![]() |
60
فتح بيت المقدس على يدي عمر بن الخطاب ذكره أبو جعفر بن جرير في هذه السنة عن رواية سيف بن عمر وملخص ما ذكره هو وغيره أن أبا عبيدة لما فرغ من دمشق كتب إلى أهل إيليا يدعوهم إلى الله والى الإسلام أو يبذلون الجزية أو يؤذنون بحرب فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه فركب إليهم في جنوده واستخلف على دمشق سعيد بن زيد ثم حاصر بيت المقدس وضيق عليهم حتى أجابوا إلى الصلح بشرط أن يقدم إليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فكتب إليه أبو عبيدة بذلك فاستشار عمر الناس في ذلك فأشار عثمان بن عفان بأن لا يركب إليهم ليكون أحقر لهم وأرغم لأنوفهم وأشار علي بن أبي طالب بالمسير إليهم ليكون أخف وطأة على المسلمين في حصارهم بينهم فهوى ما قال علي ولم يهو ما قال عثمان وسار بالجيوش نحوهم واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب وسار العباس بن عبد المطلب على مقدمته فلما وصل إلى الشام تلقاه أبو عبيدة ورؤوس الأمراء كخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان فترجل أبو عبيدة وترجل عمر فأشار أبو عبيدة ليقبل يد عمر فهم عمر بتقبيل رجل أبي عبيدة فكف أبو عبيدة فكف عمر. ثم سار حتى صالح نصارى بيت المقدس واشترط عليهم إجلاء الروم إلى ثلاث ثم دخلها إذ دخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ويقال أنه لبى حين دخل بيت المقدس فصلى فيه تحية المسجد بمحراب داود وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد فقرأ في الأولى بسورة ص وسجد فيها والمسلمون معه وفي الثانية بسورة بني إسرائيل ثم جاء إلى الصخرة فاستدل على مكانها من كعب الأحبار وأشار عليه كعب أن يجعل المسجد من ورائه فقال ضاهيت اليهودية ثم جعل المسجد في قبلي بيت المقدس وهو العمري اليوم ثم نقل التراب عن الصخرة في طرف ردائه وقبائه ونقل المسلمون معه في ذلك وسخر أهل الأردن في نقل بقيتها وقد كانت الروم جعلوا الصخرة مزبلة لأنها قبلة اليهود حتى أن المرأة كانت ترسل خرقة حيضتها من داخل الحوز لتلقى في الصخرة وذلك مكافأة لما كانت اليهود عاملت به القمامة وهى المكان الذي كانت اليهود صلبوا فيه المصلوب فجعلوا يلقون على قبره القمامة فلأجل ذلك سمى ذلك الموضع القمامة وانسحب الاسم على الكنيسة التي بناها النصارى هنالك وقد كان هرقل حين جاءه الكتاب النبوي وهو بإيلياء وعظ النصارى فيما كانوا قد بالغوا في إلقاء الكناسة على الصخرة حتى وصلت إلى محراب داود قال لهم إنكم لخليق أن تقتلوا على هذه الكناسة مما امتهنتم هذا المسجد كما قتلت بنو إسرائيل على دم يحيى بن زكريا ثم أمروا بإزالتها فشرعوا في ذلك فما أزالوا ثلثها حتى فتحها المسلمون فأزالها عمر بن الخطاب وقد استقصى هذا كله بأسانيده ومتونه الحافظ بهاء الدين بن الحافظ أبي القاسم بن عساكر في كتابه المستقصى في فضائل المسجد الأقصى. وذكر سيف في سياقه أن عمر رضى الله عنه ركب من المدينة على فرس ليسرع السير بعد ما استخلف عليها علي بن أبي طالب فسار حتى قدم الجابية فنزل بها وخطب بالجابية خطبة طويلة بليغة منها أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم واعملوا لآخرتكم تكفوا أمر دنياكم واعلموا أن رجلا ليس بينه وبين آدم أب حي ولا بينه وبين الله هوادة فمن أراد لحب طريق وجه الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد ولا يخلون أحدكم بامرأة فإن الشيطان ثالثهما ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن وهي خطبة طويلة اختصرناها. ثم صالح عمر أهل الجابية ورحل إلى بيت المقدس وقد كتب إلى أمراء الأجناد أن يوافوه في اليوم الفلاني إلى الجابية فتوافوا أجمعون في ذلك اليوم إلى الجابية فكان أول من تلقاه يزيد بن أبي سفيان ثم أبو عبيدة ثم خالد بن الوليد في خيول المسلمين وعليهم يلامق الديباج فسار إليهم عمر ليحضنهم فاعتذروا إليه بأن عليهم السلاح وأنهم يحتاجون إليه في حروبهم فسكت عنهم واجتمع الأمراء كلهم بعدما استخلفوا على أعمالهم سوى عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، فينما عمر في الجالبية إذا بكردوس من الروم بأيديهم سيوف مسللة فسار إليهم المسلمون بالسلاح فقال عمر إن هؤلاء قوم يستأمنون فساروا نحوهم فإذا هم جند من بيت المقدس يطلبون الأمان والصلح من أمير المؤمنين حين سمعوا بقدومه فأجابهم عمر رضى الله عنه إلى ما سألوا وكتب لهم كتاب أمان ومصالحة وضرب عليهم الجزية واشترط عليهم شروطا ذكرها ابن جرير وشهد في الكتاب خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان وهو كاتب الكتاب وذلك سنة خمس عشرة ثم كتب لأهل لد ومن هنالك من الناس كتابا آخر وضرب عليهم الجزية ودخلوا فيما صالح عليه أهل إيلياء. ولما صالح أهل الرملة وتلك البلاد أقبل عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة حتى قدما الجابية فوجدا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب راكبا فلما اقتربا منه أكبا على ركبتيه فقبلاها واعتنقهما عمر معا رضى الله عنهم قال سيف ثم سار عمر إلى بيت المقدس من الجابية وقد توخى فرسه فأتوه ببرذون فركبه فجعل يهملج به فنزل عنه وضرب وجهه وقال لا علم الله من علمك هذا من الخيلاء ثم لم يركب برذونا قبله ولا بعده ففتحت إيلياء وأرضها على يديه ماخلا أجنادين فعلى يدي عمرو وقيسارية فعلى يدي معاوية هذا سياق سيف بن عمر وقد خالفه غيره من أئمة السير فذهبوا إلى أن فتح بيت المقدس كان في سنة ست عشرة. قال أبو مخنف لما قدم عمر الشام فرأى غوطة دمشق ونظر إلى المدينة والقصور والبساتين تلا قوله تعالى كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين ثم أنشد قول النابغة: هما فتيا دهر يكر عليهما == نهار وليل يلحقان التواليا إذا ما هما مرا بحي بغبطة == أناخا بهم حتى يلاقوا الدواهيا وقد روينا أن عمر حين دخل بيت المقدس سال كعب الأحبار عن مكان الصخرة فقال يا أمير المؤمنين اذرع من وادي جهنم كذا وكذا ذراعا فهي ثم فذرعوا فوجدوها وقد اتخذها النصارى مزبلة كما فعلت اليهود بمكان القمامة وهو المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي شبه بعيسى فاعتقدت النصارى واليهود أنه المسيح وقد كذبوا في اعتقادهم هذا كما نص الله نص الله تعالى على خطئهم في ذلك والمقصود أن النصارى لما حكموا على بيت المقدس قبل البعثة بنحو من ثلثمائة سنة طهروا مكان القمامة واتخذوه كنيسة هائلة بنتها أم الملك قسطنطين باني المدينة المنسوبة إليه واسم أمه هيلانة الحرانية البندقانية وأمرت ابنها فبنى للنصارى بيت لحم على موضع الميلاد وبنت هي على موضع القبر فيما يزعمون والغرض أنهم اتخذوا مكان قبلة اليهود مزبلة أيضا في مقابلة ما صنعوا في قديم الزمان وحديثه فلما فتح عمر بيت المقدس وتحقق موضع الصخرة أمر بإزالة ما عليها من الكناسة حتى قيل أنه كنسها بردائه ثم استشار كعبا أين يضع المسجد فأشار عليه بأن يجعله وراء الصخرة فضرب في صدره وقال يا ابن أم كعب ضارعت اليهود وأمر ببنائه في مقدم بيت المقدس قال الإمام أحمد حدثنا أسود بن عامر ثنا حماد بن سلمة عن أبي سنان عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب أن عمر بن الخطاب كان بالجابية فذكر فتح بيت المقدس قال قال ابن سلمة فحدثنى أبو سنان عن عبيد بن آدم سمعت عمر يقول لكعب أين ترى أن أصلى قال إن أخذت عنى صليت خلف الصخرة وكانت القدس كلها بين يديك فقال عمر ضاهيت اليهودية لا ولكن أصلي حيث صلى رسول الله فتقدم إلى القبلة فصلى ثم جاء فبسط ردائه وكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس وهذا إسناد جيد اختاره الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتابه المستخرج وقد تكلمنا على رجاله في كتابنا الذي أفردناه في مسند عمر ما رواه من الأحاديث المرفوعة وما روى عنه من الآثار الموقوفة مبوبا على أبواب الفقه ولله الحمد والمنة. وقال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثني الربيع بن ثعلب نا أبو إسماعيل المؤدب عن عبد الله بن مسلم ابن هرمز المكي عن ابي الغالية الشامي قال قدم عمر بن الخطاب الجابية على طريق إيلياء على جمل أورق تلوح صلعته للشمس ليس عليه قلنسوة ولا عمامة تصطفق رجلاه بين شعبتي الرحل بلا ركاب وطاؤه كساء إنبجاني ذو صوف هو وطاؤه إذا ركب وفراشه إذا نزل حقيبته نمرة أو شملة محشوة ليفا هي حقيبته إذا ركب ووسادته إذ نزل وعليه قميص من كرابيس قد رسم وتخرق جنبه فقال ادعوا لي رأس القوم فدعوا له الجلومس فقال اغسلوا قميصي وخيطوه وأعيروني ثوبا أو قميصا فأتى بقميص كتان فقال ما هذا قالوا كتان قال وما الكتان فأخبروه فنزع قميصه فغسل ورقع وأتى به فنزع قميصهم ولبس قميصه فقال له الجلومس أنت ملك العرب وهذه البلاد لا تصلح بها الإبل فلو لبست شيئا غير هذا وركبت برذونا لكان ذلك أعظم في أعين الروم فقال نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب بغير الله بديلا فأتى ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل فركبه بها فقال احبسوا احبسوا ما كنت أرى الناس يركبون الشيطان قبل هذا فأتى بجمله فركبه. وقال إسماعيل بن محمد الصفار حدثنا سعدان بن نصر حدثنا سفيان عن أيوب الطائي عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة فنزل عن بعيره ونزع موقيه فأمسكهما بيده وخاض الماء ومعه بعيره فقال له أبو عبيدة قد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل الأرض صنعت كذا وكذا قال فصك في صدره وقال أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس فأعزكم الله بالإسلام فمهما تطلبوا العز بغير يذلكم الله. أما العهدة العمرية التي أجمع عليها صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فهذا نصها: ( بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحيمِ ، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان - وإيلياء هي القدس - أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ، ولكنائسهم وصلبانهم ، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها ، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ، ولا ينتقص منها ولا من حيزها ، ولا من صليبهم ، ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ، ولا يضار أحد منهم ، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود - نعم أيها المسلمون ، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود - وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن ، وعليهم أن يخرجوا منها الروم ، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا أمنهم ، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية ، شهد على ذلك خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاوية بن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشرة ) |
61
معركة فخ.. ميلاد الأدارسة -------------------------------------------------------------------------------- لم تنقطع ثورات آل البيت منذ أن استشهد الحسين بن علي في معركة كربلاء ، في العاشر من المحرم سنة 61هـ، وكانت نتيجة هذه المعركة مأساة أدمَتْ قلوب المسلمين حزنًا على الحسين، ريحانة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وبعد أكثر من نصف قرن من مقتل الحسين أعلن حفيده زيد بن علي بن الحسين الثورة على الخليفة الأموي سنة 121هـ، وتكررت المأساة نفسها؛ فلم يكن معه من القوة والرجال ما يضمن له النجاح والظفر، لكنه انخدع ببيعة أهل الكوفة، حتى إذا جدّ الجدَّ وظهرت معادن الرجال انفضوا عنه وتركوه يلقى مصيره المحتوم أمام يوسف بن عمر الثقفي والي الكوفة الذي نجح في القضاء على تلك الثورة، وقتل مفجرها زيد بن علي. ولم تنقطع ثورات العلويين بعد تولي أبناء عمومتهم العباسيين الخلافة، وإعلانهم أنهم أحق بها منهم، وقابل العباسيون ثورات أبناء العمومة بكل شدة وقسوة، ونجحأبو جعفر المنصور في القضاء على ثورة "محمد النفس الزكية"، الذي كان معروفًا بالتقوى والفضل وفي مقدمة سادات بني هاشم خلقًا وعلمًا وورعًا، وانتهت ثورته باستشهاده سنة (145هـ = 762م)، ولم تكن ثورة أخيه إبراهيم أفضل حالاً من ثورته، فلقي مصرعه في السنة نفسها، واطمأن أبو جعفر المنصور على سلطانه، واستتب له الأمر. معركة فخ بالقرب من مكة وبعد فشل هاتين الثورتين قامت حركات لبعض العلويين في اليمن وخراسان، لكنها لم تلقَ نجاحًا، وأصابها مثل ما أصاب ما قبلها من ثورات، وعاش من بقي من آل البيت العلوي في هدوء، وربما استخفوا حتى يتمكنوا من إعداد العدة للخروج وهم مكتملو القوة والعدد، وظلت الأمور على هذا النحو من التربص والانتظار حتى حدث نزاع صغير بين والي المدينة المنورة وبعض رجال من آل البيت أساء التعامل معهم، وأهانهم وأغلظ القول لهم، فحرك ذلك مكامن الثورة في نفوسهم، وأشعل الحمية في قلوبهم، فثار العلويون في المدينة بقيادة الحسين بن علي بن الحسن، وانتقلت الثورة إلى مكة بعد أن أعلن الحسين البيعة لنفسه، وأقبل الناس عليه يبايعونه. ولما انتهى خبر هذه الثورة إلى الخليفة العباسي موسى الهادي، أرسل جيشًا على وجه السرعة للقضاء على الثورة، قبل أن يمتد لهيبها إلى مناطق أخرى؛ فيعجز عن إيقافها، فتحرك الجيش العباسي إلى مكة، والتقى بالثائرين في (8 من ذي الحجة 169هـ = 11 من يونيو 786م) في معركة عند مكان يسمى "فخ" يبعد عن مكة بثلاثة أميال، وانتهت المعركة بهزيمة جيش الحسين، ومقتله هو وجماعة من أصحابه. نجاة إدريس بن عبد الله وكان ممن نجا من قادة الثائرين في هذه المعركة "إدريس بن عبد الله بن الحسن"، واتجه إلى مصر ومعه خادمه راشد، وكان شجاعًا عاقلاً وفيًا لسيده، وظل أمرهما مجهولاً حتى بلغا مصر مستخفيْن في موكب الحجيج، ولم يكن اختفاؤهما أمرًا سهلاً؛ فعيون الخلافة العباسية تتبعهما وتقتفي أثرهما، ولم تكن لتهدأ وتطمئن قبل أن تعثر على إدريس بن عبد الله حيًا أو ميتًا، لكنهما نجحا في التحرك والتخفي؛ لا لمهارتهما في ذلك، ولكن لحب الناس آل البيت، وتقديم يد العون والمساعدة لهما. ومن مصر خرج إدريس وخادمه "راشد" إلى بلاد المغرب، ويقال: إن هذا الخادم كان بربريَّ الأصل، وساعدهما على الخروج من مصر عامل البريد بها؛ فقد كان متشيعًا لآل البيت، فلما علم بوجودهما في مصر قدم إليهما في الموضع الذي يستخفيان به، وحملهما على البريد المتجه إلى المغرب. وتذهب روايات تاريخية إلى أن الذي أعان إدريس على الفرار من مصر هو "علي بن سليمان الهاشمي" والي مصر، وأيًا ما كان الأمر فإن إدريس لقي دعمًا ومساعدة لتمكينه من الخروج من مصر، سواءً كان ذلك بعون من والي مصر أو من عامل البريد. رحلة شاقة وبعد أن وصل إدريس بن عبد الله إلى برقة تخفى في زي خشن، يظهر فيه بمظهر غلام يخدم سيده "راشد"، ثم سلكا طريقًا بعيدًا عن طريق إفريقية إمعانًا في التخفِّي، وخوفًا من أن يلتقي بهما أحد من عيون الدولة العباسية التي اشتدت في طلبهما، حتى وصلا إلى تلمسان سنة (170هـ = 786م)، وأقاما بها عدة أيام طلبًا للراحة، ثم استأنفا سيرهما نحو الغرب، فعبرا "وادي ملوية"، ودخلا بلاد السوس الأدنى، حيث أقاما بعض الوقت في "طنجة" التي كانت يومئذ أعظم مدن المغرب الأقصى، ثم واصلا سيرهما إلى مدينة "وليلى"، وهي بالقرب من مدينة مكناس المغربية، واستقرا بها بعد رحلة شاقة استغرقت حوالي عامين. في وليلى وبعد أن استقر إدريس في وليلى (قصر فرعون حاليًا) اتصل بإسحاق بن محمد بن عبد الحميد زعيم قبيلة "أوربة" البربرية، صاحبة النفوذ والسيطرة في "وليلى"، فلما اطمأن إليه إدريس عرفه بنسبه، وأعلمه بسبب فراره من موطنه؛ نجاة بنفسه من بطش العباسيين، وقد رحب إسحاق بضيفه الكبير، وأنزله معه داره، وتولى خدمته والقيام بشأنه شهورًا عديدة، حتى إذا حل شهر رمضان من السنة نفسها جمع إسحاق بن محمد إخوته وزعماء قبيلة أوربة، وعرفهم بنسب إدريس وبفضله وقرابته من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكرمه وأخلاقه وعلمه؛ فرحبوا جميعًا به، وأعربوا عن تقديرهم له، وبايعوه بالخلافة في (14 من رمضان 172هـ = 15 من فبراير 788م)، وبعد ذلك خلع "إسحاق بن عبد الحميد" طاعة بني العباس حيث كان من ولاتهم، وتنازل لإدريس عن الحكم. وتبع ذلك دعوة لإدريس بين القبائل المحيطة، فدخلت في دعوته قبائل: زناتة، وزواغة، وزوارة، ولماية، وسراته، وغياشة، ومكناسة، وغمارة، وباعيته على السمع والطاعة، واعترفت بسلطانه، وقصده الناس من كل مكان. استقرت الأمور لإدريس بن عبد الله، ورسخت أقدامه بانضمام كل هذه القبائل إلى دعوته، ودانت له معظم قبائل البربر، وبدأ يطمح في مدّ نفوذه وسلطانه إلى القبائل التي تعترف بحكمه، ونشر الإسلام بين القبائل التي لا تزال على المجوسية أو اليهودية أو المسيحية، فأعد جيشًا كبيرًا زحف به نحو مدينة "شالة" قبالة مدينة الرباط، ففتحها، ثم تحول في كل بلاد "تامسنا" فأخضعها، وأتبع ذلك بإخضاع إقليم "تاولا"، وفتح حصونه وقلاعه، وأدخل كثير من أهل هذه البلاد الإسلام، ثم عاد إلى "وليلى" للراحة والاستجمام في (آخر ذي الحجة 172هـ = مايو 789م)، ثم عاود حملته الظافرة عازمًا على دعوة من بقي من قبائل البربر إلى الإسلام، ونجح في إخضاع قبائل: قندلاوة ومديونة وبهلولة وغيرها من القبائل البربرية التي كانت متحصنة بالجبال والحصون المنيعة، ثم رجع إلى وليلى في (15 من جمادى الآخرة 173هـ = 10 من أكتوبر 789م). فتح تلمسان.. وبناء مسجدها أقام إدريس بن عبد الله شهرًا في وليلى، ثم عاود الفتح، واتجه ناحية الشرق هذه المرة، عازمًا على توسيع ملكه في المغرب الأوسط على حساب الدولة العباسية، فخرج في منتصف رجب 173هـ = نوفمبر 789م متجهًا نحو تلمسان، وفي أثناء زحفه استولى على مدينة "سبتة"، ولم يكد يصل إلى "تلمسان" حتى خرج إليه صاحبها "محمد بن خرز"، وأعلن خضوعه له دون قتال، وبايع إدريس بن عبد الله، وتبعته قبائل: مغراوة وبني يفرده. ولما دخل الإمام إدريس تلمسان أقام بها مسجدًا للمدينة جامعًا، وصنع منبرًا جميلاً كان يحمل نقشًا يحدد تاريخ إنشائه، ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما أمر به إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وذلك في شهر صفر 174هـ، وهذا يعني أن إدريس أقام في تلمسان حتى هذا التاريخ، ثم كرَّ راجعًا إلى عاصمة ملكه. نهاية الإمام إدريس ولم تكد تصل هذه الفتوحات إلى عاصمة الخلافة العباسية حتى فزع الخليفة هارون الرشيد، وشعر بالقلق والذعر من النجاح الذي يحققه إدريس بن عبد الله، الذي نجح فيما فشل فيه غيره من أبناء البيت العلوي؛ فلأول مرة ينجحون في إقامة دولة لهم بعد إخفاقات عديدة ومآسٍ دامية، ثم اشتد خوف الخليفة العباسي حين جاءته الأخبار بعزم إدريس بن عبد الله على غزو أفريقية (تونس)، ففكر في إرسال جيش لمحاربة هذا العلوي المظفر، وبينما الرشيد على هذه الحال من القلق والاضطراب تدخلت الأقدار، وأراحته مما كان يفكر فيه، فتوفي إدريس بن عبد الله في (سنة 177هـ = 793م) على أرجح الروايات، بعد أن نجح في تحدي الصعوبات، وأقام دولة عُرفت باسمه "دولة الأدارسة" بعيدًا عن وطنه بين قبائل متطاحنة تعتز بعنصريتها، وتتخذ من قوتها وسيلة لفرض سيطرتها على من حولها، وهذه تُحسب له، وتجعله واحدًا من كبار رجال التاريخ. ويضاف إليه أن المغرب مدين له في نشر الإسلام في أماكن لم يكن قد وصل إليها من قبل. |
62
معارك المسلمين مع الصينيين -------------------------------------------------------------------------------- معركة طلاس الزمن: يوليو 751 ميلادية 133هجرية المكان: مدينة طلاس (تقع الان في جمهورية قرغيزستان) أطراف الصراع اسرة تانج الحاكمة للصين و الخلافة العباسية القادة المتحاربون زياد بن صالح و ابو مسلم والي خراسان و جاو زيانزي لي ساي دوان زيوشي نتيجة المعركة هزيمة الصينيين وهروب جاو زيانزي من ساحة المعركة تمهيد كان للصين علي مر التاريخ نفوذ كبير في منطقة آسيا الوسطي والتي تضم اليوم جمهوريات (أوزباكستان,تركمنستان,طاجيكستان,قرغيستان) وكانت هذه المناطق مجالا حيويا للصين منذ اقدم العصور كما كانت لها اهميتها لانها تقع علي طريق الحرير,وقد سكنت تلك المناطق قبائل تركية كانت شبه مستقلة لكن كانت تدين بالولاء لامبراطور الصين وكانت تدفع له الجزية. لكن منذ القرن السابع الميلادي ظهرت تطورات جديدة علي الساحة العالمية,فقد ظهر الاسلام وصاحب ذلك بداية الفتوحات الاسلامية التي لم تهتم بها الصين في أول الامر لعدة اسباب منها, بعد الفتوحات الاسلامية عن الصين ,رغبة حكام الصين في التخلص من ملوك فارس(الساسانيين) المنافس الاكبر لهم في آسيا الوسطي,بل انهم -اي حكام الصين - تجاهلوا استغاثة ملك فارس بهم . بداية الصراع لكن البداية الحقيقية بدأت عندما أكمل المسلمون فتح إيران وما تلي ذلك من تطلع المسلمين إلي فتح آسيا الوسطي لتأمين الفتوحات الاسلامية التي حققها المسلمين, ففتحت جيوش الدولة الأموية كابول وهرات وغزنة وكلها تقع الأن في افغانستان,وكان لولاة المسلمين علي اقليم خراسان أثرا بالغ الاهمية في التشجيع علي الفتوحات,فقد كانت لمجهودات المهلب بن ابي صفرة (والي خراسان) اكبر الاثر ففي فتح ما يعرف الأن بافغانستان. وكذلك الدور الكبير الذي قام به الحجاج بن يوسف عندما حشد الجيوش وقال قولته المشهورة "" أيكما سبق إلى الصين فهو عامل عليها"" ووجد الحجاج في قتيبة بن مسلم الباهلي غايته فقد كان قائدا بارعا, ولاه الحجاج خراسان سنة (85هـ = 704م)، وعهد إليه بمواصلة الفتح وحركة الجهاد؛ فأبلى بلاء حسنا، ونجح في فتح العديد من النواحي والممالك والمدن الحصينة، مثل: بلخ، وبيكند، وبخارى، وشومان، وكش، والطالقان، وخوارزم، وكاشان، وفرغانه، والشاس، وكاشغر الواقعة على حدود الصين المتاخمة لإقليم ما وراء النهر وانتشر الإسلام في هذه المناطق وأصبح كثير من مدنها مراكز هامة للحضارة الإسلامية مثل بخارى وسمرقند. لم تستطع الصين وقف موجات الفتوحات الاسلامية في آسيا الوسطي عسكريا واكتفت بدعم زعماء القبائل وتحريضهم علي القتال ضد المسلمين دون أن تحقق نجاحا يذكر. ففي هذه الوقت لم يكن بمقدور الصين مواجهة المسلمين عسكريا نظرا للمشاكل والثورات التي عاشتها الصين في تلك الفترة, بالاضافة الي سمعة الجيش المسلم الذي لا يقهر فقد هزم الفرس وأسقطوا دولتهم كما قلموا أظافر الدولة الرومانية واستولوا علي أكثر أملاكها حتي بلاد الغال البعيدة (فرنسا) لم تسلم من غزوات المسلمين. معركة طلاس علي الرغم من استيلاء المسلمين علي معظم مناطق آسيا الوسطي, إلا أن الصين احتفظت ببعض المناطق الهامة الباقية والتي تتمثل في قرغيزيا. لكن الصين كانت تطمح دائما في استعادة نفوذها المفقود فاستغلت الازمة التي تعيشها الدول الاموية وانشغالها بمقاومة الثورات والمعارضين, وقامت(الصين) بإرسال حملة عسكرية بقيادة القائد (جاو زيانزي) استطاعت تلك الحملة استرجاع بعض المدن الهامة من المسلمين مثل كش والطالقان وتوكماك -وهي تقع الان في جمهورية أوزبكستان- بل وصل الامر الي تهديد مدينة كابول إحدي كبري مدن المسلمين في آسيا الوسطي وذلك في سنة 748 ميلادية 130 هجرية. الجبهة الاسلامية أدي وصول العباسيين إلي سدة الخلافة إلي استقرار الدولة الاسلامية وبالتالي التفكير في تأمين حدودها, فأرسل الخليفة أبو جعفر المنصور الي أبو مسلم واليه علي خراسان بالتحضير بحملة لاستعادة هيبة المسلمين في تركستان(اي آسيا الوسطي) فقام ابو مسلم بتجهيز جيشا زحف به إلي مدينة "مرو" وهناك وصلته قوات دعم من اقليم طخارستان -يقع هذا الاقليم في افغانستان- وسار أبو مسلم بهذا الجيش الي سمرقند وانضم بقواته مع قوات زياد بن صالح الوالي السابق للكوفة, وتولي زيادة قيادة الجيش. الجبهة الاسلامية حشد الصينيون 30 ألف مقاتل طبقا للمصادر الصينية و100 ألف مقاتل طبقا للمصادر العربية, وكان جاو زيانزي علي رأس الجيش الصيني, وفي يوليو 751 اشتبكت الجيوش الصينية مع الجيوش الاسلامية بالقرب من مدينة طلاس أو طرار والتي تقع علي نهر الطلاس بجمهورية قرغيزيا. احداث المعركة اشتبكت الجيوش الاسلامية مع الجيوش الصينية,وحاصر فرسان المسلمين الجيش الصيني بالكامل وأطبق عليه الخناق مما أدي الي سقوط الآف القتلي من الجانب الصيني, وهرب جاو زيانزي من المعركة بعد أن خسر زهرة جنده, اما عن زياد بن صالح فقد أرسل الاسري وكانوا 20 ألف إلي بغداد وتم بيعهم في سوق الرقيق. أهمية المعركة ترجع أهمية المعركة في أنها كانت اول وأخر صدام عسكري حدث بين المسلمين والصينيين,كما انها أنهت نفوذ الصين في آسيا الوسطي -بعد ان سقطت قرغيزيا في ايدي المسلمين- حيث تم صبغ تلك المنطقة (اسيا الوسطي) بصبغة اسلامية بعد أن اسلم أكثر قبائلها وغدت مناطق اشعاع اسلامي وحضاري وانجبت علماء مسلمين عظام كالامام البخاري والترمذي وابا حنيفة وغيرهمكما انها ادت الي وصول الورق الصيني الي دول الشرق الاسلامي بعد ان أسر المسلمين عدد كبير من صناع الورق الصينيين,ونقلهم الي بغداد. |
63
حرب اكتوبر --------------------------- حرب أكتوبر هي حرب دارت بين مصر وسوريا من جهة ودولة إسرائيل من جهة أخرى في عام 1973م. وتلقى الجيش الإسرائيلي ضربة قاسية في هذه الحرب حيث تم إختراق خط عسكري أساسي في شبه جزيرة سيناء وهو خط بارليف. وكان الرئيس المصري أنور السادات يعمل بشكل شخصي ومقرب مع قيادة الجيش المصري على التخطيط لهذه الحرب التي أتت مباغتة للجيش الإسرائيلي. من أهم نتائج الحرب استرداد السيادة الكاملة على قناة السويس، واسترداد جزء من الأراضي في شبه جزيرة سيناء. ومن النتائج الأخرى تحطم أسطورة أن جيش إسرائيل لا يقهر والتي كان يقول بها القادة العسكريون في إسرائيل، كما أن هذه الحرب مهدت الطريق لاتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل الذي عقد بعد الحرب في سبتمبر 1978م على إثر مبادرة السادات التاريخية في نوفمبر 1977 م وزيارته للقدس. وأدت الحرب أيضا إلى عودة الملاحة في قناة السويس في يونيو 1975م. ملخص الأحداث كانت الحرب جزءاً من الصراع العربي الإسرائيلي، هذا الصراع الذي تضمن العديد من الحروب منذ عام 1948م. في حرب ال 6 ايام في يونيو 1967م، احتلت اسرائيل مرتفعات الجولان في سوريا في الشمال والضفة الغربية لنهرالأردن ومدينة القدس وشبه جزيرة سيناء المصرية في الجنوب، ووصلت إلى الضفة الشرقية لقناة السويس. أمضت اسرائيل السنوات الست التي تلت حرب يونيو في تحصين مراكزها في الجولان وسيناء، وانفقت مبالغ ضخمة لدعم سلسلة من التحصينات على مواقعها في قناة السويس، فيما عرف بخط بارليف. بعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر في سبتمبر 1970م، تولى الحكم الرئيس أنور السادات، أدى رفض إسرائيل لمبادرة روجرز في 1970م والامتناع عن تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 إلى لجوء أنور السادات إلى الحرب لاسترداد الأرض التي خسرها العرب في حرب 1967. كانت الخطة ترمي الاعتماد علي جهاز المخابرات لعامة المصريةوالمخابرات السورية في التخطيط للحرب وخداع اجهزةالامن و الاستخبارات الاسرائيلية الامريكية و مفاجاةاسرائيل بهجوم من كلا الجبهتين المصرية والسورية . هدفت مصر وسورية إلى استرداد الأرض التي احتلتها اسرائيل بالقوة، بهجوم موحد مفاجئ، في يوم 6 أكتوبر الذي وافق عيد الغفران اليهودي، هاجمت القوات السورية تحصينات القوات الإسرائيلية في مرتفعات الجولان، بينما هاجمت القوات المصرية تحصينات إسرائيل بطول قناة السويس و في عمق شبه جزيرة سيناء. افتتحت مصر حرب 1973 بضربة جوية تشكلت من نحو 222 طائرة مقاتلة عبرت قناة السويس وخط الكشف الراداري للجيش الإسرائيلي مجتمعة فى وقت واحد فى تمام الساعة الثانية بعد الظهر على ارتفاع منخفض للغاية. وقد استهدفت محطات الشوشرة والإعاقة في أم خشيب وأم مرجم ومطار المليز ومطارات أخرى ومحطات الرادار وبطاريات الدفاع الجوي وتجمعات الأفراد والمدرعات والدبابات والمدفعية والنقاط الحصينةفي خط بارليف ومصاف البترول ومخازن الذخيرة. ولقد كانت عبارة عن ضربتين متتاليتين قدر الخبراء الروس نجاح الأولى بنحو 30% و خسائرها بنحو40% ونظراللنجاح الهائل للضربة الأولى و البالغ نحو 95% وبخسائر نحو 2.5% تم إلغاء الضربة الثانية. وكان الطيارون المصريون يفجرون طائراتهم فى الأهداف الهامة والمستعصية لضمان تدميرها ومنهم على سبيل المثال محمد صبحى الشيخ و طلال سعدالله وعاطف السادات شقيق الرئيس الراحل أنور السادات وغيرهم. نجحت مصر وسورية في تحقيق نصر لهما، إذ تم اختراق خط بارليف "الحصين"، خلال ست ساعات فقط من بداية المعركة و أوقعت القوات العربية خسائر كبيرة في القوة الجوية الإسرائيلية،ومنعت القوات السرائلية من استخدام انابيب النابالم بخطة مدهشة كما حطمت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، في مرتفعات الجولان و سيناء، و أجبرت اسرائيل على التخلي عن العديد من أهدافها مع سورية و مصر، كما تم استرداد قناة السويس و جزء من سيناء في مصر، و القنيطرة في سورية. ولولا التدخل الأمريكي المباشر في المعارك على الجبهة المصرية بجسر جوي لإنقاذ الجيش الإسرائيلي بدءا من اليوم الرابع للقتال ، لمني الجيش الإسرائيلي بهزيمة ساحقة على أيدي الجيش المصري. نهاية الحرب تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة وتم إصدار القرار رقم 338 الذي يقضي بوقف جميع الأعمال الحربية بدءا من يوم 22 أكتوبر عام 1973م، وقبلت مصر بالقرار ونفذته اعتبارا من مساء نفس اليوم إلا أن القوات الإسرائيلية خرقت وقف إطلاق النار، فأصدر مجلس الأمن الدولي قرارا آخر يوم 23 أكتوبر يلزم جميع الأطراف بوقف إطلاق النار |
64
غـــــزوة حـنـيـن -------------------------------------------------------------------------------- كان فتح مكة أعظم فتح لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فبهذا الفتح أحكم المسلمون السيطرة على الجزيرة العربية عموماً، وأصبحوا سادتها، ومن ثَمَّ انزعجت القبائل المجاورة لقريش من انتصار المسلمين ، خاصة هوازن و ثقيف فإنهما فزعتا من أن تكون الضربة القادمة من نصيبهم، فقالوا: لِنغزوا محمداً قبل أن يغزونا، واستعانت هاتان القبيلتان بالقبائل المجاورة ، وقرروا أن يكون مالك بن عوف - سيد بني هوازن - قائد جيوش هذه القبائل التي ستحارب المسلمين. ثم بدأ مالك في إعداد العدة والتخطيط لخوض الحرب ضد المسلمين، وكان مالك شجاعاً مقداماً، لكنه سقيم الرأي، قليل التجربة، فقد جعل من ضمن خطته أن يخرج معهم النساء والأطفال والمواشي والأموال ويجعلوهم في آخر الجيش، ليشعر كل رجل وهو يقاتل أن ثروته وحرمته وراءه فلا يفر عنها. وهذا من جهله، فإن الهارب من ساحة القتال لا يرده شيء وقد انخلع قلبه وخاف، ولكن أراد الله أن تكون نساؤهم وأموالهم غنيمة للمسلمين. ولما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك خرج إليهم في أصحابه وكان ذلك في شهر شوال من العام الثامن للهجرة، وكان عدد المسلمين اثني عشر ألفاً من المجاهدين، عشرة آلاف من الذين شهدوا فتح مكة ، وألفان ممن أسلموا بعد الفتح من قريش . ونظر المسلمون إلى جيشهم الكبير فاغتروا بالكثرة، وقالوا لن نغلب اليوم من قلة، لأنهم وهم قلة كانوا يكسبون المعارك، فكيف وهم اليوم يخرجون في عدد لم يجمعوا مثله من قبل، حيث بلغ عددهم اثنا عشر ألفاً، ولكنْ أراد الله لهم أن يعرفوا أن الغلبة ليست بالكثرة، قال تعالى: {ويومَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعجبتْكم كَثْرَتكُمْ فلم تُغنِ عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأَرض بما رحُبت ثمَّ ولَّيْتُمْ مُدْبرين} (التوبة:25) وبلغ العدو خبر خروج المسلمين إليهم، فأقاموا كميناً للمسلمين عند مدخل الوادي، وكان عددهم عشرين ألفاً . وأقبل الرسول صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى نزلوا بالوادي . وكان الوقت قبيل الفجر ، والظلام يخيم على وادي حنين. وفوجئ المسلمون عند دخول الوادي بوابل من السهام تنهال عليهم من كل مكان . فطاش صواب طائفة من الجيش ، واهتزت صفوفهم، وفر عددٌ منهم . ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم تراجع بعض المسلمين نادى فيهم بقوله: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم العباس أن ينادي في الناس ، فقال : يا معشر الأنصار، يا معشر المهاجرين، يا أصحاب الشجرة - أي أصحاب البيعة - . فحركت هذه الكلمات مشاعر الإيمان والشجاعة في نفوس المسلمين ، فأجابوه : لبيك يا رسول الله لبيك . وانتظم الجيش مرةً أخرى ، واشتد القتال . وأشرف الرسول صلى الله عليه وسلم على المعركة وقال (الآن حمي الوطيس) رواه مسلم - أي اشتدت الحرب - . وما هي إلا ساعة حتى انهزم المشركون ، وولوا الأدبار تاركين غنائم هائلة من النساء والأموال والأولاد، حتى إن عدد الأسرى من الكفار بلغ في ذلك اليوم ستة آلاف أسير، وهكذا تحولت الهزيمة إلى نصر بفضل الله تعالى ورحمته، ومرت الأيام فإذا بوفد من هوازن يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يعلن ولاءه للإسلام ، وجاء وفد من ثقيف أيضاً يعلن إسلامه . وأصبح الذين اقتتلوا بالأمس إخواناً في دين الله. وكانت حنين درساً استفاد منه المسلمون، فتعلموا أن النصر ليس بكثرة العدد والعدة، وأن الاعتزاز بذلك ليس من أخلاق المسلمين، وإنما الاعتماد على الله وحده، والثقة بنصره بعد فعل الأسباب، وأن ينصروا الله تعالى، فمن ينصر الله ينصره، قال تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}. (محمد:7). والحمد لله. |
65
معركة كوسوفا -------------------------------------------------------------------------------- كانت بدايات الدولة العثمانية قوية، انتقلت من طور الإمارة إلى طور الدولة في أوربا بفضل سلاطينها الأقوياء الذين ألفوا الحياة الجادة، وانشغلوا بعظائم الأمور، وعنوا ببناء الدولة ومؤسساتها العسكرية والمدنية، ولم يكد ينقضي الثلث الأول من القرن العاشر الهجري حتى صارت الدولة العثمانية أكبر إمبراطورية في العالم، تمتد أراضيها عبر قارات آسيا وأوربا وأفريقيا. وكان من أعظم سلاطين الدولة العثمانية الذين شاركوا في مرحلة البناء والتأسيس مراد الثاني، تولى السلطنة في سنة (824 هـ = 1421م) بعد وفاة أبيه محمد جلبي، ولم يزد عمره حين اعتلى عرش الدولة العثمانية عن ثمانية عشر عاما، شابا فتيا، يفيض حماسا وطموحا، ويتطلع إلى المزيد من القوة والنفوذ. في وجه العواصف والأعاصير وما كاد مراد الثاني يعتلي السلطنة حتى كان على موعد مع القلاقل والثورات التي كادت تطيح به لولا أنه كان صلب العود قوي الإرادة، واثق النفس، لا تهزه العواصف والأعاصير، فقضى على ثورة عمه مصطفى جلبي الذي كان طامعا في السلطنة يرى نفسه جديرا بها أهلا لتولي مسئولياتها، وكان يقف وراءه الدولة البيزنطية التي كانت ترى في تزايد قوة العثمانيين خطرا داهما يهدد وجودها، ولذا لجأت إلى شغل الدولة العثمانية بالفتن والثورات حتى لا تلتفت إلى فتح القسطنطينية التي كان يحلم بها سلاطين آل عثمان. وقضى مراد الثاني عدة سنوات يوجه ضربات موجعة لحركات التمرد في بلاد البلقان، ويعمل على توطيد أركان الحكم العثماني بها، وأجبر ملك الصرب "جورج رنكوفيتش" على دفع جزية سنوية، وأن يقدم فرقة من جنوده لمساعدة الدولة العثمانية وقت الحرب، ويزوجه ابنته "مارا"، ويقطع علاقاته مع ملك المجر، كما نجح السلطان مراد الثاني في فتح مدينة سلافيك اليونانية بعد أن حاصرها خمسة عشر يوما. على جبهة المجر اشتبك السلطان مراد الثاني مع المجر بسبب ضلوعها في تحريض الصرب على الثورة على الدولة العثمانية، فتحرك إليها في سنة (842هـ= 1438م)، وأحدث بها خسائر فادحة، وعاد منها بسبعين ألف أسير على ما يقال. وفي السنة التالية خرج جورج برنكوفتش أمير الصرب على طاعة الدولة العثمانية فخرج السلطان مراد في قواته وحاصر "بلجراد" عاصمة الصرب لمدة ستة أشهر لكنه لم ينجح في فتحها لبسالة المدافعين عنها، ثم اتجه إلى ترانسلفانيا بالنمسا وأغار عليها. وكان من شأن ذلك أن أعلن البابا أوجينيوس الرابع في سنة (843هـ = 1439م) قيام حملة صليبية ضد الدولة العثمانية، وسرعان ما تكون من وراء دعوة البابا حلف من المجر وبولندا والصرب، وبلاد الأفلاق وجنود البندقية، وقاد هذا الحلف القائد المجري "يوحنا هونياد"، وكان كاثوليكيا متعصبا هدفه في الحياة إخراج العثمانيين من البلقان ومن أوربا. وقد نجح هذا القائد المجري في إلحاق هزيمة ساحقة بالعثمانيين سنة (846 هـ = 1442م) بعد أن قتل منهم عشرين ألفا بما فيهم قائد الجيش، وألزم من نجا منهم بالتقهقر إلى خلف نهر الدانوب. ولما بلغ السلطان خبر هذه الهزيمة أرسل جيشا من ثمانين ألف جندي تحت قيادة شهاب الدين باشا، للأخذ بالثأر وإعادة الاعتبار للدولة العثمانية، لكنه لقي هزيمة هو الآخر من " هونياد المجري" في معركة هائلة بالقرب من بلجراد. وتوالت الهزائم بالسلطان؛ الأمر الذي جعله يعقد معاهدة للصلح لمدة عشر سنوات مع المجر في (26 من ربيع الأول 848 هـ= 13 من يوليو 1444م) بمقتضاها تنازل السلطان عن الصرب، واعترف بجورج برانكوفتش أميرا عليها، وتنازل عن الأفلاق (رومانيا) للمجر. وبعد عودة السلطان إلى بلاده فجع بموت ابنه "علاء الدين" أكبر أولاده، فحزن عليه وسئم الحياة فتنازل عن الحكم لابنه محمد الذي عرف فيما بعد بـمحمد الفاتح وكان في الرابعة عشرة من عمره، وتوجه مراد الثاني إلى "مغنيسيا" في آسيا الصغرى ليقضي بقية حياته في عزلة وطمأنينة ويتفرغ للعبادة والتأمل. المجر تنقض معاهدة الصلح أنعش تخلي السلطان مراد الثاني عن الحكم آمال الأوربيين في الانقضاض على الدولة العثمانية، ولم يكن مثل السلطان الصغير محمد الثاني أهلا لأن يتحمل أعباء مواجهة الحلف الصليبي، وبالفعل نقض ملك المجر المعاهدة بتحريض من مندوب البابا، الذي أقنعه بأنه في حل من القسم الذي تعهد به، وكان ملك المجر قد أقسم بالإنجيل وأقسم مراد الثاني بالقرآن على عدم مخالفتهما شروط معاهدة الصلح ما داما على قيد الحياة. وعلى أنقاض المعاهدة قام حلف صليبي تكون من المجر وبولونيا وألمانيا وفرنسا والبندقية والدولة البيزنطية، وحشدوا جيشا ضخما. مراد الثاني يعود إلى السلطنة تحركت هذه الحشود الضخمة نحو الدولة العثمانية، ونزلت إلى ساحل البحر الأسود واقتربت من "فادنا" البلغارية الواقعة على ساحل البحر، وفي الوقت الذي كان تجري فيه هذه التحركات كان القلق والفزع يسيطر على كبار القادة في "أدرنة" عاصمة الدولة العثمانية، ولم يكن السلطان الصغير قادرا على تبديد هذه المخاوف والسيطرة على الموقف وانتزاع النصر من أعداء الدولة؛ من أجل ذلك اجتمع مجلس شورى السلطنة في "أدرنة"، واتخذ قرارا أبلغه إلى السلطان محمد الثاني، نصه: "لا يمكننا مقاومة العدو، إلا إذا اعتلى والدك السلطان مكانك.. أرسلوا إلى والدكم ليجابه العدو وتمتعوا براحتكم، تعود السلطنة إليكم بعد إتمام هذه المهنة". وعلى الفور أرسل محمد الثاني في دعوة أبيه مراد الثاني الموجود في مغنيسيا، غير أن السلطان مراد أراد أن يبعث الثقة في نفس ولده، فبعث إليه قائلا: إن الدفاع عن دولته من واجبات السلطان.. فرد عليه ابنه بالعبارات التالية: "إن كنا نحن السلطان فإننا نأمرك: تعالوا على رأس جيشكم، وإن كنتم أنتم السلطان فتعالوا ودافعوا عن دولتكم". اللقاء المرتقب في "فادنا" أسرع السلطان مراد الثاني في السير إلى "فارنا" في اليوم الذي وصل فيه الجيش الصليبي، وفي اليوم التالي نشبت معركة هائلة، وقد وضع السلطان مراد المعاهدة التي نقضها أعداؤه على رأس رمح ليشهدهم ويشهد السماء على غدر العدو، وفي الوقت نفسه يزيد من حماس جنده. وبدأت المعركة بهجوم من "هونياد" قائد الجيش الصليبي على ميمنة الجيش العثماني وجناحه الأيسر، وترك السلطان مراد العدو يتوغل إلى عمق صفوف جيشه، ثم أعطى أمره بالهجوم الكاسح، فنجحت قواته في تطويق العدو، واستطاعت قتل ملك المجر "لاديسلاس" ورفعت رأسه على رمح وكان لهذا أثر مفزع في نفوس العدو حين رأوا رأس ملكهم مرفوعة على أحد الرماح، فاضطربت صفوفهم وتهاوت قواهم وخارت عزائمهم، ولم يلبث أن هرب القائد المجري "هونياد" تاركا جنوده تقع في الأسر، وقد بلغ عددهم ما بين ثمانين إلى تسعين ألف جندي، وتم هذا النصر في (28 من رجب 848هـ= 10 من نوفمبر 1444م)، وفرح المسلمون بهذا النصر، ولم يقتصر الاحتفال به على تركيا وحدها، بل امتد إلى العالم الإسلامي. معركة كوسوفا.. حملة صليبية مضت أربع سنوات على انتصار العثمانيين في "فارنا" لكن الألم كان يعتصر قلب "هونياد"، ورغبة الثأر تأكل قلبه، يريد الانتقام ومحو آثار هزيمته وهروبه من ساحة القتال، فقام بتجهيز الحملة الصليبية السادسة ضد العثمانيين، اشترك فيها مائة ألف جندي من المجر وألمانيا وبولونيا وصقلية، ونابولي، وتألف الجيش من 38 كتيبة، معظمها لا تعرف لغة الأخرى. تقدم هذا الجيش الجرار حتى صحراء كوسوفا والتقى بالجيش العثماني الذي كان يقوده مراد الثاني، واستمر اللقاء ثلاثة أيام، بدءا من (18 من شعبان 852 هـ = 17 من أكتوبر 1448م)، وفي اليوم الثالث نجح السلطان مراد في محاصرة العدو الذي أنهكه التعب وضربات القوات العثمانية المتتالية، وأغلق أمامه طريق العودة. عجز "هونياد" عن المقاومة، حتى إذا حل الظلام تمكن من الهرب، تاركا خلفه 17 ألف قتيل وعشرات الآلاف من الأسرى، وأعاد هذا النصر ذكرى انتصار السلطان مراد الأول على "لازار" ملك الصرب في هذا المكان سنة (791 هـ = 1389م) أي قبل 59 عاما من النصر الثاني، كما قضى على آمال الأوربيين في إخراج العثمانيين من بلاد البلقان لعصور طويلة. |
66
حرب البسوس -------------------------------------------------------------------------------- وقعت هذه الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل ، وقد مكثت أربعين سنة ، وقعت فيها هذه الأيام : يوم النهى ، ويوم الذنائب ، ويوم واردات ، ويوم عنيزة ، ويوم القصيبات ، ويوم تحلاق اللمم ، وجميعها أسماء مواضع تمت فيها الحروب ، ماعدا تحلاق اللمم لأن بني بكر حلقوا فيه جميعاً رؤوسهم فسمي بذلك. وانتصرت تغلب في أربع حروب، وبكر في واحدة، وتكافأت القبيلتان في حرب واحدة. لما فض كليب بن ربيعة – اسمه وائل وكليب لقبه ، ولد سنة 440م ، ونشأ في حجر أبيه ، ودرب على الحرب ، ثم تولى رئاسة الجيش : بكر وتغلب زمناً حتى قتله جساس بن مرة سنة 494 م - جموع اليمن في خزا زى وهزمهم اجتمعت عليه معد كلها ، وجعلوا له قسم الملك وتاجه وطاعته ، وغبر بذلك حيناً من دهره ، ثم دخله زهو شديد ، وبغى على قومه لما هو فيه من عزة وانقياد معدّ له ، حتى بلغ من بغيه ، أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه ، وإذا جلس لا يمر أحد بين يديه إجلالاً له ، لا يختبئ أحد في مجلسه غيره ، ولا يغير إلا بإذنه ، ولا تورد إبل أحد ، ولا توقد مع ناره ، ولم يكن بكرى ولا تغلبي يجير رجلا ولا بعيراً أو يحمى إلا بأمره ، وكان يجبر على الدهر فلا تخفر ذمته ، وكان يقول : وحش أرض في جواري ، فلا يهاج ! وكان هو الذي ينزل القوم منازلهم ويرحلهم ، ولا ينزلون ولا يرحلون إلا بأمره ، وقد بلغ من عزته وبغيه أنه اتخذ جرو كلب ، فكان إذا نزل به كلأ قذف ذلك الجر وفيه فيعوى ، فلا يرعى أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه ، وكان يفعل هذا بحياض الماء فلا يردها أحد إلا بإذنه أو من آذن بحرب ، فضرب به المثل في العز فقيل : أعز من كليب وائل ، وكان يحمى الصيد فيقول : صيد ناحية كذا وكذا في جواري فلا يصيد أحد منه شيئاً. وتزوج كليب جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان، وكان لمرة عشرين بنين جساس أصغرهم ، وكانت بنو جشم ، وبنو شيبان تقيم في دار واحدة إرادة الجماعة ومخافة الفرقة. وحدث أن كليباً دخل على امرأته جليلة يوماً فقال لها: هل تعلمين على الأرض أمنع مني ذمة ؟ فسكتت، ثم أعاد عليها الثانية فسكتت، ثم أعاد عليها الثالثة فقالت: نعم، أخي جساس – وهو جساس بن مرة ، كان فارساً شهماً أبياً ، وكان يلقب الحامي الجار ، المانع الذمار ، وهو الذي قتل كليباً ، مات سنة 534 م - وندمانه، ابن عمه عمرة المزدلف بن أبى ربيعة بن ذهل ابن شيبان.فسكت كليب ، ومضت مدة ، وبينما هي تغسل رأسه وتسرحه ذات يوم إذ قال لها : من أعز وائل ؟ قالت: أخواي جساس وهمام. فنزع رأسه من يدها وخرج. وكانت لجساس خالة اسمها البسوس بنت منقذ، جاءت ونزلت على ابن أختها جساس، فكانت جارة لبنى مرة، ولها ناقة خوارة، ومعها فصيل لها، فلما خرج كليب غاضباً من قول زوجه جليلة رأى فصيل الناقة فرماه بقوسه فقتله. وعلمت بنو مرة بذلك، فأغمضوا على ما فيه وسكتوا، ثم لقي كليب ابن البسوس فقال له: ما فعل فصيل ناقتكم ؟ فقال: قتلته وأخليت لنا لبن أمه، وأغمضت بنو مرة على هذا أيضاً. ثم أن كليباً أعاد القول على امرأته فقال: من أعز وائل ؟ فقالت: أخواي ! فأضمرها في نفسه وأسرها وسكت، حتى مرت به إبل جساس وفيها ناقة البسوس، فأنكر الناقة، ثم قال: ما هذه الناقة ؟ قالوا: لخالة جساس. فقال: أو بلغ من أمر ابن السعدية – أي جساس - أن يجير عليّ بغير إذني ؟ ارم ضرعها يا غلام، فأخذ القوس ورمى ضرع الناقة، فاختلط دمها بلبنها. وراحت الرعاة على جساس فأخبروه بالأمر، وولت الناقة ولها عجيج حتى بركت بفناء البسوس، فلما رأتها صاحت: واذلاه ! فقال لها جساس: اسكتي فلك بناقتك ناقة أعظم منها، فأبت أن ترضى حتى صاروا لها إلى عشر، فلما كان الليل أنشأت تقول – بخطاب سعداً أخا جساس وترفع صوتها تسمع جساساً: يا أبا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل.................... فإني في قوم عن الجار أموات ودونك أذوادي إليك فإنني.................................. محاذرة أن يغدروا ببنياتي لعمرك لو أصبحت في دار منقذ.........................لما ضم سعد وهو جار لأبياتي ولكنني أصبحت في دار معشر..................متى يعد فيها الذئب يعدو وعلى شاتي فلما سمعها جساس قال لها: اسكتي لا تراعي: إني سأقتل جملاً أعظم من هذه الناقة، سأقتل غلالاً - وهو فحل إبل كليب لم ير في زمانه مثله، وإنما أراد جساس بمقالته كليباً -. ثم ظعن ابنا وائل بعد ذلك، فمرت بكر على نهى - أي غدير - يقال له شبيث ، فنفاه، كليب عنه وقال : لا يذوقون منه قطرة ، ثم مروا على نهى آخر يقال له الأحص ، فنفاهم عنه وقال : لا يذوقون منه قطرة ، ثم مروا على بطن الجريب - واد عظيم - فمنعهم إياه ، فمضوا حتى نزلوا الذنائب ، واتبّعهم كليب وحيه حتى نزلوا عليه ، فمر عليه جساس ومعه ابن عمه عمرو بن الحارث بن ذهل ، وهو واقف على غدير الذنائب ، فقال له : طردت أهلنا عن المياه حتى كدت تقتلهم عطشا ! فقال كليب : ما منعناهم من ماء إلا ونحن له شاغلون. فقال له : هذا كفعلك بناقة خالتي ، فقال له : أوقد ذكرتها أما إني لو وجدتها في غير إبل مرة لا ستحللت تلك الإبل بها ، أتراك مانعي أن أذب عن حماي ، فعطف عليه جساس فرسه فطعنه برمح فأنفذ حضني – الحضن مادون الإبط إلى الكشح- . فلما تداءمه الموت قال: يا جساس ، اسقني من الماء. فقال : ما علقت استسقاءك الماء منذ ولدتك أمك إلا ساعتك هذه. فالتفت إلى عمرو وقال له: يا عمرو ، أغثني بشربة ماء ، فنزل إليه وأجهز عليه . وأمال جساس يده بالفرس حتى انتهى إلى أهله على فرسه يركضه ، وقد بدت ركبتاه ، ولما رأته أخته قالت لأبيها : إن ذا لجساس آتى كاشفاً ركبتاه ، فقال : والله ما خرجت ركبتاه إلا لأمر عظيم. فلما جاء جساس قال له : ما وراءك يا بني ؟ قال : ورائي أني قد طعنت طعنة لتشغلن بها شيوخ وائل زمنا. قال: وماهي ؟ لأمك الويل أقتلت كليبا؟ فقال : نعم ، فقال أبوه : إذن نسلمك بجريرتك ، ونريق دمك في صلاح العشيرة ، والله لبئس ما فعلت ! فرقت جماعتك، وأطلت حربها ، وقتلت سيدها في شارف من الإبل ، والله لا تجتمع وائل بعدها ، ولا يقوم لها عماد في العرب ، ولقد وددت أنك وإخوتك كنتم متم قبل هذا ، ما بي إلا أن تتشاءم بي أبناء وائل ، فأقبل قوم مرة عليه وقالوا : لا تقل هذا ولا نفعل فيخذلوه وإياك ، فأمسك مرة . ولما قتل كليب اجتمع نساء الحي للمأتم، فقلن لأخت كليب: رحلي جليلة من مأتمك ، فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب ، فقالت لها : يا هذه ، اخرجي عن مأتمنا ، فأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا ، فخرجت وهي تجر أعطافها ، فقالت لها أخت كليب : رحلة المعتدي وفراق الشامت ، ويل غداً لآل مرة ، من السكرة بعد السكرة، فبلغ قولها جليلة فقالت : وكيف تشمت الحرة بهتك سترها ، وترقب وترها ،أسعد الله جد أختي ، أفلا قالت : نفر الحياء ، وخوف الاعتداء . ولما ذهبت إلى أبيها مرة قال لها: ما وراءك يا جليلة ؟ فقالت: ثكل العدد وحزن الأبد ، وفقد حليل ، وقتل أخ عن قليل ، وبين ذين غرس الأحقاد ، وتفتت الأكباد ، فقال لها : أو يكف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات ؟ فقالت: أمنية مخدوع ورب الكعبة أبا لبدن تدع لك تغلب دم ربها. وكان همام بن مرة ينادم المهلهل أخا كليب وعاقده ألا يكتمه شيئاً. فلما ظعن مره بأهله أرسل إلى ابنه همام فرسه مع جارية ، وأمره أن يظعن ويلحق بقومه. وكانا جالسين، فمر جساس يركض به فرسه مخرجاً فخذيه، فقال همام : إن له لأمراً ، والله ما رأيته كاشفاً فخذيه قط في ركض ، ولم يلبث إلا قليلاً حتى انتهت الجارية إليها ، وهما معتزلان في جانب الحي. فوثب همام إليها، فسارته أن جساساً قتل كليباً، وأن أباه قد ظعن مع قومه، فأخذ همام الفرس وربطه إلى خيمته ورجع ، فقال له المهلهل : ما شأن الجارية والفرس ؟ وما بالك ؟ فقال: اشرب ودع عنك الباطل، قال: وما ذاك ؟ فقال: زعمت أن جساساً قتل كليباً، فضحك المهلهل، وقال: همة أخيك أضعف من ذلك، فسكت. ثم أقبلا على شرابهما ، فجعل مهلهل يشرب شرب الآمن ، وهمام يشرب شرف الخائف ، ولم تلبث الخمر أن صرعت مهلهلا ، فانسل همام وأتى قومه من بنى شيبان ، وقد قوضوا الخيام ، وجمعوا الخيل والنعم ، ورحلوا حتى نزلوا بما يقال له النهى. ورجع المهلهل إلى الحي سكران ، فرآهم يعقرون خيولهم ، ويكسرون رماحهم وسيوفهم ، فقال : ويحكم ما الذي دهاكم ؟ فلما أخبروه الخبر قال : لقد ذهبتم شر مذهب ، أتعقرون خيولكم حين احتجتم إليها ؟ وتكسرون سلاحكم حين افتقرتم إليه. فانتهوا عن ذلك، ورجع إلى النساء فنهاهن عن البكاء وقال: استبقين للبكاء عيوناً تبكى إلى آخر الأبد. ولما أصبح غدا إلى أخيه فدفنه، وقام على قبره يرثيه ، وما زال المهلهل بيكي أخاه ويندبه ، ويرثيه بالأشعار ، وهو يجتزئ بالوعيد لبنى مرة ، حتى يئس قومه ، وقالوا : إنه زير نساء ، وسخرت منه بكر ، وهمت بنو مرة بالرجوع إلى الحمى ، وبلغ ذلك المهلهل فانتبه للحرب ، وشمر ذراعيه ، وجمع أطراف قومه ، ثم جز شعره ، وقصر ثوبه ، وآلى على نفسه ألا يهتم بلهو ولا يشم طيباً ، ولا يشرب خمراً ، ولا يدهن بدهن حتى يقتل بكل عضو من كليب رجلاً من بنى بكر بن وائل. وحث بنى تغلب على الأخذ بالثأر ، فقال له أكابر قومه : إننا نرى ألا تعجل بالحرب حتى نعذز إلى إخواننا ، فبالله ما تجدع بحرب قومك إلا أنفك ، ولا تقطع إلا كفك ! فقال: جدعه الله أنفاً ، وقطعها كفاً ، والله لا تحدثت نساء تغلب أني أكلت لكليب ثمناً ولا أخذت له دية ، فقالوا : لا بد أن تغض طرفك وتخفض جناحك لنا ولهم ، فكره المهلهل أن يخالفهم فينفضوا من حوله ، فقال: دونكم ما أردتم. وانطلق رهط من أشرافهم وذوي أسنانهم حتى أتوا مرة بن ذهل فعظموا ما بينهم وبينه، وقالوا له: إنكم أتيتم أمراً عظيماً بقتلكم كليباً بناب من الإبل، وقطعتم الرحم، ونحن نكره العجلة عليكم دون الإعذار، وإننا نعرض عليكم إحدى ثلاث، لكم فيها مخرج ولنا مرضاة. إما أن تدفعوا إلينا جساساً فنقتله بصاحبنا، فلم يظلم من قتل قاتله ، وإما أن تدفعوا إلينا هماماً فإنه ند لكليب ، وإما أن تقيدنا من نفسك يا مرة ، فإن فيك رضا القوم. فسكت وقد حضرته وجوه بنى بكر بن وائل فقالوا: تكلم غير مخذول ، فقال: أما جساس فغلام حديث السن ركب رأسه ، فهرب حين خاف ، فوالله ما أدري أي البلاد انطوت عليه . وأما همام فأبو عشرة وأخو عشرة، ولو دفعته إليكم لصيح بنوه في وجهي وقالوا: دفعت أبانا للقتل بجريرة غيره. وأما أنا فلا أتعجل الموت ، وهل تزيد الخيل على أن تجول جولة فأكون أول قتيل ! لكن هل لكم في غير ذلك ؟ هؤلاء بنيّ فدونكم أحدهم فاقتلوه ، وإن شئتم فلكم ألف ناقة تضمنها لكم بكر بن وائل. فغضبوا وقالوا : إنا لم نأتك لترذل لنا بنيك ، ولا لتسومنا اللبن. ورجعوا فأخبروا المهلهل، فقال: والله ما كان كليب بجزور نأكل له ثمناً. واعتزلت قبائل من بكر الحرب ، وكرهوا مساعدة بني شيبان ومجامعتهم على قتال إخوتهم ، وأعظموا قتل جساس كليباً بناب من الإبل ، فظعنت عجل عنهم ، وكفت يشكر على نصرتهم ، ودعت تغلب النمر من قاسط فانضمت إليها ، وصاروا يداً معهم على بكر ، ولحقت بهم عقيل بنت ساقط. وكان الحارث بن عباد بن ضبيعة من قيس بن ثعلبة من حكام بكر وفرسانها المعدودين، فلما علم بمقتل كليب أعظمه ، واعتزل بأهله وولد إخوته وأقاربه ، وحل وتر قوسه ، ونزع سنان رمحه. ووقعت الحرب بين الحيين، وكانت وقعات مزاحفات يتخللها مغاورات، وكان الرجل يلقى الرجل والرجلان والرجلين هكذا ، وأول وقعة كانت على ماء لهم يقال له النهى كان بنو شيبان نازلين عليه ، ورئيس تغلب المهلهل ورئيس شيبان الحارث بن مرة فكانت الدائرة لتغلب ، وكانت الشوكة في شيبان ، واستحر القتال فيهم ، إلا أنه لم يقتل ذلك اليوم أحد من بني مرة. ثم التقوا بالذنائب فظفرت بنو تغلب ، وقتلت بكر مقتلة عظيمة ، ثم التقوا بواردات فظفرت بنو تغلب ، وكان جساس بن مرة وغيره طلائع قومهم وأبو نويرة التغلبي طلائع قومهم أيضاً ، فالتقوا بعض الليالي فقال له أبو نويرة : اختر إما الصراع أو الطعان ، أو المسايفة – أي التضارب بالسيوف- ، فاختار جساس الصراع فاصطرعا ، وأبطأ كل واحد منهما على أصحاب حيه ، وطلبوهما فأصابوهما وهما يصطرعان ، وقد كاد جساس يصرعه ففرقوا بينهما. ثم التقوا بعنيزة فتكافأ الحيان، ثم التقوا بالقصيبات وكانت الدائرة على بكر ، وقتل في ذلك اليوم همام بن مرة أخو جساس ، فمر به مهلهل مقتولاً فقال له : والله ما قتل بعد كليب قتيل أعز عليّ فقداً منك. ثم كانت بينهم معاودة ووقائع كثيرة، كل ذلك كانت الدائرة فيها لبنى تغلب، ثم إن تغلب جعلت جساساً أشد الطلب، فقال له أبوه مرة: الحق بأخوالك بالشام، فامتنع، فألح عليه أبوه فسيره سراً في خمسة نفر ، وبلغ الخبر مهلهل ، فندب أبا نويرة ومعه ثلاثون رجلاً من شجعان أصحابه ، فساروا مجدين، فأدركوا جساساً فقاتلهم ، فقتل أبو نويرة وأصحابه ولم يبق منهم غير رجلين ، وجرح جساس جرحاً شديداً مات منه ، وقتل أصحابه فلم يسلم غير رجلين أيضاً، فعاد كل واحد من السالمين إلى أصحابه. فلما سمع مرة بقتل ابنه جساس قال: إنما يحزنني أن كان لم يقتل منهم أحداً، فقيل له: إنه قتل بيده أبا نويرة رئيس القوم، وقتل معه خمسة عشر رجلاً ما شركه أحد منا في قتلهم، وقتلنا نحن الباقين، فقال: ذلك مما يسكن قلبي عن جساس. فلما قتل جساس أرسل أبوه مرة إلى مهلهل: إنك قد أدركت ثأرك وقتلت جساساً فاكفف عن الحرب، ودع اللجاج والإسراف، فهو أصلح للحيين وأنكأ لعدوهم، فلم يجب إلى ذلك. ثم إن بنى بكر اجتمعوا إلى الحارث بن عباد، وقالوا له: قد فني قومك ! فأرسل بجيراً ابن أخيه إلى مهلهل وقال له: قل له: إني قد اعتزلت قومي لأنهم ظلموك، وخليتك وإياهم ، وقد أدركت ثأرك وقتلت قومك. فأتاه بجبر فهمّ المهلهل بقتله ، فقال له امرؤ القيس بن أبان – وكان من أشراف بنى تغلب وكان على مقدمتهم زمناً - : لا تفعل ، فوالله لئن قتله ليقتلن به منكم كبش ، لا يسأل عن خاله من هو ؟ وإياك أن تحقر البغي ، فإن عاقبته وخيمة ، وقد اعتزلنا عمه وأبوه وأهل بيته. فأبى مهلهل إلا قتله، فطعنه بالرمح وقتله وقال له: (بؤ بشسع نعل كليب)! فلما بلغ قتله الحارث – وكان من أحلم أهل زمانه وأشدهم بأساً- قال: نعم القتيل قتيل أصلح بين ابني وائل ! فقيل له: إنما قتله بشسع نعل كليب، فلم يقبل ذلك. وأرسل الحارث إلى مهلهل: إن كنت قتلت بجير بكليب، وانقطعت الحرب بينكم وبين إخوانكم فقد طابت نفسي بذلك. فأرسل إليه مهلهل: إنما قتلته بشسع نعل كليب ! فغضب الحارث ودعا بفرسه – وكانت تسمى النعامة – فجز ناصيتها وهلب ذنبها- الهلب: الشعر كله وقيل في الذنب وحده -. ثم ارتحل الحارث مع قومه، حتى نزل مع جماعة بكر بن وائل، وعليهم يومئذ الحارث بن همام، فقال الحارث بن عباد له : إن القوم مستقلون قومك ، وذلك زادهم جرأة عليكم ، فقاتلهم بالنساء ، قال له الحارث بن همام : وكيف قتال النساء ؟ فقال : قلد كل امرأة إداوة من ماء ، وأعطها هراوة ، واجعل جمعهن من ورائكم ، فإن ذلكم يزيدكم اجتهاداً ، وعلموا قومكم بعلامات يعرفنها ، فإذا مرت امرأة على صريع منكم عرفته بعلامته فسقته من الماء ونعشته ، وإذا مرت على رجل من غيركم ضربته بالهراوة فقتلته ، وأتت عليه. فأطاعوه، وحلقت بنو بكر يومئذ رؤوسها، استبسالاً للموت ، وجعلوا ذلك علامة بينهم وبين نسائهم ، وقال جحدر بن ضبيعة- وإنما سمي جحدراً لقصره - : لا تحلقوا رأسي ، فإني رجل قصير ، ولا تشينوني ، ولكن أشتريه منكم بأول فارس. يطلع عليكم من القوم، فطلع ابن عناق فشد عليه فقتله. واقتتل الفرسان قتالا شديداً ، وانهزمت بنو ثغلب ، ولحقت بالظعن بقية يومها وليلتها ، واتبعهم سرعان بكر بن وائل ، وتخلف الحارث بن عباد ، فقال لسعد بن مالك : أتراني ممن وضعته الحرب ! فقال : لا ، ولكن لا مخبأ لعطر بعد عروس. وأسر الحارث مهلهلاً بعد انهزام الناس وهو لا يعرفه، فقال له: دلني على المهلهل. قال: ولي دمي ؟ فقال: ولك دمك، قال: ولى ذمتك وذمة أبيك ؟ قال: نعم ، ذلك لك. قال المهلهل- وكان ذا رأي ومكيدة- : فأنا مهلهل خدعتك عن نفسي ، والحرب خدعة، فقال : كافئني بما صنعت لك بعد جرمك ودلني على كفء لبجير ، فقال : لا أعلمه إلا امرأ القيس بن أبان ، هذاك علمه. فجز ناصيته وأطلقه ، وقصد امرئ القيس فشد عليه فقتله . فلما رجع مهلهل بعد الوقعة والأسر إلى أهله جعل النساء والوالدان يستخبرونه: تسأل المرأة عن زوجها وابنها وأخيها، والغلام عن أبيه وأخيه ،ثم إن مهلهلاً قال لقومه : قد رأيت أن تبقوا على قومكم ، فإنهم يحبون صلاحكم ، وقد أتت على حربكم أربعون سنة ، وما لمتكم على ما كان من طلبكم ، فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها ، فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد ، ورب نائحة لا تزال تصرخ في النواحي ، ودموع لا ترفأ ، وأجساد لا تدفن ، وسيوف مشهورة ، ورماح مشرعة ، وإن القوم سيرجعون إليكم غداً بمودتهم ومواصلتهم ، وتتعطف الأرحام حتى تتواصوا ، أما أنا فما تطيب نفسي أن أقيم فيكم، ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتل كليب، وأخاف أن أحملكم على الاستئصال ، وأنا سائر عنكم إلى اليمن. ثم خرج حتى لحق بأرض اليمن، فخطب إليه أحدهم ابنته فأبى أن يفعل، فأكرهوه وساقوا إليه أدَماً في صداقها فأنكحها إياه ، وكان قد بلغ قبائل بكر وتغلب زواج سليمى في مذحج ، وكان بين القومين منافسة ونفور، فغضبوا وأنفوا، وقصدوا بلاد القوم فأخذوا المرأة وأرجعوها إلى أبيها بعد أن أسروا زوجها. وملت جموع تغلب الحرب فصالحوا بكراً، ورجعوا إلى بلادهم ، وتركوا الفتنة ، ولم يحضر المهلهل صلحهم ، ثم اشتاق إلى أهله وقومه ، ولجت عليه ابنته سليمي بالمسير إلى الديار ، فأجابها إلى ذلك ، ورجع نحو قومه ، حتى قرب من قبر أخيه كليب ، وكانت عليه قبة رفيعة ، فلما رآه خنقته العبرة ، وكان تحت بغل نجيب، فلما رأى البغل القبر في غلس الصبح نفر منه هارباً ، فوثب عنه المهلهل ، وضرب عرقوبيه بالسيف ، وسار بعد ذلك حتى نزل في قومه زماناً ، وما وكده – أي قصده - إلا الحرب ، ولا يهم بصلح ، ولا يشرب خمراً ، ولا يلهو بلهو ، ولا يحل لأمته ، ولا يغتسل بماء ، حتى كان جليسه يتأذى منه من رائحة صدأ الحديد. فلما كان ذات يوم دخل عليه رجل من تغلب اسمه ربيعة بن الطفيل، وكان له نديماً، فلما رأى ما به قال : أقسمت عليك أيها الرجل لتغتسلن بالماء البارد ، ولتبلن ذوائبك بالطيب ! فقال المهلهل: هيهات ! هيهات ! يا بن الطفيل ، هبلتني إذا يميني ، وكيف باليمين التي آليت ! كلاً أو أقضي من بكر أربى ، ثم تأوه وزفر . ونقض الصلح، وعادت الحرب، ثم إن المهلهل أغار غارة على بنى بكر، فظفر به عمرو بن مالك أحد بنى قيس بن ثعلبة، فأسره وأحسن إساره، فمر عليه تاجر يبيع الخمر - وكان صديقاً للمهلهل- فأهدى إليه وهو أسير زقاً من خمر، فاجتمع شبان من قيس بن ثعلبة ونحروا عنده بكراً، وشربوا عند مهلهل في بيته الذي أفرد له ، فلما أخذ فيهم الشراب تغنى مهلهل بشعر ناح فيه على أخيه. فلما سمع عوف ذلك غاظه وقال: لا جرم إن الله على نذراً، إن شرب عندي قطرة ماء ولا خمر حتى يورد الخضير – أي لا يشرب شيئاً قبل خمسة أيام -، فقال له أناس من قومه: بئس ما حلفت ! فبعثوا الخيول في طلب البعير فأتوا به بعد ثلاث أيام، وكان المهلهل مات عطشاً. |
67
معركة شقحب كان الرعب الذي يرافق تحركات المغول شديداً يملأ صدور الناس ويوهن من قواهم، فكلما سمع الناس قصدهم إلى بلد فرّوا من مواجهتهم. وقد سهّل هذا الرعب لهؤلاء الغزاة المعتدين سبيل النصر والغلبة. وكان الخليفة المستكفي بالله والسلطان الناصر مقيمين في مصر كما هو معلوم، ويبدو أنّ أخبار عزم التتار على تجديد حملاتهم لدخول بلاد الشام وإزالة دولة المماليك بلغ المسؤولين في مصر، فعمل العلماء وأولوا الفكر والرأي على إشراك الخليفة والسلطان في مواجهة هؤلاء الغزاة. ففي شهر رجب من سنة 702 هـ قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك، واشتدّ خوفهم جداً كما يقول الحافظ ابن كثير، وقنت الخطيب في الصلوات، وقُرِئ [صحيح] البُخاري، وهذه عادة كانوا يستعملونها في مواجهة الأعداء فيعمدون إلى قراءته في المسجد الجامع. وشرع الناس في الهرب إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخّر مجيء العساكر المصرية عن أبانها فاشتدّ لذلك الخوف. قال ابن كثير: (وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة - أي قلعة دمشق - وعلى أبواب الأمراء بخروج السلطان من مصر لمناجزة التتار المخذولين.. وفي ثامن عشر من شعبان قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين، فيهم كبار الأمراء من أمثال ركن الدين بيبرس الجاشنكير وحسام الدين لاجين وسيف الدين كراي). ثم قدمت بعدهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير السلاح وأيبك الخزندار. فقويت القلوب في دمشق، واطمأن كثير من الخلق، ولكنَّ الناس في الشمال سيطر عليهم الذعر، واستبدّ بهم الفزع فنزح عدد عظيم منهم من بلاد حلب وحماة وحمص.. ثم خافوا أن يدهمهم التتار فنزلوا إلى المرج. ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك البلاد فساداً، وقلق الناس قلقاً عظيماً لتأخُّر قدوم السلطان ببقية الجيش، وخافوا خوفاً شديداً، وبدأت الأراجيف تنتشر وشرع المثبِّطون يوهنون عزائم المقاتلين ويقولون: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لقلة المسلمين وكثرة التتار. وزَيَّنوا للناس التراجعَ والتأخُّرَ عنهم مرحلة مرحلة. ولكن تأثير العلماء ولاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية كان يتصدّى لهؤلاء المرجفين المثبّطين، حتى استطاعوا أن يقنعوا الأمراء بالتَّصدِّي للتتار مهما كان الحال. واجتمع الأمراء وتعاهدوا وتحالفوا على لقاء العدوّ وشجَّعوا رعاياهم، ونوديَ بالبلد دمشق أن لا يرحل منه أحد، فسكن الناس وهدأت نفوسهم وجلس القضاة بالجامع يحلِّفون جماعة من الفقهاء والعامّة على القتال، وتوقّدت الحماسة الشعبية، وارتفعت الروح المعنوية عند العامة والجند. وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية أعظم التأثير في ذلك الموقف، فقلد عمل على تهدئة النفوس، حتَّى كان الاستقرار الداخلي عند الناس والشعور بالأمن ورباطة الجأش. ثم عمل على إلهاب عواطف الأمة وإذكاء حماستها وتهيئتها لخوض معركة الخلاص.. ثمّ توجّه ابن تيمية بعد ذلك إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم في القطيفة، فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرّة منصورون. فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. وكان يتأوَّل في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله – تعالى-: (ذلك ومَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عوقِبَ بهِ ثمَّ بُغِيَ علَيهِ لَيَنْصُرُّنَّهُ اللهُ). وقد ظهرت عند بعضهم شبهات تفُتُّ في عضد المحاربين للتتار من نحوِ قولهم: كيف نقاتل هؤلاء التتار وهم يظهرون الإسلام وليسوا بُغاة على الإمام.. فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه؟ فردَّ شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الشُّبهة قائلاً: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ ومعاوية - رضي الله عنهما- ورأوا أنهم أحقُّ بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحقّ بإقامة الحقّ من المسلمين وهم متلبِّسون بالمعاصي والظُّلْم. فانجلى الموقف وزالت الشبهة وتفطّن العلماء والناس لذلك ومضى يؤكّد لهم هذا الموقف قائلاً: إذا رأيتموني في ذلك الجانب-يريد جانب العدوّ- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجّع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم. وامتلأت قلعة دمشق والبلد بالناس الوافدين، وازدحمت المنازل والطرق. وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية من دمشق صبيحة يوم الخميس من باب النصر بمشقّة كبيرة وصَحِبَتْهُ جماعة كبيرة يشهد القتال بنفسه وبمن معه. فظنّ بعض الرعاع أنه خارج للفرار فقالوا: أنت منعتنا من الجفل وها أنت ذا هارب من البلد.. فلم يردّ عليهم إعراضاً عنهم وتواضعاً لله، ومضى في طريقه إلى ميدان المعركة. وخرجت العساكر الشامية إلى ناحية قرية الكسْوة. ووصل التتار إلى قارَة. وقيل: إنهم وصلوا إلى القطيفة فانزعج الناس لذلك، وخافوا أن تكون العساكر قد هربوا، وانقطعت الآمال، وألحّ الناس في الدعاء والابتهال في الصلوات وفي كلّ حال. وذلك في يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان.. فلمَّا كان آخر هذا اليوم وصل أحد أمراء دمشق، فبشَّرَ الناس بأنَّ السلطان قد وصل وقتَ اجتماع العساكر المصرية والشامية. وتابع التتار طريقهم من الشمال إلى الجنوب ولم يدخلوا دمشق بل عرجوا إلى ناحية تجمُّع العساكر، ولم يشغلوا أنفسهم باحتلال دمشق وقالوا: إن غلبنا فإنّ البلد لنا وإن غُلِبنا فلا حاجة لنا به. ووقفت العساكر قريباً من قرية الكسوة، فجاء العسكر الشامي، وطلبوا من شيخ الإسلام أن يسير إلى السلطان يستحثُّه على السير إلى دمشق، فسارَ إليه، فحثّه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر. فجاء هو وإيّاه جميعاً، فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ ابن تيمية: السُّنَّةُ أن يقف الرجُلُ تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلاَّ معهم. وحرّض السلطان على القتال، وبشَّره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو: إنَّكم منصورون عليهم في هذه المرَّة. فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. وأفتى الناسَ بالفطر مدّة قتالهم، وأفطر هو أيضاً وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شي معه في يده ليعلِمهم أنَّ إفطارهم ليتقوَّوْا به على القتال أفضل من صيامهم. ولقد نظَّم المسلمون جيشهم في يوم السبت 2 رمضان أحسن تنظيم، في سهل شقحب الذي يشرف على جبل غباغِب. وكان السلطان الناصر في القلب، ومعه الخليفة المستكفي بالله والقضاة والأمراء. وقبل بدء القتال اتُّخِذَت الاحتياطات اللازمة، فمرّ السلطان ومعه الخليفة والقرَّاء بين صفوف جيشه، يقصد تشجيعهم على القتال وبثِّ روح الحماسة فيهم. وكانوا يقرؤون آيات القرآن التي تحضُّ على الجهاد والاستشهاد وكان الخليفة يقول: دافعوا عن دينكم وعن حريمكم. ووضِعت الأحمال وراء الصفوف، وأُمر الغلمان بقتل من يحاول الهرب من المعركة. ولمَّا اصطفَّت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتاً عظيماً وأمر بجواده فقُيِّد حتى لا يهرب، وبايع اللهَ – تعالى- في ذلك الموقف يريد إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة في سبيل الله، وصدق الله فصدقه الله. وجرت خطوب عظيمة، وقُتِل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي، وثمانية من الأمراء المقدَّمين معه. واحتدمت المعركة، وحمي الوطيس، واستحرّ القتل، واستطاع المغول في بادئ الأمر أن ينزلوا بالمسلمين خسارة ضخمة فقتِل من قتِل من الأمراء.. ولكن الحال لم يلبث أن تحوّل بفضل الله - عزّ وجلّ- وثبت المسلمون أمام المغول، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتغيَّر وجه المعركة وأصبحت الغلبة للمسلمين، حتّى أقبل الليل فتوقّف القتال إلاّ قليلاً، وطلع المغول إلى أعلى جبل غباغِب، وبقوا هناك طول الليل، ولما طلع النهار نزلوا يبغون الفرار بعد أن ترك لهم المسلمون ثغرة في الميسرة ليمرّوا منها، وقد تتّبعهم الجنود المسلمون وقتلوا منهم عدداً كبيراً، كما أنهم مرّوا بأرض موحِلة، وهلك كثيرون منهم فيها، وقُبض على بعضهم. قال ابن كثير: (فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلاَّ الله - عز وجل- وجعلوا يجيئون بهم من الجبال فتُضرب أعناقهم). ثم لحق المسلمون أثر المنهزمين إلى القريتين يقتلون منهم ويأسرون. ووصل التتار إلى الفرات وهو في قوة زيادته فلم يقدروا على العبور.. والذي عبر فيه هلك. فساروا على جانبه إلى بغداد، فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات وأخذ العرب منهم جماعة كثيرة. وفي يوم الاثنين رابع رمضان رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشَّروا الناس بالنصر، وفيه دخل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية البلد ومعه أصحابه من المجاهدين، ففرح الناس به، ودعوا له وهنّؤوه بما يسَّر الله على يديه من الخير. وفي يوم الثلاثاء خامس رمضان دخل السلطان إلى دمشق وبين يديه الخليفة، وزُيِّنَتِ البلد، وبقِيا في دمشق إلى ثالث شوّال إذ عادا إلى الديار المصرية. وكان فرح السلطان الناصر محمد بن قلاوون والمسلمين بهذه المعركة فرحاً كبيراً، ودخل مصر دخول الظافر المنتصر، يتقدّم موكبَه الأسرى المغول يحملون في أعناقهم رؤوس زملائهم القتلى، واستُقبل استقبال الفاتحين. |
68
معركة تولوز -------------------------------------------------------------------------------- توفي سليمان بن عبد الملك في (العاشر من صفر سنة 99هـ = 22 من سبتمبر 717م) وخلفه ابن عمه عمر بن عبد العزيز، فبدأت بلاد الأندلس في خلافته عهدا جديدا؛ حيث جعلها تابعة له مباشرة، شأنها في ذلك شأن بعض الولايات الإسلامية الأخرى، وكانت الأندلس من قبل تابعة لولاية إفريقية، واختار لها واحدا من الرجال الصالحين الأكْفاء القادرين على النهوض بمسئولياتهم في إيمان ونزاهة. وكان الخليفة العادل حريصا على ذلك أيما حرص؛ فكانت أمور المسلمين شغله الشاغل. وكان ذلك الوالي الكفء الذي اختاره الخليفة لولاية الأندلس هو "السمح بن مالك الخولاني"، تخيّره الخليفة لأمانته وكفاءته وإخلاصه. وتذكر الروايات التاريخية أن من عادة خلفاء بني أمية أنهم كانوا لا يدخلون خزائن بيت المال شيئا مما يرسله ولاتهم من أموال الخراج إلا إذا شهد 10 من عُدُول الجند في الولاية بأن هذا المال هو المستصفى الحلال لبيت المال، بعد دفع أعطيات الجند والإنفاق على مصالح الولاية وشئونها؛ فلما أقبلت أموال ولاية إفريقية في أحد أعوام خلافة سليمان، كان يصحبها 10 من العدول الذين اختارهم الوالي، وكان فيهم إسماعيل بن عبيد الله، والسمح بن مالك، فلما طلب الخليفة شهادتهم حلف 8 بصحة هذا المال، ورفض الرجلان أن يحلفا على ذلك. وكان عمر بن عبد العزيز حاضرا هذه الجلسة، فأعجب بنزاهة الرجلين وشجاعتهما، فلما ولي الخلافة استعان بهما في إدارة ولايات دولته. ولاية السمح بن مالك ولم يقدم الخليفة عمر بن عبد العزيز على النظر في شئون المغرب والأندلس إلا بعد مضي أكثر من عام من خلافته؛ فقد شغلته أمور الدولة الأخرى عن متابعة ما يجري في الأندلس، وكان يفكّر في إرجاع المسلمين من الأندلس وإخلائهم منها؛ فكان يخشى تغلّب العدو عليهم لانقطاعهم من وراء البحر عن المسلمين. غير أن هذه الفكرة تبددت لديه، وعزم على إصلاح أمور الأندلس حديثة العهد بالإسلام، فاختار لولايتها السمح بن مالك، وأمره أن يحمل الناس على طريق الحق، ولا بعدل بهم عن منهج الرفق، وطلب منه أن يكتب له بصفة الأندلس، وأنهارها وبحرها، فلما استقر السمح هناك كتب إليه يعرفه بقوة الإسلام وكثرة مدائنهم، وشرف معاقلهم؛ فلما استوثق الخليفة عمر من أهمية الأندلس، وثبات أقدام المسلمين فيها أولاها من عانيته ما هي جديرة به. ولم يكد السمح بن مالك يتولى أمر الأندلس حتى ظهر أثر كفايته وصلاحه في البلاد، فانتظمت أمورها، ونعم الناس بالأمن والسلام، وتحسنت موارد الدولة، واجتمع له من المال مبلغ كبير منه، استغله في إصلاح مرافق الولاية. وحدث أن قنطرة "قرطبة" الرومانية التي كانت مقامة على نهر الوادي الكبير للاتصال بنواحي جنوبي الأندلس قد تهدمت، واستعان الناس بالسفن للعبور، وكان في ذلك مشقة عليهم، وأصبح المسلمون في حاجة إلى بناء قنطرة متينة يستطيعون العبور عليها من الجنوب إلى قرطبة عاصمتهم الجديدة، ووجد السمح بن مالك أن خير ما ينفق فيه هذا المال هو بناء تلك القنطرة، فكتب إلى الخليفة عمر في دمشق يستأذنه في بناء القنطرة فأذن له، فقام السمح ببنائها على أتم وأعظم ما يكون البناء. وكان لهذه القنطرة أهميتها في تاريخ الأندلس السياسي والفكري، فربطت بين قرطبة بجنوبي الأندلس وشمالي أفريقيا، وكانت من الجمال والبهاء بحيث أصبحت متنزه أهل قرطبة ومدار خيال شعراء الأندلس. الاتجاه إلى الفتح وبعد أن اطمأن السمح بن مالك إلى أحوال أمور الأندلس، ووثق الخليفة عمر باستقرار المسلمين بها، بدأ السمح يفكر في معاودة الفتح، ورد المتربصين بولايته من أمراء ما وراء جبال ألبرت، فأعد العدة لذلك، وجهز جيوشه لهذه المهمة. واخترقت جيوش السمح جبال ألبرت من الشرق، وسيطر على عدد من القواعد هناك، واستولى على "سبتمانيا" في جنوبي فرنسا، وأقام بها حكومة إسلامية، ووزع الأراضي بين الفاتحين والسكان، وفرض الجزية على النصارى، وترك لهم حرية الاحتكام إلى شرائعهم، ثم زحف نحو الغرب ليغزو "أكوتين". وكانت مملكة الفرنج حينما عبر المسلمون إلى غاليا –فرنسا- تفتك بها الخلافات والحروب بين أمرائها، غير أن الأمير "أدو" دوق أكوتين كان أقوى أمراء الفرنج في غاليا وأشدهم بأسا، نجح في غمرة الاضطراب الذي ساد المملكة أن يستقل بأكوتين، ويبسط نفوذه وسلطانه على جميع أنحائها في الجنوب من اللوار إلى البرنية. فلما زحف السمح بن مالك إلى الغرب ليغزو أكوتين قاومه البشكنس -سكان هذه المناطق- أشد مقاومة، لكنه نجح في تمزيق صفوفهم، وقصد إلى تولوشة تولوز. وفي أثناء سيره جاءت الأخبار بأن الدوق "أدو" أمير أكوتين جمع جيشا كبيرا لرد المسلمين، وإخراجهم من فرنسا، فآثر السمح بن مالك ملاقاة عدوه على كثرة عددهم عن مهاجمة تولوشة، والتقى الفريقان بالقرب منها، ونشبت بينهما معركة هائلة في 9 من ذي الحجة 102هـ = 9 من يونيو 721م، سالت فيها الدماء غزيرة، وكثر القتل بين الفريقين، وأبدى المسلمون رغم قلتهم شجاعة خارقة وبسالة وصبرًا، وتأرجح النصر بين الفريقين دون أن يحسم لصالح أحد من الفريقين، حتى سقط "السمح" شهيدًا من على جواده، فاختلت صفوف المسلمين، ووقع الاضطراب في الجيش كله، وعجز قادة الجيش أن يعيدوا النظام إلى الصفوف، وارتد المسلمون إلى "سبتمانيا" بعد أن فقدوا زهرة جندهم، وسقط عدد من كبار قادتهم. العودة إلى الأندلس وعلى إثر استشهاد السمح بن مالك اختار الجيش أحد زعمائه "عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي"، فبذل جهدًا خارقًا ومهارة فائقة في جمع شتات الجيش، والتقهقر به إلى الأندلس، وأقام نفسه واليًا على الأندلس عدة أشهر قليلة حتى يأتي الوالي الجديد، وفي هذه المدة القليلة نجح عبد الرحمن الغافقي في ضبط أمور الولاية، والقضاء على الفتن التي ظهرت في الولايات الجبلية الشمالية. ثم تولى عنبسة بن سحيم الكلبي أمر الأندلس في (صفر 103هـ = أغسطس 722م)، وكان من طراز السمح بن مالك كفاءة وقدرة وورعًا وصلاحًا، له شغف بالجهاد وحرص على نشر الإسلام وتوسيع دولته، وما إن استقرت الأمور في الأندلس بعد اضطراب واختلال حتى عاود الفتح، وخرج على رأس جيشه من قرطبة، وسار نحو سبتمانيا التي فقد المسلمون كثيرًا من قواعدها، وتابع زحفه شمالاً في وادي الرون، ولم تقف هذه الجملة الظافرة إلا قرب بلدة "سانس" على بعد ثلاثين كيلومترًا جنوبي باريس، وخشي "أدو" دوق أكوتين أن يهاجمه المسلمون مرة أخرى، فسعى إلى مفاوضتهم ومهادنتهم، وبذلك بسط المسلمون نفوذهم في شرق جنوبي فرنسا. ولما لم يكن في نية عنبسة الاستقرار في تلك المناطق، فقد عاد إلى بلاده بعد أن أعاد نفوذ المسلمين في مملكة غالة، قاطعًا نحو ألف ميل شمالي قرطبة، وفي طريق العودة داهمته جموع من الفرنجة، فالتحم معها في معركة أصيب أثناءها بجراح بالغة توفي على إثرها في (شعبان 107هـ = ديسمبر 725م)، بعد أن انفرد بين الفاتحين المسلمين بفخر الوصول برايات الإسلام إلى قلب أوروبا الغربية، ولم يدرك هذا الشأو بعد ذلك فاتح مسلم آخر. وقد تكررت محاولات المسلمين لفتح مملكة غالة والاستقرار بها ثم التوسع في قلب أوروبا لنشر الإسلام بها، لكنها لم تلقَ نجاحًا، وكانت آخر تلك المحاولات ما قام به القائد العظيم عبد الرحمن الغافقي، لكن استشهاده في معركة بلاط الشهداء (رمضان 114هـ = أكتوبر 732م) قضى على أحلام المسلمين في الفتح والتوسع. |
69
البويب الزمان/ 12 رمضان – 13 هجرية المكان / البويب – نهر الفرات – العراق المسلمون بقيادة 'المثنى بن حارثة' يثأر من الفرس بعد معركة الجسر الهزيمة الطارئة : منذ أن رفعت راية الجهاد على الجبهة العراقية فى بداية السنة الثانية عشرة من الهجرة على يد القائد المظفر 'خالد بن الوليد'، وخاض المسلمون معارك طاحنة هائلة، وكلها متقاربة فى التوقيت، واستطاع المسلمون بفضل الله عز وجل وحده أن يحققوا النصر فيها كلها، حتى جاء يوم الجسر بعد أن تغيرت القيادة لحاجة الجبهة الشامية للعبقرية الخالدية، وأصبح القائد الجديد هو 'أبو عبيد الثقفى'، ولم يكن على نفس المستوى الفنى لقيادة الجيوش المسلمة بالعراق، فحقق عدة انتصارات، حتى وقع فى غلطة عسكرية كبيرة أثناء معركة الجسر أدت لهزيمة المسلمين لأول مرة من الفرس، ومما ساعد على مضاعفة حجم الخسائر تهور أحد الجنود المسلمين حين قطع الجسر الذى كان يمثل خط الرجوع الوحيد للمسلمين، مما أدى لغرق كثير من المسلمين بنهر الفرات، وإصابة الكثير من المسلمين بجراحات خطيرة أثناء محاولاتهم إعادة ربط الجسر المقطوع، ومن هؤلاء المصابين القائد 'المثنى بن حارثة'، والذى تولى قيادة المسلمين بعد استشهاد 'أبى عبيد الثقفى' . كان لوقع هذه الهزيمة الطارئة على المسلمين أثر بالغ فى سياسة الخليفة 'عمر بن الخطاب' من حيث إرسال الإمدادات، وتجهيز الجيوش المسلمة،خاصة بعد أن فر كثير من الجنود من أرض معركة الجسر، وهاموا على وجوههم خجلاً وحزناً من مصابهم، ولم يبق مع الأسد الجريح 'المثنى بن حارثة' سوى ثلاثة آلاف فقط، فسمح الخليفة – ولأول مرة – لمن سبقت ردته بالاشتراك مجاهداً فى سبيل الله، وذلك بعد أن حظر عليهم الاشتراك فى الفتوحات، وكان كثير منهم يتحرق شوقاً لذلك تكفيراً عن خطيئته السابقة، وقام الفاروق أيضاً بتجميع قبيلة 'بجيلة' – وكانت متفرقة بين القبائل – وذلك بناء على طلب سيدهم الصحابى الجليل 'جرير بن عبد الله البجلى'، وصارت تلك القبيلة عماد الجيوش الإسلامية بالعراق، وبذلك استطاع الخليفة 'عمر بن الخطاب' أن يسد الفراغ الناشىء بعد الهزيمة الطارئة بمعركة 'الجسر' . أليس الصغرى : دائماً يظن أعداء الإسلام أن المسلمين أضعف وأقل من أن يفيقوا من الضربات التى توجه إليهم، ولكن جند الإسلام المخلصين لا توهنهم أمثال هذه العثرات الطارئة، فهم على استعداد تام لتلقين الأعداء الدرس تلو الآخر، ففى اليوم التالى لمعركة الجسر مباشرة خرج قائدان من أكبر قواد الفرس وهما 'جابان' و'مرادنشاه' للتنزه على ظهور الخيل فرحاً بانتصارهم على المسلمين، وهم يحسبون أن المسلمين قد فروا بلا رجعة من العراق، ولكن أسد الله الجريح 'المثنى' قد بث عيونه وجواسيسه بالمنطقة خوفاً من أن تصل إمدادات فارسية جديدة للمنطقة، بينما المسلمون عددهم ثلاثة آلاف فقط، وبالتالى يكون على استعداد تام لمواجهة كافة الاحتمالات . نقلت هذه الاستخبارات خبر خروج 'جابان' و'مرادنشاه' للنزهة فى قلة من حراسهم، نقلوا ذلك للقائد 'المثنى' الذى قرر توجيه ضربة موجعة للفرس، حتى لا يتمادوا فى طغيانهم، فقاد 'المثنى' مجموعة مختارة من فرسانه للقيام بعملية فدائية ضد 'جابان' و'مرادنشاه'، وبالفعل استطاع 'المثنى' أن يأسرهما، وفى الحال قرر 'المثنى' إعدامهما فوراً، وقال لهما فى غيظ : 'أنتما غررتماه وكذبتماه واستفززتماه' ثم ضرب عنقيهما بيده فى الحال، ليعلم أعداء الإسلام أنه لا رحمة فى قلوب المسلمين تجاه أعدائهم، وكانت هذه الضربة المؤلمة عند منطقة 'أليس'، وقد جعلت الفرس يفيقون من سكرتهم ونشوتهم بالنصر الطارىء الذى حققوه على المسلمين . الكافر بن المؤمن : كان القائد الكبير 'رستم' بحكم خبرته العسكرية الكبيرة والطويلة يعلم أن الهزيمة الطارئة يوم الجسر لا تمثل تغييراً كبيراً فى ميدان القتال، فقرر التجهيز والتحضير لجيش جرار للقضاء على جيش المسلمين الصغير بالعراق، لذلك طلب الاجتماع مع ملكة الفرس 'بوران بنت كسرى'، وكانت ذات حكمة مشهورة، ومن أذكى النساء وأدهاهن، وأعلمهن بشئون الحرب، اجتمع بها كى يطلب منها اعتمادات مالية ضخمة لتجهيز جيش جديد، ويكون ذلك على وجه السرعة، وقبل وصول الإمدادات للمسلمين – والتى قد وصل خبر قدومها لرستم – وبالفعل وافقت 'بوران' على ذلك . قرر 'رستم' أن يعد جيشاً جديداً يحشد فيه أقوى الأسلحة الفارسية إلا وهو سلاح الفرسان، وجعل على قيادته القائد 'مهران بن باذان'، والعجيب أن 'مهران' هذا –والذى يعتبر من أمهر قادة الفرس – هو بن 'باذان'، وهو من جملة الصحابة، وكان عاملاً لكسرى على اليمن، ودخل فى الإسلام بعدما تيقن من نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبلى 'باذان' فى حروب الردة بلاءً حسناً حتى مات مسلماً فى جملة الصحابة، فكان هذا القائد الجديد 'مهران' يستحق وصف الكافر بن المؤمن، فالأب مؤمن يحارب فى سبيل الله ونصرة الإسلام والابن كافر، قائد لجيوش الكفر، يحارب فى سبيل المجوسية وعبادة النار . بالفعل تم إعداد جيش فارسى من أقوى الجيوش التى أعدت لحرب المسلمين، ويتكون من مائة ألف فارس، وخمسين ألفاً من المشاة، يقودهم أمهر القادة الفرس :'مهران بن باذان'، مدعوماً من القيادة الملكية الفارسية، وموعوداً بأعظم المكافآت والإقطاعات فى حالة النصر على المسلمين . استراتيجية القيادة الإسلامية : كان القائد المثنى بن حارثة من أمهر وأقدر وأخبر القادة المسلمين بالعقلية الفارسية والبيئة العراقية، لأنه من قبيلة 'شيبان' المجاورة للفرس، فهو يعلم تماماً كيف يفكر الفرس، ويعلم تحركاتهم وردود أفعالهم، لذلك اتبع استراتيجية عسكرية حكيمة، فقرر نقل مركز القيادة المسلمة من الحيرة إلى منطقة 'البويب' غرب نهر الفرات، حتى لا يصبح صيداً سهلاً للجيش الفارسى الجرار، وكان اختيار 'البويب' دليلاً على العبقرية الفذة، 'فالبويب' تقع على أطراف الصحراء العربية، وهو مكان واسع المطرد يصلح لحرب الصاعقة التى يجيدها أبناء الإسلام العرب، وفى نفس الوقت أرسل 'المثنى' إلى قادة الإمدادات الإسلامية القادمة ليتوجهوا إلى منطقة 'البويب' بدلاً من 'الحيرة' على وجه السرعة، مما جعل قادة الإمدادات يقررون ترك النساء والذرية خلفهم فى منطقة 'القادسية'، مع ترك حامية خاصة للدفاع عنهم، وهذا الفعل جعل حركة الإمدادات فى منتهى السرعة . لم يكن 'المثنى' مخطئاً فى تصرفه هذا، فما كادت الإمدادات تصل لأرض 'البويب' حتى طلع الجيش الفارسى العرمرم على ضفة نهر الفرات الشرقية، ولنا أن نتخيل هذا اللقاء الدامى بين جيش الفرس الذى يقدر بمائة وخمسين ألفاً من الفرسان والمشاة، جاءوا فى أفضل تسليح، وكانوا فى غاية الحنق والغيظ ضد المسلمين، وكذلك فى غاية الكبر والتيه لانتصارهم الطارىء فى معركة الجسر، وجيش المسلمين المكون من أثنى عشر ألفاً من المقاتلين الأشداء الذين يتحرقون شوقاً للشهادة فى سبيل الله، وللانتقام لقتلاهم يوم الجسر، والتكفير عن ذنب الفرار من المعركة يومها، وهى معادلة من وجهة النظر المادية المجردة من أسباب السماء محسومة لصالح الفرس المتفوقين فى كل شىء إلا الإيمان، والذى لا ترجح معه أعظم قوة فى العالم . حاول القائد الفارسى 'مهران' استدراج القائد المسلم 'المثنى' لأن يقع فى نفس الخطأ الذى وقع فيه قائد معركة الجسر 'أبوعبيد الثقفى'، وعرض عليه أن يعبر المسلمون النهر 'الفرات'، لتكون أرض المعركة فى الضفة الشرقية، وبالتالى يكون المسلمون محاصرون بين الضغط الفارسى أمامهم ومياه النهر فى ظهورهم، وكان الخليفة الراشد 'عمر بن الخطاب' بعد يوم الجسر قد أوصى قادة الفتح بوصية نافعة ، فقال : {لايعبر المسلمون بحراً ولا جسراً إلا بعد ظفر}، فامتنع 'المثنى' من تكرار غلطة 'أبى عبيدة'، وعمل بنصيحة أمير المؤمنين، ورفض أن يعبر النهر، وطلب من الفرس أن يعبروا هم النهر إلى 'البويب' . ***[ يجب على المسلمين أن يتعلموا من أخطائهم السابقة، ليستفيدوا فى مواجهات المستقبل التى مازالت تتكرر وتقع على المسلمين، عملاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : {لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين} والعجيب أن المسلمين ما زالوا يكررون أخطاء الماضى، فى غفلة غريبة وذهول مريب كأنه ما من دماء أريقت ولا أرض ضاعت ولا مقدسات سلبت، مازال المسلمون يصدقون أعدائهم، ويثقون فيمن لا عهد له ولا ذمة، والضحية الحقيقية لهذه الغفلة هى أمة الإسلام] . طلب القائد 'المثنى بن حارثة' من جيش المسلمين أن يفطروا، لأن المعركة كانت فى شهر رمضان، والصوم يضعف قوة المقاتل فى المعركة، فنادى فى الجند :{إنكم صوام، والصوم مرهقة مضعفة، وإنى أرى من الرأى أن تفطروا، ثم تقووا بالطعام على قتال عدوكم}، فأطاع الجند وأفطروا جميعاً . **[ وهكذا تكون الجندية طاعة كاملة لأوامر القائد الحكيم الفقيه، إذ ربما يعترض البعض ويؤثر الصيام على الفطر، فيضعف عن القتال، وربما يكون سبباً للهزيمة، وحالهم يشبه من قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رفضوا الفطر، وأصروا على الصيام فأضعفهم : {أولئك العصاة'، وقال صلى الله عليه وسلم {ليس من البر الصيام فى السفر} ] . لما تهيأ الفرس للهجوم كان لهم زجل وهمهمات، وأصوات عالية مشوبة بالكبر والخيلاء والغطرسة، يؤدونها على صورة الأناشيد والأهازيج العالية، فلما سمعهم 'المثنى بن حارثة' قال لجنوده :'إن الذى تسمعون فشل، فالزموا الصمت، وائتمروا همساً'، وكان 'مهران' يقصد من وراء ذلك إضعاف الروح المعنوية للمسلمين، وما درى أن تلكم الروح الثابتة مصدرها العقيدة السليمة، والإيمان بالله عز وجل، وهو سلاح لا يقهر، وكان للقائد 'المثنى' فرس شموس لا يركبها غيره، وكان لا يركبها إلا عند القتال، فاستوى على ظهرها، رغم جراحه الشديدة التى مازال يعانى منها من معركة الجسر، ووقف يسوى الصفوف، وأثناء ذلك رأى جندياً من المسلمين يحاول أن يستقل، فخرج عن الصف قبل الالتحام فقال 'المثنى' : 'ما بال هذا ؟!' فقالوا له : 'هو ممن فر من الزحف يوم الجسر وهو يريد أن يستقتل' يعنى تكفيراً عن فعلته، فقرعه 'المثنى' بالرمح تأديباً له على إخلاله بالانضباط، ثم قال له :'لا أباً لك ألزم موقفك، فإن أتاك قرنك فأعنه عن صاحبك، ولا تستقتل' . *' فى ذلك درس عظيم لهؤلاء الذين يستعجلون من أجل مصلحة ومنفعة على حساب المصلحة العامة، فهذا الجندى يريد أن ينال الشهادة ليكفر بها عن خطيئته ، من الممكن جداً أن يكون سبباً للهزيمة، وسريان روح التسيب وعدم الالتزام بالأوامر والنظام، ولربما يقتدى به غيره، فالمصلحة العامة، وطاعة القائد المسلم مقدمة على المصلحة الخاصة وهوى ورغبات النفس، وإن كانت فى الشهادة نفسها' المعركة الطاحنة : استعد الفريقان للصدام المرعب 'بالبويب'، الفرس فى أكثر من مائة ألف، والمسلمون فى أثنى عشر ألفاً لا غير، وكانت تعليمات 'المثنى بن حارثة' ألا يهجم المسلمون إلا بعد ثلاث تكبيرات، ولكنه ما إن كبر التكبيرة الأولى حتى هجم الفرس بكل قوتهم، وعاجلوا المسلمين فى ثلاث صفوف ضخمة، ومعهم سلاح الفيل، وهم يرفعون أصواتهم بالزجل والأناشيد المجوسية، وكان الالتحام شديداً للغاية، وتوازنت الكفتان أول الأمر لصبر الفريقين، وهذا الصبر جعل أمر القتال يطول نسبياً، دون حسم من أى من الطرفين، والمثنى يجول على فرسه الشموس يراقب سير المعركة، ويشد أزر المسلمين فى القتال، وأثناء ذلك رأى خللاً فى صفوف قبيلة 'بنى عجل'، وكان القتال عند المسلمين على أساس قبلى لإثارة الحمية والحماس، فأرسل إليهم رسولاً يقول لهم : 'إن الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لا تفضحوا المسلمين اليوم'، فاعتدلوا فى القتال حتى صاروا من أشد الناس فى القتال . خالط المسلمون الفرس، والتحم القلبان، واشتد القتال بصورة لم ير المسلمون والفرس مثلها، وكان 'مسعود بن حارثة' أخو 'المثنى' هو قائد الفرسان، وكان من أشجع الناس فى القتال، فنادى فى الناس – وكأنه شعر بدنو أجله، واشتم رائحة الجنة، ورآها رأى العين – فقال : 'إن رأيتمونى قتلت فلا تدعوا ما أنتم فيهن فألزموا مصافكم، وأغنوا غناء من يليكم' وفعلاً نال ما طلبه، وفاز بما سعى إليه، وسقط شهيداً، ولما رأى أخوه 'المثنى' مصرعه، وتضعضع المسلمين نادى فيهم بأعلى صوته : 'يا معشر المسلمين لا يرعكم مصرع أخى، فإن مصارع خياركم هكذا ' . تطور القتال : رأى القائد الحكيم 'المثنى' أن أمر القتال سيطول جداً، وأن الفرس يقاتلون بمنتهى الضراوة والشدة، فقرر تغير خطة القتال، ومحاولة اختصار سير المعركة وذلك عن طريق ما يلى : 1. قتل قائد عام جيش الفرس 'مهران' وذلك أقصر طريق لإنهاء القتال، ذلك لأن مقتل القائد عادة يكون من أهم سبب فى الهزيمة، وقد جرب المسلمون ذلك فى عدة معارك . 2. شن هجوم مركز بقيادة 'المثنى' نفسه على قلب الجيش الفارسى لزحزحته وإبعاده إلى الخلف، لخلخلة الثبات الفارسى فى القتال، وإحداث فوضى وارتباك فى قطاعات الجيش الفارسى . وبالفعل قاد الأسد الجريح هجوما شرساً ومركزاً بأسلوب الصاعقة المفزع، لتحطيم النفسية الفارسية المتكبرة، وكذلك النفسية المرعبة من المسلمين، وقاد مجموعة من أفضل وأمهر فرسان المسلمين : مثل 'جرير البجلى' و'ابن الهوبر' و'قرط بن جماح' و'المنذر بن حسان' وغيرهم، وضغطوا على القلب بمنتهى القوة حتى أزالوه من القلب إلى ناحية اليمين،ثم واصل المسلمون ضغطهم حتى أجبروا القلب على التراجع للخلف، ثم دب الوهن فى نفوس وحدات القطاع الأوسط، فتراجعت هى الأخرى عن مواقعها، وبالتالى أصبحت أجنحة الفرس مكشوفة . كان قائد الفرس 'مهران' يقاتل مع قواته الخاصة قتالاً شرساً فى القلب رغم تراجعه، وكان 'المثنى' حريصاً على قتل 'مهران' بأية صورة، وبأى ثمن، وكان 'مهران' على فرس وردى اللون، مدرعاً بنحاس أصفر واختلف فيمن تولى قتل 'مهران'، هل قتله 'المثنى' أم 'جرير بن عبد الله' أم 'المنذر بن حسان' والخلاصة أنه قتل فى النهاية، وانهارت معنويات الفرس رغم المقاومة الشديدة من جانبهم، إلا أن ضغط المسلمين على جوانب الجيش الفارسى دفعهم فى النهاية للفرار من أرض المعركة، بعد أن انفصلت ميمنة الفرس عن ميسرتها، وهجمات المسلمين الصاعقة تطحن فيهم من كل جانب، حتى عمت الهزيمة الجيش الفارسى، وصار أقصى همهم أن ينجوا بحياتهم من هذه المعركة . يوم الانتقام : سبق أن قلنا أن القائد المحنك والأسد الجريح 'المثنى بن حارثة' لم يقع فى نفس الخطأ الذى وقع فيه القائد 'أبو عبيد الثقفى' فى معركة الجسر ولم يعبر النهر، وتركهم يعبرون النهر حتى صاروا محاصرين بين جيش المسلمين ونهر 'الفرات'، فلما وقعت الهزيمة على الفرس وأرادوا الفرار من أرض المعركة 'بالبويب'، وكانوا قد عقدوا جسراً على النهر للعبور، فلما رأى القائد 'المثنى' هزيمة الفرس انطلق كالسهم مخترقاً صفوف الفرس المنهزمة حتى وصل إلى الجسر، وقام بقطعة، ذلك ليقطع خط الرجعة على الفرس، وبالفعل وقع الفرس بين كماشة المسلمين الطاحنة الفتاكة، ودب الفزع والذعر فى قلوب الفرس، وأصابهم ما يشبه الهستيريا، وفقدوا صوابهم بعدما رأوا أنفسهم لا ملجأ لهم ولا مفر من سيوف المسلمين التى حصدتهم حصداً تاماً، واعتورتهم سيوف ورماح المسلمين حتى أبادتهم تماماً، وقتل منهم أكثر من مائة ألف، واستمر المسلمون فى أعمال مطاردة فلول المنهزمين من الفرس يوماً وليلة، حتى أبادوا البقية الباقية، وانتقم المسلمون لمصابهم فى يوم الجسر وبنفس الطريقة، ولكن بعد أن قتلوا من الفرس أكثر من مائة وخمسين ألفاً فداءً للأربعة آلاف شهيد يوم الجسر . كان هذا الانتصار الرائع فى 'البويب' من أعظم الفتوحات والانتصارات التى حققها المسلمون فى 'العراق'، وقد فاقوا فيها كل الانتصارات السابقة، ولولا شهرة معركة القادسية لكانت معركة 'البويب' هى أشهر وأعظم معارك المسلمين 'بالعراق' . ـــــــــــــــــــــــــــــــ المصادر : 1. تاريخ الرسل والملوك 2. المنتظم 3. الكامل فى التاريخ 4. تاريخ الإسلام للذهبى 5. البداية والنهاية 6. سير أعلام النبلاء 7. تاريخ الخلفاء الراشدين 8. فتوح البلدان 9. القادسية وفتوح العراق 10. محاضرات الخضرى |
الساعة الآن 08:05 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |