![]() |
العالـِمُ والخليفــة
قال أبو القاسم بن مـُفـَرِّج: كنت في بعض الأيام عند الفقيه أبي إبراهيم في مجلسه بالمسجد في قرطبة، ومجلسه حافل بجماعة الطلبة، إذ دخل عليه خصيّ من أصحاب الرسائل جاء من عند الخليفة الحـَكم ابن الناصر. فوقف وسلـّم وقال له: أجب أمير المؤمنين، فهو قاعد ينتظرك، وقد أُمرتُ بإعجالك فالله الله. فقال أبو إبراهيم: سمعـاً وطاعة لأمير المؤمنين، ولا عـَجـَلـَة. فارجع إليه وعرِّفه أنك وجدتني مع طلاب العلم، وليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتم المجلس فأمضي إليه. فانصرف الخصيّ وهو يتمتم متضاجراً بكلام لم نسمعه. فما مضت ساعة حتى رأيناه قد عاد فقال للفقيه: أنهيتُ قولك إلى أمير المؤمنين، وهو يقول لك: "جزاك الله خيرًا عن الدين وجماعة المسلمين وأمتعهم بك. وإذا أنت فرغتَ فامض إليه." قال أبو إبراهيم: حسن. ولكني أَضـْعـُفُ عن المشي إلى باب السـُّدّة، ويصعب عليّ ركوب دابة لشيخوختي وضعف أعضائي. وبابُ الصناعة هو من بين أبواب القصر أقربها من مكاننا هذا. فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بفتحه لأدخل منه هوّن عليّ المشي. فمضى الفتى ثم رجع بعد حين وقال: قد أجابك أمير المؤمنين إلى ما سألت، وأمر بفتح باب الصناعة، وأمرني أن أبقى معك حتى ينقضي الدرس وتمضي معي. وجلس الخصي جانبـاً حتى أكمل أبو إبراهيم مجلسه بأكمل ما جرت به عادته ودون قلق. فلما انفضضنا عنه قام إلى داره فأصلح من شأنه ثم مضى إلى الخليفة الحكم. قال ابن مفرّج: ولقد تعمـّدنا إثر قيامنا عن الشيخ أبي إبراهيم المرور بباب الصناعة فوجدناه مفتوحـاً وقد حفـّه الخدم والأعوان متأهبين لاستقبال أبي إبراهيم، فاشتدّ عجبنا لذلك وقلنا: هكذا يكون العلماء مع الملوك والملوك مع العلماء، قدّس الله تلك الأرواح. من كتاب "نـَفـْح الطيب" للمـَقـَّرِي التلمساني. |
العامَّـة والأنعـام
كان المأمون قد همَّ بلعن معاوية بن أبي سفيان. فمنعه عن ذلك يحيى ابن أكثم، وقال له: يا أمير المؤمنين، إن العامة لا تحتمل هذا، دعهم على ما هم عليه، ولا تـُظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفـِرَق، فإن ذلك أصلحُ في السياسة. فركن المأمون إلى قوله. فلما دخل عليه ثـُمامة بن الأشرس، قال له المأمون: يا ثـُمامة، قد علمتَ ما كنا دبـَّرناه في معاوية، وقد عارضـَنا رأيٌ أصلح في تدبير المملكة، وأبقـَى ذكرًا في العامة. ثم أخبره أن يحيى خوّفه إياها. فقال ثمامة: يا أمير المؤمنين، والعامة عندك في هذا الموضع الذي وضعها فيه يحيى؟! واللّه ما رضي اللّه أن سوّاها بالأنعام حتى جعلها أضلّ سبيلاً، فقال تبارك وتعالى: (أم تَحسَبُ أَنَّ أكثَرهم يسمعون أو يعقلون. إن هم إلا كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلاً). واللّه لقد مررتُ منذ أيام في شارع الخُلد، فإذا إنسانٌ قد بسط كِساءه وألقى عليه أدوية وهو قائم ينادي: هذا الدواء للبياض في العين والغشاوة وضعف البصر. وإن إحدى عينيه لمـَطموسة والأخرى مـُؤْلـَمَة. والناس قد انثالوا عليه، واحتفلوا إليه يستوصفونه. فنزلت عن دابتي، ودخلتُ بين تلك الجماعة فقلت: يا هذا، أرى عينيك أحوجَ الأعين إلى العلاج، وأنت تصف هذا الدواء وتخبر أنه شفاء، فما بالك لا تستعمله ؟! فقال: أنا في هذا الموضع منذ عشرين سنة ما رأيتُ شيخًا قط أجهل منك ولا أحمق! قلت: وكيف ذلك؟ قال: يا جاهل، أتدري أين اشتكت عيني؟ قلت: لا. قال: بمصر! فأقبلت عليّ الجماعة فقالت: صدق الرجل. أنت جاهل! وهمـّوا بي. فقلت: واللّه ما علمتُ أن عينه اشتكت بمصر. فما تخلـَّصتُ منهم إلا بهذه الحجّة! من كتاب "المحاسن والمساوئ" لإبراهيم بن محمد البيهقي. |
العتابـي والبقـر
قال عمر الورّاق: رأيتُ كلثوم بن عمرو العتّابي الشاعر يأكل خبزاً على الطريق بباب الشام. فقلت له: ويحك! أما تستحي من الناس؟ فقال: أرأيت لو كنا في مكان فيه بقر، أكنت تحتشم أن تأكل والبقر يراك؟ فقلت: لا. فقال: فاصبر حتى أريكَ أن هؤلاء الناس بقر. ثم قام فوعظ وقصّ ودعا حتى كثر الزحام عليه، فقال لهم: رُوي لنا من غير وجه أنه من بَلَغَ لسانُه أرنبةَ أنفه لم يدخل النار! فما بقى أحد منهم إلا أخرج لسانه نحو أرنبة أنفه ليرى هل يبلغها أولاً. فلما تفرقوا قال لي العتابي: ألم أخبرك أنهم بقر؟ من كتاب "فوات الوفيات" لابن شاكر الكتبي. |
العصفور والسنبلة
أهل الصين من أحذق خلق الله كفّا بنقش وصنعة وكل عمل لا يتقدّمهم فيه أحد من سائر الأمم. والرجل منهم يصنع بيده ما يقدّر أن غيره يعجز عنه، فيقصر به باب الملك يلتمس الجزاء على لطيف ما ابتدع، فيأمر الملك بنصبه على بابه من وقته ذلك إلى سنة، فإن لم يُخرج أحد فيه عيباً أجاز صانعه وأدخله في جملة صُنّاعه، وإن أخرج أحد فيه عيباً طرحه ولم يُجزْه. وقد حدث أن رجلاً منهم صوّر سنبلة سقط عليها عصفور في ثوب حرير، لا يشك الناظر إليها أنها سُنبلة سقط عليها عصفور فبقي الثوب مدّة ثم اجتاز به رجل أحدب فعاب العمل، فأُدخل على الملك وأُحضر صاحب العمل، فسأل الأحدب عن العيب. فقال: المتعارف عند الناس جميعاً أنه لا يقع عصفور على سنبلة إلاّ أمالها. وقد صوّر هذا المصوّر السنبلة فنصبها قائمة لا ميل فيها، وأثبت العصفور فوقها منتصباً فأخطأ. فلم يُثب الملك صاحب الصورة بشيء. وقصدُهم بهذا وشبهه أن يضطر من يعمل هذه الأشياء إلى شدة الاحتراز والحذر وإعمال الفكر فيما يصنعه. من كتاب "مروج الذهب" للمسعودي. |
العلـم والمــال
ذُكر في الخبر، أن أهل البصرة اختلفوا، فقال بعضهم، العلم أفضل من المال، وقال بعضهم، بل المال أفضل من العلم، فأوفدوا رسولاً منهم إلى ابن عباس رضي الله عنهما فسأله، فقال ابن عباس: العلم أفضل من المال، فقال الرسول: إن سألوني عن الحجة، ماذا أقول؟ قال: قل لهم، إن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الفراعنة، ولأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، ولأن العلم لا يعطيه الله إلا لمن أحبه، والمال يعطيه الله لمن أحبه ولمن لا يحبه، ألا ترى إلى قوله تعالى: "ولولا أن يكون الناس أمـَّة واحدةً لـَجعلنا لـِمـَن يكفر بالرحمنِ لـِبيوتهم سـُقـُفاً من فـِضةٍ ومعارجَ عليها يظهرون" ولأن العلم لا ينقص بالبذل، والنفقة، والمال ينقص بالبذل والنفقة، ولأن صاحب المال إذا مات، انقطع ذكره، والعالم إذا مات فذكره باق، ولأن صاحب المال ميت، وصاحب العلم لا يموت، ولأن صاحب المال يـُسأل عن كل درهم من أين كسبه؟ وأين أنفقه؟ وصاحب العلم له بكل حديث درجة في الجنة. |
الغـَمـْــزَة
قرأت في كتاب للهند أنه أُهدي لملك الهند ثياب وحـُلـِيٌّ. فدعا بامرأتين له، وخيـّر أحظاهما عنده بين اللباس والحـِلـْية. وكان وزيره حاضراً. فنظرت المرأة إلى الوزير كالمستشيرة له، فغمزها بعينه أن تختار اللباس. ولحظه الملك، فاختارت المرأة الحلية لئلا يفطن للغمزة. ومكث الوزير أربعين سنة بعد ذلك يغمز بعينه في حضرة الملك حتى يظن أنها آفة أصابته، أو عادة صارت له. فلما حضرت الملك الوفاة، قال لولده: توصّ بالوزير خيراً، فإنه ظل يعتذر من شيء يسير أربعين سنة! من كتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبـة |
الفضـل لمـن سبـق
جرى بين محمد بن الحنفية وأخيه الحسن بن علي رضي الله عنهما جفوة، فانصرفا متغاضبين، فلما وصل محمد إلى بيته، أخذ ورقة وكتب فيها. بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن علي بن أبي طالب، إلى أخيه الحسن بن علي بن أبي طالب، أما بعد. فإن لك شرفاً لا أبلغه، وفضلاً لا أدركه، فإذا قرأت رقعتي هذه، فالبس رداءك ونعليك، وسر إليّ فترضـَّني، وإياك أن أكون سابقك إلى الفضل الذي أنت أولى به مني. والسلام. فلما قرأ الحسن الرقعة، لبس رداءه ونعليه، ثم جاء إلى أخيه محمد فترضـَّاه. |
القاضـي التنوخـي
كان القاضي أبو القاسم التنوخي ظريفـاً نبيلاً جيـّد النادرة. اجتاز يومـاً في بعض الدروب فسمع امرأة تقول لأخرى: كم عـُمر بنتك يا أختي؟ فقالت: رُزقتـُها يوم صفعوا القاضي وضربوه بالسياط. فرفع رأسه إليها وقال: يا امرأة، صار صفعي تاريخـَك، ما وجدتِ تاريخـاً غيره؟! وكان يومـاً نائمـاً وقت الظهيرة، فاجتاز إسكافيّ وأزعجه بصياحه في الطريق: نـُصلح النـِّعال! نصلح النـِّعال! فقال التنوخي لغلامه: اجمع كل نعل في البيت وأعطها لهذا يـُصلحها ويشتغل بها. ثم نام. وأصلحها الإسكافيّ واشتغل بها إلى آخر النهار ومضى لشأنه. فلما كان في اليوم الثاني مرّ بالطريق يصيح ولم يدعه ينام. فقال القاضي لغلامه: أدخله! فلما أدخله قال له: يا ابن الفاعلة، أمس أصلحتَ كلَّ نعلٍ عندنا، واليوم تصيح على بابنا؟ هل بلغك أننا نتصافع بالنعال ونقطعها؟! ثم قال للخدم: اصفعوه على قفاه. فصاح الإسكافي قائلاً: يا سيدي أتوب ولا أعود أدخل إلى هذا الدرب أبدًا! من كتاب "فوات الوفيات" لابن شاكر الكتبي. |
القـاضي والسلطـان (1)
كان بمصر مغنيّة تُدعَى عجيبة، قد أولع بها الملك الكامل محمد، فكانت تحضر إليه ليلاً وتغنّيه على الدّفّ في مجلس بحضرة ابن شيخ الشيوخ وغيره. ثم اتّفقت قضية عند القاضي ابن عين الدولة، وأراد الملك الكامل أن يشهد فيها فقال له ابن عين الدولة: السلطان يأمر ولا يشهد. فأعاد الكامل عليه القول فأبى. فلما زاد الأمر وفهم السلطان أنه لا يقبل شهادته قال: أريد أن أشهد. تقبلني أم لا؟ فقال القاضي: لا، ما أقبلك! وعجيبة تطلع إليك بآلات الطرب كل ليلة، وتنزل ثاني يوم وهي تتمايل سَكْرى على أيدي الجواري، وينزل ابن الشيخ من عندك!؟ فقال له الملك الكامل: يا كيواج! (وهي كلمة شتم بالفارسية). فقال القاضي: ما في الشرع يا كيواج! اشهدوا عليّ أني قد عزلت نفسي. ونهض فقام ابن الشيخ إلى الملك الكامل فقال: المصلحة إعادته لئلا يقال: لأي شيء عزل القاضي نفسه؟ وتطير الأخبار إلى بغداد، ويشيع أمر عجيبة. فنهض إلى القاضي، وترضّاه، وعاد إلى القضاء. من كتاب "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" للسيوطي. |
القـاضي والسلطـان (2)
وَلِيَ قضاءَ مصر بعد ابن عين الدولة الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام. وكان قد قدم من دمشق بسبب أن سلطانها الصالح إسماعيل استعان بالفرنج وأعطاهم مدينة صَيْدا وقلعة الشقيف، فأنكر الشيخ عز الدين ذلك، وترك الدعاء له في الخطبة، فغضب السلطان منه، فخرج إلى الديار المصرية. فأرسل السلطان وراءه وهو في الطريق قاصدًا يتلطّف به في العودة إلى دمشق. فاجتمع الرسول به ولاينه وقال له: ما نريد منك شيئا إلا أن تقبّل يد السلطان لا غير. فقال الشيخ له: يا مسكين، أنا ما أرضاه يقبّل يدي فضلا عن أن أقبِّل يده! يا قوم، أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ! والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم! فلما وصل إلى مصر، تلقاه سلطانها الصالح أيوب وأكرمه، وولاّه قضاء مصر فلما تولاه تصدى لبيع أمراء الدولة من الأتراك، وذكر أنه لم يثبت عنده أنهم أحرار وأن حكم الرّقّ مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين. فبلغهم ذلك فعظم الخطب عندهم، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعًا ولا شراء ولا نكاحًا. وتعطلت مصالحهم لذلك، وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستثار غضبا. فاجتمعوا وأرسلوا إليه، فقال: نعقد لكم مجلسا لبيعكم، وننادي عليكم لبيت مال المسلمين. فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه فلم يرجع عن رأيه، وأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة، فلم يفد ذلك. فانزعج النائب وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنّه بسيفي هذا! وركب بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده. فطرق الباب. فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى فعاد إلى أبيه وشرح له الحال، فما اكترث لذلك وقال: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله! ثم خرج. فحين وقع بصره على النائب سقط السيف من يد النائب وأرعدت مفاصله. ثم إذا به يبكي ويسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي ايش تعمل؟ فقال القاضي: أنادي عليكم فأبيعكم. قال النائب: ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين. وتمّ له ما أراد، ونادى على الأمراء واحدًا واحدًا وباعهم بالثمن الوافي، وصرفه في وجوه الخير! من كتاب "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" للسيوطي. |
القرآن وكلام الصاحب بن عبّاد
ناظر الوزيرُ الصاحبُ بن عباد يهوديّا بالريّ، هو رأس الجالوت، في إعجاز القرآن. فراجعه اليهوديّ فيه طويلاً حتى احتدَّ الصاحب وكاد ينقدّ. فلما رأى اليهودي منه ذلك احتال طلبًا لمداراته، فقال: أيها الصاحب، لِمَ تتـَّقد وتلتهب؟ كيف يكون القرآن عندي آيةً ودلالةً على النبوَّة، ومعجزةً من جهة نظمه وتأليفه؟ فإن كان البلغاء، فيما تدّعي، عنه عاجزين، فأنا أصْدُقُ عن نفسي وأقول إن رسائلك وكلامك وما تؤلفه من نظم ونثر هو عندي فوق ذلك أو مثل ذلك أو قريب منه. وعلى كل حال فليس يظهر لي أنه دونه! فلما سمع ابن عباد هذا فَتَر وخَمَد، وسكن عن حركته، وقال: ولا هكذا أيضًا يا شيخ. كلامُنا حسن بليغ، وقد أخذ من الجزالة حظّا وافرًا، ومن البيان نصيبًا ظاهرًا، ولكن القرآن له المزية التي لا تُجْهَل. هذا كله يقوله وقد تراجع مزاجُه، وصارت نارُه رمادًا، مع إعجاب شديد قد شاع في أعطافه، وفرح غالب قد دبَّ في أسارير وجهه، لأنه رأى كلامه شُبْهةً على اليهود مع سعة حِيَلهم، وشدّة جدالهم، وطول نظرهم، وثباتهم لخصومهم، فكيف لا يكون شبهة على النصارى وهم ألين من اليهود عريكة، وأكثرهم تسليمًا؟! من كتاب "أخلاق الوزيرين" لأبي حيّان التوحيدي. |
القـطّ الأعمـى
كان ابن بابشاذ في مصر إمام عصره في علم النحو. وكانت وظيفته أن ديوان الإنشاء لا يخرج منه كتاب حتى يُعرض عليه ويتأمله، فإن كان فيه خطأ من جهة النحو أو اللغة أصلحه. وكان له على هذه الوظيفة راتب من الخزانة يتناوله في كل شهر. ويُحكى أنه كان يومًا في سطح جامع مصر وهو يأكل شيئًا وعنده ناس. فحضرهم قط فرموا له لقمة، فأخذها في فيه وغاب عنهم ثم عاد إليهم. فرموا له شيئًا آخر، ففر كذلك، وتردّد مرارًا كثيرة وهم يرمون له وهو يأخذه ويغيب به ثم يعود من فَوْرِه حتى عجبوا منه، وعلموا أن مثل هذا الطعام لا يأكله وحده لكثرته. فلما استرابوا حاله، تبعوه، فوجدوه، يَرْقَى إلى حائط في سطح الجامع، ثم ينزل إلى موضع خالٍ وفيه قط أعمى، وكل ما يأخذه من الطعام يحمله إلى ذلك القط ويضعه بين يديه، وهو يأكله. فعجبوا من تلك الحال، فقال ابن بابشاذ: إذا كان هذا حيوانًا قد سخّر الله له هذا القط ليقوم بكفايته، ولم يحرمه الرزق، فكيف يُضيِّع مثلي؟ ثم استعفى الشيخ من الخدمة ونزل عن راتبه. من كتاب "وفيات الأعيان" لابن خلكان. |
القـوالب والزوابـل
يحكى عن صاعد بن الحسن اللغويّ أنه كان حاضر الجواب سريعه، يجيب عن كل ما يُسألُ عنه دون أن يتوقّف للتفكير. سأله المنصور بن أبي عامر يوما: هل رأيت فيما رأيتَ من الكتب، كتابَ "القوالب والزوابل" لمبرمان بن يزيد؟ قال صاعد: نعم، رأيتُه في بغداد في نسخة بخط أبي بكر بن دُرَيد بخطٍّ صغير وفي هوامشها علامات وتعليقات. فقال له المنصور: أما تستحي يا صاعد من هذا الكذب؟ هذا كتاب عاملنا ببلد كذا يذكر فيه أن الأرض قد قُلِبَتْ وزُبِلَتْ، فألّفتُ من قوله عنوان الكتاب الوهمي الذي سألتك عنه! فأخذ صاعدٌ يحلف أن الكتاب موجودٌ حقيقة! من كتاب "إنباه الرواة على أنباه النحاة" للقفطي. |
الكاتـب الأحمـق
كان بأنطاكية عاملٌ من قِبَلِ أمير حلب، وكان له كاتب أحمق. وحدث أنه غرق في البحر شَلَنّدِيّان من مراكب المسلمين التي يقصدون فيها الروم. فكتب الكاتب عن صاحبه إلى الأمير بحلب: "بسم الله الرحمن الرحيم. أعلم الأمير - أعزّه الله - أن شَلَنْدِيَّيْن، (أعني مركبين) صُفقا، (أي غرقا)، من خِبّ البحر، (أي من شدّة موجه)، فهلك من فيهما، (أي تلِفُوا)"! فأجابه صاحب حلب: "وَرَدَ كتابُك، (أي وصل)، وفهمناه، (أي قرأناه)، فأدّب كاتبك: (أي اصْفَعْه)، واستبدل به، (أي اصْرِفْه)، فإنه فائق، (أي أحمق)، والسلام (أي قد انقضى الكتاب)"! من كتاب "الهفوات النادرة" لمحمد بن هلال الصابي. |
الكتـاب المـزور
كان بين جعفر البرمكي وزير الرشيد وبين والي مصر عداوة ووحشة. وكان كل منهما مجانبا للآخر. فزوّر أحد الناس كتابًا عن لسان جعفر إلى والي مصر مضمونه أن حامل هذا الكتاب من أخص أصحابنا، وقد آثر التفرّج في الديار المصرية، فأريد أن تحسن الالتفات إليه، وبالغ في الوصية. ثم أخذ الكتاب ومضى إلى مصر وعرضه على صاحبها. فلما وقف عليه تعجّب منه، وفرح به إلا أنه حصل عنده ارتياب وشك في الكتاب. فأكرم الرجل، وأنزله في دار حسنة، وأقام له ما يحتاج إليه، وأخذ الكتاب منه، وأرسل إلى وكيله ببغداد وقال له: "قد وصل شخص من أصحاب الوزير بهذا الكتاب، وقد ارتبتُ به، فأريد أن تتفحّص لي عن حقيقة الحال في ذلك، وهل هذا خط الوزير أم لا". وأرسل كتاب الوزير صُحْبة مكتوبة إلى وكيله. فجاء الوكيل إلى وكيل الوزير، وحدثه بالقصة وأراه الكتاب. فأخذه وكيل الوزير ودخل إلى الوزير وعرّفه الحال. فلما وقف جعفر البرمكي على الكتاب علم أنه مزوّر عليه. وكان عنده جماعة من ندمائه ونوابه، فرمى الكتاب عليهم وقال لهم: أهذا خطي؟ فتأملوه وأنكروه كلهم، وقالوا: هذا مزوّر على الوزير. فعرفهم صورة الحال، وأن الذي زور هذا الكتاب موجود بمصر عند صاحبها، وأنه ينتظر عود الجواب بتحقيق حاله. وقال لهم: ما ترون؟ وكيف ينبغي أن نفعل في هذا؟ فقال بعضهم: ينبغي أن يُقتل هذا الرجل حتى تنحسم هذه المادة ولا يرجع أحد يتجرأ على مثل هذا الفعل. وقال آخر: ينبغي أن تقطع يمينه التي زور بها هذا الخط. وقال آخر: ينبغي أن يوجع ضربًا ويُطلق حال سبيله. وكان أحسنهم محضرًا من قال: ينبغي أن تكون عقوبته على هذا الفعل حرمانُه، وأن يعرف صاحب مصر بحاله ليحرمه، فيكفيه من العقوبة أنه قد قطع هذه المسافة البعيدة من بغداد إلى مصر، ثم يرجع خائبا. فلما فرغوا من حديثهم قال جعفر: سبحان الله! أليس فيكم رجل رشيد؟! قد علمتم ما كان بيني وبين صاحب مصر من العداوة والمجانبة، وأن كل واحد منّا كانت تمنعه عزّة النفس أن يفتح باب الصلح، فقيّض الله لنا رجلاً فتح بيننا باب المصالحة والمكاتبة وأزال العداوة بيننا. فكيف يكون جزاؤه ما ذكرتم من الإساءة؟ ثم أخذ القلم وكتب على ظاهر الكتاب إلى صاحب مصر: "كيف حصل لك الشك في خطي؟ هذا خط يدي، والرجل من أعزّ أصحابي، وأريد أن تحسن إليه وتعيده إليّ سريعًا فإني مشتاق إليه، محتاج إلى حضوره" فلما وصل الكتاب كاد صاحب مصر يطير من الفرح، وأحسن إلى الرجل غاية الإحسان، وواصله بمال كثير. ثم إن الرجل رجع إلى بغداد، فحضر إلى مجلس جعفر. فلما دخل سلّم عليه ووقع يقبّل الأرض ويبكي. فقال له جعفر: من أنت يا أخي؟ قال: أنا عبدك وصنيعتُك المزور الكذّاب المتجرِّي! فعرفه جعفر، وبشّ به، وسأله عن حاله، وقال له: كم وصل إليك منه؟ فقال: مائة ألف دينار. فقال جعفر: لازِمْنا حتى نضاعفها لك! من كتاب "الفخري" لابن طباطبا. |
الكلـب والثعلـب
كان سفيان الثوري يقول: ما رأيتُ الزهد في شيء أقلَّ منه في الرئاسة، ترى الرجلَ يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع الرئاسة تمسّك بها وعادى الناس. حدّث عطاء بن مسلم قال: لما تولّى المهدي الخلافة بعث إلى سفيان الثوري. فلما دخل عليه، خلع المهدي خاتمه فرمى به إليه وقال: يا أبا عبد الله! هذا خاتمي، فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسُّنة. فردّ سفيان الخاتم وقال: تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: لا تبعث إليّ حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسألك. فغضب المهديّ غضبا شديدا وصرفه. فلما خرج سفيان حفَّ به أصحابه فقالوا: ما منعك وقد أمرك أن تعمل في الأمة بالكتاب والسُّنة؟ قال: إني لا أخاف إهانة الأمراء لي، وإنما أخاف إكرامهم لي حتى لا أرى سيئاتهم سيئات. ولم أَرَ للعلماء والسلاطين مثلاً إلا مثلاً ضُرِب على لسان الثعلب، قال: عرفتُ نيفا وسبعين حيلة للتخلص من الكلب، ليس منها حيلة أفضل من أن لا أرى الكلب ولا يراني! من كتاب "سير أعلام النبلاء" للذهبي. |
اللـص الشفـيق
نزل القاضي أبو غانم في بعض الأيام يُصلـّي بالجامع، ووضع نعليه قـُرب المنبر وكانا جديدين. فلما قضى صلاته قام للبسهما فوجد نعله العتيق مكانهما! فقال لغلامه: ألم أنزل إلى الجامع بالمداس الجديد؟ قال: نعم. قال: فأين هو؟ فقال الغلام: جاءنا الساعةَ رجلٌ وطرق الباب وقال: القاضي يقول لكم: أرسلوا إليه مداسه العتيق إلى الجامع فقد سـُرق مداسه الجديد. فضحك القاضي وقال: هذا والله لص شفيق، جزاه الله خيرًا! من كتاب "معجم الأدباء" لياقوت. |
اللـص الفقيـه
حدّث بعض جلساء عبد الملك بن عبد العزيز الماجَشُون، قال: خرجتُ إلى بستان لي بالغابة. فلما دخلتُ في الصحراء وبعدت عن البيوت، تعرّض لي رجل فقال: اخلع ثيابك! فقلت: وما يدعوني إلى خَلْع ثيابي؟ قال: أنا أَوْلى بها منك. قلت: ومن أين؟ قال: لأني أخوك وأنا عُريان وأنت مكسوّ. قلت: فأعطيك بعضها. قال: كلاّ، قد لبستها كلها وأنا أريد أن ألبسها كما لبستها. قلت: فتعرّيني وتُبدي عورتي؟ قال: لا بأس بذلك، فقد رُوينا عن الإمام مالك أنه قال: لا بأس للرجل أن يغتسل عُريانًا. قلت: فيلقاني الناس فيرون عورتي؟ قال: لو كان الناسُ يَرونك في هذه الطريق ما عرضتُ لك فيها. قلت: أراك ظريفًا، فدعني حتى أمضي إلى بستاني وأنزع هذه الثياب فأوجِّه بها إليك. قال: كلا، أردتَ أن توجِّه إليّ أربعة من عبيدك فيحملوني إلى السلطان فيحبسني ويمزّق جلدي. قلت: كلا. أحلف لك أيمانًا أني أَفِي لك بما وعدتُك ولا أسوءُك. قال: كلا، فقد روينا عن الإمام مالك أنه قال: لا تلزمُ الأيمان التي يُحْلَفُ بها لِلّصوص. قلت: فأحلف أني لا أختل في أَيماني هذه. قال: هذه يمين مُرَكَّبة على أيمان اللصوص. قلت: فدع المناظرة بيننا فوالله لأوجّهن إليك هذه الثياب طيّبة بها نفسي. فأطرق ثم رفع رأسه وقال: تدري فيم فكرتُ؟ قلت: لا. قال: تصفّحتُ أمرَ اللصوص من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا فلم أجد لصًا أخذ نسيئة. وأنا أكره أن أبتدع في الإسلام بدعة يكون عليّ وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها بعدي إلى يوم القيامة. اخلع ثيابك! فخلعتُها ودفعتُها إليه، فأخذها وانصرف. من كتاب "أخبار الأذكياء" لابن الجوزي. |
الله يعطيـك!
كان والبة بن الحباب ماجناً خليعاً، ما يبالي ما قال ولا ما صنع. وكان منزله في آخر زقاق لا منفذ له، فكان إذا أتاه شحاذ يسأله صدقة، يتركه حتى يطيل ويكثر وهو لا يجيبه حتى ييأس الشحاذ منه. فإذا رآه والبة قد انصرف ومشى إلى آخر الزقاق (والزقاق طويل جداً)، فتح بابه ثم ناداه، فيجيبه الشحاذ: لبّيك لبّيك! يظن أنه سيعطيه شيئاً، ويعود نحو داره مسرعاً، فإذا قرب منه قال له والبة: الله يعطيك! من كتاب "طبقات الشعراء" لابن المعتز. |
المحبّة دون كل شيء
قال الخليفة المنصور يوماً للربيع (حاجب المنصور): اذكر حاجتك. قال: يا أمير المؤمنين، حاجتي أن تحبّ الفضل ابني. فقال: ويحك! إن المحبة إنما تقع بأسباب. قال: يا أمير المؤمنين، قد أمكنك الله من إيقاع السبب. قال: وما ذاك؟ قال: تشمله بفضلك وإنعامك، فإنك إذا فعلتَ ذلك أحبّك، وإذا أحبّك أحببته. قال: ولكن لم اخترت له المحبة دون كل شيء؟ قال: لأنك إذا أحببته كبر عندك صغيرُ إحسانه، وصغر عندك كبير إساءته. من كتاب "مروج الذهب" للمسعودي. |
المغـفّل وحمـاره
كان بعض المغفلين يقود حماراً. فقال رجل لرفيق له: يمكنني أن آخذ هذا الحمار ولا يعلم هذا المغفل. فقال: كيف ومقوده بيده؟ فتقدّم فحلّ المقود ووضعه في رأسه هو، وأشار إلى رفيقه أن يأخذ الحمار ويذهب به، فأخذه ومضى. ومشى ذلك الرجل خلف المغفل والمقود في رأسه ساعة، ثم وقف، فجذبه فلم يمش. فالتفت المغفل فرآه، فقال: أين الحمار؟ فقال: أنا هو. قال: وكيف هذا؟ قال: كنت عاقاً لوالدتي فمُسِخْتُ حماراً، ولي هذه المدة في خدمتك. والآن قد رَضِيت عني أمي فعُدتُ آدمياً. فقال المغفل: لا حول ولا قوة إلا بالله! وكيف كنتُ أستخدمك وأنت آدمي؟! قال: قد كان ذلك. قال: فاذهب في حفظ الله. فذهب. ومضى المغفل إلى بيته فقصّ على زوجته القصة، فقالت له: اذهب غداً إلى السوق واشترِ حماراً آخر. فخرج إلى السوق فوجد حماره معروضاً للبيع، فتقدّم منه وجعل فمه في أذن الحمار وقال: يا أحمق، عُدْتَ إلى عقوق أمك؟! من كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" لابن الجوزي. |
المُفاخـِر بقـُوَّتـه
رأى فيلسوفٌ رجلاً يفخر بتفوّقه في المصارعة، فقال له: هل غلبتَ من هو أضعف منك أو من هو أقوى منك؟ فقال: بل غلبتُ من هو أضعف مني. قال: فما هذا موضع مدحٍ، وذلك أن كل واحد من الناس يغلب من هو أضعف منه. فقال له الرجل: بل غلبتُ من هو أقوى مني. قال: هذا مُحالٌ وباطل. فقال: بل غلبتُ من هو مُساوٍ لي. قال: مـَن غلبتـَه لا يكون مساويـاً لك. من كتاب "البصائر والذخائر" لأبي حيان التوحيدي. |
المنـام
كان الإخشيد، والي مصر، إذا توفى قائد من قوّاده أو كاتب، صادر ورثته وأخذ أموالهم. وكذلك كان يفعل مع التجار المياسير. ثم حدث أن قبض على أبي بكر الماذرائي وأبى أن يطلقه حتى يدفع له ما مبلغه ثلاثة وثلاثون أردبا دنانير. فما صار الماذرائي في الحبس حتى وقع أمر عجيب. وذلك أن رجلاً من أهل العراق صعد فوق زمزم بمكة وصاح: معاشر الناس، أنا رجل غريب، وقد رأيت البارحة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لي: سِرْ إلى مصر والقَ الإخشيد، وقل له عني أن يطلق أبا بكر الماذرائي. ثم سار الرجل ووصل إلى مصر. فلما بلغ الإخشيد خبره، أحضره وقال له: إيش رأيت؟ فأخبره. فقال الإخشيد: كم أنفقت في مسيرك إلى مصر؟ قال: مائة دينار. فقال: هذه مائة دينار من عندي، وعد إلى مكة، ونم في الموضع الذي رأيت فيه رسول الله، فإذا رأيته فقل له: قد أديت رسالتك إلى الإخشيد فقال: إذا دفع الماذرائي لي ثلاثة وثلاثين أردبا دنانير أطلقه. فقال له الرجل: ليس في ذكر رسول الله هزل. وأنا أخرج إلى المدينة وأنفق من مالي، وأسير إلى رسول الله وأقف بين يديه يقظان بغير منام، وأقول له: يا رسول الله، أدّيت رسالتك إلى الإخشيد فقال لي كذا وكذا. وقام الرجل، فأمسكه الإخشيد وقال: قد صرنا الآن في الجدّ، وإنما ظننتك في البدء كاذباً. فلا تبرح حتى أطلق الماذرائي من حبسه. من كتاب "الاغتباط في حلي مدينة الفسطاط" لابن سعيد الأندلسي. |
المُنجِّـم
أتت امرأة مصرية الشيخ رزق الله النّحاس أحد المنجمين بمصر، وسألته أن يقرأ لها طالعها وأعطته درهماً أجراً له. فقاس ارتفاع الشمس وحقّق درجة الطالع والبيوت الاثني عشر ومراكز الكواكب، ورسم ذلك كله في تخت، وجعل يتكلّم على بيت بيت منها ويخبرها بطالعها وهي ساكتة واجمة. فوجم هو لوجومها وأدركه فتور فسكت. ثم عاود الكلام وقال: أرى فيما يتّصل بالمال أنك تفقدين جانباً من مالك عما قريب، فاحترسي. فقالت: الآن أصبت وصدقت، وقد كان والله ما ذكرتَ. قال: وهل ضاع لكِ شيء؟ قالت: نعم، الدرهم الذي أعطيتُك الآن إيّاه! وتركتْه وانصرفت. من كتاب "تاريخ الحكماء" للقِفْطي. |
الهديـة والرشـوة
اشتهى الخليفة عمر بن عبد العزيز تفاحاً، فأهدى له رجل من أهل بيته بعضاً منه. فقال عمر: ماأطيب ريحه وأحسنه! ردّه يا غلام على من أتى به. فقيل له: يا أمير المؤمنين، ابن عمك، رجل من أهل بيتك، وقد بلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية. فقال: إن الهدية كانت للنبي هدية، وهي اليوم لنا رشوة. من كتاب "تاريخ الخلفاء" للسيوطي. |
الهـواتـف والجــان
كانت الهواتف قد كثرت في العرب خاصة أيام مولد النبي صلى الله عليه وسلم وفي أولية مبعثه. ومن حكم الهواتف أن تهتف بصوت مسموع، وجسم غير مرئي. وإنما تعرض الهواتف والجان للناس من قـِبـَل التوحـّد في القـِفار، والتفرّد في الأودية، لأن الإنسان إذا صار في مثل هذه الأماكن وتوحـّد، تفكـّر، وإذا هو تفكـّر وَجـِلَ وجـَبـُنَ، وإذا هو جـَبـُن داخلتـْه الظنون الكاذبة، والأوهام الفاسدة، فصوّرت له الأصوات، ومثـّلت له الأشخاص، وأوهمته المحال، بنحو ما يعرض لذوي الوسواس. وأُسُّ ذلك سوء التفكير، وخروجه على غير نظام قوي، لأن المتفرّد في القفار مستشعر للمخاوف، فيتوهم ما يحكيه من هـَتـْف الهواتف به، واعتراض الجان له. وقد كانت العرب قبل ظهور الإسلام تقول: إن من الجن مـَنْ هو على صورة نصف إنسان، وأنه كان يظهر لها في أسفارها وحين خلواتها. وذكروا عن الجن بيتين من الشعر قالتهما حين قـَتَلـَتْ حرب بن أمية، وهما: وقـَبـْرُ حـَرْبٍ بمكانٍ قـَفـْرْ وليس قـُرْبَ قبرِ حـَرْبٍ قَبـْرْ واستدلـّوا على أن هذا الشعر من قول الجن بأن أحدًا من الناس لا يتأتى له أن ينشد هذين البيتين ثلاث مرات متواليات لا يتتعتع في إنشادهما، لأن الإنسان قد ينشد العشرين بيتـًا والأكثر والأقل أشدّ من هذا الشعر وأثقل منه ولا يتتعتع فيه. من كتاب "مروج الذهب" للمسعودي. |
الوديـعة
يُحكى أن ملكاً مات له ولد. فاشتدّ حزنه عليه، وأفحش في إظهار التسخّط بسبب ما أصابه. فأتاه رجل فقال: أيها الملك، إن لي صاحباً أودعني جوهرة، فكانت عندي مدّة، أتلذّذ برؤيتها. ثم إنه استرجعها فآلمني ذلك. وأنا أسألك إحضاره وإلزامه بإعادة إيداع الجوهرة عندي. فقال الملك: أمجنون أنت؟ كيف أُلزِم أحداً بأن يودع ماله عندك؟! فقال له: فالله أودع عندك ولداً لك هذه المدّة ثم استردّه، فلِمَ هذا الحزن والسخط؟ من كتاب "مُعيد النِّعم ومُبيد النِّقم" لتاج الدين السبكي. |
حكايا رائعة ياصائد
شكرا لك |
الــوزيـر
في يوم الخميس أول شهر ربيع الآخر سنة ثمانمائة وتسعة وخمسين هجرية، طلب السلطان إينال ثلاثة ليختار منهم مـَن يوليه الوزارة. استدعى أولاً ابن البخار، فقيل له: هرب من القاهرة واختفى. فطلب ابن الهـَيـْصـَم، فقيل له: مات في هذه الليلة وإلى الآن لم يـُدفن. فطلب فرج بن النحـّال، فحضر. فكلـّمه السلطان أن يستقرّ وزيرًا فامتنع واعتذر بقلـّة مـُتـَحـَصـِّل الدولة. فلما زاد تمنـُّعـُه، أمر به السلطان فحـُطَّ إلى الأرض وضـُرِب نحو ثلاثمائة عصا إلى أن كاد يهلك. ثم عـُمـِلت مصالحة وتولـّى الوزارة. ولو مـَنَّ الله سبحانه وتعالى بأن يبطل اسم الوزير من الديار المصرية في هذا الزمان (كما أبطل أشياء كثيرة منها)، لكان ذلك أَجـْوَدَ وأجملَ بالدولة. لأن هذا الاسم عظيم، وقد سـُمـّي به جماعة كبيرة من أعيان الدنيا قديمـًا وحديثـًا في سائر الممالك والأقطار، مثل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي وغيره، إلى الصاحب إسماعيل ابن عبـّاد، وهلمّ جرّا، إلى القاضي الفاضل عبد الرحيم ثم بني حـِنـّاء وغيرهم من العلماء والأعيان، إلى أن تنازلت ملوك مصر في أواخر القرن الثامن حتى وليها في أيامهم أوباش الناس، فذهبت أُبّهة هذه الوظيفة الجليلة التي لم يكن في الإسلام بعد الخلافة أجلّ منها ولا أعظم، وصارت بهؤلاء الأصاغر في الوجود كـَلا شيء، إذ يباشرونها بعجز وضعف، وظلم وعسف. فلا قوة إلا بالله! من كتاب "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" لابن تعزى بردى. |
الوطـــن
سـُئـِل أعرابي: ماذا تفعل في البادية، إذا اشتد القيظ، وانتعل كل شيء ظله؟ فقال: وهل العيش إلا ذاك. يمشي أحدنا ميلاً، فيرَفضُّ عرقاً. ثم ينصب عصاه، ويلقي عليه رداءه. ثم يجلس في فيئه (ظله) يكـْتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى. |
الولـــد
أرسل معاوية إلى الأحنف بن قيس فقال: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ قال: يا أمير المؤمنين، ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودهم، ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملوا حياتك، ويحبوا وفاتك فقال: لله أنت يا أحنف. لقد دخلتَ عليّ، وأنا مملوء غضباً على يزيد، فسللـَته من قلبي، فلما خرج الأحنف من عنده، بعث معاوية إلى يزيد بمائتي ألف درهم، ومائتي ثوب، فبعث يزيد إلى الأحنف بمائة ألف درهم، ومائة ثوب، شاطره إياها. ودخل عمرو بن العاص على معاوية، وبين يديه ابنته عائشة، فقال: من هذه يا أمير المؤمنين، فقال: هذه تفاحة القلب، فقال له: انبذها عنك يا أمير المؤمنين، فوالله إنهن ليلدن الأعداء، ويقرّبن البـُعداء، ويورثن الضغائن. فقال: لا تقل ذاك يا عمرو، فوالله ما مرَّض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الأحزان مثلهن، ورُبَّ ابن أخت قد نفع خاله. |
امتحـان الباطـن
كانت الأكاسرة إذا خَفَّ الواحد من أصحابها على قلب الملك، وكان عالمًا بالحكمة مَوْضِعًا للأمانة على ظاهره، وأحبّوا أن يمتحنوا باطنه، أمر الملكُ منهم أن بأن يُحَوَّلَ الرَّجُل إلى قصر الملك، وأن يُفْرَدَ له حُجرة يُقِيم بها. فإذا تحوّل الرجل أنِس به وخلا معه، وكان آخر من ينصرف من عنده. فيدعه على هذه الحال شهرًا، ثم يمتحنه بالنساء. فامتحن أبرويز يوما رجل من خاصته بهذه المحنة، ودسّ إليه جارية من جواريه، ووجّه معها إليه بألطاف، وأمرها أن لا تقعد عنده. ففعلت وانصرفت وأنفذها في المرة الثانية بمثل ذلك، وأمرها أن تقعد بعد تسليم الهدية هُنَيْهَة ففعلت، ولاحظها الرجل وتأمّلها وانصرفت. فلما كانت المرة الثالثة أمرها أن تطيل القعود عنده وأن تحدثه، فإن أرادها على الزيادة في المحادثة أجابته إليها. وجعل الرجل يحد النظر إليها ويُسَرُّ بمحادثتها، ومن شأن النفس أن تطلب الغرض بعد ذلك. فأبدى شيئًا من ذلك لها، فقالت: أخاف أن يعثر علينا، فإنك من الملك على خُطىً يسيرة ومعه في دار واحدة ولكن الملك يمضي بعد ثلاثٍ إلى بستانه الفلاني فيقيم هناك، فإن أرادك على الذهاب معه فأظهِرْ له أنك عليل وتمارضْ، فإن خيّرك بين الانصراف إلى دارك أوالمقام ها هنا فاختر المقام ها هنا، وأخبره أنك لا تقدر على الحركة فإن أجابك إلى ذلك جئتُ إليك كل ليلة ما دام الملك غائبًا عن قصره. فسكن إلى قولها. وانصرفت فأخبرت الملك بكل ما جرى بينهما. فلما كان بعد ثلاثٍ دعاه الملك. فقال الرجل للرسول: أخبِره أني عليل. فلما عاد الرسول بذلك، تبسّم أبرويز وقال: هذا أوّل الشر! فوجّه إليه مِحَفّة حُمِل فيها وهو مُعَصَّب الرأس. فلما رأى الملك العِصابة قال: والعصابة شرُّ ثان! ثم قال له: متى حدثت هذه العلة؟ قال: في هذه الليلة. قال له: فأيّ الأمرين أحبّ إليك: الانصراف إلى أهلك لتمريضك، أو المقام ها هنا إلى وقت رجوعي؟ قال: المُقام ها هنا أرفق بي لقلة الحركة. فتبسم الملك وقال: ما صدقت. حركتك ها هنا إن تُرِكْتَ أكثرُ من حركتك إلى منزلك! ثم أمر به فنـُفي إلى أقصى المملكة. من كتاب "الهفوات النادرة" لابن هلال الصابي. |
امرأة أبـي رافـع والصيرفـيّ
كان أبو رافع مولى رسول الله. وقد حدث أن رأته امرأته في نومها بعد وفاته، فقال لها: أتعرفين فلانـاً الصـَّيـْرفيّ؟ قالت له: نعم. قال: فإن لي عليه مائتي دينار. فلما انتبهت من نومها غدت إلى الصيرفي فأخبرته الخبر، وسألته عن المائتي دينار. فقال: رحم الله أبا رافع. والله ما جرت بيني وبينه معاملةٌ قط. فأقبلتْ إلى مسجد المدينة، فوجدت مشايخ من جائزي الشهادة، مقبولي القول. فقصـّت عليهم الرؤيا، وأخبرتهم خبرها مع الصيرفي وإنكاره لما ادعاه أبو رافع. فقالوا: ما كان أبو رافع ليكذب في نوم ولا يقظة. قومي بصاحبك إلى السلطان ونحن نشهد لك عليه. فلما رأى الصيرفي عزم القوم على الشهادة لها، وعلم أنهم إن شهدوا عليه لم يبرح حتى يؤدّيها، قال لهم: إن رأيتم أن تـُصلحوا بيني وبين هذه المرأة على ما ترونه فافعلوا. قالوا : نعم، والصلح خير، ونـِعـْم الصلح الشـِّطر، فأدِّ إليها مائة دينار من المائتين. فقال لهم: أفعل، ولكن اكتبوا بيني وبينها كتابـاً يكون وثيقة لي. قالوا: وكيف تكون هذه الوثيقة؟ قال: تكتبون لي عليها أنها قبضت مني مائة دينار صـُلحـاً على المائتي دينار التي ادّعاها أبو رافع عليّ في نومها، وأنها قد أبرأتني منها، وشرطتْ على نفسها ألا ترى أبا رافع في نومها مرة أخرى! من كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه |
بأمـر أميـر المؤمنــين
صعد خالد بن عبد الله القسري المِنْـبَرَ في يوم جمعة، وهو إذ ذاك على مكة، فذكر الحجـّاج بن يوسف فأثنى عليه ثناءً عظيماً وحمد طاعته للخليفة عبد الملك بن مروان، وترحّم عليه. فلما كان في الجمعة الثانية ورد عليه كتاب أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك يأمره فيه بشتـْم الحجاج ونشر عيوبه وإظهار البراءة منه. فصعد خالد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، إن إبليس كان مَلـَكاً من الملائكة، وكان يُظْهـِر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلاً. وكان الله قد علم من غـِشّه وخـُبثه ما خَفـِيَ على ملائكته. فلما أراد الله فضيحته أمره بالسجود لآدم، فظهر لهم ما كان يـُخفيه عنهم، فلعنوه. "وإن الحجاج كان يـُظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كُنـّا نرى له به فضلاً، وكأنّ الله أَطـْلـَعَ أمير المؤمنين من غشه وخبثه على ما خفي علينا، فلما أراد الله فضيحته أجرى ذلك على يديْ أمير المؤمنين فلعنه. فالعنوه لعنه الله. ثم نزل. من كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه. |
باعـوا أنفسهـم لله
وقفت الخنساء تحرّض بنيها على القتال، والخروج إلى الجهاد، مع جيوش المسلمين في حرب القادسية قالت: أي بني: إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين. والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنوا رجل واحد، كما أنكم بنوا امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا غيرت نسبكم، فإذا رأيتم الحرب قد شمـَّرت عن ساقيها، فيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، تظفروا بالغـُنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة، أي بني، اطلبوا الموت، توهبْ لكم الحياة. وعندما سمعت بمصرع بنيها الأربعة، وما أبلوا من بلاء حسن، ما أنـَّت، ولا ولْوَلت، بل قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وإني أرجو أن يجمعني الله وإياهم، في مستقر رحمته، وواسع جنته. |
بسـاط الخليــفة
حُكي عن أحمد بن أبي داود أنه قال: ما صحب السلطان أصلب ولا أخبث من عمر بن فرج الرّخجي. غضب عليه الخليفة المعتصم يومـًا وهمّ بقتله وأمر بإحضاره، فجاءوا به وقد نزف دمه. فقال المعتصم: السيف يا غلام! فجعلت رُكـْبتا عمر بن فرج تصطكـّان. فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يسأله عن ذنبه، فلعلـّه أن يخرج منه بعذر. فقال المعتصم له: يا ابن الفاعلة، هل أمرتـُك بالتجسس على العلويين وأن تتعرّف خبر منازلهم؟ قال: لا. قال: فلم فعلت ذلك؟ قال عمر: إنما فعلت ذلك لأنه بلغني عن واحد منهم أن أهل "قـُمْ" يكاتبونه فأردت أن أعلم ما في الكتب الواردة عليه. وكان عمر في خلال حديثه يلمس البساط الذي كان المعتصم يجلس عليه، فزاد ذلك في غضب الخليفة، فصاح به: يا ابن الفاعلة، ما شـَغـَلـَكَ ما أنت فيه عن لمس البساط، كأنك غير مكترث بما أريده بك؟ قال عمر: لا والله يا أمير المؤمنين. ولكن العبدَ يـُعـْنـَى دائمـًا بكل شيء من أمر سيده وعلى جميع الأحوال. وقد رأيت هذا البساط خشنا لا يليق بخليفة. فقال المعتصم: ويلك، هذا البساط كلـّفنا خمسين ألف درهم. قال عمر: يا سيدي، عندي خير منه قيمته سبعمائة دينار. فما كان إلا أن ذهب عن الخليفة غضبه، وقال: وَجـِّه الساعة من يـُحضره من دارك. فجاءوا ببساط كان عمر قد اشتراه، فيما أظن، بأكثر من خمسة آلاف دينار. فاستحسنه المعتصم واستلانه. وقال: هذا والله أحسن من بساطنا وأرخص، وقد أخذناه منك بما دفعته فيه. فوالله ما ترك عمر القصر ذلك اليوم حتى نادم الخليفة ونال جوائزه. من كتاب "الوزراء والكُتّاب" للجهشياري. |
بستـان الخليـفة
لمّا قُبض على الخليفة العباسي القاهر وسُمِلت عيناه وأفضت الخلافة إلى الراضي، طولب القاهر بأمواله الكثيرة التي خبأها، فأنكر أن يكون عنده شيء. فأوذي وعُذِّب بأنواع من العذاب، وكل ذلك لا يزيده إلا إنكاراً. فأخذه الخليفة الراضي وقرّبه، وطالت مجالستُه إياه وإكرامه له، ولاطفه وأحسن إليه غاية الإحسان. وكان للقاهر بستان في بعض الحصون قد غرس فيه النّارنج، اشتبكت أشجاره ولاحت ثماره كالنجوم من أحمر وأصفر، وبين ذلك أنواع الرياحين والزهر، وأنواع الأطيار من الشَّحارير والببغاء مما قد جُلب إليه من الممالك والأمصار. وكان ذلك في غاية الحسن، وكان القاهر كثير الجلوس فيه. ثم إن الراضي رَفَق بالقاهر، وأعلمه بما هو فيه من حاجة إلى الأموال، وسأله أن يُسعِفه بما خبأه منها، وحلف له بالأيمان المؤكدة أنه لا يسعى في قتله ولا الإضرار به ولا بأحد من ولده. فقال له القاهر: ليس لي مال إلا في بستان النارنج. فصار الراضي معه إلى البستان، وسأله عن الموضع، فقال القاهر: قد ضاع بصري فلستُ أعرف موضعه. ولكن مُرْ بحفره فإنك تظهر على المكان. فحفر البستان، وقلع تلك الأشجار والغروس والأزهار، حتى لم يبق منه موضع إلا حفره، وبولغ من حفره فلم يجد شيئاً. فقال له الراضي: ما ههنا شيء مما ذكرتَ، فما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال القاهر: إنما كانت حَسْرَتي على جلوسك في هذا البستان وتمتّعك به، وقد كان لَذَّتي من الدنيا، فتأسّفتُ على أن يتمتع به بعدي غيري. من كتاب "مروج الذهب" للمسعودي. |
بكم تبيع هـذين البيتين؟
قال مروان بن أبي حفصة الشاعر: خرجتُ أريد مـَعـْنَ بن زائدة أمدحه بقصيدة لي، فلقيت أعرابيـًا في الطريق، فسألته: أين تريد؟ فقال: هذا الملك الشيباني (يعني ابن زائدة). قلت: فما أهديتَ إليه؟ قال: بيتين. قلت: فقط؟! قال: إني جمعتُ فيهما ما يسرّه. فقلت: أنشدهما. فأنشدني: معنُ بن زائدةَ الذي زيدتْ بـه شرفا على شرفٍ بنو شيبان إنْ عُـدّ أيـــام الفَعــال فإنّمــا يومـاه يـومُ ندًى ويوم طعانِ وكنتُ قد نظمت قصيدتي بهذا الوزن. فقلت للأعرابي: تأتي رجلاً قد كثـُر الشعراء ببابه بيتين اثنين؟! قال: فما الرأي؟ قلت: تأخذ منـّي ما أَمَّلـْتَ بهذين البيتين وتعود أدراجك. قال: فكم تبذل؟ قلت: خمسين درهماً. قال: لا والله، ولا بالضـِّعف. فلم أزل أرفـُق به حتى بذلتُ له مائة وعشرين درهمـاً. فأخذها وانصرف. وأتيتُ معن بن زائدة، فأنشدته قصيدتي بعد أن جعلت البيتين في وسط الشعر. فوالله ما هو إلا أن بلغتُ البيتين فسمعهما، فما تمالك أن خرّ عن فـَرْشـِه حتى لصق بالأرض. ثم قال: أعد البيتين. فأعدتهما. فنادى: يا غلام، ائتني بكيس فيه ألف دينار وصُبـّها على رأسه، وأعطه دابة وبغلاً وعشرين ثوباً من خاصّ كـُسـْوَتي! من كتاب "الموشـَّح" للمَرْزُباني. |
بـلاء أعظـم مـن بـلاء
قدم رجل من بني عبس، وكان ضريراً محطوم الوجه، على الوليد بن عبد الملك، فسأله الوليد، عن سبب ذلك، فقال: بـِتُّ ليلة في بطن وادٍ ولا أعلم في الأرض عبـْسيا يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل، فذهب بما كان لي من أهل وإبل ومال وولد، إلا صبياً وبعيراً، فنفر البعير، والصبي معي، فوضعته واتبعت البعير، فما جاوزت ابني قليلاً، إلا ورأس الذئب في بطنه يفترسه، فتركته. واتبعت البعير فرمحني رمحة حطـَّم بها وجهي، وأذهب عيني، فأصبحت لا مال عندي ولا ولد، حتى بصري قد فقدته كما ترى، فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة بن الزبير، وكان قد أصابه بلاء متتابع، ليعلم أن في الناس من هو أعظم بلاء منه. |
بلـح ممـا ألقـت الريـح
حدّث سنان بن سلمة، أنه كان في صباه يلتقط البلح في أصول النخل، مع بعض الصبية، إذ أقبل عمر بن الخطاب، فتفرَّق الغلمان جزعاً من التقاطهم البلح، من ظلال نخيل الناس، وثبت الطفل، ولما دنا منه عمر، قال: يا أمير المؤمنين، إنما هذا مما ألقت الريح. فقال عمر: "أرني أنظر، فإنه لا يخفى عليَّ" فنظر عمر البلح في حجره، ثم قال: صدقت، إلا أن الطفل لم يقنع بهذا، وطمع أن يحرسه عمر إلى بيته، فقال يا أمير المؤمنين: أترى هؤلاء الصبية؟ وأشار إلى الصبية الهاربين، والله لئن انطلقت لأغاروا عليّ فانتزعوا مما معي، فمشى عمر معه حتى أوصله بيته. |
الساعة الآن 09:27 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |