![]() |
الفصل الرابع عشر في علوم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
إنا نجد هذا الصنف من البشرتعتريهم حالة إلهية خارجة عن منازع البشر وأحوالهم فتغلب الوجهة الربانية فيهم على البشرية في القوى الإدراكية والنزوعية من الشهوة والغضب وسائر الأحوال البدنية فتجدهم متنزهين عن الأحوال الربانية من العبادة والذكر لله بما يقتضي معرفتهم به مخبرين عنه بما يوحى إليهم في تلك الحالة من هداية الأمة على طريقة واحدة وسنن معهود منهم لا يتبدل فيهم كأنه جبلة فطرهم الله عليها. وقد تقدم لنا الكلام في الوحي أول الكتاب في فصل المدركين للغيب. وبينا هنالك أن الوجود كله في عوالمه البسيطة والمركبة على تركيب طبيعي من أعلاها وأسفلها متصلة كلها اتصالاً لا ينخرم. وأن الذوات التي في آخر كل أفق من العوالم مستعدة لأن تنقلب إلى الذات التي تجاورها من الأسفل والأعلى استعداداً طبيعياً كما في العناصر الجسمانية البسيطة وكما في النخل والكرم من آخر أفق النبات مع الحلزون والصدف من أفق الحيوان وكما في القردة التي استجمع فيها الكيس والإدراك مع الإنسان صاحب الفكر والرويه. وهذا الاستعداد الذي في جانبي كل أفق من العوالم هو معنى الاتصال فيها. وفوق العالم البشر في عالم روحاني شهدت لنا به الآثار التي فينا منه بما يعطينا من قوى الإدراك والإرادة فذوات العلم العالم إدراك صرف وتعقل محض وهو عالم الملائكة فوجب من ذلك كله أن يكون للنفس الإنسانية استعداد للإنسلاخ من البشرية إلى الملكية لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتاً من الأوقات وفي لمحة من اللمحات. ثم تراجع بشريتها وقد تلقت في عالم الملكية ما كفلت بتبليغه إلى أبناء جنسها في البشر. وهذا هو معنى الوحي وخطاب الملائكة. والأنبياء كلهم مفطورون عليه كأنه جبلة لهم ويعالجون في ذلك الانسلاخ من الشدة والغطيط ما هو معروف عنهم. وعلومهم في تلك الحالة علم شهادة وعيان لا يلحقه الخطأ والزلل ولا يقع فيه الغلط والوهم بل المطابقة قيه ذاتية لزوال حجاب الغيب وحصول الشهادة الواضحة عند مفارقة هذه الحالة إلى البشرية لا يفارق علمهم الوضوح استصحاباً له من تلك الحالة الأولى ولما هم عليه من الذكاء المفضي بهم إليها يتردد ذلك فيهم دائماً إلى أن تكمل هداية الأمة التي بعثوا لها كما في قوله تعالى: " إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستنفروه ". فافهم ذلك وراجع ما قدمناه لك أول الكتاب في أصناف المدركين للغيب يتضح لك شرحه وبيانه فقد بسطناه هنالك بسطاً شافياً. والله الموفق. |
الفصل الخامس عشر في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب
قد بينا أول هذه الفصول أن الإنسان من جنس الحيوانات وأن الله تعالى ميزه عنها بالفكر الذي جعل له يوقع به أفعاله على انتظام وهو العقل التمييزي أو يقتنص به العلم بالآراء والمصالح والمفاسد من أبناء جنسه وهو العقل التجريبي أو يحصل به في تصور الموجودات غائباً وشاهداً على ما هي عليه وهو العقل النظري. وهذا الفكر إنما يحصل له بعد كمال الحيوانية فيه ويبدأ من التمييز فهو قبل التمييز خلو من العلم بالجملة معدود من الحيوانات لاحق بمبدئه في التكوين من النطفة والعلقة والمضغة. وما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل الله له من مدارك الحس والأفئدة التي هي الفكر. قال تعالى في الامتنان علينا: " وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة " فهو في الحالة الأولى قبل التمييز هيولا فقط لجهله بجميع المعارف. ثم تستكمل صورته بالعلم الذي يكتسبه بآلاته فكمل ذاته الإنسانية في وجودها. وانظر إلى قولى تعالى مبدأ الوحي على نبيه: " اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم " أي أكسبه من العلم ما لم يكن حاصلاً له بعد أن كان علقة ومضغة فقد كشفت لنا طبيعته وذاته ما هوعليه من الجهل الذاتي والعلم الكسبي وأشارت إليه الآية الكريمة تقرر فيه الامتنان عليه بأول مراتب وجوده وهي الإنسانية. وحالتاه الفطرية والكسبية في أول التنزيل ومبدأ الوحي. وكان الله عليماً حكيماً. الفصل السادس عشر في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة وما حدث لأجل ذلك من طوائف السنية والمبتدعة في الاعتقادات إعلم أن الله سبحانه بعث إلينا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى النجاة والفوز بالنعيم وأنزل عليه الكتاب الكريم باللسان العربي المبين يخاطبنا فيه بالتكاليف المفضية بنا إلى ذلك. وكان في خلال هذا الخطاب ومن ضروراته ذكر صفاته سبحانه وأسمائه ليعرفنا بذاته وذكر الروح المتعلقة بنا وذكر الوحي والملائكة الوسائط بينه وبين رسله إلينا. وذكر لنا يوم البعث وإنذاراته ولم يعين لنا الوقت في شيء منه. وثبت في هذا القرآن الكريم حروفاً من الهجاء مقطعة في أوائل بعض سوره لا سبيل لنا إلى فهم المراد بها. وسمى هذه الأنواع كلها من الكتاب متشابهاً. وذم على اتباعها فقال تعالى: " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الالباب " وحمل العلماء من سلف الصحابة والتابعين هذه الآية على أن المحكمات هي المبينات الثابتة الأحكام. ولذا قال الفقهاء في اصطلاحهم: المحكم المتضح المعنى. وأما المتشابهات فلهم فيها عبارات. فقيل هي التي تفتقر إلى نظم وتفسير يصحح معناها لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل فتخفى دلالتها وتشتبه. وعلى هذا قال ابن عباس: " المتشابه يؤمن به ولا يعمل به " وقال مجاهد وعكرمة: " كلما سوى آيات الأحكام والقصص متشابه " وعليه القاضي أبو بكر وإمام الحرمين. وقال الثوري والشعبي وجماعة من علماء السلف: " المتشابه ما لم يكن سبيل إلى علمه كشروط الساعة وأوقات الإنذارات وحروف الهجاء في أوائل السور وقوله في الآية: " هذه أم الكتاب " أي معظمه وغالبه والمتشابه أقله وقد يرد إلى المحكم. ثم ذم المتبعين للمتشابه بالتأويل أو بحملها على معان لا تفهم منها في لسان العرب الذي خوطبنا به. وسماهم أهل زيغ أي ميل عن الحق من الكفار والزنادقة وجهلة أهل البدع. وأن فعلهم ذلك قصد الفتنة التي هي الشرك أو اللبس على المؤمنين أو قصداً لتأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم. ثم أخبر سبحانه بأنه استأثر بتأويلها ولا يعلمه إلا هو فقال: وما يعلم تأويله إلا الله. ثم أثنى على العلماء بالإيمان بها فقط فقال: والراسخون في العلم يقولون آمنا به. ولهذا جعل السلف والراسخون مستأنفاً ورجحوه على العطف لأن الإيمان بالغيب أبلغ في الثناء ومع عطفه إنما يكون إيماناً بالشاهد لأنهم يعلمون التأوبل حينئذ فلا يكون غيباً. ويعضد ذلك قوله: " كل من عند ربنا " ويدل على أن التأويل فيها غير معلوم للبشر. إن الألفاظ اللغوية إنما يفهم منها المعاني التي وضعها العرب لها فإذا استحال إسناد الخبر إلى مخبر عنه جهلنا مدلول الكلام حينئذ وإن جاءنا من عند الله فوضنا علمه إليه ولا نشغل أنفسنا بمدلول نلتمسه فلا سبيل لنا إلى ذلك. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: " إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن فهم الذين عنى الله " فاحذروهم. هذا مذهب السلف في الآيات المتشابهة. وجاء في السنة ألفاط مثل ذلك حملها عندهم محمل الآيات لأن المنبع واحد. وإذا تقررت أصناف المتشابهات على ما قلناه فلنرجع إلى اختلاف الناس فيها. فأما ما يرجع منها على ما ذكروه إلى الساعة وأشراطها وأوقات الإنذارات وعدد الزبانية وامثال ذلك فليس هذا والله أعلم من المتشابه لأنه لم يرد فيه لفظ مجمل ولا غيره وإنما هي أزمنة لحادثات استأثر الله بعلمها بنصه في كتابه وعلى لسان نبيه. وقال: " إنما علمها عند الله " والعجب ممن عدها من المتشابه وأما الحروف المقطعة في أوائل السور فحقيقتها حروف الهجاء وليس ببعيد أن تكون مرادة. وقد قال الزمخشري: فيها إشارة إلى بعد الغاية في الإعجاز لأن القرآن المنزل مؤلف منها والبشر فيها سواء والتفاوت موجود في دلالتها بعد التأليف. وإن عدل عن هذا الوجه الذي يتضمن الدلالة على الحقيقة فإنما يكون بنقل صحيح كقولهم في طه إنه نداء من طاهر وهادي وأمثال ذلك. والنقل الصحيح متعذر فيجيء المتشابه فيها من هذا الوجه. وأما الوحي والملائكة والروح والجن فاشتباهها من خفاء دلالتها الحقيقية لأنها غير متعارفة فجاء التشابه فيها من أجل ذلك. وقد ألحق بعض الناس بها كل ما في معناها من أحوال القيامة والجنة والدخال والفتن والشروط وما هو بخلاف العوائد المألوفة وهو غير بعيد إلا أن الجمهور لا يوافقونهم عليه. وسيما المتكلمون فقد عينوا محاملها على ما تراه في كتبهبم ولم يبق من المتشابه إلا الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه مما يوهم ظاهره نقصاً اوتعجيزاً. وقد اختلف الناس في هذه الظواهر من بعد السلف الذين قررنا مذهبهم. وتنازعوا وتطرقت البدع إلى العقائد. فلنشر إلى بيان مذاهبهم وإيثار الصحيح منه على الفاسد فنقول " وما توفيقي إلا بالله ": إعلم أن الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بأنه عالم قادر مريد حي سميع بصير متكلم جليل كريم جواد منعم عزيز عظيم. وكذا أثبت لنفسه اليدين والعينين والوجه والقم واللسان إلى غيرذلك من الصفات: فمنها ما يقتضي صحة ألوهية مثل العلم والقدرة والإرادة ثم الحياة التي هي شرط جميعها ومنها ما هي صفة كمال كالسمع والبصر والكلام ومنها ما يوهم النقص كالاستواء والنزول والمجيء وكالوجه واليدين والعينين التي هي صفات المحدثات. ثم أخبر الشارع أنا نرى ربنا يوم القيامة كالقمر ليلة البدر لا نضام في رؤيته كما ثبت في الصحيح. فأما السلف من الصحابة والتابعين فأثبثوا له صفات الألوهية والكمال وفوضوا إليه ما يوهم النقص ساكتين عن مدلوله. ثم اختلف الناس من بعدهم وجاء المعتزلة فأثبتوا هذه الصفات أحكاماً ذهنية مجردة ولم يثبتوا صفة تقوم بذاته وسموا ذلك توحيداً وجعلوا الإنسان خالقاً لأفعاله ولا تتعلق بها قدرة الله تعالى سيما الشرور والمعاصي منها إذ يمتنع على الحكيم فعلها. وجعلوا مراعاة الأصلح للعباد واجبة عليه. وسموا ذلك عدلاً بعد أن كانوا أولاً يقولون بنفي القدر وأن الأمر كله مستأنف بعلم حادث وقدرة وإرادة كذلك كما ورد في الصحيح. وإن عبد الله بن عمر تبرأ من معبد الجهني وأصحابه القائلين بذلك. وانتهى نفي القدر إلى واصل بن عطاء الغزالي منهم تلميذ الحسن البصري لعهد عبد الملك بن مروان. ثم آخراً إلى معمر السلمي ورجعوا عن القول به. وكان منهم أبو الهذيل العلاف وهو شيخ المعتزلة. أخذ الطريقة عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل. وكان من نفاة القدر واتبع رأي الفلاسفة في نفي الصفات الوجوددة لظهور مذاهبهم يومئذ. ثم جاء إبراهيم النظام وقال بالقدر واتبعوه. وطالع كتب الفلاسفة وشدد في نفي الصفات وقرر قواعد الاعتزال. ثم جاء الجاحظ والكعبي والجبائي وكانت طريقتهم تسمى علم الكلام: إما لما فيها من الحجاج والجدال وهو الذي يسمى كلاماً وإما أن أصل طريقتهم نفي صلة الكلام. فلهذا كان الشافعي يقول: حقهم أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم. وقرر هؤلاء طريقتهم وأثبتوا منها وردوا إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري وناظر بعض مشيختهم في مسائل الصلاح والأصلح فرفض طريقتهم وكان على رأي عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العباس القلانسي والحرث بن أسد المحاسبي من أتباع السلف وعلى طريقة السنة. فأيد مقالاتهم بالحجج الكلامية وأثبت الصفات القائمة بذات الله تعالى من العلم والقدرة والإرادة التي يتم بها دليل التمانع وتصح المعجزات للأنبياء. وكان من مذهبهم إثبات الكلام والسمع والبصر لأنها وإن أوهم ظاهراً النقص بالصوت والحرف الجسمانيين فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف والصوت وهو ما يدور في الخلد. والكلام حقيقة فيه دون الأول فأثبتوها لله تعالى وانتفى إيهام النقص. وأثبتوا هذه الصفة قديمة عامة التعلق بشأن الصفات الأخرى. وصار القرآن اسماً مشتركاً بين القديم بذات الله تعالى وهو الكلام النفسي والمحدث الذي هو الحروف المؤلفة المقروءة بالأصوات. فإذا قيل قديم فالمراد الأول وإذا قيل مقروء مسموع فلدلالة القراءة والكتابة عليه. وتوزع الإمام أحمد بن حنبل من إطلاق لفظ الحدوث عليه لأنه لم يسمع من السلف قبله: لا إنه يقول إن المصاحف المكتوبة قديمة ولا أن القراءة الجارية على السنة قديمة وهو شاهدها محدثة. وإنما منعه من ذلك الورع الذي كان عليه. وأما غير ذلك فإنكار للضروريات وحاشاه منه. وأما السمع والبصر وإن كان يوهم إدراك الجارحة فهو يدل أيضاً لغة على إدراك المسموع والمبصر وينتفي إيهام النقص حينئذ لأنه حقيقة لغوية فيهما. وأما لفظ الاستواء والمجيء والنزول والوجه واليدين والعينين وأمثال ذلك فعدلوا عن حقائقها اللغوية فما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها على طريقة العرب حيث تتعذر حقائق الألفاظ فيرجعون إلى المجاز. كما في قوله تعالى: " يريد أن ينقض " وأمثاله طريقة معروفة لهم غير منكرة ولا مبتدعة. وحملهم على هذا التأويل وإن كان مخالفاً لمذهب السلف في التفويض أن جماعة من أتباع السلف وهم المحدثون والمتأخرون من الحنابلة ارتكبوا في محمل هذه الصفات فحملوها على صفات ثابتة لله تعالى مجهولة الكيفية. فيقولون في: " استوى على العرش " تثبت له استواء بحيث مدلول اللفظة فراراً من تعطيله. ولا نقول بكيفيته فراراً من القول بالتشبيه الذي تنفيه آيات السلوب من قوله: " ليس كمثله شيء " " سبحان الله عما يصفون " " تعالى الله عما يقول الظالمون " " لم يلد ولم يولد " ولا يعلمون مع ذلك أنهم ولجوا من باب التشبيه في قولهم بإثبات استواء والاستواء عند أهل اللغة إنما موضوعه الاستقرار والتمكن وهو جسماني. وأما التعديل الذي يشنعون بإلزامه وهو تعطيل اللفظ فلا محذور فيه. وإنما المحذور في تعطيل الآلة. وكذلك يشنعون بإلزام التكليف بما لا يطاق وهو تمويه. لأن التشابه لم يقع في التكاليف. ثم يدعون أن هذا مذهب السلف وحاشا لله من ذلك. وإنما مذهب السلف ما قررناه أولاً من تفويض المراد بها إلى الله والسكوت عن فهمها. وقد يحتجون لإثبات الاستواء لله بقول مالك: " إن الاستواء معلوم الثبوت لله " وحاشاه من ذلك لأنه يعلم مدلول الاستواء. وإنما أراد أن الاستواء معلوم من اللغة وهو الجسماني وكيفيته أي حقيقته. لأن حقائق الصفات كلها كيفيات وهي مجهولة الثبوت لله. وكذلك يحتجون على إثبات المكان بحديث السوداء وأنها لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " أين الله وقالت: في السماء فقال: أعتقها فإنها مؤمنة. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت لها الإيمان بإثباتها المكان لله بل لأنها آمنت بما جاء به من ظواهر أن الله في السماء فدخلت في جملة الراسخين الذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف عن معناه. والقطع بنفي المكان حاصل من دليل العقل النافي للافتقار. ومن أدلة السلوب المؤذنة بالتنزيه مثل " ليس كمثله شيء " وأشباهه. ومن قوله: " وهو الله في السماوات وفي الأرض " إذ الموجود لا يكون في مكانين فليست في هذا للمكان قطعاً والمراد غيره. ثم طردوا ذلك المحمل الذي ابتدعوه في ظواهر الوجه والعينين واليدين والنزول والكلام بالحرف والصوت يجعلون لها مدلولات أعم من الجسمانية وينزهونه عن مدلول الجسماني منها. وهذا شيء لا يعرف في اللغة. وقد درج على ذلك الأول والآخر منهم. ونافرهم أهل السنة من المتكلمين الأشعرية والحنفية. ورفضوا عقائدهم في ذلك ووقع بين متكلمي الحنفية ببخارى وبين الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ما هو معروف. وأما المجسمة ففعلوا مثل ذلك في إثبات الجسمية وأنها لا كالأجسام. ولفظ الجسم له يثبت في منقول الشرعيات. وإنما جرأهم عليه إثبات هذه الظواهر فلم يقتصروا عليه بل توغلوا وأثبتوا الجسمية يزعمون فيها مثل ذلك وينزهونه بقول متناقض سفساف وهو قولهم: جسم لا كالأجسام. والجسم في لغة العرب هو العميق المحدود وغير هذا التفسير من أنه القائم بالذات أو المركب من الجواهر وغير ذلك فاصطلاحات للمتكلمين يريدون بها غير المدلول اللغوي. فلهذا كان المجسمة أوغل في البدعة بل والكفر. حيث أثبتوا لله وصفاً موهماً يوهم النقص لم يرد في كلامه ولا كلام نبيه. فقد تبيين لك الفرق بين مذاهب السلف والمتكلمين السنية والمحدثين والمبتدعة من المعتزلة والمجسمة بما أطلعناك عليه. وفي المحدثين غلاة يسمون المشبه لتصريحهم بالتشبيه حتى إنه يحكى عن بعضهم أنه قال: اعفوني من اللحية والفرج وسلوا عما بدا لكم من سواهما. وإن لم يتأول ذلك لهم بأنهم يريدون حصر ما ورد من هذه الظواهر الموهمة وحملها على ذلك المحمل الذي لأئمتهم وإلا فهو كفر صريح والعياذ بالله. وكتب أهل السنة مشحونة بالحجاج على هذه البدع وبسط الرد عليهم بالأدلة الصحيحة. وإنما أومأنا إلى ذلك إيماء يتميز به فصول المقالات وجملها. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وأما الظواهر الخفية الأدلة والدلالة كالوحي والملائكة والروح والجن والبرزخ وأحوال القيامة والدجال والفتن والشروط وسائر ما هو متعذر على الفهم أو مخالف للعادات فإن حملناه على ما يذهب إليه الأشعرية في تفاصيله وهم أهل السنة فلا تشابه وإن قلنا فيه بالتشابه فلنوضح القول فيه بكشف الحجاب عنه فنقول: اعلم أن العالم البشري أشرف العوالم من الموجودات وأرفعها. وهو وإن اتحدت حقيقة الإنسانية فيه فله أطوار يخالف كل واحد منها الآخر بأحوال تختص به حتى كأن الحقائق فيها مختلفة. فالطور الأول: عالمه الجسماني بحسه الظاهر وفكره المعاشي وسائر تصرفاته التي أعطاه إياها وجوده الحاضر. الطور الثاني: عالم النوم وهو تصور الخيال بإنفاذ تصوراته جائلة في باطنه فيدرك منها بحواسه الظاهرة مجردة عن الأزمنة والأمكنة وسائر الأحوال الجسمانية ويشاهدها في إمكان ليس هو فيه. ويحدث للصالح منها البشرى بما يترقب من مسراته الدنيوية والأخروية كما وعد به الصادق صلوات الله عليه. وهذان الطوران عامان في جميع أشخاص البشر وهما مختلفان في المدارك كما تراه. الطور الثالث: طور النبوة وهو خاص بإشراف صنف البشر بما خصهم الله به من معرفته وتوحيده وتنزل ملائكته عليهم بوحيه وتكليفهم بإصلاح البشر في أحوال كلها مغايرة للأحوال البشرية الظاهرة. الطور الرابع: طور الموت الذي تفارق أشخاص البشر فيه حياتهم الظاهرة إلى وجود قبل القيامة يسمى البرزخ يتنعمون فيه ويعذبون على حسب أعمالهم ثم يفضون إلى يوم القيامة الكبرى وهي دار الجزاء الأكبر نعيماً وعذاباً في الجنة أو في النار. والطوران الأولان شاهدهما وجداني والطور الثالث النبوي شاهده المعجزة والأحوال المختصة بالأنبياء والطور الرابع شاهده ما تنزل على الانبياء من وحي الله تعالى في المعاد وأحوال البرزخ والقيامة مع أن العقل يقتضي به كما نبهنا الله عليه في كثير من آيات البعثة. ومن أوضح الدلالة على صحتها أن أشخاص الإنسان لو لم يكن لهم وجود آخر بعد الموت غير هذه المشاهد يتلقى فيه أحوالاً تليق به. لكان إيجاده الأول عبثاً. إذ الموت إذا كان عدماً كان مآل الشخص إلى العدم فلا يكون لوجوط الأول حكمة. والعبث على الحكيم محال. وإذا تقررت هذه الأحوال الأربعة فلنأخذ في بيان مدارك الإنسان فيها كيف تختلف اختلافاً بيناً يكشف لك غور المتشابه. فأما مداركه في الطور الأول فواضحة جلية. قال الله تعالى: " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة " فبهذه المدارك يستولي على ملكات المعارف ويستكمل حقيقة إنسانية ويوفي حق العبادة المفضية به إلى النجاة. وأما مداركه في الطور الثاني وهو طور النوم فهي المدارك التي في الحس الظاهر بعينها. لكن ليست في الجوارح كما هي في اليقظة. لكن الرأي يتيقن كل شيء أدركه في نومه لا يشك فيه ولا يرتاب مع خلو الجوارح عن الاستعمال العادي لها. والناس في حقيقة هذه الحال فريقان: الحكماء ويزعمون أن الصور الخيالية يدفعها الخيال بحركة الفكر إلى الحس المشترك الذي هو الفصل المشترك بين الحس الظاهر والحس الباطن فتصور محسوسه بالظاهر في الحواس كلها. ويشكل عليهم هذا بأن المرائي الصادقة التي هي من الله تعالى أو من الملك أثبت وأرسخ في الإدراك من المرائي الخيالية الشيطانية مع أن الخيال فيها على ما قرروه واحد. الفريق الثاني: المتكلمون أجملوا فيها القول وقالوا: هو إدراك يخلقه الله في الحاسة فيقع كما يقع في اليقظة وهذا أليق وإن كنا لا نتصور كيفيته. وهذا الإدراك النومي أوضح شاهد على ما يقع بعده من المدارك الحسية في الأطوار. وأما الطور الثالث وهو طور الأنبياء فالمدارك الحسية فيها مجهولة الكيفية عند وجدانيته عندهم بأوضح من اليقين. فيرى النبي الله والملائكة ويسمع كلام الله منه أو من الملائكة ويرى الجنة والنار والعرش والكرسي ويخترق السماوات السبع في إسرائه ويركب البراق فيها ويلقى النبيين هنالك ويصلي بهم ويدرك أنواع المدارك الحسية كما يدرك في طوره الجسماني والنومي بعلم ضروري يخلقه الله له لا بالإدراك العادي للبشر في الجوارح ولا يلتفت في ذلك إلى ما يقوله ابن سينا من تنزيله أمر النبوة على أمر النوم في دفع الخيال صوره إلى الحس المشترك. فإن الكلام عليهم هنا أشد من الكلام في النوم لأن هذا التنزيل طبيعة واحدة كما قررناه فيكون على هذا حقيقة الوحي والرؤيا من النبي واحدة في يقينها وحقيقتها وليست كذلك على ما علمت من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحي ستة أشهر وأنها كانت بمئة الوحي ومقدمته ويشعر ذلك بأنه رؤية في الحقيقة. وكذلك حال الوحي في نفسه فقد كان يصعب عليه ويقاسي منه شدة كما هي في الصحيح حتى كان القرآن يتنزل عليه آيات مقطعات. وبعد ذلك نزل عليه " براءة " في غزوة تبوك جملة واحدة وهو يسير على ناقته. فلو كان ذلك من تنزل الفكر إلى الخيال فقط ومن الخيال إلى الحس المشترك لم يكن بين هذه الحالات فرق. وأما الطور الرابع وهو طور الأموات في برزخهم الذي أوله القبر وهم مجردون عن البدن أو في بعثتهم عندما يرجعون إلى الأجسام فمداركهم الحسية موجودة فيرى الميت في قبره الملكان يسائلانه ويرى مقعده من الجنة أو النار بعيني رأسه ويرى شهود الجنازة ويسمع كلامهم وخفق نعالهم في الانصراف عنه ويسمع ما يذكرونه به من التوحيد أو من تقرير الشهادتين وغير ذلك. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر وفيه قتلى المشركين من قريش وناداهم بأسمائهم فقال عمر: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أتكلم هؤلاء الجيف فقال: " والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم لما أقول ". ثم في البعثة يوم القيامة يعاينون بأسمائهم وأبصارهم - كما كانوا يعاينون في الحياة من نعيم الجنة على مراتبه وعذاب النار على مراتبه ويرون الملائكة ويرون ربهم كما ورد في الصحيح: إنكم ترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته. وهذه المدارك لم تكن لهم في الحياة الدنيا وهي حسية مثلها وتقع في الجوارح بالعلم الضروري الذي يخلقه الله كما قلنا وسر هذا أن تعلم أن النفس الإنسانية هي تنشأ بالبدن وبمداركه فإذا فارقت البدن بنوم أو بموت أو صار النبي حالة الوحي من المدارك البشرية إلى المدارك الملكية فقد استصحبت ما كان معها من المدارك البشرية مجردة عن الجوارح فيدرك بها في ذلك الطور أي إدراك شاءت منها أرفع من إدراكها وهي في الجسد. قاله الغزالي رحمه الله وزاد على ذلك أن النفس الإنسانية صورة تبقى لها بعد المفارقة فيها العينان والأذنان وسائر الجوارح المدركة أمثالاً لها كان في البدن وصوراً. وأنا أقول: إنما يشير بذلك إلى الملكات الحاصلة من تصريف هذه الجوارح في بدنها زيادة على الإدراك. فإذا تفطنت لها كله علمت أن هذه المدارك موجودة في الأطوار الأربعة لكن ليس على ما كانت في الحياة الدنيا وإنما هي تختلف بالقوة والضعف بحسب ما يعرض لها من الأحوال. ويشير المتكلمون إلى ذلك إشارة مجملة بأن الله يخلق فيها علماً ضرورياً بتلك المدارك أي مدرك كان ويعنون به هذا القدر الذي أوضحناه. وهذه نبذة أومأنا بها إلى ما يوضح القول في المتشابه. ولو أوسعنا الكلام فيه لقصرت المدارك عنه. فلنفزع إلى الله سبحانه في الهداية والفهم عن أنبيائه وكتابه بما يحصل به الحق في توحيدنا والظفر بنجاتنا والله يهدي من يشاء. في علم التصوف هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة. وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية و أصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة. وقال القشيري رحمه الله: ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس. والظاهر أنه لقب. ومن قال: اشتقاقه من الصفاء أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي قال: وكذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه. قلت: والأظهر أن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف. فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم وذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك وإدراكه نوعان: إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والرضا والغضب والصبر والشكر وأمثال ذلك. فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات وإرادات وأحوال وهي التي يتميز بها الإنسان. وبعضها ينشأ من بعض كما ينشأ العلم عن الأدلة والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به والنشاط عن الحمام والكسل عن الإعياء. وكذلك المريد في مجاهدته وعبادته لا بد وأن ينشأ له عن كل مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة. وتلك الحالة إما أن تكون نوع عبادة فترسخ وتصير مقاماً للمريد وإما أن لا تكون عبادة وإنما تكون صفة حاصلة للنفس. من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات. ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة. قال صلى الله عليه وسلم: " من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة ". فالمريد لا بد له من الترقي في هذه الأطوار وأصلها كلها الطاعة والإخلاص ويتقدمها الإيمان ويصاحبها وتنشأ عنها الأحوال والصفات نتائج وثمرات. ثم تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التوحيد والعرفان. وإذا وقع تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله. وكذلك في الخواطر النفسانية والواردات القلبية. فلذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله وينظر في حقائقها لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري وقصورها من الخلل فيها كذلك. والمريد يجد ذلك بذوقه ويحاسب نفسه على أسبابه. ولا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة. وغاية أهل العبادات إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء والامتثال. وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أولاً فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي تحصل عن المجاهدات ثم تستقر للمريد مقاماً ويترقى منها إلى غيرها. ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة. فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه. فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه. وصار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها وكيفية الترقي منها من فوق إلى فوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك. فلما كتبت العلوم ودونت وألف الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقتهم. فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك كما فعله المحاسبي في كتاب الرعاية له ومنهم من كتب في آداب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم في الأحوال كما فعله القشيري في كتاب الرسالة والسهروردي في كتاب عوارف المعارف وأمثالهم. وجمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء فدون فيه أحكام الورع والاقتداء ثم بين آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم. وصار علم التصوف في الملة علما مدوناً بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك. ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحس والاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها والروح من تلك العوالم. وسبب هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح وغلب سلطانه وتجدد نشؤه وأعان على ذلك الذكر فإنه كالغذاء لتنمية الروح ولا يزال في نمو وتزيد إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً. ويكشف حجاب الحس ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها وهو عين الإدراك. فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم المدنية والفتح الإلهي وتقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة. وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم. وكذلك يدركون كثيراً من الواقعات قبل وقوعها ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية وتصير طوع إرادتهم. فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة ويتعوذون منه إذا هاجمهم. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنهم لم يقع لهم بها عناية. وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كثير منها. وتبعهم في ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم ومن تبع طريقتهم من بعدهم. ثم إن قوماً من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والكلام في المدارك التي وراءه واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها. فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ وأنهم كشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائقها كلها من العرش إلى الطش. هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحاً كاملاً عندهم إلا إذا كان ناشئاً عن الاستقامة لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع والخلوة وإن لم يكن هناك استقامة كالسحرة وغيرهم من المرتاضين. وليس مرادنا إلا الكشف الناشىء عن الاستقامة. ومثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدبة أو مقعرة وحوذي بها جهة المرئي فإنه يتشكل فيه معوجاً على غير صورته. وإن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحاً. فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال. ولما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية والسفلية وحقائق الملك والروح والعرش والكرسي وأمثال ذلك وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك. وأهل الفتيا بين منكرعليهم ومسلم لهم. وليس البرهان والدليل بنافع في هذه الطريق رداً وقبولاً إذ هي من قبيل الوجدانيات. تفصيل وتحقيق: يقع كثيراً في كلام أهل العقائد من علماء الحديث والفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته. ويقع للمتكلمين أنه لا مباين ولا متصل. ويقع للفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه. ويقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات: إما بمعنى الحلول فيها أو بمعنى انه هو عينها وليس هناك غيره جملة ولا تفصيلاً. فلنبين تفصيل هذه المذاهب ونشرح حقيقة كل واحد منها حتى تتضح معانيها فنقول إن المباينة تقال لمعنيين: أحدهما المباينة في الحيز والجهة ويقابله الاتصال. وتشعر هذه المقابلة على هذه التقيد بالمكان: إما صريحاً وهو تجسيم أو لزوماً وهو تشبيه من قبيل القول بالجهة. وقد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة فيحتمل غير هذا المعنى. من أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة وقالوا: لا يقال في البارىء أنه مباين مخلوقاته ولا متصل بها لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات. وما يقال من أن المحل لا يخلو عن الاتصاف بالمعنى وضده فهو مشروط بصحة الاتصاف أولاً وأما مع امتناعه فلا بل يجوز الخلو عن المعنى وضده كما يقال في الجماد لا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا كاتب ولا أمي. وصحة الاتصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول في الجهة على ما تقرر من مدلولها. والبارىء سبحانه منزة عن ذلك. ذكره ابن التلمساني في شرح اللمع لإمام الحرمين وقال: " ولا يقال في البارىء مباين للعالم ولا متصل به ولا داخل فيه ولا خارج عنه. وهو معنى ما يقوله الفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه بناء على وجود الجواهر غير المتحيزة. وأنكرها المتكلمون لما يلزم من مساواتها للبارىء في أخص الصفات وهو مبسوط في علم الكلام. وأما المعنى الآخر للمباينة فهو المغايرة والمخالفة فيقال: البارىء مباين لمخلوقاته في ذاته وهويته ووجوده وصفاته. ويقابله الاتحاد والامتزاج والاختلاط. وهذه المباينة هي مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف وعلماء الشرائع والمتكلمين والمتصوفة الأقدمين كأهل الرسالة ومن نحا منحاهم. وذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيروا المدارك الوجدانية علمية نظرية إلى أن البارىء تعالى متحد بمخلوقاته في هويته ووجوده وصفاته. وربما زعموا أنه مذهب الفلاسفة قبل أرسطو مثل أفلاطون وسقراط وهو الذي يعينه المتكلمون حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصرفة ويحاولون الرد عليه لأنه ذاتان تنتفي إحداهما أو تندرج اندراج الجزء فإن تلك مغايرة صريحة ولا يقولون بذلك. وهذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح عليه السلام وهو أغرب لأنه حلول قديم في محدث أو اتحاده به. وهو أيضاً عين ما تقوله الإمامية من الشيعة في الأمامية. وتقرير هذا الاتحاد في كلامهم على طريقين: الأولى: أن ذات القديم كائنة في المحدثات محسوسها ومعقولها متحدة بها في المتصورين وهي كلها مظاهر له وهو القائم عليها أي المقوم لوجودها بمعنى لولاه كانت عدماً وهو رأي أهل الحلول. الثانية: طريق أهل الوحدة المطلقة وكأنهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيرية المنافية لمعقول الاتحاد فنفوها بين القديم وبين المخلوقات في الذات والوجود والصفات. وغالطوا في غيرية المظاهر المدركة بالحس والعقل بأن ذلك من المدارك البشرية وهي أوهام. ولا يريدون الوهم الذي هو قسيم العلم والظن والشك وإنما يريدون أنها كلها عدم في الحقيقة وجود في المدرك البشري فقط. ولا وجود بالحقيقة إلا للقديم لا في الظاهر ولا في الباطن كما نقرره بعد بحسب الإمكان. والتعويل في تعقل ذلك على النظر والاستدلال كما في المدارك البشرية غير مفيد لأن ذلك إنما ينقل من المدارك الملكية وإنما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة ومن بعدهم للأولياء بهدايتهم. وقصد من يصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال. وربما قصد بعض المصنفين ذلك في كشف الموجودات وترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى بالأغمض فالأغمض. وربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود وترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر والاصطلاحات والعلوم. كما فعل الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض في الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل وترتيبه أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية وهما معاً صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير. ويسمون هذا الصدور بالتجلي. وأول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه وهو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد والظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه: " كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني ". وهذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود وتفصيل الحقائق وهو عندهم عالم المعاني والحضرة الكمالية والحقيقة المحمدية وفيها حقائق الصفات واللوح والقلم وحقائق الأنبياء والرسل أجمعين والكمل من أهل الملة المحمدية. وهذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية. ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائية وهي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك ثم عالم العناصر ثم عالم التركيب. هذا في عالم الرتق فإذا تجلت فهي في عالم الفتق. انتهى. ويسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلي والمظاهر والحضرات وهوكلام لا يقدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل. وربما أنكر بظاهر الشرع هذا الترتيب فإنه لا يعرف في شيء من مناحيه. وكذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة وهو رأي أغرب من الأول في تعقله وتفاريعه يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات وصورها وموادها. والعناصر إنما كانت بما فيها من القوى وكذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها. ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب. كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها وزيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية وزيادة قوتها في نفسها وكذا القوة الإنسانية مع الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة. وكذا الذوات الروحانية والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية وجزئية وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصورة ولا من جهة المادة فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية وهي في الحقيقة واحدة بسيطة والاعتبار هو المفضل لها كالإنسانية مع الحيوانية. ألا ترى أنها مندرجة فيها وكائنة بكونها. فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع في كل موجود كما ذكرناه وتارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال. وهم في هذا كله يفرون من التركيب والكثرة بوجه من الوجوه وإنما أوجبها عندهم الوهم والخيال. والذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما يقوله الحكماء في الألوان من أن وجودها مشروط بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه. وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي بل والموجودات المعقولة والمتوهمة أيضاً مشروطة بوجود المدرك العقلي فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري. فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل في الوجود بل هو بسيط واحد. فالحر والبرد والصلابة واللين بل والأرض والماء والنار والسماء والكواكب إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود وإنما هو في المدارك فقط. فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل إنما هو إدراك واحد وهو أنا لا غيره. ويعتبرون ذلك بحال النائم فإنه إذا نام وفقد الحس الظاهر فقد كل محسوس وهو في تلك الحالة إلا ما يفصله له الخيال. قالوا: فكذلك اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري ولو قدر فقد مدركه فقد التفصيل وهذا هو معنى قولهم: الوهم لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية. هذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان وهو في غاية السقوط لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون إليه يقيناً مع غيبته عن أعيينا وبوجود السماء المظلة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنا. والإنسان قاطع بذلك ولا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون: إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة ويسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات ويعبرون عن ذلك بمقام الفرق وهو مقام العارف المحقق. ولا بد للمريد عندهم من عقبة الجمع وهي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته. فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة. ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه وملأوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له وغيره. وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ثم ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم. وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضاً بالحلول وإلهية الأئمة مذهباً لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر. واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم. وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ومعناه رأس العارفين. يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله. ثم يورث مقامه الآخر من أهل العرفان. وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فصول التصوف منها فقال: " جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد ". وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي وإنما هو من أنواع الخطابة وهو بعينه ما تقوله الرافضة في توارث الأئمة عندهم. فانظر كيف سرقت طباع هؤلاء القوم هذا الرأي من الرافضة ودانوا به. ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء. حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلاً لطريقتهم ونحلتهم رفعوه إلى علي رضي الله عنه وهو من هذا المعنى أيضاً. وإلا فعلي رضي الله عنه لم يختص من بين الصحابة بنحلة ولا طريقة في لباس ولا حال. بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة. ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه على الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة. تشهد بذلك سيرهم وأخبارهم. نعم إن الشيعة يخيلون بما ينقلون من ذلك اختصاص علي بالفضائل دون من سواه من الصحابة ذهاباً مع عقائد التشيع المعروفة لهم. والذي يظهر أن المتصوفة بالعراق لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة وظهر كلامهم في الإمامة وما يرجع إليها ما هو معروف فاقتبسوا من ذلك الموازنة بين الظاهر والباطن وجعلوا الإمامة لسياسة الخلق في الانقياد إلى الشرع وأفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر في الشرع. ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين وأفردوه بذلك تشبيهاً بالإمام في الظاهر وأن يكون على وزانه في الباطن وسموه قطباً لمدار المعرفة عليه وجعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة في التشبيه. فتأمل ذلك. يشهد بذلك كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي وما شحنوا به كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم. والله يهدي إلى الحق. تذييل: وقد رأيت أن أجلب هنا فصلاً من كلام شيخنا العارف كبير الأولياء بالأندلس أبي مهدي عيسى بن الزيات كان يقع له أكثر الأوقات على أبيات الهروي التي وقعت له في كتاب المقامات توهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرح بها وهي قوله: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته تثنية أبطلها الواحد توحيدة إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه: استشكل الناس إطلاق لفظ الجحود على كل من وحد الواحد ولفظ الإلحاد على من نعته ووصفه. واستبشعوا هذه الأبيات وحملوا قائلها على الكفر واستخفوه. ونحن نقول على رأي هذه الطائفة أن معنى التوحيد عندهم انتفاء عين الحدوث بثبوت عين القدم وأن الوجود كله حقيقة واحدة وآنية واحدة. وقد قال أبو سعيد الجزار من كبار القوم: الحق عين ما ظهر وعين ما بطن. ويرون أن وقوع التعدد في تلك الحقيقة وجود الاثنينية. وهم باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الضلال والصدا والمرأى. وأن كل ما سوى عين القدم إذا استتبع فهو عدم. وهذا معنى: كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما هو عليه كان عندهم. ومعنى قول لبيد الذي صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " ألا كل شيء ما خلا الله باطل ". قالوا فمن وحد ونعت فقد قال بموجد محدث هو نفسه وتوحيد محدث هو فعله موجد قديم هو معبود. وقد تقدم معنى التوحيد انتفاء عين الحدوث وعين الحدوث الآن ثابتة بل متعددة والتوحيد مجحود والدعوى كاذبة. كمن يقول لغيره وهما معاً في بيت واحد: ليس في البيت غيرك! فيقول الآخر بلسان حاله: " لا يصح هذا إلا لوعدمت أنت "!. . . وقد قال بعض المحققين في قولهم: خلق الله الزمان هذه ألفاظ تناقض أصولها لأن خلق الزمان متقدم على الزمان وهو فعل لا بد من وقوعه في الزمان وإنما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق وعجز اللغات عن تأدية الحق فيها وبها. فإذ تحقق أن الموحد هو الموحد وعدم ما سواه جملة صح التوحيد حقيقة. وهذا معنى قولهم: " لا يعرف الله إلا الله ". ولا حرج على من وحد الحق مع بقاء الرسوم والآثار وإنما هو من باب: " حسنات الأبرار سيئات المقربين ". لأن ذلك لازم التقييد والعبودية والشفعية. ومن ترقى إلى مقام الجمع كان في حقه نقصاً مع علمه بمرتبته وأنه تلبيس تستلزمه العبودية ويرفعه الشهود ويطهر من دنس حدوثه عين الجمع. وأعرق الأصناف في هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة. ومدار المعرفة بكل اعتبار على الانتهاء إلى الواحدة وإنما صدر هذا القول من الناظم على سبيل التحريض والتنبيه والتفطين لمقام أعلى ترتفع فيه الشفعية ويحصل التوحيد المطلق عيناً لا خطاباً. وعبارة فمن سلم استراح ومن نازعته حقيقة أنس بقوله: كنت سمعه وبصره. وإذا عرفت المعاني لا مشاحة في الألفاظ. والذي يفيده هذا كله تحقق أمر فوق هذا الطور لا نطق فيه ولا خبر عنه. وهذا المقدار من الإشارة كاف. والتعلق في مثل هذا حجاب وهو الذي أوقع في المقالات المعروفة ". انتهى كلام الشيخ أبي مهدي الزيات ونقلته من كتاب الوزير ابن الخطيب الذي ألفه في المحبة وسماه التعريف بالحب الشريف. وقد سمعته من شيخنا أبي مهدي مراراً إلا أني رأيت رسوم الكتاب. أوعى له لطول عهدي به. والله الموفق. ثم إن كثيراً من الفقهاء وأهل الفتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات وأمثالها وشملوا بالنكير سائر ما وقع لهم في الطريقة. والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل فإن كلامهم في أربعة مواضع: أحدها الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاماً ويترقى منه إلى غيره كما قلناه وثانيها الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد وتركيب الأكوان في صدورها عن موجدها ومكونها كمامر وثالثها التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات ورابعها ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأول. فأما الكلام في المجاهدات والمقامات وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها ومحاسبة النفس على التقصير في أسبابها فأمر لا مدفع فيه لأحد وأذواقهم فيه صحيحة والتحقق بها هو عين السعادة وأما الكلام في كرامات القوم وإخبارهم بالمغيبات وتصرفهم في الكائنات فأمر صحيح غير منكر. وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق. وما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني من أئمة الأشعرية على إنكارها لالتباسها بالمعجزة فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي وهو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به. قالوا: ثم إن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية فإن صفة نفسها التصديق. فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها وهو محال. هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات وإنكارها نوع مكابر. وقد وقع للصحابة وأكابر السلف كثير من ذلك وهو معلوم مشهور. وأما الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنه وجداني عندهم وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه. واللغات لا تعطي دلالة على مرادهم منه لأنها لم توضع إلا للمتعارف وأكثره من المحسوسات. فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك ونتركه فيما تركناه من المتشابه. ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة فأكرم بها سعادة. وأما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطحات ويؤاخذهم بها أهل الشرع فاعلم أن الإنصاف. في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه وصاحب الغيبة غير مخاطب والمجبور معذور. فمن علم منهم فضله واقتداؤه حمل على القصد الجميل من هذا وأمثاله. وإن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد البسطامي وأمثاله. ومن لم يعلم فضله ولا اشتهر فمؤاخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه. وأما من تكلم بمثلها وهو حاضر في حسه ولم يملكه الحال فمؤاخذ أيضاً. ولهذا أفتى الفقهاء وأكابر المتصوفة بقتل الحلاج لأنه تكلم في حضور وهو مالك لحاله. والله أعلم. وسلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب ولا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الاتباع والاقتداء ما استطاعوا. ومن عرض له شيء من ذلك أعرض عنه ولم يحفل به بل يفرون منه ويرون أنه من العوائق والمحن وأنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث وأن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان. وعلم الله أوسع وخلقه أكبر وشريعته بالهداية أملك فلم ينطقوا بشيء مما يدركون. بل حظروا الخوض في ذلك ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده بل ويلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع والاقتداء ويأمرون أصحابهم بالتزامها. وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد. والله الموفق للصواب. |
الفصل الثامن عشر علم تعبير الرؤيا
هذا العلم من العلوم الشرعية وهو حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع وكتب الناس فيها. وأما الرؤيا والتعبير لها فقد كان موجوداً في السلف كما هو في الخلف. وربما كان في الملوك والأمم من قبل إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبرين من أهل الإسلام. وإلا فالرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق ولا بد من تعبيرها. فلقد كان يوسف الصديق صلوات الله عليه يعبر الرؤيا كما وقع في القرآن. وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر رضي الله عنه. والرؤيا مدرك من مدارك الغيب. وقال صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. وقال: " لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له ". وأول ما بدىء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه: " هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا " يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك مما فيه ظهور الدين وإعزازه. وأما السبب في كون الرؤيا مدركاً للغيب فهو أن الروح القلبي وهو البخار اللطيف المنبعث من تجويف القلب اللحمي ينتشر في الشريانات ومع الدم في سائر البدن وبه تكمل أفعال القوى الحيوانية وإحساسها. فإذا أدركه الملال بكثرة التصرف في الإحساس بالحواس الخمس وتصريف القوى الظاهرة وغشي سطح البدن ما يغشاه من برد الليل انخنس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي فيستجم بذلك لمعاودة فعله فتعطلت الحواس الظاهرة كلها وذلك هو معنى النوم كما تقدم في أول الكتاب. ثم إن هذا الروح القلبي هو مطية للروح العاقل من الإنسان والروح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته إذ حقيقته وذاته عين الإدراك. وإنما يمنع من تعقله للمدارك الغيبية ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن وقواه وحواسه. فلو قد خلا من هذا الحجاب وتجرد عنه لرجع إلى حقيقته وهو عين الإدراك فيعقل كل مدرك. فإذا تجرد عن بعضها خفت شواغله فلا بد له من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرد له وهو في هذه الحالة قد خفت شواغل الحس الظاهر كلها وهي الشاغل الأعظم فاستعد لقبول ما هنالك من المدارك اللائقة به من عالمه. وإذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع به إلى بدنه. إذ هو ما دام في بدنه جسماني لا يمكنه التصرف إلا بالمدارك الجسمانية. والمدارك الجسمانية للعلم إنما هي الدماغية والمتصرف منها هو الخيال. فإنه ينترع من الصور المحسوسة صوراً خيالية ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت للحاجة إليها عند النظر والاستدلال. وكذلك تجرد النفس منها صوراً أخرى نفسانية عقلية فيترقى التجريد من المحسوس إلى المعقول والخيال واسطة بينهما. وكذلك إذا أدركت النفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال فيصوره بالصورة المناسبة له ويدفعه إلى الحس المشترك فيراه النائم كأنه محسوس فيتنزل المدرك من الروح العقلي إلى الحسي. والخيال أيضاً واسطة. هذه حقيقة الرؤيا. ومن هذا التقرير يظهر لك الفرق بين الرؤيا الصادقة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنها كلها صور في الخيال حالة النوم. لكن إن كانت تلك الصور متنرلة من الروح العقلي المدرك فهي رؤيا وإن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها منذ اليقظة فهي واعلم أن للرؤيا الصادقة علامات تؤذن بصدقها وتشهد بصحتها فيستشعر الرائي البشارة من الله بما ألقى إليه في نومه: فمنها سرعة انتباه الرائي عندما يدرك الرؤيا كأنه يعاجل الرجوع إلى الحس باليقظة ولو كان مستغرقاً في نومه لثقل ما ألقي عليه من ذلك الإدراك فيفر من تلك الحالة إلى حالة الحس التي تبقى النفس فيها منغمسة بالبدن وعوارضه ومنها ثبوت ذلك الإدراك ودوامه بانطباع تلك الرؤيا بتفاصيلها في حفظه فلا يتخللها سهو ولا نسيان. ولا يحتاج إلى إحضارها بالفكر والتذكر بل تبقى متصورة في ذهنه إذا انتبه. ولا يغرب عنه شيء منها لأن الإدراك النفساني ليس بزماني ولا يلحقه ترتيب بل يدركه دفعة في زمن فرد. وأضغاث الأحلام زمانية لأنها في القوى الدماغية يستخرجها الخيال من الحافظة إلى الحس المشترك كما قلناه. وأفعال البدن كلها زمانية فيلحقها الترتيب في الإدراك والمتقدم والمتأخر. ويعرض النسيان العارض للقوى الدماغية. وليس كذلك مدارك النفس الناطقة إذ ليست بزمانية ولا ترتيب فيها. وما ينطبع فيها من الإدراكات فينطبع دفعة واحدة في أقرب من لمح البصر. وقد تبقى الرؤيا بعد الانتباه حاضرة في الحفظ أياماً من العمر لا تشذ بالغفلة عن الفكر بوجه إذا كان الإدراك الأول قوياً وإذا كان إنما يتذكر الرؤيا بعد الانتباه من النوم بإعمال الفكر والوجهة إليها وينسى الكثير من تفاصيلها حتى يتذكرها فليست الرؤيا بصادقة وإنما هي من أضغاث الأحلام. وهذه العلامات من خواص الوحي. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه " والرؤيا لها نسبة من النبوة والوحي كما في الصحيح. قال صلى الله عليه وسلم: الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة فلخواصها أيضاً نسبة إلى خواص النبوة وبذلك القدر فلا تستبعد ذلك فهذا وجه الحق. والله الخالق لما يشاء. وأما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي إذا أدرك مدركه وألقاه إلى الخيال فصوره فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء كما يدرك معنى السلطان الأعظم فيصوره الخيال بصورة البحر أو يدرك العداوة فيصورها الخيال في صورة الحية. فإذا استيقظ وهو لم يعلم من أمره إلا أنه رأى البحر أو الحية فينظر المعبر بقوة التشبيه بعد أن يتيقن أن البحر صورة محسوسة وأن المدرك وراءها وهو يهتدي بقرائن أخرى تعين له المدرك فيقول مثلاً هو السلطان: لأن البحر خلق عظيم يناسب أن تشبه به السلطان وكذلك الحية يناسب أن تشبه بالعدو لعظم ضررها وكذا الأواني تشبه بالنساء لأنهن أوعية وأمثال ذلك. ومن المرئي ما يكون صريحاً لا يفتقر إلى تعبير لجلائها ووضوحها أو لقرب النسبة فيها بين المدرك وشبهه. ولهذا وقع في الصحيح الرؤيا ثلاث: رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشيطان. فالرؤيا التي من الله هي الصريحة التي لا تفتقر إلى تأويل والتي من الملك هي الرؤيا الصادقة تفتقر إلى التعبير والرؤيا التي من الشيطان هي الأضغاث. واعلم أيضاً أن الخيال إذا ألقى إليه الروح مدركه فإنما يصوره في القوالب المعتادة للحس وما لم يكن الحس أدركه قط من القوالب فلا يصور فيه شيئأً. فلا يمكن من ولد أعمى اكمه أن يصور له السلطان بالبحر ولا العدو بالحية ولا النساء بالآواني لآنه لم يدرك شيئاً من هذه. وإنما يصور له الخيال أمثال هذه في شبهها ومناسبها من جنس مداركه التي هي المسموعات والمشمومات. وليتحفظ المعبرمن مثل هذا فربما اختلط به التعبيروفسد قانونه. ثم إن علم التعبير علم بقوانين كلية يبني عليها المعبرعبارة ما يقص عليه. وتأويله كما يقولون: البحر يدل على السلطان وفي موضع آخريقولون: البحريدل على الغيظ وفي موضع آخر على الهم والأمر الفادح. ومثل ما يقولون: الحية تدل على العدو وفي موضع آخريقولون تدل على الحياة وفي موضع آخر هي كاتم سر وأمثال ذلك. فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية. ويعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعين من هذه القوانين ما هوأليق بالرؤيا. وتلك القرائن منها في اليقظة ومنها في النوم ومنها ما ينقدح في نفس المعبربالخاصية التي خلقت فيه وكل ميسرلما خلق له. ولم يزل هذا العلم متناقلا بين السلف. وكان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء وكتبت عنه في ذلك قوانين وتناقلها الناس لهذا العهد. وألف الكرماني فيه من بعده. ثم ألف المتكلمون المتأخرون وأكثروا. والمتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيرواني من علماء القيروان مثل الممتع وغيره وكتاب الإشارة للسالمي من أنفع الكتب فيه وأحضرها. وكذلك كتاب المرقبة العليا لابن راشد من مشيختنا بتونس. وهوعلم مضيء بنور النبوة للمناسبة التي بينهما ولكونها كانت من مدارك الوحي كما وقع في الصحيح. والله علام الغيوب. |
الفصل التاسع عشر العلوم العقلية وأصنافها
وأما العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان من حيث إنه ذوفكرفهي غيرمختصة بملة بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم ويستوون في مداركها ومباحثها. وهي موجودة في النوع الإنساني منذكان عمران الخليقة. وتسمى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة وهي مشتملة على أربعة علوم: الأول علم المنطق وهو علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة من الآمور الحاصلة المعلومة وفائدته تمييز الخطأ من الصواب فيما يلتمسه الناظر في الموجودات وعوارضها ليقف على تحقيق الحق في الكائنات نفياً وثبوتاً بمنتهى فكره. ثم النظر بعد ذلك عندهم إما في المحسوسات من الأجسام العنصرية والمكونة عنها من المعدن والنبات والحيوان والأجسام الفلكية والحركات الطبيعية. أو النفس التي تنبعث عنها الحركات وغيرذلك ويسمى هذا الفن بالعلم الطبيعي وهو العلم الثاني منها. وإما أن يكون النظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات ويسمونه العلم الإلهي وهو العلم الثالث منها. والعلم الرابع وهو الناظر في المقادير ويشتمل على اربعة علوم وهي تسمى التعاليم. أولها: علم الهندسة وهو النظر في المقادير على الإطلاق. إما المنفصلة من حيث كونها معدودة أو المتصلة وهي إما ذو بعد واحد وهو الخط أو ذو بعدين وهو السطح أو ذو أبعاد ثلاثة وهو الجسم التعليمي. ينظر في هذين المقادير وما يعرض لها أما من حيث ذاتها أومن حيث نسبة بعضها إلى بعض. وثانيها: علم الأرتماطيقي وهو معرفة ما يعرض للكم المنفصل الذي هو العدد ويؤخذ له من الخواص والعوارض اللاحقة. وثالثها: علم الموسيقى وهو معرفة نسب الأصوات والنغم بعضها من بعض وتقديرها بالعدد ورابعها: علم الهيئة وهو تعيين الأشكال للأفلاك وحصر أوضاعها وتعددها لكل كوكب من السيارة والثابتة والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية! المشاهدة الموجودة لكل واحد منها ومن رجوعها واستقامتها وإقبالها وإدبارها. فهذه اصول العلوم الفلسفية وهي سبعة: المنطق وهو المقدم منها وبعده التعاليم فالآرتماطيقي أولا ثم الهندسة ثم الهيئة ثم الموسيقى ثم الطبيعيات ثم الإلهيات ولكل واحد منها فروع تتفرع عنه. فمن فروع الطبيعيات الطب ومن فروع علم العدد علم الحساب والفرائض والمعاملات ومن فروع الهيئة الأزياج وهي قوانين لحسبانات حركات الكواكب وتعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك: ومن فروع النظر في النجوم علم الأحكام النجومية. ونحن نتكلم عليها واحدا بعد واحد إلى آخرها. واعلم أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام وهما فارس والروم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم على ما بلغنا لما كان العمران موفوراً فيهم والدولة والسلطان قبل الإسلام وعصره لهم فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم وأمصارهم. وكان للكلدانيين ومن قبلهم من السريانيين ومن عاصرهم من القبط عناية بالسحر والنجامة وما يتبعها من الطلاسم. واخذ ذلك عنهم الامم من فارس ويونان فاختص بها القبط وطمى بحرها فيهم كما وقع في المتلومن خبر هاروت وماروت وشأن السحرة وما نقله أهل العلم من شأن البرابي بصعيد مصر. ثم تتابعت الملل بحظر ذلك وتحريمه فدرست علومه وبطلت كأن لم تكن إلا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصنائع. الله أعلم بصحتها. مع ان سيوف الشرع قائمة على ظهورها مانعة من اختبارها. وأما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيماً ونطاقها متسعاً لما كانت عليه دولتهم من الضخامة واتصال الملك. ولقد يقال: إن هذه العلوم إنما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا وغلب على مملكة الكينية فاستولى على كتبهم وعلومهم. إلأ أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس وأصابوا من كتبهم وصحائف علومهم ما لا يأخذه الحصر كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمرأن اطرحوها في الماء. فإن يكن ما فيها هدًى فقد هدانا الله بأهدى منه وإن يكن ضلالاً فقد كفاناه الله. فطرحوها في الماء أو في النار وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا. وأما الروم فكانت الدولة منهم ليونان أولاً وكان لهذه العلوم بينهم مجال رحب وحملها مشاهير من رجالهم مثل أساطين الحكمة وغيرهم. واختص فيها المشاؤون منهم أصحاب الرواق بطريقة حسنة في التعليم. كانوا يقرأون في رواق يظلهم من الشمس والبرد على ما زعموا. واتصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه إلى سقراط الدن ثم إلى تلميذه أفلاطون ثم إلى تلميذه أرسطو ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفروسي وتامسطيوس وغيرهم. وكان أرسطو معلما للإسكندر ملكهم الني غلب الفرس علي ملكهم وانتزع الملك من أيديهم. وكان أرسخهم في هذه العلوم قدما وأبعدهم فيها صيتاً وشهرةً. وكان يسمى المعلم الأول فطار له في العالم ذكر. ولما انقرض أمر اليونان وصار الأمر للقياصرة وأخذوا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشرائع فيها. وبقيت في صحفها ودواوينها مخلدةً باقيةً في خزائنهم. ثم ملكوا الشام وكتب هذه العلوم باقيةٌ فيهم. ثم جاء الله بالإسلام وكان لأهله الظهور الذي لا كفاء له وابتزوا الروم ملكهم فيما ابتزوه للأمم. وابتدأ أمرهم بالسذاجة والغفلة عن الصنائع حتى إذا تبحبح السلطان والدولة وأخذوا من الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم وتفننوا في الصنائع والعلوم. تشوفوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية بما سمعوا من الأساقفة والأقسة المعاهدين بعض ذكر منها وبما تسموا إليه أفكار الإنسان فيها. فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدوس وبعض كتب الطبيعيات. فقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها وازدادوا حريصاً على الظفر بما بقي منها. وجاء المأمون بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصاً وأوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي. وبعث المترجمين لذلك فأوعى منه واستوعب. وعكف عليها النظار من أهل الإسلام وحذقوا في فنونها وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها. وخالفوا كثيراً من آراء المعلم الأول واختصوه بالرد والقبول لوقوف الشهرة عنه. ودونوا في ذلك الدواوين واربوا على من تقدمهم في هذه العلوم. وكان من أكابرهم في الملة أبو نصر الفارابي وأبو علي بن سينا بالمشرق والقاضي أبو الوليد ابن رشد والوزير أبو بكر بن الصائني بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم. واختص هؤلاء بالشهرة والذكر واقتصر كثيرون على انتحال التعاليم وما ينضاف إليها من علوم النجامة والسحر والطلسمات. ووقفت الشهرة في هذا المنتحل على جابر بن حيان من أهل المشرق وعلى مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل الأندلس وتلميذه. ودخل على الملة من هذه العلوم وأهلها داخلة واستهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها وقلدوا آراءها والذنب في ذلك لمن ارتكبه. ولو شاء ربك ما فعلوه. ثم إن المغرب والأندلس لما ركدت ريح العمران بهما وتناقصت العلوم بتناقصه اضمحل ذلك منهما إلا قليلاً من رسومه تجدها في تفاريق من الناس وتحت رقبة من علماء السنة. ويبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة وخصوصاً في عراق العجم وما بعده فيما وراء النهر وأنهم على ثبج من العلوم العقلية والنقلية لتوفر عمرانهم واستحكام الحضارة فيهم. ولقد وقفت بمصر على تآليف في المعقول متعددة لرجل من عظماء هراة من بلاد خراسان يشتهر بسعد الدين التفتازاني منها في علم الكلام وأصول الفقه والبيان تشهد بأن له ملكة راسخة في هذه العلوم. وفي أثنائها ما يدل له على أن له اطلاعاً على العلوم الحكمية وتضلعاً بها وقدماً عالية في سائر الفنون العقلية. والله يؤيد بنصره من يشاء. وكذلك بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق وأن رسومها هناك متجددة ومجالس تعليمها متعددة وداوينها جامعة وحملتها متوفرون وطلبتها متكثرون. والله أعلم بما هنالك وهو يخلق مايشاء ويختار. |
الفصل العشرون العلوم العددية
وأولها الأرتماطيقي وهو معرفة خواص الأعداد من حيث التأليف إما على التوالي أو بالتضعيف. مثل أن الأعداد إذا توالت متفاضلة بعدد واحد: فإن جمع الطرفين منها مساو لجمع كل عددين بعدهما من الطرفين بعد واحد ومثل ضعف الواسطة إن كانت عدة تلك الأعداد فرداً مثل الأعداد على تواليها والأزواج على تواليها والأفراد على تواليها. ومثل أن الأعداد إذا توالت على نسبة واحدة بأن يكون أولها نصف ثانيها وثانيها نصف ثالثها إلخ أو يكون أولها ثلث ثانيها وثانيها ثلث ثالثها إلخ. فإن ضرب الطرفين أحدهما في الأخر كضرب كل عددين بعدهما من الطرفين بعد واحد أحدهما في الآخر. ومثل مربع الواسطة إن كانت العدة فرداً وذلك مثل أعداد زوج الزوج المتوالية من اثنين فأربعة فثمانية فستة عشر. ومثل ما يحدث من الخواص العددية في وضع المثلثات العددية والمربعات والمخمسات والمسدسات إذا وضعت متتالية في سطورها بأن تجمع من الواحد إلى العدد الأخير فتكون مثلثة. وتتوالى المثلثات هكذا في سطر تحت الأضلاع ثم تزيد على كل مثلث ثلث الضلع الذي قبله فتكون مربعة. وتزيد على كل مربع مثلث الضلع الذي قبله فتكون مخمسة وهلم جرا. وتتوالى الأشكال على توالي الأضلاع ويحدث جدول ذو طول وعرض. ففي عرضه الأعداد على تواليها ثم المثلثات على تواليها ثم المربعات ثم المخمسات إلخ وفي طوله كل عدد وأشكاله بالغاً ما بلغ. ويحدث في جمعها وقسمة بعضها على بعض طولاً وعرضاً خواص غريبة استقريت منها وتقررت في دواوينهم مسائلها. وكذلك ما يحدث للزوج والفرد وزوج الزوج وزوج الفرد وزوج الزوج والفرد فإن لكل منها خواص مختصة به تضمنها هذا الفن وليست في غيره. وهذا الفن أول أجزاء التعاليم وأثبتها ويدخل في براهين الحساب. وللحكماء المتقدمين والمتأخرين فيه تآليف وأكثرهم يدرجونه في التعاليم ولا يفرعونه بالتأليف. فعل ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء والنجاة وغيره من المتقدمين. وأما المتأخرون فهم عندهم مهجوز إذ هو غير متداول ومنفعته في البراهين لا في الحساب فهجروه لذلك بعد أن استخلصوا زبدته في البراهين الحسابية كما فعله ابن البناء في كتاب رفع الحجاب وغيره والله سبحانه وتعالى أعلم. علم الحساب ومن فروع علم العدد صناعة الحساب وهي صناعة عملية في حسبان الأعداد بالضم والتفريق. فالضم يكون في الأعداد بالأفراد وهو الجمع. وبالتضعيف أي يضاعف عدد بآحاد عدد آخر وهذا هو الضرب والتفريق أيضاً يكون في الأعداد إما بالإفراد مثل إزالة عدد من عدد ومعرفة الباقي وهو الطرح أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية تكون عدتها محصلة وهو القسمة. وسواء كان هذا الضم والتفريق في الصحيح من العدد أو الكسر. ومعنى الكسر نسبة عدد إلى عدد وتلك النسبة تسمى كسراً. وكذلك يكون الضم والتفريق في الجذور ومعناها العدد الذي يضرب في مثله فيكون منه العدد المربع. والعدد الذي يكون مصرحاً به يسمى المنطق ومربعه كذلك ولا يحتاج فيه إلى تكلف عمل بالحسبان. والذي لا يكون مصرحاً به يسمى الأصم ومربعه: إما منطق مثل جذور ثلاثة الذي مربعه ثلاثة وإما أصم مثل جذر ثلاثة الذي مربعه جذر ثلاثة وهو أصم ويحتاج إلى عمل من الحسبان. فإن تلك الجذور أيضاً يدخلها الضم والتفريق. وهذه الصناعة الحسابية حادثة احتيج إليها للحسبان في المعاملات وألف الناس فيها كثيراً وتداولوها في الأمصار بالتعليم للولدان. ومن أحسن التعليم عندهم الابتداء بها لأنها معارف متضحة وبراهينها منتظمة فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء درب على الصواب. وقد يقال من أخذ نفسه بتعليم الحساب أول أمره إنه يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المباني ومناقشة النفس فيصير ذلك له خلقاً ويتعود الصدق ويلازمه مذهباً. ومن أحسن التآليف المبسوطة فيها لهذا العهد بالمغرب كتاب الحصار الصغير. ولابن البناء المراكشي فيه تلخيص ضابط لقوانين أعماله مفيد ثم شرحه بكتاب سماه رفع الحجاب وهو مستغلق على المبتدىء بما فيه من البراهين الوثيقة المباني وهو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظمه وهو كتاب جدير بذلك. وساوق فيه المؤلف رحمه الله كتاب فقه الحساب لابن منعم والكامل للأحدب ولخص براهينها وغيرها عن اصطلاح الحروف فيها إلى علل معنوية ظاهرة هي سر الإشارة بالحروف وزبدتها. وهي كلها مستغلقة وإنما جاءها الاستغلاق من طريق البرهان شأن علوم التعاليم لأن مسائلها وأعمالها واضحة كلها. وإذا قصد شرحها فإنما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال. وفي ذلك من العسرعلى الفهم مما لا يوجد في أعمال المسائل فتأمله. والله يهدي بنوره من يشاء وهو القوي المتين. علم الجبر ومن فروعه الجبر والمقابلة وهي صناعة يستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض إذا كان بينهما نسبة تقتضي ذلك. فاصطلحوا فيها على أن جعلوا للمجهولات مراتب من طريق التضعيف بالضرب: أولها العدد لأن به يتعين المطلوب المجهول باستخراجه من نسبة المجهول إليه وثانيها الشيء لأن كل مجهول فهو من جهة إبهامه شيء وهو أيضاً جذر لما يلزم من تضعيفه في المرتبة الثانية وثالثها المال وهو أمر مبهم وما بعد ذلك فعلى نسبة الأس من المضروبين. ثم يقع العمل المفروض في المسألة فيخرج إلى معادلة بين مختلفين أو أكثرمن هذه الأجناس فيقابلون بعضها ببعض. ويجبرون ما فيها من الكسر. حتى يصير صحيحاً. ويحطون المراتب إلى أقل الأسوس إن أمكن حتى يصير إلى الثلاثة التي عليها مدار الجبر عندهم وهي العدد والشيء والمال. فإن كانت المعادلة بين واحد وواحد تعين فالمال والجذر يزول إبهامه بمعادلة العدد ويتعين. والمال إن عادل الجذور فيتعين بعدتها. وإن كانت المعادلة بين واحد واثنين أخرجه العمل الهندسي من طريق تفصيل الضرب في الاثنين وهي مبهمة فيعينها ذلك الضرب المفصل. ولا يمكن المعادلة بين اثنين واثنين. وأكثرما انتهت المعادلة عندهم إلى ست مسائل لأن المعادلة بين عدد وجذر ومال مفردة أو مركبة تجيء ستة. وأول من كتب في هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي وبعده أبو كامل شجاع بن أسلم وجاء الناس على أثره فيه. وكتابه في مسائله الست من أحسن الكتب الموضوعة فيه. وشرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا. ومن أحسن شروحاته كتاب القرشي. وقد بلغنا أن بعض أئمة التعاليم من أهل المشرق أنهى المعادلات إلى أكثر من هذه الستة الأجناس وبلغها إلى فوق العشرين واستخرج لها كلها أعمالاً وثيقة وأتبعها ببراهين هندسية. والله يزيد في الخلق ما يشاء سبحانه وتعالى. ومن فروعه أيضاً المعاملات وهو تصريف الحساب في معاملات المدن في البياعات والمساحات والزكوات وسائر ما يعرض فيه العدد من المعاملات تصرف في ذلك صناعتا الحساب في المجهول والمعلوم والكسر والصحيح والجذور وغيرها. والغرض من تكثير المسائل المفروضة فيها حصول المران والدربة بتكرار العمل حتى ترسخ الملكة في صناعة الحساب. ولأهل الصناعة الحسابية من أهل الأندلس تآليف فيها متعددة من أشهرها معاملات الزهراوي وابن السمح وأبي مسلم بن خلدون من تلميذ مسلمة المجريطي وأمثالهم. ومن فروعه أيضاً الفرائض: وهي صناعة حسابية في تصحيح السهام لذوي الفروض في الوراثات إذا تعددت وهلك بعض الوارثين وانكسرت سهامه على ورثته أو زادت الفروض عند اجتماعها وتزاحمها على المال كله أو كان في الفريضة إقراراً أو انكار من بعض الورثة دون بعض فيحتاج في ذلك كله إلى عمل يعين به سهام الفريضة إلى كم تصح وسهام الورثة من كل بطن مصححاً حتى تكون حظوظ الوارثين من المال على نسبة سهامهم من جملة سهام الفريضة. فيدخلها من صناعة الحساب جزء كبير من صحيحه وكسوره وجذوره ومعلومه ومجهوله ويترتب على ترتيب أبواب الفرائض الفقهية ومسائلها. فتشتمل حينئذ هذه الصناعة على جزء من الفقه وهو أحكام الوراثات في الفروض والعول والإقرار والإنكار والوصايا والتدبير وغير ذلك من مسائلها وعلى جزء من الحساب في تصحيح السهمان باعتبار الحكم الفقهي وهي من أجل العلوم. وقد يورد أهلها أحاديث نبوية تشهد بفضلها مثل: الفرائض ثلث العلم وإنها أول ما يرفع من العلوم وغير ذلك. وعندي أن ظواهر تلك الأحاديث كلها إنما هي في الفرائض العينية كما تقدم لا فرائض الوراثات فإنها أقل من أن تكون في كميتها ثلث العلم. وأما الفرائض العينية فكثيرة وقد ألف الناس في هذا الفن قديماً وحديثاً وأوعبوا. ومن أحسن التآليف فيه على مذهب مالك رحمه الله تعالى كتاب ابن ثابت ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفي وكتاب ابن المنمر والجعدي والصردي وغيرهم. لكن الفضل للحوفي فكتابه مقدم على جميعها. وقد شرحه من شيوخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان الشطي كبير مشيخة فاس فأوضح وأوعب. ولإمام الحرمين فيها تآليف على مذهب الشافعي تشهد باتساع باعه في العلوم ورسوخ قدمه وكذا للحنفية والحنابلة. ومقامات الناس في العلوم مختلفة. والله يهدي من يشاء بمنه وكرمه لا رب سواه. |
الفصل الحادي والعشرون العلوم الهندسية
هذا العلم هو النظر في المقادير: إما المتصلة كالخط والسطح والجسم وإما المنفصلة كالأعداد فيما يعرض لها من العوارض الذاتية. مثل أن كل مثلث فزواياه مثل قائمتين. ومثل أن كل خطين متوازيين لا يلتقيان في جهة ولو خرجا إلى غير نهاية. ومثل أن كل خطين متقاطعين فالزاويتان المتقابلتان منهما متساويتان ومثل أن الأربعة مقادير المتناسبة ضرب الأول منها في الثالث كضرب الثاني في الرابع وأمثال ذلك. والكتاب المترجم لليونانيين في هذه الضناعة كتاب أوقليدس ويسمى كتاب الأصول الأركان وهو أبسط ما وضع فيها للمتعلمين وأول ما ترجم من كتب اليونانيين في الملة أيام أبي جعفر المنصور ونسخه مختلفة باختلاف المترجمين. فمنها لحنين بن إسحاق ولثابت بن قرة وليوسف بن الحجاج ويشتمل على خمس عشرة مقالة. أربعة في السطوح وواحدة في الأقدار المتناسبة وواحدة في نسبة السطوح بعضها إلى بعض وثلاثة في العدد والعاشرة في المنطقات والقوى على المنطقات ومعناه الجذور وخمس في المجسمات. وقد اختصره الناس مختصرات كثيرة كما فعله ابن سينا في تعاليم الشفاء. أفرد له جزءاً منها اختصة به. وكذلك ابن أبي الصلت في كتاب الاقتصار وغيرهم. وشرحه آخرون شروحاً كثيرة وهو مبدأ العلوم الهندسية بإطلاق. واعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره لأن براهينها كلها بينة الانتظام جلية الترتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع. وقد زعموا أنه كان مكتوباً على باب أفلاطون: " من لم يكن مهندساً فلا يدخلن منزلنا ". وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: " ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينقيه من الأوضار والأدران ". وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه. ومن فروع هذا الفن الهندسة المخصوصة بالأشكال الكرية والمخروطات. أما الأشكال الكرية ففيها كتابان من كتب اليونانيين لثاوذوسيوس وميلاوش فى سطوحها وقطوعها. وكتاب ثاوذوسيوس مقدم في التعليم على كتاب ميلاوش لتوقف كثير من براهينه عليه. ولا بد منهما لمن يريد الخوض في علم الهيئة لأن براهينها متوقفة عليهما. فالكلام في الهيئة كله كلام في الكرات السماوية وما يعرض فيها من القطوع والدوائر بأسباب الحركات كما نذكر فقد يتوقف على معرفة أحكام الأشكال الكرية سطوحها وقطوعها. وأما المخروطات فهو من فروع الهندسة أيضاً. وهو علم ينظر فيما يقع في الأجسام المخروطة من الأشكال والقطوع ويبرهن على ما يعرض لذلك من العوارض ببراهين هندسية متوقفة على التعليم الأول. وفائدتها تظهر في الصنائع العلمية التي موادها الأجسام مثل النجارة والبناء وكيف تصنع التماثيل الغريبة والهياكل النادرة وكيف يتحيل على جر الأثقال ونقل الهياكل بالهندام والمخال وأمثال ذلك. وقد أفرد بعض المؤلفين في هذا الفن كتاباً في الحيل العملية يتضمن من الصناعات الغريبة والجيل المستظرفة كل عجيبة. وربما استغلق على الفهوم لصعوبة براهينه الهندسية وهو موجود بأيدي الناس ينسبونه إلى بني شاكر. والله تعالى أعلم. المساحة ومن فروع الهندسة المساحة وهو فن يحتاج إليه في مسح الأرض ومعناه استخراج مقدار الأرض المعلومة بنسبة شبر أو ذراع أو غيرهما أو نسبة أرض من أرض إذا قويست بمثل ذلك. ويحتاج إلى ذلك في توظيف الخراج على المزارع والفدن وبساتين الغراسة وفي قسمة الحوائط والأراضي بين الشركاء أو الورثة وأمثال ذلك. وللناس فيها موضوعات حسنة وكثيرة. والله الموفق للصواب بمنه وكرمه. المناظرة من فروع الهندسة: وهوعلم يتبين به أسباب الغلط في الإدراك البصري بمعرفة كيفية وقوعها بناء على أن إدراك البصر يكون بمخروط شعاعي رأسه نقطة الباصر وقاعدته المرثي. ثم يقع الغلط كثيراً في رؤية القريب كبيراً والبعيد صغيراً. وكذا رؤية الأشباح الصغيرة تحت الماء وراء الأجسام الشفافة كبيرة ورؤية النقط النازلة من المطر خطاً مستقيماً والسلقة دائرة وأمثال ذلك. فيبتين في هذا العلم أسباب ذلك وكيفياته بالبراهين الهندسية ويتبين به أيضاً اختلاف المنظر في القمر باختلاف العروض الذي ينبني عليه معرفة رؤية الأهلة وحصول الكسوفات وكثير من أمثال هذا. وقد ألف في هذا الفن كثير من اليونانيين. وأشهر من ألف فيه من الإسلاميين ابن الهيثم. ولغيره فيه الإسلاميين تآليف وهو من هذه العلوم الرياضية وتفاريعها. |
الفصل الثاني والعشرون علم الهيئة
وهو علم ينظر في حركات الكواكب الثابتة والمتحركة والمتحيرة. ويستدل بكيفيات تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك لزمت عنها هذه الحركات المحسوسة بطرق هندسية. كما يبرهن على أن مركز الأرض مباين لمركز فلك الشمس بوجود حركة الإقبال والإدبار وكما يستدل بالرجوع والاستقامة للكواكب على وجود أفلاك صغيرة حاملة لها متحركة داخل فلكها الأعظم وكما يبرهن على وجود الفلك الثامن بحركة الكواكب الثابتة وكما يبرهن على تعدد الأفلاك للكوكب الواحد بتعداد الميول له وأمثال ذلك. وإدراك الموجود من الحركات وكيفياتها وأجناسها إنما هو بالرصد فإنا إنما علمنا حركات الإقبال والإدبار به. وكذا تركيب الأفلاك في طبقاتها وكذا الرجوع والاستقامة وأمثال ذلك. وكان اليونانيون يعتنون بالرصد كثيراً ويتخذون له الآلات التي توضع ليرصد بها حركة الكوكب المعين. وكانت تسمى عندهم ذات الحلق. وصناعة عملها والبراهين عليه في مطابقة حركتها بحركة الفلك منقول بأيدي الناس. وأما في الإسلام فلم تقع به عناية إلا في القليل. وكان في أيام المأمون شيء منه وصنع لهذه الآلة المعروفة للرصد المسماة ذات الحلق. وشرع في ذلك فلم يتم. ولما مات ذهب رسمه وأغفل واعتمد من بعده على الأرصاد القديمة وليست بمغنية لاختلاف الحركات باتصال الأحقاب. وإن مطابقة حركة الآلة في الرصد لحركة الأفلاك والكواكب إنما هو بالتقريب ولا يعطي التحقيق فإذا طال الزمان ظهر تفاوت ذلك التقريب. وهذه الهيئة صناعة شريفة وليست على ما يفهم في المشهور أنها تعطي صورة السماوات وترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة بل إنما تعطي أن هذه الصور والهيآت للأفلاك لزمت عن هذه الحركات. وأنت تعلم أنه لا يبعد أن يكون الشيء الواحد لازماً لمختلفين وإن قلنا إن إن الحركات لازمة فهو استدلال باللازم على وجود الملزوم ولا يعطي الحقيقة بوجه على أنه علم جليل وهو أحد أركان التعاليم. ومن أحسن التآليف فيه كتاب المجسطي منسوباً لبطليموس. وليس من ملوك اليونان الذين أسماوهم بطليموس على ما حققه شراح الكتاب وقد اختصره الأئمة من حكماء الإسلام كما فعله ابن سينا وأدرجه في تعاليم الشفاء. ولخصه ابن رشد أيضاً من حكماء الأندلس وابن السمح. وابن أبي الصلت في كتاب الاقتصار. ولابن الفرغاني هيئة ملخصة قربها وحذف براهينها هندسية. والله علم الإنسان ما لم يعلم. سبحانه لا إله إلا هو رب العالمين. علم الأزياج ومن فروعه علم الأزياج وهو صناعة حسابية على قوانين عددية فيما يخص كل كوكب من طريق حركته وما أدى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة وبطء واستقامة ورجوع وغير ذلك يعرف به مواضع الكواكب في أفلاكها لأي وقت فرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة. ولهذه الصناعة قوانين كالمقدمات والأصول لها في معرفة الشهور والأيام والتواريخ الماضية وأصول متقررة من معرفة الأوج والحضيض والميول وأصناف الحركات واستخراج بعضها من بعض يضعونها في جداول مرتبة تسهيلاً على المتعلمين وتسمى الأزياج. ويسمى استخراج مواضع الكواكب للوقت المفروض لهذه الضناعة تعليلاً وتقويماً. وللناس فيه تآليف كثيرة للمتقدممن والمتأخرين مثل البتاني وابن الكماد. وقد عول المتأخرون لهذا العهد بالمغرب على زيج منسوب لابن إسحاق من منجمي تونس في أول المائة السابعة. ويزعمون أن ابن إسحاق عول فيه على الرصد. وأن يهودياً كان بصقلية ماهراً في الهيئة والتعاليم وكان قد عني بالرصد وكان يبعث إليه بما يقع في ذلك من أحوال الكواكب وحركاتها فكأن أهل المغرب لذلك عنوا به لوثاقة مبناه على ما يزعمون. ولخصه ابن البناء في آخر سماه المنهاج فولع الناس لما سهل من الأعمال فيه وإنما يحتاج إلى مواضع الكواكب من الفلك لتبنى عليها الأحكام النجومية وهو معرفة الآثار التي تحدث عنها بأوضاعها في عالم الإنسان من الملك والدول والمواليد البشرية والكوائن الحادثة كما نبينه بعد ونوضح فيه أدلتهم إن شاء الله تعالى. والله الموفق لما يحبه ويرضاه لا معبود سواه. |
الفصل الثالث العشرون علم المنطق
وهو قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود المعروفة للماهيات والحجج المفيدة للتصديقات وذلك لأن الأصل في الإدراك إنما هو المحسوسات بالحواس الخمس. وجميع الحيوانات مشتركة في هذا الإدراك من الناطق وغيره وإنما يتميز الإنسان عنها بإدراك الكليات وهي مجردة من المحسوسات. وذلك بأن يحصل في الخيال من الأشخاص المتفقة صورة منطبقة على جميع تلك الأشخاص المحسوسة وهي الكلي. ثم ينظر الذهن بين تلك الأشخاص المتفقة وأشخاص أخرى توافقها في بعض فيحصل له صورة تنطبق أيضاً عليهما باعتبار ما اتفقا فيه. ولا يزال يرتقي في التجريد إلى الكلي الذي لا يجد كلياً آخر معه يوافقه فيكون لأجل ذلك بسيطاً. وهذا مثل ما يجرد من أشخاص الإنسان صورة النوع المنطبقة عليها. ثم ينظر بينه وبين الحيوان ويجرد صورة الجنس المنطبقة عليهما ثم ينظر بينهما وبين النبات إلى أن ينتهي إلى الجنس العالي وهو الجوهر فلا يجد كلياً يوافقه في شيء فيقف العقل هنالك عن التجريد. ثم إن الإنسان لما خلق الله له الفكر الذي به يدرك العلوم والصنائع وكان العلم: إما تصوراً للماهيات ويعني به إدراك ساذج من غير حكم معه وإما تصديقاً أي حكماً بثبوت أمر لأمر فصار سعي الفكر في تحصيل المطلوبات إما بأن تجمع تلك الكليات بعضها إلى بعض على جهة التآليف فتحصل صورة في الذهن كلية منطبقة على أفراد في الخارج فتكون تلك الصورة الذهنية مفيدة لمعرفة ماهية تلك الأشخاص وإما بأن يحكم بأمر على أمر فيثبت له ويكون ذلك تصديقاً. وغايته في الحقيقة راجعة إلى التصور لأن فائدة ذلك إذا حصل فإنما هي معرفة حقائق الأشياء التي هي مقتضى العلم الحكمي. وهذا السعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح وقد يكون بطريق فاسد فاقتضى ذلك تمييز الطريق الذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلمية ليتميز فيها الصحيح من الفاسد فكان ذلك قانون المنطق. وتكلم فيه المتقدمون أول ما تكلموا به جملاً جملاً ومتفرقاً متفرقاً. ولم تهذب طرقه ولم تجمع مسائله حتى ظهر في يونان أرسطو فهذب مباحثه ورتب مسائله وفصوله وجعله أول العلوم الحكمية وفاتحتها. ولذلك يسمى بالمعلم الأول وكتابه المخصوص بالمنطق يسمى النص وهو يشتمل على ثمانية كتب: أربعة منها في صورة القياس وأربعة في مادته. وذلك أن المطالب التصديقية على أنحاء: فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه ومنها ما يكون المطلوب فيه الظن وهو على مراتب. فينظر في القياس من حيث المطلوب الذي يفيده وما ينبغي أن تكون مقدماتة بذلك الاعتبار ومن أي جنس يكون من العلم أو من الظن. وقد ينظر في القياس لا باعتبار مطلوب مخصوص بل من جهة إنتاجه خاصة. ويقال للنظر الأول إنه من حيث المادة ونعني به المادة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظن ويقال للنظر الثاني إنه من حيث الصورة وإنتاج القياس على الأول: في الأجناس العالية التي ينتهي إليها تجريد المحسوسات في الذهن وهي التي ليس فوقها جنس ويسمى كتاب المقولات. والثاني: في القضايا التصديقية وأصنافها ويسمى كتاب العبارة. والثالث: في القياس وصورة إنتاجه على الإطلاق ويسمى كتاب القياس وهذا آخر النظر من حيث الصورة. ثم الرابع: كتاب البرهان وهو النظر في القياس المنتج لليقين وكيف يجب أن تكون مقدماته يقينية. ويختص بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورة فيه مثل كونها ذاتية وأولية وغير ذلك. وفي هذا الكتاب الكلام في المعرنات والحدود إذ المطلوب فيها إنما هو اليقين لوجوب المطابقة بين الحد والمحدود لا يحتمل غيرها فلذلك اختصت عند المتقدمين بهذا الكتاب. والخامس: كتاب الجدل وهو القياس المفيد قطع المشاغب وإفحام الخصم وما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات ويختص أيضاً من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى وهي مذكورة هنالك. وفي هذا الكتاب يذكر المواضع التي يستنبط منها صاحب القياس قياسه بتمييز الجامع بين طرفي المطلوب المسمى بالوسط وفيه عكوس القضايا. والسادس: كتاب السفسطة وهو القياس الذي يفيد خلاف الحق ويغالط به المناظر صاحبه والسابع: كتاب الخطابة وهو القياس المفيد ترغيب الجمهور وحملهم على المراد منهم وما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات. والثامن: كتاب الشعر وهو القياس الذي يفيد التمثيل والتشببه خاصة للإقبال على الشيء أو النفرة عنه وما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التخيلية. هذه هي كتب المنطق الثمانية عند المتقدمين. ثم إن حكماء اليونانيين بعد أن تهذبت الصناعة ورتبت رأوا أنه لا بد من الكلام في الكليات الخمس المفيدة للتصور المطابق للماهيات في الخارج أو لأجزائها أو عوارضها وهي الجنس والفصل والنوع والخاص والعرض العام فاستدركوا فيها مقالة تختص بها مقدمة بين يدي الفن فصارت مقالاته تسعاً وترجمت كلها في الملة الإسلامية. وكتبها وتناولها فلاسفة الإسلام بالشرح والتلخيص كما فعله الفارابي وابن سينا ثم ابن رشد من فلاسفة الأندلس. ولابن سينا كتاب الشفاء استوعب فيه علوم الفلسفة السبعة كلها. ثم جاء المتأخرون فغيروا اصطلاح المنطق وألحقوا بالنظر في الكليات الخمس ثمرته وهي الكلام في الحدود والرسوم نقلوها من كتاب البرهان وحذفوا المقولات لأن نظر المنطقي فيه بالعرض لا بالذات. وألحقوا في كتاب العبارة الكلام في العكس وإن كان من كتاب الجدل في كتب المتقدمين لكنه من توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه. ثم تكلموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب مادة. وحدقوا النظر فيه بحسب المادة وهي الكتب الخمسة: البرهان والجدل والخطابة والشعر والسفسطة. وربما يلم بعضهم باليسير منها إلماماً وأغفلوها كأن لم تكن وهي المهم المعتمد في الفن. ثم تكلموا فيما وضعوه من ذلك كلاماً مستبجراً ونظروا فيه من حيث إنه فن برأسه لا من حيث إنه آلة للعلوم فطال الكلام فيه واتسع. وأول من فعل الإمام فخر الدين ابن الخطيب ومن بعده أفضل الدين الخونجي وعلى كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد. وله في هذه الصناعة كتاب كشف الأسرار وهو طويل ومختصر الموجز وهو حسن في التعليم ثم مختصر الجمل في قدر أربعة أوراق أخذ بمجامع الفن وأصوله يتداوله المتعلمون لهذا العهد فينتفعون به. وهجرت كتب المتقدمين وطرقهم كأن لم تكن وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته كما قلناه. والله الهادي للصواب. اعلم أن هذا الفن قد اشتد النكير على انتحاله من متقدمي السلف والمتكلمين. وبالغوا في الطعن عليه والتحذير منه وحظروا تعلمه وتعليمه. وجاء المتأخرون من بعدهم من لدن الغزالي والإمام ابن الخطيب فسامحوا في ذلك بعض الشيء. وأكب الناس على انتحاله من يومئذ إلا قليلاً يجنحون فيه إلى رأي المتقدمين فينفرون عنه ويبالغون في إنكاره. فلنبين لك نكتة القبول والرد في ذلك لتعلم مقاصد العلماء في مذاهبهم وذلك أن المتكلمين لما وضعوا علم الكلام لنصر العقائد الإيمانية بالحجج العقلية كانت طريقتهم في ذلك بأدلة خاصة وذكروها في كتبهم كالدليل علىحدث العالم بأثبات الآعراض وحدوثها وامتناع خلو الآجسام عنها وما لا يخلو عن الحوادث حادث وكأثبات التوحيد بدليل التمانع وأثبات الصفات القديمة بالجوامع الآربعة إلحاقاً للغائب بالشاهد وغير ذلك " من أدلتهم المذكورة في كتبهم ثم قرروا تلك الآدلة بتمهيد قواعد وأصول هي كالمقدمات لها مثل إثبات الجوهر الفرد والزمن الفرد والخلاء بين الآجسام ونفي الطبيعة والتركيب العقلي للماهيات وأن العرض لا يبقى زمنين وإثبات الحال وهي صفة لموجود لاموجودة ولامعدومة وغير ذلك من قواعدهم التي بنوا عليها أدلتهم الخاصة ثم ذهب الشيخ أبوالحسن والقاضي أبو بكر والآستاذ أبو إسحق إلى أن أدلة العقائد منعكسة بمعنى أنها إذا بطلت بطل مدلولها ولهذا رأى القاضي أبو بكر أنها بمثابة العقائد والقدح فيها قدح في العقائد لابتنائها عليها. وإذا تأملت المنطق وجدته كله يدور على التركيب العقلي وإثبات الكلي الطبيعي في الخارج لينطبق عليه الكلي الذهني المنقسم إلى الكليات الخمس التي هي الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض والعام وهذا باطل عند المتكلمين. والكلي والذاتي عندهم إنما هو اعتبار ذهني ليس في الخارج ما يطابقه أو حال عند من يقول بها فتبطل الكليات الخمس والتعريف المبني عليها والمقولات العشر ويبطل العرض الذاتي فتبطل ببطلانه القضايا الضرورية الذاتية المشروطة في البرهان وتبطل المواضع التي هي لباب كتاب الجدل. وهي التي يؤخذ منها الوسط الجامع بين الطرفين في القياس ولا يبقى إلا القياس الصوري. ومن التعريفات المساوىء في الصادقية على إفراد المحمود لا يكون أعم منها فيدخل غيرها ولا أخص فيخرج بعضها وهو الذي يعبر عنه النحاة بالجمع والمنع والمتكلمون بالطرد والعكس وتنهدم أركان المنطق جملة. وإن أثبتنا هذه كما في علم المنطق ابطلنا كثيرا من مقدمات المتكلمين فيؤدي إلى إبطال أد لتهم على العقائد كما مر فلهذا بالغ المتقدمون من المتكلمين في النكير على انتحال المنطق وعدوه بدعة أو كفرا على نسبة الدليل الذي يبطل. والمتأخرون من لدن الغزالي لما أنكروا انعكاس الأدلة ولم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله وصح عندهم رأي أهل المنطق في التركيب العقلي ووجود الماهيات الطبيعية وكلياتها في الخارج قضوا بأن المنطق غير مناف للعقائد الإيمانية وإن كان منافيا لبعض أدلتها بل قد يستدلون على إبطال كثير من تلك المقدمات الكلامية كنفي الجوهر الفرد والخلاء وبقاء الأعراض وغيرها ويستبدلون من أدلة المتكلمين على العقائد بأدلة أخرى يصححونها بالنظر والقياس العقلي. ولم يقدح ذلك عندهم في العقائد السنية بوجه وهذا راي الإمام والغزالي وتابعهما لهذا العهد فتأمل ذلك واعرف مدارك العلماء ومآخذهم فيما يذهبون إليه. والله الهادي والموفق للصواب. الطبيعيات وهوعلم يبحث عن الجسم من جهة ما يلحقه من الحركة والسكون فينظرفي الأجسام السماوية والعنصرية وما يتولد عنها من إنسان وحيوان ونبات ومعدن وما يتكون في الأرض من العيون والزلازل وفي الجو من السحاب والبخار والرعد والبرق والصواعق وغير ذلك. وفي مبدإ الحركة للأجسام وهو النفس على تنوعها في الإنسان والحيوان والنبات. وكتب ارسطوفيه موجودة بين ايدي الناس ترجمت مع ما ترجم من علوم الفلسفة أيام المأمون وألف الناس على حذوها مستتبعين لها بالبيان والشرح. وأوعب من ألف في ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء جمع فيه العلوم السبعة للفلاسفة كما قدمنا ثم لخصه في كتاب النجاة وفي كتاب الإشارات وكأنه يخالف ارسطو في الكثيرمن مسائلها ويقول برأيه فيها. وأما ابن رشد فلخص كتب أرسطو وشرحها متبعا له غيرمخالف. وألف الناس بعده! في ذلك كثيراً لكن هذه هي المشهورة لهذا العهدوالمعتبرة فى الصناعة. ولأهل المشرق عناية بكتاب الإشارات لابن سينا وللإمام ابن الخطيب عليه شرح حسن وكذا الآمدي. وشرحه أيضاً نصير الدين الطوسي المعروف بخواجة من أهل المشرق وبحث مع الإمام في كثير من مسائله فأوفى على أنظارهوبحوثه. وفوق كل ذي علم عليم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. |
الفصل الخامس والعشرون علم الطب
ومن فروع الطبيعيات صناعة الطب وهي صناعة تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض ويصح فيحاول صاحبها حفظ الصحة وبرء المرض بالآدوية والآغذية بعد أن يبين المرض الذي يخص كل عضومن أعضاء البدن وأسباب تلك الامراض التي تنشأ عنها وما لكل مرض من الآدوية مستدلين على ذلك بأمزجة الأدوية وقواها وعلى المرض بالعلامات المؤذية بنضجه وقبوله للدواء أولاً: في السجية والفضلات والنبض محاذين لذلك قوة الطبيعة فإنها المدبرة في حالتي الصحة والمرض. وإنما الطيبب يحاذيها ويعينها بعض الشيء بحسب ما تقتضيه طبيعة المادة والفصل والسن ويسمى العلم الجامع لهذا كله علم الطب. وربما أفردوا بعض الأعضاء بالكلام وجعلوه علماًخاصاً كالعين وعالمها وأكحالها. وكذلك ألحقوا بالفن منافع الأعضاء ومعناه التي خلق لأجلها كل عضو من أعضاء البدن الحيواني. وإن لم يكن ذلك من موضوع علم الطب إلا إنهم جعلوه من لواحقه وتوابعه. ولجالينوس في هذا الفن كتاب جليل عظيم المنفعة وهو إمام هذه الصناعة التي ترجمت كتبه فيها من الأقدمين يقال إنه كان معاصرا لعيسى عليه السلام ويقال إنه مات بصقلية في سبيل تغلب ومطاوعة اغتراب. وتآليفه فيها هي الآمهات التي اقتدى بها جميع الآطباء من بعده. وكان في الإسلام في هذه الصناعة أئمة جاؤوا من وراء الغاية مثل الرازي والمجوسي وابن سينا ومن أهل الأندلس أيضاً كثيرٌ. وأشهرهم ابن زهر. وهي لهذا العهد في المدن الإسلامية كأنها نقصت لوقوف العمران وتناقصه وهي من الصنائع التي لا تستدعيها إلا الحضارة والترف كما نبينه بعد. وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصره علىبعض الأشخاص ويتداولونه متوارثاً عن مشايخ الحي وعجائزه وربما يصح منه البعض إلا أنه ليس على قانون طبيعي ولا عن موافقة المزاج. وكان عند العرب من هذا الطب كثير وكان فيهم أطباء معروفون: كالحرث بن كلدة وغيره. والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل وليس من الوحي في شىءوإنما هوأمر كان عادياً للعرب. ووقع في ذكر أحوال النبي صلىالله عليهوسلم من نوع ذكرأحواله التي هي عادة وجبلة لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل. فإنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع فقال: " أنتم أعلم بأموردنياكم. فلا ينبغي أن يحمل شيء من الذي وقع من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع فليس هناك ما يدل عليه اللهم إلا إن استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني فيكون له اثر عظيم في النفع. وليس ذلك من الطب المزاجي وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية كما وقع في مداواة المبطون بالعسل ونحوه. والله الهادي إلى الصواب لا رب سواه. |
الفصل السادس والعشرون الفلاحة
هذه الصناعة من فروع الطبيعيات وهي النظرفي النبات من حيث تنميته ونشؤه بالسقي والعلاج واستجادة المنبت وصلاحية الفصل وتعاهده بما يصلحه ويتمه من ذلك كله. وكان للمتقدمين بها عناية كثيرة وكان النظر فيها عندهم عاماً في النبات من جهة غرسه وتنميته ومن جهة خواصه وروحانيته ومشاكلتها لروحانيات الكواكب والهياكل المستعمل ذلك كله في باب السحر فعظمت عنايتهم به لأجل ذلك. وترجم من كتب اليونانيين كتاب الفلاحة النبطية منسوبة لعلماء النبط مشتملة من ذلك على علم كبير. ولما نظر أهل الملة فيما اشتمل عليه هذا الكتاب وكان باب السحر مسدوداً والنظر فيه محظوراً فاقتصروا منه على الكلام في النبات من جهة غرسه وعلاجه وما يعرض له في ذلك وحذفوا الكلام في الفن الآخرمنه جملةً. واختصر ابن العوام كتاب الفلاحة النبطية على هذا المنهاج وبقي الفن الآخرمنه مغفلأ. نقل منه مسلمة في كتبه السحرية أمهات من مسائله كما نذكره عند الكلام على السحر إن شإء الله تعالى. وكتب المتأخرين في الفلاحة كثيرة ولا يعدون فيها الكلام في الغراس والعلاج وحفظ النبات من حوائجه وعوائقه وما يعرض في ذلك كله وهي موجودة. الفصل السابع والعشرون علم الإلهيات وهي علم ينظر في الوجود المطلق. فأولاً في الأمور العامة للجسمانيات والروحانيات من الماهيات والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان وغير ذلك ثم ينظر في مبادىء الموجودات وأنها روحانيات ثم في كيفية صدور الموجودات عنها ومراتبها ثم في أحوال النفس بعد مفارقة الأجسام وعودها إلى المبدإ. وهو عندهم علم شريف يزعمون أنه يوقفهم على معرفة الوجود على ما هو عليه وأن ذلك عين السعادة في زعمهم وسيأتي الردعليهم بعد. وهوتال للطبيعيات في ترتيبهم ولذلك يسمونه علم ماوراء الطبيعة وكتب المعلم الأول فيه موجودة بين أيدي الناس ولخصه ابن سينا في كتاب الشفاء والنجاة وكذلك لخصها ابن رشد من حكماء الأندلس ولما وضع المتأخرون في علوم القوم ودونوا فيها ورد عليهم الغزالي مارده منها ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة لاشتراكهما في المباحث وتشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات ومسائله بمسائلها فصارت فن واحد. ثم غيروا ترتيب الحكماء فى مسائل الطبيعيات والإلهيات وخلطوهما فناً واحداً قدموا فيه الكلام في الأمور العامة ثم أتبعوه بالجسمانيات وتوابعها ثم بالروحانيات وتوابعها إلى آخر العلم كما فعله الإمام ابن الخطيب في المباحث المشرقية وجميع من بعده من علماء الكلام. وصار علم الكلام مختلطاً بمسائل الحكمة وكتبه محشوة بها كأن الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد. والتبس ذلك على الناس وهو صواب لأن مسائل علم الكلام إنما هي عقائد متلقاة من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل ولا تعويل عليه بمعنى أنها لا تثبت إلا به. فإن العقل معزول عن الشرع وأنظاره. وما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثاً عن الحق فيها ليعلم بالدليل بعد أن لم يكن معلوماً هو شأن الفلسفة بل إنما هو التماس حجة عقلية تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السلف فيها وتدفع شبه أهل البدع عنها الذين زعموا أن مداركهم فيها عقلية. وذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية كما تلقاها السلف واعتقدوها وكثير ما بين المقامين. وذلك أن مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية فهي فوقها ومحيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف والمدارك المحاط بها. فإذا هدانا الشارع إلى مدرك فينبغي أن نقدمة على مداركنا ونثق به دونها ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولوعارضه بل نعتقد ما أمرنا به اعتقاداً وعلماً ونسكت عما لم نفهم من ذلك ونفوضه إلى الشارع ونعزل العقل عنه. والمتكلمون إنما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضتهم واستدعى ذلك الحجج النظرية ومحاذاة العقائد السلفية بها. وأما النظر في مسائل الطبيعيات والإلهيات بالتصحيح والبطلان فليس من موضوع علم الكلام ولا من جنس أنظار المتكلمين. فاعلم ذلك لتميز به بين الفنين فإنهما مختلطان عند المتأخرين في الوضع والتآليف. والحق مغايرة كل منهما لصاحبه بالموضوع والمسائل. وإنما جاء الالتباس من اتحاد المطالب عند الاستدلال وصار احتجاج أهل الكلام كأنه إنشاء لطلب الاعتقاد بالدليل وليس كذلك. بل إنما هو رد على الملحدين والمطلوب مفروض الصدق معلومة. وبهذا جاء المتأخرون من غلاة المتصوفة المتكلمين بالمواجد أيضاً فخلطوا مسائل الفنين بفنهم وجعلوا الكلام واحداً فيها كلها. مثل كلامهم في النبوات والاتحاد والحلول والوحدة وغير ذلك. والمدارك في هذه الفنون الثلاثة متغايرة مختلفة وأبعدها من جنس الفنون والعلوم مدارك المتصوفة لأنهم يدعون فيها الوجدان ويفرون عن الدليل. والوجدان بعيد عن المدارك العلمية وأبحاثها وتوابعها كما بيناه ونبينه. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. والله أعلم بالصواب. |
الساعة الآن 07:16 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |