منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   الدولة الأموية, عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=6759)

ميارى 15 - 5 - 2010 07:51 PM

[align=justify]الحادي عشر : ميزات القضاء في عهد معاوية والأموي عموماً :
من أهم ميزات وخصائص القضاء في العهد الأموي الآتي:
1 ـ بقي القضاء في العهد الأموي، كما كان في العهد النبوي والعهد الراشدي، في معالمه الأساسية، وتنظيمه الجوهري، ووسائله وأهدافه، وكان استمراراً لما سبق في إقامة الحق والعدل، والنزاهة والموضوعية، مع مراعاة التطور والتوسع في الخلافة الأموية.
2 ـ استعمل القضاة في العهد الأموي وسائل الإثبات الشرعية نفسها المعمول بها في العهد الراشدي، مع التوسع في الفراسة، واستعمال الحيل على المتهم، لكشف الحق، والوصول إلى الصواب والعدل[1].
3 ـ ظهرت في العهد الأموي مصادر جديدة للأحكام القضائية وهي العرف، وقول الصحابي، وإجماع أهل المدينة إحياناً بالإضافة إلى المصادر الأصلية في العهد النبوي وهي القرآن الكريم والسنة الشريفة، والمصادر الاجتهادية في العهد الراشدي وهي: الإجماع، والقياس، والسوابق القضائية، والرأي[2].
4 ـ كان الخلفاء يعينون القضاة في الشام، وقد يرشحون بعض القضاة للأقاليم، وكان الولاة في الأمصار يعينون القضاة، ويعزلونهم.
5 ـ حرص الخلفاء والولاة على إختبار أحسن الناس لولاية القضاء، من العلماء والفقهاء والشرفاء وخيرة القوم، الذين تتوفر فيهم صفات القاضي الشرعية ، ويخشون الله تعالى، ويلتزمون بالحق والشرع، ويقيمون العدل بين الناس.
6 ـ طرأت تغييرات بارزة على القضاء في العهد الأموي، وأضيفت لأول مرة، وهي:
أ ـ تسجيل الأحكام خوفاً من النسيان، ومنعاً للتجاحد،ووضعها في ديوان خاص.
ب ـ الإشراف على الأوقاف من أجل حسن تطبيقها .
جـ ـ النظر في أموال اليتامى ومراقبة الأوصياء .
د ـ ترتيب الدعاوي، واستعمال الرقعة لادخال الخصوم والمناداة على الناس بالترتيب.
هـ ـ وجود المساعدين للقضاة، وهم الأعوان، والحاجب والشرطي في مجلس القضاة .
و ـ الاستعانة بالشرطة لتنفيذ الأحكام القضائية، وإجراءات الخصومة.
7 ـ كان القضاة مجتهدين في إصدار الأحكام القضائية، ولهم الحرية المطلقة في استنباط الأحكام من القرآن والسنة ومقاصد الشريعة، وبقية المصادر، ولم يتقيدوا برأي الخلفاء، ولم يلتزموا بمذهب فقهي، ولكن هذا لم يمنعهم من مشاورة العلماء والفقهاء، ومشاركتهم في المجالس القضائية[3].
8 ـ لم يتأثر القضاة بسياسة الحكام والخلفاء، وكان القضاة مستقلين في عملهم، ولم تؤثر عليهم الميول السياسية، والحركات الثورية، والخلافات الفكرية، والفتن الداخلية[4]. هذا هي أهم ميزات القضاء في العهد الأموي.

الثاني عشر : خطاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية في القضاء: كتب عمر إلى معاوية رضي الله عنهما: أما بعد فإنني كتبت في القضاء كتاباً لم آلك. ونفسي. فيه خيراً، .. ثم إن عمر قال:
1 ـ الزم خمس خصال يسلم لك دينك، وتأخذ فيه بأفضل حظك، إذا تقدم إليك الخصمان، فعليك بالبينة العادلة، واليمين القاطعة فهو الطريق للقاضي الذي لا يعلم الغيب. فمن تمسك به سلم له دينه، ونال أفضل الحظ والثواب في الآخرة[5]. فمعنى اليمين. القاطعة للخصومة والمنازعة[6].
2 ـ وأدنِ الضعيف حتى يشتد قلبه، وينبسط لسانه[7]، ولم يرد بهذا الأمر تقديم الضعيف على القوي، وإنما أراد الأمر بالمساواة، لأن القوي يدنو بنفسه لقوته، والضعيف لا يتجاسر على ذلك، والقوي يتكلم بحجته، وربما يعجز الضعيف عن ذلك. فعلى القاضي أن يدني الضعيف ليساويه بخصمه حتى يقوى قلبه، وينبسط لسانه، فيتكلم بحجته[8].
3 ـ وتعاهد الغريب، فإنك إن لم تعاهده ترك حقه، ورجع إلى أهله، فربما ضيع حقه من لم يرفع به رأسه[9]. قيل هذا أمر بتقديم الغرباء عند الازدحام في مجلس القضاء، فإن الغريب قلبه مع أهله، فينبغي للقاضي أن يقدمه في سماع الخصومة، ليرجع إلى أهله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد الغرباء. وقيل: مراده أن الغريب منكسر القلب، فإذا لم يخصه القاضي بالتعاهد عجز عن أظهار حجته، فيترك حقه، ويرجع إلى أهله، والقاضي هو السبب، لتضييع حقه، حين لم يرفع به رأسه ثم قال:
4 ـ وعليك بالصلح بين الناس، ما لم يستبين لك فصل القضاء[10]. وفيه دليل أن القاضي مندوب إليه أن يدعو الخصم إلى الصلح، خصوصاً في موضع اشتباه الأمر[11].





[/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 07:53 PM

[align=justify]المبحث السابع : الشرطة في عهد معاوية :
شهد عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تطوراً كبيراً في نظام الشرطة من جهة نموها وترسخها كمؤسسة رسمية على مستوى الدولة وبصورة لم تُعرف من قبل، لقد أصبحت مؤسسة الشرطة مسئولة مسئولية كاملة ومباشرة عن توفير الأمن وإقرار النظام في جميع الأمصار الإسلامية، لقد أصبحت أهم قوة أمن يعتمد عليها معاوية وولاته لتحقيق الأمن الشخصي من جهة، وحفظ الأمن والنظام في الداخل من جهة أخرى، يضاف إلى هذا كله، أن أصبحت الشرطة المدافع الأول عن نظام الأمن الأموي وحمايته من اعتداءات الفرق الأخرى المعارضة له كالخوارج والشيعة وغيرهما التي كانت تعمل على إسقاطه بشتى السبل، وقد استعمل معاوية رضي الله عنه الشرطة كحرس خاص لحمايته شخصياً ودونما شك أن المحاولة الفاشلة التي قام بها الخوارج لاغتيال معاوية كان لها دور كبير في دفع معاوية لاتخاذ قراره بالاعتماد على الشرطة كحرس خاص لضمان عدم تكرار المحاولة، وخصوصاً أن علياً وعمرو بن العاص قد تعرضا للمحاولة نفسها، قُتل على أثرها أمير المؤمنين عليّ، وكان ذلك عام 40هـ، ومنذ ذلك ومعاوية لا يخرج بدون حماية خاصة، وحتى أوقات الصلوات، كان يأمر حراسه بالوقوف عند رأسه حماية له من الاعتداءات المحتملة من مناوئيه[1].

أولاً : الشرطة في العراق : يعتبر المغيرة أول والٍ يعينه معاوية في الكوفة وقد استعان برجال الشرطة لغرض بسط الأمن، وعين صاحب الشرطة عُرف بشراسته وقسوته وكان يُدعى قبيصة بن دمّون[2]، ومن الحوادث التي تبين مدى فعالية الشرطة في حفظ الأمن والنظام ما أورده الطبري حول صراع المغيرة مع الخوارج، وذلك حين أخبره صاحب الشرطة باجتماعهم في الكوفة لإثارة القلاقل والاضطرابات، فأصدر المغيرة أوامره إلى صاحب الشرطة لمحاصرة مكان الاجتماع، وبعد أن ألقى القبض عليهم أودعهم السجن. وفي البصرة، عين معاوية عبد الله بن عامر والياً عليها ثم عزله في عام 45هـ وعين زياد بن أبيه والياً على البصرة. وقد تبين لزياد عند وصوله البصرة مدى التدهور الحاصل في الأمن، فذكره وشدّد عليه في خطبه التي افتتح بها ولايته، جرياً على العادة في ذلك الوقت فألقى خطبة طويلة سيأتي الحديث عنها بإذن الله، بين فيها أسلوبه الذي سوف يتبعه في معالجة التدهور الأمني، ومن قراءة تلك الخطبة تبين أن زياد كان مصمماً على إقامة الأمن والنظام بغض النظر عن الوسيلة التي تحقق ذلك الهدف[3]، ولو كانت بالعسف وخصوصاً حين يقول: وإني أقسم بالله لأخذنّ الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: أنج يا سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم[4]، ويروي البلاذري كيف استتب الأمن في البصرة في عهد زياد، وذلك في حادثة مفادها أن زياداً سمع جلباً وأصواتاً بين العامة، فسأل عن السبب فقيل له إنّ قد استأجر من يحمي له بيته، وذلك نظراً لعدم وجود الشرطة، وانتشار السَّراق[5]، وفي اليوم التالي أمر زياد صاحب الشرطة بأن يقوم الشرطة بحراسة الطرقات بعد صلاة العشاء[6]، ويضيف البلاذري أنّ الشرطة قد قتلت ما يقارب الخمسمائة نفر من لص ومنتهب للبيوت[7]، ويعتبر زياد أول من منع التجول وذلك بمنع العامة من الخروج من منزلهم ليلاً[8]، وكان يأمر صاحب شرطته بالخروج فيخرج ولا يرى إنساناً إلا قتله. فأخذ ليلة أعرابياً، فأتى به زياداً فقال: هل سمعت النداء؟ ـ يقصد نداء منع التجاول ليلاً ـ قال: لا والله، قدمت بحلوبة[9] لي وغشيني الليل فاضطررتها إلى موضع، فأقمت لأصبح، ولا علم لي بما كان من الأمير: قال: أظنك والله صادقاً، ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة، ثم أمر به فضربت عنقه[10]. ومثل هذا الفعل الظالم لا تقرّه الشريعة مهما كانت التبريرات[11]. وعلى ما يبدو أن قتل البدو لم يكن لمجرد الرغبة في القتل ذاته، بل تمّ لإقناع أهل البصرة بجدية الوالي في تنفيذ أوامره، وأن لا أحد منجى من العقوبة إذا خرق القانون، حتى لو كان بريئاً لا ذنب له، كما سبق وهدّد في خطبته البتراء، لقد كان الهدف النهائي عند زياد، إقرار هيبة الدولة والحصول على طاعة العامة، ولو عن طريق الإرهاب، وبذلك تستقيم الأمور في البصرة حيث ترى العامة أن الأمر لا هزل فيه ولا هوان في تطبيق العقاب[12]، ولم يكن خافياً على زياد بن أبيه ضرورة إعادة تنظيم جهاز الشرطة حتى يتمكن من تحقيق سيطرة فعالة على الأوضاع الأمنية، لذلك عمل زياد على اتخاذ بعض الإجراءات التي تسمح له بفرض هيمنته، منها زيادة عدد الأفراد العاملين في الشرطة فصعّد عددهم[13] حتى وصل أربعة آلاف فرد، وعين اثنين في منصب صاحب الشرطة بدلاً من واحد[14] إن ارتفاع عدد رجال الشرطة إلى أربعة آلاف يدل على أمرين: أولهما: ـ شدة الاضطراب الداخلي. الثاني: ـ أن الشرطة كانت ترفد الجيش في كثير من الأحيان[15]. وبلغ من دقته في عهده أنه قال: لو ضاع حبل بيني وبين خراسان علمت من أخذه[16]، وترتب على ذلك ما قاله الطبري:... وكان زياد أول من شد أمر السلطان، وأكد الملك لمعاوية، وألزم الناس الطاعة، وتقدم في العقوبة، وجرد السيف، وأخذ بالظنَّة، وعاقب على الشبهة وخافه الناس في سلطانه، خوفاً شديداً، حتى أمن الناس بعضهم بعضاً، حتى كان الشيء يسقط من الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه، وتبيت المرأة فلا تغلق عليها بابها، وساس الناس سياسة لم ير مثلها، وهابه الناس هيبة لم يهابوها أحداً قبله، وأدرّ العطاء، وبنى مدينة الرزق[17]، وعندها ضمّ معاوية الكوفة إلى ولاية زياد واستطاع أن يفرض النظام الأمني حيث حقق للأمويين رغبتهم في استقرار النظام والأمن في كل من البصرة والكوفة، وحيث أصبحت الشرطة أهم قوة داخلية وأكثرها فاعلية[18].

ثانياً : الشرطة في الأقاليم الأخرى : عند مقارنة مثلاً مصر بغيرها من الأمصار الإسلامية كالبصرة مثلاً، نجد أن الشرطة لم تلعب الدور نفسه وذلك لبعد مصر عن الاضطرابات التي يحدثها عادة الخوارج وكذلك تذكر المصادر في العادة حرص الولاة عند اختيار صاحب الشرطة، وقد عين مروان بن الحكم والي المدينة مصعب بن عبد الرحمن بن عوف في منصبي صاحب الشرطة والقضاء في آن واحد ـ كما مرّ معنا وكان ذلك في عهد معاوية[19]. ويروي ابن سعد أن مصعباً كان شديداً على المذنبين والخارجين على القانون[20]، وقد طلب مصعب من الوالي مروان بن الحكم أن يزوده بعدد كبير من أفراد الشرطة، إذا كان يريد الحفاظ على الأمن في المدينة، حيث لم يكن عدد الشرطة المتوفر كافياً لهذه المهمة[21]، وأجابه مروان إلى طبه وأرسل إليه مائتي شرطي، وظل مصعب في منصب صاحب الشرطة حتى وفاة معاوية[22].

ثالثاً : واجبات الشرطة : كان للشرطة في الدولة الأموية مكانة مميزة بسبب الواجبات المهمة التي كانت تقوم بها هذه المؤسسة تجاه السلطة والمجتمع ومن هذه الواجبات:
1 ـ حماية الخليفة وولاة الأمصار ضد مناوئيهم في الداخل :
أول من استخدم الشرطة لحمايته الشخصية من الاغتيال، الخليفة معاوية مؤسس الدولة الأموية، الذي خاض صراعاً سياسياً ـ عسكرياً عنيفاً مع معارضيه من الخوارج وغيرهم وكان الشرطة يحرسون معاوية بشكل دائم في حله وترحاله، بل حتى وقت الصلاة كان هناك حارس يقف عند رأسه وهو يصلى في المحراب، وعلى ما يبدو أن الخليفة كان يسير بين يديه صاحب الشرطة متقلداً كامل سلاحه، وكذلك تقوم الشرطة بتوفير الحماة للولاة في الأمصار المختلفة، بالطريقة السابقة نفسها، وكما ذُكر سابقاً أن زياد بن أبيه كان يستخدم الشرطة لأمنه الشخصي وكان صاحب الشرطة هو المسئول الأول عن سلامة الوالي[23]. إن ظهور صاحب الشرطة في مقدمة موكب الخليفة أو الوالي في الأماكن العامة ليس دليلاً فقط على الحماية، بل لإشعار العامة أيضاً بالهيمنة والسلطة، إلى جانب ذلك كانت الشرطة أداة بيد الخليفة والولاة لفرض سلطة الدولة على الذين يحاولون التمرد عليها أو معارضتها[24]، وكانت تعين الخليفة على جمع المعلومات، فقد كان معاوية رضي الله عنه قد بلغ من اهتمامه في الحصول على أخبار عماله ورعيته أن بثَّ عيونه في كل قطر وكل ناحية، فكانت تصله الأخبار أولاً بأول فأنتظم له أمره، وطالت في الملك مدته[25]، وحذا زياد بن أبيه حذو معاوية، ومما يحكي عنه: أن رجلاً كلمه في حاجه له فتعرف عليه وهو يظنّ أنّه لا يعرفه فقال: أصلح الله الأمير أنا فلان بن فلان. فتبسم زياد وقال: أتتعرّف إليّ وأنا أعرف منك بنفسك، والله إني لأعرفك وأعرف أباك وأمك وجدك وجدتك، وأعرف هذا البُرد[26] الذي عليك وهو لفلان.. فبُهت الرجل وأرعد حتى كاد يغشى عليه[27].
2 ـ معاقبة المذنبين والخارجين عن القانون:
الشرطة بحكم كونها القوة الرئيسية المسئولة عن حفظ الأمن، والنظام داخل المدن، إضافة إلى واجبها فرض القانون ولكن الأحوال الاجتماعية في المدن الكبرى كانت تدفع الشرطة إلى اتخاذ إجراءات مشددة تجاه العامة وقد بين زياد بن أبيه في خطبته البتراء خطورة التجاوزات التي حدثت من الناس فقال:... من بُيّت منكم فأنا ضامن لما ذهب له، إياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه،... وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرّق قوماً، غرقناه، ومن حرّق على قوم حرقناه، ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه، ومن نبش قبراً دفنته فيه حياً[28]... من هذه الخطبة يتبين مدى التدهور الحاصل في البصرة، من خلال طبيعة الجرائم التي كان يرتكبها بعض المنحرفين من أهلها قبل قدوم زياد، وحين انتهى من خطبته أمر صاحب الشرطة بحراسة الطرقات وقتل كل من يوجد خارج منزله ليلاً[29] ويروي البلاذري أن زياداً لم يتردد في تنفيذ ما توعّد به[30]حرفياً.

3 ـ تنفيذ العقوبات الشرعية:
من الواجبات التي كانت الشرطة تقوم بها، تنفيذ الحدود الشرعية، التي يأمر بها القضاة، ضد كل من يظهر منه فساد في المجتمع الإسلامي، والحدود الشرعية كما هو معروف، مذكورة في القرآن الكريم والسنة النبوية بينت ذلك وكان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لديهم غيرة وحرص على أوامر الدين وتنفيذها، ومن ذلك ما رواه الإمام مالك أنّ عبداً سرق وديّا[31]فوجدوه، فاستعدى على العبد مروان بن الحكم[32]، فسجن مروان العبد، وأراد قطع يده، فانطلق سيد العبد إلى رافع بن خديج رضي الله عنه، فسأله عن ذلك، فأخبره: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا قطع في ثمر ولا كثر[33]، فقال الرجل: فإنَّ مروان بن الحكم أخذ غلاماً لي وهو يريد قطع يده، وأنا أحبّ أن تمشي معي إليه فتخبره بالذي سمعت من رسول الله، فمشى معه رافع إلى مروان بن الحكم، فقال: أخذت غلاماً لهذا، فقال: نعم، فقال: ماأنت صانع به؟ قال: أردت قطع يده، فقال له رافع: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا قطع في ثمر ولا كثر، فأمر مروان بالعبد فأرسل[34]، ويستفاد من هذه اللمحة كذلك، احترام الولاة والعمال للصحابة الكرام، وعدم التعرّض لتصرّفاتهم ما دامت منبثقة من الحرص على تنفيذ أمر الله ورسوله حتى وإن كانت داخلة ضمن مهام الوالي[35]، ومن مظاهر الغيرة على أوامر الدين وتغليب أمر الله على ما سواه، امتناع والي شرطة المدينة مصعب بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من هدم دور بني هاشم، ومن كان في حيّزهم، ودور بني أسد بن العزّي، والشدّة عليهم، وذلك لموالاتهم الحسين بن علي وابن الزبير، وامتناعهم عن بيعة يزيد، إذ قال مصعب لأمير المدينة عمرو سعيد[36]: أيها الأمير إنّه لا ذنب لهؤلاء ولست أفعل، فقال له الأمير: انتفخ سحرك يا ابن أم حريث، إليّ سيفنا، فرمى إليه بالسيف وخرج عنه[37]. وهذا الفعل يدل على قوة إيمان مصعب ، وأنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق[38]، ومن واجبات الشرطة، مساعدة الجيش ضد أعداء الدولة[39]، وتنفيذ أحكام الإعدام والتعذيب للمناوئين السياسيين وكل ما يتصل بالسجناء عند صاحب السجن[40]، وإن كانت الواجبات الأخيرة تتضح ملامحها في عهد الخلفاء الذين بعد معاوية أكثر.

رابعاً قوات ومؤسسات أخرى وعلاقتها بالشرطة :
تعتبر الشرطة العمود الفقري للجهاز الأمني في الدولة الأموية، وكانت المهمة الرئيسية لهم حفظ الأمن الداخلي بالدرجة الأولى، ومع ذلك عرف العصر الأموي مؤسسات أخرى لعبت دوراً مشابهاً ومكملاً نفسه للشرطة وهذه المؤسسات هي:
1 ـ الحرس : استخدمت كلمة حرس في بدايات العصر الأموي لوصف كل من يقوم بمهمة الحراسة بغض النظر عن المكان أو الشخص الذي يحرسه، وفي العصر الأموي كان الحرس يمثلون تلك الفئة التي تقوم بمهمة حماية الخلفاء والولاة وعلى ما يظهر أن معاوية كان أول خلفاء بني أمية يتخذ الحرس لحمايته الشخصية من احتمال الاعتداء عليه من قبل الخوارج وغيرهم، وفي خلافة معاوية استخدم الولاة الحرس، كقوة أمنية داخلية إلى جانب الشرطة،، وقد استخدم زياد بن أبيه، خمسمائة رجل في قوات الحرس الخاصة به، وعين عليهم رجلاً من بني سعد أطلق عليه صاحب الحرس[41]، ومنذ ذلك الحين وخلفاء بني أمية يعينون من يثقون به[42]، وخلاصة القول: أن مفهوم الشرطة يتسع إلى الدرجة التي يضم فيها نشاط الحرس تحت سلطته، في حين أن الحرس لا يدخلون ضمن الشرطة[43]، ويورد الجاحظ شطر بيت من الشعر: كأنه شرطي بات في حرس. للدلالة على التفرقة بين المؤسستين[44].
2 ـ الحرس من غير العرب : عرف العرب، قبل قيام الدولة الأموية، بعض الألفاظ الأجنبية التي تطلق على الحرس الذين كانوا يحرسون بيت المال في البصرة[45]. وهذه الألفاظ هي الأساورة والسيابجة والزطّ، ويشرح البلاذري هذه الألفاظ فيقول إنّ الأساورة من الفرس، أما السيابجة والزطّ فينحدرون على ما يظهر من الهند[46]، ويتضح من تاريخ الخلافة الأموية أن الولاة كانوا يستخدمون لضرب الثورات التي تقوم بها المعارضة، بين حين وآخر، وكان يُطلق على هذه العناصر لفظ البخارية تبعاً لرواية البلاذري أيضاً، أن والي خراسان عبيد الله بن زياد، اسر في احدي المعارك عدداً كبيراً من أهل بخاري وجعل من البصرة مستقراً لهم، وأجرى لهم من الأعطيات ما كان يدفعه نفسه للقبائل العربية، وذلك حين أصبح والياً على العراق[47]، وقد استخدم عبيد الله هذه القوة الجديدة لمساندة قوة الشرطة للقضاء على ثورة الخوارج في العراق[48]، وأما ابن سعد، فيذكر أن البخارية قد استعملوا أول الأمر كقوة أمنية، على يد والد عبيد الله حين كان والياً على العراق، ويضيف ابن سعد أن زياداً استخدم البخارية لمساعدة الشرطة في محاولتهم للقبض على حجر بن عدي[49] رضي الله عنه. ويشيد البلاذري بمهارة البخارية في الرمي يالقوس[50]، ويظهر من مراجعة المصادر التاريخية أن استعمال هذه الفرقة كقوة بشرية لم يكن مقتصراً على الولاة، بل وجد أنهم كانوا يقومون بخدمة الأشراف، ففي مدينة البصرة مثلاً، كان أبناء عبد الله بن عامر والي العراق في السابق، يستخدمون البخارية كحرس خاص لحمايتهم الشخصية[51].
3 ـ العرفاء : ونظراً لما يتمتع به العرفاء من مكانة لدى الولاة فإن بعضهم يستطيع من الأمور ما لا يقدر عليه غيره، ونظراً لكون العريف مسئولاً عن مراقبة العامة وتبليغ السلطات عن الحركات المشبوهة أو عن الأفراد الذين يُشك في ولائهم للسلطة... ولذلك لم يكك لهذا المنصب شعبية، إلاّ أن ذلك لم يمنع كبار القوم من توليه، إذ يورد ابن سعد في طبقاته أسماء كثيرة تولت مهام هذا المنصب[52].
4 ـ صاحب الاستخراج أو العذاب :
شهد العهد الأموي قيام جهة خاصة مهمتها استخراج الأموال من الذين يختلسونها بحكم مناصبهم الرسمية، وكان يطلق على الشخص المكلف بمهمة تعذيب المختلسين لكي يقروا بمكان وجودها، لقب ((صاحب الاستخراج)) ويروي ابن قتيبة أن هذه المهنة ظهرت في عهد زياد بن أبيه، الذي كان دائم التحذير لمن يعينهم لمساعدته في الإدارة، وكان لا يتردد في إعفائهم من مناصبهم إذا ظهرت منهم خيانة، ويكون العزل بعد إيقاع العقوبة بهم[53]، ويورد كثير من المؤرخين حوادث تتصل بالولاة الذين استخدموا صاحب الاستخراج لاسترداد الأموال المختلسة من المختلسين أو ممن ظهرت عليهم إمارات الخيانة أو ما شابه ذلك من أمور. من ذلك أن والي العراق عبيد الله بن زياد عزل من مساعديه رجلاً يدعى عبد الرحمن واستخلص منه مائتي ألف درهم[54]، كما استخلص مبلغ مئة ألف درهم اختلسها أحد العاملين في إدارته[55].
5 ـ جهاز الحسبة: والمقصود هنا بالحسبة: المعنى الضيق، أي عملية الأشراف على تنظيم الأسواق والعمليات التجارية فيها، وقد كان من مهام المحتسب في الدولة الأموية جباية ضرائب المبيعات وتحصيل أجرة الدكاكين التابعة للدولة[56]، إضافة إلى مسؤليات السوق والتي من أبرزها[57].
أ ـ التأكد من دقة الأوزان، والمكاييل، والمقاييس المستعملة في عمليات السوق، منعاً لحدوث غبن في التعامل.
ب ـ التفقد المفاجئ لعيار الحبات، والمثاقيل لضمان عدم الإخلال بها.
جـ ـ منع الارتفاع الفاحش لأسعار السلع الأساسية .
د ـ منع حالات الاحتكار إن وجدت وإجبار المحتكر على بيع ما احتكره. ووفق هذا المفهوم نجد أن الحياة الاقتصادية في بداية الدولة الأموية كانت بسيطة، وعليه فقد سار ولاة الأقاليم على نهج الخلافة الراشدة فكان الولاة ـ كل في إقليمه ـ يباشر الحسبة بنفسه[58]. لكن هذا لم يمنع من ظهور وظيفة العامل على السوق في مدينة البصرة في عهد ولاية زياد بن أبيه (45 ـ 53هـ)[59] ويمكن القول ـ من خلال التتبع ـ بأن نظام الحسبة كان موجوداً منذ بداية العصر الأموي، وإن لم يكن يحمل لفظ الحسبة، إنما دور المحتسب في تنظيم السوق كان متواجداً طوال العصر الأموي، وقد نما النظام وتطور بما يوافق تطور قطاع التجارة، والأسواق، فيلاحظ أنه في بداية الأمر كان الوالي يتولى بنفسه أعمال الحسبة ثم تطور الأمر لأن يكون هناك شخص معين وظيفته الأشراف على السوق، ثم تطور الأمر ليكون لهذا المعين أعوان يعينونه في عمله[60].
6 ـ نظام المراقبة: ظهر هذا النظام في دمشق في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، في عدة صور .
أ ـ إلزام بعض مناوئيه السياسيين بأداء الصلاة في الجماعة في مساجد معينة[61]. ويشبه هذا الإجراء ما هو معمول به في بعض الدول المعاصرة من إلزام المشبوهين بالتردد على مراكز الشرطة في أوقات محددة[62].
ب ـ إسكان بعض مناوئيه في مساكن خاصة أعدّها لهم في دمشق ـ وغيرها لتسهل عليه مراقبتهم .
جـ ـ إحكام المراقبة الشخصية على الأجانب الذين يدخلون دار الإسلام[63]
7 ـ مؤسسة الدرك : والدرك في الإصطلاح: مؤسسة تضم قوى الدولة العاملة في سبيل الأمن خارج حدود المدن الكبير[64]، وفي الطبري نص يفيد اهتمام زياد عام 45، أي أيام معاوية بالسُّبلُ ـ أي الطرق ـ جاء فيه: قيل لزياد: إن السبل مخوفة. فقال: لا أعاني شيئاً سوى المصر، حتى أغلب على المصر وأصلحه، فإن غلبني المصر، فغيره أشد غلبة، فلما ضبط المصر تكفل ما سوى ذلك، فأحكمه[65]. وكان يقول: لو ضاع حبل بيني وبين خراسان علمت من أخذه[66]. وهذا لا يكون إلا إذا كان رجاله متمكنين من الطرق والسبل[67]. وقد طرح زياد نظرية أمنية مفادها التمكن أولاً من داخل الأمصار ثم التوسع لما حولها من طرق وسبل. هذه بعض الملامح والمعالم الكبيرة عن نظام الشرطة في عهد معاوية رضي الله عنه.




[/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 07:56 PM

المبحث الثامن: الولاة والإدارة في عهد معاوية رضي الله عنه:
حاول معاوية رضي الله عنه طيلة فترة خلافته أن يجعل أسلوب حكمه في وضع بين المركزية واللامركزية. فقد اتخذ من دمشق عاصمة للدولة، وغدت المركز الرئيسي الذي تصدر منه الأوامر السياسية والاقتصادية والإدارية للدولة، أما ترتيب أمور الولايات داخلياً فقد ترك معاوية رضي الله عنه للولاة ليقوموا به كل حسب خبرته وجدارته على أن يكونوا جميعاً مسئولين أمام معاوية رضي الله عنه مسئولية مباشرة ومحاسبين على كل عمل يقوموا به، ولعل من ضمن الأسباب التي حدت بمعاوية لأن يتخذ من دمشق عاصمة للدولة الأموية هو معرفته الجيدة بأهل الشام وثقته التامة فيهم وفي ولائهم له، فقد أمضى معاوية رضي الله عنه هناك قرابة عشرين عاماً أميراً على بلاد الشام، كان خلالها يتمتع خلالها بشعبية كبيرة بينهم، ولعلّ معاوية رضي الله عنه كذلك كان يشعر أن استمرار دولة الأمويين يعتمد في درجة كبيرة على مدى المساعدة التي يقدمها إليه أهل الشام خاصة، كان معاوية رضي الله عنه يعي هذه المسائل جيداً ويعيرها جلّ انتباهه، لذلك حاول جهده منذ البداية أن يعمل على حفظ التوازن بين رجالات القبائل العربية المختلفة في بلاد الشام وعلى درجة الخصوص القبائل اليمانية والقبائل القيسية[1]، وقد عمل معاوية رضي الله عنه كل ما في استطاعته لإبعاد التوازن بين مصالح الطرفين في بلاد الشام، فقد كان في خدمة معاوية رضي الله عنه رجالات من القيسية أمثال الضحاك بين قيس الفهري وحبيب بن مسلمة الفهري، مثلما كان هناك رجالات من اليمانية أمثال مالك بن هبيرة السكوني، وشرحبيل بن سمط الكندي وحسان بن بحدل الكلبي وغيرهم، كما أن معاوية رضي الله عنه حصل على مساعدات من كلا الطرفين إبان فترتي ولايته وخلافته وكانوا يحاربون إلى جانبه في جيش واحد وتحت إمرة واحدة[2]، وكانت سياسة معاوية تقوم على الاستعانة بأفراد من أقاربه أبناء البيت الأموي مثل: عنبسة بن أبي سفيان، وعتبة بن أبي سفيان، والواليد بن عتبة بن أبي سفيان وسعيد بن العاص بن أمية، ومروان بن الحكم وابنه عبد الملك[3]، وعمرو بن سعيد بن العاص[4]، وغيرهم. كما حرص معاوية رضي الله عنه على اختيار أعوانه وولاته من ذوي التجارب الواسعة من المسلمين، كعبد الله بن عامر بن كريز، والمغيرة بن شعبة، والنعمان بن بشير الأنصاري، ومسلمة بن مخلد الأنصاري[5]، وغيرهم. ولم تكن المحاباة هي الأساس الأهم والأوحد في انتقاء معاوية لهؤلاء الرجال دون غيرهم وإنما كان كثير منهم ممن خدم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ورأى أن يستفيد بجهودهم ومواهبهم ولاسيما أولئك الذين أظهرتهم أحداث الفتوحات الإسلامية بالشام[6]. ونلاحظ أن معاوية استعان بأهل الصحبة والكفاية والولاء ولاة على الأمصار، ومع أن معاوية رضي الله عنه اختار بعض أعوانه من أهل بيته، يوليّهم الولايات إلاّ أنه كان يعاملهم بحذر شديد إلى أن يطمئن لهم، ويقتنع بمقدرتهم الإدارية فقد كان يختارهم أول الأمر لولاية مدن صغيرة كالطائف[7] مثلاً، فإذا ما أظهر أحدهم مقدرة، إدارية، فإن معاوية ((رضي الله عنه)) يضم إليه مكة لتكون تحت إشرافه ثم يتبعها بالمدينة وعند ذلك يقال: هو قد حذق[8]. وغني عن البيان أن الطائف كانت مدينة مهمة في ذلك الوقت حيث تتمركز فيها قبيلة ثقيف[9]، القوية وأن من يستطيع من الولاة أن يسيطر على الطائف ـ سياسياً واقتصادياً ـ فإن بقية المدن تسهل السيطرة عليها بعد ذلك. وتشير نجدة خمَّاش إلى أن معاوية رضي الله عنه جعل من مدن الحجاز مدرسة يدّرب فيها أبناء البيت الأموي على إدارة تلك الولاية والسماح لهم بالتدرّج في تلك الإدارة وفق خطوات مقررة[10]. وقد اتبع معاوية رضي الله عنه أسلوباً مميزاً في معاملته لبني أهله ممن يستعين بهم. فقد كان يحاول أن يجعلهم متفرقين عن بعضهم البعض وذلك كي يتجنب أي تحالف ضده[11]. وفي خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تمتع رعايا الدولة من غير المسلمين بمنتهى التسامح والرفق، وحصلوا على امتيازاتهم بسهولة ويسر. فقد كانوا يعملون في مختلف الوظائف الحكومية، ذلك أن معاوية رضي الله عنه أبقى على النظم البيزنطية والقبطية التي كان معمولاً بها في الشام ومصر والمغرب. كما أبقى على النظم الفارسية في العراق وخراسان. وكان ترك معاوية رضي الله عنه هذه النظم على حالتها بسبب نقص من كانوا يعرفون لغات ونظم إدارة البلاد المفتوحة من المسلمين في أوائل العهد الأموي، وعلاوة على ذلك فقد كان طبيب معاوية رضي الله عنه الخاص، ويدعى ابن أُثال[12]، غير مسلم، وكذلك سريج(سرجون) بن منصور الرومي مستشاره المالي[13]، وابن مينا[14]، وابن النضير[15]، مولاه من عماله على الصوافي، كانوا أيضاً من سلالة غير المسلمين وأسلم بعضهم فيما بعد. وفضلاً عن ذلك ترك معاوية لرعايا الدولة من غير المسلمين أيضاً حرية تامة هي ممارسة طقوسهم الدينية: فاستجاب لطلب نصارى دمشق بعدم زيادة كنيسة يوحنا في مسجد دمشق[16]. كما: رممّ لهم كنيسة الرَّها(أُديسَّا) والتي كانت قد تهدمت من جراء الزلازل[17]. كما بنيت أول كنيسة بالفسطاط في حارة الروم في ولاية مسلمة بن مخلد الأنصاري على مصر ما بين عامي47هـ، 68هـ[18]. كما استعان معاوية رضي الله عنه بمهندسين وفنّيين من غير المسلمين في بناء قصر الخضراء بدمشق الذي اتخذه معاوية مقراً لإقامته في فترة إمارته على بلاد الشام ثم في فترة خلافته بعد ذلك ويروي البلاذري أنهم بنوه لمعاوية رضي الله عنه من الحجارة بعد أن كان قبل مبنياً باللِّبن والطين[19]. وكما كانت سياسة التسامح مع الرعايا غير المسلمين هي الطابع المميز لفترة خلافة معاوية رضي الله عنه كذلك نرى سياسة التعاطف والإهتمام المتزايد وحسن المعاملة تجاه الموالي من المميزات الأخرى في عصر معاوية. فنجد معاوية رضي الله عنه استعان بكثير من الموالي في إدارة بعض شؤون الدولة: فعين مولاه عبد الله بن درّاج على خراج الكوفة ومعونتها في ولاية المغيرة بن شعبة[20]. وكان وردْان مولاه على خراج مصر في ولاية عتبة بن أبي سفيان[21]، وكان على حرسه رجل من الموالي يقال له المختار وقيل رجل يقال له مالك ويكن أبا المخارق مولى لحمير وكان على حجابه سعد مولاه[22]. وكان يلي أمواله بالحجاز أيضاً. وهو الذي قال فيه: معاوية: أغبط الناس عيشاً مولاي سعد، كان يتربع جدَّة، ويتقيَّظ الطائف، ويشتو بمكة[23]. واتخذ زياد بن أبي سفيان من مهران مولاه، حاجباً له وكاتبه على الخراج في العراق[24]. وكان أبو المهاجر دينار مولى لمسلمة بن مخلد الأنصاري فتولى له إدارة شؤون المغرب[25] في سنة 55هـ وبالرغم من هذه الأمثلة نجد أن عباس محمود العقاد يشير إلى أن معاوية كان لا يلتفت إلى الموالي، وردّد ما سبقه إليه المستشرقون في طعنهم في تسامح معاوية رضي الله عنه مع الموالي، رغم ما تزخر به المؤلفات العربية القديمة من أمثلة على هذا التسامح[26]، ومن ناحية أخرى، فقد ترك معاوية رضي الله عنه الإصلاحات الضرورية لعماله على الأقاليم ليقوم كل واحد منهم بواجبه تجاه الإقليم الذي يرى شؤونه[27]، وقد أصبح التقسيم الإداري للدولة في عهده كالآتي: دمشق عاصمة للدولة، وقسم البلاد إلى ولايات يحكم كل ولاية منها وال من قبل الخليفة، وكان لكلِّ سلطة غير محدودة في الولاية التي يحكمها، وفي بعض الأحيان أطلقت الدولة للوالي سلطة التصرف كما يشاء، حتى كان بعضهم يقتل وينفي، ويسجن، ويشرد،... وقد لاحظنا أن هذا الحكم المطلق لم يتكرر، بل كان دائماً محصوراً في ولاية العراق، وذلك لما كان يحدث فيها من اضطرابات وفتن أكثر من غيرها، وكان الخليفة يختار لهذه الولاية ولاة مشهورين بالحزم والشدة، فكان زياد بن أبيه من أشهر ولاة معاوية، أما بقية الولايات فكانت تحكم بطابع الدولة المألوف، فالوالي مقيد بأوامر الخليفة، لا يقضي إلا بعد رأيه، ولا يفصل إلا بعد مشاورته، وكان الوالي يرجع إلى الخليفة في كل ما يتصل بالمصالح العامة، فإذا كان الأمر خاصاً بولايته له أن يتصرف فيه بحسب ما يحقق المصلحة العامة، وإلا فهو مسؤول أمام الخليفة عن كل تصرفاته وكان ولايات الدولة الكبرى في عهد معاوية[28]، دمشق العاصمة، والبصرة، والكوفة، والمدينة ومكة، ومصر وغيرها وأما ولاة الأمصار في عهد معاوية فسوف نتحدث عنهم في حديثنا عن كل إقليم بإذن الله تعالى:
أولاً : البصرة: ومن أشهر ولاتها في عهد معاوية فهم:
1 ـ بسر بن أرطأة رضي الله عنه تولى الولاية عام 41هـ وجاءت روايات لم تصل إلى درجة الصحة تشير إلى تعرض بسر لأبنا زياد بن أبيه[29] ثم عزل وعين بدله عبد الله بن عامر:
2 ـ عبد الله بن عامر رضي الله عنه : 41 ـ 44هـ : ففي هذه السنة أي 41هـ ولى معاوية عبد الله بن عامر البصرة، وحرب سجستان[30]، وخراسان[31]. ولم يكن تعيين عبد الله بن عامر على البصرة لأسباب شخصية، لأنه لم ترد رواية صحيحة تؤكد ذلك ولكن اختيار معاوية رضي الله عنه له كان نتيجة خبرته السابقة في ولاية البصرة وحرب سجستان وخراسان أيام عثمان، فما كان من معاوية إلا أن أسند الأمن إلى أهله، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب[32]، وبعد أن مضى ابن عامر ثلاث سنوات تمكن فيها من تثبيت الفتح في سجستان وخراسان واستفاد المسلمون من خبرته العسكرية، ثم دعت الحاجة إلى تغييره، فعزله معاوية وولى الحارث بن عبد الله الأزدي البصرة في أول سنة خمس وأربعين، فأقام بالبصرة أربعة أشهر، ثم عزله وولاها زياداً[33].
3 ـ زياد بن أبيه 45هـ إلى 53هـ:
أ ـ نسبه: يعتبر نسب زياد المكنى بأبي المغيرة، من أكثر القضايا غموضاً في حياته، فقد كانت أمه أمة اسمها سمية[34]، ولم يتفق المؤرخون من هو أبوه وبالتالي هم مختلفون في ذكر نسبه فقد ذُكر اسمه في المصادر، تارة زيادة بن سمية[35]، وتارة زياد بن عبيد[36]، ومرة زياد الأمير[37]، وأخرى زياد بن أبي سفيان[38]، وفي أغلب الأحيان عرف بابن أبيه[39]، وذلك لما وقع فيه أبيه من الشك[40].
ب ـ صلح زياد مع معاوية:
كان زياد بن أبيه والياً على خراسان لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وكان مخلصاً له غاية الإخلاص وحاول معاوية أن يكسب زياد ويضمه إلى صفه في عهد علي رضي الله عنه إلا أنه فشل في ذلك وبعد مقتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وجد معاوية فرصة طيبة لإعادة النظر في مساعيه الهادفة إلى استمالة زياد بأقل التكاليف، واستخدم معاوية لغة التهديد والترغيب مع زياد بقلعة عرفت باسمه فخافه معاوية وهو من أكثر الناس معرفة بصلابته، ولا شك أن اعتصام زياد بفارس مع علمه بأنه الوحيد الذي لم ينزل على حكم معاوية، ويدخل فيما دخل فيه الناس، إنما يدل على ثقته بنفسه أولاً وبإمكانيات إقليم فارس الاقتصادية والبشرية ثانياً، إلا أن هذه الأمور وحدها ليس كافية لمواجهة معاوية إذا ما لجأ إلى استخدام القوة، الأمر الذي دفع زياد في المرحلة التالية في علاقته بمعاوية إلى تبديل موقفه الرافض بموقف أكثر إيجابية، وبعد صلح الحسن حاول معاوية الاتصال بزياد وسمح للمغيرة بن شعبة أن يتدخل لحل هذا المشكل واستطاع المغيرة بن شعبة أن ينجح في إقناع زياد ببيعة معاوية والدخول في طاعته وكان هذا النجاح من المغيرة من أعظم ما قدمه لمعاوية من خدمات، فقد كان من الصعب على معاوية أن يصل إلى زياد أو يوفق في إخضاعه إلا بعد قتال عنيف، لا يدري أحد من سيكون الرابح في مثل ذلك الموقف الخطير[41]، وقد تمّ لمعاوية احتواء حركة اعتصام زياد بفارس، ولم يستعجل في الأمر، وابتعد عن استخدام القوة، وأعطى للزمن فرصته، واستعان بداهية من دهاة العرب في اقناع زياد وهذا من حكمته[42] رضي الله عنه.
جـ ـ حول استلحاق معاوية زياد بن أبيه :
قال الطبري في عام 44هـ: في هذه السنة استلحق معاوية نسب زياد بن سمية بأبيه أبي سفيان فيما قيل[43]، وقال الطبري:... زعموا أن رجلاً من عبد القيس كان مع زياد لما وفد على معاوية فقال لزياد: إن لابن عامر عندي يداً، فإن أذنت لي أتيته، قال: على أن تحدثني ما يجري بينك وبينه، قال: نعم، فإذن له فأتاه، فقال له ابن عامر: هيه هيه أو ابن سمية يقبح آثاري، ويعرض بعمالي، لقد هممت أن آتي بقسامه[44] من قريش يحلفون أن أبا سفيان لم ير سمية، قال: فلما رجع سأله زياد، فأبى أن يخبره، فلم يدعه حتى أخبره فأخبر ذلك زياد معاوية، فقال معاوية لحاجبه: إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب، ففعل ذلك به، فأتى ابن عامر يزيداً، فشكا إليه ذلك، فقال له: هل ذكرت زياداً؟ قال: نعم، فركب معه يزيد حتى أدخله، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل، فقال يزيد لابن عامر: أجلس فكم عسى أن تقعد في البيت عن مجلسه فلما أطال خرج معاوية، وفي يده قضيب يضرب به الأبواب، ويتمثل:
لنا سياق[45] ولكم سياق
قد علمت ذلكم الرفاق[46]

ثم قعد فقال: يا ابن عامر، أنت القائل في زياد ما قلت: أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية، وإن الإسلام لم يزدني إلا عزاً، وإني لم أتكثر بزياد من قلة، ولم أتعزز به من ذلة، ولكن عرفت حقاً له فوضعته موضعه[47]، وقد اتهم معاوية رضي الله عنه عندما استلحق زياد بن أبيه إلى أبيه بأنه خالف أحكام الإسلام لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: لا دعوة في الإسلام، ذهب أمر الجاهلية، الولد للفراش[48]، وللعاهر الحجر[49]. وقد ردّ على هذا الاتهام الدكتور خالد الغيث في رسالته مرويات خلافة معاوية بقوله:.. أما اتهام معاوية رضي الله عنه باستلحاق نسب زياد، فإني لم أقف على رواية صحيحة صريحة العبارة تؤكد ذلك، هذا فضلاً عن أن صحبة معاوية رضي الله عنه، وعدالته ودينه وفقهه تمنعه من أن يرد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لاسيما وأن معاوية أحد رواة حديث: الولد للفراش وللعاهر الحجر[50]. ووجه التهمة إلى زياد بن أبيه بأنه هو الذي ألحق نسبه بنسب أبي سفيان واستدل برواية أخرجها مسلم في صحيحه من طريق أبي عثمان[51] قال: لما إدعى زياد لقيت أبا بكر فقلت له: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمع أذناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من ادعى أباً في الإسلام غير أبيه، يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام. فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم[52]. قال النووي رحمه الله معلقاً على هذا الخبر:... فمعنى هذا الكلام الإنكار على أبي بكرة، وذلك أن زياداً هذا المذكور هو المعروف بزياد بن أبي سفيان، ويقال فيه: زياد بن أبيه، ويقال: زياد بن أمه، وهو أخو أبي بكرة لأمه... فلهذا قال ابو عثمان لأبي بكرة: ما هذا الذي صنعتم؟ وكان أبو بكرة رضي الله عنه ممن أنكر ذلك وهجر بسببه زياداً وحلف أن لا يكلمه أبداً، ولعل أبا عثمان لم يبلغه إنكار أبي بكرة حيث قال هذا الكلام، أو يكون مراده بقوله ما هذا الذي صنعتم؟ أي هذا الذي جرى من أخيك ما أقبحه وأعظم عقوبته فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على فاعله الجنة[53]. وبذلك يكون زيادا هو المدِّعي، وفي حقيقة الأمر فإن مسألة استلحاق معاوية زياد هي مسألة اجتهادية ويذهب الكثير من المؤرخين بأن هناك دلائل عديدة تثبت أن أبا سفيان قد باشر سمية ـ جارية الحارث بن كلدة الثقفي ـ وكانت من البغايا ذوات الرايات ـ في الجاهلية ، فعلقت منه بزياد ، وذكروا بأن أبا سفيان اعترف بنفسه بذلك أمام علي بن طالب رضي الله عنه وآخرين بعدما شب ونبغ في عهد عمر بن الخطاب[54]، وقال ابن تيمية بأن أبا سفيان كان يقول زياد من نطفته[55]، فلما كانت خلافة معاوية شهد لزياد بذلك النسب أبو مريم السلولي وهو صحابي كان يعمل في الجاهلية خماراً بالطائف، وهو الذي جمع بين أبي سفيان وسمية، وكان ذلك أمراً مألوفاً آنذاك[56]، ويبدو أن هذا النسب قد شاع أمره حتى لقد شهد بذلك أحد رجال البصرة لزياد قبل استلحاق معاوية أياه[57]، فهي دعوة قديمة إذن ولم تكن كما يزعم الرواة نتيجة مشورة المغيرة بن شعبة على معاوية كجزء من صفقة متبادلة بين معاوية وزياد أو غير ذلك من التفاصيل التي اخترعها الرواة[58]. وبعد عقود من السنين نجد الإمام مالك بن أنس ـ إمام أهل المدينة ـ يذكر زياداً في كتابه الموطأ بأنه زياد بن أبي سفيان، ولم يقل زياد بن أبيه، وذلك في عصر بني العباس[59]، والدولة لهم والحكم بأيديهم فما غيروا عليه، ولا أنكروا ذلك منه، لفضل علومهم ومعرفتهم بأن مسألة زياد قد اختلف الناس فيها، فمنهم من جوزها، ومنهم من منعها، فلم يكن لاعتراضهم عليها سبيل[60]، وفي نسبة الإمام مالك لزياد إلى أبي سفيان فقه بديع لم يفطن له أحد ، وهو أنها لما كانت مسألة خلاف ونقد الحكم فيها بأحد الوجهين لم يكن لها رجوع فإن حكم القاضي في مسائل الخلاف بأحد القولين يمضيها ويرفع الخلاف فيها والله أعلم[61]. وأما تعارض هذا الاستلحاق مع نص الحديث الشريف، فمن اعتذر لمعاوية قال: إنما استلحق معاوية زياداً لأن أنكحت الجاهلية كانت أنواعاً ، وكان منها أن الجماعة يجامعون البغي، فإذا حملت وولدت ألحقت الولد لمن شاءت منهم فيلحقه، فلمّا جاء الإسلام حرّم هذا النكاح، إلا أنّه أقر كل ولد كان يُنسب إلى أب من أي نكاح كان من أنكحتهم على نسبه، ولم يفرّق بين شيء منها، فتوهم معاوية أنّ ذلك جائز له ولم يفرّق بين استلحاق في الجاهلية، والإسلام[62] وأجاز الإمام مالك أن يستلحق الأخ أخا له ويقول: هو ابن أبي، ما دام ليس له منازع في ذلك النسب. فالحارث بن كلدة (الذي كانت سمية جارية له) لم ينازع زياداً ، ولا كان إليه منسوباً ، وإنما كان ابن أمة بغي ولد على فراشه ـ أي في داره ـ فكل من ادعاه فهو له، إلا أن يعارضه من هو أولى به منه، فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز، بل فعل الحق على مذهب مالك، فإن قيل: فلم أنكر عليه الصحابة؟ قلنا: لأنها مسألة اجتهاد[63]....................... والحوادث تثبت أن معاوية كان مقتنعاً بحق زياد في ذلك، ولابد أنه كان قد سمع من أبيه ولهذا فإن معاوية كان مؤمناً بأن عمله لم يكن عملاً موضوعياً وواجباً ضرورياً من باب وضع الشيء في محله، ولا ريب أن هذا كان معروفاً عند الناس غير أن معاوية أراد أن يثبته[64].


ميارى 15 - 5 - 2010 07:57 PM

[align=justify]س ـ خطبة زياد المعروفة بالبتراء بالبصرة:
لما تولى زياد ولاية البصرة، عام 45هـ، خطب خطبة بتراء[1]، لم يحمد الله فيها وقيل: بل حمد الله فقال: الحمد لله على أفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه، اللهم كما رزقتنا نعماً، فألهمنا شكراً على نعمتك علينا. أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والفَجر[2] الموقد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها، ما يأتي سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا ينحاش منها الكبير، كأن لم تسمعوا بأي الله، ولم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمد[3]الذي لا يزول. أتكونون كمن طرفت[4] عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكروا أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا به، من ترككم هذه المواخير المنصوبة، والضعيفة المسلوبة، في النهار المبصر، والعدد غير قليل: ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج[5] الليل وغاره النهار اقربتم القرابة، وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتغطون على المختلس[6] كل امرى منكم يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عقاباً، ولا يرجو معاداً، ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء ولم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب[7]، حُرِّم عليّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً، إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح أوله، لين في غير ضعف، وشدة في غير جبرية وعنف، وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي[8]، والمقيم بالظاعن[9]، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: أنج سعد فقد هلك سعيد[10]، أو تستقيم لي قناتكم، إن كذبة المنبر تبقى مشهورة، فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي[11] من بُيِّت[12] منكم، فأنا ضامن لما ذهب له، إياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إلي، وإياي ودعوى الجاهلية[13]، فإني لا أجد أحد دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غُرَّق قوماً غرقته، ومن حرَّق على قوم حرقناه، ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه، ومن نبش قبراً دفنته[14]، حياً، فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف يدي وأذاي، لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضرب عنقه. وقد كانت بيني وبين أقوام إحن[15]، فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له ستراً، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره، فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم، فرب مبئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس[16]. ايها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة[17]، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء[18] الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا[19]بمناصحتكم واعلموا أني مهما قصرت ولو أتاني طارقاً بليل، وحابساً رزقاً ولا عطاءً عن إبانة[20]، ولا مُجمَّراً[21] لكم بعثاً، فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنها ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى تصلحوا يصلحوا، ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم كان شراً لكم، أسأل الله أن يعين كلاً على كل، وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فليحذر كل امريء منكم أن يكون من صرعاي: فقام عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد ايها الأمير أنك قد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال كذبت، ذاك نبي الله داود عليه السلام[22]. قال الأحنف: قد قلت فأحسنت أيها الأمير، والثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء وإنا لن نُثني حتى نُبتلي، فقال زياد: صدقت[23]. وهذه الخطبة تعتبر من الخطب المشهورة في التاريخ ومع الرغم من كثرتها وكثرة المصادر التي أوردتها إلا أنها لم تأت بإسناد صحيح يجعل القاريء يطمئن إلى صحة ما ورد فيها، لاسيما أنها تحتوي على مآخذ عديدة، وتناقضات واضحة تقلل من صحة نسبة جميع ما جاء فيها إلى زياد وقد نبه إلى هذه المآخذ والتناقضات الدكتور[24] خالد الغيث حفظه الله منها .
ـ تحدثت الخطبة عن انتشار الفجور في البصرة وكثرة بيوت الدعارة فيها ، ويستفاد ذلك من قول زياد: .. من ترككم هذه المواخير المنصوبة، قوله: ... حُرِّم عليّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً[25]. وهذا الكلام المنكر عن حال البصرة عند قدوم زياد، يرده حقيقة ما كانت عليه البصرة منذ تأسيسها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث بنيت لتكون قاعدة تنطلق منها الجيوش الإسلامية لمواصلة الفتح ونشر الإسلام في ربوع البلاد المفتوحة، ومن أجل هذه الغاية استوطن البصرة أكثر من خمسين ومائة صحابي، حملوا على عواتقهم مهمة الدعوة إلى الله وتعليم الناس أمور دينهم، فأنَّى لهذه المنكرات أن تنبت وتنتشر في مجتمع عماده الصحابة والتابعون دون أن ينكروه ويلزموه، كذلك فإن وجود الخوارج في البصرة وما عرف عنهم من الاستعجال والاندفاع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل آخر على انتفاء وجود هذه المنكرات في مجتمع البصرة وبالحجم الذي ورد في خطبة زياد[26].
ـ ومن التناقضات الواردة في الخطبة: ورد قول زياد: وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه[27] مع أنه ذكر في موضع آخر من الخطبة نقيض ذلك وهو قوله: وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم[28]. وورد في الخطبة قول زياد: إياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه[29]. لكنه عاد في موضع آخر من الخطبة لينقض ما ذكره آنفاً فقال: لست محتجباً عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقاً بليل[30]. وهذه التناقضات الواردة في الخطبة يستغرب صدورها من زياد مع ما عرف عنه من البلاغة والفصاحة، وهذا يقودنا إلى قضية أخرى وهي احتمال كون النص الذي بين أيدينا عن خطبة زياد عند مجيئة إلى البصرة عبارة عن أكثر من خطبة تم دمجها في سياق واحد ويؤيد ذلك ثناء عبد الله بن الأهتم والأحنف بن قيس على زياد بعد انتهاء الخطبة من أن الخطبة تستوجب النقد وليس الثناء، لما فيها من تقديم حكم الجاهلية على حكم الله[31]. وعن الشعبي، قال: ما سمعت متكلماً قد تكلم فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفاً أن يسيء إلا زياداً، فإنه كان كلما أكثر كان أجود كلاماً[32]. وهذا الثناء من الشعبي على زياد يقوي الشك حول خطبة زياد البتراء التي سبق الحديث عنها في الرواية السابقة[33].
ش ـ استعانة زياد بصحابة رسول الله:
استعان زياد بعدةٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمران بن الحصين الخزاعي[34]، ولاه قضاء البصرة، والحكم بن عمرو الغفاري[35]، ولاه خراسان، وسمرة بن جندب، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، فاستعفاه عمران فأعفاه، واستقضى عبد الله بن فضالة الليثي[36] ثم أخاه عاصم بن فضالة[37]، ثم زرارة بن أوفى الحرشي[38]، وكانت أخته لبابة عند زياد[39].
ل ـ من سياسة زياد في العراق :
يعتبر زياد بن أبي سفيان عامل معاوية على البصرة والكوفة بعد عبد الله بن عامر والمغيرة بن شعبة، هو الذي قام بمعظم الإصلاحات الضرورية في ذلك الجناح الشرقي من الدولة الأموية وكان هذا الرجل يتمتع بقدرة إدارية فائقة[40]. وقد استن زياد عدة قوانين وتنظيمات وقام بكثير من الإصلاحات في البصرة أولاً (45 ـ 50هـ) ثم في الكوفة بعد أن جُمعت المدينتان تحت إمرته في ولاية واحدة وذلك منذ سنة 50هـ، وحتى سنة 53هـ. فبنى دار الرزق في البصرة[41]، وهي شبيهة بمخزن المؤن في أيامنا هذه، فكان الأهالي يتمونون منها وعين أشخاصاً يشرفون عليها منهم، عبد الله بن الحارث بن نوفل، وروَّاد بن أبي بكرة. كما عين الجَعْد بن قيس النّمري مشرفاً على السوق ومراقباً على أسعار المواد الغذائية فيه[42]. وكان يعطي قروضاً للتجار إذا ما ارتفعت الأسعار كي يحثهم على المحافظة على سعر السلعة أو بزيادة بسيطة. وإذا ما تحقق ذلك وتوفرت الحاجات: ارتجع ماله[43]. وترك زياد الناس في البصرة أخماساً أما الكوفة فقد قسمهم إلى أرباع[44]، بدل الأسباع. واختار عريفاً لكل قسم يقوم بمهمة توزيع الإعطيات عل أفراد عشيرته، كما أنه كان مسئولاً أمام زياد عما يحدث في ناحيته، فيقوم بإرسال التقارير بما حصل فيها أولاً بأول إلى زياد واستطاع أن يضبط الأمور في المدينتين برجال من أهلها، وأصدر زياد أوامره بألاَّ يدخل أو يخرج أحد من الكوفة أو البصرة بعد صلاة العشاء وأوقع القصاص بالسارق وقاطع الطريق فعمَّ الأمن والطمأنينة بحيث أن المرأة كانت تنام وباب بيتها مفتوحاً، وأن الشيء ليسقط على الأرض فيظل ملقى دون أن يحركه أحد[45]. ونظم العطاء من الديوان فحذف منه أسماء الذين توفوا ومن كان غائباً عن قطره ومن كان عابثاً بالأمن، فكان: إذا جاء شعبان أخرج أعطية المقاتلة فملأوا بيوتهم من كل حُلْو وحامض واستقبلوا رمضان بذلك، وإذا كان ذو الحجة أخرج أعطية الذرية[46]،ويشير البلاذري إلى أنه: كان لكل عيِّل جريبان ومائة درهم، ومعونة الفطر خمسين، ومعونة الأضحى خمسين[47]، واختار زياد حوالي خمسمائة رجل من أهل البصرة ليعملوا كحرس خاص له وكذلك حماية الأماكن الهامة وأعطى لكل واحد منهم ما بين ثلاثمائة إلى خمسمائة درهم، وأسند قيادتهم إلى شيبان بن عبد الله السعدي فكانوا يبرحون المسجد[48]، وبنى زياد مساجد عديدة، منها: مسجد بني عدي، ومسجد بني مجاشع، ومسجد الأساورة. وكان لا يدع أحداً يبني بقرب مسجد الجماعة مسجداً، فكان مسجد بني عدي أقربها منه[49]. ويذكر ابن الفقيه: إن زياداً بنى سبعة مساجد فلم يُنسب إليه شيء منها، وأن كل مسجد بالبصرة كانت رحبته مستديرة فإنه من بناء زياد[50].وزاد زياد في مسجد البصرة زيادة كثيرة، وبناه بالآجر والجص، وسقفه بالساج، وبنى منارته بالحجارة[51]. وكان يهتم بنظافة المدينة ويعتبر الأفراد مسئولين على نظافة بيوتهم ويعاقب من يهمل ذلك، فقد كان يأخذ صاحب كل دار بعد المطر إذا أضحت برفع ما بين يدي فنائه من الطين، فمن لم يفعل أمر ذلك الطين فألقي في مجلسه، وكان يأخذ الناس بتنظيف طرقهم من القذر والكناسات، ثم أنه اشترى عبيداً ووكلهم فكانوا يلمونه[52] فهذه الرواية تشير إلى وجود موظفين مهمتهم مراقبة النظافة من ناحية، كما تشير إلى أن زياداً تنبه إلى أن نظافة الطرق أمر يجب أن يتولاه أشخاص معينون فاشترى عبيداً وكل إليهم تنظيف الطرق من القذر والكناسات[53] واهتم زياد بتقدم الزراعة وتنظيم طرق الري: فبنى السدود[54]، وحفر القنوات[55]، كما أنه كان يمنح المزارع قطعة من الأرض الزراعية، مساحتها 60 جريباً ثم يدعه عامين فإن عمّرها أصبحت له، وإلا استردها منه، وأعطاها آخرين ينتظرونها[56]، ولكي يسهل الاتصال بين ضفتي نهر الفرات، فقد أصلح زياد قنطرة الكوفة وأعاد بناءها باللبِّن والطوب المقوّى، بعد أن كانت من أخشاب القوارب المتهالكة. وأصبحت تعرف بعد ذلك بجسر الكوفة[57]. وأما عن كيفية تصرف زياد في موارد بيت مال الولاية فيشير البلاذري إلى: أن زياداً كان يجبي من كُوَر البصرة ستين ألف ألف، فيعطي المقاتلة من ذلك ستة وثلاثين ألف ألف، ويعطي الذرية ستة عشرة ألف ألف درهم، وينفق من نفقات السلطان ألفي ألف، ويجعل في بيت المال للبوائق والنوائب ألفي ألف درهم، ويحمل إلى معاوية أربع آلاف (ألف) درهم، وكان يجبي من الكوفة أربعين ألف ألف، ويحمل إلى معاوية ثُلثي الأربعة الآلاف ألف لأن جباية الكوفة ثلثا جباية البصرة. كما أن عبيد الله زياد، والذي خلف أباه على ولاية العراق حمل إلى معاوية ستة آلاف درهم فقال معاوية: اللهم أرض عن ابن أخي[58].
[/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 07:59 PM

4[align=justify]
ـ ولاية سمرة بن جندب رضي الله عنه:
عن جعفر بن سليمان الضبعي، قال: أقر معاوية سمرة بعد زياد ستة اشهر، ثم عزله فكذبوا على سمرة وزعموا أنه قال: لعن الله معاوية: والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبداً[1]. هذا الخبر المنسوب إلى سمرة بأنه شتم معاوية خبر مكذوب على هذه الصحابي الكريم، وفي ذلك يقول ابن كثير وهذا لا يصح عنه[2]، كما أن معرفة ميول مصدر الخبر جعفر بن السليمان الضبعي، والذي قال عنه ابن حجر: صدوق زاهد لكنه يتشيع[3]، تبين أثر التشيع في تشويه التاريخ الإسلامي[4].
5 ـ ولاية عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي :
قال الطبري وفي هذه السنة ـ 54هـ كان عزل معاوية بن أبي سفيان لسمرة بن جندب عن البصرة، واستعمل عبد الله بن غيلان[5].
6 ـ ولاية عبيد الله بن زياد خراسان ثم البصرة :
قال الطبري: وفي هذه السنة ولى معاوية عبد الله بن زياد خراسان[6]، وفي عام 55هـ عزل معاوية بن عمرو بن غيلان عن البصرة وولاها عبد الله بن زياد[7]وأوصى معاوية عبد الله بن زياد بهذه الوصية: إني قد عهدت إليك مثل عهدي إلى عمالي، ثم أوصيك وصية القرابة لخاصتك عندي، لا تبيعن كثيراً بقليل، وخذ لنفسك من نفسك، واكتف فيما بينك وبين عدوك بالوفاء تخفّ عليك المؤونة وعلينا منك، وافتح بابك للناس تكن في العلم منهم أنت وهم سواء، وإذا عزمت على أمر فأخرجه إلى الناس، ولا يكن لأحد فيه مطمع، ولا يرجعن عليك وأنت تستطيع، وإذا لقيت عدوك فغلبوك على ظهر الأرض فلا يغلبونك على بطنها، وإن أحتاج أصحابك إلى أن تواسيهم بنفسك فآسيهم[8]. وفي رواية قال له: اتق الله ولا تؤثرن علىتقوى الله شيء، فإن في تقواه عوضاً، وقِ عرضك من أن تندسه، وإذا أعطيت عهداً فوف به، ولا تبيعنَّ كثيراً بقليل، ولا تخرجن منك أمراً حتى تُبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك، وإذا لقيت عدوك فكن أكثر من معك، وقاسمهم على كتاب الله، ولا تطمعن أحداً في غير حقه، ولا تؤيسن أحداً من حق له. ثم ودعه[9].

ثانياً : الكوفة : 41هـ :
1 ـ المغيرة بن شعبة رضي الله عنه : الأمير أبو عيسى، ويقال أبو عبد الله، وقيل: أبو محمد. من كبار الصحابة أولي الشجاعة والمكيدة. شهد بيعة الرضوان، كان رجلاً طوالاً مهيباً، ذهبت عينه يوم اليرموك وقيل يوم القادسية[10]. وكان يقول أنا آخر الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر، فألقيت خاتمي، فقلت يا أبا الحسن، خاتمي قال: انزل فخذه، قال: فمسحت يدي على الكفن ثم خرجت[11]. وله مواقف في الدهاء والمكر والكيد منهما، عن زيد بن أسلم، عن أبيه،، أن عمر استعمل المغيرة بن شعبة على البحرين، فكرهوه، فعزله عمر، فخافوا أن يردّه، فقال دهقانهم[12]: إن فعلتم ما آمركم لم يردَّه علينا. قالوا: مُرْنا. قال: تجمعون مائة ألف حتى أذهب بها إلى عمر، وأقول: إن المغيرة اختان هذا، فدفعه إليَّ. قال: فجمعوا له مائة ألف، وأتى عمر، فقال ذلك، فدعا المغيرة، فسأله، قال: كذب أصلحك الله، إنما كانت مائتي ألف، قال: ما حملك على هذا؟ قال: العيال والحاجة. فقال عمر للعِلْج: ما تقول؟ قال: لا والله لأصَدُقنَّك ما دفع إليَّ قليلاً ولا كثيراً فقال عمر للمغيرة: ما أردت إلى هذا؟ قال: الخبيث كذب عليَّ، فأحببت أن أخزيه[13].
وعن الشعبي: سمعت قبيصة بن جابر يقول: صحبت المغيرة بن شعبة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب، لا يخرج من باب إلا بمكر، لخرج من أبوابها كلها[14]، وقال الشعبي:.. والدهاة أربعة: معاوية وعمرو بن العاص، والمغيرة، وزياد[15]. وكان المغيرة بن شعبة من أنصار التعدد فكان يقول: صاحب المرأة الواحدة يحيض معها ويمرض معها، وصاحب المرأتين بين نارين تشتعلان[16]. فهو يدعو للزواج من ثلاث أو أربع.
وقد استعمل معاوية المغيرة على الكوفة عام 41هـ[17]، وقام بجهود عظيمة في قتال الخوارج ووجد وقتاً كافياً قام فيه بتوسيع مسجد الكوفة فجعله يتسع لأربعين ألفاً من المصلين[18]. وبقى في الولاية إلى عام 49هـ وقيل 50هـ، وهو الراجح وعندما مات ضم معاوية الكوفة إلىزياد، فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة[19].
2 ـ ولاية زياد بن أبيه على الكوفة:
كان زياد على البصرة وأعمالها إلى سنة خمسين، فمات المغيرة بن شعبة بالكوفة وهو أميرها، فكتب معاوية إلى زياد بعهده على الكوفة والبصرة، فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة، فاستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وشخص إلى الكوفة، فكان زياد يقيم ستة أشهر بالكوفة وستة أشهر بالبصرة[20]. وقد تحدثنا عن سياسة زياد فيما سبق بالعراق وقد وصفه الذهبي فقال فيه:.. كان من نُبلاء الرجال، رأيا، وعقلاً وحزماً ودهاءً، وفطنة وكان يضرب به المثل في النُّبل والسؤدد وكان كاتبا بليغاً كتب للمغيرة، ولابن عباس وناب عنه بالبصرة[21]. وقال الشعبي: ما رأيت أحداً أخطب من زياد[22]. وقال فيه ابن حزم: لقد امتنع زياد وهو فِقَعَةُ القاع[23]، لا نسب له ولا سابقة، فما أطاقة معاوية إلا بالمداراة، ثم استرضاه وولاّه[24] وقال أبو الشعشاء: كان زياد أفتك من الحجَّاج لمن يخاف هواه[25] وعندما استقر أمره بالعراق وتمكن منها ، كتب زياد إلى معاوية: قد ضبطت لك العراق بشمالي ويميني فارغة، فاشغلها بالحجاز... فلما بلغ ذلك أهل الحجاز أتى نفر منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، فذكروا ذلك له، فقال: ادعوا الله عليه فيكفيكموه، فاستقبل القبلة، واستقبلوها فدعوا ودعا، فخرجت طاعونة[26] على أصبعيه، فأرسل إلى شريح[27] ـ وكان قاضيه ـ فقال: حدث بي ما ترى، وقد أمرت بقطعها، فأشر علي، فقال له شريح: إني أخشى أن يكون الجراح على يدك، والألم على قلبك، وأن يكون الأجل قد دنا، فتلقى الله عز وجل أجذم[28] وقد قطعت يدك كراهية للقائه، أو أن يكون في الأجل تأخير، وقد قطعت يدك فتعيش أجذم وتعير ولدك، فتتركها وخرج شريح فسألوه، فأخبرهم بما أشار به، فلاموه وقالوا: هل أشرت عليه بقطعها، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المستشار مؤتمن[29]. وقد مات زياد سنة ثلاث وخمسين[30] .
3 ـ ولاية عبد الله بن خالد بن أسيد :
عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص، ولي فارس لزياد، ثم[31] استخلفه زياد على الكوفة عند مماته، وهو الذي صلى على زياد .
4 ـ ولاية الضحاك بن قيس الفهري :
وفي سنة 55هـ عزل معاوية عبد الله بن خالد بن أسيد عن الكوفة، وولاها الضحاك بن قيس الفهري[32].
5 ـ ولاية عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي : 58هـ :
وفي سنة 58هـ ولي معاوية الكوفة عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، وهو ابن أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان، وعزل عنها الضحاك بن قيس[33].
هذا وقد قام معاوية رضي الله عنه بعزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الكوفة بسبب إقدامه على قتل أحد أهل الذمة، ودليل ذلك ما أخرجه أحمد بن حنبل، بإسناد صحيح، قال: حدثني هارون بن معروف قال: حدثنا سفيان، عن مطرف، قال: أخبرني بن سعيد قال:.. ثم إن ابن الحكم عزل حين قتل ابن صلوبا[34].
6 ـ ولاية النعمان بن بشير رضي الله عنه : 59 ـ 60هـ :
وفي سنة 59هـ عزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الكوفة، واستعمل عليها النعمان بن بشير الأنصاري[35].
فهولاء هم ولاة الكوفة في عهد معاوية رضي الله عنه.

[/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 08:02 PM

[align=justify]ثالثاً : المدينة النبوية :
تعتبر المدينة من أهم الولايات للنفوذ الروحي والديني على الدولة الأموية بسبب وجود الصحابة وأبناؤهم من المهاجرين والأنصار، ولا تكاد تنعقد البيعة إن لم يبايع أهل المدينة إذ فيها عدد من أهل الحل والعقد، ومن يطيعه الناس ويسيرون برأيهم[1]، وقد دخلت المدينة في سلطان معاوية رضي الله عنه بعد عام الجماعة سنة 41هـ وقد حرص معاوية على زيارتها منذ بيعته فقدم المدينة وتلقته رجال من وجوه قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعزّ نصرك وأعلى أمرك، فما رَدَّ عليهم جواباً حتى دخل المدينة، فقصد المسجد، وعلا المنبر، فحمد الله وأثنى عليه فقال:... ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي فخافه فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه، وأردتها على عمل ابن الخطاب، فكانت أشد نفوراً وأعظم هرباً من ذلك، وحاولتها على مثل سنيّان عثمان، فأبت علي، وأين مثل هؤلاء ومن يقدر علىأعمالهم، هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممن بعدهم.. غير أني سلكت بها طريقاً لي منفعة ولكم فيه مثل ذلك، ولكم فيه مؤاكلة حسنة ومشاربه جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم، فأنا خير لكم، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه ومهما تقدم مما قد علمتموه قد جعلته دُبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله، فارضوا مني ببعضه، وإياكم والفتنة، فلا تهموا بها، فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة[2]، ونلاحظ في هذه الخطبة حرص معاوية رضي الله عنه على أن يكسب ودهم ويحافظ على عهده لهم، ما حافظوا على بيعتهم له[3]. وقد هدأت المدينة بعد بيعة معاوية وأخلدت إلى السكينة، وانصرف أهلها إلى أعمالهم وانقطع أهل العلم إلى رواية ما حفظوه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغدق معاوية الأموال على سراة الناس لاستمالتهم وكان كرم هؤلاء يسع الكثير من أجل المدينة[4] وكان معاوية عند عهده لأهل المدينة وفياً بالسياسة التي رسمها في خطبته عند زيارة المدينة، وكان يقدم من الترغيب أكثر مما يعلن من الترهيب وكان أكرامه لرجالات المدينة إكراماً يفوق كل وصف، وما قصده أحد في طلب إلا أعطاه. لقد كان يخص وجهاء القوم، ولكن هؤلاء كانوا موزعين لعطايا معاوية، كلما كثرت عطايا معاوية كثر إنفاقهم على أهل المدينة[5]، فقد روي أن معاوية قضى عن عائشة أم المؤمنين ثمانية عشر ألف دينار، وما كان عليها من الدَّين الذي كانت تعطيه الناس[6]، وبعث معاوية إلى أم المؤمنين عائشة بمائة ألف، ففرقتها من يومها، فلم يبق منها درهم، فقالت لها خادمتها: لو اشتريت لنا من ذلك بدرهم لحماً؟ فقالت ألا ذكّرتني[7]وأما ولاة المدينة فهم:
1 ـ مروان بن الحكم 42 ـ 49هـ:
في عام 42هـ ولى معاوية مروان بن الحكم المدينة، فاستقضى مروان عبد الله بن الحارث بن نوفل[8].
2 ـ ولاية سعيد بن العاص رضي الله عنه 49 ـ 54هـ :
في سنة 49هـ عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة في شهر ربيع الأول، وأمَّر فيها سعيد بن العاص على المدينة في شهر ربيع الآخر وقيل في شهر ربيع الأول[9].
3 ـ ولاية مروان بن الحكم الثانية: 54 ـ 57هـ:
في عام 54هـ عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة، واستعمل عليها مروان بن الحكم[10].
4 ـ ولاية الوليد بن عتبة بن أبي سفيان:
استعمل معاوية على المدينة حين صرف عنها مروان، الوليد بن عتيبة بن أبي سفيان[11]وكان ذلك عام 57هـ[12]
· وفاة أبي هريرة رضي الله عنه بالمدينة 58هـ وقيل 59هـ:
توفي أبو هريرة رضي الله عنه في عهد معاوية وقد تعرّض للهجوم الشرس من قبل أعداء السنة النبوية بسبب خدمته لها، فرأيت من المناسب أن أترجم لأبي هريرة وأتعرض للشبهات المثارة حوله وبيان بطلانها وزيفها.
أ ـ التعريف به : هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني، كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن واشتهر أبو هريرة بكنيته، حتى غلبت على اسمه فكاد ينسى، وسئل أبو هريرة: لم كنيت بذلك؟ قال كنيت أبا هريرة لأني وجدت هرة فحملتها في كمي، فقيل لي: أبو هريرة: وكان يرعى غنم أهله في صغره، ويداعب هرته وكان يقول: لا تكنوني أبا هريرة، فإن النبي الله صلى الله عليه وسلم كناني أبا هر، والذكر خير من الأنثى[13].
ب ـ إسلامه: هاجر أبو هريرة من اليمن إلى المدينة ليالي فتح خيبر، وكان ذلك سنة سبع من الهجرة، وكان قد أسلم على يد الطفيل بن عمرو في اليمن، ووصل المدينة وصلى الصبح خلف سباع بن عرفظة الذي كان قد استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة أثناء غزوة خيبر[14]. وقد لازم أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر حياته، وقصر نفسه على خدمته، وتلقى العلم الشريف منه، فكان يدور معه ويدخل بيته، ويصاحبه في حجه وغزوه، ويرافقه في حله وترحاله، في ليله ونهاره،حتى حمل عنه العلم الغزير الطيب، فكانت صحبته أربع سنوات، وقد اتخذ الصُّفة مقاماً له، وخدم الرسول صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه، وجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عريف أهل الصفة، فقد كان أعرف الناس بهم وبمراتبهم[15].
ت ـ دعوته لأمه للإسلام : قال أبو هريرة رضي الله عنه كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبو هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهم أهد أم أبي هريرة ، فخرجت مستبشراً بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب ثم قالت: أبا هريرة أشهد أن لا إليه إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت يا رسول الله أبشر، قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة: فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً. قالت: يا رسول الله ادعو الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهم حبب عُّبيدك هذا ـ يعني أبا هريرة ـ وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين. فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني [16].
ت ـ عبادة أبي هريرة رضي الله عنه وأسرته:
كان أبو هريرة رضي الله عنه ورعاً، ملتزماً سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، يحذر الناس في الانغماس في ملذات الدنيا، وشهواتها، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يفرق في ذلك بين غني ولا فقير، أو بين أمير وحقير وأخباره في هذا الصدد كثيرة، وكان يخشى الله كثيراً في السر والعلن، ويذكر الناس به، ويحثهم على طاعته[17]، وكان عابداً، يصوم النهار ويقوم الليل، ويتناوب قيامه هو وزوجته، وابنته[18]، وكان يهتم بعمران بيته بعبادة الله تعالى فعن أبي عثمان النهدي قال: تضيَّفت ابا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً: يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا ثم يوقظ هذا[19] فبيت أبي هريرة أشراقة مضيئة تبين لنا بيوت المسلمين في ذلك العهد، فهو بيت عامر بالصلاة طوال الليل، فأين تجد الشياطين لها مكاناً في هذا البيت؟ إنها تربية عالية على التقوى والعمل الصالح من الحافظ الكبير والعالم الرباني أبي هريرة رضي الله عنه، واستجابة كريمة من امرأة طاهرة زكية وخادم صالح مطيع. إن أبناء الدنيا حينما يكلفون خدمهم، بعمل كبير، فإنما يكلفونهم بأعمال الدنيا، ويرون أنه لا مصلحة لهم بتكليفهم بعمل الآخرة، أما أبناء الآخرة فإنه من كمال سرورهم أن يروا خدمهم يجتهدون في أعمال الآخرة، لأنهم يكسبون بذلك أجراً على حسن توجيههم[20].
ث ـ فقره وعفافه :
كان أبو هريرة أحد أعلام الفقراء والمساكين، صبر على الفقر الشديد حتى أنه كان يلصق بطنه بالحصى من الجوع، يطوي نهاره وليله من غير أن يجد ما يقيم صلبه[21]، قال سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ: رأيت أبا هريرة يطوف بالسوق، ثم يأتي أهله فيقول: هل عندكم من شيء؟ فإن قالوا: لا قال: فإني صائم[22]، وكان قنوعاً راضياً بنعم الله، فإذا أصبح لديه خمس عشرة تمرة أفطر على خمس، وتسحر على خمس، وأبقى خمس لفطره[23]، وكان كثير الشكر لله، كثير الحمد والتسبيح والتكبيرعلى ما أتاه الله من فضل وخير[24] .
جـ ـ حلمه وعفوه :
كانت عند أبي هريرة زنجية قد غمتهم بعملها، فرفع يوماً السوط ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لأغشينك به، ولكن سأبيعك ممن يوفيني ثمنك أحوج ما أكون إليه، أذهبي فأنت حرة لله عز وجل[25]، وهكذا يوازن أبو هريرة رضي الله عنه بين قدرته على تلك الخادمة وقدرة الله تعالى عليه، فيفضل اتقاء سخط الله سبحانه وتعالي وعذابه على تنفيذ مقتضى سخطه هو، فيتورع عن عقوبة تلك الخادمة ويحسن إليها بدلاً من إساءتها بإعتاقها لوجه الله عز وجل، وبهذا يكون قد جمع بين عدد من الأعمال الصالحة،.. خشية الله تعالى، والعفو عن المسيء، والإحسان إليه، وهذا يبين لنا عمق تصور الصحابة رضي الله عنهم للحياة الآخرة واستحضارهم رقابة الله تعالى وسعيهم الحثيث لبلوغ رضاه[26].
ح ـ ولايته على البحرين في عهد عمر رضي الله عنه:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل أبا هريرة مع العلاء الحضرمي إلى البحرين، لينشر الإسلام، ويفقه المسلمين، ويعلمهم أمور دينهم، فحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفتى الناس، وفي عهد عمر رضي الله عنه استعمله على البحرين فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدو كتابه؟ فقال أبو هريرة: لست بعدو الله وعدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما، قال: فمن أين هي لك؟ قال: خيل نتجت، وغلة رقيق لي، وأعطية تتابعت عليّ. فنظروا فوجدوا كما قال[27]، وقد قاسمه عمر رضي الله عنه مع جملة من قاسمهم من العمال، وكان أبو هريرة يقول: اللَّهم اغفر لأمير المؤمنين[28]، وبعد ذلك دعاه عمر ليوليه، فأبى، فقال: تكره العمل وقد طلب العمل من كان خير منك، يوسف عليه السلام، فقال: يوسف نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة ابن أميمة وأخشى عملكم ثلاثاً واثنتين، فقال: فهل قلت خمساً، قال: لا. أخاف أن أقول بغير علم وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي[29].
خ ـ اعتزاله الفتن :
كان أبو هريرة يوم حصار عثمان رضي الله عنه عنده في الدار مع بعض الصحابة وأبناءهم، الذين جاءوا ليدفعوا الغوغاء عنه، وقد حفظ ولد عثمان له يده واحترموه حتى أنه لما مات أبو هريرة كان يحملون سريره حتى بلغوا البقيع[30]، وقد اعتزل أبو هريرة رضي الله عنه الفتن بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه[31].
ر ـ مرحه ومزاحه :
كان أبو هريرة رضي الله عنه حسن المعشر، طيب النفس، صافي السريرة، كان يحب الفكاهة والمزاح ومع هذا كان يعطي كل شيء حقه، فقد نظر إلى الدنيا بعين الراحل عنها، فلم تدفعه الإمارة إلى الكبرياء، بل أظهرت تواضعه، وحسن خلقه، فربما استخلفه مروان على المدينة، فيركب حماراً قد شدَّ عليه بَرْذعه وفي رأسه خلبة من ليف، يسير فيلقى الرجل، فيقول: الطريق قد جاء الأمير[32]. ويمر أبو هريرة في السوق، يحمل الحطب على ظهره ـ وهو يومئذ أمير لمروان ـ فيقول لثعلبة بن أبي مالك القرظي: أوسع الطريق للأمير يا ابن مالك، فيقول: يرحمك الله يكفي هذا!! فيقول أبو هريرة: أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه[33]. وكان يحب إدخال السرور إلى نفوس الأطفال، فقد يراهم يلعبون بالليل لعبة الإعراب، فلا يشعرون به حتى يلقي نفسه بينهم ويضرب برجليه كأنه مجنون فيفزع الصبيان منه ويفرون[34]، هاهنا وهاهنا يتضاحكون[35]. قال أبو رافع: وربما دعاني أبو هريرة إلى عشائه في الليل، فيقول: دع العُراق للأمير ـ يعني قطع اللحم ـ فانظروا فإذا ثريد بزيت[36].
ز ـ حياته العلمية:
صحب أبو هريرة رسول اله صلى الله عليه وسلم أربع سنوات، وسمع منه كثيراً، وشاهد دقائق السنة، ووعى تطبيق الشريعة، وكان همه طلب العلم وأمله التفقه في الدين[37]، وكان حفظ أبي هريرة الخارق من معجزات النبوة[38]، فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا تسألني من الغنائم التي يسألني أصحابك؟ قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله، فنزع نمرة كانت على ظهري، فبسطها بيني وبينه، حتى كأني انظر إلى النمل يدب عليها، فحدَّثني حتى إذا استوعبت حديثه، قال: اجمعها فصُرْها إليك. فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدّثني[39]، وكان يقول رضي الله عنه: إنّكم تقولون: إنَّ أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يُحدِّثون مثله وإن إخواني من المهاجرين يشغلهم الصَّفق في الأسواق، وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عمل أموالهم، وكنت أمرأ مسكيناً من مساكين الصفة، ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه يوماً: إنَّه إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي جميع مقالتي، ثم يجمع إليه ثوبه، إلا وعى ما أقول. فبسطت نمرة عليَّ، حتى إذا قضي مقالته، جمعتها إلى صدري. فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك شيئاً[40]، وفي رواية: إنه حدثنا يوماً فقال: من يبسط ثوبه حتى أقضي مقالتي، ثم قبضه إليه، لم ينس شيئاً سمع مني أبداً. ففعلت فوالذي بعثه بالحق، ما نسيت شيئاً سمعته منه[41]. وعن أبي هريرة، قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: لقد ظننت يا أبا هريرة لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوّل منك، لما رأيت من حرصك على الحديث: إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من نفسه[42]. وكان أبو هريرة حافظاً متقناً، ضابطاً لما يروي، دقيقاً في أخباره، فقد اجتمعت فيه صفتان عظيمتان تتم إحداهما الأخرى، الأولى: سعة علمه وكثرة مروياته، والثانية: قوة ذاكرته وحسن ضبطه وهذا غاية ما يتمناه أولو العلم[43]، ويذكر لنا أبو الزعيزعة كاتب مروان ما يثبت اتقانه وحفظه فيقول: دعا مروان أبا هريرة فجعل يسأله، واجلسني خلف السرير، وجعلت أكتب عنه، حتى إذا كان رأس الحول، دعابه، فأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخر[44]. ولم يكن أبو هريرة راوية للحديث فقط، بل كان من رؤوس العلم في زمانه، في القرآن والسنة والاجتهاد، فإن صحبته وملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتاحت له أن يتفقه في الدين، ويشاهد السنة العملية، عظيمها ودقيقها فتكونت عنده حصيلة كثيرة من الحديث الشريف كل ذلك هيأ أبو هريرة لأن يفتي المسلمين في دينهم نيفاً وعشرين سنة والصحابة كثيرون آنذاك[45].
ص ـ أصح الطرق عن أبي هريرة في الحديث عن رسول الله:
حكى عن ابن المديني أن من أصح الأسانيد إطلاقاً حماد بن يزيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة[46]، وأصح ما روي من الحديث عن أبي هريرة ما جاء عن:
ـ الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
ـ أبو الزناد عن الأعرج ـ عبد الرحمن بن هرمز ـ عن أبي هريرة.
ـ مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
ـ سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
ـ معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
ـ معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة[47].
* الرد على الشبه التي أثيرت حول أبي هريرة رضي الله عنه:
كتب بعض أهل الأهواء قديماً في الطعن في أبي هريرة وتابعهم في هذا العصر بعض المستشرقين أمثال (جولد تسهير) وشبرنجر) في الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه بالظلم والبهتان، وكتب عبد الحسين شرف الدين العاملي الشيعي كتاب تحت عنوان (أبو هريرة) وافترى فيه على أبي هريرة افتراءات يندي لها جبين العلم وتخز ضمير العلماء، وتجرح الحق، ولا تلتقي معه، حتى انتهى إلى تكفير أبي هريرة[48]، وقد استقى من هذا الكتاب أبو رية صاحب كتاب أضواء على السنة المحمدية. فكان أشد على أبي هريرة من أستاذه وأكثر ضلالاً وزيفاً، وأهم هذه الشبهات التي ألصقت بأبي هريرة رضي الله عنه:
أ ـ عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما:
اتهم عبد الحسين شرف الدين وأبو رية[49] أبا هريرة بأنه سرق عشرة آلاف دينار حينما ولي البحرين لعمر، فعزله وضربه بالدرة حتى أدماه، لقد ذكرت جميع الروايات المعتمدة أن عمر رضي الله عنه قاسمه ماله، كما قاسم غيره من الولاة[50] ، وليس فيها أنه ضربه حتى أدماه، وكان أبو هريرة يقول: اللَّهم اغفر لأمير المؤمنين فلم يحقد على عمر رضي الله عنه مع أنه يعلم أن ما قاسمه إياه إنما هو عطاياه وأسهمه وغلة رقيقة ولو أن عمر شك في أمانة أبي هريرة بعض الشك لحاكمه وعاقبه العقوبة الشرعية، ولكنه عرف فيه الأمانة والإخلاص فعاد إليه بعد حين يطلبه للولاية فأبى أبو هريرة قبولها كما أسلفنا. هذا وجه الحق الذي أخفاه عبد الحسين وأبو ريه، فعبد الحسين نقل رواية واحدة عن العقد الفريد لابن عبد ربه[51]، حيث وجد فيها ما يوافق هواه واكتفى أبو رية بالنقل عن عبد الحسين من غير أن يشير إلى المصدر ومن غير بحث أو مقارنة وتمحيص[52]. وهذا يدل على حرصهم على التزوير والإخلال بالأمانة العلمية.[/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 08:04 PM

[align=justify]ب ـ هل تشيع أبو هريرة للأمويين؟ ووضع أحاديث في ذم علي وأبنائه؟
وقد اتهمه عبد الحسين بأنه دعاية الأمويين في سياستهم فتارة يفتئت الأحاديث في فضائلهم.. وتارة يلفق أحاديث في فضائل الخليفتين نزولاً على رغائب معاوية وفئته الباغية[1]وجمع أبو رية في هذا الموضوع كل شتائم كتب الشيعة في أبي هريرة ونبش الأكاذيب والافتراءات على صحابة رسول الله واعتمد الكتب التي لم يعرف مؤلفوها بالصدق ولا بالتمحيص في الرواية أو التي عرف مؤلفوها بالبغض القاتل لأبي هريرة، والعقيدة التي ندين بها أن أبا هريرة رضي الله عنه كان محباً لآل بيت رسول الله صلى عليه وسلم روى في فضائل الحسن والحسين أكثر من حديث[2] ولم يناصب أهل البيت العداء قط ومشهور عنه أنه تمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يحب من أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العجيب أن يدعي إنسان نهل عن العلم بعضه أن أبا هريرة يكره علياً وأهله رضي الله عنهم[3]، وقد كتب الأستاذ عبد المنعم صالح العزي كتابه القيم في الدفاع عن أبي هريرة، وبين حبه لعلي وفاطمة رضي اله عنهما وبين بأنه يروي منقبة علي يوم خيبر، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال يوم خيبر: لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ـ ثم روى إعطاءه إياها[4]، أفهذه رواية كاره لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه[5] وفي مناقب فاطمة رضي الله عنها يروي أبو هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن فاطمة سيدة نساء أمتي[6]، وروى أبو هريرة أحاديث في حب الحسن بن علي وله معه وقائع وأخبار تدل على حب عظيم كان يكنه للحسن[7]. ويروي لنا أبو هريرة صورة لحبه للحسن رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: لا أزال أحب هذا الرجل بعد ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يدخل أصابعه في لحية النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي يدخل لسانه في فمه، ثم قال: اللّهم إني أحبه فأحبه[8]. فلا غرابة بعد هذا الحب أن رأينا أبا هريرة يبكي يوم يموت الحسن ويدعو الناس إلى البكاء[9]، يقول من حضر ذاك اليوم: رأيت أبا هريرة قائماً على المسجد يوم مات الحسن يبكي وينادي بأعلى صوته: يا أيها الناس: مات اليوم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فابكوا[10]، ولم يكن حب الحسين بن علي أقل ظهوراً عند أبي هريرة من حب الحسن، إذ ينقل لنا حادثة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ما رأيت الحسين بن علي إلا فاضت عيني دموعاً، وذاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فوجدني في المسجد، فأخذ بيدي واتكأ علي، فانطلقت معه حتى جاء سوق بني قينقاع، قال: وما كلمني فطاف ونظر، ثم رجع ورجعت معه فجلس في المسجد واحتبى، وقال لي: ادع لي لكاع، فأتى حسين يشتد حتى وقع في حجره ثم أدخل يده في لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح فم الحسين فيدخل فاه فيه ويقول: اللَّهم إني أحبه فأحبه[11]. والقصة هذه رواها البخاري وفيها أن الحسن لا الحسين، لكن الحاكم أشار إلى أن كلاً الروايتين محفوظة واردة، وذلك محتمل، لأن فيها ذكر الرجوع إلى المسجد[12]، ولقد أثبت عبد المنعم العزي في كتابه أقباس من مناقب أبي هريرة بالدلائل القطعية الكافية اعتداد أبناء علي رضي الله عنهم بحديث أبي هريرة، وروايتهم عنه، ورواية كبار فرسان علي وأمراء جنده، الذين قاتلوا معه في معارك الجمل وصفين والنهروان عن أبي هريرة، ورواية جمهرة من التابعين عنه ممن لاقوا علياً رضي الله عنه ورووا عنه، ورواية عدد كبير آخر من جماهير الشيعة والكوفيين ومحبي ذرية علي من طبقة أتباع التابعين والطبقة التي تليهم لحديث أبي هريرة، واستعماله له، واستدلالهم به، وتدوينه في كتبهم[13].
إن الحقيقة العلمية التاريخية تقول لا يوجد أي دليل يعتمد عليه في تشيع أبي هريرة للأمويين، أو محاربته وعداوته لعلي وأبنائه وإنما ظلم وافتراء واختلاق على الحقيقة، وإنما ما نسب إليه من أحاديث في مدح الأمويين، إنما هي ضعيفة وموضوعة عليه وأهل الخبرة في هذا الشأن بينوا الكذابين والواضعين لها[14].
وأما دعوى كون الدولة الأموية وضعت أحاديث لتعمم بها رأياً من آرائها، فهذه دعوى لا وجود لها إلا في خيال الكذّابين، فما روى لنا التاريخ أن الحكومة الأموية وضعت أحاديث، ونحن نسأل من زعم ذلك أين هي تلك الأحاديث التي وضعتها الحكومة؟ إن علماءنا اعتادوا ألا ينقلوا حديثاً إلا بسنده، وها هي أسانيد الأحاديث الصحيحة محفوظة في كتب السنة، ولا نجد حديثاً واحداً من آلافها الكثيرة في سنده عبد الملك أو يزيد أو الوليد أو أحد عمالهم كالحجاج وخالد القسري وأمثالهم، فأين ضاع ذلك في زوايا التاريخ لو كان له وجود؟ وإذا كانت الحكومة الأموية لم تضع بل دعت إلى الوضع، فما الدليل على ذلك[15]؟ وأما ما زعمه عبد الحسين وأبو رية بأن أبا هريرة كذب على رسول الله إرضاء للأمويين ونكاية بالعلويين[16]، فأبو هريرة من كل هذا براء ولكنهما أوردا أخباراً ضعيفة وموضوعة لا أصل لها[17]، وكل ما كان في هذا الشأن وما جاءنا من هذه الأخبار الباطلة إنما كان عن طريق أهل الأهواء الداعين إلى أهوائهم، المتعصبين لمذاهبهم، فتجرؤوا على الحق، ولم يعرفوا للصحبة حرمتها، فتكلموا في خيار الصحابة واتهموا بعضهم بالضلال والفسق، وقذفوا بعضهم بالكفر وافتروا على أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم[18]. ولقد كشف أهل الحديث عن هؤلاء الكذبة، وكشف الله بهم أمر هذه الفرق وأماط اللثام عن وجوه المتسترين وراءها فكان أصحاب الحديث هم جنود الله عز وجل، بينوا حقيقة هؤلاء، وأظهروا نواياهم وميولهم، فما من حديث أو خبر يطعن في صحابي أو يشكك في عقيدة، أو يخالف مبادئ الدين الحنيف إلا بين جهابذة هذا الفن يد صانعه، وكشفوا عن علته، فادعاء هؤلاء مردود حتى يثبت زعمهم بحجة صحيحة مقبولة، وكيف نتصور معاوية يحرض الصحابة على وضع الحديث كذباً وبهتاناً وزوراً، ليطعنوا في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه[19]، وقد شهد علماء الأمة من الصحابة والتابعين على عدالة معاوية، وقد بين مواقفه من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ولم يذكر في مصدر موثوق به ما يدل على أن علياً رضي الله عنه كذّب أبا هريرة أو نهاه عن الحديث، ولكن بعض أعداء أبو هريرة يستشهدون برواية مكذوبة عن أبي جعفر الاسكافي، وهي أن علياً لما بلغه أبي هريرة قال: ألا إن أكذب الناس ـ أو قال أكذب الأحياء على رسول الله ـ أبو هريرة الدوسي[20]. فهذه رواية مردودة لا نقبلها عن الإسكافي، لأنه شيعي محترف، ومعتزلي ناصب أهل الحديث العداء[21]، وقد رد ابن قتيبة على جميع ما ألصقوه بالإمام علي طعناً في أبي هريرة[22]. [/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 08:06 PM

[align=justify]جـ ـ كثرة حديثه :
أخذ النظام المعتزلي على أبي هريرة كثرة حديثه وتابعه بعض المعتزلة قديماً ومنهم بشر المريسي، وأبو القاسم البلخي، وقد ردّ ابن قتيبة على النظام في كتابه (تأويل مختلف الحديث) ولقيت هذه الشبهة صدى في نفوس بعض المتأخرين كعبد الحسين شرف الدين الشيعي الذي سود صفحات كثيرة من كتابه (أبو هريرة)[1]، يشك في مروياته ويستكثرها، ويوهم القاريء أن ما رواه أبو هريرة مما رواه الصحابة الذين اشتغلوا بأمور الدولة وسياستها، ويثير هذه الشبهة نفسها أبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية[2]، ويستشهد هؤلاء جميعاً بأخبار ضعيفة أو موضوعة أحياناً، وبتأويلات وموازنات باطلة أحياناً أخرى، وتلتقي أهواء هؤلاء بأهواء بعض المستشرقين أمثال ((جولد تسيهر)) الذي استكثر أيضاً مرويات أبي هريرة[3]، وخلاصة أقوالهم، أن أبا هريرة تأخر إسلامه، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (5374) حديثاً، وهي أكثر كثيراً مما رواه الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة الذين سبقوه إلى الإسلام[4]، ومن الخطأ الفاحش أن يقارن الخلفاء الراشدون وأبو هريرة في مجال الحفظ وكثرة الرواية لأسباب عديدة منها:
ـ صحيح أن الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم سبقوا أبا هريرة في صحبتهم وإسلامهم، ولم يرو عنهم مثل ما روي عنه، إلا أن هؤلاء اهتموا بأمور الدولة، وسياسة الحكم، وأنفذوا العلماء والقراء والقضاة إلى البلدان فأدوا الأمانة التي حملوها، كما أدى هؤلاء الأمانة في توجيه شئون الأمة فكما لا نلوم خالد بن الوليد على قلة حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم لانشغاله بالفتوحات، لا نلوم أبا هريرة على كثرة حديثه لانشغاله بالعلم[5]
ـ انصراف أبي هريرة إلى العلم والتعليم،
واحتياج الناس إليه لامتداد عمره، يجعل الموازنة بينه وبين غيره من الصحابة السابقين أو الخلفاء الراشدين غير صحيحة، بل هي خطأ كبير[6]، وكون أبي هريرة رضي الله عنه أكثر رواية من السيدة عائشة رضي الله عنها لأنها كانت تفتي الناس في دارها، وأما أبو هريرة، فقد اتخذ حلقة له في المسجد النبوي، كما كان أكثر احتكاكاً بالناس من السيدة أم المؤمنين عائشة بصفته رجلاً، كثير الغدو والرواح، وأضيف إلى هذا أن السيدة عائشة كان جل همها موجهاً نحو نساء المؤمنين، وكان يتعذر دخول كل إنسان عليها[7]. إن نظرة مجردة عن الهوى تدرك أن ما روي عن أبي هريرة من الأحاديث لا يثير العجب والدهشة، ولا يحتاج إلى هذا الشغب الذي اصطنعه أهل الأهواء وأعداء السنن، وإن ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء أسمعه منه أم من الصحابة لا يشك فيه لقصر صحبته، بل إن صحبته تحتمل أكثر من هذا، لأنها كانت في أعظم سنوات دولة الإسلام دعوة ونشاطاً، وتعليماً وتوجيهاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم[8]
ـ كثرة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم فقد صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين، فعن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله، ما حدثت حديث ثم يتلوا: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) (البقرة ، آية : 159) . إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن أخواننا الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون[9].
ـ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له في الحفظ : فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه، قال: أبسط رداءك. فبسطه، قال: فغرف بيديه ثم قال: ضمه. فضممته فما نسيت شيئاً بعده[10]
ـ كثرة تلامذته والناقلين عنه، فكان عدد تلامذته قريباً من ثمانمائة[11]
ـ تأخر وفاته، فقد قيل 58هـ وقيل 59هـ. ثم إن هذه الأحاديث المنقولة عنه تنقسم إلى ما يلي
*ـ ما كان ضعيف السند لا يصح عن أبي هريرة
*ـ ما كان مكرراً
*ـ ما كان له أكثر من اسناد
*ـ ما رواه عن أكابر الصحابة كالعشرة وأمهات المؤمنين وغيرهم
*ـ ما كان موقوفاً عليه من كلامه[12]. وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج ثلاثمائة وستة وعشرين حديثاً، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين، وانفرد مسلم بثمانية وتسعين، ثم إن جُلَّ الأحاديث التي رواها أبي هريرة لم ينفد بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل شاركه في روايتها غيره من الصحابة[13]، وأما اعتراض الشيعة على مروياته، فإن جابر بن يزيد الجعفي روى عن محمد الباقر رضي الله عنه سبعين ألف حديث وعن باقي مائة وأربعين ألف حديث[14]، وروى أبان بن تغلب عن جعفر الصادق رضي الله عنه ثلاثين ألف حديث[15]، وروى محمد بن مسلم عن الباقر ثلاثين ألف حديث، وعن الصادق ستة عشرة ألف حديث[16]. وهذا يبين تناقضهم .
وقد شهد لأبي هريرة. الصحابة والتابعون وجهابذة العلم بقوة الحفظ وحضور الذاكرة[17]. فقد قال ابن عمر: يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه[18]، وقال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره[19]. وقال الذهبي:.. سيد الحفاط الأثبات[20]، وقال أيضاً: وأبو هريرة إليه المنتهى في حفظ ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدائه بحروفه[21].
وقد دافع الكثير من العلماء عن أبي هريرة وردوا الشبهات التي ألصقت به ومن الكتب المعاصرة التي نسفت الأباطيل التي اتهم به ابو هريرة، العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب[22]، وموقف المدرسة العقلية من السنة النبوية[23].
ك ـ بكاء أبي هريرة في مرض موته ووصية معاوية بورثته :
لما حضر أبو هريرة الموت بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ما أبكي دنياكم هذه، ولكن أبكي على بعد سفري وقلَّة زادي، وإني أصبحت في صعود مهبط على جنة ونار، لا أدري إلى أيُّهما يُؤخذ بي[24]. وجاء في رواية: وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والي المدينة وفي القوم ابن عمر وأبو سعيد الخدري وخلق، وكانت وفاته في داره بالعقيق، فٌحمل إلى المدينة، فصُلِّيَ عليه ثم دفن بالبقيع ـ رحمه الله ورضي الله عنه ـ وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية بوفاة أبي هريرة، وكتب إليه معاوية أن أنظر ورثته فأحسن إليهم، وأصرف إليهم عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم، وأعمل إليهم معروفاً، فإنه كان ممن نصر عثمان، وكان معه في الدار[25]. [/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 08:07 PM

[align=justify]
· ـ هل أراد معاوية أن ينقل منبر رسول الله من المدينة إلى الشام؟
ذكر الطبري في تاريخه في أحاديث عام 50هـ بأن معاوية أمر بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يحمل إلى الشام فحُرِّك فكسفت الشمس حتى رُئيت النجوم بادية يومئذ فأعظم الناس ذلك، فقال: لم أرد حمله، إنما خفت أن يكون قد أرِضْ[1]، فنظرت إليه، ثم كساه يومئذٍ[2]، وجاء في رواية أخرى: قال معاوية: أني رأيت أن منبر رسول الله وعصاه[3]، لا يتركان بالمدينة، وهم قتلة أمير المؤمنين عثمان وأعداؤه، فلما قدم طلب العصاه وهي عند سعد القرظ، فجاء أبو هريرة وجابر بن عبد الله، فقالا: يا أمير المؤمنين، نذكرك الله عز وجل أن تفعل هذا، فإن هذا لا يصح، تُخرج منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع وضعه، وتخرج عصاه من المدينة. فترك، ذلك معاوية، ولكن زاد في المنبر ستَّ درجات، واعتذر إلى الناس[4]، تحدثت الروايات السابقة عن القضايا التالية:
1 ـ عزم معاوية رضي الله عنه على نقل منبر رسول الله، وعصاه إلى الشام، فقد ذكره الزبير بن بكار[5]، واليعقوبي وابن الجوزي[6]، دون أن يشيروا إلى خبر العصا، أما ابن الأثير[7]، وابن كثير[8]، فقد أورد خبر المنبر والعصا، هذا وقال الدكتور خالد الغيث: ولم أقف على رواية صحيحة تؤكد مزاعم الواقدي هذا فضلاً عن أن دين معاوية، وعدالته، وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمنعه من حمل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى الشام وهو يعلم قوله صلى الله عليه وسلم: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة[9]. هذا وقد أورد عبد الرزاق[10]، خبر قدوم معاوية رضي الله عنه المدينة وزيادته درجات المنبر دون الإشارة إلى إرادة معاوية نقل المنبر إلى الشام، أو أخذ العصا، وزيادة معاوية رضي الله عنه للمنبر وكسوته تعد من مناقب معاوية التي حاول بعض الأخباريين طمسها وتشويهها[11]
2ـ خبر ربط كسوف الشمس بتحريك المنبر فقد ذكره عبد الرزاق والزبير بن بكار[12]، وابن الجوزي[13]، وابن الأثير[14]، وابن كثير[15]، بينما ذهب اليعقوبي[16]، الشيعي إلى حدوث زلزلة عن تحريك المنبر، وهذا الخبر لم يرد بإسناد صحيح، هذا فضلاً عن أن كسوف الشمس على افتراض حدوثه. فإنه لم يكن نتيجة لتحريك المنبر ليس إلا، وقد حصل ما يشبه ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث أخرج البخاري من طريق المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رايتم فصلوا، وادعوا الله، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده[17]
3 ـ اتهام معاوية رضي الله عنه ببغض أهل المدينة (الأنصار) لكونهم قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، هذا الخبر أورده ابن الأثير[18]، وهو خبر ضعيف الإسناد[19]. وقد بينت موقف الصحابة من فتنة مقتل عثمان، وكيف أن كعب بن مالك الانصاري حث الأنصار على نصرة عثمان رضي الله عنه، وقال لهم يا معشر الأنصار: كونوا أنصار الله مرتين، فجاءت الأنصار عثمان، ووقفوا ببابه ودخل زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، وقال له: هؤلاء الأنصار بالباب، إن شئت كنّا أنصار الله مرتين[20]. فرفض القتال، وقال: لا حاجة لي في ذلك، كفُّوا[21]. وأما زعمهم أن معاوية يبغض الأنصار رضي الله عنهم لكونهم قتلة عثمان رضي الله عنه، فمردود بما ورد من حقيقة موقف الأنصار من عثمان رضي الله عنه، كما أن تقريب معاوية للأنصار وتوليته إياهم في مناصب هامة وحساسة يرد هذه الفرية، ومن الشواهد على ذلك:
1ـ توليته فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه قضاء دمشق[22]، وتوليته إياه منصب أمير البحرية الإسلامية في مصر[23]
2ـ تعيينه النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه أميراً على الكوفة[24]
3ـ تعيينه مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه أميراً على مصر والمغرب معا[25]
4ـ تعيينه رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أميراً على طرابلس[26]
[/align]

ميارى 15 - 5 - 2010 08:09 PM

[align=justify]رابعاً: مكة
1ـ ولاية خالد بن العاص بن هشام رضي الله عنه:
ولى معاوية في سنة 42هـ.. مكة خالد بن العاص بن هشام[1]، وبعد أن سمى الطبري من ولى مكة في سنة 42هـ وسنة 43هـ نجده بعد ذلك يسكت عن تسمية عمال مكة[2]، ويكتفي بعبارة وكانت الولاة والعمال على الأمصار في هذه السنة من تقدم ذكره قبل[3]، أو عبارة نحوها وقد تابعه كل من ابن الجوزي[4]، وابن الأثير[5].
خامساً: ولاة الطائف:
لم يذكر الطبري أسماء ولاة الطائف، لكن وردت عنده رواية تفيد تولي بعض بني حرب الطائف، وفيما يلي نص هذه الرواية: وكان معاوية إذا أراد أن يولي رجلاً من بني حرب ولاه الطائف فإن رأى منه خيراً وما يعجبه ولاه مكة معها، فإن أحسن الولاية وقام بما ولى قياماً حسناً جمع له معهما المدينة، فكان إذا ولى الطائف رجلاً قيل: هو أبي جاد[6]، فإذا ولاه مكة قيل: هو في القرآن، فإذا أولاه المدينة قيل: هو قد حذق[7]. أما بالنسبة لمن ولى الطائف من بني حرب فإن رواية الطبري تسكت عن تسميتهم، لكن ورد عند البلاذري ما يفيد تولية عنبسة بن أبي سفيان بن حرب وعتبة بن أبي سفيان بن حرب على الطائف[8].

سادساً: مصر:
1ـ ولاية عمرو بن العاص رضي الله عنه:
ولى معاوية عمرو بن العاص على مصر عام 41هـ[9].وهذا من باب وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فعمرو فاتح مصر وواليها على عهد عمر وعثمان رضوان الله عليهم، وهو أقرب الناس لتولي هذه الولاية الهامة[10] وقد تكاثرت الروايات الموضوعة والضعيفة في العلاقة بين عمرو ومعاوية رضي الله عنهما واشتمل على مغامز خفية ومعلنة على الرجلين، وتشير بعضها إلى أن معاوية قد أعطى ولاية مصر لعمرو بن العاص مكافأة له نظير وقوفه إلى جانبه أثناء الفتنة التي أعقبت استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه وهذا الأمر قد بينته في كتابي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن وقوف عمرو بن العاص مع معاوية في المطالبة بالتعجيل بتطبيق القصاص على قتلة عثمان لم يكن تضامناً من عمرو على شخص معاوية بل كان نابعاً من اجتهاد عمرو الشخصي في هذه المسألة، حيث رأى رضي الله عنه الأخذ بالقَودَ من قتلة عثمان على الفور، فكان هذا الاجتهاد من عمرو بن العاص متطابقاً مع اجتهاد معاوية في القضية نفسها[11]. وقد كانت ولاية عمرو بن العاص على مصر ذات صلاحيات واسعة بسبب ما كان يتمتع به من مقدرة إدارية فائقة، وقابليات سياسية وعسكرية متميزة، فقد واصل فتوحات الشمال الأفريقي ونظم أمر العطاء والأعمار والبناء والزراعة والري بمصر[12]وقد بقي عمرو في ولاية مصر حتى وفاته عام43هـ.
*ـ وصيته عند موته:
يروي ابن شماسة المهري وصية عمرو بن العاص لحظة احتضاره فيقول: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت[13]، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ قال فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إني كنت على أطباق ثلاث[14]. لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، لو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال فقبضت يدي، قال مالك يا عمرو؟ قال قلت: أردت أن اشترط، قال تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله[15]، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ وما كان أحد أحب إلي من رسول الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه، ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة[16]. وجاء في رواية: ثم تلبست بعد ذلك بالسلطان وأشياء، فلا أدري عليّ أم لي، فإذا مت فلا تبكينَّ عليّ باكية، ولا تتبعني مادحاً ولا ناراً وشُدُّوا عليّ إزاري فإني مخاصم وشُنُّوا عليّ التراب شَنَّا فإن جنبي الأيمن ليس بأحق بالتراب من جنبي الأيسر، ولا تجعلُنَّ في قبري خشبة ولا حجراً، وإذا واريتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جذور وتقطيعها، أستأنس بكم[17]. وقد روى مسلم هذا الحديث في صحيحه: كي أستأنس بكم لأنظر ماذا أراجع به رسل ربي عز وجلّ[18]، وفي رواية: أنه بعد هذا حوّل وجهه إلى الجدار وجعل يقول: اللهم أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فما انتهينا، ولا يسعنا إلا عفوك. وفي رواية: أنه وضع يده على موضع الغُلِّ من عنقه، ورفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهم لا قويُّ فأنتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا اله إلا أنت، فلم يزل يُردّدها حتى مات رضي الله عنه[19].
2 ـ ولاية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه:
كانت وفاة عمرو ليلة الفطر سنة ثلاث وأربعين، واستخلف ابنه عبد الله على صلاتها وخراجها[20]وبعد وصول خبر وفاة عمرو بن العاص إلى معاوية قام بتعيين أخيه عتبة على مصر وذلك في شهر ذي القعدة من سنة ثلاث وأربعين[21]. أي أن ولاية عبد الله بن عمرو على مصر لم تزد على شهرين وهي الفترة التي استغرقها وصول خبر وفاة عمرو إلى معاوية، واتخاذه لقرار تعيين الوالي الجديد[22]. وقد وصف الذهبي عبد الله بن عمرو بقوله: الإمام الحبر العابد، صاحب رسول الله وابن صاحبه أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن ... وليس أبوه أكبر منه إلا بإحدى عشرة سنة أو نحوها، وقد أسلم قبل أبيه فيما بلغنا ويقال: كان اسمه العاص، فلما أسلم، غيره النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله[23]، وقد ورث عبد الله من أبيه قناطير مقنطرة من الذهب فكان من ملوك الصحابة[24].
3 ـ ولاية عتبة بن أبي سفيان:
ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الطائف وصدقاتها ثم ولاه معاوية مصر حين مات عمرو بن العاص، وكان فصيحاً خطيباً، يقال: إنه لم يكن في بني أمية أخطب منه. خطب أهل مصر يوماً وهو والٍ عليها فقال: يا أهل مصر خفّ على ألسنتكم مدح الحق ولا تأتونه، وذم الباطل وأنتم تفعلونه، كالحمار يحمل أسفاراً يثقُله حملها، ولا ينفعه علمها وإني لا أُداوي داءكم إلاّ بالسيف، ولا أُبلغ السيف ما كفاني السوط، وأبلغ السوط ما صلحتم بالدّرة، وأبطيء عن الأولى إن لم تسرعوا إلى الآخرة، فألزموا ما ألزمكم الله لنا تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا. وهذا يوم ليس فيه عقاب، ولا بعده عتاب[25]وجاء في رواية: ... لنا عليكم السمع ولكم علينا العدل واتينا عذر فلا ذمة له عند صاحبه، فناداه المصريون من حنيات المسجد سمعاً، سمعاً، فناداهم عدلا عدلا[26]، وقد قام عقبة ببناء دار الإمارة بعد أن خرج مرابطاً في الاسكندرية[27]، وكان عتبة قد اتخذ لأولاده مؤدباً، يعلمهم ويربيهم، فقد عهد لعبد الصمد بن عبد الأعلى ليكون مؤدباً لولده[28]، ووجه مؤدب أولاده بتتبع أساليب التشويق وتحبيب دراسة كتاب إلى نفوسهم فقال له: علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه[29]، وجاء في رواية: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاحك بني إصلاحك نفسك، فإن أعينهم معقودة بعينيك فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبح عندهم ما استقبحت، علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روهم من الشعر اعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم وعلمهم سير الحكماء وأخلاق الأدباء وجنبهم محادثة النساء، وتهددهم بي، وأدبهم دوني وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء، ولا تتكل على عذري، فإني قد اتكلت على كفايتك، وزد في تأديبهم ازدك في بري أن شاء الله[30]، يتضح من هذه الوصية حرص الولاة الأمويين على تعليم أبناءهم القرآن الكريم والحديث والشعر وغيرها إضافة إلى التأكيد على الجانب التربوي وتزويدهم بالآداب والأخلاق الحسنة، كما أنهم يمنحونهم المؤدبين صلاحيات واسعة، ويكرمونهم[31].
4 ـ ولاية عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه: 45هـ ـ 47هـ
أغفل الطبري ذكر ولاية عقبة بن عامر الجهني على مصر، وتابعه ابن الجوزي، وأبن الأثير وأبن كثير، مع أن ولايته على مصر قد أثبتتها المصادر التاريخية المختصة بالديار المصرية[32]، وهي مقدمة على غيرها في هذا المقام[33]، كما أثبتها له أبن عبد البر[34]، وأبن حجر[35]، وكان عالماً مقرئاً، فصيحاً فقيهاً فرضياً، شاعراً كبير الشأن، وكان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن فقال له عمر بن الخطاب: اعرض عليّ فقرأ. فبكى عمر وكانت له صحبة وبايع رسول الله على الهجرة وأقام معه وكان من أهل الصفة وكان من الرماة المذكورين، مات سنة 58هـ[36]
5 ـ ولاية مسلمة بن مُخلدّ الأنصاري 47هـ ـ62هـ:
هو مسلمة بن مُخلدّ الأنصاري الخزرجي، الأمير، نائب مصر لمعاوية يكنى أبا معن وقيل أبو سعيد، وقيل أبو معاوية له صحبة ولا صحبة لأبيه[1]. قال مجاهد: صليت خلف مسلمة بن مُخلدّ، فقرأ سورة البقرة، فما ترك واواً ولا ألفاً[2]. قال الليث: عزل عقبة بن عامر عن مصر في سنة سبع وأربعين فوليها مسلمة حتى مات زمن يزيد[3]وقد توفي سنة 62هـ في ذي القعدة بالأسكندرية[4]، وكانت له جهود في الفتوحات بالشمال الأفريقي يأتي ذكرها بإذن الله تعالى، وكان المغرب كله تابعاً له[5]. هذه هي أهم الولايات والولاة في عهد معاوية رضي الله عنه، ويمكن تلخيص صلاحيات الولاة بالولايات على الإجمال، كتعيين الموظفين، وتشكيل مجالس شورى، إنشاء الجيوش وتجهيزها بالنسبة للولايات التي قريبة من حركة الفتح الإسلامي، كمصر والبصرة، والحفاظ على الأمن الداخلي، والإشراف على الجهاز القضائي بالولاية، والنفقات المالية، ومراقبة الأوضاع بالولاية وغير ذلك من الصلاحيات.








[/align]


الساعة الآن 03:28 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى