![]() |
[align=justify]
الفصل الرابع الفتوحات في عهد معاوية رضي الله عنه [/align] |
[align=justify]المبحث الأول: حركة الجهاد ضد الدولة البيزنطية :
كان معاوية رضي الله عنه يرى أن الخطر الأكبر من وجهة نظره الدولة البيزنطية، وإن كانت قد خسرت أهم أقاليمها في الشرق ـ الشام ومصر ـ إلا أن جسم الدولة لا زال سليماً لم يمس، فعاصمتها باقية، وممتلكاتها في آسيا الصغرى وأوربا وشمال إفريقيا لا زالت شاسعة وإمكانياتها كبيرة، وقدرتها على المقاومة هائلة، وهي لم تكف بعد عن مناوأة المسلمين، وباختصار فهي العدو الرئيسي والخطر الأكبر الماثل أمام المسلمين، وكان معاوية رجل المرحلة وقادراً على فهم وتقدير هذا الخطر، وعلى مواجهته، أيضا، فقد كان موجوداً بالشام منذ مطلع الفتوحات في عهد أبي بكر الصديق، وأصبح والياً عليه ولمدة عشرين سنة تقريباً، وهو يشكل مع مصر خط المواجهة الرئيسي مع الدولة البيزنطية، فطول إقامة معاوية رضي الله عنه بالشام، أكسبته خبرة واسعة بأحوال البيزنطيين وسياستهم وأهدافهم مما أعانه على أن يعرف كيف يتعامل معهم، لكل ذلك فليس غريباً أن نرى معاوية يولي حدوده مع الدولة البيزنطية وعلاقاته معها جل اهتمامه ويرسم لنفسه نحوها سياسة واضحة ثابتة سار عليها هو وخلفاؤه من الأمويين إلى نهاية دولتهم، وقد كان من أهدافه الرئيسة الاستيلاء على عاصمتهم القسطنطينية[1]. أولاً : معاوية والقسطنطينية: بعد أن أستقر الأمر لمعاوية بن أبي سفيان سنة 41هـ خليفة للمسلمين باشر في تطوير الأسطول البحري ليكون قادراً على دك معاقل القسطنطينية عاصمة الروم ومبعث العدوان والخطر الدائم ضد المسلمين، فبعد أن قضى معاوية على حركات المردة أو الجراجمة الذين أستخدمهم الروم وسيلة لرصد حركات الدولة الإسلامية ونقاط ضعفها وإبلاغ الروم عنها متخذين من مرتفعات طوروس وجبل اللكام مقراً لهم[2]، بدأ الخليفة نشاطه البحري بإرسال حملات بحرية استطلاعية منها حملة فضالة بن عبيد الأنصاري[3]، للوقوف على تحركات الروم وجلب المعلومات الدقيقة عنهم لمنعهم من استخدام جزر قبرص، وأرواد[4]، ورودس ذوات الخدمة التعبوية والعسكرية في عملياتهم ضد الأسطول الإسلامي وقد باشر أعماله الاستطلاعية بإحدى الشواتي وهي شاتية بسر بن أبي أرطأة في البحر عام 43هـ[5] وأعقبها بشاتية مالك بن عبد الله بأرض الروم سنة 46هـ وصائفة عبد الله بن قيس الفزاري بحراً وحملة عقبة بن عامر الجهني بأهل مصر في البحر سنة 48هـ، وصائفة بن عبد الله بن كرز البجلي، وحملة بن عبد الله بن يزيد بن شجر الرهاوي، وشاتيته بأهل الشام في سنة 49هـ[6]، وكان نظام الشواتي والصوائف مستمراً. فقد وضع معاوية أمامه هدفاً واضحاً وهو محاولة الضغط على الدولة البيزنطية من خلال الضغط على عاصمتها القسطنطينية تمهيداً للاستيلاء عليها، ولعل معاوية رضي الله عنه كان يرمي إلى إسقاط الدولة البيزنطية ذاتها بالاستيلاء على عاصمتها فهو يعلم أن هذه العاصمة العتيدة هي مركز أعصاب الدولة ومستقر الأموال والرجال، وفيها العقول المفكرة، فإذا سقطت في يده فإن هذا سيؤدي إلى شلل كامل في الدولة كلها، وأمامه تجربة المسلمين مع الفرس، فبعد سقوط المدائن عاصمتهم في أيديهم أصابهم الارتباك ولاحقهم الفشل، ولم تقم لهم قائمة وزالت دولتهم، فإذا استطاع إسقاط عاصمة البيزنطيين فسيكون ذلك نذيراً بإسقاط الدولة، ويستريح من خصم عنيد وعدو رئيسي، لذلك واصل ضغطه ومحاولاته لتحقيق هدفه، وليس من المبالغة القول إن الدولة البيزنطية ظلت على قيد الحياة مدة تقرب من ثمانية قرون، وهي مدينة ببقائها لعاصمتها القسطنطينية، فمناعة المدينة وصمودها أمام محولات الأمويين المستمرة لفتحها، حال دون ذلك وبالتالي حال دون سقوط الدولة والدليل على هذا أنه عندما استطاع السلطان العثماني محمد الفاتح فتح القسطنطينية والاستيلاء عليها في سنة 857هـ التاسع والعشرين من مايو سنة 1453م كان إيذاناً بسقوط الدولة البيزنطية وزوالها من الوجود[7]. ثانياً: التخطيط الاستراتيجي عند معاوية للاستيلاء على القسطنطينية: حرص معاوية رضي الله عنه أن يكون زمام المبادرة دائماً في يده، لأنها هي التي تمد جزر شرق البحر المتوسط بالقوات والعتاد وتشجع أهلها على شن الغارات على ساحل مصر والشام، وقد سار في تحقيق هذا الهدف في عدة اتجاهات: 1 ـ الاهتمام بدور صناعة السفن في مصر والشام ، واختيار أمهر الصناع للعمل فيها والإغداق عليهم بالأجور والهبات حتى يبذلوا قصارى جهدهم بالعمل[8]، فقد أدرك معاوية ـ رضي الله عنه ـ بحسه العسكري وفكره العبقري أن معارك المسلمين مع الروم، ستعتمد أساساً على الأسطول البحري، وزاد هذا الإحساس عمقاً في قلب معاوية ونفسه تكتل الروم وإعدادهم أكثر من خمسمائة سفينة في معركة ذات الصواري لقهر الأسطول الإسلامي، ومع أن الروم باءوا بفشل ذريع في هذه المعركة، إلا أنهم لم يكفوا عن الإعداد ولم ينتهوا عن تجميع قواتهم لمواجهة قوة المسلمين في البحر، لقد كانوا يظنون أن قوة المسلمين البحرية يمكن القضاء عليها لأنها لا زالت في دور التكوين، ولكنهم فوجئوا بهزيمتهم المنكرة في ذات الصواري، فتوقعوا بعد ذلك أن تكون المعركة القادمة على أسوار العاصمة القسطنطينية فراحوا يستعدون لذلك[9]، وقد أدى التعاون بين مصر والشام في صناعات السفن إلى الوصول إلى نتائج ممتازة، ففي الشام كانت تتوفر أخشاب الصنوبر القوي والبلوط والعرعر التي تصلح لبناء السفن وفي مصر كانت توجد الأخشاب التي تصلح لعمل الصواري، وضلوع جوانب السفن، وخشب الجميز واللبخ والدوم التي تصلح لصناعة المجاديف[10]، وكذلك استغل معاوية معدن الحديد الذي كان متوافراً في مصر والشام واليمن لعمل المسامير والمراسي والخطاطيف والفؤوس، كما كان يتوافر في مصر مادة القطران اللازمة لقلفطة السفن، ونبات الدقس الذي كانت تصنع منه الحبال، وباختصار فقد أدى التعاون المصري الشامي إلى ازدهار البحرية الإسلامية التي ازدادت أهميتها بعد أن أمر معاوية عامله على مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري ببناء دار لصناعة السفن في جزيرة الروضة عام 54هـ[11]. وذلك على أثر غارة شنها البيزنطيون على مصر[12]. 2ـ تقوية الثغور البحرية في مصر والشام،فقد آثر أن يحصن المدن الساحلية ويزودها بالقوات المجاهدة بما يجعلها قواعد تنقل منها الجنود بحراً إلى أي مكان يشاء ووضع لهذه المدن نظاماً عرف بالرباط، وهو ما يقصد به الأماكن التي تتجمع بها الجند والركبان استعداداً للقيام بحملة على أرض العدو، واعتني بهذا النظام حتى أصبح جزءاً مرتبطاً اشد الارتباط بالجهاد، إذ اجتذب الرباط إليه كل الأتقياء المتحمسين العاملين على إعزاز الإسلام ونصرته[13]، وتدرج معاوية رضي الله عنه في تدعيم هذا النظام على نحو ما اتبعه في كل أعماله التي اتسمت بالدقة والابتعاد عن الارتجال والاندفاع، فأعد الرباط لتكون حصوناً يتجمع فيها الجند للدفاع عن المناطق المعرضة لإغارات الأساطيل البيزنطية، ولتكون ملجأً يحتمي بها الأهالي في المناطق الساحلية بأن يأخذوا حذرهم إذا ما لاح خطر السفن البيزنطية في المياه الإقليمية، فكان الحصن في الرباط يضم حجرات للجند ومساكن لهم، ومخازن للأسلحة والمؤن، وبرج للمراقبة، ثم لم يلبث أن أتسع وازدادت أهميته حتى أصبح قاعدة للهجوم وشن الغارات[14]، وتعتبر سياسة منح الإقطاعات بالسواحل الخطوة الأخيرة في سلم السياسة البحرية الدفاعية التي رسمها معاوية قبل أن يستطيع ركوب البحر في عهد عثمان، إذ أتم بفضل هذه الامتيازات إعداد القواعد البحرية التي أخذ ينشىء فيها أساطيله، وكانت آية ازدهار المدن الساحلية نقل جماعات من أهالي بعلبك وحمص وأنطاكية عام 42هـ إلى صور وعكا وغيرهما من المدن بسواحل الأردن، كذلك أصلح معاوية رضي الله عنه حصون هاتين المدينتين ولاسيما عكا التي خرج منها بأولى حملاته البحرية ضد قبرص، وبسط معاوية رضي الله عنه اهتمامه إلى سائر المدن الساحلية[15]. 3 ـ الاستيلاء على الجزر الواقعة شرقي البحر المتوسط ، وقد بدأ ذلك بالاستيلاء على جزيرة قبرص ـ كما سبق ذكره ـ ثم استولى جزيرة أخرى هامة وهي رودس وأمر ببناء حصن بها وبعث إليها جماعة من المسلمين يتلون الدفاع عنها، وجعلها رباطاً يدفعون منه عن الشام، وآثر معاوية أن يحيط المسلمين في رودس بالجو الإسلامي الديني ويعلي راية الإسلام بين أهاليها، فأرسل إليها فقيهاً يدعى مجاهد بن جبر يقرئ الناس القرآن[16] وأراد معاوية أن يتوج حملاته البحرية بغلق بحر إيجة وسد منافذه الرئيسية في وجه السفن البيزنطية، ومنعها من الوصول إلى بلاد المسلمين وعمل على تحقيق ذلك في الاستيلاء على جزيرة ((كريت)) إذ تسيطر هذه الجزيرة تماماً على بحر إيجة، الذي يشبه طرفه الجنوبي فوهة قربة تمتد جزيرة ((كريت)) عبرها، بامتدادها البالغ 160 ميلاً وتقسم الجزيرة هذه فتحة إلى مدخلين يتحكم في كل منهما، وأرسل معاوية جنده الذي استولى على رودس لفتح هذه الجزيرة الهامة ومنع الأساطيل البيزنطية من التسلل عبر الفتحات البحرية المتاخمة لها لمهاجمة الشام على أن جنادة بن أمية الأزدي لم يستطع الاستيلاء على هذه الجزيرة لضخامتها، واكتفى بالإغارة عليها والبطش بالبيزنطيين وأساطيلهم بها، وهكذا وجه معاوية رضي الله عنه أنظار المسلمين شطر البحر الأبيض المتوسط، وأوقفهم على أهمية جزره، فاستولى على ما استطاعت أساطيله أن تفتحه منها، وطرق باب غيرها ومهد الطريق لمن يأتي بعده من الخلفاء الأمويين، وكفل معاوية للمسلمين قوة بحرية نافست البيزنطيين أنفسهم سيادتهم القديمة على البحر الأبيض المتوسط ثم أخذ يعبئها لأهم عمل في تاريخها، وهو ضرب عاصمة البيزنطيين أنفسهم والاستيلاء عليها، ولكن تريث معاوية في تحقيق الهدف الأخير حتى يمكن لنفسه من التفوق البحري على البيزنطية[17]. 4 ـ كان من الضروري لكي تؤتي هذه الاستعدادات البحرية، ثمارها وتحقق أهدافها أن يصاحبها تحصين أطراف الشام الشمالية، التي تشكل مناطق الحدود بين الدولتين الإسلامية والبيزنطية، ضد غارات البيزنطيين من ناحية ولتكون سنداً للقوات الزاحفة على القسطنطينية من ناحية ثانية ذلك لأن المسلمين في فتوحاتهم الأولى في عهد الخلفاء الراشدين، وصلوا إلى أطراف الشام الشمالية، ثم وقفت أمامهم سلسلة جبال طوروس تحول دون وصولهم إلى آسيا الصغرى البيزنطية، وكان البيزنطيون عند انسحابهم وتقهقرهم أمام المسلمين قد قاموا بتخريب المناطق الواقعة شمال حلب وإنطاكيا لئلا يستفيد منها المسلمون، كما خربوا معظم الحصون فيما بين الأسكندرونة وطورسوس[18]، فرأى معاوية ضرورة الاهتمام بهذه المناطق وتعميرها وتحصينها، فاهتم أولاً بمدينة أنطاكيا التي كانت معرضة دائماً للإغارات البيزنطية المفاجئة، واتبع في تعميرها السياسة التي سار عليها إزاء المدن الساحلية للشام، وأغرى الناس على الإقامة بأنطاكيا، بأن منحهم اقطاعات من الأرض، وقوى الرباط المخصص للدفاع عنهم وأخذ معاوية يوالي تدريجياً تعمير المدن الواقعة بين الأسكندرونة وطرسوس أثناء غاراته على أراضي البيزنطيين حتى أصبحت حدود الشام تتاخم مباشرة جبال طوروس الحد الفاصل بين الشام وآسيا الصغرى ولإحكام سيطرته على المعاقل الهامة الواقعة في مناطق التخوم الإسلامية البيزنطية، استولى على سميساط وملطية، كما جدد حصوناً أخرى مثل مرعش والحدث، ثم استولى على حصن زبطرة البيزنطي الهام وأعاد تحصينه[19]، ولكي تكون الحركة مستمرة وتكون مناطق الحدود ميداناً عملياً لتدريب جند المسلمين، وتعويدهم على الدروب والطرق والممرات الجبلية الوعرة دأب معاوية على الغزو المستمر، وأصبح هذا النشاط العسكري يعرف بغزوات الصوائف والشواتي[20] فلا تكاد تمر سنة وإلا ونجد ذكراً عند الطبري وغيره لغزو في البر أو البحر كأن يقول: وفيها شتى فلان بأرض الروم أو كانت صائفة فلان إلى أرض الروم[21]، وكانت هذه الغزوات تنطلق إلى بلاد الأعداء وتخرب تحصيناتهم وتغنم وتعود، وكان تكرار هذه الغزوات يشكل ضغطاً على الدولة البيزنطية ويرهق أعصابها وينهك قواها[22]، وقد برز في هذه الحملات المستمرة عدد من كبار القادة المسلمين الذين تلقوا تدريباتهم في ميدانها وأتقنوا فن الحرب،، مثل عبد الله بن كرز البجلي، ويزيد بن شجرة الرهاوي، ومالك بن هبيرة السكوني، وجنادة بن أمية الأزدي، وسفيان بن عوف، وفضالة بن عبيد[23]، ومالك بن عبد الله الخثعمي، الذين أطلقوا عليه مالك الصوائف لعلو كعبه في الميدان الحربي في آسيا الصغرى[24]، وهؤلاء القادة ابلوا بلاءً حسناً في الجهاد ضد البيزنطيين لإعلاء كلمة الله[25]. ثالثاً : الحصار الأول للقسطنطينية : بعث معاوية رضي الله عنه سنتي 47 ـ 48هـ سرايا من قواته لتغيرعلى الأراضي البيزنطية لتمهد الطريق في سبيل الوصول إلى القسطنطينية فتمكن مالك بن هبيرة السكوني من قضاء الشتاء في الأراضي البيزنطية[26]، ولقد شهدت سنة 49هـ/669م أول حصار إسلامي لمدينة القسطنطينية ذلك أن نجاح قوات المسلمين في توغلهم في الأراضي البيزنطية بالإضافة إلى الصراعات الداخلية التي واجهها الإمبراطور قُسطانز الثاني نتيجة تمرد اثنين من قادته هما سيليوس وميزيريوس[27]، كل ذلك ساعد معاوية رضي الله عنه على أن يبعث قواته في البر والبحر بقيادة كل من فضالة بن عبيد الليثي وسفيان بن عوف العامري يساعدهم يزيد بن شجرة الرهاوي، تجاه القسطنطينية[28]، ووصل الأسطول الإسلامي إلى خلقيدونيةـ ضاحية من ضواحي القسطنطينية على البر الآسيوي ـ وحاصرها توطئة لاقتحامها في محاولة لاختراق المدينة من تلك الناحية، ولكن انتشار مرض الجدري وفتكه بكثير من جند المسلمين علاوة على حلول الشتاء القارص جعل ظروف الجيش المحاصر صعبة للغاية، فما كان من فضالة بن عبيد الليثي، قائد الجيش البري إلا أن استنجد بمعاوية طالباً منه أن يمده بقوات إضافية، فأرسل معاوية رضي الله عنه مدداً من الجيش يضم بين أفراده مجموعة من الصحابة، أمثال: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد اله بن عمرو بن العاص، وأبو أيوب خالد بن يزيد الأنصاري، رضي الله عنهم[29]، وكان القائد العام لهذه الفرقة هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وعندما وصل يزيد بقواته إلى خلقيدونية انضم إلى الجيش المرابط هناك، وزحفوا جميعهم نحو القسطنطينية وعسكروا خلف أسوارها ضاربين عليها الحصار حوالي ستة أشهر ((من الربيع إلى الصيف)) وكان يتخلل هذا الحصار اشتباكات بين قوات القوتين، وأبلى يزيد في هذا الحصار بلاءً حسناً وأظهر من دروب الشجاعة والنخوة والإقدام ما حمل المؤرخين على أن يلقبوه بـ((فتى العرب))[30]. وكادت القوات الإسلامية أن تحرز انتصاراً لولا أنه واجهوا صعوبات جمة منها: الشتاء الغزير المطر والبرد القارص مما أدى إلى نقص الطعام والأغذية، وتفشي الأمراض بينهم، كما كان لمناعة أسوار القسطنطينية أثرها في تراجع المسلمين وإجبارهم مرة أخرى على العودة إلى بلاد الشام[31]، كما كانت النار التي فتحها المتحصنون بها على جيش المسلمين من أهم الأسباب التي عوقت قدرتهم على فتحها، فقد أحرقت النار كثيراً من سقى المسلمين[32]، ويعد غزو القسطنطينية من دلائل النبوة حيث أخبر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال:... أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم[33]، وقد اشترك في غزو القسطنطينية عدد من كبراء الصحابة رضوان اله عليهم، طلباً للمغفرة التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم[34]. [/align] |
[align=justify]رابعاً : وفاة أبي أيوب الأنصاري في حصار القسطنطينية:
هو خالد بن زيد بن كليب، أبو أيوب الأنصاري الخزرجي، شهد بدراً والعقبة والمشاهد كلها، وشهد مع علي رضي الله عنه قتال الخوارج وفي داره كان نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قدم المدينة مهاجراً من مكة فأقام عنده شهراً حتى بنى المسجد ومساكنه حوله، ثم تحوَّل إليها[1]، وقدوفد أبو أيوب على عبد الله بن عباس لما كان والياً على البصرة في عهد علي، فبالغ في إكرامه، وقال لأجزينَّك على إنزالك النبي صلى الله عليه وسلم عندك، فوصله بكل ما في المنزل فبلغ ذلك أربعين ألفاً[2]، وجاء في رواية لما أراد الانصراف خرج له عن كل شئ بها، وزاده تحفاً وخدماً كثيراً وأعطاه أربعين ألفاً وأربعين عبداً، إكراماً له لما كان أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وقد كان من أكبر الشرف له[3]. وهو القائل لزوجته أم أيوب حين قالت له: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ ـ أي في حديث الافك ـ فقال لها: أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ فقالت: لا والله. فقال: والله لهي خير منك فأنزل الله[4](( لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)) (النور ، الآية : 12) . وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي أيوب ومصعب بن عمير[5] رضي الله عنهما صاحب الفتح السلمي الكبير بالمدينة المنورة. وكانت وفاته ببلاد الروم قريباً من سور قسطنطينية، وكان في جيش يزيد بن معاوية وإليه أوصى وهو الذي صلى عليه[6]. وقد جاء في رواية: أغزى أبو أيوب، فمرض، فقال: إذا متُّ فاحملوني، فإذا صافقتم العدوَّ، فارموني تحت أقدامكم. أما إني سأحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة[7]، ودفن أبو أيوب عند سور القسطنطينية، وقالت الروم لمن دفنه: يا معشر العرب قد كان لكم الليلة شأن. قالوا: مات رجل من أكابر أصحاب نبينا، والله لئن نُبش، لاضُرِبَ بناقوس في بلاد العرب[8]، وبعد مجيء الدولة العثمانية وفتح القسطنطينية أصبحت مكانة أبي أيوب الأنصاري عظيمة في الثقافة العثمانية، فقد درج السلاطين العثمانيون يوم يتربعون على الملك أن يقيموا حفلاً دينياً في مسجد أبي أيوب، حيث يتقلدون سيفاً للرمز إلى السلطة، التي أفضت إليهم وكان لأبي أيوب رضي الله عنه عند الترك خواصهم وعوامهم رتبة ولي الله الذي تهوي إليه القلوب المؤمنة وينظرون إليه كونه مضيف رسول الله، فقد أكرمه وأعانه وقت العسرة كما أنه له مكانة مرموقة بين المجاهدين واعتبروها ضيافته لرسول الله وجهاده في سبيل الله أعظم مناقبه وأظهر مآثره[9]. وقد ترك أبو أيوب رضي الله عنه في وصيته بأن يدفن في أقصى نقطة من أرض العدو صورة رائعة تدل علىتعلقه بالجهاد، فيكون بين صفوفهم حتى وهو في نعشه على أعناقهم وأراد أن يتوغل في أرض العدو حياً وميتاً، وكأنما لم يكفه ما حقق في حياته فتمنى مزيد عليه بعد مماته، وهذا ما لا غاية بعده في مفهوم المجاهد الحق بالمعنى الأصح الأدق[10]. ومن الغريب ما نراه في حياتنا من حرص بعض المسلمين إذا مات خارج بلده أن يوصي أهله بأرجاعه ودفنه في أرضه والأرض الأرض الله والبلاد بلاد الله. وقد مدحه شعراء الأتراك في أشعارهم وهذا شيخ الإسلام، أسعد أفندي يشير أشارة لامحة إلى موقعه بقوله: شهد المشاهد جاهداً ومجاهداً ومكابـداً بحروبه مـا كابدا حتى أتـى بصلابة ومهـابة في آخر الغزوات هذا المشهدا قد مات مبطوناً غريباً غازيا فغدا شهيداً قبل أن يستشهدا كان أبو أيوب رضي الله عنه عندما خرج في غزوة الفسطنطينية قد تقدمت به السن وأصبح شيخاً كبير وكان يقول: قال الله تعالى: ((انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا...)) (التوبة ، الآية :41) لأجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً[11]، وكان أبو أيوب رضي الله عنه يعلم الناس الفهم الصحيح لآيات الله ومفاهيم الإسلام فعن أبي عمران التجيبي قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ـ يعني الجماعة الذين غزو من المدينة ـ والروم ملصقوا ظهورهم بحائط القسطنطينية، فحمل رجل على العدو فقال الناس مه، مه لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة: فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام قلنا: هلمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: ((وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) (البقرة ، الآية : 195) فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد قال أبو عمران، فلم يزال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية[12] فهذا الحديث يبين لنا خطورة الاشتغال بالأموال عن الجهاد في سبيل الله تعالى، وإن الهلاك الحقيقي هو هلاك الآخرة بسبب التهاون في واجبات الإسلام[13]. خامساً : الحصار الثاني للقسطنطينية : استطاع معاوية رضي الله عنه أن يضيق الخناق على الدولة البيزنطية بالحملات المستمرة والاستيلاء على جزر رودس وأرواد اللتين سبقت الإشارة إليهما، وقد كان لجزيرة أرواد والتي تسميها المصادر الأوربية كزيكوس أهمية خاصة لقربها من القسطنطينية، حيث اتخذ منها الأسطول الإسلامي في حصاره الثاني للمدينة أو حرب السنين السبع 54 ـ 60هـ قاعدة لعملياته الحربية، وذلك أن معاوية أعد أسطولاً ضخماً، وأرسله ثانية لحصار القسطنطينية، وظل مرابطاً أمام أسوارها من سنة 54هـ إلى سنة 60هـ[14]، فكانت الأساطيل تنقل الجنود من هذه الجزيرة إلى البر لمحاصرة أسوار القسطنطينية على حين يكمل الأسطول الحصار، واستمر الحصار البري والبحري للقسطنطينية من شهر أبريل إلى سبتمبر، تتخلله مناوشات بين أساطيل المسلمين وجنود البيزنطيين من الصباح إلى المساء، على حين تتراشق القوات البرية الإسلامية مع الجند البيزنطي المرابط على أسوار القسطنطينية بالقذائف والسهام، استمر هذا الوضع طيلة سبع سنوات[15]، حتى أرهقت البيزنطيين، وأذاقتهم ألوان الضنك والخوف وأنزلت بهم خسائر فادحة، وبالرغم من كل ذلك لم تستطع اقتحام المدينة أو التغلب على حراسها المدافعين عن أسوارها[16]، وكانت العوامل التي ساعدت القسطنطينية على الصمود عديدة منها: 1 ـ استعمال البيزنطيين في هذه المعارك ناراً سموها النار البحرية أو النار الأغريقية وهو عبارة عن مركب كيمائي مكون من النفط والكبريت، القار، وكان هذا المركب يشعل بالنار وتقذف به المراكب فيشعل فيه النار والعجيب أنه كان يزداد اشتعالاً إذا لامس الماء ومخترع هذا المركب الكيميائي الفتاك، الذي فتك بالعديد من سفن المسلمين وجنودهم هو مهندس سوري الأصل اسمه كالينكوس، كان في أوائل الأمر في خدمة المسلمين ثم هرب إلى القسطنطينية، ووضع خبرته في خدمة البيزنطيين[17]. وكان هذا السلاح الجديد من أهم العوامل التي ساعدت البيزنطيين على الصمود والاستمرار في الدفاع عن العاصمة وظل هذا السلاح سراً خفياً، لا يعرفه إلا المتخصصون في صناعته، وكان الأباطرة يمدون حلفاءهم بهذا السلاح دون أن يطلعوهم على سره،، ومرت أربعة قرون، وهو سلاح غامض لم يعرف كنهه سوى مخترعه، وفي القرن العاشر المسيحي، الرابع الهجري، عرف الباحثون سر هذه النار، وبينوا العناصر التي تكونت منها، والوسائل التي يمكن إخمادها بها، وتطور هذا السلاح حتى كان منه ما يشبه المفرقعات، وكانت تلقى على الأعداء بواسطة المجانيق، أو أنابيب نحاسية تقذف من السفن، وكان لها صوت مدو يصحبه دخان كثيف مسبوق بلهب خاطف، وشغل هذا الاختراع عقول العلماء المسلمين، فراحوا يبحثون ويفكرون، حتى عرفوا سره في مطلع القرن الحادي عشر المسيحي، الخامس الهجري، وأدخلوا عليه تعديلات جعلته أشد فتكاً، وأقوى أشراً من النار الأغريقية واستخدم المسلمون هذا السلاح الفتاك في حروبهم مع الصليبيين بأرض الشام، وكان وقعه شديداً على الصليبيين، ونشر فيهم الرعب والفزع، ومن ذلك الحين عرفت هذه النار ((بالنار[18] الإسلامية))، يقول الدكتور إبراهيم العدوي: لأن الأعداء عجزوا عن معرفة هذا السلاح الجديد الذي احتضنه المسلمون، وظل استخدام النار الإسلامية سائد حتى القرن الرابع عشر المسيحي،الثامن الهجري حيث دخلت عليها تطورات وتعديلات كثيرة، أدت أخيراً إلى صناعة البارود. ومن ثم تعتبر النار الإسلامية أساس هذا الانقلاب الخطير في أساليب الحرب التي عرفها العالم الحديث وبرهن المسلمون على أنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي أمام أي سلاح جديد يفاجئهم به الأعداء، وأنهم قادرون على استغلاله فيما بعد لما فيه صالحهم ونفعهم[19]. ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين لا يجاد حل للتفوق العسكري الأمريكي والغربي عليهم. 2 ـ السلسلة الحديدية الضخمة، الحاجزة ما بين القرن الذهبي ميناء القسطنطينية وبين الشاطئ الآسيوي، حيث كان يتم إقفالها في حالات الحرب أو التهديد بالحصار[20]. 3 ـ الموقع الجغرافي في الفريد الذي وصفه المؤرخ بينز بأنه ((استقر على شبه الجزيرة البارز من أوروبة، والذي يكاد يلاقي الشاطئ الآسيوي وفي وسط الطريق بين الحدود الشمالية والشرقية في بقعة يحميها مدّ مرمرة العنيف من الهجمات البحرية. 4 ـ الأسوار الداخلية والخارجية الضخمة والمزوّدة بعدد كبير من أبراج المراقبة التي كان لها دور في كشف التحركات المعادية وإبطال عنصر المفاجأة فيها . 5 ـ ضعف التجربة الأموية في حرب الحصار للمدن المتداخلة مع مياه البحر، مثل القسطنطينية، حيث تطلب ذلك أسلحة متطورة بأساليب جديدة في القتال، لم تكن في متناول القوات الأموية حتى ذلك الحين[21]. 6 ـ دبلوماسية الدولة البيزنطية والإسلامية: لقد تظاهرت عدة عوامل ساهمت في منع سقوط القسطنطينية منها، مناعة المدينة الطبيعية وقوة تحصيناتها، والنار الإغريقية، ورداءة الطقس وقسوته، والتيارات المائية الشديدة الانحدار الآتية من البحر الأسود لتحول دون استيلاء المسلمين على المدينة، رغم صبرهم وبسالتهم وتحملهم المشاق وفي النهاية دعت الظروف الداخلية في كل من الدولتين إلى إنهاء الحصار، فدخلوا في مفاوضات انتهت بعقد صلح بينهما،عاد بمقتضاه الجيش الإسلامي والأسطول إلى الشام.. ففيما يتعلق بالدولة الأموية أدرك معاوية أن مدة الحصار قد طالت دون أن يتحقق الهدف، ولما كانت سنّه قد كبرت، وأحس بدنو أجله، رأى من المصلحة أن يعود هذا الجيش الكبير المرابط حول المدينة تحسباً لأي مشاكل قد تواجه ابنه وخليفته يزيد بعد موته، فيكون وجود هذا الجيش عنده ضرورياً لضبط الأمور داخلياً، كذلك كانت الدولة البيزنطية تواقة إلى إنهاء هذا الحصار عن عاصمتها، فقد أرهقها وأنهك قواها، ولذلك يقال: إنها أرسلت إلى دمشق رجلاً يدعى يوحنا من أشهر رجالها الدبلوماسيين، وأكثرهم ذكاء وفطنة وحضر هذا الرجل جلسات كثيرة تضم خيرة أبناء البيت الأموي وأبدى فيها من الإجلال للدولة الإسلامية، ما أكسبه تقدير معاوية واحترامه ونجحت مفاوضاته في عقد صلح بين الطرفين، وبعد إبرام المعاهدة أخذت القوات الإسلامية المرابطة براً وبحراً أمام القسطنطينية طريق العودة إلى الشام، وتركت عاصمة البيزنطيين تئن من جراحها المثخنة[22]. [/align] |
[align=justify]سادساً: العلاقات السلمية بين الدولتين:
رغم أن الطابع العام الذي ميز العلاقات بين الدولة الإسلامية والبيزنطية في عصر الخلافة الراشدة والعصر الأموي كان عسكرياً نتيجة لحركة الجهاد واستمرارها في العهد الأموي من حملات الصوائف والشواتي طوال السنة تقريباً، وكذلك الدور الجهادي الذي كانت تؤديه مدن الثغور، إلا أن هذا لا يعني أن الطابع السلمي المتمثل فيما جرى من مفاوضات ومداولات كان مفقوداً فقد اتخذت العلاقات السلمية بين الدولتين، الإسلامية والبيزنطية في العهد الأموي أشكالاً مختلفة منها المراسلات، وتبادل الخبرات، والمناظرات في المجالات الثقافية، وتبادل الأسرى والسفراء[1]. 1ـ المراسلات: فقد تم مراسلة قيصر الروم من قبل معاوية في فترة الفتنة وتوصل معه إلى عقد صلح على أن يؤدي معاوية له مالاً وأن يأخذ كل طرف رهناً من الطرف الآخر[2]، وارتهن معاوية منهم رهناء فوضعهم ببعلبك، ثم إن الروم غدرت فلم يستحل معاوية والمسلمون قتل من في أيديهم من رهنهم، وخلوا سبيلهم وقالوا: وفاء بغدر خير من غدر بغدر[3]،والمهم أن مثل هذه الحوادث يجب أن تُقدَّر بقدرها فلا يجوز للدولة الإسلامية ـفي الأصل ـ أن تتهاون وتتكاسل عن الأخذ بأسباب القوة حتى تصل إلى مرحلة من الضعف تمكّن الأعداء منها أو يطمع فيها الطامعون، بل الأصل في دولة الإسلام أن تكون دولة قوية يهابها الأعداء، فإذا مرت بها فترة ضعف أو احتاجت إلى دفع ضرر عليها بمال أو نحوه فذلك يدخل من باب ((الضرورات)) وليس حكماً عاماً وما (( أبيح للضرورة يُقدّر بقدرها، كما قرر الفقهاء[4]، فلا ينبغي عقد صلح دائم مع العدو بدفع المال إليه، بل يجب أن يكون الصلح والدفع لفترة ضعف المسلمين أو حالة الضرورة، مع العمل الجاد على رفع حالة الضعف وبناء قوة الأمة وقدراتها المطلوبة بكل جدية وعزم، فإذا زالت يجب على المسلمين أن يمتنعوا من عقد أي معاهدة فيها ذلة أو مفسدة لهم، والخلاصة: إنه يجوز للدولة الإسلامية عقد معاهدة اضطرارية تُقدّر بقدرها وتنتهي بانتهاء حالة الضرورة التي عُقدت من أجلها[5]. لم تقتصر المراسلات على الجانب العسكري فقط، ولكن رويت بعض المراسلات التي تتناول المناظرة في الجوانب العلمية والأمور العامة، فقد كتب قيصر الروم إلى معاوية سلام عليك أما بعد: فانبئني بأحب كلمة إلي الله وثانية وثالثة ورابعة وخامسة وعن أربعة أشياء، فيهن روح ولم يرتكضن في رحم، وعن قبر يسير صاحبه، ومكان في الأرض لن تصبه الشمس إلا مرة واحدة وغير ذلك من الأسئلة، فكتب إليه معاوية: أما أحب كلمة إلى الله، فلا إله إلا الله لا يقبل عملاً إلآ بها، وهي المنجية، والثانية سبحان الله صلاة الخلق، والثالثة الحمد لله كلمة الشكر والرابعة الله أكبر، فواتح الصلوات والركوع والسجود، والخامسة لا حول ولا قوة إلا بالله. والأربعة فيهن روح ولم يرتكضن في رحم فآدم، وحواء وعصا موسى والكبش، والموضع الذي لم تصله شمس إلا مرة واحدة، فالبحر حين انفلق لموسى وبني إسرائيل والقبر الذي سار بصاحبه، فبطن الحوت الذي كان فيه يونس[6]. 2 ـ تبادل الخبرات : وهي مجال تبادل الخبرات حاول كل من العرب والروم الاستفادة من خبرات الطرف الثاني في مجالات الحياة كافة، معتمدين على الاقتباس تارة، والإبداع تارة أخرى، على أن ما أخذه المسلمين من الروم في هذا المجال لم يكن مجرد اقتباس، بل طور كثيراً بأن أضيف إليه أحياناً وشذب في أحيان أخرى، حتى أصبح يتماشى مع روح الدين الإسلامي، ويتمثل ذلك في معالم النهضة العمرانية المتمثلة في اهتمام الأمويين بالمساجد والتوسع في إقامتها[7]، وقد استخدم معاوية عدداً من الروم ممن كانوا في الإدارة البيزنطية في بلاد الشام قبل فتحها، كتّاباً في الأمور الإدارية، حيث عين سرجون بن منصور الرومي كاتباً له، كما استخدم بن اثال النصراني طبيباً له[8]، وكان معاوية رضي الله عنه متسامحاً مع النصارى حتى شهد له بروكلمان بهذا التسامح: واختلطوا بالمسيحية اختلاطاً بعيداً... وفي بلاط معاوية لعب سرجون بن منصور النصراني دور المستشار المالي المتنفذ وحفظ النصارى للخليفة معاوية هذا التسامح واخلصوا له، وأعظموه إعظاماً، لاتزال تقع عليه في الروايات النصرانية، وحتى في كتب التاريخ الأسبانية[9]. 3 ـ تأثر الدولة البيزنطية بالتسامح الإسلامي: يذكر العدوي: إن انعكاس التسامح الديني مع النصارى ظهر تأثيره على الدولة البيزنطية، إذ من المعروف، إنها كانت تضظهد رعاياها من أصحاب المذاهب الأخرى وتعاملهم معاملة قاسية وتعتبرهم هراطقة، وبظهور دولة الإسلام ودخول كثير من المسيحيين في التبعية لها، اتجهت الإمبراطورية البيزنطية إلى تجديد أساليبها وسياستها، وجعلت من نفسها صاحبة الحق في رعاية المسيحيين في بلاد الشام[10]، وكان معاوية رضي الله عنه يجلس إلى جماعات المسيحيين من المذاهب المختلفة ويستمع إلى جدلهم الديني ومناقشاتهم المختلفة[11]، وبهذا ضربت الدولة الإسلامية الأموية مثلاً سامياً، يدل على عظمة الرسالة الإسلامية ومدى التسامح الديني تجاه رعاياها من غير المسلمين وابتعادها عن التعنت والتعصب الديني الذي يتهمهم به قسم من المستشرقين[12]. 4 ـ آداب السفراء: لم يكن نظام الموفدين والسفراء مقتصراً على العهد الأموي بل له امتداداته من عهد(رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، فكان السفير يختار وفق مواصفات خاصة تتمثل في قوة شخصيته ونباهته ورجاحة عقله، وكان السفير من كلتا الدولتين، يزود بخطاب يحمل تعريفاً بشخصية الرسول والغرض من رسالته وتخويله حق التحدث رسمياً باسم دولته[13]. ولم يكن الموفدون والسفراء مدار اهتمام الدولة الإسلامية الأموية فقط، بل اهتم الروم كذلك بسفرائهم أيضاً، فكانوا يختارونهم من رجال الدين الدهاة العارفين بأمور دينهم وأصحاب قدرة على النقاش والجدال، فصيحي اللسان، عارفين بالعربية إضافة إلى لغتهم الأصلية[14]، وكان الخلفاء والملوك يهتمون بالسفراء والمبعوثين، ويستقبلون في قصور الخلفاء وتسمع آراؤهم فيها، فحين سأل معاوية رسول البيزنطيين، بعد أن فرغ من بناء قصره المعروف بالخضراء، أبدى عليه ملاحظاته قائلاً: أما أعلاه فللعصافير، وأما أسفله فللفار وعندما أدرك معاوية صحة انتقاد السفير وصواب رأيه جعله يعيد بناء قصره بالحجارة[15]، وأما البيزنطيون فكانوا يستقبلون السفراء العرب في كنيسة أيا صوفيا وقناطير المياه والأديرة حول القسطنطينية[16]، وعند رجوع السفير كانت تقدم له الهدايا والمجوهرات الثمينة إكراماً له ولمن بعثه[17]، ويبدو أن الهدف من وراء ذلك عند كلتا الدولتين، هو إظهار صيغ الاحترام المتبادل والنيات الحسنة في إقامة الصلح وإنابة السلام وكذلك إظهار كل دولة للأخرى مدى قوتها ورخائها، كي تكون محط أنظار السفير ومهابته من أجل وصف ما يشاهده إلى من بعثه عند رجوعه إليه[18]، ورغم ما أشير إليه من الصفات التي يجب توفرها في السفير إلا أنه يبقى محط أنظار الخليفة أو الملك وتراقب تصرفاته وحركاته خشية الوشاية والكيد وإشعال نار الحرب وهذا ما حدث مع سفير معاوية إلى القسطنطينية الذي أرسل لعقد هدنة مع الروم وكان السفير مزود بتعليمات مشددة تقتضي ألا يخفف من شروط الهدنة مع البيزنطيين ولكن لم يستطع هذا السفير تنفيذ وصية معاوية وتهاون في عقد الهدنة حتى جاءت في صالح البيزنطيين[19]، فلما عاد عزله من منصبه[20]. [/align] |
[align=justify]سابعاً: الجراجمة في عهد معاوية رضي الله عنه:
في أثناء الحروب والغارات بين المسلمين والبيزنطيين، في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كان هناك طرف ثالث يشارك في النزاع القائم بينهما، يطلقون على أنفسهم اسم((الجُرَاجمِة)) نسبة إلى مدينة((الجُرَجُومة))[1]، وأصولهم غير معروفة، ويشير البلاذري إلى أنهم كانوا يدينون بالنصرانية وأنهم كانوا لذلك يتبعون((بطريق أنطاكية وواليها))[2]. وعندما فتح المسلمون بلاد الشام أرسل أبو عبيدة عامر بن الجراح حبيب بن مسلمة الفهري: فغزا الجرجومة فلم يقاتلها أهلها ولكنهم بادروا بطلب الأمان والصلح، فصالحوه على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل اللكام، وأن لا يُؤخَذوا بالجزية، وأن يُنَفَّلوا أسلاب من يقتلون من عدوّ المسلمين إذا حضروا حرباً معهم في مغازيهم[3]. ولكن الجراجمة لم يلبثوا أن نقضوا اتفاقهم هذا، وصنعواً حاجزاً بين المسلمين والبيزنطيين واستطاعوا عرقلة سير الفتوحات الإسلامية في آسيا الصغرى، فكانوا متذبذبين مرّة مع المسلمين وأخرى مع الروم وقد بقيت شوكة في ظهر الجيوش الإسلامية ليس في عهد معاوية لكن حتى عهد عبد الملك، ثم ما لبثت أن تفرقت في بلاد الشام وآسيا الصغرى، فخفَّ خطرها[4]. وعلى أية حال، فلابد من القول بأن الانشاءات والمجهودات التي قام بها معاوية رضي الله عنه في سبيل الوصول إلى القسطنطينية وان كانت لم تثمر خلال حياته إلا أنها لعبت دوراً أساسياً في حفز من جاؤوا بعده من الخلفاء لأن يكملوا المسيرة التي بدأها[5]. ثامناً: أبو مسلم الخولاني من الغزاة في أرض الروم: وهذا مثال من عظماء الرجال في ذلك العصر الذين ساهموا في صياغة نموذج إسلامي في السلوك والتعامل مع الحكام والمشاركة الإيجابية في المجتمع وحركة الفتوحات. قال عنه الذهبي: سِّيد التابعين وزاهد العصر واسمه عبد الله بن ثوب على الأصح[6]قدم المدينة وقد قبض النبي صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر[7]، وكانت له مواقف محموده في ضد الأسود العنسي الذي تنبَّأ باليمن، وثبت أبو مسلم على الإسلام فبعت إليه الأسور، فأتاه بنار عظيمة، ثم إنَّه ألقى أبا مسلم فيها، فلم تضُرَّه، فقيل للأسود: إن لم تَنْفِ هذا عنك أفسد عليك من اتَّبعك. فأمره بالرحيل، فقدم المدينة فأناخ راحلته ودخل المسجد يُصليِّ، فبصُر به عمر رضي الله عنه، فقام إليه، فقال: ممَّن الرجل؟ قال: من اليمن. قال: ما فعل الذي حَرقُه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب. قال: نشدتك بالله، أنت هو؟ قال: اللهمَّ نعم: فاعتنقه عمر وبكى، ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين الصِّدِّيق. فقال: الحمدلله الذي لم يُمتني حتَّى أراني في أمة محمد من صنع به كما بإبراهيم الخليل[8]. وهذا التابعي الكبير كان من أهل الشام في عهد معاوية وقد تأثر به خلق كثير بها وكان رحمه الله كثير العبادة، فعن أبي العاتكة: قال: علَّق أبو مسلم سوْطا في المسجد[9]، فكان يقول: أنا أولى بالسَّوط من البهائم، فإذا فتر مَشَقَ[10]، ساقيه سوطا أو سوطين. وروى أنه كان يقول: لو رأيت الجنة عياناً أو النَّار عياناً ما كان عندي مستزاد[11]، وعن شرحييل، أن رجلين أتيا أبا مسلم، فلم يجداه في منزله، فأتيا المسجد، فوجداه يركع فانتظراه فأحصى أحداهما أنه ركع ثلاث مئة ركعة[12]، وكان أبو مسلم، إذا استسقى سُقي[13]، وكان مستجاب الدعوة فعن محمد بن زياد، عن أبي مسلم، أن امرأة خَبَّبتَ[14]، عليه امرأته،فدعا عليها،فعميت، فأتته فأعرضت وتابت، فقال: اللهُمَّ إن كانت صادقة، فاردُد بصرها، فأبصرت[15]وشارك رحمه الله بالجهاد في أرض الروم وعن أبي مسلم الخولاني، أنَّه كان إذا غزا أرض الروم، فمُّروا بنهر فقال: أجيزوا بسم الله، ويمر بين أيديهم، فيمرون بالنهر الغَمرْ، فربما لم يبلغ الدَّوابِّ إلا الرُّكب، فإذا جازوا قال: هل ذهب لكم شيء؟ فمن ذهب له شيء فأنا ضامن له، فألقى بعضهم مِخْلاته عمداً. فلما جاوزوا قال الرجل: مِخْلاتي وقعت، قال: اتَبعني فاتّبعه، فإذا بها معلَّقةٌ يعود في النهر، قال: خذها[16]، وكان الولاة يتيَّمنون بأبي مسلم، ويؤَمِّرونه على المقدِّمات[17]، وقد توفي رحمه الله بأرض الروم، وكان شتا مع بُسر بن أبي أرطاة فأدركه أجله، فعاده بُسر في مرضه فقال له أبو مسلم: يا بُسر، اعقد لي على من مات في هذه الغزاة فإني أرجو أن آتي بهم يوم القيامة على لوائهم[18]، وعندما سمع معاوية رضي الله عنه بموته قال: إنما المصيبة كل المصيبة بموت أبي مسلم الخولاني وكريب بن سيف الأنصاري[19]، وكان رحمه الله من أهل الحكمة فقد روي عن أبي مسلم الخولاني في مجال الرَّضى التام بقضاء الله وقدره، قوله: لأن يولد لي مولود يحسن الله عز وجل نباته حتى إذا أستوى على شبابه وكان أعجب ما يكون إليّ قبضه منيّ أحب إليّ من أن يكون لي الدنيا وما فيها[20]. وهذا دليل على كمال توحيد أبي مسلم عبد الله بن ثوب الخولاني حيث جاوز مرحلة الصبر على أقدار الله المؤلمة إلى مرحلة الرضى بقضاء الله، فاعتبر المصيبة بفقد ولد قد أحسن الله نباته وكان على خير ما يتمناه المؤمن شباباً صلاحاً أحبّ إليه من الدنيا وما فيها[21]. هذه بعض الملامح العريضة على الجبهة الشامية المتعلقة بالجهاد في عهد معاوية رضي الله عنه. [/align] |
[align=justify]المبحث الثاني: فتوحات الشمال الأفريقي في عهد معاوية رضي الله عنه:
أولاً: حملة معاوية بن حديج رضي الله عنه: معاوية بن حديج الكندي له صحبة ورواية قليلة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد روي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان في شيء شفاء فشربة عسل أو شرطة محجم، أو كية نار، وما أحب أن أكتوي[1]، وكان رضي الله عنه ملكاً مطاعاً من أشراف كندة[2]، وكان من خيرة الأمراء، فعن عبد الرحمن بن شماسة قال: دخلت على عائشة، فقالت: ممن أنت؟ قلت من أهل مصر، قالت: كيف وجدتم ابن حُديج في غزاتكم هذه؟ قلت: خير أمير، ما يقف لرجل منا فرس ولا بعير إلا أبدل مكانه بعيراً، ولا غلاماً إلا أبدل مكانه غلاماً. قالت: إنه لا يمنعني قتله أخي أن أُحدثكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم من ولي من أمر أُمتي شيئاً فرفق بهم فأرفق به، ومن شقّ عليهم فأشقق عليه[3]، وبعد أن استتب الأمر لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كانت جبهة شمال أفريقيا، من أولى الجبهات التي وجه إليها اهتمامه، لأنها تتاخم حدود مصر الغربية من ناحية ومن ناحية أخرى فهي تخضع لنفوذ الدولة البيزنطية، العدو اللدود للمسلمين والتي صمم أمير المؤمنين معاوية على تضييق الخناق عليها، وعدم إعطائها فرصة لالتقاط أنفاسها، ففي الوقت الذي واصل فيه ضغطه عليها من الشرق، وزحفه على جزرها في البحر المتوسط تمهيداً للوصول إلى عاصمتها القسطنطينية ـ كما سبق ذكره ـ نراه قد قرر أن يطوقها من الجنوب، من شواطي شمال إفريقيا التي كانت تعتبرها من أملاكها، ففي أول سنة من حكمه 41هـ أرسل معاوية بن حديج على رأس حملة إلى إفريقيا ثم أرسله ثانية سنة 45هـ على رأس حملة من عشرة الآف مقاتل، فمضى حتى دخل إفريقيا وكان معه عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، ويحيى بن الحكم بن العاص، وغيرهم من أشراف قريش، فبعث ملك الروم إلى إفريقية بطريقاً يقال له: نقفورا في ثلاثين ألف مقاتل، فنزل الساحل، فأخرج إليه معاوية بن حديج عبد الله بن الزبير في خيل كثيفة، فسار حتى نزل على شرف عال ينظر منه إلى البحر بينه وبين مدينة سوسة[4]، اثنا عشر ميلاً، فلما بلغ ذلك نقفوراً أقلع من في البحر منهزماً من غير قتال، ورجع بن الزبير إلى معاوية بن حديج وهو بجبل القرن، ثم وجه ابن حديج عبد الملك بن مروان في ألف فارس إلى مدينة جلولاء[5]فحاصرها وقتل من أهلها عدداً كثيراً حتى فتحها عنوة، وأغزى معاوية بن حديج جيشاً في البحر إلى صقلية في مائتي مركب، فسبوا وغنموا وأقاموا شهراً، ثم انصرفوا إلى إفريقيا بغنائم كثيرة[6]، وبعد هذه الفتوح عاد معاوية بن حديج إلى مصر دون أن يترك قائداً أو عاملاً، ويفهم من هذا التصرف ومن سلوك معاوية بن حديج أثناء هذه الغزوة أن البربر أهل البلاد كانوا قد أصبحوا حلفاء للمسلمين على الروم، وأن المسلمين كانوا يكتفون إلى ذلك الحين بإبعاد الخطر الرومي من هذه الناحية[7]وعندما استعاد معاوية بن حديج طرابلس الغرب ترك فيها رويفع بن ثابت الأنصاري والياً عليها سنة 46هـ فغزا منها إفريقيا ((تونس)) ودخلها سنة 47هـ ، وفتح جزيرة جربة التي كان يسكنها البربر[8]، وقد تحدثت المراجع عن كثرة السبايا في هذه الغزوة وقام رويفع بن ثابت الأنصاري بتذكير المسلمين في هذه بأحكام وطء السبايا، حيث قال: أما أني لا أقول لكم إلا ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين: لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماءه زرع غيره[9]، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع[10]على امراة من السبي حتى يستبرئها[11]، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما[12]حتى يُقسم[13]. وقد بقي في ولاية طرابلس الغرب ثم ولاه مسلمة بن مخلد ولاية مصر وبرقة، وبقي عليها أميراً ومات بها سنة 56هـ وقبره معروف في الجبل الأخضر ببرقة في مدينة البيضاء وهو آخر من توفي من الصحابة هناك، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أحاديث، وان فقيهاً من أصحاب الفتيا من الصحابة وكان خطيباً مفوهاً[14] ثانياً: عقبة بن نافع وفتح إفريقية: هو عقبة بن نافع القرشي الفهري، نائب إفريقيا لمعاوية وليزيد، وهو الذي أنشأ القيروان واسكنها الناس[15]، وكان ذا شجاعة، وحزم، وديانة، لم يصحّ له صحبة، شهد فتح مصر، واختطّ بها[16]، فقد اسند معاوية بن أبي سفيان قيادة حركة الفتح في إفريقية إلى هذا القائد الكبير الذي خلد التاريخ اسمه في ميدان الفتوحات، وكان عقبة قد شارك في غزو إفريقية منذ البداية مع عمرو بن العاص واكتسب في هذا الميدان خبرات واسعة، وكان عمرو بن العاص قد خلفه على برقة عند عودته إلى الفسطاط، فظل فيها يدعو الناس إلى الإسلام، وقد جاء إسناد القيادة إلى عقبة بن نافع خطوة موفقة في طريق فتح شمال إفريقيا كله، ذلك أنه لطول إقامته في برقة وزويلة وما حولها، منذ فتحها أيام عمرو بن العاص، أدرك أنه لكي يستقر الأمر للمسلمين في إفريقية ويكف أهلها عن الارتداد، فلا بد من بناء قاعدة ثابتة للمسلمين ينطلقون منها في غزواتهم، ويعودون إليها ويأمنون فيها على أهلهم وأموالهم، فلما أسند إليه معاوية بن أبي سفيان قيادة الفتوحات في إفريقية، أرسل إليه عشرة آلاف فارس وانضم إليه من اسلم من البربر فكثر جمعه[17]، وسار في جموعة حتى نزل بمغمداش من سرت[18]، فبلغه أن أهل ودان[19] قد نقضوا عهدهم مع بسر بن أبي أرطأة الذي كان عقده معهم حين وجهه إليهم عمرو بن العاص ومنعوا ما كانوا اتفقوا عليه من الجزية، فوجه إليهم عقبة قسماً من الجيش عليهم عمر بن علي القرشي وزهير بن قيس البلوي، وسار معهم بالقسم الآخر من الجيش واتجه إلى فزان[20]، فلما دنا منها دعاهم إلى الإسلام فأجابوا[21]، ثم واصل فتوحاته، فتح قصور كُوّار[22]، وخاور[23]، وغدامس[24]، وغيرها[25]، ومما يلاحظ أن عقبة تجنّب في مسيرة المناطق الساحلية، فقصد المناطق الداخلية يفتحها بلداً بلداً، ويبدو أنه فعل ذلك ليأخذ البربر إلى جانبه ويقيم جبهة داخلية تحيط بالبيزنطيين على الساحل وتمدّه بالطاقات البشرية للاستقرار والإطاحة بالوجود البيزنطي[26]. [/align] |
[align=justify]ثالثاً : بناء مدينة القيروان :
في سنة 50هـ بدأت إفريقية الإسلامية عهداً جديداً مع عقبة بن نافع، المتمرس بشؤون إفريقية منذ حداثة سنّه، فقد لاحظ كثرة ارتداد البربر، ونقضهم العهود، وعلم أن السبيل الوحيد للمحافظة على إفريقية ونشر الإسلام بين أهلها هو إنشاء مدينة تكون محط رحال المسلمين، ومنها تنطلق جيوشهم فأسس مدينة القيروان وبنى جامعها[1]، وقد مهد عقبة قبل بناء المدينة لجنوده بقوله: إن إفريقية إذا دخلها إمام أجابوه إلى الإسلام، فإذا خرج منها رجع من كان أجاب منهم لدين الله إلى الكفر، فأرى لكم يا معشر المسلمين أن تتخذوا بها مدينة تكون عزاً للإسلام إلى آخر الدهر، فاتفق الناس على ذلك وأن يكون أهلها مرابطين، وقالوا: نقرب من البحر ليتم لنا الجهاد والرباط، فقال عقبة إني أخاف أن يطرقها صاحب القسطنطينية بغتة فيملكها، ولكن اجعلوا بينها وبين البحر ما لا يوجب فيه التقصير للصلاة فهم مرابطون[2]، ولم يعجبه موضع القيروان الذي كان بناه معاوية بن حديج قبله، فسار والناس معه حتى أتى موضع القيروان اليوم[3]، وكان موضع غيضة لا يرام من السباع والأفاعي، فدعا عليها، فلم يبق فيها شئ ، وهربوا حتى أن الوحوش لتحمل أولادها[4]، وعن يحي بن عبد الرحمن بن حاطب قال: يا أهل الوادي! إنا حالون إن شاء الله، فظعنوا، ثلاث مرات فما رأينا حجراً ولا شجراً إلا يخرج من تحته دابة حتى هبطنا بطن الوادي: ثم قال للناس: انزلوا بسم الله[5]، وكان عقبة بن نافع مجاب الدعوة[6]، وقد رأى قبيل من البربر كيف أن الدواب تحمل أولادها وتنتقل، فأسلموا ثم شرع الناس في قطع الأشجار وأمر عقبة ببناء المدينة فبنيت وبني المسجد الجامع، وبنى الناس مساجدهم ومساكنهم وتم أمرها سنة 55هـ وسكنها الناس، وكان في الناس، وكان في أثناء عمارة المدينة يغزو ويرسل السرايا، فتغير وتنهب ودخل كثيراً من البربر الإسلام، واتسعت خطة المسلمين وقوي جنان من هناك من الجنود بمدينة القيروان وأمنوا واطمأنوا على المقام فثبت الإسلام فيها[7]، وتم تخطيط مدينة القيروان على النمط الإسلامي، فالمسجد الجامع ودار الإمارة توأمان، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فهما دائماً إلى جوار بعضهما، ويكونان دائماً في قلب المدينة التي يخطتها المسلمون ويرتكزان في وسطها[8]، وبينهما يبدأ الشارع الرئيسي للقيروان، الذي سيسمى باسم السماط الأعظم، ثم ترك عقبة فراغاً حول المسجد ودار الإمارة في هيئة دائرة واسعة، ثم قسمت الأرض خارج الدائرة إلى خطط القبائل، ليكون استمراراً للشارع الرئيسي في الاتجاهين إلى نهاية المدينة، وانجفل البربر من نواحي إفريقية إلى القيروان، وسكنوا حولها وكان الكثير منهم دخل في الإسلام، وشرعوا في تعلم اللغة العربية والقرآن الكريم وأمور دينهم وهكذا نشاهد فيما بين سنتي 50 و55هـ حركة قوية بدأت في تعريب الشمال الأفريقي[9]. 1 ـ الخصائص المتوفرة في موضع القيروان : كانت الدوافع السياسية والعسكرية والإدارية والدعوية دوافع قوية في قرار عقبة في اتخاذ موقع القيروان، فقد تميز موقع القيروان بالآتي : أ ـ بأنه لا يفصله عن مركز القيادة العسكرية في الفسطاط إي بحر أو نهر، فهو يقع على الطريق البري الذي يربط بين الفسطاط (بمصر) وبين المغرب، ويبدو أن عقبة رحمه الله أخذ بنظرية عمر بن الخطاب في بناء الأمصار والمعسكرات بألا يفصلها فاصل من نهر أو بحر أو جسر عن المدينة أو مركز القيادة، وأن تكون على طرف البر أو أقرب إلى البر والصحراء، ب ـ موافقة الموضع لذهنية العرب ومتطلباتهم الضرورية. وتتجلى هذه الخصوصية من خلال قراءة توصية عقبة بن نافع في أن يكون الموضع قريباً من السبخة: فإن أكثر دوابكم الإبل تكون أبلكم على بابها في مراعيها[10]..، وكذلك في الكلمات التي عبر عنها أصحاب عقبة عندما استجمع رأيهم في الموضع المنتخب، إذ قالوا: نحن أصحاب أبل ولا حاجة لنا بمجاورة البحر[11]. جـ ـ بأنه يتمتع ببعض الانتاجات والموارد الذاتية، فالمنطقة التي كان فيها موضع القيروان عبارة غيضة، كما أورد الجغرافيون، وكان مواجهاً لجبال أوراس، معقل قبائل البربر، إذن، فإنه كان في بقعة زراعية تتضمن بعض المحاصيل التي تكفل للمجاهدين المسلمين مورداً غذائياً مهماً[12]. س ـ صحيح أن المشكلة الرئيسية التي جابهتها القيروان بعد اتخاذها كانت متمثلة بالموارد المائية، كما هي الحال في مدينة البصرة، مع وجود فارق بين المصرين، فإن مياه البصرة كانت مع الأنهار غير أنها مالحة. أما مياه القيروان الصالحة للشرب فكانت تعتمد على مصدرين، الأول منهما الأمطار حيث كانت تخزن في صهاريج يطلق عليها اسم (المواجل) ، وثانيها مياه وادي السراويل في قبلة المدينة، لكنه كان مالحاً. لذلك فإن بعض المؤرخين حدد مصدر مياه القيروان قائلاً: وشربهم من ماء المطر. إذا كان الشتاء ووقعت الأمطار والسيول دخل ماء المطر من الأودية إلى برك عظام يقال لها (المؤجل).. ولهم وادٍ يسمى وادي السراويل في قبلة المدينة يأتي فيه ماء مالح.. يستعملونه فيما يحتاجونه[13]، ومع ذلك، فإن هذه المشكلة المعقدة يبدو أنها أخذت تتضاءل تدريجياً إلى حد ما[14]. 2 ـ القيروان مركز الحضارة الإسلامية بالمغرب وعاصمتها العلمية : لم تبدأ الحياة العلمية المركزة إلا بعد تأسيس القيروان سنة 50هـ، فسرعان ما أصبحت القيروان مركز الحضارة الإسلامية بالمغرب وعاصمته العلمية، منها انطلق الدعاة وإليها رحل طلاب العلم من الآفاق ومما رشح القيروان في هذه المكانة ما يلي: أ ـ إن إنشاء مدينة القيروان يعني أن إفريقية أصبحت ولاية إسلامية جديدة وجزءاً لا يتجزأ من العالم الإسلامي الكبير، وبالتالي سيعيش المسلمون فيها حياتهم العادية، على رأسها التعليم وبث الثقافة الإسلامية، فإن القيروان مدينة رسالة وعلى أهلها تلقى مسئولية نشر الإسلام في المغرب، فكما كانت منطلق الجيوش الفاتحة، كانت كذلك منطلق الدعاة إلى الأنحاء لنشر الإسلام، وقد شعر الصحابة بهذه المكانة للقيروان منذ تأسيسها[15]. ب ـ لقد تم بناء الجامع وهو المدرسة الأولى في الإسلام، ولا شك أن الصحابة الذين كانوا في جيش عقبة قد جلسوا للتدريس فيه على النمط الموجود في مدن المشرق آنذاك، فقد كان مع عقبة أثناء تأسيس القيروان ثمانية عشر صحابياً[16]، وقد مكثوا فيها خمس سنوات كاملة كان عملهم فيها، ولا شك، نشر اللغة العربية، وتعليم القرآن والسنة في جامع القيروان، وذلك أثناء بناء مدينة القيروان، حيث لم تكن هناك غزوات كبيرة تتطلب غياباً طويلاً عن القيروان، أما في غزوة عقبة الثانية فقد كان معه خمسة وعشرون صحابياً[17]، وسائر جيشه من التابعين، وقد انتشرت رواية الحديث النبوي الشريف في هذه الفترة مما دعا عقبة أن يوصي أولاده من ورائهم جميع المسلمين بتحري حديث الثقات وعدم كتابة ما يشغلهم عن القرآن[18]. ت ـ لقد استقطبت القيروان أعداداً هائلة من البربر المسلمين الذين جاءوا لتعلم الدين الجديد، قال ابن خلدون عند حديثه عن عقبة: فدخل إفريقية وانضاف إليه مسلمة البربر، فكبر جمعه ودخل أكثر البربر في الإسلام ورسخ الدين[19]، ولا شك أن الفاتحين قد خصصوا لهم من يقوم بهذه المهمة[20]. ومن القيروان انتشر الإسلام في سائر بلاد المغرب، فقد بنى عقبة بالمغربين الأقصى والأوسط عدة مساجد لنشر الإسلام بين البربر، كما ترك صاحبه شاكراً في بعض مدن المغرب الأوسط لتعليم البربر الإسلام[21]، ولما جاء أبو المهاجر دينار لولاية إفريقية تألف كُسيلة وقومه وأحسن إلى البربر، فدخلوا في دين الله أفواجاً ودعّم حسان بن النعمان ـ فيما بعد جهود عقبة في نشر الإسلام بين البرير حيث خصّص ثلاثة عشر فقيهاً من التابعين لتعليم البربر العربية والفقه ومبادئ الإسلام[22]، وواصل موسى بن نُصير هذه المهمة حيث: أمر العرب أن يعلّموا البربر القرآن وأن يفقّهوهم في الدِّين[23]، وترك في المغرب الأقصى سبعة وعشرين فقيهاً لتعليم أهله[24]. جـ ـ كان كثير من أفراد الجيش قد صحبوا معهم زوجاتهم، ومنهم من اتخذ بإفريقية السراري وأمهات الأولاد، قال أبو العرب[25]: روى بعض المحدثين أن عبد الله بن عمر بن الخطاب لما غزا مع معاوية بن حديج كانت معه أم ولد له، فولدت له صبية من أم الولد وماتت، فدفنها في مقبرة قريش بباب سلم، فاتخذتها قريش مقبرة يدفنون فيها لمكان تلك الصبية[26]. ومن هنا كان لابد من الاهتمام بتعليم النشئ المسلم مبادئ الإسلام واللغة العربية ولذلك فقد نشأت الكتاتيب بالقيروان في وقت مبكر جداً، فقد روي عن غياث بن شبيب أنه قال: كان سفيان بن وهب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بنا ونحن غلمة بالقيروان فيسلم علينا ونحن في الكُتّاب وعليه عمامة قد أرخاها من خلفه[27]، وكان سفيان بن وهب قد دخل القيروان مرتين أولاهما سنة 60هـ أي بعد الانتهاء من تأسيس القيروان بخمس سنوات، والثانية سنة 78هـ[28]. س ـ إن الموقع الجغرافي لمدينة القيروان كان له دور كبير في إثراء الحياة العلمية وإنعاشها، فقد كانت في موقع متوسط بين الشرق والغرب يمرّ بها العلماء والطلبة من أهل المغرب والأندلس في ذهابهم إلى المشرق، فيسمعون من علمائها[29]، وكثير منهم يصبح أهلاً للعطاء عند عودته فيسمع منه أهلها، كما كان يدخلها من يقصد المغرب أو الأندلس من أهل المشرق[30]. ش ـ لقد كانت التجارة في القيروان رابحة والسلع فيها نافقة ولذلك أمّها كبار التجار من المشرق والمغرب وكثير منهم من المحدّثين والفقهاء، فكان ذلك عاملاً مهماً في إزدهار الحياة العلمية بالقيروان[31]. ص ـ وممّا أسهم في شراء الحياة العلمية كون القيروان آنذاك هي العاصمة السياسية، ذلك أنّه كلما جاء أمير جديد اصطحب معه مجموعة من العلماء والأدباء، كما أن كثيراً من المحدثين والفقهاء يفدون إلى العاصمة الإفريقية ضمن الجيوش القادمة من المشرق والتي استمر مجيئها إلى بعض منتصف القرن الثاني، هذا بالإضافة إلى من كان يقصد الأمراء للمدح والتسلية من أهل الشعر والأدب[32]. ل ـ كما أن القيروان اكتسبت نوعاً من الاحترام والتعظيم باعتبارها البلد الذي أسسه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهر بها على أيديهم كثير من الكرامات، واستقر بها بعضهم مدة من الزمن، وهي آخر ما دخله الصحابة من بلاد المغرب[33]، كل هذه الأمور هيأت القيروان لدور الريادة العلمية في إفريقية والمغرب حتى وصفها أبو إسحاق الجبنياني قوله: القيروان رأس وما سواها جسد، وما قام برد الشبه والبدع إلا أهلها ولا قاتل ولا قتل على أحياء السنة إلا أئمتها[34]، وقد لهج المؤلفون القدامى بفضل القيروان على سائر بلاد المغرب في المجال العلمي من ذلك ما وصفها به ماقديشي بأنها: منبع الولاية والعلوم، فهي لأهل المغرب أصل كل خير، والبلاد كلها عيال عليها، فما من غصن من البلاد المغربية إلا منها علا، ولا فرع في جميع نواحيها إلا عليها ابتنى، كيف لا ومنها خرجت علوم المذهب وإلى أئمتها كل علم ينسب ولا ينكر هذا خاص ولا عام، ولا يزاحمها في هذا الفضل أحد على طول الأمد والأيام[35]، وهكذا أصبحت القيروان دار العلم الإفريقية وبرز فيها كبار المحدثين والفقهاء والقراء ورحل إليها أهل المغرب والأندلس لطلب العلم، وقد نافح أهلها عن مذاهب السلف فصارت دار السنة والجماعة بالمغرب[36]، لقد قامت القيروان بدور كبير في فتح شمال إفريقية كله والأندلس ونشر الإسلام في المغرب وأصبحت من أهم مراكز الحضارة الإسلامية[37]. [/align] |
[align=justify]رابعاً : عزل عقبة وتولي أبي المهاجر دينار سنة 55هـ :
بينما كان عقبة يواصل فتوحاته، وينظم مدينته الجديدة، إذ بوالي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري يعزله ويولي مكانه مولاه أبا المهاجر بولاية إفريقية، وقد صرح هو نفسه بذلك حينما قالوا له: لو أقررت عقبة فإن له جزالة وفضلاً فقال: ... إن أبا المهجر صبر علينا في غير ولاية، ولا كبير نيل فنحن نحب أن نكافئه[1]، ولما عزل عقبة ذهب إلى معاوية في دمشق معاتباً، وقال له: فتحت البلاد، وبنيت المنازل، ومسجد الجماعة ودانت لي، ثم أرسلت عبد الأنصار، فأساء عزلي. فاعتذر إليه معاوية، وقال له: عرفت مكان مسلمة بن مخلد من الإمام المظلوم، وتقديمه إياه، وقيامه بدمه وبذله مهجته[2]، ووعد معاوية عقبة برده إلى ولايته، ولكن الأمر تراخي كما يقول ابن عذارى حتى توفي معاوية وأفضى الأمر إلى يزيد، فرد عقبة والياً على إفريقية[3]. وهناك نقطة في هذا الموضوع، وهي الإساءة التي تعرض لها عقبة من أبي المهاجر أثناء عزله فقد ذكرت المصادر أن أبا المهاجر أساء إلى عقبة إساءة بالغة، فقد سجنه وأوقره حديداً[4]، ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ قال الدكتور عبد الشافي محمد عبد اللطيف في كتابه القيم: ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ ويصعب علينا أن نقبل اتهام الدكتور حسين مؤنس لمسلمة بن مخلد، بأنه هو الذي أوعز إلى أبي المهاجر أن يسيء إلى عقبة[5]. فهذا اتهام لا يستند إلى دليل، خصوصاً وأن ابن عبد الحكم يقول عن مسلمة حين ولي أبا المهاجر: وأوصاه حين ولاه أن يعزل عقبة بأن يحسن العزل، فخالفه أبو المهاجر، فأساء عزله وسجنه وأوقره حديداً، حتى أتاه كتاب من الخليفة بتخلية سبيله وإشخاصه إليه[6]. ثم يذكر أن مسلمة ركب إلى عقبة حين مر بمصر وترضاه وأقسم له بالله لقد خالفه ما صنع أبا المهاجر وقال له: ولقد أوصيته بك خاصة[7]، ولكن لماذا خالف أبو المهاجر وصية مولاه مسلمة وأساء إلى عقبة، مع أنه هو شخصياً كان يجل عقبة، ويعرف مقامه، وقد جزع عندما دعا عليه عقبة، وقال هذا رجل لا يرد له دعاء، هذا هو السؤال الذي لا نملك عليه جواباً شافياً .. اللهم إلا الاستنتاج الذي أخذ به محمد علي دبوز، وهو أن أبا المهاجر ربما يكون قد أضطر اضطراراً إلى القبض على عقبة وسجنه، لأن عقبة خاشنه ولم يرضخ للعزل بسهولة لأنه كان يرى نفسه أحق بالولاية والقيادة من أبي المهاجر: ولعل أبا المهاجر قد خاف من خلاف يقع بين المسلمين لعدم رضوخ عقبة له فيستغله أعداؤهم الروم، فاضطر إلى سجنه حتى لا يحدث خلل بين المسلمين[8]. إن كان هذا الاستنتاج صحيحاً وهو على كل حال معقول، فقد يخفف من شدة اللوم الذي يوجهه إلى أبي المهاجر كل مسلم حريص على أن تسود روح الاحترام والإجلال بين القادة المسلمين مهما كانت خلافاتهم، وأن يحاول اللاحق منهم الاستفادة من جهود السابق وخبرته، بدلاً من الإساءة وتبادل الأحقاد وأن يكون السابق منهم حريصاً كذلك على أن يعطي خبرته وتجاربه ونصائحه للاحق، حتى ينجح في مهمته لأن هدفهم واحد وهو الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته ونشر دينه[9]. <!-- /* Font Definitions */ @font-face {font-family:"Cambria Math"; panose-1:2 4 5 3 5 4 6 3 2 4; mso-font-charset:1; mso-generic-font-family:roman; mso-font-format:other; mso-font-pitch:variable; mso-font-signature:0 0 0 0 0 0;} /* Style Definitions */ p.MsoNormal, li.MsoNormal, div.MsoNormal {mso-style-unhide:no; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; margin:0cm; margin-bottom:.0001pt; text-align:right; mso-pagination:widow-orphan; direction:rtl; unicode-bidi:embed; font-size:12.0pt; font-family:"Times New Roman","serif"; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:EN-US; mso-fareast-language:EN-US;} p.MsoFootnoteText, li.MsoFootnoteText, div.MsoFootnoteText {mso-style-noshow:yes; mso-style-unhide:no; mso-style-link:"Note de bas de page Car"; margin:0cm; margin-bottom:.0001pt; text-align:right; mso-pagination:widow-orphan; direction:rtl; unicode-bidi:embed; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman","serif"; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:EN-US; mso-fareast-language:EN-US;} span.MsoFootnoteReference {mso-style-noshow:yes; mso-style-unhide:no; vertical-align:super;} span.NotedebasdepageCar {mso-style-name:"Note de bas de page Car"; mso-style-noshow:yes; mso-style-unhide:no; mso-style-locked:yes; mso-style-link:"Note de bas de page"; mso-ansi-language:EN-US; mso-fareast-language:EN-US;} .MsoChpDefault {mso-style-type:export-only; mso-default-props:yes; font-size:10.0pt; mso-ansi-font-size:10.0pt; mso-bidi-font-size:10.0pt;} /* Page Definitions */ @page {mso-footnote-separator:url("file:///C:/DOCUME~1/ADMINI~1/LOCALS~1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_header.htm") fs; mso-footnote-continuation-separator:url("file:///C:/DOCUME~1/ADMINI~1/LOCALS~1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_header.htm") fcs; mso-endnote-separator:url("file:///C:/DOCUME~1/ADMINI~1/LOCALS~1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_header.htm") es; mso-endnote-continuation-separator:url("file:///C:/DOCUME~1/ADMINI~1/LOCALS~1/Temp/msohtmlclip1/01/clip_header.htm") ecs;} @page Section1 {size:612.0pt 792.0pt; margin:72.0pt 90.0pt 72.0pt 90.0pt; mso-header-margin:36.0pt; mso-footer-margin:36.0pt; mso-paper-source:0;} div.Section1 {page:Section1;} --> رابعاً : عزل عقبة وتولي أبي المهاجر دينار سنة 55هـ : بينما كان عقبة يواصل فتوحاته، وينظم مدينته الجديدة، إذ بوالي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري يعزله ويولي مكانه مولاه أبا المهاجر بولاية إفريقية، وقد صرح هو نفسه بذلك حينما قالوا له: لو أقررت عقبة فإن له جزالة وفضلاً فقال: ... إن أبا المهجر صبر علينا في غير ولاية، ولا كبير نيل فنحن نحب أن نكافئه[1]، ولما عزل عقبة ذهب إلى معاوية في دمشق معاتباً، وقال له: فتحت البلاد، وبنيت المنازل، ومسجد الجماعة ودانت لي، ثم أرسلت عبد الأنصار، فأساء عزلي. فاعتذر إليه معاوية، وقال له: عرفت مكان مسلمة بن مخلد من الإمام المظلوم، وتقديمه إياه، وقيامه بدمه وبذله مهجته[2]، ووعد معاوية عقبة برده إلى ولايته، ولكن الأمر تراخي كما يقول ابن عذارى حتى توفي معاوية وأفضى الأمر إلى يزيد، فرد عقبة والياً على إفريقية[3]. وهناك نقطة في هذا الموضوع، وهي الإساءة التي تعرض لها عقبة من أبي المهاجر أثناء عزله فقد ذكرت المصادر أن أبا المهاجر أساء إلى عقبة إساءة بالغة، فقد سجنه وأوقره حديداً[4]، ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ قال الدكتور عبد الشافي محمد عبد اللطيف في كتابه القيم: ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ ويصعب علينا أن نقبل اتهام الدكتور حسين مؤنس لمسلمة بن مخلد، بأنه هو الذي أوعز إلى أبي المهاجر أن يسيء إلى عقبة[5]. فهذا اتهام لا يستند إلى دليل، خصوصاً وأن ابن عبد الحكم يقول عن مسلمة حين ولي أبا المهاجر: وأوصاه حين ولاه أن يعزل عقبة بأن يحسن العزل، فخالفه أبو المهاجر، فأساء عزله وسجنه وأوقره حديداً، حتى أتاه كتاب من الخليفة بتخلية سبيله وإشخاصه إليه[6]. ثم يذكر أن مسلمة ركب إلى عقبة حين مر بمصر وترضاه وأقسم له بالله لقد خالفه ما صنع أبا المهاجر وقال له: ولقد أوصيته بك خاصة[7]، ولكن لماذا خالف أبو المهاجر وصية مولاه مسلمة وأساء إلى عقبة، مع أنه هو شخصياً كان يجل عقبة، ويعرف مقامه، وقد جزع عندما دعا عليه عقبة، وقال هذا رجل لا يرد له دعاء، هذا هو السؤال الذي لا نملك عليه جواباً شافياً .. اللهم إلا الاستنتاج الذي أخذ به محمد علي دبوز، وهو أن أبا المهاجر ربما يكون قد أضطر اضطراراً إلى القبض على عقبة وسجنه، لأن عقبة خاشنه ولم يرضخ للعزل بسهولة لأنه كان يرى نفسه أحق بالولاية والقيادة من أبي المهاجر: ولعل أبا المهاجر قد خاف من خلاف يقع بين المسلمين لعدم رضوخ عقبة له فيستغله أعداؤهم الروم، فاضطر إلى سجنه حتى لا يحدث خلل بين المسلمين[8]. إن كان هذا الاستنتاج صحيحاً وهو على كل حال معقول، فقد يخفف من شدة اللوم الذي يوجهه إلى أبي المهاجر كل مسلم حريص على أن تسود روح الاحترام والإجلال بين القادة المسلمين مهما كانت خلافاتهم، وأن يحاول اللاحق منهم الاستفادة من جهود السابق وخبرته، بدلاً من الإساءة وتبادل الأحقاد وأن يكون السابق منهم حريصاً كذلك على أن يعطي خبرته وتجاربه ونصائحه للاحق، حتى ينجح في مهمته لأن هدفهم واحد وهو الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته ونشر دينه[9]. [/align] |
[align=justify]رابعاً : عزل عقبة وتولي أبي المهاجر دينار سنة 55هـ :
بينما كان عقبة يواصل فتوحاته، وينظم مدينته الجديدة، إذ بوالي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري يعزله ويولي مكانه مولاه أبا المهاجر بولاية إفريقية، وقد صرح هو نفسه بذلك حينما قالوا له: لو أقررت عقبة فإن له جزالة وفضلاً فقال: ... إن أبا المهجر صبر علينا في غير ولاية، ولا كبير نيل فنحن نحب أن نكافئه[1]، ولما عزل عقبة ذهب إلى معاوية في دمشق معاتباً، وقال له: فتحت البلاد، وبنيت المنازل، ومسجد الجماعة ودانت لي، ثم أرسلت عبد الأنصار، فأساء عزلي. فاعتذر إليه معاوية، وقال له: عرفت مكان مسلمة بن مخلد من الإمام المظلوم، وتقديمه إياه، وقيامه بدمه وبذله مهجته[2]، ووعد معاوية عقبة برده إلى ولايته، ولكن الأمر تراخي كما يقول ابن عذارى حتى توفي معاوية وأفضى الأمر إلى يزيد، فرد عقبة والياً على إفريقية[3]. وهناك نقطة في هذا الموضوع، وهي الإساءة التي تعرض لها عقبة من أبي المهاجر أثناء عزله فقد ذكرت المصادر أن أبا المهاجر أساء إلى عقبة إساءة بالغة، فقد سجنه وأوقره حديداً[4]، ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ قال الدكتور عبد الشافي محمد عبد اللطيف في كتابه القيم: ولا ندري ما الذي حمل أبا المهاجر على هذا؟ ويصعب علينا أن نقبل اتهام الدكتور حسين مؤنس لمسلمة بن مخلد، بأنه هو الذي أوعز إلى أبي المهاجر أن يسيء إلى عقبة[5]. فهذا اتهام لا يستند إلى دليل، خصوصاً وأن ابن عبد الحكم يقول عن مسلمة حين ولي أبا المهاجر: وأوصاه حين ولاه أن يعزل عقبة بأن يحسن العزل، فخالفه أبو المهاجر، فأساء عزله وسجنه وأوقره حديداً، حتى أتاه كتاب من الخليفة بتخلية سبيله وإشخاصه إليه[6]. ثم يذكر أن مسلمة ركب إلى عقبة حين مر بمصر وترضاه وأقسم له بالله لقد خالفه ما صنع أبا المهاجر وقال له: ولقد أوصيته بك خاصة[7]، ولكن لماذا خالف أبو المهاجر وصية مولاه مسلمة وأساء إلى عقبة، مع أنه هو شخصياً كان يجل عقبة، ويعرف مقامه، وقد جزع عندما دعا عليه عقبة، وقال هذا رجل لا يرد له دعاء، هذا هو السؤال الذي لا نملك عليه جواباً شافياً .. اللهم إلا الاستنتاج الذي أخذ به محمد علي دبوز، وهو أن أبا المهاجر ربما يكون قد أضطر اضطراراً إلى القبض على عقبة وسجنه، لأن عقبة خاشنه ولم يرضخ للعزل بسهولة لأنه كان يرى نفسه أحق بالولاية والقيادة من أبي المهاجر: ولعل أبا المهاجر قد خاف من خلاف يقع بين المسلمين لعدم رضوخ عقبة له فيستغله أعداؤهم الروم، فاضطر إلى سجنه حتى لا يحدث خلل بين المسلمين[8]. إن كان هذا الاستنتاج صحيحاً وهو على كل حال معقول، فقد يخفف من شدة اللوم الذي يوجهه إلى أبي المهاجر كل مسلم حريص على أن تسود روح الاحترام والإجلال بين القادة المسلمين مهما كانت خلافاتهم، وأن يحاول اللاحق منهم الاستفادة من جهود السابق وخبرته، بدلاً من الإساءة وتبادل الأحقاد وأن يكون السابق منهم حريصاً كذلك على أن يعطي خبرته وتجاربه ونصائحه للاحق، حتى ينجح في مهمته لأن هدفهم واحد وهو الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته ونشر دينه[9]. [/align] |
[align=justify]سادساً : حملة عقبة بن نافع الثانية 62 ـ 63هـ:
وصل عقبة بن نافع إلى إفريقية ورتب أمورها وعامل أبا المهاجر معاملة قاسية، فقد أوثقه في وثاق شديد[1]، ومع هذا فقد كان أبو المهاجر مخلصاً وفياً شهماً غيوراً فلم يبخل بنصائحه لعقبة بالرغم ما حدث بينهما من الجفوة ومن أبرز هذه النصائح إشارته على عقبة بإكرام زعيم البربر كسيلة، ومحاولة تأليفه ليبقى على الإسلام، ولكن عقبة أهان ذلك الزعيم، حيث أمره يوماً أن يسلخ شاة بين يديه، فدفعها كسيلة إلى غلمانه، فأراده عقبة على أن يتولاها بنفسه وانتهره، فقام كسيلة مغضباً وجعل كلما دس يده في الشاة مسح بلحيته، وبلغ ذلك أبا المهاجر فبعث إليه ينهاه ويقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألف جبابرة العرب وأنت تعمد إلى رجل جبَّار في قومه وبدار عزه حديث عهد بالشرك فتفسد قلبه؟ توثَّق من الرجل فإني أخاف فتكه[2] فتهاون به عقبة، وسيأتي الحديث عن غدر كسيلة بالمسلمين وكيف اغتنم فرصة انفراد عقبة في بعض جيشه كما سيأتي بيانه وكيف قال عقبة لأبي المهاجر: الحق بالقيروان وقم بأمر المسلمين وأنا اغتنم الشهادة، فقال أبو المهاجر: وأنا اغتنم الشهادة مثلك، فكسر كل واحد منهما غمد سيفه وكسر المسلمون أغماد سيوفهم وقاتلوا حتى قتلوا[3]. قد لاحظنا أن أبا المهاجر خاض معركة واحدة كبرى دوخ بها الروم والبربر، وخضع له البربر، ودخل بعض زعمائهم في الإسلام وأبرزهم كسيلة، ودخل كثير من قومه في الإسلام ووفر أبو المهاجر بذلك جهوداً كبيرة لابد من بذلها في فتح بلاد المغرب لو بقي أولئك البربر على كفرهم، ولاشك أن عقبة حينما أهان ذلك الزعيم البربري لم يكن يعتقد بصحة إسلامه إذ أن عقبة كان في غاية التواضع للمسلمين وكان اجتهاده يقضي بمحاولة إذلال ذلك الرجل حتى يتحطم طغيانه وتهون مكانته في نفوس قومه فلا يستطيع بعد ذلك أن يستنفرهم لحرب ضد المسلمين، ولكنه أخطأ في اجتهاده لأن قوم ذلك الرجل كانوا حديثي عهد بالإسلام، ومهما كان لظن عقبة فيه من احتمال في عدم الصدق في الولاء فإن كسبه وبقاءه في جيش المسلمين وتحت سلطتهم أولى بكثير من معاداته وإتاحة الفرصة له لضرب المسلمين من مكامن الخطر، وهو الذي صحبهم وحاز على شيء من ثقتهم[4]، ومن موقف عقبة المذكور تظهر لنا نتيجة مهمة من نتائج العمل بسنن الإسلام التي من أهمها العمل بالشورى وأخذ رأي أهل الحل والعقد خاصة في الأمور المهمة، وعلى أي حال فإن كلا القائدين كان مجتهداً في تصرفه ولا يظن بواحد منهما أنه كان يعمل لصالح نفسه أو لصالح عشيرته وإنما كان رائدهما النظر في مصلحة الإسلام والمسلمين، ولكن كان اجتهاد أبي المهاجر أقرب إلى الصواب في هذه القضية[5]. 1 ـ جهاده من القيروان إلى المحيط: بعد اكتمال بناء القيروان عام خمسة وخمسين عُزل عقبة بن نافع عن ولاية إفريقية، ثم أُعيد إليها عام اثنين وستين قام برحلته الجهادية المشهورة التي قطع فيها ما يزيد على ألف ميل من القيروان في تونس إلى ساحل المحيط الأطلسي في المغرب، وقد استخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي ودعا لها قائلاً: يا رب أملأها علماً وفقهاً وأملأها بالمطيعين لك، واجعلها عزاً لدينك وذلاً على من كفر بك .. وامنعها من جبابرة الأرض[6]، وخرج عقبة بأصحابه الذين قدم بهم من الشام وعددهم عشرة ألف إلى جانب عدد كبير انضم إليهم من القيروان، ودعا بأولاده قبل سفره وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد من كفر بالله ثم قال: ـ يا بني أوصيكم بثلاث خصال فاحفظوها ولا تضيعوها: إياكم أن تملئوا صدوركم بالشعر وتتركوا القرآن، فإن القرآن دليل على الله عز وجل، وخذوا من كلام العرب ما يهتدي به اللبيب ويدلكم على مكارم الأخلاق، ثم انتهوا عما وراءه، وأوصيكم أن لا تُداينوا ولو لبستم العباء فإن الدّين ذُلُّ بالنهار وهم بالليل، فدعوه تسلم لكم أقداركم وأعراضكم وتبق لكم الحرمة في الناس ما بقيتم، ولا تقبلوا العلم من المغرورين المرخصين فيجهلوكم دين الله ويفرقوا بينكم وبين الله تعالى، ولا تأخذوا دينكم إلا من أهل الورع والاحتياط فهو أسلم لكم، ومن احتاط سلم ونجا فيمن نجا ـ ثم قال: عليكم سلام الله واُراكم لا ترونني بعد يومكم هذا ـ ثم قال: اللهم تقبّل نفسي في رضاك واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك[7]. وهكذا ما ان وطئت أقدام عقبة أرض القيروان حتى عزم على الخروج للجهاد غير هياب ولا متردد، ومما يدل على مبلغ حبه للجهاد وهيامه به قوله في وصيته لأولاده: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد من كفر بالله. فهو قد باع نفسه من الله عز وجل، واشتاق إلى الثمن العظيم الغالي ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) ( التوبة :أية 111) . فجعل عمله الذي نذر حياته لأجله هو الجهاد، ونصب أمام عينيه الهدف السامي، وهو إعلاء كلمة الله في الأرض[8]، وفي وصيته المذكورة لأولاده فوائد جليلة، فقد أوصاهم بثلاث وصايا: أ ـ الوصية الأولى: الاهتمام بانتقاء العلم واختيار أطيبه، وذلك بالاهتمام أولاً بالقرآن الكريم، حيث إنه الكتاب الذي يدل على الله عز وجل، وما ابلغه من وصف يهدي إلى بلوغ الهدف السامي الذي يسعى إليه كل مؤمن، وهو ابتغاء رضوان الله تعالى ونعيمه، ولا شك أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدخل في مقاصد القرآن الكريم لقوله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) (الحشر :أية :7) . ثم انتقاء الطيب من كلام العرب الذي يرشد إليه العقل السليم ويحث على مكارم الأخلاق. بـ ـ الوصية الثانية : البعد عن الاستدانة ولو دفع إليها الفقر لأن الدين ذل بالنهار حيث يدفع المستدين إلى بعض مواقف الذل أمام الدائن ومن لهم علاقة به، وهمُّ بالليل حيث يخلو المستدين إلى نفسه فيتذكر حقوق الناس عليه. جـ ـ الوصية الثالثة: التحري في تلقي العلم، وذلك باختيار العلماء الربانيين أهل الورع والتقوى، والبعد عن العلماء المغرورين أهل الدنيا والجاه، فإنهم يزيدون المتعلم جهلاً حيث يبعدونه عن حقيقة العلم وثمرته وهي تقوى الله عز وجل[9]. ونجد عقبة في نهاية وصيته لأولاده يسلمّ عليهم سلام المودع، مما يدل على استماتته في سبيل الله تعالى، ثم يقول: اللهم تقبل نفسي في رضاك، واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك[10]. وبهذا الاهتمام الكبير نجح عقبة بن نافع رحمه الله في فتوحاته حيث جعل الجهاد قضيته الكبرى في هذه الحياة[11]. سار عقبة في جيش عظيم متجهاً إلى مدينة باغية[12]، حيث واجه مقاومة عنيفة من البيزنطيين الذين انهزموا أمامه ودخلوا مدينتهم وتحصنوا بها، فحاصرهم مدة ثم سار إلى تلمسان وهي من أعظم مدائنهم فانضم إليها من حولها من الروم والبربر فخرجوا إليه في جيش ضخم والتحم القتال، وثبت الفريقان حتى ظن المسلمون أن في تلك المعركة فناءهم ولكن منَّ عليهم بالصبر فكانوا في ذلك أشدَّ وأصبر من أعدائهم فهاجموا الروم هجوماً عنيفاً حتى ألجئوهم إلى حصونهم فقاتلوهم إلى أبوابها وأصابوا منهم غنائم كثيرة[13]، ثم استمر غربا قاصداً بلاد الزاب، فسأل عن أعظم مدنها فقيل له(( أَرَبَه)) وهي دار ملكهم وكان حولها ثلاثمائة وستون قرية كلها عامرة، فامتنع بها من كان هناك من الروم وأهل المدينة وهرب بعضهم إلى الجبال، فاقتتل المسلمون مع أهل تلك المدينة فانهزم أهل تلك البلاد وقُتل كثير من فرسانهم ورحل عقبة إلى(( تاهرت)) فاستغاث الروم بالبربر فأجابوهم ونصروهم، وقام عقبة بن نافع في الناس خطبةً فقال بعدما حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إن أشرافكم وخياركم الذين رضي الله تعالى عنهم وأنزل فيهم كتابه بايعوا رسول الله بيعه الرضوان على من كذب بالله إلى يوم القيامة، وهم أشرافكم والسابقون منكم إلى البيعة، باعوا أنفسهم من رب العالمين بجنته بيعة رابحة، وأنتم اليوم في دار غربة وإنما بايعتم رب العالمين، وقد نظر إليكم في مكانكم هذا، ولم تبلغوا هذه البلاد إلا طلبا لرضاه وإعزازاً لدينه، فأبشرو فكلما كثر العدو كان أخزى لهم وأذل إن شاء الله تعالى وربكم عز وجل لا يُسلمكم، فالقوهم بقلوب صادقة، فإن الله عز وجل جعلكم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين فقاتلوا عدوكم على بركة الله وعونه والله لا يرد بأسه عن القوم المجرمين[14]. وهذه خطبة عظيمة تدل على أن عقبة بن نافع رضي الله عنه قد اعتمد في حروبه على السلاح الأعظم الذي فيه سر انتصارات المسلمين الباهرة .. ألا وهو التوكل على الله تعالى، واستحضار عظمته وجلاله، ومعيته لأوليائه المؤمنين بالنصر والتأييد، فهو لا يبالي بجيوش الأعداء مهما كثرت، وإنما الذي يهتم به أن يتأكد جيداً من أن هذا السلاح المعنوي الفعال قد توفر في جيشه، وحينما يضمن ذلك فإنه يرحب باجتماع جيوش الأعداء ليكون ذلك أسرع في هلاكهم وتمزيق جمعهم على يد أولياء الله الصالحين وما أعظم شبه عقبة بخالد بن الوليد رضي الله عنه، الذي كان يُسَرُّ ويداخله شعور بالقوة والتعاظم ـ من غير غرور ولا استهانة ـ كلما تضخم جيش الأعداء وتعددت عناصره، وكأن عقبة قد تأس به واتخذه له قدوة في القيادة والإقدام الذي لا يعرف التردد والسآمة، وهو في إقدامه واندفاعه يدرك أن جنود الإسلام الصادقين هم بأس الله تعالى المسلط على أعدائه الكفار، والله تعالى لا يُردّ بأسه عن القوم المجرمين. إن شعوره الدائم بأن المجاهدين المسلمين هم سيف الله تعالى وبأسه الموجه ضد أعدائه يجعله عظيم الثقة بنصر الله تعالى وحسن الظن به[15].هذا وقد التقى المسلمون بأعدائهم في مدينة ((تاهرت)) وقاتلوهم قتالاً شديداً، فاشتد الأمر على المسلمين لكثرة عدوهم، ولكنهم انتصروا أخيراً، وانهزم أعداؤهم من الروم والبربر، وقتل منهم عدد كبير، وغنم منهم المسلمون أموالهم وسلاحهم[16]، ثم توجه إلى جهات المغرب الأقصى فوصل إلى طنجة، حيث قابل بطريق من الروم اسمه (( جوليان )) الذي: أهدى له هدية حسنة، ونزل على حكمه[17]ولما سأله عقبة عن بحر الأندلس قال عنه: لا إنه محفوظ لا يرام[18]، ثم سأله عن البربر والروم بقوله: دلني على رجال البربر والروم فقال: قد تركت الروم خلفك وليس أمامك إلا البربر وفرسانهم في عدد لا يعلمهم إلا الله تعالى وهم أنجاد البربر وفرسانهم، فقال عقبة: فأين موضعهم؟ قال: في السوس الأدنى، وهم قوم ليس لهم دين[19].. استفاد عقبة من هذه المعلومات واتجه إلى الجنوب الغربي، قاصداً بلاد السوس الأدنى حيث التقى بجموع بربر أطلس الوسطى، فهزمهم وطاردهم نحو صحراء وادي درعا، حيث بنى مسجداً في مدينة درعا ثم غادر صحاري مراكش باتجاه الشمال الغربي إلى منطقة ((تافللت)) من أجل أن يدور حول جبال أطلس العليا كي يدخل بلاد صنهاجة الذين أطاعوه دون قتال، وكذلك فعلت قبائل هكسورة في مدينة ((اغمات))، بعدها اتجه عقبة نحو الغرب إلى مدينة تفيس[20]، حيث حاصر بها جموعاً من البيزنطيين والبربر، فلم ينفعهم تحصنهم، فدخل المدينة منتصراً وبذلك أتم تحرير بلاد السوس الأقصى ودخل عاصمتها ((ايجلي)) التي بنى فيها مسجداً، ثم دعا القبائل فيها هناك إلى الإسلام فأجابته قبائل جزولة، وبعد ذلك سار إلى مدينة ((ماسة)) ومنها إلى رأس ((ايفران)) على البحر المحيط[21]، وبوصول عقبة بن نافع إلى ساحل المحيط الأطلسي يكون قد أنجز تحرير معظم بلاد المغرب، وتشير مصادرنا التاريخية أن عقبة لما وصل إلى المحيط الأطلسي قال: يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك. ثم قال: اللهم أشهد أني قد بلغت الجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بالله حتى لا يعبد أحد من دونك ثم وقف ساعة ثم قال لأصحابه: ارفعوا أيديكم، ففعلوا، فقال: اللهم لم أخرج بطراً ولا أشراً وإنك لتعلم أنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين وهو أن تُعبد ولا يُشرك بك شيء، اللهم إنا معاندون لدين الكفر، ومدافعون عن دين الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا يا ذا الجلال والإكرام، ثم انصرف راجعاً[22]. وندرك من قوله المذكور مدى حبه للجهاد وشعوره بالمسئولية الكبرى التي حملها على عاتقه نحو تبليغ الإسلام وتقوية دولته والقضاء على دول الكفر التي حجبت نور الإسلام عن شعوبها، فهو يقف على البحر المحيط ويعلم آنذاك أنه نهاية المعمور من الأرض من ناحية المغرب، ثم نجده يُشهد الله تعالى على أنه قد بلغ المجهود الذي تحت مقدرته، وهذه الشهادة تشعرنا بمدى ارتباط عقبة بالله تعالى، وأنه لم يكن يسير خطوة إلا وهو يستلهم التوفيق منه جل وعلا ويطلب رضوانه، وهذا الكلام يدل على وضوح الهدف من الجهاد عند عقبة حيث بيّن أن الحد الذي يقف عنده الجهاد، أن يزول الشرك من الأرض، وأن لا يعبد إلا الله وحده، ومادام الشرك قائماً فإن الجهاد لا بد أن يكون موجوداً، فالجهاد أذن هو جهاد الدعوة إلى الله تعالى، وذلك بإزالة الطغيان البشري وإخضاع دول العالم لحكم الإسلام لكي يكون فهم الإسلام واعتناقه متيسراً لكل الناس[23]. ولم يقف عمل عقبة على الجهاد بل رافق ذلك بناء المساجد مثل مسجد درعة ومسجد ماسة بالسوس الأقصى[24]، كما كان يترك نفراً من أصحابه يعلمون الناس القرآن وشرائع الإسلام، ومن هؤلاء شاكر الذي بنى رباطاً ما بين بلدتي مراكش وموجادور ولا زال موقعه باقياً إلى اليوم وهو المعروف عند العامة بالمغرب الأقصى بسيدي شاكر[25]، ويظهر أن أغلبية بربر المغرب الأقصى أسلموا على يده طوعاً مثل صنهاجة وهسكورة وجزولة[26]، كما أخضع المصامدة، وحملهم على طاعة الإسلام[27]، وكي يأمن القبائل الكثيرة من الانتقاض عليه، كان عقبة يأخذ منها رهائن ويولي عليها رجلاً منها مثلما فعل مع مصمودة فقد ترك عليها أبا مدرك زرعة بن أبي مدرك، أحد رؤسائها، الذي شارك في فتح الأندلس فيما بعد[28]، ويلاحظ أن الوثنية كانت غالبة على بربر المغرب الأقصى مما يفسر كثرة السبايا والغنائم، وأصاب ((عقبة)) نساء لم يرى الناس مثلهن فقيل أن الجارية كانت تساوي بالمشرق ألف مثقال وأكثر[29]، وكان السبي أحد عوامل انتشار الإسلام بين البربر بحكم اختلاطهم بالبيئة العربية الإسلامية ثم إن الاحتكاك والاختلاط المستمرين بين المقاتلة العرب، والبربر أوجد صلات وروابط تجلت في الحلف والولاء في هذا الوقت المبكر[30]. يذكر السلاوي أن عقبة حين وصل إلى جبل درن: نهضت زناته وكانت خالصة للمسلمين منذ إسلام مغراوة[31]وهذا يشعر بأن بعض زناته ومغراوة كانتا قد أسلمتا منذ زمن وكانتا حليفتان للمسلمين فنهضتا للدفاع عن المسلمين[32]. [/align] |
الساعة الآن 07:08 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |