؟
كيفَ الموجُ العاتي يُسلَبُ من غلواءِ حياتِه؟
كيفَ يموتُ البحرُ وتصمِتُ حتى زُمَرُ البطريقِ الغَجريّه؟
يغدو البَحرُ الموّارُ بُحيرةَ مِلحٍ عاقِرْ
سَبخَةَ طينٍ وأُجاجٍ، لا بحارٌ يمخرُها،
أو يعبُرها قطُّ مُغامر!
رُحماكَ أنيسي وَرفيقي ونجيّيِ الأوحدْ !
أرجو أن تُعتقني، ألاّ تهجرني مهما نورُ المركبِ ناسَ،
ومهما كنـزُ العُمرِ تبدَدْ
وبحقِّ الرّفقةِ أن ترحمَني أنواؤكَ، أمواجُكْ،
وتظلَّ كفينيقٍ ما أسرعَ ما يتَجدّدْ ..
لحظةَ يحتَرقُ،
ويمين اللهِ لكم يابحري أحتاجُكْ
وأنا يعصرُ قلبي القلقُ،
وأنا أحلامي تُوأدْ !
* * *
3. أسألُ ليلي أن يتراخى ويُخفّفَ وطأه،
فلكم طالَ الليلُ، لكم جرّعني مرّاً عِبأه!
أذكرُ لما كان الليلُ سميري،
لما كان يُغسّلني بطيُوبٍ وعُطورِ،
ويكحّلني بالدّيجُورِ،
ويسخّرُ لي القمرَ الساطِعَ
يمسحُ ناعرَ جُرحي بالنّورِ،
كان الليلُ نديمي، شاهدَ حبي،
نبضَ عُروقي، دقةَ قلبي!
كان بُراقي أسرجُهُ بالشّوقِ وأرقى سمتَ العلياءِ،
كان الليلُ حبيبي ورَجائي!
في أيامِ الحبِّ الأولى كانا ..
تغريبةَ عمري الضوّاعةَ سحراً وحنانا!
واليوم تلبّدَ في أفقِ الرّوحِ بشجوٍ قاتلْ،
يتثاقلُ، يقصم ظهري تَبريحا!
يا ليلُ، حبيبي الهاجِرَ يا طوداً مُتثاقِلْ ..
هلاّ أشفقتَ فلا تمعنُ بي تجريحا
* * *
4. عِمتِ مساءً سيدتي أيتها الرّوحُ،
العينُ سراجٌ نوّاسٌ، والقلبُ حزينٌ مجروحُ
واللهفةُ غامرةٌ، ولِنيرانِ اللهفةِ لو تَدرين تباريحُ!
أيّان يُدمدِمُ إعصاري؟ ومتى تهدرُ ياروحي الرّيحُ؟!


أرب جمـال 12 - 8 - 2012 04:25 AM

لؤلؤة الكلام
1- رحلت فدوى!
ورقاء قلسطينَ الأشجى تحنانا، والأعذب نجوى!
عذراء الشعر العربيّ وآيته الفيّاضة بالتقوى!
أسلمت الرّوح لبارئها، وانقادت للحقّ بنفس رضوى،
لم تطلب تصريحا من محتلّ، لم تتوخ لرحلنها الأبدية فتوى!
أطبقت الجفنين، وأسلمت الرّوح ليارئها، ومضت.. فدوى!
***
2- جبل النّار نعاها مكسور القلب، ينوء ببلواه ولا..
من يدفع عنه البلوى!
عيبال يواسي جرزيما بمصاب فلسطين ويضرع بالشكوى!
لمَ ترحل لؤلؤة القول؟ وكيف ينوس الوهج الأقوى؟
بعدك فدوى..
من للشهداء يضيء شموع الذكرى..
ويوزّع في أعراس شهادتهم أصناف الحلوى؟
بعدك فدوى..
من للأشبال يعلّمهم أن الأرض هي الجوهر وهي الأصل،
هي القيمة وهي الجدوى؟
وهي المنزل وهي المأوى؟
بعدك فدوى..
من مِن نور العينين يحيك لأرض الأحرار جداريّة حبّ..
ترويها أجيال المستقيل فيما يروى؟
من لعيون أيامى القدس، يكحّلها بالأمل الصّافي، فتقرّ، وتطفح صفوا؟
وتموتين! لماذا..
وفلسطين تئن أنينا،
وعواصم أمّتنا تلهو لهوا؟
وتموتين.. ألا لا كان الموت يفرّقنا،
يثقلنا شجنا،
يشجينا شجوا!
يا قمرا نوّر سود ليالينا!
يا عطرا ضاع بشرفات مساكننا!
يا صوت كرامتنا!
يا رعد إرادتنا إذ بالغضب السّاطع دوّى!
ما متّ..
وما صدق النّاعي!
بل خالدة أنت..
خلود الأرض الظمأى للحرّيّة يا فدوى!
جعل الله لك الجنّة مثوى!


أرب جمـال 12 - 8 - 2012 04:25 AM

جنين
1- بستحي الموتُ، وهو يعجّلُ خطوتَه في حواري المخيّم

من ناطحات سحابِ المخيم تركلُهُ بمداساتها!

تتدمّر.. لا تنحني!

تتفجّرُ.. لا تنثني!

تتحداهُ واقفةً غير آبهةٍ ببراكينهِ!

كلّ نافذةٍ من نوافذها أفقٌ!

كلّ أنّةِ مُحْتضِرٍ.. شفقٌ!

كلّ شهقةٍ شبلٍ قضى.. ألقٌ!

وجنينُ الوديعةُ تبذر ما اكتنَزَتْهُ لِفاقَتِها.. قمْحَها!

كلُّ حبّة قمحٍ شهيدٌ!

تصير جنينُ بَيَادِرَ مجْدٍ تروِّي ثراها الدّماءُ، ولا تتهاوى..

أمام صريرِ الجنازيرِ،

لا تسْتبيها صواريخُ حقْدِ الغزاةْ!

جنين وإنْ قد تَرَصّدها الموتُ ليست سوى قلعة للحياةْ!

* * *

2- أيّها الموتُ إنّ جنينَ لَقَبْرُكَ.. لا قبرُنا!

وهْيَ ذعرُكَ.. لا ذعْرُنا!

إنّها فجرُنا!

مُهْرُنا!

طائرُ الرّعدِ يُومِضُ في ليلنا!

دوْحةُ النّبْلِ، كعبةُ أرواحنا!

عَبَقُ الفلِّ، نفْحُ جنانِ الخلودِ التي وعدَ اللهُ أبرارَنا!

وجنينُ عذابُكَ،

بل وعقابُكَ..

لا الحقدُ لوّثَ أخْمصَ أقْدامها،

لا ولا البغضُ قد نال َ من عزْمِها!

بل أفاقتْ غداةَ حسبْتَ بأنّك قد غلْتها،

ضمّدت أرضَها!

ساندتْ بعْضَها!

ومشتْ بخطىً ثابتهْ،

نحو غايتها.. غيْرَ ملتفِتَهْ..

للوراءْ!

إنّ منْ رامَ حرّيةً ليس يثنيهِ بحْرُ دماءْ!

* * *

3- هي ذي روضةُ المجْدِ خضّبَها دمُ عشّاقِها!

لبست حلّةً من نقاءِ الجليلِ تزيّنُها يانعاتُ الشّقائقِ،

هذا الصّباحُ صباحُ زفافِ الشّهبدِ إلى حلْمِهِ!

مهرجانُ إيابِ الطّريدِ إلى قومِهِ!

كرنفال العصافير تحْدو بيادرَها!

والبساتيِن تهفو لأشجارها!

والبيوتِ تحنُّ لأبوابها،

والقبورِ تمور بأصحابِها..

من ملائكةِ الشّهداءِ، صغارا كبارا!

جنينُ منارةُ ثورتِنا!

غدُنا!

وَعْدُنا..

وبشارةُ فجرٍ أطلّ لَسَوْفَ يصيرُ نهارا!

إنّها صرخةُ الحقِّ تعلو جهارا!

* * *

4- لستُ أبكي جنينَ.. جنينُ فَخارُ العصورْ!

غير أني بكيْتُ مدائنَنا..

عارمات الخَنا،

خانيات القصورْ!

يتهجّدْنَ في صمتهنَّ..

وما بعْدُ قدْ صمَتَتْ في جنينَ القبورْ!

ويْحَ أمَّتِنا المسْتباةِ أحاقَ بها الصمتُ والموتُ..

أيّانَ يومُ النُّشورْ!


أرب جمـال 12 - 8 - 2012 04:26 AM

الشاعر حنا إبراهيم إلياس


نبذة
ـ حنا إبراهيم إلياس (فلسطين).
-
ولد عام 1927 في قرية البعنة- الجليل.
-
تخرج في مدرسة عكا الثانوية.
-
عمل في شرطة فلسطين منذ 1945، وانتسب إلى عصبة التحرر الوطني التي وافقت على مشروع تقسيم فلسطين عام 1947، فلاحقته السلطات العربية ثم الإسرائيلية فعمل في مختلف أعمال البناء حتى 1969، عمل بعدها مديراً لمطبعة الاتحاد الحيفاوية، ثم انتقل عام 1974 ليعمل محرراً في صحيفة الاتحاد حتى 1978، حيث انتخب رئيساً لمجلس البعنة المحلي، وانتسب عام 1989 إلى الحزب الديمقراطي العربي، ورأس تحرير صحيفة الديار حتى 1993، وهو اليوم الناطق الرسمي باسم الحزب الديمقراطي العربي، والرئيس الفخري لمؤسسة الأسوار العكية للثقافة والنشر.
-
دواوينه الشعرية: أزهار برية 1972- ريحة الوطن 1978- الغربة في الوطن 1980- صوت من الشاغور 1982- ذكريات شاب لم يغترب 1988- هواجس يومية 1989- نشيد للناس 1992- شجرة المعرفة 1993.
-
تناول النقاد العرب في فلسطين أعماله الأدبية من قصة وشعر ومنهم: نبيه القاسم، ومحمد حمزة غنايم، وحبيب بولس، ومحمد علي طه، وحصلت الطالبة عيريت غتروير على درجة الماجستير من جامعة تل أبيب عن أعماله القصصية 1988.
-
عنوانه: قرية البعنة 20189 الجليل الغربي- فلسطين ص.ب 219


الساعة الآن 05:36 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى