![]() |
2[align=justify]
ـ استشهاد عقبة بن نافع وأبو المهاجر رحمهما الله تعالى: يبدو أن عقبة المجاهد المخلص، كان يحس إحساس المؤمن الصادق، أنه سيلقى ربه شهيداً في هذه الجولة، فعندما عزم على المسير من القيروان في بداية الغزو دعا أولاده وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل ... إلى أن قال ولست أدري أتروني بعد يومي هذا أم لا، لأن أملي الموت في سبيل الله، وأوصاهم بما أحب، ثم قال: عليكم سلام الله .. اللهم تقبل نفسي في رضاك[1]. نعى عقبة نفسه إلى أولاده، فتقبل الله منه وحقق له أمله في الشهادة، فقد أعد له الروم والبربر كميناً عند تهوذة[2]، وأوقعوا به وقضوا عليه هو ومن معه من جنوده، وترجع المصادر أمر الكارثة التي تعرض لها عقبة عند تهوذة إلى سبب رئيسي وهو سياسته نحو البربر بصفة عامة، وزعيمهم كسيلة بصفة خاصة ذلك الزعيم صاحب النفوذ والمكانة في قومه، والذي كان أبو المهاجر قد تألفه وأحسن إليه، فأسلم وتبعه كثير من قومه، لكن عقبة أساء إلى هذا الرجل إساءة بالغة، فأدرك أبو المهاجر عاقبة الخطأ الذي وقع فيه عقبة ولم يكتم نصيحته عنه ـ رغم أنه كان في حكم المعتقل ـ ولكن عقبة لم يسمع منه، وكان أبو المهاجر من معاشرته للبربر وزعيمهم، قد عرف مدى اعتزازهم بكرامتهم وأدرك أنهم لن يقبلوا هذه الإهانة، وهذا الإذلال الذي لحق بزعيمهم من عقبة فخاف غدرهم، فأشار على عقبة بالتخلص من كسيلة وقال له: عاجله قبل أن يستفحل أمره[3]، ولكن عقبة لم يصغ إلى هذه النصيحة أيضاً وليته احتاط للأمر، بل أقدم على عمل آخر في غاية الخطورة، حيث جعل معظم جيشه يسير أمامه بعد أن رجع من رحلته الطويلة من المغرب الأقصى قاصداً القيروان، ولما صار قريباً من القيروان أرسل غالب جيشه على أفواج إلى القيروان وبقي هو على رأس الفوج الأخير، ومعه ما يقرب من ثلاثمائة من الفرسان من الصحابة والتابعين، وكان من عادة عقبة أنه يكون في مقدمة الجيش عند الغزو ويكون في الساقة عند قفول الجيش، فهو بذلك يعرض نفسه لخطر مواجهة العدو دائماً وإن هذه التضحية الكبيرة جعلته محبوباً لدى أفراد جيشه بحيث لا يعصون له أمراً ويتسابقون على التضحية اقتداء به، وهذه الصفة تعتبر من أهم عوامل نجاح القائد في أي عمل يتوجه إليه ولما علم الروم بانفراد عقبة بهذا العدد القليل من جيشه انتهزوا هذه الفرصة لمحاولة القضاء عليه، وهم يدركون أن وجوده القوي يعتبر أهم العوامل في تماسك المسلمين وبقاء قوتهم، فتآمروا عليه مع كسيلة البربري، فجمعوا لعقبة وأصحابه جمعاً لا قِبَلَ لهم[4] به وإذا بكسيلة يحيط بجيش عقبة في جمع عدته خمسون ألفاً[5]. وكان أبو المهاجر موثقاً في الحديد مع عقبة، فلمّا رأى الجموع تمثل بقول أبي محن الثقفي: كفى حزناً أن تمرغ الخيل بالقنا وأُتـرك مشدوداً علـيّ وثاقيا إذ قمتُ عنّاني الحديـد وأُغلت مصارع من دوني تصمّ المناديا فلما سمع عقبة ذلك أطلقه، فقال له: الحق بالمسلمين وقم بأمرهم وأنا اغتنم الشهادة، فلم يفعل وقال: وأنا أيضاً أريد الشهادة[6]، وهكذا كان أبو المهاجر نموذجاً من تلك النماذج الفريدة من الرجال، الذين هانت عليهم الحياة الدنيا واستولى على قلوبهم حب الآخرة وكسب رضوان الله تعالى، ومن هذا المنطلق أقدم عقبة ومعه عدد قليل على معركة غير متكافئة، وكان بإمكان بعضهم الفرار ولكنهم ثبتوا ثبات الأبطال حتى استشهدوا جميعاً في بلاد ((تهوذة)) من أرض الزاب ويَذكر المؤرخون أن قبور هؤلاء الشهداء معروفة في ذلك المكان وأن المسلمين يزورونها[7]. وهكذا تحقق أمل عقبة في أبو المهاجر ونالا الشهادة في سبيل الله بعد ما قاموا بالواجب الذي عليهم، واستقبلوا الشهادة في سبيل الله بنفس راضية مطمئنة إلى حسن ثواب ربها، وقد استطاع عقبة أن يشق بجهاده للإسلام طريقه في هذا الجزء من العالم الذي سار فيه خلفاؤه من بعده، زهير بن قيس البلوي، وحسان بن النعمان الغساني، وموسى بن نصير، فقد حقق أهدافه من التمهيد لنشر الإسلام والجهاد في سبيل الله[8]، ولقد كان استشهاد عقبة بن نافع ومن معه في عام ثلاثة وستين للهجرة وعمره آنذاك في حدود أربع وستين سنة، وبهذا ندرك مبلغ القوة التي كان يتمتع بها أسلافنا حيث قام بتلك الرحلة الشاقة وخاض المعارك الهائلة وقد جاوز الستين من عمره وهكذا استشهد هذا القائد العظيم بعد جهاد دام أكثر من أربعين عاماً قضاها في فتوح شمال أفريقيا، ابتداء بمصر وإنتهاء بالمغرب الأقصى[9] 3 ـ أثر معركة تهوذة على المسلمين 63هـ : كانت معركة تهوذة مصيبة على المسلمين، فقد استشهد القائد المجاهد عقبة بن نافع وصحبه وكان لاستشهاده وقع أليم على المسلمين، وانتابتهم حالة من الهلع والفزع، فمع أن العدد الذي استشهد مع عقبة كان قليلاً ـ قيل حوالي ثلثمائة جندي ـ وأن معظم الجيش كان قد سار متقدماً ونجا من المعركة، وكان من الممكن أن يتماسك هذا الجيش ويقاوم، حتى يحتفظ بوجوده في القيروان، إلا أن الحالة النفسية للجنود لم تسمح بذلك، وقد حاول زهير بن قيس البلوي خليفة عقبة على القيروان أن ينفخ في الجنود روح المقاومة والتصدي لكسيلة عندما زحف على القيروان، وهتف قائلاً: يا معشر المسلمين إن أصحابكم قد دخلوا الجنة، وقدمنّ الله عليهم بالشهادة، فاسلكوا سبيلهم، أو يفتح الله عليكم دون ذلك[10]، ولكن صيحة زهيرة هذه لم تجد استجابة، بل لقيت معارضة وتثبيطاً، حيث تصدى له حنش الصنعاني وقال له: لا والله ما نقبل قولك ولا لك علينا ولاية، ولا عمل أفضل من النجاة بهذه العصابة من المسلمين إلى مشرقهم، ثم قال يا معشر المسلمين من أراد منكم القفول إلى مشرقة فليتبعني فاتبعه الناس، ولم يبق مع زهير إلا أهل بيته، فنهض في أثره، ولحق بقصره ببرقة وأقام بها مرابطاً إلى دولة عبد الملك بن مروان[11]، وأما كسيلة فاجتمع إليه جميع أهل إفريقية، وقصد القيروان، وبها أصحاب الأثقال والذراري من المسلمين، فطلبوا الأمان من كسيلة فأمنهم، ودخل القيروان، واستولى على إفريقية وأقام بها غير مدافع إلى أن قوى أمر عبد الملك بن مروان[12]، ولئن أخرجت إفريقية من يد المسلمين فإنها لم تخرج عن الإسلام، فقد أسلمت قبائل من البربر وثبتت على إسلامها وكان تعيش بالقيروان وكان كسيلة يحسب حسابها ويتفادها لشدة باسها فقد اعترف كسيلة بذلك حين اقترح على جيشه الخروج من القيروان واختيار موضع آخر لمواجهة جيش زهير الذي أمده به عبد الملك بن مروان قال كسيلة: إني أردت أن أرحل إلى ممس فأنزلها، فإن هذه المدينة ((يعني القيروان)) فيها خلق عظيم من المسلمين ولهم علينا عهد فلا نغدر بهم ونحن نخاف إذا التحم القتال أن يثبتوا علينا[13]. هذا وقد بقيت القيروان بيد كسيلة مدة تقارب خمس سنوات من عام 64هـ ـ 69هـ حتى خلصها زهير البلوي من قبضته بعد أن أمده عبد الملك بن مروان بجيش كبير يأتي الحديث عن زهير بإذن الله في عهد عبد الملك بن مروان . وفي مقتل عقبة رحمه الله درس بليغ وهو أهمية الحذر من العدو فقد أرسل جنوده وبقي في مجموعة قليلة من المقاتلين رغباً في الشهادة وهذا مطلب سامي وكبير إلا أن استشهاده كان له آثار سيئة على الفتوحات في شمال إفريقيا وضاعت القيروان من أيدي المسلمين لمدة خمس سنوات وتأخرت الدعوة الإسلامية لذلك يجب على القادة أن يوازنوا بين مصالح الأمة الكبرى وحرصهم على الشهادة . [/align] |
[align=justify]المبحث الثالث : فتوحات معاوية في الجناح الشرفي للدولة الأموية:
كان المسلمون حتى خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه قد أتموا فتح البلاد التي تقع بين العراق ونهر جيحون، وتضم جرجان وطبرستان وخراسان وفارس وكرمان وسجستان، فلما قتل عثمان تعثرت حركة الفتح، وخرج أكثر أهل هذه البلاد عن الطاعة، حتى إذا جاء عهد معاوية رضي الله عنه أخذت دولته تبذل جهوداً بالغة لإعادة البلاد المفتوحة إلى الطاعة ومد حركة الفتح[1]. أولاً : فتوحات خراسان[2] وسجستان وما وراء النهر : لما استقامت الأمور لمعاوية بن أبي سفيان ولّى عبد الله بن عامر البصرة وحرب سجستان وخراسان[3]، ولقد جاء تعيين عبد الله بن عامر في هذا المنصب نظراً لخبرته السابقة في هذه المنطقة وفي سنة 42هـ ـ 43هـ عين ابن عامر، عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس والياً على سجستان فأتاها وعلى شرطته عبّاد بن الحصين الحبطي ومعه من الأشراف عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعبد الله بن خازم السُّلمي، وقطري بن الفجاءة، والمهلب بن أبي صفرة الأزدي ففتحوا في هذه الحملة مدينة زرنج[4]، صلحا ووافق مرزبانها على دفع ألفي ألف (مليوني) درهم، وألفي وصيف. ثم تقدموا نحو مدن خواش[5]، وبست[6] ، وخُشَّك[7]، وغيرها من البلدان وتمكنوا من فتحها ، كما تمكنوا من فتح مدينة كابل بعد أن ضربوا عليها حصاراً استمر لعدة أشهر[8]. وما لبث أن جعل معاوية رضي الله عنه إقليم سجستان ولاية مستقلة وأمّر عليها عبد الرحمن بن سمرة كمكافأة له على تحقيقه مثل تلك الفتوحات[9]. وظل عبد الرحمن والياً عليها حتى قدم زياد بن أبي سفيان البصرة معيناً عليها بدل عبد الله بن عامر، والذي عزله معاوية سنة 45هـ كما مر معنا وعادت ولاية خراسان وسجستان مرة أخرى تحت إشراف والي البصرة. وعند وصول زياد البصرة سنة 45هـ قسم خراسان أربعة أقسام هي: مرو وعليها أُمَير أحمد اليشكري والذي كان أول من أسكن العرب في مرو[10] ونيسابور وعليها خُلَيد بن عبد الله الحنفي، مرو الرُّود والطالقان والفارياب وعليها قيس بن الهيثم السُّلمي، هَراة وباذغيس وبوشنج وقاديس وعين عليها نافع بن خالد الطاحي الأزدي[11]، وفي سنة 47هـ عمل زياد على جعل السلطة المركزية في خراسان في مدينة مرو ((القاعدة الأساسية فيها)). ثانياً : تعيين الحكم بن عمرو الغفاري : وكان عفيفاً وله صحبة[12]، وفي سنة 47هـ غزا الحكم ((طخارستان))[13]، فغنم غنائم كثيرة ثم سار إلى جبال الغور[14] وغزا أهلها الذين ارتدوا على الإسلام فأخذهم بالسيف عنوة وفتحها وأصاب منها مغانم كثيرة[15]، وكان المهلب بن أبي صفرة مع الحكم بخراسان، فغزا معه بعض جبال الترك وغزا معه جبل ((الأشل))[16] من جبال الترك، إلا أن الترك أخذوا عليهم الشعاب والطرق واحتار الحكم بالأمر، فولى المهلب الحرب، فلم يزل المهلب يحتال حتى أسر عظيماً من عظماء الترك، فقال له: إما أن تخرجنا من هذا الضيق أو لأقتلنك، فقال له: أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق، وسير الأثقال نحوه، فإنهم سيجتمعون فيه ويخلون ما سواه من الطرق، فبادرهم إلى طريق أخرى، فما يدركونكم حتى تخرجوا منه، وفعل ذلك المهلب، فسلم الناس بما معهم من الغنائم[17]، وقطع الحكم نهر جيحون وعبر إلى ما وراء النهر[18] في ولايته ولم يفتح وكان أول من شرب من مائه من المسلمين هو أحد موالي الحكم، فقد اغترف بترسه بماء النهر، فشرب وناول الحكم فشرب وتوضأ وصلى ركعتين، وكان الحكم أول من فعل ذلك[19]. وقد قال عبد الله بن المبارك لرجل من أهل ((الصغانيات)): ((من فتح بلادك؟)) فقال الرجل: لا أدري!! فقال ابن مبارك: فتحها الحكم بن عمرو الغفاري[20]. وقد مات الحكم سنة50هـ[21]، فخلفه الصحابي الجليل غالب بن فضالة الليثي والذي واصل سياسة سلفه في إرسال حملات منظمة في فتح طخارستان ولكنه، رغم كل الجهود التي بذلها لم يحرز إي تقدم يذكر في ولايات طخارستان[22] لذلك عزله زياد وولى مكانه الربيع بن زياد الحارثي ((50 ـ 53هـ[23]))، وقد استطاع الربيع بن زياد إبان فترة ولايته على خراسان أن يغزو بلخ فصالحه أهلها، ثم غزا قوهستان ففتحها عنوة ثم أن ابنه عبد الله، الذي خلفه لبضعة أشهر من عام 53هـ وخلفه خليد بن عبد الله الحنفي في إدارة الإقليم، وظل خليد في منصبه هذا حتى وصل عبيد الله بن زياد بن أبي سفيان عامل معاوية رضي الله عنه المعين على خراسان في سنة 54 ـ 55هـ وكان عبيد الله ابن 25 عاماً[24]. ثالثاً : عبيد الله بن زياد : ما أن وصل عبيد الله إلى مرو حتى قاد حملة مكونة من 24 ألف رجل وقطعوا نهر جيحون على الإبل وفتحوا راميثين[25][26] وبيكندة[27] فأرسلت ((خاتون)) ملكة ((بخارى)) إلى الترك تستمدهم فجاءهم منهم عدد كبير، فلقيهم المسلمون وهزموهم، وعند القتال انتصروا عليهم[28]، فبعثت خاتون تطلب الصلح والأمان وصالحها عبيد الله على ألف ألف درهم فلم يفتح بخارى وفتح بيكندة[29]، وكان قتال عبيد الله الترك من زحوف ((خراسان)) التي تذكر، وقد ظهر منه بأس شديد[30]، فقد ذكر شاهد عيان، فقال: ما رأيت أشجع بأساً من عبيد الله بن زياد لقينا زحف الترك بـ((خراسان)) ، فرأيته يقاتل فيحمل عليهم، فيطعن فيهم ويغيب عنا ثم يرفع رايته تقطر دماً ، وبقي عبيد الله بخراسان سنتين[31]، إذ ولاه معاوية البصرة سنة 55هـ[32]، فقدم معه البصرة بخلق من أهل بخارى[33] وهم ألفان كلهم جيد الرمي بالنشاب[34]، وتولى ابن زياد أرفع المناصب في أيام معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك، وكان موضع ثقة بني أمية وكان يعتمد في حكمه على القسوة القاسية لفرض سيطرته على الناس، وكان لا يبالي من أجل تدعيم سيطرته أن يرتكب كل أنواع الإجراءات الرادعة قتلاً وتعذيباً وحجزاً للممتلكات والأموال[35]، فقد كان ذا شخصية طاغية يحب الإمارة ويحب السيطرة ولقد أساء ابن زياد، فترك تصرفه الأهوج في قتل الحسين رضي الله عنه أثراً بالغاً في أيامه ولا نزال نعاني من نتائج قتله حتى اليوم[36]، وسيأتي بيان تفصيل ذلك بإذن الله عند الحديث عن مقتل الحسين رضي الله عنه. وفي سنة 55 هـ قدم أسلم بن زرعة الكلابي خراسان والياً عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان بدلاً من عبيد الله بن زياد والذي ندبه معاوية لولاية البصرة وظل أسلم في ولايته مدة تقارب السنة[37]. [/align] ونسف |
[align=justify]رابعاً : سعيد بن عثمان بن عفان : 56هـ
تروى المصادر التاريخية أن سعيداً بن عثمان بن عفان قد اصطحب معه إلى خراسان حوالي أربعة آلاف رجل فيهم عدد من مشاهير رجالات القبائل العربية في البصرة والكوفة كما كان من ضمنهم حوالي خمسين عابثاً وقاطعاً للطريق من أمثال مالك بن الرِّيب المازني التميمي وهؤلاء تابوا ورجعوا إلى رشدهم وفضلوا الجهاد في سبيل الله[1] ومالك بن الريب هو القائل: ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا[2] وقدم سعيد خراسان فقطع النهر إلى (سمرقند) وبلغ خاتون ملكة بخاري عبوره النهر، فحملت إليه الصلح الذي صالحت عليه عبيد الله بن زياد وأقبل أهل الصُّغد وكِش ونسف إلى سعيد في مائة ألف وعشرين ألفاً، فالتقوا ببخاري، وقد ندمت خاتون على أدائها الجزية، فنكثت العهد ولكن قسماً من الحشود المجتمعة لقتال سعيد انصرفوا قبل مباشرة القتال، فأثّر انصرافهم في معنويات الآخرين واهتزّت معنوياتهم، فلما رأت خاتون ذلك، أعادت الصلح، فدخل سعيد مدينة بخاري فاتحاً[3]، وطلب سعيد من خاتون أن تبعث إليه بثمانين من أعيان بلادها ممن كانوا على رأس الخارجين عليها، وممن تخشى غدرهم بها وتهديدهم لعرشها، وتخلّصت بذلك من أشدَّ أعدائها خطراً على عرشها وحاضرها، ومستقبلها، وحين تمَّ الصلح بين خاتون وسعيد، زارت خاتون سعيداً بمقرِّه، فطلعت عليه في زينتها الملكية، وكانت نادرة الجمال على ما يقال، فادّعى أهل بخاري أن القائد المسلم أعجب بجمالها أيّما أعجاب، وجرى ذكر إعجاب سعيد بها في الأغاني الشعبية التي لا يزال أهل بخاري يردِّدونها ويتغنون بها حتى اليوم ولكن هذا الإعجاب لا ذكر له في المصادر العربية الإسلامية المعتمدة، ومن الواضح أنه أقرب إلى خيال الأدباء والفنانين منه إلى حقائق المؤرخين. وغزا سعيد سمرقند، فأعانته خاتون بأهل بخاري، فنزل على باب سمرقند، وحلف ألاّ يبرح أو يفتحها وقاتل المسلمون أهل سمرقند ثلاثة أيام، وكان أشدّ قتالهم في اليوم الثالث حيث فُقئت عين سعيد، ولزم أهل سمرقند أن يفتح سعيد ذلك القصر عنوة ويقتل من فيه، فطلبوا الصلح، فصالحهم على سبعمائة ألف درهم، وعلى أن يعطوه رهناً من أبناء عظمائهم، وعلى أن يدخل المدينة ومن شاء ويخرج من الباب الآخر، فأعطوه خمسة وعشرين من أبناء ملوكهم، ويقال: إنهم أعطوه أربعين من أبناء ملوكهم، ويقال: ثمانين[4] وكان معه من الأمراء المهلب بن أبي صُفرة الأزدي وغيره واستشهد معه يومئذ قثم بن العباس بن عبد المطلب، وكان يُشبَّه بالنبي صلى الله عليه وسلم[5]، وكان أخوه عبد الله بن عباس دفن بالطائف وأخوه معبد استشهد بأفريقية وعبيد الله بالمدينة وكلهم من أب واحد وأم واحدة قال تعالى: ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) (لقمان ، الآية : 34) . هذا وانصرف سعيد بن عثمان إلى (تِرْمِذ) ففتحها صلحاً[6] وقد كان سعيد شاعراً ومن شعره في معاوية قوله: ذكـرت أمير المؤمنين وفضله فقلت جزاه الله خيراً بما وصل وقـد سبقت مني إليـه بوادر من القول فيه آفة العقل والزلل فعـاد أميـر المؤمنين بفضـله وقد كان فيه قبـل عودته ميل وقال: خراسان لك اليوم طعمه فجوزي أمير المؤمنين بمـا فعل فلو كان عثمان الغـداة مكانه لما نالني من ملكه فوق ما بذل[7] وعزل معاوية سعيد عام 57هـ، فأخذ سعيد ما لا من خراج خُراسان، فوجّه معاوية من لقبه بـ((حلوان))[8] وأخذ المال منه ومضى سعيد بالرهن الذين أخذهم من أبناء عظماء (سمرقند) حتى ورد بهم المدينة النبوية، فدفع ثيابهم ومناطقهم إلى مواليه، وألبسهم جباب الصوف، وألزمهم السقي والعمل[9]، وألقاهم في أرض يعملون له فيها بالمساحي،فأغلقوا يوماً باب الحائط ووثبوا عليه فقتلوه ثم قتلوا أنفسهم[10]، فقال خالد بن عقبة بن أبي معيط الأموي[11]: ألا إنّ خير الناس نفساً ووالداً سعيد بن عثمان قتيل الأعاجم فإن تكن الأيام أردت صروفها سعيداً فهل حيٌ من الناس سالم؟ وقال أيضتً يرثيه: يا عين جودي بدمع منك تهتاناً وأبكي سعيد بن عثمان بن عفانا لم يف سعيد لأهل ((سمرقند)) بإعادة الرهن لهم، بل جاء بالغلمان معه إلى المدينة النبوية وجعل يستعملهم في النخيل والطين وهم أولاد الدهاقين وأرباب النِّعم، فلم يطيقوا ذلك العمل وسئموا عيشهم فوثبوا عليه في حائط له، وبذلك غدر بهم[12]، فكان هذا الغدر وبالاً عليه، إذ قدم حياته ثمناً لغدره[13]، لقد كان سعيد شهماً غيوراً يعتد بشخصيته، طموحاً، مُتْرَفاً،سخياً وكان من شخصيات قريش البارزة[14] خامساً: فتح سلم بن زياد أخو عبيد الله بن زياد: 57هـ عزل معاوية بن أبي سفيان سعيد بن عثمان بن عفان سنة سبع وخمسين الهجرية، وأُضيفت إلى ولاية عبيد الله بن زياد في رواية[15]، وفي رواية أخرى، أن معاوية بن أبي سفيان ولّى خراسان عبد الرحمن بن زياد، وكان شريفاً، فلم يصنع شيئاً في مجال الفتح، وكان ذلك في سنة 59هـ[16] ومات معاوية وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد ولما سار سلم إلى خراسان، كتب معه يزيد إلى أخيه عبيد الله بن زياد في العراق ينتخب له ستة ألف فارس، وقيل: ألفي فارس، وكان سلم ينتخب الوجوه، فخرج معه عمران بن الفضيل البُرجُميّ والمهلب بن أبي صفرة، وعبد الله بن خازم السُّلمي، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي وخلق كثير من رؤساء البصرة وأشرافهم، فأخذ سلم هؤلاء الفرسان معه من البصرة، وتجهز ثم سار إلى خراسان[17]، وبدأ سلم بغزو خوارزم، فصالحوه على أربعمائة درهم وحملوها إليه وقطع سلم النهر (جيحون) ومعه امرأته أم محمد بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاص الثقفي، وكانت أوّل امرأة عربية عُبر بها النهر، فأتى (سمرقند) فصالحه أهلها[18]ووجد (خاتون) ملكة بخارى قد نقضت العهد، واستنجدت بجيرانها من الصُّفد، وأتراك الشمال، فجاء طرخون على جيش الصُّفد، كما جاء ملك الترك في عسكر كثيف ولم تؤثر تلك الحشود الضخمة من القوات المعادية في معنويات المسلمين، فحاصروا بخارى دون أن يهجموا عليها، ليقفوا أولاً على تفاصيل قوات أعدائهم ومواضعها، وهي متربصة بهم في ومواضع ليست بعيدة عن بخارى وأمر سلم المهلب بن أبي صفرة الأذدي أن يستطلع أحوال العدو فاقترح المهلب أن يكلف غيره بهذه المهمة، وحجته أنه معروف المكانة بين قومه والمسلمين وقد يفشي تغيبه عن معسكر المسلمين سرّ الواجب الذي أُلقي على عاتقه، وهذا الواجب ينبغي أن يبقى سرّاً مكتوماً حتى يتم إنجازه بسرية تامة وكتمن شديد وحذر بالغ، لأن إفشاءه يعرّض المسلمين لخطر جسيم ولكنّ سلم بن زياد أصرّ على إيفاء المهلب دون غيره في هذا الواجب الحيوي الذي قد يعجز غيره عن النهوض به كما ينبغي، وأرسل معه ابن عمه ورجلاً من كل لواء من ألوية المسلمين، وأشترط المهلب على سلم إلا يبوح لأحد من الناس كائناً من كان بمهمته، ثم مضى إلى سبيله ليلاً مع جماعته الاستطلاعية، فكمن في موضع مستور، واستطلع قوات العدو دون أن يشعر العدو بموضعه المخفيّ المستور، ويبدو أن قوم المهلب والمسلمين افتقدوا المهلب في صلاة الفجر من تلك الليلة التي تسلل بها المهلب إلى موضع قريب من العدو، فما كان تغيب مثله أن يخفى على أحد وهو ليس مجهول المكان والمكانة يملأ الأعين قدراً وجلالاً، فألحّوا على سلم بالسؤال عن المهلب وألحفوا عليه، فلم يستطع أن يكتم أمره وأخبرهم أنه أرسله في مهمة استطلاعية ليلاً، وفشا الخبر بسرعة خاطفة في العسكر، فأسرع جمع من المسلمين بالركوب وتوجّهوا صوب موضع المهلب المستور، فكشفوا موضعه وموضع رجاله للعدو، وأبصرهم المهلب مقبلين نحوه يتسابقون بدون نظام ولا تنظيم فلامهم أشد اللوم على ما أقدموا عليه، لأنهم كشفوا موضع جماعته الاستطلاعية للعدو دون مسوِّغ، فعرّضهم لخطر محدق أكيد، وأصبح موقف المهلب ومن معه من المسلمين في خطر داهم فبذل المهلب قصارى جهده لمعالجة موقفه الخطير وتدارك ما يمكن تداركه، وأحصى المهلب المسلمين الذين التحقوا به متطوّعين، فكانوا تسعمائة من الفرسان المجاهدين، فقال لهم: والله لتندمُّن على ما فعلتم، وحدث ما توقعه المهلب، فما كاد ينظِّم المسلمين صفوفاً، حتى هاجمهم الترك وأبادوا منهم أربعمائة فارس مجاهد، ولاذ الباقون منهم على قيد الحياة بالفرار وأحيط بالمهلب ومن بقي معه من جماعته الاستطلاعية ذات العدد المحدود، ولكنه ثبت ثباتاً راسخاً لا يتزعزع عن موضعه، فالموت بالنسبة لأمثاله أهون عليهم من الفرار، وصاح المهلب بصوته الجهوريّ القوي مستغيثاً بالمسلمين، فسُمع صوته من معسكر المسلمين القريب، الذي كان على نصف فرسخ من موضعه المواجه للعدو، وبادر فوراً إلى نجدته من قومه الأزد، فشاغلوا الترك ريثما أقبل المسلمون خفافاً لنجدته على عجل بقيادة سَلْم، ونشب القتال بين الجانبين، فقاتل المسلمون الترك حين هزموهم هزيمة نكراء حيث هربوا منساحة المعركة مخلِّفين أموالهم وأثقالهم فغنمها المسلمون حتى أصاب كلّ فارس ألفين وأربعمائة درهم في رواية وعشرة آلاف درهم في رواية أخرى، وطارد المسلمون الترك المنهزمين، فلم ينج منهم إلا الشريد، وكان من بين القتلى (بندون) أو (بيدون) الصُّغدي ملك الصُّغد ,اعادت خاتون الصُّلح من جديد مع سلْم ، فاستعاد فتح بخاري[19]، وبعث سَلْم وهو بالصّغد جيشاً من المسلمين إلى ((خُجَنْدة)) وفيهم الشاعر أعشى همدان، فهزم المسلمون فقال الأعشى: ليت خيلي يوم الخُجَنْدة لهم يهزم وغودرت في المكرِّ سَلِيْبَا تحضُرً الطيرُ مصرعي وتروحت إلى الله في الدماء خصيبا[20] وكان عمّال خراسان قبل سَلْم يغزون، فإذا دخل السِّتاء رجعوا إلى ((مزوا الشَّاهجان))، فإذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان بمدينة مما يلي خُوارِزم، فيتعاقدون أن لا يغزو بعضهم بعضاً، ويتشاورون في أمورهم. فلما قدم سَلْم غزا فشتا في تلك السنة، فألحّ عليه المهلّب بن أبي صفرة وسأله التوجه إلى تلك المدينة، فوجّهه في ستة آلاف، وقبل: أربعة آلاف، فحاصرهم، فطلبوا أن يصالحهم على أن يغدو أنفسهم، فأجابهم إلى ذلك وصالحوه على نيِّف وعشرين ألف درهم، وكان في صلحهم أن يأخذ منهم عروضاً، فكان يأخذ الرأس والدّابة بنصف ثمنه، فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف درهم[21]، وعاد سلم إلى( مَرْو) بعد جهاد هذه السنة الذي استمرّ سنتي إحدى وستين الهجرية واثنتين وستين الهجرية، ويبدو أنه قطع النهر ثانية في سنة ثلاث وستين الهجرية[22]، لأنه علم بأنّ الصُّغد قد جمعت له، فقاتلهم وقتل ملكهم[23]، ولكنه عاد مسرعاً إلى (مرو) ليعالج مشاكل المنطقة الداخلية، فقد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم[24]، فقد مات يزيد بن معاوية سنة أربع ستين فبويع بعده معاوية بن يزيد بن معاوية فلم يمكث إلا ثلاثة اشهر حتى هلك، وقيل: بل ملك أربعين يوماً ثمّ مات[25]، وقيل غير ذلك، ولم بلغ سلم موت يزيد بن معاوية كتم ذلك، ولكنّ الخبر انتشر بين الناس في خُراسان انتشار النار في الهشيم، فمثل هذا الخبر يستحيل كتمانه مدة طويلة، ولما علم سلم بانتشار خبر موت يزيد بين الناس، أظهر موت يزيد وابنه معاوية، ودعا الناس إلى البيعة على الرضى حتى يستقيم أمر الناس على خليفة، فبايعوه ثمّ نكثوا بعد شهرين، وكان سلم محسناً إليهم محبوباً فيهم، ولكن قسما من القبائل العربية خلعوه عصبية وتعصباً وفتنة، فلم يجد أهل خُراسان أميراً قد حبهم مثل سَلْم بن زياد[26]، ولكن قائلهم قال: بئس ما ظنّ سَلْم، إن ظنَّ أنه يتأمر علينا في الجماعة والفتنة[27]، ووثب أهل خُراسان بعمالهم فأخرجوهم، وغلب كل قوم على ناحية، ووقعت الفتنة، ووقعت الحرب[28]، ونسب الاقتتال بين القبائل العربية ، وأصبحت خراسان مناطق في كل منطقة قائد وأمير، وتساقطت القتلى بين المسلمين بالسيوف، وتوقف الفتح وتوجه سَلْم إلى عبد الله بن الزبير في مكة المكرمة[29]. [/align] |
[align=justify]سادساً : فتوحات السند في عهد معاوية :
تمكن المسلمون في عهد معاوية رضي الله عنه من بسط نفوذهم إلى ما وراء نهر السند، ففي سنة 44هـ غزا المهلب بن أبي صفرة ثغر السند فأتى بَنَّة[1]، ولاهور، وهما بين المًلتان[2]، وكابل، وأما في مستهل سنة 45هـ فقد أرسل والي البصرة عبد الله بن عامر: عبد الله بن سوّار العبيدي إلى ثغر السند على رأس حملة قوامها أربعة آلاف رجل، ولم وصل ابن سوّار إلى مدينة مكران، بقي هناك أربعة أشهر يعدّ نفسه وجنده للحملة المرتقبة. ثم تقدم وجماعته نحو بلاد القيقان[3]، وفتحها، وكانت هديته إلى معاوية رضي الله عنه خيلاً قيقانية[4]سلّمها بنفسه إليه في الشام، فأصل البرازين القيقانية من نسل تلك الخيول[5]. وعلى أية حال، فلم يدم المقام لابن سوّار طويلاً في ثغر السند فقد قتلته جماعة من الترك هناك في سنة 47هـ[6]، وفي سنة 48هـ اختار زياد بن أبي سفيان سنان بن سلمة بن المُحَبَّق الهذلي ليكون والياً على الاقاليم المفتوحة من ثغر السند وما أن وصل سنان إلى هناك حتى تمكن من فتح مدينة مكران ((عنوّة)) ومصَّرها وأقام بها وضبط البلاد[7]. ولكن سنان لم يمكث هناك سوى سنة أو سنتان ثم عزله زياد. وولى مكانه راشد بن عمرو الأزدي، فأتى مكران ثم تقدم في بلاد القيقان، فظفر، ثم اتجه نحو الميد، فقتل هناك[8]، وبعد ذلك تولَّى عباد بن زياد بن أبي سفيان أمر سجستان فقاد حملة توغل فيها في منطقة حوض نهر السند فنزل كِشْ، ثم سار إلى قُنْدُهار[9]: فقاتل أهلها فهزمهم، وفتحها بعد أن أصيب رجال من المسلمين[10]، وكان آخر الولاة الذين تولوا أمر الفتوحات في هذا الجزء هو المنذر بن الجارود العبدي أبو الأشعث والذي وصل ثغر السند معيناً عليه من قبل عبد الله بن زياد بن أبي سفيان والي البصرة سنة 62هـ فقاد المنذر حملة ضد مدينة قُصدار[11]، وتمكن من فتحها[12]. [/align] |
[align=justify]المبحث الرابع : أهم الدروس والعبر والفوائد في فتوحات معاوية رضي الله عنه:
أولاً : أثر الآيات والأحاديث في نفوس المجاهدين : كان للآيات والأحاديث التي تتحدث عن فضل الجهاد أثرها في نفوس المجاهدين، فقد بين المولى عز وجل أن حركات المجاهدين كلها يثاب عليها قال تعالى: ((مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (التوبة ، الآيتان : 120 ـ 121) . وقد تلعموا أن الجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فيه قال تعالى: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) (التوبة ، الآيات : 19 ـ 22) . واعتقدوا أن الجهاد فوز على كل حال قال تعالى: ((قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)) ( التوبة ، الآية : 52)، وأن الشهيد لا تنقطع حياته بل هو حي قال تعالى: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)) (آل عمران ، الآيات : 169 ـ 171)، وكانوا يشعرون بسمو هدفهم الذي يقاتلون من أجله قال تعالى: ((فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)) (النساء ، الآيات : 74 ـ 76). وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين فضل الجهاد فألهبت أحاديثه مشاعرهم وعواطفهم وفجرت طاقاتهم ومن هذه الأحاديث ما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مؤمن يجاهد بنفسه وماله[1]، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم درجات المجاهدين فقال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة[2]. وقد وضح صلى الله عليه وسلم فضل الشهداء وكرامتهم فقال: انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يُخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرّية ولوددت أني اقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم اقتل ثم أحيا ثم أقتل[3]وقال صلى الله عليه وسلم: ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة[4]. وغير ذلك من الأحاديث وقد تأثر المسلمون الأوائل ومن سار على نهجهم بهذه الآيات والأحاديث، فكان كبار الصحابة رضي الله عنهم يغزون وقد تقدم بهم العمر فيشفق عليهم الناس وينصحونهم بالقعود عن الغزو، لأنهم معذورون فيجيبونهم أن سورة التوبة تأبى عليهم القعود ويخافون على أنفسهم من النفاق إذا ما تخلفوا عن الغزو[5]. كما كان للعلماء والفقهاء والزهاد دور كبير في تربية الناس على هذه الآيات والأحاديث ومن هؤلاء العلماء كبار الصحابة كأبي أيوب الأنصاري، وابن عمر، وغيرهم ومن التابعين كأبي مسلم الخولاني، يرون أن الجهاد في سبيل الله ضرورة من ضرورات بقاء الأمة الإسلامية، فقاموا بهذه الفريضة في فتوحات بلاد الشام والشمال الأفريقي وخراسان وسجستان والسند، وترتب على قيامهم بهذه الفريضة ثمرات كثيرة منها: تأهيل الأمة الإسلامية لقيادة البشرية، القضاء على شوكة الكفار وإذلالهم وإنزال الرعب في قلوبهم، ظهور صدق الدعوة للناس الأمر الذي جعلهم يدخلون في دين الله أفواجا فيزداد المسلمون بذلك عزّاً والكفار ذُلاً وتوحدت صفوف المسلمين ضد أعدائهم وأسعدوا الناس بنور الإسلام وعدله ورحمته[6]. ثالثاً: من سنن الله في فتوحات معاوية: يلاحظ الباحث في دراسته للفتوحات في عهد معاوية بعض سنن الله في المجتمعات والشعوب والدول ومن هذه السنن: 1 ـ سنة الله في الاتحاد والاجتماع: كانت الفتنة التي أدت إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه أكبر معوق أصاب حركة الفتوحات بعد الردة أيام أبي بكر رضي الله عنه، حيث أدى استشهاد عثمان إلى توقف الجهاد، واتجاه سيوف المسلمين إلى بعضهم في فتنة كادت تعصف بالأمة الإسلامية لولا أن تداركتها رحمة الله ـ سبحانه وتعالى بصلح الحسن بن علي مع معاوية رضي الله عنهما وقد امتلأت المصادر بالنصوص التي تبين أثر الفتنة في انحسار حركة الجهاد[7]ومن هذه الآثار: ـ عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه قال: قد رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلي بين معاوية وبين هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسقطت فيها الدماء وقطعت فيها الأرحام وقطعت السبل، وعُطلت الفروج ـ يعني الثغور[8]. ـ ما أخرجه أبو زرعة الدمشقي بإسناده قال: لما قتل عثمان، واختلف الناس، لم تكن للناس غازية، ولا صائفة حتى اجتمعت الأمة على معاوية[9]. ـ قول أبي بكر المالكي: فوقعت الفتنة .. واستشهد عثمان رضي الله عنه، وولى بعده علي رضي الله عنه، وبقيت إفريقية على حالها إلى ولاية معاوية رضي الله عنه[10]، ولكن بعد الصلح وما ترتب عليه من الاتحاد والاجتماع عادت حركة الفتوحات إلى ما كانت عليه وأصبحت في عهد معاوية على ثلاث جبهات كما مر معنا . إن الاتحاد والاجتماع على كتاب الله وسنة رسوله مقصد من مقاصد الشريعة وهذا المقصد من أهم أسباب التمكين لدين الله واستمرار حركة الفتوحات، فالأخذ بالأسباب نحو تأليف قلوب المسلمين، وتوحيد صفهم من أعظم الجهاد، لأن هذه الخطوة مهمة جداً في إعزاز المسلمين، وإقامة دولتهم، وتحكيم شرع ربهم[11]فحركة الفتوحات بين الانطلاق والتوقف مرهون بتحقيق سنة الاتفاق والاتحاد والاجتماع ونبذ الفرقة والخلاف والشقاق قال تعالى: ((واعتصموا بحبل الله جميعا.. )) 2 ـ سنة الأخذ بالأسباب: قال تعالى: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)) (الأنفال : 60) وقد قام معاوية رضي الله عنه بالعمل بهذه الآية وحث ولاته على العمل بها ويظهر أخذ معاوية رضي الله عنه بسنة الأخذ بالأسباب، في اهتمامه ببناء الأسطول البحري وتطويره، وتقوية الجيش، والقضاء على الفتن الداخلية، ودعم الثغور، وأماكن الرباط والتخطيط الاستراتيجي للدولة في سياستها الداخلية والخارجية، والتكتيك العسكري، في نظام المعسكرات ونظام الرباط والثغور، والصوائف والشواتي، وبناء الحصون، ونظام التعبئة، وتوطين القبائل، لنشر الإسلام وتثبيت الفتوحات والتصدي لحركات التمرد، فبعدما زال خطر الهجوم العسكري من الفرس قام بتوطين عشرات الألوف من الأسر العربية في الجناح الشرقي من الدولة خاصة خراسان وقد نجحت هذه السياسة وأتت ثمارها في هذا الجناح[12]. 3 ـ سنة التدافع: قال تعالى: ((وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)) (البقرة، أية :251) وقد تحققت هذه السنة في حركة الفتوحات عموماً، وسنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه، وهي من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية، وقد استوعب المسلمون الأوائل هذه السنة وعملوا بها وعلموا: أن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضي به وقلوب تحنو عليه وأعصاب ترتبط به. إنه يحتاج إلى جهد بشري، لأن هذه سنة الله في الحياة الدنيا وهي ماضية[13]. 4 ـ سنة الابتلاء: قال تعالى: ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) (البقرة، آية: 214) . وقد وقع البلاء في حصار القسطنطينية وتعرض الكثير من المسلمين للقتل وفي فتوحات الشمال الإفريقي، واستشهاد القادة كعقبة بن نافع وأبي المهاجر دينار، وغيرهم، فهذه سنة الله في العقائد والدعوات فلا بد من الأذى في الأموال والأنفس ولا بد من صبر ، واعتزام[14]. 5 ـ سنة الله في الظلم والظالمين: قال تعالى: ((ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)) (هود، الآيات: 100ـ102) . وسنة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة، وقد مارست الدولة الفارسية الظلم على رعاياها وتمردت على منهج الله فمضت فيها سنة الله وسلط الله عليها المسلمين فأزالوها من الوجود[15]، وكذلك نفوذ الدولة البيزنطية من الشام ومصر، وتزعزع وجودها في الشمال الإفريقي وما جاء عهد الوليد بن عبد الملك حتى زال نفوذها من الشمال الإفريقي كلياً. 6 ـ سنة الله في المترفين: قال تعالى: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)) (الإسراء، آية:16). وجاء في تفسيرها: وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعة مترفيها، أي: متنعميها وجبّاريها وملوكها، ففسقوا فيها فحق عليها القول فأهلكها، وإنما خص الله المترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة إلى الجميع، لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم إنما وقع باتباعهم وإغوائهم، فكان توجه الأمر إليهم آكد[16]، وقد مضت هذه السنة في زعماء الفرس وأئمتهم في بلاد فارس وزعماء الروم في الشام ومصر والشمال الأفريقي 7ـ سنة الله في الطغيان والطغاة: قال تعالى((إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)) ((الفجر،آية:14)) والاية وعيد للعصاة مطلقاً، وقيل: وعيد للعصاة ووعيد لغيرهم[17]. وفي تفسير القرطي: أي يرصد كل إنسان حتى يجازيه به[18]، وواضح من أقوال المفسرين في الآيات التي ذكرناها في الفقرة السابقة أن سنة الله في الطغاة إنزال العقاب بهم في الدنيا، فهي سنة ماضية لا تتخلف جرت على الطغاة السابقين وستجري على الحاضرين والقادمين فلن يفلت منهم أحد من عقاب الله[19]. وسنة الله في الطغاة وما ينزله الله بهم من عقاب في الدنيا، إنما يعتبر بها من يخشى الله جلّ جلاله ويخاف عقابه ويعلم أن سنة الله قانون ثابت لا يحابي أحداً، قال تعالى في بيات المعتبرين بسنته في الطغاة ـ بعد أن ذكر ما حلّ بفرعون من سوء عقاب ـ: ((فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى)) (النازعات، الآيتان:26،25)، فهؤلاء الطغاة من زعماء الفرس، وزعماء الروم في في مصر والشام مضت فيهم سنة الله. 8 ـ سنة التدرج خضعت الفتوحات الإسلامية لسنة التدرج ويعتبر الحصار الأول والثاني للقسطنطينية مرحلة مبكرة لفتح القسطنطينية على عهد السلطان العثماني محمد الفاتح، فالأعمال التي قام بها المسلمون ضد الدولة البيزنطية قبل محمد الفاتح ساهمت في عمل تراكمي توّج بفتح القسطنضيه في عهد العثمانيين. 9ـ سنة الله في الذنوب والسيئات: قال تعالى:(( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ)) ( الأنعام، آية:6) وقد أهلك الله تعالى أمة الفرس بسبب ذنوبهم التي اقترفوها وأزال ملك الروم من مصر والشام وليبيا بسببها، وفي هذه الآية حقيقة ثابتة وسنة مطردة: أن الذنوب والمعاصي تهلك أصحابها، وأن الله تعالى هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم[20]، وقد سلط الله أمة الإسلام على الفرس والروم عندما حققت شروط التمكين وعملت بسننه وأخذت بأسبابه وحققت أهدافه 10ـ سنة تغير النفوس: قال تعالى:(( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) (الرعد، آية:11). وقد قام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والتابعون بإحسان في فتوحات الشام ومصر والشمال الأفريقي وبلاد المشرق، بالعمل بهذه السنة الربانية مع الشعوب التي أرادت أن تدخل في دين الله. فشرعوا في تربية الناس على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فغرسوا في نفوسهم العقائد الصحيحة والأفكار السليمة والأخلاق الرفيعة. [/align] |
[align=justify]رابعاً: التخطيط الاستراتيجي للفتوحات عند معاوية رضي الله عنه:
خضعت الفتوحات في عهد معاوية للتخطيط الدقيق والمحكم، فقد كانت سياسته في الفتوحات كالآتي: 1ـ سياسته تجاه الروم: فقد سلك الخطوات التالية: أ ـ التركيز على عمليات الصوائف والشواتي، من أجل تحقيق عدة أهداف منها: ـ استنزاف قوة الروم. ـ انتزاع زمام المبادرة من الروم، وجعلهم في حالة دفاع مستمر[1]. ـ أرغام الروم على توزيع قواتهم بحيث لا يستطيعون القيام بهجمات حاسمة وقوية ضد الدولة الإسلامية[2]. ب ـ مهاجمة الروم في عقر دارهم ومحاصرة عاصمتهم، وما يترتب على ذلك من إضعاف معنوياتهم، وقذف الرعب في قلوبهم. جـ ـ تقليص النفوذ البحري للروم عن طريق فتح الجزر الواقعة في بحر الشام[3]، وما يترتب على ذلك من حرمان سفن الروم من قواعدها البحرية الهامة. 2 ـ سياسته في جبهة الشمال الإفريقي: أ ـ أولى معاوية رضي الله عنه جبهة المغرب اهتماماً خاصاً تمثل بارتباط هذه الجبهة به شخصياً، حيث كان معاوية رضي الله عنه المرجع المباشر لقادة هذه الجبهة إلى سنة 47هـ، وهي السنة التي ضُمت فيها جبهة المغرب إلى والي مصر[4] ب ـ عمل معاوية رضي الله عنه على إقامة قاعدة جهادية متقدمة في قلب بلاد المغرب وقد قام عقبة بن نافع ببناء القيروان لكي تكون عزاً للإسلام والمسلمين. 3 ـ سياسته في جبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر: أ ـ استعانة معاوية رضي الله عنه بفاتح سجستان وخراسان أيام عثمان رضي الله عنه، وهو عبد الله بن عامر رضي الله عنه وتكليفه، بإعادة فتحها مرة أخرى. ب ـ العمل على تثبيت الحكم الإسلامي، ونشر دعوة الإسلام في هذه المنطقة عن طريق إسكان خمسين ألف من العرب بعيالهم في خراسان[5]. خامساً: الشورى في إدارة حركة الفتوحات: عند انتقال الخلافة إلى معاوية رضي الله عنه كان مجلس الشورى لديه يتألف من كبار أعيان عصره وولاته ومعاونيه الذين يتصفون بالبلاغة والسياسة وحسن التدبير في أمور الإدارة العسكرية، وكان من هؤلاء عمرو بن العاص رضي الله عنه الذي كان مشهوراً بالصفات السابقة، مما جعل الخليفة معاوية يعتمد عليه كالوزير المدبر لدولته والمشير ومنهم أيضاً زياد بن أبيه ولم تكن الوزارة في عهد بني أمية مقننة القواعد ولا مقررة القوانين، وكان ذوو الآراء من مستشاري الخليفة يقومون مقام الوزراء، وكان الواحد منهم يسمى كاتباً أو مشيراً[6] إضافة إلى ذلك كان الخليفة معاوية يعتمد في إدارته العسكرية على مشورة قادة وأمراء القبائل وخصوصاً التي بالشام، فقد كان يقربهم ويدني مجلسهم ويستشيرهم، وسار قادة معاوية بن أبي سفيان سيرته بمبدأ المشورة في إدارتهم العسكرية للمعارك الحربية[7]. سادساً: مركزية القيادة والإمداد في إدارة معاوية: عندما انتقلت الخلافة إلى بني أمية أصبحت دمشق مقر الخلافة ومركز القيادة العليا للإدارة العسكرية، فكان الخليفة بها هو الذي يقرر السياسة الحربية كما كان مسئولاً عن الحرب والسلم فكان التنظيم الإداري العام للجيش أمراً من الأمور المركزية التي يشرف الخليفة مباشرة عليها[8]، وذلك بالرغم من وجود عمال الولايات والأقاليم الذين كان لهم مطلق السلطات والتي منها قيادة الجيوش بأنفسهم أو تعيين القادة المناسبين من قبلهم ووضع الخطط لهم وإمدادهم وتموينهم ومن أمثلة هؤلاء زياد بن أبيه وابنه عبيد الله[9]، فمن مركزية القيادة لإدارة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في تعيين القادة أنه كتب إلى واليه بالبصرة زياد بن أبيه يأمره أن يوجه إلى خراسان رجلاً يقوم بأمرها فولى زياد الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه، وكتب له عهده على خراسان وولاه حربها، وخراجها وسار إليها بمن يريد الجهاد في سبيل الله، من المتطوعة من أهل البصرة، إضافة إلى الجند النظامي أصحاب الديوان، فوضع لهم الأرزاق، وأعطاهم وقواهم وسار لما أمر به[10]. ومن مركزية القيادة العليا في إدارة معاوية العسكرية تسيير الجيوش والإمدادات العسكرية لها، فنرى القائد، علقمة بن يزيد الغطيفي كتب إليه قائلاً: إنك خلفتني بالإسكندرية وليس معي إلا اثنا عشر ألفاً ما يكاد بعضنا يرى بعض من القلة فكتب إليه الخليفة معاوية: إني قد أمددتك بعبد الله بن مطيع في أربعة الآف من أهل المدينة، وأمرت معن بن يزيد السلمي أن يكون بالرملة في أربعة الآف مسكين بأعنة خيولهم متى يبلغهم عنك فزع يعبروا إليك[11]. سابعاً: الألوية والرايات: حين انتقلت الخلافة إلى معاوية تعددت الألوية والرايات في إدارتهم العسكرية، كما تعددت ألوانها كاللون الأخضر والأحمر والأبيض بالرغم من اتخاذهم اللون الأبيض شعاراً ورمزاً لخلافتهم[12]، فمنذ عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لا نرى جيشاً يخرج ويسير نحو العدو إلا ويعقد لقائه لواء أو راية تكون لهم شعاراً ورمزاً يسيرون خلفها ويذودون عنها فنرى الواحد يصرع تلو الآخر وكل همه بقاءها منصوبة[13]، وكان القادة من الشجاعة والإقدام ما جعلهم يكونون أكفاء لحمل هذه الراية مثل عقبة بن نافع والحكم بن عمرو الغفاري وفضالة بن عبيد الله، وقد جعل والي العراق من قبل الخليفة معاوية زياد بن أبيه خروج القبائل على الرايات، ويبدو أن الغاية من ذلك معرفة مدى جدية كل منها في القتال والتزامها بالأوامر[14]. ثامناً: اهتمامه بالعيون والبريد: كان اهتمام معاوية رضي الله عنه بأمر المخابرات وجمع المعلومات على الأعداء قديماً منذ كان أميراً على بلاد الشام وتطور جهاز المخابرات لما تولى الخلافة، وزاد اهتمامه به، ففي عهده أسر رجل من المسلمين بالقسطنطينية وأهين ببلاطهم فاستغاث وا معاوياه: لقد أغفلت أمورنا وأضعتنا فوصل الخبر إليه عن طريق جواسيسه المتواجدين بأرض الروم فقام بفدائه وبأسر من أهانه وجعل المسلم يقتص منه بمثل ما أهانه وأن لا يزيد وهذا دليل على مدى دقة نظام المخابرات في إدارته[15]. ولقد ذكرت القصة فيما مضى بالتفصيل، كما قام الخليفة رضي الله عنه بفرض رقابة دقيقة ومحكمة على أفراد الحاميات وأسرهم وعين موظفاً في كل حامية ليتحرى عن الداخلين والخارجين حتى لا يتسلل عين للعدو إلى أرض المسلمين فتعرفوا على مواقع معسكراتهم ونقاط الضعف بها إن وجدت[16]. وفي إدارته أنشأ ديوان البريد وأعتنى به عناية فائقة وذلك لتسرع إليه أخبار البلاد من جميع أطرافها بما في ذلك أخبار الثغور، ولم يكن للبريد ديوان قبل ذلك[17]،وأما علاقة صاحب البريد بالإدارة العسكرية فقد كان عبارة عن عين الخليفة الباصرة وأذنه السامعة ينقل إليه أخبار عماله وقادته وسائر رجال دولته فكان له عيون يوافونه بكل جديد كما كان البريد واسطة بين الولاة والخلفاء والقادة لنقل الأوامر العسكرية وكان أصحاب البريد رقباء ومفتشين من قبل الدولة يرفعون التقارير عن أحوال الجند في مختلف حالات القتال وفي كل الظروف والأوقات ويخبرونه بحال المال والعطاء وذلك أنه يوكل بمجلس عرض الأولياء وأعطياتهم من يراعيه ويطالع ما يجري فيه ويكتب بما يقف عليه من الحال في وقته، إضافة إلى ذلك كان من واجبات صاحب البريد مساعدة الإدارة العسكرية في التموين والإمداد وحفظ الطرق وصيانتها من الأعداء وانسلال الجواسيس في البر والبحر وإليه كانت ترد كتب أصحاب الثغور وولاة الأطراف فيقوم بتوصيلها بوجه السرعة من اختصار للطرق واختيار المراكب لمعرفته بالطرق والمسالك إلى جميع النواحي وكان الخليفة يجد عنده ما يحتاج إليه من المعرفة عند إنفاذ جيش وغيره وقت الحاجة إلى ما هنالك من مهام قام البريد بتأديتها في الإدارة العسكرية[18]، على الجملة كان يقال للبريد جناح المسلمين لما كان يطير به من الأخبار[19]. تاسعاً: اهتمام معاوية بالحدود البرية للدولة: حين انتقلت الخلافة إلى معاوية زاد الاهتمام والاعتناء بهذه التحصينات لحماية الحدود الإسلامية وبخاصة إذا علمنا أن المؤسس الأول للدولة الأموية معاوية رضي الله عنه قد قام بتولي حملات الصوائف والشواتي بنفسه حين كان قائداً ووالياً للخليفتين عمر وعثمان رضي الله عنهما كما أسند إليه في خلافتيهما إنشاء وترميم بعض الحصون الدفاعية على الحدود الإسلامية كما سبق وأشرنا مما جعله ملماً بهذه الثغور والتحصينات، فأستكمل ما بدأه حين استقرت بيده الخلافة، فقام ببناء وتحصين مرعش والحدث من ثغور الجزيرة وأسكنها الجند وكان يتعهدهما باستمرار[20]، واتخذ معاوية رضي الله عنه لتحصين المدن الساحلية سياسة التهجير أو النواقل بنقل قوم من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية إلى سواحل الأردن وصور وعكا وغيرها، ونقل من الزط وأساورة البصرة والكوفة وفرس وبعلبك وحمص إلى ثغر أنطاكية[21]، وولى القائد عبد العزيز بن حاتم الباهلي أرمينية وأذربيجان فبنى مدينة دبيل[22]، وعمل عدة تحصينات دفاعية كما بنى مدينة النشوي[23]ورم مدينة برذعة[24]، وجدد بناء البيلقان[25]، إلى ما هنالك من تحصينات دفاعية قام بإنشائها[26]، كما قلد الوالي زياد بن أبيه القائد الربيع بن زياد الحارثي[27]، ثغر خراسان وأرسل معه من المصرين ((الكوفة ـ البصرة)) زهاء خمسين ألفا من الجند بعيالاتهم وأسكنهم ما دون النهر لحماية حدود الدولة الإسلامية هنالك[28]، ويظهر لنا اهتمام زياد بأمر الثغور في قوله لحاجبه وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع وذكر منها: ورسول صاحب ثغر فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة فأدخله علي وإن كنت في لحافي[29]، وسأل زياد جلساءه عن أنعم الناس عيشاً؟ فأجابوه قائلين أنت أيها الأمير فقال: فأين ما يرد علي من الثغور والخراج[30]. وهذا يبين مدى ما كان يلقاه زياد من عناء الثغور في إدارتها والإشراف على أمرها لحفظها وسدها ومما أثر عن زياد أيضاً قوله: أربعة أعمال لا يليها إلا المسن الذي عض على ناجذه. الثغر والصائفة والشرط والقضاء[31]، وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه في إدارته لثغر مصر من قبل معاوية لا يحمل له من الخراج إلا الشيء اليسير وينفق جل الأموال على التحصينات وعطاء الجند المرابطين بالثغر[32]، واهتم معاوية بأمر الصوائف والشواتي حيث كانت تخرج في كل عام في وقتها المحدد لها لأداء مهمتها المنوطة بها وكان يختار لها كبار القواد والأمراء، وكانوا يتمنون إدارتها ويعدون ذلك شرفاً وفخراً لهم فمن ذلك قول الخليفة معاوية لابنه يزيد: يا بني إن أمير المؤمنين قد بسط أملك فأذكر حاجتك فطلب منه مطالب كان أولها قوله: يجعل أمير المؤمنين غزو الصائفة العام إليّ لأفتح أمري بتجهيز الجيوش في سبيل الله[33]، ومن أبرز الولاة والقادة الذين تولوا إدارة حملات الصوائف والشواتي في عهد معاوية لعدة مرات هم سفيان بن عوف الغامدي الأزدي، ومالك بن هبيرة السكوني[34]، وكان أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه قبل أن يعين القادة على هذه الحملات يجري لهم إختباراً لمعرفة مدى حصافة القائد الإدارية ومن الذين كان يعتمد عليهم من قادته سفيان بن عوف الغامدي لخبرته الإدارية وقد توفي وهو بالصائفة يدير أعمالها وحين بلغ الخبر معاوية تأثر وكتب إلى أمصار وأجناد المسلمين ينعاه، وكان معاوية إذا رأى خللاً في الصوائف قال: واسفياناه ولا سفيان لي[35]، وكان معاوية رضي الله عنه لا يقصر في اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لحماية حدود وأراضي الدولة الإسلامية والدفاع عنها[36]. عاشراً : إهتمام معاوية بالأسطول والحدود البحرية: عندما قامت الدولة الأموية استكمل معاوية رضي الله عنه ما بدأه في بناء القوة البحرية لحماية سواحل الدولة الإسلامية بإقامة المراكب للغزو إلى جانب ترتيب الحفظة في السواحل مما استولى عليه المسلمون من قواعد ومنشآت بحرية، وعندما خرجت الروم في عهده إلى السواحل الشامية أمر بجمع الصناع من النجارين فجمعوا ورتبهم في السواحل الشامية وجعل مقر دار صناعة السفن في جند الأردن بعكا وكما هو معلوم أن بلاد الشام غنية بالأخشاب التي تعتبر من أجزاء السفن الأساسية يومئذ[37]، كما أنشأ الخليفة معاوية أول دار صناعة للأساطيل لإنتاج السفن الحربية المختلفة بمصر سنة 54هـ في عهد واليها مسلمة بن مخلد الأنصاري، وكان مقرها بجزيرة الروضة لذا عرفت بإسم صناعة الروضة[38]، وكان قادة بحرية الخليفة معاوية ذوي خبرة وفن ببناء السفن الحربية فقد كلف أحدهم بمهمة عسكرية نحو الروم وطلب منه قائلاً: أنشيء مركباً يكون له مجاديف في جوفه واستعمله للسفر إلى بلاد الروم[39]، إي بعمل فتحات جانبية للمجاديف[40]، وبلغت السفن الحربية في عهد معاوية رضي الله عنه نحواً من ألف وسبعمائة سفينة شراعية مشحونة بالرجال والسلاح وجميع العتاد، والمستلزمات القتالية البحرية[41]، وبذلك نجد أن معاوية رضي الله عنه قد أدرك بصائب رأيه أن سواحل الشام ومصر لا ينجيها من غزوات الروم إلا إيجاد هذا الأسطول الإسلامي التي يحافظ على الحدود البحرية ويغزو سواحل الروم الحين بعد الحين حتى يرتدع العدو ويحسب لهم ألف حساب[42]، وأخذ الأسطول الإسلامي في عهد معاوية في فتح الجزر الواقعة بالبحر المتوسط الواحدة تلو الأخرى والتي منها جزيرة رودس[43]، بقيادة القائد جنادة بن أمية الزهراني الأزدي[44]، حيث فتحها ـ كما مر معنا ـ عنوة وكانت غيضة في البحر وهي من أخصب الجزائر بالمنطقة وأنزلها قوماً من المسلمين بأمر الإدارة العليا المركزية واتخذ بها حصناً وناطوراً يحذرهم ما في البحر ممن يريدهم بكيد، وكان المسلمون بها على جزر من الروم وكان الخليفة معاوية يعاقب بين الجند فيها ولم يجمرهم وأدر عليهم الأرزاق والعطاء وكان الجند المقيمون بها أشد شيء على الروم يعترضونهم في البحر ويأخذون سفنهم وقد خافهم العدو[45] واستمر في فتح الجزر وشحنها بالجند المرابطين وأصبحت قواعد بحرية لحماية سواحل الدولة الإسلامية[46]، وأخذت حملات الصوائف والشواتي البحرية تجوب البحر وتمخر في عبابه في عهد معاوية رضي الله عنه وتسير جنباً مع جنب مع شقيقتها الحملات البرية حيث كانت تخرج من مصر والشام لتحمي سواحل المنطقة البحرية وتولى قيادتها كبار القادة المشهورين كالقائد يزيد بن شجرة الرهاوي وموسى بن نصير، وبسر بن أبي أرطأة العامري،وجنادة بن أمية الزهراني، وعقبة بن عامر وغيرهم من القادة، وسار خلفاء بني أمية من بعد الخليفة معاوية على سنته وأصبح الأسطول الإسلامي في نمو مطرد وأكثروا من إنشاء سفنه وتفننوا في إتقانه وجهزوه بالأدوات والمعدات الملاحية والقتالية، ورتبوا عليه الجند والقواد وزودوه بالتموين اللازم والأرزاق وظلت صوائفه وشواتيه تقلق الروم في كل عام وتهدد سواحلهم وحدودهم البحرية[47]. [/align] |
[align=justify]الحادي عشر : الاهتمام بديوان الجند والعطاء:
استمر ديوان الجند في أداء مهامه المناطة به وحدث به تطور بسبب كثرة الفتوحات وإتساع رقعة الدولة الإسلامية فقد أصبح ديوان الجند مؤسسة كبيرة حظيت باهتمام الخلفاء وولاتهم ومر بعدة مراحل تطويرية خلال هذه الفترة، فعندما تولى معاوية رضي الله عنه الخلافة تقاعس بعض الجند عن الحرب في بداية إدارته العسكرية إثر الفتن والصراعات الداخلية، فتمكن بحسن إدارته ودهائه بالإغلاق عليهم في العطاء حتى تمكن مرة أخرى من إلزامهم مرة أخرى بالجندية وتأليف القلوب[1]، وقرب إليه زعماء القبائل وقد بلغ عدد الجند النظامي الذين يستلمون العطاء في بداية العصر الأموي نحواً من ثمانين ألف جندي بالبصرة، وستين ألفاً بالكوفة وبمصر أربعون ألفاً وبالشام نحوا من ذلك، هذا سوى من في باقي الأقاليم الأخرى من جند كفارس وما وراء النهر وغيرهما من الأقاليم وأمصار الدولة الإسلامية[2]، كما كان بالكوفة من أبناء العجم زهاء عشرين ألف رجل فرض لهم وكانوا يسمون الحمراء[3]، وبالبصرة ألفا رجل من سبي بخاري كلهم جيد الرمي بالنشاب فقد ألحقهم الخليفة معاوية بالخدمة العسكرية وفرض لهم العطاء، وقد ولي كتابة الجند في إدارة الخليفة معاوية المركزية بدمشق عمرو بن سعيد بن العاص، هذا بالإضافة إلى دواوين الجند المحلية بالأقاليم الإسلامية المحلية الأخرى التي تتحمل مهام الإدارة العسكرية المحلية[4]، وظل دور أمر العرفاء والنقباء سائراً ومستمراً كما كان في السابق، وذلك لاعتماد الإدارة عليهم في الشئون العسكرية والمالية وبخاصة في توزيع العطاء على الجند، فقد كان الخليفة معاوية يدفع إلى العرفاء العطاء وكان لكل قبيلة عريف يأخذ أعطيتهم ويدفعها إليهم[5]، هذا مع ما يقومون به من التعرف على أحوال الجند وأخبارهم ورفع التقارير عنهم للإدارة العليا[6]، وقد طور زياد الهيكل التنظيمي العسكري للعرفاء، فجعل الناس في البصرة أخماساً وجعل على كل خمس رجلاً كما جعل في الكوفة أرباعاً على قيادة عشرة جنود في القتال، بل أصبحوا مسئولين عن النواحي الأمنية ومثيري الشغب والفتن والقلاقل داخل قبائلهم ومعسكراتهم، فكانوا حلقة الاتصال في الإدارة العسكرية بين القبائل العربية في الأمصار الإسلامية وبين السلطات الإدارية للدولة فيما يختص بتثبيت أسماء الجند في الدواوين وتوزيع العطاء عليهم واستدعائهم عند الحاجة، وقد حل أولئك العرفاء في القوة والنفوذ محل رؤساء القبائل والعشائر وكان اختيارهم يتم من بين ذوي النفوذ ليستطيعوا أداء واجباتهم تجاه الإدارة العسكرية[7] ومثال على ذلك ما قام به زياد حيث خطب في أهل البصرة وهددهم بقطع العطاء إذا لم يكفوه الخوارج حيث قال: يا أهل البصرة والله لتكفني هؤلاء أو لأبدأنّ بكم والله لئن أفلت منهم رجل لا تأخذون العام من عطائكم درهماً، فثار الناس بهم فقتلوهم[8]. كما استخدمت الزيادة في العطاء للقادة والجند المتجاوبين والمنفذين للأوامر تشجيعاً وحث لهم على المضي قدماً في مهامهم ومناصبهم العسكرية المسئولين عنها[9]، كما فعل معاوية مع أشراف أهل الشام. الثاني عشر: الأثر العلمي والاقتصادي الاجتماعي للفتوحات في عهد معاوية رضي الله عنه: ومن الظواهر العلمية التي زادت إزدهاراً في عهد معاوية طائفة القصاص،، وقد كانوا ينتشرون بين الجند كالقراء يقصون عليهم أمجاد أسلافهم ويلقون عليهم الشعر الحماسي فتجيش له همم العسكر فيسارعون للقتال، وقد كان الخطباء والوعاظ يقومون بنفس المهمة كما يقوم بها القراء والقصاص والشعراء لينشروا في الجند روح الفداء ويرفعوا من روحهم المعنوية القتالية[10]، وسلك الخليفة معاوية في وصاياه وتوجيهاته العلمية للأمراء والقادة والجند على منوال من سبقه من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فعندما عين عبيد الله بن زياد على ثغر خراسان كان من نماذج وصاياه قوله: اتق الله ولا تؤثرن على تقوى الله شيئاً[11]... وقد سبق الحديث عن وصيته لعبيد الله، ومن الآثار العلمية للحضارة الإسلامية في عهد معاوية أنه حينما فتح جزيرة رودس كان ممن اشترك في فتحها مجاهد بن جبر المقريء ، فكان مقيماً بها يقريء الناس القرآن ويفقههم في الدين في المسجد الذي بني فيها اثناء الفتح، وهذا أنموذج ومثال من ألوف النماذج والأمثلة حيث أن هذا الأثر العلمي لا يقتصر على جزيرة رودس بل شمل كافة الأمصار والشعوب الإسلامية[12] ومن الآثار الاقتصادية والإجتماعية للفتوحات أن والي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه وغيره من الولاة في عهد معاوية رضي الله عنه كانوا يبعثون إليه بأموال الخراج بعد أن يستقطعوا منها ما ينفق على الأراضي الزراعية بمصر لاستصلاحها من الخلجان والقناطر والجسور وحملا القمح إلى الحجاز لتفريقه وتوزيعه على سكان الحرمين الشريفين، كمعونة لهم[13]، وكان بالجزيرة مكان الروضة قبل أن تبنى بها دار صناعة السفن في عهد معاوية خمسمائة عامل مستعد لأي حريق يكون في البلاد أو هدم للإعانة في الكوارث وتقديم الخدمات الاجتماعية لأهل المنطقة[14]، ومن التكافل الاجتماعي في عهد معاوية مراعاته لأبناء الشهداء في إدارته ورعاية شئونهم والفرض لهم[15]، فقد كان يقول لجلسائه: يا هؤلاء، إنما سميتم أشرافاً لأنكم شرفتم على من دونكم بهذا المجلس، ارفعوا إلينا حوائج من لا يصل إلينا فيقوم الرجل فيقول: استشهد فلان، فيقول أفرضوا لولده[16]، وعندما أذن معاوية رضي الله عنه لعبد الله بن صفوان بن أمية بالدخول عليه والمثول بين يديه طلب من معاوية أن يفرض للمنقطعين من ديوان العطاء، كما ذكّره بأن لا يغفل عن قواعد قريش والبر إليهم، وأن يقدم لهم الخدمات الاقتصادية والإجتماعية التي تكفل لهم الحياة الرغدة[17]، ومن الآثار الحضارية للفتوحات في النواحي الاقتصادية والاجتماعية استمرارية معاوية في توطين الجند بالثغور وإقطاعهم القطائع والأراضي والمساكن بها وشقه للأنهار وجلبه للمياه. فقد أمر عسكره المقيم بجزيرة رودس بأن يزرعوا ويتخذوا بها أمولاً ومواشي يرعونها حولها[18]. الثالث عشر : كرامات للمجاهدين في عهد معاوية رضي الله عنه: حدثت كرامات للمجاهدين في عهد معاوية رضي الله عنه منها ما كان لأبي مسلم الخولاني والتي مرّ ذكرها وما حدث لعقبة رحمهما الله، حينما نادى الوحوش والدواب وطلب منها الرحيل، فرحلت بإذن الله تعالى حيث قال: فارحلوا عنّا فإنّا نازلون ومن وجدناه بعد هذا قتلناه، فنظر الناس بعد ذلك إلى أمر مُعْجِب ، من أن السباع تخرج من الشَّعْراء[19] وهي تحمل أشبالها سمعاً وطاعة، والذئب جرْوَه، والحية تحمل أولادها. ونادى في الناس: كُفُّوا عنهم، حتى يرحلوا عنها، فخرج ما فيها من الوحش والسباع والهوامّ والناس ينظرون إليها، حتى أوجعهم حرُّ الشمس، فلمَّا لم يروا منها شيئاً، دخلوا، فأمرهم أن يقطعوا الشجر، فأقام أهل أفريقية ـ بالقيروان ـ بعد ذلك أربعين عاماً لا يرون بها حيَّة، ولا عقرباً، ولا سَبُعاً: فاختط عقبة أولاً دار الإمارة، ثم أتى إلى موضع المسجد الأعظم فاختَّطه، ولم يُحدث فيه بناء. وكان يصلي فيه وهو كذلك فاختلف الناس عليه في القبلة وقالوا: إن جميع أهل المغرب يضعون قِبلتهم على قبلة هذا المسجد، فأجهد نفسك في تقويمها، فأقاموا أيّاماً ينظرون إلى مطالع الشتاء والصيف من النجوم ومشارق الشمس، فلمَّا رأى أمرهم قد اختلف بات مغموماً، فدعا الله ـ عز وجل ـ أن يُفرَج عنه، فأتاه آت في منامه فقال له: إذا أصبحت فخذ اللواء في يدك، واجعله على عُنُقك. فإنك تسمع بين يديك تكبيراً لا يسمعه أحد من المسلمين غيرك، فانظر الموضع الذي ينقطع عنك فيه التكبير فهو قبلتك ومحرابك، وقد رضي الله لك أمر هذا العسكر وهذا المسجد وهذه المدينة، وسوف يعز الله بها دينه، ويذل بها من كفر به، فاستيقظ من منامه وهو جزع، فتوضأ للصلاة، وأخذ يصلي وهو في المسجد ومعه أشراف الناس، فلما انفجر الصبح وصلى ركعتي الصبح بالمسلمين إذا بالتكبير بين يديه، فقال لمن حوله: أتسمعون ما أسمع؟ فقالوا: لا، فعلم أنَّ الأمر من عند الله، فأخذ اللواء فوضعه على عُنُقه، وأقبل يتبع التكبير حتى وصل إلى موضع المحراب فانقطع التكبير فركز لواءه وقال: هذا محرابكم فاقتدى به سائر مساجد المدينة ثم أخذ الناس إليها المطايا من كل أُفق وعظم قدرها... وكان عقبة خير والٍ وخير أمير، مستجاب الدعوة[20] وفي هذه القصة عبرة بليغة فيما حدث من عقبة حينما نادى تلك الوحوش والدواب فاستجابت له وغادرت ذلك المكان وهذه كرامة من الله تعالى يكرم بها أولياءه لما يريد بهم نصر الإسلام ونشره في الأرض، حيث أسمع تلك الدواب كلام عقبة وأوقع في قلوبها الخوف منه، وقدَّر لها أن تسمع وتطيع كما لو كانت ذات عقل وإدراك وقد رأى ذلك قبيل كبير من البربر فاسلموا، كما ذكر ابن الأثير في روايته[21]. هذا وقد حمل بعض الباحثين هذا الخبر على أنه من الأساطير التي نسجها الرواة حول عقبة، وعللواهذا الخبر بأن تلك الدواب فزعت لما سمعت ضجيج الجيش الإسلامي فحملت أولادها وولَّت هاربة، وهذا التأويل من عجائب بعض الباحثين حيث يُغفلون تفكيرهم الصحيح من أجل ردِّ مالا يؤمن به العقل المجرد، كما أنهم يستغفلون المؤرخين الذين رووا هذه الحادثة وأمثالها على أنها من الأمور الخارقة للعادة، ويتهمونهم بالسذاجة لتحويلهم الوقائع المعتادة في حياة الناس إلى ما يشبه الأساطير، فإن التفكير الصحيح يرى أن التأويل الذي اعتمدوه لا ينسجم مع العقل السليم، لأن الوحوش والدواب البرية إذا تعرضت للفزع تأوي إلى حجورها الآمنة لتسخفي بها ولا تلجأ إلى الهرب حتى لا تتعرض للأذى مما فزعت منه، ثم إنه لو حصل خلاف الغالب من المعتاد فهربت تلك الدواب من أمر عادي وهو فزعها من الجيش لم يكن هناك ما يدعو إلى عجب البربر وانبهارهم الذي حملهم على الدخول في الإسلام من أجل ذلك، ولم يكن في ذلك ما يحمل طائفة من المؤرخين على رواية هذه الحادثة الغريبة وقد جاء في إحدى روايات ابن عبد الحكم عن الليث بن سعد قال: فحدثني زياد بن العجلان: إن أهل أفريقية اقاموا بعد ذلك أربعين سنة ولو التُمست حية أو عقرب بألف دينار ما وجدت[22]، وعبرة أخرى في تلك الرؤيا التي رآها عقبة بن نافع في أمر تحديد القبلة وما تلا ذلك من سماعة التكبير الذي لم يسمعه من حوله، وهذه كرامة أخرى لهذا الولي الصالح فرج الله تعالى بها عن المسلمين كربة كانوا يعانون منها من عدم مقدرتهم على تحديد القبلة بدقة، وهذا هو أحد المقاصد التي تظهر فيها الكرامات على أيدي أولياء الله الصالحين، وقد كان عقبة مستجاب الدعوة، فاستجاب الله تعالى دعاءه في تفريج همه وهموم المسلمين في هذا الأمر[23]. وأهل السنة والجماعة يثبتون الكرامات للصالحين: فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيفعلون ما أمر الله به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين، وخيار أولياءه كراماتهم لحاجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم صلى الله عليه وسلم كذلك، وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم[24] ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بسبب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج، أتاه منها ما يقوي إيمانه أو يسد حاجته، ويكون من هو أكمل ولاية منه مستغنياً عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها، لا لنقص ولايته ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة[25]. ومن عقيدة أهل السُّنة والجماعة الإيمان بكرامات الأولياء[26]. [/align] |
[align=justify]الرابع عشر : قسمة الحكم بن عمرو الغفاري للغنائم في غزو جبل الأسل بخراسان:
عن عبد الرحمن بن صبح، قال: كنت مع الحكم بن عمرو بخراسان، فكتب زياد إلى عمرو، إن أهل جبل الأشل سلاحهم اللبود[1]، وآنيتهم الذهب[2]، فغزاهم حتى تواسطوا، فأخذوا بالشعاب والطرق، فأحدقوا به ، فعيَّ[3] بالأمر فولى المهلب الحرب، فلم يزال المهلب يحتال حتى أخذ عظيماً من عظمائهم، فقال له: اختر بين أن أُقتلك، وبين أن تخرجنا من هذا المضيق، قال له: أوقد النار حيال الطريق لتسلكوه فإنهم يستجمعون لكم، ويعرون ما سواه من الطرق، فبادرهم إلى غيره فإنهم لا يدركونك حتى تخرج منه، ففعلوا ذلك، فنجا وغنموا غنيمة عظيمة[4]، وعن عبد الرحمن بن صبح قال: كتب إليه زياد: والله لئن بقيت لك لأقطعن منك طابقاً سحتاً[5]، وذلك أن زياداً كتب إليه لما ورد بالخبر عليه بما غنم: إن أمير المؤمنين كتب إلى أن أصطفى له صفراء وبيضاء[6]،والروائع[7]، فلا تحركن شيئاً حتى تخرج ذلك[8]، فكتب إليه الحكم: أما بعد، فإن كتابك ورد، تذكر أن أمير المؤمنين كتب إلي أن أصطفي له كل صفراء وبيضاء والروائع، ولا تحركن شيئاً، فإن كتاب الله عز وجل قبل كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو كانت السماوات والأرض رتقاً[9]على عبد اتقى الله عز وجل جعل الله سبحانه وتعالى له مخرجاً، وقال للناس: اغدوا على غنائمكم، فغداً الناس، وقد عزل الخمس، فقسم بينهم تلك الغنائم، قال: فقال الحكم: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني، فمات بخراسان بمرو[10]. إن خبر قسمة الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه الغنائم بين أفراد جيشه ذكره ابن عبد البر[11]، وابن الجوزي[12]، وابن الأثير[13]، وابن كثير[14]، وتتفق هذه المصادر حول طلب معاوية رضي الله عنه اصطفاء الذهب والفضة وعدم قسمتها بين الجيش ـ لكنها لم تورد هذا الخبر بأسانيد صحيحة ـ وزاد بن كثير أن معاوية رضي الله عنه طلب أن يرسل الذهب والفضة إلى بيت المال[15]، وهنا يجدر التذكير بأن مصارف الغنيمة في الإسلام قد بينها الله سبحانه وتعالى في قوله: (( واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القُربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)) (الأنفال: 41). وهذا يعني أن أربعة أخماس الغنيمة يقسم بين الجيش، ويبقى خمس الغنيمة فيقسم كما ورد في الآية السابقة وهذا الحكم لا يخفي على معاوية رضي الله عنه، كما أن دين معاوية وعدالته تمنعه من رد حكم الله سبحانه وتعالى[16]، وبالرجوع إلىرواية الطبري نلاحظ أن الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه لم يبادر إلى قسمة الغنائم بين الجيش على الفور ـ مع وضوح حكم الشرع في ذلك ـ بل دارت بينه وبين زياد مراسلات في شأن الغنائم، وهذا التأخير في قسمة الغنائم يقودنا إلى عدة احتمالات يمكن من خلالها إزالة الغموض الوارد في الرواية وهذه الاحتمالات هي: 1 ـ رغبة معاوية رضي الله عنه في أن يكون خمس الغنيمة ـ الذي يتولى إمام المسلمين قسمته ـ من الذهب والفضة. 2 ـ رغبة معاوية رضي الله عنه في حمل ما غنم المسلمون من ذهب وفضة قبل تخميسه وقسمته ـ إلى الهند وبيعه هناك[17] بقيمة مرتفعة ثم يخمس ثمنه بعد ذلك، وفي ذلك خير للجميع[18]. 3 ـ وجود نقصٍ طارئ في بيت مال المسلمين، فأراد معاوية رضي الله عنه أن يقترض ما غنمه جيش الحكم رضي الله عنه إلى أجل معلوم، وتأخير قسمة الغنائم بين الجيش إلى وقت لاحق[19]. ومن الدروس المهمة إن ثبتت الرواية التزام الحكم بن عمرو الغفاري بمبدأ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وتمسكه بأداء الأمانة في قسمة الغنائم، ولم يغل منها شيئاً ووزعها على العسكر بعد أن عزل الخمس[20]، هذه أهم الدروس والعبر والفوائد من الفتوحات في عهد معاوية. الخامس عشر : استشهاد صلة بن أشيم وابنه بسجستان عام 62هـ: صلة بن أشيم هو الزاهد، العابد، القدوة، أبو الصهباء العدويُّ البصري، زوج العالمة معاذة العدوية، وكان صلة له مواقف في المجتمع الإسلامي مؤثرة ومن هذه المواقف، عن ثابت قال: جاء رجل إلى صلة بنعي أخيه، فقال له: أدن فكل، فقد نُعي إليَّ أخي منذ حين، قال تعالى: ((إنك ميت وإنهم ميتون)) (الزمر ، الآية : 30)، وكان صلة له كرامات منها، عن حمّاد بن جعفر بن زياد أنّ أباه أخبره، قال: خرجنا في غزاة إلى كابل، وفي الجيش صلة، فنزلوا فقلت: لأَرمُقَنَّ عمله، فصلَّى ثم اضطجع، فالتمس غفلة الناس، ثم وثـب، فدخل غَيْضَةً، فدخلتُ فتوضَّأ وصلّى، ثم جاء أسد حتى دنا منه، فصعدت شجرة، أفتراه التفت إليه حتى سجد؟ فقلت: الآن يفترسه فلا شيء، فجلس ثم سلَّم فقال: يا سبع اطلب الرِّزق بمكان آخر، فولىّ وإن له زئيراً أقول: تصدّع منه الجبل فلمّا كان الصبح فجلس، فحمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللَّهم إني أسألك أن تُجيرني من النار، أو مثلي يَجتَرِئُ أن يسألك الجنَّة[21]، وعن العلاء بن هلال، أن رجلاً قال لصلة: يا ابا الصهباء رأيت أني أعطيت شهدة، وأعطيت شهدتين فقال: تستشهد وأنا وابني، فلما كان يوم يزيد بن زياد، لقيتهم الترك بسجستان، فانهزموا. وقال صلة: يا بُنيَّ ارجع إلى أمك. قال: يا أَبَة، تريد الخير لنفسك، وتأمرني بالرجوع! قال: فتقدَّمْ، فتقدَّم، فقاتل حتى أصيب، فرمى صلةُ عن جسده، وكان رامياً، حتى تفرَّقوا عنه، وأقبل حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قُتل[22]، وعن حمّاد بن سلمة: أخبرنا ثابت أنّ صلة كان في الغزو، ومع ابنه، فقال: أي بني، تقدم فقاتل حتى احتسبك، فحمل، فقاتل، حتى قُتل، ثم تقدَّم صلة فقتل، فاجتمع النساء عند امرأته معاذة، فقالت: مرحباً إن كنتنّ جئتنَّ لتُهنَّئنني، وإن كنتنَّ جئتُنَّ لغير ذلك فارجعنَّ[23] وكانت الملحمة التي استشهد فيها سنة 62هـ[24]. [/align] |
[align=justify]المبحث الخامس : ولاية العهد ووفاة معاوية رضي الله عنه:
أولاً : بداية التفكير ببيعة يزيد: يُحمَّل كثير من الباحثين، المغيرة بن شعبة، المسئولية عن بيعة يزيد بن معاوية، وذلك باعتباره العقل المدبر، وصاحب الفكرة الأولى، حين عرض على معاوية بأن يتولى يزيد الخلافة من بعده، وتكفل بالدعوة ليزيد وتهيئة أهل الكوفة لتقبل خبر اختيار يزيد لولاية العهد وكل من اتهم المغيرة بن شعبة، كان حجته في ذلك تلك الرواية التي أوردتها بعض المصادر القديمة ومفادها: أن المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ دخل على معاوية واستعفاه من ولاية الكوفة فأعفاه، وأراد معاوية أن يولي بدلاً منه سعيد بن العاص، فبلغ ذلك أحد الموالين للمغيرة، وتأثر المغيرة عند ذلك، وتمنى العودة للإمارة، فقام فدخل على يزيد وعرّض له بالبيعة، فأخبر يزيد والده بما قال له المغيرة، فاستدعى معاوية المغيرة بن شعبة وأمره بالرجوع والياً مرة أخرى على الكوفة وأن يعمل في بيعة يزيد[1]، وأسانيد هذه الرواية ضعيفة، فسند هذه الرواية لا يشجع على قبولها أو الاستئناس بها بأي حال من الأحوال، كما أن المغيرة رضي الله عنه صحابي جليل تمّ التعريف به في موضعه من هذا الكتاب وقد توفي عام 50هـ[2] قبل ظهور فكرة ولاية العهد عند معاوية، حيث بدأت هذه الفكرة في الظهور في عهد زياد بن أبيه على العراق وقد صرّح الطبري بأن معاوية إنما دعا إلى بيعة يزيد سنة 56هـ[3]، فلماذا تأخر كل هذه السنين إذا كان المغيرة قد شرع في التمهيد لهذه الفكرة قبل موته[4]. ثانياً : الخطوات التي اتبعها معاوية لبيعة يزيد: 1 ـ المشاورات : لم نعثر في المصادر التاريخية على تحديد دقيق لتلك الفترة التي بدأ فيها معاوية رضي الله عنه يفكر تفكيراً جدياً في تولية ولده يزيد من بعده خليفة المسلمين. ولكنه بالتأكيد لم يفكر إلا بعد سنه الخمسين من الهجرة، وذلك بعد أن خلت الساحة من وجود الصحابة الكبار المبشرين بالجنة من أمثال سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن يزيد بن عمرو، وبعد وفاة الحسن بن علي رضي الله عنهم جميعاً، وبعد أن عرف يزيد عند قيادته لجيش المسلمين الذي حاصر القسطنطينية، وبعدها أصبح معاوية يهيء الأمور لترشيح يزيد للخلافة، وكان من الطبيعي يستشير زياد بن أبيه بعدما أصبح أخاً له، وصار يقال له: زياد بن أبي سفيان، وولاه العراق، ولنسمع إلى رواية الطبري لهذه الاستشارة، وماذا صنع زياد[5]، قال الطبري: لما أراد معاوية أن يبايع ليزيد، كتب إلى زياد يستشيره، فبعث زياد إلى عبيد بن كعب النميري، فقال إن لكل مستشير ثقة، ولكل سر مستودع وإن الناس قد أبدعت[6] بهم خصلتان: إذاعة السر، وإخراج النصيحة إلى غير أهلها وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخره يرجو ثواباً ورجل دينا له شرف في نفسه، وعقل يصون حسبه، وقد عجمتهما[7] منك، فأحمدت الذي قبلك. وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الكتب[8]: إن أمير المؤمنين كتب إليّ يزعم أنه قد عزم على بيعة يزيد، وهو يتخوّف نفرة الناس ويرجو مطابقتهم، ويستشيرني. وعلاقة أمر الإسلام، وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رَسْلة[9]، وتهاون، مع ما قد أولع به من الصيد، فالق أمير المؤمنين مؤدياً عني، فأخبره عن فعلات يزيد، فقال له: رويدك بالأمر فأقمن أن يتم لك ما تريد، ولا تعجل فإن دركاً في تأخير خير من تعجيل عاقبته الفَوْت. فقال عبيد له: أفلا غير هذا قال: ما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تمقِّت إليه ابنه، وألقى أنا يزيد سراً من معاوية فأخبره عنك أن أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في بيعته، وأنك تخوَّفُ خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، وأنك ترى له ترك ما يُنقَمُ عليه، فيستحكم لأمير المؤمنين الحجة على الناس ويسهل لك ما تريد، فتكون قد نصحت يزيد وأرضيت أمير المؤمنين، فسلمت مما تخاف من علاقة أمر الأمة. فقال زياد: لقد رميت الأمر بحجره، أشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغَشّ وأبعد بك إن شاء الله من الخطاءِ قال: أتقول بما ترى، ويقضي الله بغيب ما يعلم. فقدم على يزيد فذاكره ذلك. وكاتب زياد إلى معاوية يأمره[10]،بالتؤدة، وألا يعجل، فقبل ذلك معاوية وكفّ يزيد عن كثير مما كان يضع[11]. إن تحليل هذا النص يكشف لنا عن الحقائق التالية: أ ـ إن بداية الفكرة كانت من معاوية وأنه كان يدرك أنه كان يقدم على أمر خطير، لا بل على حدث لم يسبق إليه، ولهذا اصطفى زياداً للاستشارة وزياد هو الذي قال عنه الأصمعي: الدهاة أربعة: معاوية للروية، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة بن شعبة للمعضلة، وزياد لكل صغيرة وكبيرة. وقد أشار عليه زياد بالتؤدة فقبل. ولهذا لم يُقدم معاوية على الأمر الخطير إلا بعد وفاة زياد[12]. قال الطبري: لما مات زياد، دعا معاوية بكتاب فقرأه على الناس باستخلاف يزيد، إن حدث به حدث الموت، فيزيد ولي عهد، فاستوثق[13]له الناس على البيعة ليزيد غير خمسة[14]. بـ ـ إن معاوية لم يكن يريد حين الاستشارة الاكتفاء بالعهد، وإنما أراد الناس على مبايعة يزيد وهو حي، وهو حدث جديد أيضا لم يعهد من قبل، لأن الناس لم يبايعوا عمر إلا بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه. جـ ـ إن زياداً قد أحس خطورة الأمر، فلم يشأ بادئ الأمر أن يكتب لمعاوية بنصيحته، بل أراد أن يحمّلها لرسول خاص وهو ((عبيد الله بن كعب النميري)) ليؤديها عنه إلى معاوية شفهياً وفي ذلك من الحيطة الشيء الكثير، لئلا يشيع خبر الكتاب، فيحدث ما لا يحمد. ولهذا قال لعبيد: ولهذا دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف. ح ـ إن معاوية كان يتخوف نفرة الناس، فليس العهد لولد الخليفة والخليفة حي ...بالأمر اليسير. خ ـ إن زياداً كان يخشى على الأمة من يزيد، ولذلك يقول: وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد. ولهذا أيضا نرى في جواب عبيد له أن سيلقى يزيد وينقل إليه: أن زياداً يرى ترك ما ينقم عليه وبذلك: يسلم ما تخاف من علاقة. س ـ إن زياداً كتب أخيراً إلى معاوية، ولكن لينصحه بالتؤدة وألا يعجل فقبل ذلك معاوية[15]. ـ وممن شاورهم معاوية رضي الله عنه الأحنف بن قيس، فقد روي أن معاوية لما نصبّ ولده يزيد لولاية العهد، أقعده في قبة حمراء، فجعل الناس يسلمون على معاوية ثم يميلون إلى يزيد، حتى جاء رجل ففعل ذلك، ثم رجع إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين: اعلم أنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها، والأحنف بن قيس جالس. فقال له معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ قال: أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت، فقال له معاوية: جزاك الله عن الطاعة خيراً، وأمر له بألوف فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب، فقال: يا أبا بحر أني لأعلم أن شر من خلق الله سبحانه وتعالى هذا وأبنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، فليس نطمع في استخراجها إلا بما سمعت، فقال له الأحنف: أمسك عليك، فأن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها[16]. 2 ـ الحملات الإعلامية: ومن التمهيدات الإعلامية الناجحة التي قدمها معاوية رضي الله عنه لابنه توليته أميراً على الجيش الذي وجهه إلى غزو القسطنطينية وبعد أن رجع من الغزو ولاه إمارة الحج، ولكنه كان يتخوف نفرة الناس ويتهيب من بعض المعارضين[17]، ولذلك كان يواصل إعداد العدة للأمر، ويستشير ولاته ورجال دولته ويستعين بهم في تذليل العقبات وتهيئة الأجواء لأخذ البيعة ليزيد ومما يذكر في هذا الجانب، أن الشاعر ربيعة بن عامر الدارمي المعروف ب(( مسكين الدارمي))، وكان مما يؤثره يزيد ويصله، أنشد في مجلس معاوية، وكان المجلس حافلاً ويحضره وجوه بني أمية فقال: ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر ومروان أم ماذا يقول سعيد بني خلفاء الله مهلاً فإنما يبوئها الرحمن حيث يريد إذا المنبر الغربي خلاّه ربُّه فإن أمير المؤمنين يزيد فقال معاوية، ننظر فيما قلت يا مسكين ونستخير الله ولم يتكلم أحد من بني أمية إلا بالإقرار والموافقة[18] 3 ـ قبول أهل الشام لبيعة يزيد: أدرك معاوية رضي الله عنه حرص أهل الشام على بقاء الخلافة فيهم، فقد حسم أهل الشام أمرهم وأصبح خيارهم في ولاية العهد ليزيد ووجدوا فيه ضالتهم لاستمرار صدارتهم في الدولة الإسلامية ولم يكن أهل الشام يستغربون فكرة توريث الخلافة كما كان يستغربها أهل الحجاز، فقد عهدوها من قبل إبان حكم البيزنطيين لهم، بل إن بعض أهل العراق أيضا كانوا فيما يبدو مهيئين لتقبل فكرة توريث الخلافة ولكن من منظور خاص، حيث يرون أحقية أهل البيت بها واستمرارها فيهم وقد تأثروا في ذلك بنظام الحكم الساساني للفرس قبل الفتح الإسلامي لهذه البلاد[19]، إن أهل الشام استجابوا لرغبة معاوية في تولية يزيد ولياً لعهده من بعده وكان ذلك بعد رجوع يزيد من غزوة القسطنطينية، وقد أدى طرح هذه الفكرة إلى قبول وإجماع من أهل الشام بالموافقة على بيعة يزيد، ولم يكن هناك أي معارض[20]، وقد أسهم أهل الشام فيما بعد في أخذ البيعة ليزيد من الأمصار الأخرى مثل الحجاز[21]. 4 ـ بيعة الوفود: عقد معاوية رضي الله عنه اجتماعاً موسعاً في دمشق بعد ما جاءت الوفود من الأقاليم وكانت هذه الوفود تضم مختلف رجالات القبائل العربية، فمثلاً من بلاد الشام: الضحاك بن قيس الفهري، ثور بن معن السلمي[22]، عبد الله بن عضاة الأشعري، عبد الله بن مسعدة الفزاري، عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، حسان بن مالك بن بحدل الكلبي[23] وغيرهم، كما حضر عن أهل المدينة عمرو بن حزم الأنصاري ـ وذلك في وقت متأخر ـ وحضر عن أهل البصرة الأحنف بن قيس التميمي، ثم تكلم كل زعيم من هؤلاء الزعماء ورحبوا بالفكرة وأثنوا عليها وأكدوا أن هذه هي الطريقة الأصوب لحقن الدماء وحفاظ الألفة والجماعة[24]، فحصلت المبايعة ليزيد بولاية العهد على أن الشيء المؤكد أن عمرو بن حزم الأنصاري لم يحضر هذا الاجتماع وذلك لأحد أمرين: الأمر الأول: هو أن أهل المدينة لم يوافقوا في الأصل على البيعة وعارضوها بشدة فلم يرسلوا في موعد الوفود أحد . الأمر الثاني: هو أن معاوية قد رفض الالتقاء بعمرو بن حزم وما ذلك إلا لأنه بلغه معارضة أهل المدينة، وعرف أن عمرو بن حزم مندوب عن أولئك المعارضين، فخشي إن حضر الاجتماع سوف يشتت الآراء، ويحدث بلبلة من خلال معارضته ولهذا استجاب له أخيراً فالتقى به على انفراد وحصل بالفعل ما كان يظن معاوية ولكن معاوية تقبل الانتقاد وأجزل له العطاء[25]وكان ذلك بعدما عزل رأي ابن حزم عن الوفود. 5 ـ طلب البيعة من أهل المدينة: مثلما أرسل معاوية رضي الله عنه إلى الأقاليم يطلب منهم البيعة ليزيد أرسل إلى المدينة يطلب من أميرها أخذ البيعة ليزيد[26] فقام مروان بن الحكم أمير المدينة خطيباً فحض الناس على الطاعة وحذرهم الفتنة ودعاهم إلى بيعة يزيد، وقال مروان سنة أبي بكر الراشدة المهدية واستدل على ذلك بولاية العهد من أبي بكر لعمر، فرد عليه عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم[27]، ونفى أن تكون هناك مشابهة بين هذه البيعة وبيعة أبي بكر وقال: فقد ترك أبو بكر الأهل والعشيرة وعمد إلى رجل من بني عدي بن كعب إذ رأى أنه لذلك أهل فبايعه. ثم قال: هذه البيعة شبيهة بيعة هرقل وكسرى ثم حدث بينه وبين مروان نزاع[28]، وجاء في رواية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: يا معشر بني أمية اختاروا منها بين ثلاثة بين سنة رسول الله، أو سنة أبي بكر أو سنة عمر.. ألا وإنما أردتم أن تجعلوها قيصرية كلما مات قيصر كان قيصر[29]، فقال مروان: خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه[30]، فقال: إن هذا الذي أنزل الله فيه ((وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي)) (الاحقاف ، الآية : 17) فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري[31]. وقد سبق طلب مروان بن الحكم من أهل المدينة البيعة ليزيد تمهيد من معاوية رضي الله عنه حيث أرسل رسالة لم يذكر فيها يزيد وإنما جاء فيها: إني قد كبرت سني وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي، وقد رأيت أن أتخير لهم من يقوم بالأمر بعدي، وكرهت أن اقطع أمراً دون مشورة من عندك فاعرض عليهم ذلك، وأعلمني بالذي يردون عليك فقام مروان في الناس فأخبرهم بما أراد معاوية فقال الناس: أصاب معاوية، ووفق وقد أحببنا أن يتخير لنا فلا يألوا[32]،ولكن عندما ذكر في المرة التالية اسم يزيد امتنع أهل المدينة في بداية الأمر وعبَّر عبد الرحمن بن أبي بكر عمّا في نفوسهم[33]. ومما سبق نلاحظ أن مروان بن الحكم لم يوفق في المهمة التي كلفه بها معاوية رضي الله عنه، وعند ذلك قرر معاوية المجيء بنفسه إلىالحجاز ومعرفة موقف الصحابة من هذه القضية المهمة ـ فجاء رضي الله عنه معتمراً في شهر رجب من سنة 56هـ[34]، فلما علم عبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير بقدوم معاوية خرجوا من المدينة، واتجهوا من المدينة إلى مكة[35]، فلما قدم معاوية المدينة خطب الناس وحثهم على البيعة وبيّن أن يزيد هو أحق الناس بالخلافة[36]، ثم قال: قد بايعنا يزيد فبايعوه[37]، ويبدو أن معاوية قد ذكر أنه يخشى على ابن عمر وغيره من القتل إن مانعوا، ويقصد بخوفه عليهم من أهل الشام، الذين لا يمكن أن يتصوروا أن أحداً يخالف أمير المؤمنين في أمر اتفق عليه كثير من الناس، فقد ذكر أن معاوية قال: والله ليبايعنَّ ابن عمر أو لاقتلنّه، فلما بلغ الخبر عبد الله بن صفوان[38]، غضب وعزم على مقاتلة معاوية إن ثبت هذا. فلما سأل معاوية أنكر ذلك وقال: أنا اقتل ابن عمر: إني والله لا أقتله[39]. [/align] |
[align=justify]أ ـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه في مجلس معاوية رضي الله عنه:
فلما قدم معاوية مكة، وقضى نسكه بعث إلى ابن عمر فقدم عليه فتشهد معاوية وقال: أما بعد يا ابن عمر فإنك قد كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء وليس عليك أمير، وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وأن تسعى على فساد ذات بينهم، فرد ابن عمر على معاوية، وبين له كيف كانت طريقة بيعة الخلفاء الراشدين، وذكر له كيف أن لهم أبناء خير من يزيد، فلم يروا في أبنائهم ما يرى معاوية في يزيد ثم بين له أيضاً أنه لا يريد أن يشق عصا المسلمين وأنه موافق على ما تجتمع عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فأثلج هذا القول صدر معاوية رضي الله عنه وقال: يرحمك الله[1]. فقد أشترط أبن عمر حدوث الإجماع على بيعة يزيد حتى يعطيه البيعة[2]، وكان معاوية رضي الله عنه قد أرسل بمائة ألف درهم لابن عمر، فلما دعا معاوية لبيعة يزيد قال: أترون هذا أراد، إن ديني إذا عندي لرخيص[3]، وكان ابن عمر رضي الله عنه يرى أنه لا يجوز أن يؤخذ على البيعة الدراهم، لأنها من باب الرشوة فإن كانت البيعة حقاً فلا يجوز له أن يأخذ على الحق أجراً وإن كانت باطلاً، فلا يجوز له أن يبذل البيعة لمن لا يستحقها من أجل المال[4]. موقف ابن عمر رضي الله عنه هو عدم الرضا بالأسلوب الوراثي للحكم أو أخذ البيعة عن طريق المال[5]. بـ ـ عبد الرحمن بن أبي بكر في مجلس معاوية رضي الله عنهم: وخرج ابن عمر ـ من مجلس معاوية ـ واستدعى عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، فأخذ معاوية في الكلام، فقاطعه عبد الرحمن ورد عليه بلهجة شديدة، وذكر أنه يمانع بيعة يزيد، وطلب أن يكون الأمر شورى، وتوعد معاوية بالحرب[6]. ثم قام فقال معاوية: اللهم اكفنيه بم شئت، وطلب منه أن يتمهل وأن لا يعلن رفضه أمام أهل الشام فيقتلوه، فإذا جاء العشي وبايع الناس ثم يكن بعد ذلك على ما عنده من رأي[7]. وكان الأولى لمعاوية رضي الله عنه أن يطلب من أهل الشام ألا يتعرضوا لمن خالفه جـ ـ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: ثم استدعى ابن الزبير، واتهمه معاوية بأنه السبب في منع البيعة، وأنه وراء ما حدث من ابن عمر وابن أبي بكر، فردّ عليه ابن الزبير وطلب منه أن يتنحى عن الإمارة إن كان ملّها ثم طلب من معاوية أن يضع يزيد خليفة بدلاً منه فيبايعه. ثم استدل على عدم موافقته على المبايعة بما استنبطه من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يجوز مبايعة اثنين في آن واحد[8]ن ثم قال: وأنت يا معاوية أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان في الأرض خليفتان فاقتلوا أحدهما[9]. س ـ الحسين بن علي رضي الله عنه: ومن الملاحظ أن الرواية السابقة لم تذكر الحسين بن علي ضمن من استشارهم معاوية في بيعة يزيد، ولعل السبب يعود إلى أن معاوية أدرك العلاقة بين أهل العراق وبين الحسين وأنهم كانوا يكتبون له ويمنونه بالخلافة من بعد معاوية، ثم إن الحسين قد قابل معاوية بمكة فكلمه طويلاً كما يبدو في أمر الخلافة الأمر الذي أغضب يزيد فقال لأبيه: لا يزال رجل قد عرض لك، فأناخ بك، قال: دعه لعله يطلبها من غيري فلا يسوغه فيقتله[10]. ويتبين لنا من خلال الحوار الذي دار بين معاوية وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أنهم يمانعون البيعة لسببين: أ ـ اعتراضهم على تولية يزيد للعلاقة بين الأب والابن وأن هذه لم تكن طريقة الخلفاء الراشدين . بـ ـ الاستدلال على بطلان هذه البيعة ورفضها لمخالفتها النص الصريح الذي ورد في الحديث النبوي والذي لا يجيز البيعة لشخصين في آن واحد. والملاحظ هنا هو أن المعارضين لم يذكروا قدحاً في يزيد وإلا كيف يمكن أن يتجاهلوا صفات يزيد التي اتهم بها فيما بعد، وخاصة في ذلك الموقف الذي يتطلب حشد أي دليل في مقابل الخصم[11]. والحقيقة أنه كان هناك شعور قوي بين بعض الناس خاصة بين أبناء المهاجرين هو كيف أن معاوية الذي أسلم في فتح مكة يتولى خلافة المسلمين، وهناك من هو أقدم إسلاماً وأحق منه[12]، وكان البعض معترضاً على تقديم يزيد خوفاً من القيصرية والهرقلية على حد تعبير عبد الرحمن بن أبي بكر. ولما رأى معاوية أوجه الانتقادات التي انتقد فيها أبناء الصحابة بيعة يزيد، ورأى أنها لا تمس يزيد شخصياً بل أنها وجهات نظر أرتاؤها ورأى معاوية خلافها، فهؤلاء مدفعون بحرصهم على جعل منصب الخلافة لا تتطرق إليه العلاقات الأسرية والرغبات الشخصية، ومن ثم تكون قيمة الخليفة واختياره مبنية على علاقته بالخليفة الذي قبله[13]. قام معاوية بعد اجتماعه مع ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن وجدنا أحاديث الناس ذات عوار زعموا أن ابن عمر وابن الزبير، وابن أبي بكر الصديق لم يبايعوا يزيد، قد سمعوا وأطاعوا وبايعوا له. فقال أهل الشام: لا والله لا نرضى حتى يبايعوا على رؤوس الناس وإلا ضربنا أعناقهم، فانتهرهم معاوية وقال: مه سبحان الله ما أسرع الناس إلى قريش بالسوء لا أسمع هذه المقالة من أحد بعد اليوم، ثم نزل. فقال الناس بايع ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر ويقولون لا والله ما بايعنا، ويقول الناس: بلى لقد بايعتم، وارتحل معاوية ولحق بالشام[14]. وبهذه الرواية الصحيحة يتبين لنا كذب تلك الرواية التي تتهم معاوية رضي الله عنه بأنه أقام على رأس كل رجل من الصحابة الأربعة وهم عبد الله بن عمر، عبد الله بن الزبير،عبد الرحمن بن أبي بكر، والحسين بن علي رضوان الله عليهم أقام على رأس كل واحد منهم رجلين، وأعطى الإشارة لكل حارس بقتل من يمانع البيعة، فبايع الناس وبايع ابن عمر، وابن الزبير، وابن أبي بكر تحت تهديد السلاح فبالإضافة على ضعف الرواية سنداً، فإن متنها لا يقل عن سندها من حيث الضعف ولا يقف أمام النقد الدقيق[15]، فمثلاً في بداية الرواية: أن معاوية لما كان قريباً من مكة قال لمرقال صاحب حرسه: لا تدع أحداً يسير معي إلا من حملته أنا فخرج يسير وحده حتى إذا كان وسط الأراك لقيه الحسين بن علي فوقف وقال: مرحباً وأهلاً بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد شباب المسلمين دابة لأبي عبد الله يركبها، ثم طلع عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: مرحباً وأهلاً بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن الصديق وسيد المسلمين ودعا له بدابة فركبها، ثم طلع ابن الزبير فقال مرحباً وأهلاً بابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن الصديق وابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا له بدابة فركبها ولم يعرض لهم شيء حتى قضى نسكه[16]. وأما ما يتعلق بباقي الرواية التي تذكر أن معاوية أوقف على رأس كل رجل حارسين وأمرهما بقتل من يحاول الاعتراض على البيعة، إذا بويع يزيد فهذا مستبعد لأمرين أحدهما: أليس من الغريب جداً على معاوية أن يستخدم العنف بهذه الصفة مع أبناء الصحابة، والصحابة أنفسهم ومن ثم يتسبب في توسيع الخلاف ويباعد الشق بينه وبين يزيد من جهة، وبين الصحابة وأبنائهم من جهة أخرى. والأمر الآخر: عندما يقف الحراس على رؤوس الأربعة، ابن عمر، وابن الزبير، وابن أبي بكر والحسين، أليس هذا المنظر أمام الناس يجعل الشك عند الناس يتضاعف حول مكانة يزيد، ويعرف الناس أن أولئك الحراس الذين يقفون على رأس كل شخص إنما يتربصون به ويبغونه شراً، ثم يصبح لدى الناس اقتناعاً كاملاً بأن هذه البيعة بيعة إكراه وخديعة فيمانعوا[17]. ثالثاً: تاريخ ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد: اختلفت المصادر حول تاريخ ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد على النحو التالي: 1 ـ ذكر خليفة بن خياط[18]، والذهبي[19]، أنه كان في سنة 51هـ . 2 ـ ذكر ابن عبد ربه[20]، أن ذلك كان في سنة 55هـ . 3 ـ ذكر الطبري[21]، وابن الجوزي[22]، وابن الأثير[23]، وابن كثير[24]، أن ذلك كان في سنة 56هـ هذا وبعد دراسة التواريخ السابقة اتضح عدم صحة ترشيح يزيد بن معاوية سنة 51هـ[25]للأسباب التالية: أ ـ أن وفاة الحسن بن علي رضي الله عنه كانت في السنة نفسها أي في سنة 51هـ واتخاذ قرار ترشيح يحتاج لوقت من طرف معاوية لكي يدرسه ويستشير فيه، كما أنه ليس من الحكمة إعلان قرار الترشيح بعد وفاة الحسن رضي الله عنه مباشرة. ب ـ قتل حجر بن عدي رضي الله عنه في السنة نفسها، أي في سنة 51هـ، لذا فإنه أيضاً ليس من الحكمة إعلان ترشيح يزيد بن معاوية في هذه السنة، لأن الأنفس لم تكن مهيأة لمثل هذه القرارات الجريئة، التي يعتبر توقيت إعلانها على الناس من أهم عوامل نجاحها. جـ ـ إن ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد كان أثناء ولاية مروان بن الحكم على الحجاز[26]، وهي بلا شك الفترة الثانية من ولاية مروان بن الحكم والتي امتدت من سنة 54هـ ـ 57هـ وذلك أن الفترة الأولى من ولاية مروان بن الحكم كانت من سنة 42ـ 49هـ . بعد ذلك يتبقى تاريخان لإعلان ترشيح يزيد بن معاوية لولاية العهد وهما 55هـ وسنة 56هـ وهذان التاريخان يكمل أحدهما الآخر ـ كما سيتضح لاحقاً ـ ولكن يرد في هذا المقام سؤال حول السبب الذي جعل معاوية رضي الله عنه يؤخر ترشيح ابنه يزيد ولياً للعهد على سنة 55هـ أو سنة 56هـ مع أن الحسن بن علي رضي الله عنه توفي سنة 51هـ، وجواب هذا السؤال يكمن في معرفة أهم حدث وقع في سنة 55هـ حيث توفي في هذه السنة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، آخر الستة الذين رضيهم ورشحهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه للخلافة من بعده[27]. [/align] |
الساعة الآن 06:24 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |