منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   القرآن الكريم والأحاديث وسيرة الأنبياء والصحابة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=95)
-   -   تفسير سور القرآن الكريم كاملة (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=1546)

أرب جمـال 21 - 11 - 2009 01:28 AM

هجر الكفار للقرآن ومطالبتهم بإنزاله دفعة واحدة
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا(30)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّامِنَالْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا(31)وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً(32)وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا(33)الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً(34)}.
سبب النزول:
نزول الآية(32):
أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قال المشركون: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم، كما يزعم نبياً، فلِمَ يعذبُه ربه، ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، فينزل عليه الآية والآيتين، فأنزل الله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}.
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} لما أكثر المشركون الطعن في القرآن ضاق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشكاهم إِلى الله والمعنى: قال محمد يا رب إِنَّ قريشاً كذبت بالقرآن ولم تؤمن به وجعلته وراء ظهورها متروكاً وأعرضوا عن استماعه قال المفسرون: وليس المقصود من حكاية هذا القول الإِخبار بما قال المشركون بل المقصود منها تعظيم شكايته، وتخويف قومه، لأن الأنبياء إِذا التجأوا إِلى الله وشكوا قومهم حل بهم العذاب ولم يمهلوا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ} أي كما جعلنا لك أعداء من مشركي قومك جعلنا لكل نبي عدواً من كفار قومه، والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي بغيره من الأنبياء {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} وكفى أن يكون ربك يا محمد هادياً لك وناصراً لك على أعدائك فلا تبال بمن عاداك {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وقال كفار مكة {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أي هلاَّ نزل هذا القرآن على محمد دفعة واحدة كما نزلت التوراة والإِنجيل ؟ قال تعالى ردّاً على شبهتهم التافهة {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي كذلك أنزلناه مفرقاً لنقوي قلبك على تحمله فتحفظه وتعمل بمقتضى ما فيه {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} أي فصَّلنا تفصيلاً بديعاً قال قتادة : أي بينَّاه وقال الرازي: الترتيلُ في الكلام أن يأتي بعضه على إِثر بعض على تُؤدة وتمهل، وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفلجها وقال الطبري: الترتيلُ في القراءة الترسُّلُ والتثبتُ يقول: علمناكه شيئاً بعد شيء حتى تحفظه {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي ولا يأتيك هؤلاء الكفار بحجةٍ أو شبهةٍ للقدح فيك أو في القرآن إِلا أتيناك يا محمد بالحق الواضح، والنور الساطع لندمغ به باطلهم {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أي أحسن بياناً وتفصيلاً، ثم ذكر تعالى حال هؤلاء المشركين المكذبين للقرآن فقال {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} أي يُسْحبون ويجُرُّون إِلى النار على وجوههم {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أي هم شر منزلاً ومصيراً، وأخْطأ ديناً وطريقاً وفي الحديث "قيل يا رسول الله: كيف يُحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ فقال: إِن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة".
قصص بعض الأنبياء وجزاء المكذب بهم
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا(35)فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا(36)وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا(37)وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا(38)وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا(39)وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا(40)}.
ثم ذكر تعالى قصص الأنبياء تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإِرهاباً للمكذبين فقال {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} أي والله لقد أعطينا موسى التوراة {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} أي وأعنَّاه بأخيه هارون فجعلناه وزيراً يناصره ويُؤآزره {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي اذهبا إلى فرعون وقومه بالآيات الباهرات، والمعجزات الساطعات {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} أي فأهلكناهم إِهلاكاً لمّا كذبوا رسلنا {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} أي وأغرقنا قوم نوح بالطوفان لمّا كذبوا رسولهم نوحاً وجعلناهم عبرةً لمن يعتبر قال أبو السعود: وإِنما قال الرسل بالجمع مع أنهم كذَّبوا نوحاً وحده لأن تكذيبه تكذيبٌ للجميع لاتفاقهم على التوحيد والإِسلام {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} أي وأعددنا لهم في الآخرة عذاباً شديداً مؤلماً سوى ما حلَّ بهم في الدنيا {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} أي وأهلكنا عاداً وثمود وأصحاب البئر الذين انهارت بهم قال البيضاوي: وأصحابُ الرس قومٌ كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إِليهم شعيباً فكذبوه فبينما هم حول الرس - وهي البئر غير المطوية - انهارت فخسفت بهم وبديارهم {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} أي وأمماً وخلائق كثيرين لا يعلمهم إِلا الله بين أولئك المكذبين أهلكناهم أيضاً {وَكُلاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} أي وكلاً من هؤلاء بيّنا لهم الحجج، ووضحنا لهم الأدلة إِعذاراً وإِنذاراًً {وَكُلاً تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} أي أهلكناه إِهلاكاً، ودمرناه تدميراً، لمّا لم تنجع فيهم المواعظ {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} أي ولقد مرَّت قريش مراراً في متاجرهم إِلى الشام على تلك القرية التي أُهلكت بالحجارة من السماء وهي قرية "سدوم" عُظمى قرى قوم لوط {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا}؟ توبيخٌ لهم على تركهم الاتعاظ والاعتبار أي أفلم يكونوا في أسفارهم يرونها فيعتبروا بما حلَّ بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم لرسولهم ومخالفتهم لأوامر الله ؟ قال ابن عباس: كانت قريشٌ في تجارتهم إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط كقوله تعالى {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ} {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} أي إِنهم لا يعتبرون لأنهم لا يرجون معاداً يوم القيامة.
سبب النزول:
نزول الآية(41):
روي أن هذه الآية نزلت في أبي جهل، فإنه كان إذا مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحبه قال مستهزئاً: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً}؟.
المنَاسَبَة:
لما ذكر تعالى شبهات المشركين حول القرآن والرسول، وردَّ عليهم بالحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، ذكر هنا طرفاً من استهزائهم وسخريتهم بالرسول فلم يقتصروا على تكذيبه بل زادوا عليه بالاستهزاء والاحتقار، ثم ذكر الأدلة على وحدانيته تعالى وقدرته.



استهزاء المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم ورمي دعوته بالضلال
{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً(41)إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً(42)أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً(43)أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً(44)}.
{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} أي وإِذا رآك المشركون يا محمد ما يتخذونك إِلا موضع هزء وسخرية {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} أي قائلين بطريق التهكم والاستهزاء: أهذا الذي بعثه الله إِلينا رسولاً ؟ {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} أي إِن كاد ليصرفنا عن عبادة آلهتنا لولا أن ثبتنا عليها واستمسكنا بعبادتها قال تعالى رداً عليهم {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وعيد وتهديد أي سوف يعلمون في الآخرة عند مشاهدة العذاب من أخطأ طريقاً وأضل ديناً أَهُمْ أم محمد ؟ {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} تعجيبٌ من ضلال المشركين أي أرأيت من جعل هواه إِلهاً كيف يكون حاله ؟ قال ابن عباس: كان الرجل من المشركين يعبد حجراً فإذا رأى حجراً أحسن منه رماه وأخذ الثاني فعبده {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} أي حافظاً تحفظه من اتباع هواه ؟ ليس الأمر لك قال أبو حيان: وهذا تيئيسٌ من إِيمانهم، وإِشارةٌ للرسول عليه السلام ألا يتأسف عليهم، وإِعلامٌ أنهم في الجهل بالمنافع وقلة النظر في العواقب مثل البهائم {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}؟ أي أتظن أن هؤلاء المشركين يسمعون ما تقول لهم سماع قبول ؟ أو يعقلون ما تورده عليهم من الحجج والبراهين الدالة على الوحدانية فتهتم بشأنهم وتطمع في إِيمانهم؟ {إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} أي ما هم إِلا كالبهائم بل هم أبشع حالاً، وأسوأ مالاً من الأنعام السارحة، لأن البهائم تهتدي لمراعيها، وتنقاد لأربابها وتعرف من يحسن إِليها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إِحسانه إِليهم.
دلائل وجود الله وتوحيده
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً(45)ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا(46)وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا(47)وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَامِنَالسَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا(48)لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا(49)وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا(50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا(51)فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا(52)وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا(53)وَهُوَ الَّذِي خَلَقَمِنَالْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا(54)}.
ثم ذكر تعالى أنواعاً من الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أي ألم تنظر إِلى بديع صنع الله وقدرته كيف بسط تعالى الظلَّ ومدَّه وقت النهار حتى يستروح الإِنسان بظل الأشياء من حرارة الشمس المتوهجة ؟ إِذ لولا الظلُّ لأحرقت الشمس الإِنسان وكدَّرت حياته {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} أي لو أراد سبحانه لجعله دائماً ثابتاً في مكانٍ لا يزول ولا يتحول عنه، ولكنه بقدرته ينقله من مكان إِلى مكان، ومن جهةٍ إلى جهة، فتارة يكون جهة المشرق، وتارة جهة المغرب، وأُخرى من أمام أو خلف{ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أي جعلنا طلوع الشمس دليلاً على وجود الظل، فلولا وقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجوداً، ولما ظهرت آثار هذه النعمة الجليلة للعباد، والأشياء إِنما تُعرف بأضدادها فلولا الظلمة ما عُرف النور، ولولا الشمسُ ما عرف الظل "وبضدها تتميز الأشياء" {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} أي أزلنا هذا الظلَّ شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً لا دفعة واحدة لئلا تختل المصالح قال ابن عباس: الظلُّ من وقت طلوع الفجر إِلى وقت طلوع الشمس قال المفسرون: الظلُّ هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة، وهو يحدث على وجه الأرض منبسطاً فيما بين ظهور الفجر إلى طلوع الشمس، ثم إِن الشمس تنسخه وتزيله شيئاً فشيئاً، إلى الزوال، ثم هو ينسخ ضوء الشمس من وقت الزوال إلى الغروب ويسمى فَيْئاً، ووجه الاستدلال به على وجود الصانع الحكيم أن وجوده بعد العدم، وعدمه بعد الوجود، وتغير أحواله بالزيادة والنقصان، والانبساط والتقلص، على الوجه النافع للعباد لا بدَّ له من صانع قادر، مدبر حكيم، يقدر على تحريك الأجرام العلوية، وتدبير الأجسام الفلكية وترتيبها على الوصف الأحسن، والترتيب الأكمل وما هو إِلا الله رب العالمين. ثم أشار تعالى إِلى آثار قدرته، وجليل نعمته الفائضة على الخلق فقال {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا} أي هو سبحانه الذي جعل لكم الليل كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس بزينته قال الطبري: وصف الليل باللباس تشبيهاً من حيث إنه يستر الأشياء فصار لهم ستراً يستترون به كما يستترون بالثياب التي يكسونها {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} أي وجعل النوم راحةً لأبدانكم بانقطاعكم عن أعمالكم {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} أي وقتاً لانتشار الناس فيه لمعايشهم، ومكاسبهم، وأسباب رزقهم {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي أرسل الرياح مبشرة بنزول الغيث والمطر { وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} أي أنزلنا من السحاب الذي ساقته الرياح ماءً طاهراً مطهّراً تشربون وتتطهرون به قال القرطبي: وصيغة {طَهُور} بناء مبالغة في "طاهر" فاقتضى أن يكون طاهراً مطهّراً {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي لنحيي بهذا المطر أرضاً ميتةً لا زرع فيها ولا نبات {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} أي وليشرب منه الحيوان والإِنسان لأن الماء حياة كل حيّ، والناس محتاجون إِليه غاية الحاجة لشربهم وزروعهم وسقي مواشيهم قال الإِمام الفخر الرازي: وتنكير الأنعام والأناسي لأن حياة البشر بحياة أرضهم وأنعامهم، وأكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأودية والأنهار، فهم في غنية عن شرب مياه المطر، وكثيرٌ منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إِلا عند نزول المطر ولهذا قال {أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} أي بشراً كثيرين لأن "فعيل" يراد به الكثرة {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} أي ضربنا الأمثال في هذا القرآن للناس وبيَّنا فيه الحجج والبراهين ليتفكروا ويتدبروا {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} أي أبى الكثير من البشر إِلا الجحود والتكذيب {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} أي لو أردنا لخففنا عنك أعباء النبوة فبعثنا في كل أهل قرية نبياً ينذرهم، ولكنا خصصناك بالبعثة إلى جميع الأرض إِجلالاً لك، وتعظيماً لشأنك، فقابل هذا الإِجلال بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإِظهار الحق {فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} أي فلا تطع الكفار فيما يدعونك إِليه من الكفّ عن آلهتهم، وجاهدهم بالقرآن جهاداً كبيراً بالغاً نهايته لا يصاحبه فتور {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي هو تعالى بقدرته خلى وأرسل البحرين متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} أي شديد العذوبة قاطع للعطش من فرط عذوبته {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي بليغ الملوحة، مرُّ شديد المرارة {وَجَعلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} أي جعل بينهما حاجزاً من قدرته لا يغلب أحدهما على الآخر {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} أي ومنعاً من وصول أثر أحدهما إِلى الآخر وامتزاجه به قال ابن كثير: معنى الآية أنه تعالى خلق الماءين: الحلو والمالح، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار، والمالح كالبحار الكبار التي لا تجري، وجعل بين العذب والمالح حاجزاً وهو اليابس من الأرض، ومانعاً من أن يصل أحدهما إِلى الآخر، وهذا اختيار ابن جرير وقال الرازي: ووجه الاستدلال ههنا بينّ لأن الحلاوة والملوحة إِن كانت بسبب طبيعة الأرض أو الماء فلا بدَّ من الاستواء، وإِن لم يكن كذلك فلا بدَّ من قادر حكيم يخص كل واحد بصفة معينة {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا} أي خلق من النطفة إِنساناً سميعاً بصيراً {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا}أي قسمهم من نطفة واحدة قسمين: ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم لأن النسب إلى الأباء كما قال الشاعر:
" فإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللآباء أبناء " وإِناثاً يُصاهر بهن، فبالنسب يتعارفون ويتواصلون، وبالمصاهرة تكون المحبة والمودة واجتماع الغريب بالقريب {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} أي مبالغاً في القدرة حيث خلق من النطفة الواحدة ذكراً وأنثى.



عبادة المشركين الأوثان وعبادة المؤمنين الرحمن
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا(55)وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(56)قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً(57)وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا(58)الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا(59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا(60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا(61)وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا(62)}.
ولما شرح دلائل التوحيد عاد إِلى تهجين سيرة المشركين في عبادة الأوثان فقال {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} أي يعبدون الأصنام التي لا تنفع ولا تضر لأنها جمادات لا تُحسُّ ولا تُبصر ولا تعقل {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} أي معيناً للشيطان على معصية الرحمن، لأنَّ عبادته للأصنام معاونة للشيطان قال مجاهد: يظاهر الشيطان على معصية الله ويُعينه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} أي مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم، ومنذراً للكافرين بعذاب الجحيم {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي قل لهم يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً { إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي لكن من شاء أن يتخذ طريقاً يقربه إِلى الله بالإِيمان والعمل الصالح فليفعل كأنه يقول: لا أسألكم مالاً ولا أجراً وإِنما أسألكم الإِيمان بالله وطاعته وأجري على الله {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} أي اعتمد في جميع أمورك على الواحد الأحد، الدائم الباقي الذي لا يموت أبداً، فإِنه كافيك وناصرك ومظهر دينك على سائر الأديان {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي نزّه الله تعالى عمّا يصفه هؤلاء الكفار مما لا يليق به من الشركاء والأولاد {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} أي حسبك أن الله مطَّلع على أعمال العباد لا يخفى عليه شيء منها قال الإِمام الفخر الرازي: وهذه الكلمة يراد بها المبالغة كقولهم: كفى بالعلم جمالاً، وكفى بالأدب مالاً، وهي بمعنى حسبك أي لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبيرٌ بأحوالهم، قادر على مجازاتهم، وذلك وعيدٌ شديد {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي هذا الإِله العظيم الذي ينبغي أن تتوكل عليه هو القادر على كل شيء، الذي خلق السماوات السبع في ارتفاعها واتساعها، والأرضين في كثافتها وامتدادها في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا قال ابن جبير: الله قادر على أن يخلقها في لحظة ولكن علَّم خلقه الرفق والتثبت {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} استواءً يليق بجلالة من غير تشبيه ولا تعطيل {الرَّحْمَانُ} أي هو الرحمن ذو الجود والإِحسان {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} أي فسلْ عنه من هو خبيرٌ عارف بجلاله ورحمته، وقيل: الضمير يعود إلى الله أي فاسأل اللهَ الخبيرَ بالأشياء، العالم بحقائقها يطلعك على جليَّة الأمر {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ} أي وإِذا قيل للمشركين اسجدوا لربكم الرحمن الذي وسعت رحمته الأكوان {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ}؟ أي من هو الرحمن؟ استفهموا عنه استفهام من يجهله وهم عالمون به { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} أي أنسجد لما تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه؟ {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} أي وزادهم هذا القول بعداً عن الدين ونفوراً منه.
المنَاسَبَة:
لما ذكر إعراض المشركين عن عبادة الرحمن أعقبها بذكر آياته الكونية الدالة على الوحدانية، ثم ختم السورة الكريمة بذكر صفات عباد الرحمن التي استحقوا بها دخول الجنان.
{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} أي تمجَّد وتعظَّم الله الذي جعل في السماء تلك الكواكب العِظام المنيرة {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} أي وجعل فيها الشمس المتوهجة في النهار، والقمر المضيء بالليل {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} أي يخلف كلٌّ منهما الآخر ويتعاقبان، فيأتي النهار بضيائه ثم يعقبه الليل بظلامه {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} أي لمن أراد أن يتذَّكر آلاء الله، ويتفكر في بدائع صنعه {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أي أراد شكر الله على أفضاله ونعمائه قال الطبري: جعل الله الليل والنهار يخلف كل واحدٍ منهما الآخر، فمن فاته شيء من الليل أدركه النهار، ومن فاته شيء من النهار أدركه بالليل.



صفات عباد الرحمن
{ وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا(63)وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا(64)وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا(65)إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا(66)وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا(67)وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68)يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا(69)إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(70)وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا(71)وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا(72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا(73)وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا(74)أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا(75)خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا(76)قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا(77)}.
سبب النزول:
نزول الآية(68):
{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ}: أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الذنب أعظمُ ؟ قال: "أن تجعل لله نِدّاً، وهو خَلقَك"، قلتُ: ثم أي ؟ قال: "أن تقتلَ ولدَك مخافةَ أن يَطْعم معك"، قلت: ثم أي ؟ قال: "أن تُزاني حليلة جارك" فأنزل الله تصديقها: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية.
وأخرج الشيخان عن ابن عباس: أن ناساً من أهل الشرك قَتَلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لِما عملنا كفارة؟ فنزلت: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} إلى قوله: {غفوراً رحيماً}. ونزل: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية [الزمر: 53].
سبب نزول الآية(70):
{إِلا مَنْ تَابَ}: أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: لما أنزلت في الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} الآية، قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس بغير حق، ودعونا مع الله إلهاً آخر، وآتينا الفواحش، فنزلت: {إِلا مَنْ تَابَ} الآية.
{وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} الإِضافة للتشريف أي العباد الذين يحبهم الله وهم جديرون بالانتساب إليه هم الذين يمشون على الأرض في لين وسكينة ووقار، لا يضربون بأقدامهم أشراً ولا بطراً، ولا يتبخترون في مشيتهم {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} أي وإِذا خاطبهم السفهاء بغلظةٍ وجفاءً قالوا قولاً يسْلمون من الإِثم قال الحسن: لا يجهلون على أحد، وإِن جُهل عليهم حَلُموا {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} أي يُحْيون الليل بالصلاة ساجدين لله على جباههم، أو قائمين على أقدامهم كقوله {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} قال الرازي: لما ذكر سيرتهم في النهار من وجهين: ترك الإِيذاء، وتحمل الأذى بيَّن هنا سيرتهم في الليالي وهو اشتغالهم بخدمة الخالق {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} أي يدعون ربهم أن ينجيهم من عذاب النار، ويبتهلون إليه أن يدفع عنهم عذابها {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أي لازماً دائماً غير مفارق {إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي بئست جهنم منزلاً ومكان إقامة قال القرطبي: المعنى بئس المستقر وبئس المقام، فهم مع طاعتهم مشفقون خائفون من عذاب الله، وقال الحسن: خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرَقاً من عذاب جهنم {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} هذا هو الوصف الخامس من أوصاف عباد الرحمن والمعنى: ليسوا مبذرين في إِنفاقهم في المطاعم والمشارب والملابس، ولا مقصِّرين ومضيِّقين بحيث يصبحون بخلاء {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} أي وكان إنفاقُهم وسطاً معتدلاً بين الإِسراف والتقتير كقوله تعالى {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} الآية وقال مجاهد: "لو أنفقت مثل جبل أبي قُبيس ذهباً في طاعة الله ما كان سَرفاً، ولو أنفقت صاعاً في معصية الله كان سرفاً فيقال: عملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا فيقول: نعم. لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي لا يعبدون معه تعالى إلهاً آخر، بل يوحّدونه مخلصين له الدين {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} أي لا يقتلون النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بما يحقُّ أن تُقتل به النفوس من كفرٍ بعد إيمان، أو زنىً بعد إحصان، أو القتل قِصاصاً {وَلا يَزْنُونَ} أي لا يرتكبون جريمة الزنى التي هي أفحش الجرائم {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} أي ومن يقترف تلك الموبقات العظيمة من الشرك والقتل والزنى يجد في الآخرة النكال والعقوبة ثم فسَّرها بقوله {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يُضاعف عقابُه ويُغلَّظ بسبب الشرك وبسبب المعاصي {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} أي يُخلد في ذلك العذاب حقيراً ذليلاً أبد الآبدين {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا} أي إلاّ من تاب في الدنيا التوبة النصوح وأحسن عمله {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} أي يكرمهم الله في الآخرة فيجعل مكان السيئات حسنات وفي الحديث (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها، رجلٌ يُؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال له: فإِنَّ لك مكانَ كل سيئةٍ حسنة فيقول يا رب: قد عملتُ أشياء لا أراها ههنا، قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدتْ نواجذه) {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي واسع المغفرة كثير الرحمة {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} أي ومن تاب عن المعاصي وأصلح سيرته فإِن الله يتقبل توبته ويكون مرضياً عند الله تعالى {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} هذا هو الوصف السابع من أوصاف عباد الرحمن أي لا يشهدون الشهادة الباطلة - شهادة الزور - التي فيها تضييعٌ لحقوق الناس {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} أي وإِذا مرُّوا بمجالس اللغو - وهي الأماكن التي يكون فيها العمل القبيح كمجالس اللهو، والسينما، والقمار، والغناء المحرَّم - مرُّوا معرضين مكرمين أنفسهم عن أمثال تلك المجالس قال الطبري: واللغوُ كلُّ كلامٍ أو فعلٍ باطل وكلُّ ما يُستقبح كسبّ الإِنسان، وذكر النكاح باسمه في بعض الأماكن، وسماعِ الغناءِ مما هو قبيح، كلُّ ذلك يدخل في معنى اللغو الذي يجب أن يجتنبه المؤمن {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} أي إِذا وُعظوا بآيات القرآن وخُوّفوا بها {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} أي لم يُعرضوا عنها بل سمعوها بآذانٍ واعية وقلوبٍ وجلة {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } أي اجعل لنا في الأزواج والبنين مسرةً وفرحاً بالتمسك بطاعتك، والعمل بمرضاتك {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي اجعلنا قُدوة يقتدي بنا المتقون، دعاةً إلى الخير هُداة مهتدين قال ابن عباس: أي أئمة يقتدى بنا في الخير {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} أي أولئك المتصفون بالأوصاف الجليلة السامية ينالون الدرجات العالية، بصبرهم على أمر الله وطاعتهم له سبحانه {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} أي ويُتلقَّون بالتحية والسلام من الملائكة الكرام كقوله تعالى {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ} الآية {خَالِدِينَ فِيهَا} أي مقيمين في ذلك النعيم لا يموتون ولا يُخْرجون من الجنَّة لأنها دار الخلود {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي ما أحسنها مقراً وأطيبها منزلاً لمن اتقى الله {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} أي قل لهم يا محمد: لا يكترثُ ولا يحفلُ بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إيّاه في الشدائد {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} أي فقد كذبتم أيها الكافرون بالرسول والقرآن فسوف يكون العذاب ملازماً لكم في الآخرة.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 01:30 AM

سورة الشعراء
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة الشعراء مكية وقد عالجت أصول الدين من "التوحيد، والرسالة، والبعث" شأنها شأن سائر السور المكية، التي تهم بجانب العقيدة وأصول الإِيمان.
* ابتدأت السورة الكريمة بموضوع القرآن العظيم الذي أنزله الله هدايةً للخلق، وبلْسماً شافياً لأمراض الإِنسانية، وذكرت موقف المشركين منه، فقد كذبوا به مع وضوح آياته، وسطوع براهينه، وطلبوا معجزة أُخرى غير القرآن الكريم عناداً واستكباراً.
* ثم تحدثت السورة عن طائفةٍ من الرسل الكرام، الذين بعثهم الله لهداية البشرية، فبدأت بقصة الكليم "موسى" مع فرعون الطاغية الجبار، وما جرى من المحاورة والمداورة بينهما في شأن الإِله جلَّ وعلا، وما أيَّد به موسى من الحجة الدامغة التي تقصم ظهر الباطل، وقد ذكرت في القصة حلقات جديدة، انتهت ببيان العظة والعبرة من الفارق الهائل، بين الإِيمان والطغيان.
* ثم تناولت قصة الخليل إبراهيم عليه السلام، وموقفه من قومه وأبيه في عبادتهم للأوثان والأصنام، وقد أظهر لهم بقوة حجته، ونصاعة بيانه، بطلان ما هم عليه من عبادة ما لا يسمع ولا ينفع، وأقام لهم الأدلة القاطعة على وحدانية رب العالمين، الذي بيده النفع والضر، والإِحياء والإِماتة.
* ثم تحدثت السورة عن المتقين والغاوين، والسعداء والأشقياء، ومصير كلٍ من الفريقين يوم الدين.
* وبعد أن تابعت السورة في ذكر قصص الأنبياء "نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب" عليهم الصلاة والسلام، وبيَّنت سنة الله في معاملة المكذبين لرسله، عادت للتنويه بشأن الكتاب العزيز، تفخيماً لشأنه، وبياناً لمصدره {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}.
* ثم ختمت السورة بالرد على افتراء المشركين، في زعمهم أن القرآن من تنزل الشياطين، ليتناسق البدء مع الختام في أروع تناسق والتئام ‍‍.
التِسميَة:
سميت "سورة الشعراء" لأن الله تعالى ذكر فيها أخبار الشعراء، وذلك للرد على المشركين في زعمهم أن محمداً كان شاعراً، وأن ما جاء به من قبيل الشعر، فردَّ الله عليهم ذلك الكذب والبهتان بقوله {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}؟ وبذلك ظهر الحق وبان.
تكذيب المشركين للقرآن، إظهار دلائل وحدانيته تعالى
{طسم(1)تِلْكَءايات الْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(3)إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْمِنَالسَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ(4)وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍمِنَالرَّحْمَانِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ(5)فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ(7)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(8)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(9)}.
{طسم} إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم وأنه مركب من أمثال هذه الحروف الهجائية {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي هذه آيات القرآن الواضح الجلي، الظاهر إعجازه لمن تأمله {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي لعلك يا محمد مُهلِكٌ نفسك لعدم إِيمان هؤلاء الكفار، فيه تسلية للرسول عليه السلام حتى لا يحزن ولا يتأثر على عدم إيمانهم {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً} أي لو شئنا لأنزلنا آية من السماء تضطرهم إلى الإِيمان قهراً {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} أي فتظل أعناقهم منقادةً خاضعة للإِيمان قسراً وقهراً، ولكنْ لا نفعل لأنا نريد أن يكون الإِيمان اختياراً لا اضطراراً قال الصاوي: المعنى لا تحزن على عدم إيمانهم فلو شئنا إيمانهم لأنزلنا معجزة تأخذ بقلوبهم فيؤمنون قهراً عليهم، ولكنْ سبق في علمنا شقاؤهم فأرحْ نفسك من التعب {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ الرَّحْمَانِ} أي ما يأتي هؤلاء الكفار شيء من القرآن أو الوحي منزلٍ من عند الرحمن {مُحْدَثٍ} أي جديد في النزول، ينزل وقتاً بعد وقت {إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} أي إلاّ كذبوا به واستهزءوا ولم يتأملوا ما فيه من المواعظ والعِبَر {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} أي فقد بلغوا النهاية في الإِعراض والتكذيب فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا واستهزؤوا به، ثم نبّه تعالى على عظمة سلطانه، وجلالة قدره في مخلوقاته ومصنوعاته، الدالة على وحدانيته وكمال قدرته فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} أي أولم ينظروا إلى عجائب الأرض كم أخرجنا فيها من كل صنفٍ حسنٍ محمود، كثير الخير والمنفعة ؟ والاستفهام للتوبيخ على تركهم الاعتبار {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إِنَّ في ذلك الإِنبات لآيةً باهرة تدل على وحدانية الله وقدرته {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما كان أكثرهم يؤمن في علم الله تعالى، فمع ظهور الدلائل الساطعة يستمر أكثرهم على كفرهم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي هو سبحانه الغالب القاهر، القادر على الانتقام ممن عصاه، الرحيم بخلقه حيث أمهلهم ولم يعجّل لهم العقوبة مع قدرته عليهم قال أبو العالية: العزيز في نقمته ممن خالف أمره وعبَد غيره، الرحيم بمن تاب إليه وأناب وقال الفخر الرازي: إنما قدم ذكر {الْعَزِيزُ} على {الرَّحِيمُ} لأنه ربما قيل: إنه رحمهم لعجزه عن عقوبتهم، فأزال هذا الوهم بذكر العزيز وهو الغالب القاهر، ومع ذلك فإنه رحيم بعباده، فإن الرحمة إذا كانت مع القدرة الكاملة كانت أعظم وقعاً.
قصة موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون
{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(10)قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ(11)قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ(12)وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ(13)وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ(14)قَالَ كَلا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ(15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(16)أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ(17)قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ(18)وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَمِنَالْكَافِرِينَ(19)قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَامِنَالضَّالِّينَ(20)فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِيمِنَالْمُرْسَلِينَ(21)وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(22)}.
{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} أي واذكر يا محمد لأولئك المعرضين المكذبين من قومك حين نادى ربك نبيَّه موسى من جانب الطور الأيمن آمراً له أن يذهب إلى فرعون وملئه {أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}أي بأن ائت هؤلاء الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، واستعباد الضعفاء من بني إسرائيل {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} أي هم قوم فرعون، وهو عطف بيان كأن القوم الظالمين وقوم فرعون شيء واحد {أَلا يَتَّقُونَ} ؟ أي ألا يخافون عقاب الله ؟ وفيه تعجيب من غلوهم في الظلم وإِفراطهم في العدوان {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} أي قال موسى يا ربّ إني أخاف أن يكذبوني في أمر الرسالة {وَيَضِيقُ صَدْرِي} أي ويضيق صدري من تكذيبهم إياي {وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} أي ولا ينطلق لساني بأداء الرسالة على الوجه الكامل {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} أي فأرسلْ إلى هارون ليعينني على تبليغ رسالتك قال المفسرون: التمس موسى العذر بطلب المعين بثلاثة أعذار كلُّ واحدٍ منها مرتب على ما قبله وهي: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وعدم انطلاق اللسان، فالتكذيبُ سببٌ لضيق القلب، وضيقُ القلب سببٌ لتعسر الكلام، وبالأخص على من كان في لسانه حُبْسة كما في قوله {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} ثم زاد اعتذاراً آخر بقوله {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} أي ولفرعون وقومه عليَّ دعوى ذنب وهو أني قتلت منهم قبطياً فأخاف أن يقتلوني به {قالَ كَلا}أي قال الله تعالى له: كلاّ لن يقتلوك قال القرطبي: وهو ردعٌ وزجر عن هذا الظن، وأمرٌ بالثقة بالله تعالى أي ثقْ بالله وانزجر عن خوفك منهم فإنهم لا يقدرون على قتلك {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا} أي اذهب أنت وهارون بالبراهين والمعجزات الباهرة {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} أي فأنا معكما بالعون والنصرة أسمع ما تقولان وما يجيبكما به، وصيغةُ الجمع "معكم" أريد بها التثنية فكأنهما لشرفهما عند الله عاملهما في الخطاب معاملة الجمع تشريفاً لهما وتعظماً {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي فائتيا فرعون الطاغية وقولا له: إنا مرسلان من عند رب العالمين إليك لندعوك إلى الهدى{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أطلقْ بني إسرائيل من إسارك واستعبادك وخلِّ سبيلهم حتى يذهبوا معنا إلى الشام {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} في الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره: فأتياه فبلغاه الرسالة فقال فرعون لموسى عندئذٍ: ألم نربك في منازلنا صبياً صغيراً ؟ قصد فرعون بهذا الكلام المنَّ على موسى والاحتقار له كأنه يقول: ألست أنت الذي ربيناك صغيراً وأحسنّا إليك فمتى كان هذا الأمر الذي تدّعيه؟ {وَلَبثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} أي ومكثت بين ظهرانينا سنين عديدة نحسن إليك ونرعاك قال مقاتل: ثلاثين سنة {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} أي فجازيتنا على أن ربيناك أن كفرت نعمتنا وقتلتَ منا نفساً ؟ والتعبيرُ بالفعلة لتهويل الواقعة وتعظيم الأمر، ومرادهُ قتل القبطي {وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ} أي وأنت من الجاحدين لإِنعامنا الكافرين بإِحساننا قال ابن عباس: من الكافرين لنعمتي إذ لم يكن فرعون يعلم ما الكفر {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ} أي قال موسى: فعلتُ تلك الفعلة وأنا من المخطئين لأنني لم أتعمد قتله ولكن أردت تأديبه، ولم يقصد عليه السلام الضلال عن الهدى لأنه معصوم منذ الصغر وقال ابن عباس: {وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ} أي الجاهلين {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} أي فهربتُ إلى أرض مدين حين خفت على نفسي أن تقتلوني وتؤاخذوني بما لا أستحقه {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} أي فأعطاني الله النبوة والحكمة {وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ} أي واختارني رسولاً إليك، فإن آمنتَ سلمتَ، وإِن جحدتَ هلكتَ {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي كيف تمنُّ عليَّ بإِحسانك إليَّ وقد استعبدتَ قومي ؟ فما تعدُّه نعمة ما هو إلاّ نقمة قال ابن كثير: المعنى ما أحسنتَ إليَّ وربيتني مقابل ما اسأتَ إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيداً وخدماً، أوف في إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ وقال الطبري: أي أتمنُّ عليَّ أن اتخذت بني إسرائيل عبيداً.



مجادلة موسى فرعون في إثبات وجود الله
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ(23)قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ(24)قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ(25)قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ(26)قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ(27)قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(28)قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لاجْعَلَنَّكَمِنَالْمَسْجُونِينَ(29)قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ(30)قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَمِنَالصَّادِقِينَ(31)}.
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي قال فرعون متعالياً متكبراً: من هو هذا الذي تزعم أنه ربُّ العالمين؟ هل هناك إلهٌ غيري؟ لأنه كان يجحد الصانع ويقول لقومه {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي قال موسى: هو خالق السماواتِ والأرض، والمتصرف فيهما بالإِحياء والإِعدام، وهو الذي خلق الأشياء كلها من بحار وقفار، وجبالٍ وأشجار، ونباتٍ وثمار، وغير ذلك من المخلوقات البديعة {إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} أي إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصارٌ نافذة، فهذا أمر ظاهر جلي {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} أي قال فرعون لمن حوله من أشراف قومه على سبيل التهكم والاستهزاء: ألا تسمعون جوابه وتعجبون من أمره ؟ أسأله عن حقيقة الله فيجيبني عن صفاته، فأجاب موسى وزاد في البيان والحجة {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ} أي هو خالقكم وخالق آبائكم الذين كانوا قبلكم، فوجودكم دليل على وجود القادر الحكيم، عدلَ عن التعريف العام إلى التعريف الخاص لأنَّ دليل الأنفس أقرب من دليل الآفاق، وأوضح عند التأمل {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} فعند ذلك غضب فرعون ونسب موسى إلى الجنون {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} سمَّاه رسولاً استهزاءً وأضافه إلى المخاطبين استنكافاً من نسبته له أي إن هذا الرسول لمجنون لا عقل له، أسأله عن شيء فيجيبني عن شيء، فلم يحفل موسى بسخرية فرعون وعاد إلى تأكيد الحجة بتعريفٍ أوضح من الثاني {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي هو تعالى الذي يطلع الشمس من المشرق ويجعلها تغرب من المغرب، وهذا مشاهد كل يوم يبصره العاقل والجاهل ولهذا قال {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي إن كان لكم عقول أدركتم أن هذا لا يقدر عليه إلا ربُّ العالمين، وهذا من أبلغ الحجج التي تقصم ظهر الباطل كقول إبراهيم في مناظرة النمرود {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} ولما انقطع فرعون وأُبلس في الحجة رجع إِلى الاستعلاء متوعداَ بالبطش والعنف {قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لاجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ} أي لئن اتخذت رباً غيري لألقينك في غياهب السجن قال المفسرون: وكان سجنه شديداً يحبس الشخص في مكان تحت الأرض وحده لا يبصر ولا يسمع فيه أحداً حتى يموت ولهذا لم يقل "لأسجننَّك" وإنما قال لأجعلنك من المسجونين لأن سجنه كان أشدَّ من القتل قال ابن جزي: لما أظهر فرعونُ الجهل بالله فقال {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} أجابه موسى بقوله { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فقال { أَلا تَسْتَمِعُونَ}؟ تعجباً من جوابه، فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ} لأن وجود الإِنسان وآبائه أظهرُ الأدلة عند العقلاء، وأعظم البراهين، فإِن أنفسهم أقرب الأشياء إليهم فيستدلون بها على وجود خالقهم، فلما ظهرت هذه الحجة حاد فرعون عنها ونسب موسى إلى الجنون مغالطةً منه، وأيّده بالازدراء والتهكم في قوله {إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} لأن طلوع الشمس وغروبها آية ظاهرة لا يمكن لأحدٍ جحدها ولا أن يدعيها لغير الله، فلما انقطع فرعون بالحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فهدَّده بالسجن، فأقام موسى عليه الحجة بالمعجزة وذكرها له بتلطف طمعاً في إِيمانه {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} أي أتسجنني ولو جئتك بأمرٍ ظاهرٍ، وبرهان قاطع تعرف به صدقي؟ {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي فائت بما تقول إن كنت صادقاً في دعواك.
وصف فرعون معجزة موسى عليه السلام بالسحر
{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} أي رمى موسى عصاه فإِذا هي حية عظيمة في غاية الجلاء والوضوح، ذات قوائم وفم كبير وشكل هائل مزعج {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} أي وأخرج يده من جيبه فإِذا هي تتلألأ كالشمس الساطعة، لها شعاع يكادُ يعشي الأبصار ويسدُّ الأفق {قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} أي قال فرعون لأشراف قومه الذين كانوا حوله : إن هذا لساحرٌ عظيم بارعٌ في فنِّ السحر .. أراد أن يُعمِّي على قومه تلك المعجزة برميه بالسحر خشية أن يتأثروا بما رأوا {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} أي يريد أن يستولي على بلادكم بسحره العظيم {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي فبأي شيء تأمروني وبمَ تشيرون عليَّ أن أصنع به ؟ لما رأى فرعون تلك الآيات الباهرة خاف على قومه أن يتبعوه، فتنزَّل إلى مشاورتهم بعد أن كان مستبداً بالرأي والتدبير {قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ} أي أخِّرْ أمرهما {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} أي وأرسل في أطراف مملكتك من يجمع لك السحرة من كل مكان {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} أي يجيئوك بكل ساحر ماهر، عليم بضروب السحر قال ابن كثير: وكان هذا من تسخير الله تعالى ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة.
إيمان السحرة بالله في المبارزة بينهم وبين موسى
{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(38)وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ(39)لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ(40)فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ(41)قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ(42)قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ(43)فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ(44)فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(45)فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(46)قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(47)رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(48)قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(49)قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ(50)إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ(51)}.
{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}أي فاجتمع السحرة للموعد المحدَّد وهو وقت الضحى من يوم الزينة، وهو الوقت الذي حدَّده موسى، ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد كما قال تعالى {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ} أي قيل للناس: بادروا إلى الاجتماع لكي نتبع السحرة في دينهم إن غلبوا موسى {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} أي إن غلبنا بسحرنا موسى فهل تكرمنا بالمال والأجر الجزيل ؟ {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} أي قال لهم فرعون: نعم أعطيكم ما تريدون وأجعلكم من المقربين عندي ومن خاصة جلسائي {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} في الكلام إيجاز دلَّ عليه السياق تقديره: فقالوا لموسى عن ذلك إمَّا أن تُلقي وإِما أن نكون الملقين كما ذكر في الأعراف فأجابهم موسى بقوله {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} أي ابدءوا بإِلقاء ما تريدون فأنا لا أخشاكم، قاله ثقةً بنصرة الله له وتوسلاً لإِظهار الحقِّ {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} أي فألقوا ما بأيديهم من الحبال والعصي وقالوا عند الإِلقاء نقسم بعظمة فرعون وسلطانه إنّا نحن الغالبون لموسى {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} أي فألقى موسى العصا فانقلبت حية عظيمة فإِذا هي تبتلع وتزدرد الحبال والعصي التي اختلقوها باسم السحر حيث خيلوها للناس حياتٍ تسعى، وسمّى تلك الأشياء إفكاً مبالغةً {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} أي سجدوا للهِ رب العالمين، بعدما شاهدوا البرهان الساطع، والمعجزة الباهرة {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ *رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} أي وقالوا عند سجودهم آمنا بالله العزيز الكبير الذي يدعونا إليه موسى وهارون قال الطبري: لما تبيّن للسحرة أن الذي جاءهم به موسى حقٌّ لا سحر، وأنه مما لا يقدر عليه غيرُ الله الذي فطر السماوات والأرض، خرّوا لوجوههم سجداً لله مذعنين له بالطاعة قائلين: آمنا برب العالمين الذي دعانا موسى لعبادته، دون فرعون وملئه {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } أي قال فرعون للسحرة: آمنتم لموسى قبل أن تستأذنوني ؟ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ} أي إنه رئيسكم الذي تعلمتم منه السحر وتواطأتم معه ليظهر أمره، أراد فرعون بهذا الكلام التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أن السحرة آمنوا عن بصيرة وظهور حق قال ابن كثير: وهذه مكابرة يعلم كل أحدٍ بطلانها، فإِنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر ؟ هذا لا يقوله عاقل، ثم توعَّدهم بقوله {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي سوف تعلمون عند عقابي وبال ما صنعتم من الإِيمان به {لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} أي لأقطعنَّ يد كل واحد منكم اليمنى ورجله اليسرى {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} أي ولأصلبنَّ كل واحد منكم على جذع شجرة وأتركه حتى الموت {قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون} أي لا ضرر علينا في وقوع ما أوعدتنا به، ولا نبالي به لأننا نرجع إلى ربنا مؤملين غفرانه {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا} أي إنا نرجو أن يغفر لنا الله ذنوبنا التي سلفت منا قبل إيماننا به فلا يعاقبنا بها {أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} أي بسبب أن بادرنا قومنا إلى الإِيمان وكنا أول من آمن بموسى.
المنَاسَبَة:
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة سبع قصص: أولها قصة موسى وهارون، وثانيها قصة إبراهيم، وثالثها قصة نوح، ورابعها قصة هود، وخامسها قصة صالح وسادسها قصة لوط وسابعها قصة شعيب، وكل تلك القصص لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من المشركين، ولا تزال الآيات تتحدث عن قصة موسى عليه السلام.



نجاة موسى وقومه وغرق فرعون وجنوده
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ(52)فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ(53)إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ(54)وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ(55)وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ(56)فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(57)وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(58)كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ(59)فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ(60)فَلَمَّا تَرَاءَ الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ(61)قَالَ كَلا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ(63)وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ(64)وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ(65)ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ(66)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(67)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(68)}.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي أمرنا موسى بطريق الوحي أن يسير ليلاً إلى جهة البحر ببني إسرائيل قال القرطبي: أمر الله موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً، وسمّاهم عباده لأنهم آمنوا بموسى {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} أي يتبعكم فرعون وقومه ليردُّوكم إلى أرض مصر ويقتلوكم {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} أي أرسل فرعون في طلبهم حين أخبر بمصيرهم وأمر أن يُجمع له الجيش من كل المُدُن قائلاً لهم {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} أي طائفة قليلة قال الطبري: كان بنو إسرائيل ستمائة وسبعين ألفاً ولكنه قلَّلهم بالنسبة إلى كثرة جيشه {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} أي وإِنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} أي ونحن قوم متيقظون منتبهون، من عادتنا التيقظ والحذر، واستعمالُ الحزم في الأمور قال الزمخشري: وهذه معاذير اعتذر بها إلى قومه لئلا يُظنَّ به ما يكسر من قهره وسلطانه، قال تعالى {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي أخرجنا فرعون وقومه من بساتين كانت لهم وأنهار جارية {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} أي وأخرجناهم من الأموال التي كنزوها من الذهب والفضة، ومن المنازل الحسنة والمجالس البهية {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي مثل ذلك الإِخراج الذي وضعناه فعلنا بهم، وأورثنا بني إسرائيل ديارهم وأموالهم بعد إغراق فرعون وقومه {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} أي فلحقوهم وقت شروق الشمس {فَلَمَّا تَرَاء الْجَمْعَانِ} أي فلما رأى كلٌّ منهما الآخر، والمراد جمعُ موسى وجمع فرعون {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي مُلحقون يلحقنا فرعون وجنوده فيقتلوننا، قالوا ذلك حين رأوا فرعون الجبار وجنوده وراءهم، والبحر أمامهم، وساءت ظنُونهُم {قَالَ كَلا} أي قال موسى كلاَّ لن يدركوكم فارتدعوا عن مثل هذا الكلام وانزجروا {إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} إنَّ ربي معي بالحفظ والنصرة، وسيهديني إلى طريق النجاة والخلاص قال الرازي: قوَّى نفوسهم بأمرين: أحدهما بأن ربه معه وهذا دلالة على النصرة والتكفل بالمعونة، والثاني قوله {سَيَهْدِينِ} أي إلى طريق النجاة والخلاص، وإِذا دلَّه على طريق نجاته وهلاك أعدائه فقد بلغ النهاية في النصرة {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} أي أمرنا موسى بطريق الوحي أن يضرب البحر بعصاه {فَانفَلَقَ} أي فضربه فانشق وانفلق {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} أي فكان كل جزء منه كالجبل الشامخ الثابت قال ابن عباس : صار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبطٍ منهم طريق {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} أي وقربنا هناك فرعون وجماعته حتى دخلوا البحر على إثر دخول بني إسرائيل {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} أي أنجينا موسى والمؤمنين معه جميعاً {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} أي أغرقنا فرعون وقومه قال المفسرون: لما انفلق البحر جعله الله يبَساً لموسى وقومه، وصار فيه اثنا عشر طريقاً ووقف الماء بينها كالطود العظيم، فلما خرج أصحاب موسى وتكامل دخول أصحاب فرعون أمر الله البحر أن يطبق عليهم فغرقوا فيه، فقال بعض أصحاب موسى: ما غرق فرعون ! فنبذ على ساحل البحر حتى نظروا إليه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إنَّ في إغراق فرعون وقومه لعبرة عظيمة على إِنجاء الله لأوليائه، وإِهلاكه لأعدائه {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي ومع مشاهدة هذه الآية العظمى لم يؤمن أكثر البشر، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيدٌ لمن عصاه {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه.
قصة إبراهيم عليه السلام وتنديده بعبادة الأصنام
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ(69)إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ(70)قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ(71)قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ(72)أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ(73)قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(74)قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77)الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78)وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79)وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ(81)وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82)}.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} هذه بداية قصة إبراهيم أي اقصص عليهم يا محمد خبر إبراهيم وشأنه العظيم {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} أي حين قال لأبيه وعشيرته أيَّ شيءٍ تعبدون؟ سألهم مع علمه بأنهم يعبدون الأصنام ليبيّن لهم سفاهة عقولهم في عبادة ما لا ينفع، ويقيم عليهم الحجة {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} أي نعبد أصناماً فنبقى مقيمين على عبادتها لا نتركها، قالوا ذلك على سبيل الابتهاج والافتخار، وكان يكفيهم أن يقولوا: نعبد الأصنام ولكنهم زادوا في الوصف كالمفتخر بما يصنع {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} أي قال لهم إبراهيم على سبيل التبكيت والتوبيخ: هل يسمعون دعاءكم حين تلجأون إليهم بالدعاء؟ {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} أي وهل يبذلون لكم منفعة، أو يدفعون عنكم مضرة؟ {قَالُوا بَلْ وَجَدْنا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أي وجدنا آباءنا يعبدونهم ففعلنا مثلهم قال أبو السعود: اعترفوا بأنها لا تنفع ولا تضر بالمرَّة، واضطروا إلى إظهار الحقيقة وهي أنه لا سند لهم سوى التقليد، وهذا من علامات انقطاع الحجة {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ} أي قال إبراهيم: أفرأيتم هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله أنتم وآباؤكم الأولون؟ {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} أي فإِن هذه الأصنام أعداء لي لا أعبدهم، ولكن أعبد الله ربَّ العالمين فهو وليي في الدنيا والآخرة، أسند العداوة لنفسه تعريضاً بهم وهو أبلغ في النصيحة من التصريح {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أي اللهُ الذي خلقني هو الذي يهديني إلى طريق الرشاد لا هذه الأصنام {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} أي هو تعالى الذي يرزقني الطعام والشراب فهو الخالق الرازق الذي ساق المُزْن، وأنزل المطر، وأخرج به أنواع الثمرات رزقاً للعباد {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} أي وإِذا أصابني المرض فإِنه لا يقدر على شفائي أحدٌ غيره، وأسند الشفاء إلى الله رعايةً للأدب، وإلاّ فالمرض والشفاء من الله جل وعلا فاستعمل في كلامه حسن الأدب {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} أي وهو تعالى المحيي المميت لا يقدر على ذلك أحد سواه، يميتني إذا شاء ثم يحييني إذا أراد بعد مماتي {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} أي أرجو من واسع رحمته أن يغفر لي ذنبي يوم الحساب والجزاء حيث يُجازي العباد بأعمالهم، وفيه تعليم للأمة أن يستغفروا من ذنوبهم ويقرُّوا بخطاياهم.
إخلاص إبراهيم عليه السلام في دعائه
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}أي هب لي الفهم والعلم وألحقني في زمرة عبادك الصالحين {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} أي اجعل لي ذكراً حسناً وثناءً عاطراً {فِي الآخِرِينَ} أي فيمن يأتي بعدي إلى يوم القيامة، أُذكر به ويُقتدى بي قال ابن عباس: هو اجتماعُ الأمم عليه، فكلُّ أمةٍ تتمسك به وتُعظّمه {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} أي من السعداء في الآخرة الذين يستحقون ميراث جنات الخُلد {وَاغْفِرْ لأَبِي} أي اصفح عنه واهده إلى الإِيمان {إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ} أي ممن ضلَّ عن سبيل الهدى قال الصاوي: وقد أجابه الله تعالى في جميع دعواته سوى الدعاء بالغفران لأبيه وقال القرطبي: كان أبوه وعده أن يؤمن به فلذلك استغفر له، فلما بان له أنه لا يفي تبرأ منه {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} أي لا تُذلَّني ولا تُهِنِّي يومَ تبعث الخلائق للحساب، وهذا تواضعٌ منه أمام عظمة الله وجلاله وإلا فقد أثنى الله عليه بقوله {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} الآية {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} أي في ذلك اليوم العصيب لا ينفع أحداً فيه مالٌ ولا ولد {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ} أي إلا من جاء ربَّه في الآخرة {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي بقلب نقيٍّ طاهر، سليم من الشرك والنفاق، والحسد والبغضاء، وإِلى هنا تنتهي دعوات الخليل إبراهيم ثم قال تعالى.



صورة شاملة ليوم القيامة، وتخاصم المشركين فيما بينهم
{وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ(90)وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ(91)وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(92)مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ(93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ(94)وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ(95)قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ(96)تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(97)إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(98)وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ(99)فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ(100)وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ(101)فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَمِنَالْمُؤْمِنِينَ(102)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(103)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(104)}.
{وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي قُرِّبت الجنةُ للمتقين لربهم ليدخلوها قال الطبري: وهم الذين اتقوا عقابَ الله بطاعتهم إيّاه في الدنيا {وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} أي وأُظهرت النارُ للمجرمين الضالين حتى رأوها بارزة أمامهم مكشوفة للعيان، فالمؤمنين يرون الجنة فتحصل لهم البهجة والسرور، والغاوون يرون جهنم فتحصل لهم المساءة والأحزان {وَقِيلَ لَهُمْ} أي قيل للمجرمين على سبيل التقريع والتوبيخ {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي أين آلهتكم الذي عبدتموهم من الأصنام والأنداد ؟ {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} أي هل ينقذونكم من عذاب الله، أو يستطيعون أن يدفعوه عن أنفسهم؟ وهذا كله توبيخ {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} أي أُلقوا على رءوسهم في جهنم قال مجاهد: دُهوروا في جهنم وقال الطبري: رُمي بعضُهم على بعض، وطُرح بعضُهم على بعض منكبين على وجوههم {هُمْ وَالْغَاوُونَ} أي الأصنامُ والمشركون والعابدون والمعبودون كقوله {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} أي وأتباعُ إبليس قاطبة من الإِنس والجن {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} أي قال العابدون لمعبوديهم وهم في الجحيم يتنازعون ويتخاصمون {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي نقسم بالله لقد كنا في ضلالٍ واضح وبعدٍ عن الحق ظاهر {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي حين عبدناكم مع ربّ العالمين وجعلناكم مثله في استحقاق العبادة {وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ} أي وما أضلنا عن الهدى إلاّ الرؤساء والكبراء الذين زينوا لنا الكفر والمعاصي {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} أي ليس لنا من يشفع لنا من هول هذا اليوم {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} أي ولا صديقٍ خالص الود ينقذنا من عذاب الله {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي لو أن رجعنا إلى الدنيا {فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي فنؤمن بالله ونحسن عملنا ونطيع ربنا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إن فيما ذكر من نبأ إبراهيم وقومه لعبرةً يعتبر بها أولو الأبصار {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما كان أكثر هؤلاء المشركين الذين تدعوهم إلى الإِسلام بمؤمنين {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه.
قصة نوح عليه السلام مع قومه
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ(105)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ(106)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(107)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(108)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(109)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(110)قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ(111)قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(112)إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ(113)وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ(114)إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ(115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّمِنَالْمَرْجُومِينَ(116)قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ(117)فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيمِنَالْمُؤْمِنِينَ(118)فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(119)ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ(120)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(121)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(122)}.
المنَاسَبَة:
لما قصَّ تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم خبر موسى وإِبراهيم أتبعه بذكر قصة نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وكلُّ ذلك تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من قومه، وبيانٌ لسنة الله في عقاب المكذبين.
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} أي كذَّب قوم نوح رسولهم نوحاً، وإِنما قال {الْمُرْسَلِينَ} لأن من كذَّب رسولاً فقد كذب الرسل {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} أي أخوهم في النسب لا في الدين لأنه كان منهم قال الزمخشري: وهذا من قول العرب: يا أخا بني تميم يريدون واحداً منهم ومنه بيت الحماسة "لا يسألون أخاهم حين يندبهم" {أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون عقاب الله في عبادة الأصنام ؟ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي إني لكم ناصح، أمينٌ في نصحي لا أخون ولا أكذب {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي خافوا عذابالله وأطيعوا أمري {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي لا أطلب منكم جزاءً على نصحي لكم {إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي ما أطلب ثوابي وأجري إلا من الله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} كرره تأكيداً وتنبيهاً على أهمية الأمر الذي دعاهم إليه {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ} أي أنصدّقك يا نوح فيما تقول {وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} أي والحال أن أتباعك هم السفلة والفقراء والضعفاء ؟ قال البيضاوي: وهذا من سخافة عقلهم وقصور رأيهم، فقد قصروا الأمر على حطام الدنيا حتى جعلوا اتّباع الفقراء له مانعاً عن اتباعهم وإِيمانهم بدعوة نوح {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ليس عليَّ أن أبحث عن خفايا ضمائرهم، وأن أُنقّب عن أعمالهم هل اتبعوني إخلاصاً أو طمعاً؟ قال القرطبي: كأنهم قالوا: إِنما اتبعك هؤلاء الضعفاء طمعاً في العزة والمال فقال في جوابهم: إني لم أقف على باطن أمرهم وإِنما لي ظاهرهم {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} أي ما حسابهم وجزاؤهم إلا على الله فإِنه المطّلع على السرائر والضمائر لو تعلمون ذلك {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} أي لست بمبعد هؤلاء المؤمنين الضعفاء عني، ولا بطاردهم عن مجلسي قال أبو حيان: وهذا مشعرٌ بأنهم طلبوا منه ذلك كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد من آمن من الضعفاء {إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي ما أنا إلا نذير لكم من عذاب الله، أخوفكم بأسه وسطوته فمن أطاعني نجا سواءً كان شريفاً أو ضيعاً، أو جليلاً أو حقيراً {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ} أي لئن لم تنته عن دعوى الرسالة وتقبيح ما نحن عليه لتكوننَّ من المرجومين بالحجارة، خوفوه بالقتل بالحجارة فعند ذلك حصل اليأس لنوحٍ من فلاحهم فدعا عليهم {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} أي قال نوح يا رب إن قومي كذبوني ولم يؤمنوا بي {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} أي فاحكم بيني وبينهم بما تشاء، واقض بيننا بحكمك العادل {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي أنقذني والمؤمنين معي من مكرهم وكيدهم {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي فأنجينا نوحاً ومن معه من المؤمنين في السفينة المملوءة بالرجال والنساء والحيوان {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} أي أغرقنا بعد إنجائهم الباقين من قومه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي لعبرة عظيمة لمن تفكر وتدبَّر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما أكثر الناس بمؤمنين {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي وإِن ربك يا محمد لهو الغالب الذي لا يُقهر، الرحيم بالعباد حيث لا يعاجلهم بالعقوبة.
قصة هود عليه السلام
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ(123)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ(124)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(125)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(126)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(127)أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ(128)وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ(129)وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ(130)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(131)وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ(132)أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ(133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(134)إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(135)قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْمِنَالْوَاعِظِينَ(136)إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ(137)وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(138)فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(139)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(140)}.
ثم شرع تعالى في ذكر قصة "هود" فقال {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} أي كذبت قبيلة عاد رسولهم هوداً، ومن كذَّب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم لغيره ‍! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أي أمينٌ على الوحي ناصح لكم في الدين {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي فخافوا عذاب الله وأطيعوا أمري {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي لا أطلب منكم على تبليغ الدعوة شيئاً من المال إِنما أطلب أجري من الله، كررت الآيات للتنبيه إلى أنَّ دعوةَ الرسل واحدة {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} ؟ استفهامٌ إنكاري أي أتبنون بكل موضع مرتفع من الطريق بناءً شامخاً كالعَلَم لمجرد اللهو والعبث ؟ قال ابن كثير: الريعْ المكان المرتفع كانوا يبنون عند الطرق المشهورة بنياناً محكماً هائلاً باهراً لمجرد اللهو واللعب وإِظهار القوة، ولهذا أنكر عليهم نبيُهم عليه السلام ذلك لأنه تضييعٌ للزمان، وإِتعابٌ للأبدان، واشتغالُ بما لا يُجدي في الدنيا ولا في الآخرة {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي وتتخذون قصوراً مشيَّدة محكمة ترجون الخلود في الدنيا كأنكم لا تموتون ؟ {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} أي وإِذا اعتديتم على أحد فعلتم فعل الجبارين من البطش دون رأفةٍ أو رحمة، وإِنما أنكر عليهم ذلك لأنه صادر عن ظلم عادة الجبابرة المتسلطين قال الفخر الرازي: وصفهم بثلاثة أمور: اتخاذ الأبنية العالية وهو يدل على السرف وحب العلو، واتخاذ المصانع - القصور المشيَّدة والحصون - وهو يدل على حب البقاء والخلود، والجبارية وهي تدل على حب التفرد بالعلو، وكلُّ ذلك يشير على أن حبَّ الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه حتى خرجوا عن حد العبودية، وحاموا حول ادعاء الربوبية، وحبُّ الدنيا رأسُ كل خطيئة {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي خافوا الله واتركوا هذه الأفعال وأطيعوا أمري، ثم شرع يذكّرهم بنعم الله فقال {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} أي أنعم عليكم بأنواع النعم والخيرات {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي أعطاكم أصول الخيرات من المواشي، والبنين، والبساتين، والأنهار، وأغدق عليكم النعم فهو الذي يجب أن يُعْبد ويُشْكر ولا يُكفر {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي أخشى عليكم إن لم تشكروا هذه النعم وأشركتم وكفرتم عذاب يومٍ هائل تشيب لهوله الولدان .. دعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب، وبلغ في دعائهم بالوعظِ والتخويفِ النهاية القصوى في البيان فكان جوابهم {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ} أي يستوي عندنا تذكيرك لنا وعدُمه، فلا نبالي بما تقول، ولا نرعوي عمّا نحن عليه قال أبو حيان: جعلوا قوله وعْظاً على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوَّفهم به إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به، وأنه كاذبٌ فيما ادَّعاه {إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} أي ما هذا الذي جئتنا به إلا كذبُ وخرافاتُ الأولين {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} أي فكذبوا رسولهم هوداً فأهلكناهم بريحٍ صرصرٍ عاتية قال ابن كثير: وكان إهلاكهم بالريح الشديدة الهبوب، ذات البرد الشديد وهي الريح الصرصر العاتية، وكان سبب إهلاكهم من جنسهم، فإِنهم كانوا أعتى شيءٍ وأجبره، فسلَّط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشدَّ، فحصبت الريح كل شيء حتى كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه، وترفعه في الهواء ثم تنكّسه على أم رأسه، فتشدخ رأسه ودماغه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إن في إهلاكهم لعظة وعبرة {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} أي وما آمن أكثر الناس مع رؤيتهم للآيات الباهرة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي وإِن ربك يا محمد لهو العزيزُ في انتقامه من أعدائه، الرحيمُ بعبادة المؤمنين.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 01:32 AM

قصة صالح عليه السلام
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ(141)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ(142)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(143)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(144)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(145)أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ(146)فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(147)وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ(148)وَتَنْحِتُونَمِنَالْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ(149)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(150)وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ(151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ(152)قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَمِنَالْمُسَحَّرِينَ(153)مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَمِنَالصَّادِقِينَ(154)قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ(155)وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ(156)فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ(157)فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(158)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(159)}.
ثم شرع تعالى في ذكر قصة "صالح" فقال {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} أي كذبت قبيلة ثمود نبيَّهم "صالحاً" ومن كذَّب رسولاً فقد كذب جميع المرسلين {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} ؟ ألا تخافون عذاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره ! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} كررت الآيات للتنبيه على أن دعوة الرسل واحدة، فكل رسولٍ يذكِّر قومه بالغاية من بعثته ورسالته، وأنها لصالح البشر{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} أي أيترككم ربكم في هذه الدنيا آمنين، مخلَّدين في النعيم، كأنكم باقون في الدنيا بلا موت ؟ قال ابن عباس: كانوا معمَّرين لا يقى البنيان مع أعمارهم، قال القرطبي: ودل على هذا قولُه تعالى {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} فقرَّعهم صالح ووبَّخهم وقال: أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي في بساتين وأنهار جاريات {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} أي وسهولٍ فسيحة فيها من أنواع الزروع والنخيل والرطب اللين ؟ أتتركون في كل ذلك النعيم دون حساب ولا جزاء قال المفسرون: كانت أرض ثمود كثيرة البساتين والماء والنخل فذكَّرهم صالحٌ بنعم الله الجليلة من إنبات البساتين والجنات، وتفجير العيون الجاريات، وإِخراج الزروع والثمرات، ومعنى "الهضيم" اللطيف الدقيق وهو قول عكرمة، وقال ابن عباس معناه: اليانع النضيج {وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} أي وتبنون بيوتاً في الجبال أشرين بطرين من غير حاجةٍ لسكناها قال الرازي: وظاهر هذه الآيات يدل على أنَّ الغالب على قوم "هود" هو اللذاتُ الخيالية وهي الاستعلاء، والبقاء، والتجبر، والغالب على قوم "صالح" هو اللذاتُ الحسية وهي طلب المأكول، والمشروب، والمساكن الطيبة وقال الصاوي: كانت أعمارهم طويلة فإِن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم، لأن الواحد منهم كان يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي فاتقوا عقاب الله وأطيعوني في نصيحتي لكم {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} أي ولا تطيعوا أمر الكبراء المجرمين {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} أي الذين عادتهم الفساد في الأرض لا الإِصلاح قال الطبري: وهم الرهط التسعة الذين وصفهم الله بقوله {وكان في المدينة تسعةُ رهطٍ يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون} {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ} أي من المسحورين سُحرت حتى غُلب على عقلك قال المفسرون: والمُسحَّر مبالغةٌ من المسحور {مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي لستَ يا صالح إلا رجلاً مثلنا، فكيف تزعم أنك رسول الله ؟ {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي فائتنا بمعجزة تدل على صدقك {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ} أي هذه معجزتي إليكم وهي الناقة التي تخرج من الصخر الأصم بقدرة الله قال المفسرون: روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عُشراء - حامل - تخرج من صخرة معينة وتلد أمامهم، فقعد صالح عليه السلام يتفكر فجاءه جبريل فقال: صلِّ ركعتين وسلْ ربك الناقة ففعل، فخرجت الناقة وولدت أمامهم وبركت بين أيديهم فقال لهم هذه ناقة يا قوم {لَهَا شِرْبٌ وَلَكمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي تشرب ماءكم يوماً، ويوماً تشربون أنتم الماء قال قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كلَّه، وشربهُم في اليوم الذي لا تشرب هي فيه، وتلك آيةٌ أخرى {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} أي لا تنالوها بأيِّ ضرر بالعقر أو بالضرب {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي فيصيبكم عذاب من الله هائل لا يكاد يوصف قال ابن كثير: حذَّرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء، فمكثت الناقة بين أظهرهم حيناً من الدهر، تردُ الماء وتأكل الورق والمرعى، وينتفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شرباً وريَّاً، فلما طال عليهم الأمد وحضر أشقاهم تمالؤوا على قتلها وعقرها {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} أي فقتلوها رمياً بالسهام، رماها أشقاهم - قُدار بن سالف - بأمرهم ورضاهم فأصبحوا نادمين على قتلها خوف العذاب قال الفخر الرازي: لم يكن ندمهم ندم التائبين، لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} أي العذاب الموعود، وكان صيحةً خمدت لها أبدانهم، وانشقت لها قلوبهم، وزُلزلت الأرض تحتهم زلزالاً شديداً، وصُبَّت عليهم حجارة من السماء فماتوا عن آخرهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي لعظةً وعبرة لمن عقل وتدبَّر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدم تفسيرها فيما سبق.
قصة لوط عليه السلام
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ(160)إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ(161)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(162)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(163)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(164)أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَمِنَالْعَالَمِينَ(165)وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ(166)قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّمِنَالْمُخْرَجِينَ(167)قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْمِنَالْقَالِينَ(168)رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ(169)فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ(170)إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ(171)ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ(172)وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ(173)إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(174)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(175)}.
ثم شرع تعالى في ذكر قصة "لوط" فقال {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} أي كذبوا رسولهم لوطاً {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} أي ألا تخافون عقاب الله وانتقامه في عبادتكم غيره ! {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} نفسُ الكلمات والألفاظ التي قالها من قبلُ صالحٌ، وهودٌ، ونوح مما يؤكد أن دعوة الرسل واحدة، وغايتها واحدة، وأن منشأها هو الوحي السماوي، ثم قال لهم لوط {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ} استفهامُ إِنكارٍ وتوبيخٍ وتقريعٍ أي أَتنْكحون الذكور في أدبارهم، وتنفردون بهذا الفعل الشنيع من بين سائر الخلق ؟ {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} أي وتتركون ما أباح لكم ربكم من الاستمتاع بالإِناث؟ قال مجاهد: تركتم فروج النساء إلى أدبار الرجال {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أي بل أنتم قوم مجاوزون الحدَّ في الإِجرام والفساد، وبَّخهم على إتيانهم الذكور، ثم أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في التوبيخ كأنه يقول خرجتم عن حدود الإِنسانية إلى مرتبة البهيمية بعدوانكم وارتكابكم هذه الجريمة الشنيعة، فالذكر من الحيوان يأنف عن إتيان الذكر، وأنتم فعلتم ما يتورع عنه الحيوان {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ} أي لئن لم تترك تقبيح ما نحن عليه لنخرجنك من بين أظهرنا وننفيك من بلدنا كما فعلنا بمن قبلك، توعدوه بالنفي والطرد {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ} أي إني لعملكم القبيح من المبغضين غاية البغض وأنا بريء منكم {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} أي نجني من العذاب الذي يستحقونه بعملهم القبيح أنا وأهلي قال تعالى {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} أي نجيناه مع أهله جميعاً إلا امرأته كانت من الهالكين، الباقين في العذاب قال ابن كثير: والمراد بالعجوز امرأته فقد كانت عجوز سوء، بقيت فهلكت مع من بقي من قومها حين أمره الله أن يسريَ بأهله إلا امرأته {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} أي أهلكناهم أشد إهلاكٍ وأفظعه بالخسف والحَصْب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} أي أمطرنا عليهم حجارة من السماء كالمطر الزاخر {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} أي بئس هذا المطر مطر القوم المُنْذرين الذين أنذرهم نبيهم فكذبوه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} أي إنَّ في ذلك لعبرة وعظة لأولي البصائر {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} تقدم تفسيره.
قصة شعيب عليه السلام
{كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ(176)إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ(177)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(178)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(179)وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ(180)أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوامِنَالْمُخْسِرِينَ(181)وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ(182)وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(183)وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ(184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَمِنَالْمُسَحَّرِينَ(185)وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ(186)فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًامِنَالسَّمَاءِ إِنْ كُنْتَمِنَالصَّادِقِينَ(187)قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ(188)فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(189)إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(190)وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(191)}.
ثم شرع تعالى في ذكر قصة "شعيب" فقال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} أي كذَّب أصحاب مدين نبيهم شعيباً قال الطبري: والأيكةُ: الشجرُ الملتف وهم أهل مدين {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} سبق تفسيره {أَوْفُوا الْكَيْلَ} أي أوفوا الناس حقوقهم في الكيل والوزن {وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ} أي من المُنْقِصين المُطَفِّفين في المكيال والميزان {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} أي زنوا بالميزان العدل السويّ {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أي لا تثنقصوا حقوق الناس بأي طريق كان بالهضم أو الغبن أو الغصب ونحو ذلك {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي ولا تُفسدوا في الأرض بأنواع الفساد من قطع الطريق، والغارة، والسلب والنهب {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} أي خافوا الله الذي خلقكم وخلق الخليقة المتقدمين قال مجاهد: الجِبِلَّة: الخليقة ويعني بها الأمم السابقين {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ} أي ما أنت إلا من المسحورين، سُحِرت كثيراً حتى غُلب على عقلك {وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي أنت إنسانٌ مثلنا ولست برسول {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ} أي ما نظنك يا شعيب إلاّ كاذباً، تكذب علينا فتقول أنا رسول الله {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنْ السَّمَاءِ} أي أنزلْ علينا العذاب قِطَعاً من السماء، وهو مبالغة في التكذيب {إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي إن كنت صادقاً فيما تقول قال الرازي: وإِنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه، فظنوا أنه إذا لم يقع ظهرَ كذبه فعندها أجابهم شعيب {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي الله أعلم بأعمالكم، فإِن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به وهو غير ظالم لكم، وإن كنتم تستحقون عقاباً آخر فإِليه الحكم والمشيئة، قال تعالى {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} أي فكذبوا شعيباً فأخذهم ذلك العذاب الرهيب عذابُ يوم الظُلَّة وهي السحابة التي أظلتهم قال المفسرون: بعث الله عليهم حراً شديداً فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية، بعث الله عليهم سحابةً أظلَّتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً ونادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً، وكان ذلك من أعظم العذاب ولهذا قال {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي كان عذاب يوم هائل، عظيم في الشدة والهَول {إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} وإِلى هنا ينتهي آخر القصص السبع التي أوحيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لصرفه عن الحرص على إسلام قومه، وقطع رجائه ودفع تحسره عليهم كما قال في أول السورة {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ففيها تسلية لرسول الله وتخفيفٌ عن أحزانه وآلامه، وإنما كرر في نهاية كل قصة قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ *وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ليكون ذلك أبلغ في الاعتبار، وأشدَّ تنبيهاً لذوي القلوب والأبصار.



تنزيل القرآن من رب العالمين
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَمِنَالْمُنذِرِينَ(194)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ(196)أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ(197)وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ(198)فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ(199)كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(200)لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ(201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(202)فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ(203)أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ(204)أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ(205)ثُمَّ جَاءهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ(206)مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ(207)وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ(208)ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ(209)وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211)إِنَّهُمْعَنِالسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(212)}.
سبب النزول:
نزول الآية (205):
{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ... } أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال : "رئي النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه متحير، فسألوه عن ذلك، فقال: ولِمَ، ورأيت عدوي يكون من أمتي بعد ؟ فنزلت: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جَاءهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ* مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} فطابت نفسه".
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وإِن هذا القرآن المعجز لتنزيلُ ربّ الأرباب {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} أي نزل به أمين السماء جبريل عليه السلام {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ} أي أنزله على قلبك يا محمد لتحفظه وتُنذر بآياته المكذبين {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} أي بلسانٍ عربي فصيح هو لسان قريش، لئلا يبقى لهم عذر فيقولوا : ما فائدة كلامٍ لا نفهمه ؟ قال ابن كثير: أنزلناه باللسان العربي الفصيح، الكامل الشامل، ليكون بيناً واضحاً، قاطعاً للعذر مقيماً للحجة، دليلاً إلى المحجة {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} أي وإِن ذكر القرآن وخبره لموجودٌ في كتب الأنبياء السابقين {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً} الاستفهام للتوبيخ والتقريع أي أولم يكن لكفار مكة علامة على صحة القرآن {أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أن يعلم ذلك علماء بني إسرائيل الذين يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم كعبد الله بن سلام وأمثاله {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ} أي لو نزلنا هذا القرآن بنظمه الرائق المعجز على بعض الأعجمين الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} أي فقرأه على كفار مكة قراءة صحيحة فصيحة، وانضم إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء ما آمنوا بالقرآن لفرط عنادهم واستكبارهم {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} أي كذلك أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين، فسمعوا به وفهموه، وعرفوا فصاحته وبلاغته، وتحققوا من إعجازه ثم لم يؤمنوا به وجحدوه {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي لا يصدّقون بالقرآن مع ظهور إعجازه {حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} أي حتى يشاهدوا عذاب الله المؤلم فيؤمنوا حيث لا ينفع الإِيمان {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي فيأتيهم عذاب الله فجأة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي وهم لا يعلمون بمجيئه ولا يدرون {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} أي فيقولوا حين يفجأهم العذاب - تحسراً على ما فاتهم من الإِيمان وتمنياً للإِمهال - هل نحن مؤخرون لنؤمن ونصدّق {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} إِنكارٌ وتوبيخ أي كيف يستعجل العذاب هؤلاء المشركون ويقولون {ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}؟ وحاُلهم عند نزول العذاب أنهم يطلبون الإِمهال والنظرة؟ {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} أي أخبرني يا محمد إن متعناهم سنين طويلة، مع وفور الصحة ورغد العيش {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} أي ثم جاءهم العذاب الذي وُعدوا به {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}؟ أي ماذا ينفعهم حينئذٍ ما مضى من طول أعمارهم، وطيب معاشهم؟ هل ينفعهم ذلك النعيم في تخفيف الحزن، أو دفع العذاب؟ {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} أي وما أهلكنا أهل قرية من القرى، ولا أُمةً من الأمم {إِلا لَهَا مُنذِرُونَ} أي إلاّ بعدما ألزمناهم الحجة بإِرسال الرسل مبشرين ومنذرين {ذِكْرَى} أي ليكون إهلاكهم تذكرةً وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي وما كنا ظالمين في تعذيبهم، لأننا أقمنا الحجة عليهم وأعذرنا إليهم .. ثم إنه تعالى بعد أن نبّه على إعجاز القرآن وصدق نبوة محمد عليه السلام ردَّ على قول من زعم من الكفار أن القرآن من إلقاء الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة فقال {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} أي وما تنزَّلت بهذا القرآن الشياطين، بل نزل به الروح الأمين {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أي وما يصح ولا يستقيم أن يتنزل بهذا القرآن الشياطين، ولا يستطيعون ذلك أصلاً {إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} أي لأنهم منعوا من استراق السمع منذ بعث محمد عليه السلام، وحيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب، فكيف يستطيعون أن يتنزلوا به ؟ قال ابن كثير: ذكر تعالى أنه يمتنع ذلك عليهم من ثلاثة أوجه: أحدها أنه ما ينبغي لهم لأن سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، وهذا فيه نورٌ وهدى وبرهان عظيم، الثاني: أنه لو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك، وهذا من حفظ الله لكتابه وتأييده لشرعه الثالث: أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك لأنهم بمعزلٍ عن استماع القرآن، لأن السماء مُلئت حرساً شديداً وشهباً، فلم يخلص أحد من الشياطين لاستماع حرفٍ واحد منه لئلا يشتبه الأمر.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال: لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} بدأ بأهل بيته وفصيلته، فشقَّ ذلك على المسلمين فأنزل الله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}.
أدب الدعاة في الدعوة
{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره أي لا تعبد يا محمد مع الله معبوداً آخر {فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ} أي فيعذبك الله بنار جهنم قال ابن عباس: يُحذّر به غيره يقول: أنتَ أكرمُ الخلق عليَّ، ولو اتخذت من دوني إلهاً لعذبتك، ثم أمر تعالى رسوله بتبليغ الرسالة فقال {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} أي خوِّف أقاربك الأقرب منهم فالأقرب من عذاب الله إن لم يؤمنوا، روي أنه صلى الله عليه وسلم قام حين نزلت عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فقال: "يا معشر قريشٍ اشتروا أنفسكم من اللهِ لا أُغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباسُ بن عبدِ المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفيةُ عمةَ رسول الله لا أُغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمةُ بنتَ محمد سليني ما شئتِ لا أُغني عنك من الله شيئاً" قال المفسرون: وإِنما أُمر صلى الله عليه وسلم بإِنذار أقاربه أولاً لئلا يظن أحدٌ به المحاباة واللطف معهم فإِذا تشدَّد على نفسه وعلى أقاربه كان قوله أنفع، وكلامه أنجع {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي تواضعْ وأَلِنْ جانبك لأتباعك المؤمنين {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} أي فإِن لم يطيعوك وخالفوا أمرك فتبرأ منهم ومن أعمالهم قال أبو حيان: لما كان الإِنذار يترتب عليه الطاعة أو العصيان جاء التقسيم عليهما فكأن المعنى: من اتبعك مؤمناً فتواضع له، ومن عصاك فتبرأ منهم ومن أعمالهم {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي فوّض جميع أمورك إلى الله العزيز، الذي يقهر أعداءك بعزته، وينصرك عليهم برحمته {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي يراك حين تكون وحدك تقوم من فراشك أو مجلسك وقال ابن عباس: حين تقوم إلى الصلاة {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} أي ويرى تقلُّبك مع المصلين في الركوع والسجود والقيام، والمعنى يراك وحدك ويراك في الجماعة {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي إنه تعالى السميع لما تقوله، العليم بما تخفيه.
تنزُّل الشياطين على الكذبة الفَسقَة
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222)يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ(223)وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ(224)أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225)وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ(226)إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ(227)}.
سبب النزول:
نزول الآية (224) وما بعدها:
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ}: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه، وهم السفهاء، فأنزل الله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ} الآيات
وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ} إلى قوله: {مَا لا يَفْعَلُونَ} قال عبد الله بن رَواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} إلخ السورة.
وأخرج ابن جرير والحاكم عن أبي حسن البرّاد قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ} الآية، جاء عبد الله بن رواحة، كَعْب بن مالك، وحسان بن ثابت، فقالوا: يا رسول الله، والله لقد أنزل الله هذه الآية، وهو يعلم أنا شعراء، هلكنا، فأنزل الله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} الآية، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاها عليهم.
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} ؟ أي قل يا محمد لكفار مكة: هل أخبركم، على من تتنزَّل الشياطين؟ وهذا ردٌّ عليهم حين قالوا إنما يأتيه بالقرآن الشياطين {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} أي تتنزَّل على كل كذَّابٍ فاجر، مبالغٍ في الكذب والعدوان، لا على سيّد ولد عدنان {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} أي تُلقي الشياطين ما استرقوه من السمع إلى أوليائهم الكهنة، وأكثرهم يكذبون فيما يوحون به إليهم وفي الحديث (تلك الكلمةُ من الحقِّ يخطفها الجنيُّ فيقرقرها - أي يلقيها - في أُذن وليّه كقرقرة الدجاج، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة) قال الزمخشري: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} هم الشياطين كانوا قبل أن يُحجبوا بالرجم يسمّعون إلى الملأ الأعلى، فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب، ثم يوحون به إلى أوليائهم من الكهنة والمتنبئة {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} فيما يوحون به إليهم، لأنهم يُسمعونهم ما لم يسمعوا، ثم ردَّ تعالى على من زعم أن محمداً شاعر فقال {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} أي يتبعهم الضالون لا أهل البصيرة والرشاد {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} أي ألم تر أيها السامع العاقل أنهم يسلكون في المديح والهجاء كل طريق، يمدحون الشيء بعد أن ذمّوه، ويعظّمون الشخص بعد أن احتقروه قال الطبري: وهذا مثلٌ ضربه الله لهم في افتتانهم في الوجوه التي يُفتنون فيها بغير حق، فيمدحون بالباطل قوماً ويهجون آخرين {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} أي يكذبون فينسبون لأنفسهم ما لم يعملوه قال أبو حيان: أخبر تعالى عن الشعراء بالأحوال التي تخالف حال النبوة، إذْ أمرهُم كما ذُكر من اتّباع الغُواة لهم، وسلوكهم أفانين الكلام من مدح الشيء وذمّه، ونسبة ما لا يقع منهم إليهم، وهذا مخالف لحال النبوة فإِنها طريقة واحدة لا يتبعها إلا الراشدون، ثم استثنى تعالى فقال {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي صدقوا في إيمانهم وأخلصوا في أعمالهم {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} أي لم يشغلهم الشعرُ عن ذكر الله ولم يجعلوه همَّهم ودينهم {وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} أي هجوا المشركين دفاعاً عن الحق ونصرةً للإِسلام {وَسيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} وعيدٌ عام في كل ظالم، تتفتت له القلوب وتتصدع لهوله الأكباد أي وسيعلم الظالمون المعادون لدعوة الله ومعهم الشعراء الغاوون {أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}؟ أي أيَّ مرجع يرجعون إليه، وأي مصيرٍ يصيرون إليه؟ فإِنَّ مرجعهم إلى العقاب وهو شرُّ مرجع، ومصيرهم إلى النار وهو أقبح مصير.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 01:37 AM

سورة النمل
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة النمل من السور المكية التي تهتم بالحديث عن أصول العقيدة "التوحيد، والرسالة، والبعث" وهي إحدى سور ثلاث نزلت متتالية، ووضعت في المصحف متتالية وهي "الشعراء، والنمل، والقصص" ويكاد يكون منهاجها واحداً، في سلوك مسلك العظة والعبرة، عن طريق قصص الغابرين.
* تناولت السورة الكريمة القرآن العظيم، معجزة محمد الكبرى، وحجته البالغة إلى يوم الدين، فوضحت أنه تنزيل من حكيم عليم، ثم تحدثت عن قصص الأنبياء بإيجاز في البعض، وإسهابٍ في البعض، فذكرت بالإجمال قصة "موسى" وقصة "صالح" وقصة "لوط" وما نال أقوامهم من العذاب والنكال، بسبب إعراضهم عن دعوة الله، وتكذيبهم لرسله الكرام.
* وتحدثت بالتفصيل عن قصة "داود" وولده "سليمان" وما أنعم الله عليهما من النعم الجليلة، وما خصهما به من الفضل الكبير بالجمع بين النبوة والمُلْك الواسع، ثم ذكرت قصة "سليمان مع بلقيس" ملكة سبأ.
* وفي هذه القصة مغزى دقيق لأصحاب الجاه والسلطان، والعظماء والملوك، فقد اتخذ سليمان المُلْك وسيلةً للدعوة إلى الله، فلم يترك حاكماً جائراً ولا ملكاً كافراً إلا دعاه إلى الله، وهكذا كان شأنه مع "بلقيس" حتى تركت عبادة الأوثان، وأتت مع جندها خاضعةً مسلمةً، مستجيبةً لدعوة الرحمن.
* وتناولت السورة الكريمة الدلائل والبراهين على وجود الله ووحدانيته، من آثار مخلوقاته وبدائع صنعه، وساقت بعض الأهوال والمشاهد الرهيبة، التي يراها الناس يوم الحشر الأكبر، حيث يفزعون ويرهبون، وينقسمون إلى قسمين: السعداء الأبرار، والذين يكبون على وجوههم في النار.
التسميَة:
سميت سورة النمل، لأن الله تعالى ذكر فيها قصة النملة، التي وعظت بني جنسها وذكَّرت ثم اعتذرت عن سليمان وجنوده، ففهم نبيُّ الله كلامها وتبسم من قولها، وشكر الله على ما منحه من الفضل والإنعام، وفي ذلك أعظم الدلالة على علم الحيوان، وأنَّ ذلك من إلهام الواحد الديان.
القرآن هداية للمؤمنين
{طس}الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن وقد تقدم الكلام عليها {تِلْكَءاياتُ الْقُرْآنِ} أي هذه الآيات المنزَّلة عليك يا محمد هي ءاياتُ القرآن المعجز في بيانه، الساطع في برهانه {وَكِتَابٍ مُبِينٍ}أي وآياتُ كتابٍ واضحٍ مبين لمن تفكر فيه وتدبَّر، أبان اللهُ فيه الأحكام، وهدى به الأنام {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي تلك ءايات القرآن الهادي للمؤمنين إلى صراطٍ مستقيم، والمبشر لهم بجنات النعيم، خصَّ المؤمنين بالذكر لانتفاعهم به {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} أي يؤدونها على الوجه الأكمل بخشوعها، وآدابها، وأركانها {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي يدفعون زكاة أموالهم طيبةً بها نفوسهم {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أي يصدقون بالآخرة تصديقاً جازماً لا يخالجه شك أو ارتياب قال الإمام الفخر الرازي: والجملة إعتراضية كأنه قيل وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة، فما يوقن بالآخرة حقَّ الإيقان إلاّ هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق وقال أبو حيان: ولما كان {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} مما يتجدَّد ولا يستغرق الأزمان جاءت الصلة فعلاً، ولما كان الإيمان بالآخرة بما هو ثابت ومستقر جاءت الجملة اسمية وأُكدت بتكرار الضمير {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وجاء خبر المبتدأ فعلاً ليدل على الديمومة، ولما ذكر تعالى المؤمنين الموقنين بالبعث، ذكر بعدها المنكرين المكذبين بالآخرة فقال {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي لا يصدّقون بالبعث {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} أي زينا لهم أعمالهم القبيحة حتى رأوها حسنة قال الرازي: والمراد من التزيين هو أن يخلق في قلبه العلم بما فيها من المنافع واللذات، ولا يخلق في قلبه العلم بما فيها من المضار والآفات {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} أي فهم في ضلال أعمالهم القبيحة يترددون حيارى لا يميزون بين الحسن والقبيح {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} أي لهم أشد العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والتشريد {وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ} أي وخسارتهم في الآخرة أشد من خسارتهم في الدنيا لمصيرهم إلى النار المؤبدة والجحيم والأغلال {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} أي وإنك يا محمد لتتلقى هذا القرآن العظيم وتُعطاه {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أي من عند الله الحكيم بتدبير خلقه، العليم بما فيه صلاحهم وسعادتهم قال الزمخشري: وهذه الآية بسطٌ وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص، وما في ذلك من لطائف حكمته، ودقائق علمه.
قصة موسى عليه السلام
{إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(7)فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(8)يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(9)وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ(10)إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ(11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ ءاياتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(12)فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ ءاياتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ(13)وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(14)}.
{إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} أي اذكر يا محمد حين قال موسى لأهله - أي زوجته - إني أبصرتُ ورأيت ناراً قال المفسرون: وهذا عندما سار من مدين إلى مصر، وكان في ليلة مظلمة باردة، وقد ضلَّ عن الطريق وأخذ زوجته الطَّلقُ {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} أي سآتيكم بخبرٍ عن الطريق إذا وصلتُ إليها {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} أي أو آتيكم بشعلةٍ مقتبسة من النار {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي لكي تستدفئوا بها {فَلَمَّا جَاءَهَا} أي فلما وصل إلى مكان النار رأى منظراً هائلاً عظيماً، حيث رأى النار تضطرم في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا توقداً، ولا تزداد الشجرةُ إلا خضرةً ونُضْرة، ثم رفع رأسه فإِذا نورها متصلٌ بعنان السماء قال ابن عباس: لم تكن ناراً وإِنما كانت نوراً يتوهج فوقف موسى متعجباً ممّا رأى وجاءه النداء العلوي {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} أي نودي من جانب الطور بأن بوركتَ يا موسى وبورك من حولك من الملائكة قال ابن عباس: معنى {بُورِكَ} تقدَّس {وَمَنْ حَوْلَهَا} الملائكةُ قال أبو حيان: وبدؤه بالنداء تبشيرٌ لموسى وتأنيسٌ له ومقدمةٌ لمناجاته، وجديرٌ أن يبارك من في النار ومن حواليها إذ قد حدث أمرٌ عظيم وهو تكليم الله لموسى وتنبيئه {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي تقدَّس وتنزَّه ربُّ العزة، العليُّ الشأن، الذي لا يشبهه شيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي أنا الله القويُّ القادر، العزيز الذي لا يُقهر، الحكيم الذي يفعل كل شيء بحكمةٍ وتدبير{وَأَلْقِ عَصَاكَ} عطفٌ على السابق أي ونودي أن ألق عصاك لترى معجزتك بنفسك فتأنس بها {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} أي فلما رآها تتحرك حركة سريعة كأنها ثعبان خفيف سريع الجري {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي ولّى الأدبار منهزماً ولم يرجع لما دهاه من الخوف والفزع قال مجاهد: "لم يُعقب" لم يرجع، وقال قتادة: لم يلتفت، لحقه ما لحق طبع البشر إذا رأى أمراً هائلاً جداً وهو انقلاب العصا حيةً تسعى ولهذا ناداه ربه {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} أي أقبل ولا تخف لأنك بحضرتي ومن كان فيها فهو آمنٌ {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} أي فأنت رسولي ورسلي الذين اصطفيتهم للنبوة لا يخافون غيري قال ابن الجوزي: نبَّهه على أن من آمنَه الله بالنبوة من عذابه لا ينبغي أن يخاف من حيَّة {إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} الاستثناء منقطع أي لكنْ من ظلم من سائر الناس لا من المرسلين فإِنه يخاف إلا إذا تاب وبدَّل عمله السيء إلى العمل الحسن {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة قال ابن كثير: وفيه بشارة عظيمةٌ للبشر وذلك أن من كان على عمل سيء، ثم أقلع ورجع وتاب وأناب فإِن الله يتوب عليه كقوله {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} هذه معجزةٌ أُخرى لموسى تدل على باهر قدرة الله والمعنى أدخل يا موسى يدك في فتحة ثوبك ثم أخرجها تخرج مضيئة ساطعة بيضاء تتلألأ كالبرق الخاطف دون مرضٍ أو برص {فِي تِسْعِءاياتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} أي هاتان المعجزتان "العصا واليد" ضمن تسعِ معجزاتٍ أيدتك بها وجعلتُها برهاناً على صدقك لتذهب بها إلى فرعون وقومه {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعتنا، ممعنين في الكفر والضلال {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْءاياتُنَا مُبْصِرَةً} أي فلما رأوا تلك المعجزات الباهرة، واضحةً بينةً ظاهرة {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي أنكروها وزعموا أنها سحرٌ واضح {وَجَحَدُوا بِهَا} أي كفروا وكذبوا بتلك الخوارق {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} أي وقد أيقنوا بقلوبهم أنها من عند الله وليست من قبيل السحر {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} أي جحدوا بها ظلماً من أنفسهم، واستكباراً عن اتباع الحق، وأيُّ ظلمٍ أفحش ممن يعتقد ويستيقن أنها ءايات بينة واضحة جاءت من عند الله، ثم يكابر بتسميتها سحراً؟ ولهذا قال {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} أي انظر أيها السامع وتدبر بعين الفكر والبصيرة ماذا كان مآلُ أمر الطاغين، من الإِغراق في الدنيا، والإِحراق في الآخرة ؟ قال ابن كثير: وفحوى الخطاب كأنه يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد، الجاحدون لما جاء به من ربه، أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى، فإِن محمداً صلى الله عليه وسلم أشرفُ وأعظمُ من موسى، وبرهانُه أدلُّ وأقوى من برهان موسى، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.



قصة داود وسليمان عليهما السلام
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ(15)وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ(16)وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ(17)حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(18)فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19)}.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} هذه هي القصة الثانية في السورة الكريمة وهي قصة "داود وسليمان"، والمعنى: واللهِ لقد أعطينا داود وابنه سليمان علماً واسعاً من علوم الدنيا والدين، وجمعنا لهما بين سعادة الدنيا والآخرة قال الطبري: وذلك علم كلام الطير والدواب وغير ذلك مما خصَّهم الله بعلمه {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} أي وقالا شكراً لله الحمد الله الذي فضلنا بما آتانا من النبوة، والعلم، وتسخير الإِنس والجن والشياطين، على كثيرٍ من عباده المؤمنين {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} أي ورث سليمانُ أباه في النبوة، والعلم، والمُلْك دون سائر أولاده قال الكلبي: كان لداود تسعة عشر ولداً فورث سليمانُ من بينهم نبوته وملكه، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} أي وقال تحدثاً بنعمة الله: يا أيها الناسُ لقد أكرمنا اللهُ فعلِّمنا منطق الطير وأصوات جميع الحيوانات {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي وأعطانا الله من كل شيء من خيرات الدنيا يعطاها العظماء والملوك {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} أي إن ما أُعطيناه وما خصَّنا الله به من أنواع النعم لهو الفضل الواضح الجلي، قاله على سبيل الشكر والمحمدة لا على سبيل العلوّ والكبرياء {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُمِنَالْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ} أي جمعت له جيوشه وعساكره وأُحضرت له في مسيرةٍ كبيرة فيها طوائف الجن والإِنس والطير، يتقدمهم سليمان في أُبَّهة وعظمةٍ كبيرة {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي فهم يُكَفُّون ويمنعون عن التقدم بين يديه قال ابن عباس: جعل على كل صنفٍ من يردُّ أولاها على أُخراها لئلا يتقدموا في المسير كما تصنع الملوك {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ} أي حتى إذا وصلوا إلى وادٍ بالشام كثير النمل {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} أي قالت إحدى النملات لرفيقاتها ادخلوا بيوتكم، خاطبتهم مخاطبة العقلاء لأنها أمرتهم بما يؤمر به العقلاء {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} أي لا يكسرنَّكم سليمانُ وجيوشه بأقدامهم {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي وهم لا يشعرون بكم ولا يريدون حطمكم عن عمد، حذَّرت ثم اعتذرت لأنها علمت أنه نبيٌّ رحيم، فسمع سليمان كلامها وفهم مرامها {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} أي فتبسَّم سروراً بما سمع من ثناء النملة عليه وعلى جنوده، فإِن قولها {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} وصفٌ لهم بالتقوى والتحفظ من مضرة الحيوان {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} أي ألهمني ووفقني لشكر نعمائك وأفضالك التي أنعمت بها عليَّ وعلى أبويَّ {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} أي ووفقني لعمل الخير الذي يقربني منك والذي تحبه وترضاه {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} أي وأدخلني الجنة دار الرحمة مع عبادك الصالحين.
قصة سليمان عليه السلام مع الهدهد
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ(20)لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لاذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(21)فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ(22)إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ(23)وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ(24)أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ(25)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(26)قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(27) اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ(28)}.
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} أي بحث سليمان وفتَّش عن جماعة الطير {فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ} أي لا أرى الهُدهد ههنا ؟ قال المفسرون: كانت الطير تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها، فلما فصل سليمان عن وادي النمل ونزل في قفرٍ من الأرض، عطش الجيش فسألوه الماء، وكان الهدهد يدله على الماء فإِذا قال: ههنا الماء شقت الشياطين وفجَّرت العيون، فطلبه في ذلك اليوم فلم يجده فقال مالي لا أراه {أَمْ كَانَمِنَالْغَائِبِينَ} أمْ منقطعة بمعنى "بل" أي بل هو غائب، ذهب دون إذنٍ مني {لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي لأعاقبنه عقاباً أليماً بالسجن أو نتف الريش أو الذبح أو ليأتيني بحجة واضحة تبيّن عذره {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي فأقام الهدهد زماناً يسيراً ثم جاء إلى سليمان {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} أي اطلعت على ما لم تطّلع عليه وعرفت ما لم تعرفه {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} أي وأتيتُكَ من مدينة سبأ - باليمن - بخبرٍ هامٍ، وأمر صادقٍ خطير {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} أي من عجائب ما رأيت أن امرأة - تسمى بلقيس - هي ملكة لهم، وهم يدينون بالطاعة لها {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي وأُعطيت من كل شيء من الأشياء التي يحتاج إليها الملوك من أسباب الدنيا من سعة المال وكثرة الرجال ووفرة السلاح والعتاد {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي ولها سرير كبير مكلَّل بالدر والياقوت قال قتادة: كان عرشُها من ذهب، قوائمُه من جوهر، مكلَّل باللؤلؤ قال الطبري: وعنى بالعظيم في هذا الموضع العظيم في قدره وخطره، لا عظمه في الكبر والسعة، ولهذا قال ابن عباس: {عَرْشٌ عَظِيمٌ} أي سرير كريم حسن الصنعة، وعرشُها سريرٌ من ذهب قوائمُه من جوهرٍ ولؤلؤ، ثم أخذ يحدثه عما هو أعظم وأخطر فقال {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي وجدتهم جميعاً مجوساً يعبدون الشمس ويتركون عبادة الواحد الأحد {وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي حسَّن لهم إبليس عبادتهم الشمس وسجودهم لها من دون الله {فَصَدَّهُمْعَنِالسَّبِيلِ} أي منعهم بسبب هذا الضلال عن طريق الحق والصواب {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} أي فهم بسبب إغواء الشيطان لا يهتدون إلى الله وتوحيده، ثم قال الهدهد متعجباً {أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي أيسجدون للشمس ولا يسجدون للهِ الخالق العظيم، الذي يعلم الخفايا ويعلم كل مخبوء في العالم العلوي والسفلي؟ قال ابن عباس: يعلم كل خبيئةٍ في السماء والأرض {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} أي ويعلم السرَّ والعلن، ما ظهر وما بطن {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} أي هو تعالى المتفرد بالعظمة والجلال، ربُّ العرش الكريم المستحق للعبادة والسجود، وخصَّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات، وإِلى هنا انتهى كلام الهُدهد {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَمِنَالْكَاذِبِينَ} أي قال سليمان: سننظر في قولك ونتثبت هل أنت صادقٌ أم كاذب فيه ؟ قال ابن الجوزي: وإِنما شكَّ في خبره لأنه أنكر أن يكون لغيره سلطان، ثم كتب كتاباً وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهُدهد وقال {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} أي اذهب بهذا الكتاب وأوصلْه إلى ملكة سبأ وجندها {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي تنحَّ إلى مكان قريب مستتراً عنهم {فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} أي فانظر ماذا يردون من الجواب ؟ قال المفسرون: أخذ الهدهد الكتاب وذهب إلى بلقيس وقومها، فرفرف فوق رأسها ثم ألقى الكتاب في حجرها.
جواب بلقيس على كتاب سليمان عليه السلام
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلؤا إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ(29)إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ(30)أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ(31)قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلا أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ(32)قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ(33)قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ(34)وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ(35)فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ(36)ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ(37)}.
{قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلا إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} أي قالت لأشراف قومها إنه أتاني كتاب عظيم جليل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} أي إن هذا الكتاب مرسل من سليمان ثم فتحته فإِذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم وهو استفتاح شريفٌ بارع فيه إعلان الربوبية لله ثم الدعوة إلى توحيد الله والانقياد لأمره {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي لا تتكبروا عليَّ كما يفعل الملوك وجيئوني مؤمنين قال ابن عباس: أي موحدين، وقال سفيان: طائعين {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} أي أشيروا عليَّ في الأمر {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} أي ما كنتُ لأقضي أمراً بدون حضوركم ومشورتكم {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي نحن أصحابُ كثرةٍ في الرجال والعتاد، وأصحابُ شدةٍ في الحرب {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}؟ أي وأمرنا إليكِ فمرينا بما شئتِ نمتثل أمرك، وقولهم هذا دليلٌ على الطاعة المفرطة قال القرطبي: أخذتْ في حسن الأدب مع قومها ومشاورتهم في أمرها في كل ما يعرض لها، فراجعها الملأ بما يُقر عينها من إعلامهم إياها بالقوة والبأس، ثم سلّموا الأمر إلى نظرها، وهذه محاورة حسنة من الجميع قال الحسن البصري: فوَّضوا أمرهم إلى عِجلةٍ يضطرب ثدياها، فلما قالوا لها ما قالوا كانت هي أحزم منهم رأياً وأعلم {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} أي إن عادة الملوك أنهم إذا استولوا على بلدةٍ عنوةً وقهراً خربوها {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} أي أهانوا أشرافها وأذلوهم بالقتل والأسر والتشريد {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أي وهذه عادتهم وطريقتهم في كل بلدٍ يدخلونها قهراً، ثم عدلت إلى المهادنة والمسالمة فقالت {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} أي وإِني سأبعث إليه بهدية عظيمة تليقُ بمثله، فأنظر هل يقبلها أم يردُّها؟ قال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها !! علمتْ أن الهدية تقع موقعاً من الناس، وقال ابن عباس: قالت لقومها إن قبلَ الهدية فهو ملك يريد الدنيا فقاتلوه، وإِن لم يقبلها فهو نبيٌ صادق فاتبعوه {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ} ؟ أي فلما جاء رسل بلقيس إلى سليمان بالهدية العظيمة قال منكراً عليهم: أتصانعونني بالمال والهدايا لأترككم على كفركم وملككم ؟ {فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ } أي فما أعطاني الله من النبوة والمُلك الواسع خيرٌ مما أعطاكم من زينة الحياة فلا حاجة لي بهديتكم {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} أي أنتم تفرحون بالهدايا لأنكم أهل مفاخرةٍ ومكاثرة في الدنيا، ثم قال لرئيس الوفد {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي ارجع إليهم بهديتهم فواللهِ لنأتينَّهم بجنودٍ لا طاقة لهم بمقابلتها، ولا قدرة لهم على قتالها {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي ولنخرجنهم من أرضهم ومملكتهم أذلاء حقيرين إن لم يأتوني مسلمين قال ابن عباس: لما رجعت رسلُ بلقيس إليها من عند سليمان وأخبروها الخبر قالت قد عرفت ما هذا بملك، وما لنا به من طاقة، وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك ثم ارتحلت إلى سليمان في اثني عشر ألف قائد.



إسلام بلقيس وزيارتها لسليمان عليه السلام
{قَالَ يَا أَيُّهَا المَلؤا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ(38)قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ(39)قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ(40)قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ(41)فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ(42)وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ(43)قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(44)}.
{قَالَ يَا أَيُّهَا المَلؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}؟ أي قال سليمان لأشراف من حضره من جنده: أيكم يأتيني بسريرها المرصَّع بالجواهر قبل أن تصل إليَّ مع قومها مسلمين؟ قال البيضاوي: أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله به من العجائب، الدالة على عظيم القدرة، وصدقه في دعوى النبوة، ويختبر عقلها بأن ينكّر عرشها فينظر أتعرفه أم تنكره؟ {قَالَ عِفْريتٌمِنَالْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} أي قال ماردٌ من مردة الجنِّ: أنا أحضره إليك قبل أن تقوم من مجلس الحكم - وكان يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم - وغرضُه أنه يأتيه به في أقل من نصف نهار {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} أي وإِني على حمله لقادرٌ، وأمينٌ على ما فيه من الجواهر والدُّر وغير ذلك {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌمِنَالْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قال المفسرون: هو "أصف بن برخيا" كان من الصِّديقين يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وهو الذي أتى بعرش بلقيس وقال لسليمان: أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك أي آتيك به بلمح البصر فدعا الله فحضر العرشُ حالاً {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} أي فلما نظر سليمان ورأى العرش - السرير - حاضراً لديه قال: هذا من فضل الله عليَّ، وإِحسانه إليَّ {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} ؟ أي ليختبرني أأشكر إنعامه، أم أجحد فضله وإِحسانه ؟ {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} أي ومن شكر فمنفعة الشكر لنفسه، لأنه يستزيد من فضل الله {لئن شكرتم لأزيدنكم}{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} أي ومن لم يشكر وجحد فضل الله فإن الله مستغنٍ عنه وعن شكره، كريمٌ بالإِنعام على من كفر نعمته ... ولما قرُب وصولُ ملكة سبأ إلى بلاده أمر بأن تُغيَّر بعضُ معالم عرشها امتحاناً لها {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} أي غيّروا بعض أوصافه وهيئته كما يتنكر الإِنسان حتى لا يُعرف {نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُمِنَالَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} أي لننظر إذا رأته هل تهتدي إلى أنه عرشها وتعرفه أم لا ؟ أراد بذلك اختبار ذكائها وعقلها {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ}؟ أي أمثل هذا العرش الذي رأيتيه عرشك؟ ولم يقل: أهذا عرشك؟ لئلا يكون تلقيناً لها {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} أي يشبهه ويقاربه ولم تقل: نعم هو، ولا ليس هو قال ابن كثير: وهذا غاية في الذكاء والحزم {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} هذا من قول سليمان أي قال سليمان تحدثاً بنعمة الله: لقد أوتينا العلم من قبل هذه المرأة بالله وبقدرته وكنا مسلمين لله من قبلها، فنحن أسبقُ منها علماً وإِسلاماً {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي منعها عن الإِيمان بالله عبادتُها القديمة للشمس والقمر {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} أي بسبب كفرها ونشوئها بين قوم مشركين {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} أي ادخلي القصر العظيم الفخم {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} أي فلما رأت ذلك الصرح الشامخ ظنته لجة ماء - أي ماءً غمراً كثيراً - وكشفت عن ساقيها لتخوض فيها {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} أي قال سليمان: إنه قصر مملَّس من الزجاج الصافي {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} أي قالت بلقيس حينئذٍ: ربّ إني ظلمت نفسي بالشرك وعبادة الشمس {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وتابعتُ سليمان على دينه فدخلت في الإِسلام مؤمنةً برب العالمين، قال ابن كثير: والغرضُ أن سليمان عليه السلام اتخذ قصراً عظيماً منيفاً من زجاج لهذه الملكة، ليريها عظمة سلطانه وتمكنه، فلما رأت ما آتاه الله وجلالة ما هو فيه وتبصرت في أمره، انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبيٌ كريم، وملِكٌ عظيم، وأسلمت لله عز وجل.



قصة صالح عليه السلام
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ(45)قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(46)قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ(47)وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ(48)قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(49)وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(50)فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ(51)فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(52)وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(53)}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ} اللام جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم - في النسب لا في الدين - صالحاً عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} أي فإِذا هم جماعتان: مؤمنون وكافرون يتنازعون في شأن الدين قال مجاهد: "فريقان: مؤمنٌ، وكافر" واختصامُهم: اختلافهم وجدالهم في الدين، وجاء الفعل بالجمع {يَخْتَصِمُونَ} حملاً على المعنى {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} أي قال لهم صالح بطريق التلطف والرفق: يا قومِ لم تطلبون العذاب قبل الرحمة ؟ ولأي شيء تستعجلون بالعذاب ولا تطلبون الرحمة ؟ {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي هلاّ تتوبون إلى الله من الشرك لكي يتوب الله عليكم ويرحمكم؟ قال المفسرون: كان الكفار يقولون لفرط الإِنكار: يا صالح ائتنا بعذاب الله فقال لهم: هلاّ تستغفرون الله قبل نزول العذاب، فإِن استعجال الخير أولى من استعجال الشر!! {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} أي تشاءمنا بك يا صالح وبأتباعك المؤمنين فإِنكم سبب ما حلَّ بنا من بلاء، وكانوا قد أصابهم القحط وجاعوا {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} أي حظكم في الحقيقة من خيرٍ أو شر هو عند الله وبقضائه، إن شاء رزقكم وإِن شاء حرمكم .. لمّا لاطفهم في الخطاب أغلظوا له في الجواب وقالوا تشاءَمنا بك وبمن معك، فأخبرهم أن شؤمهم بسبب عملهم لا بسبب صالح والمؤمنين {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} أي بل الحقيقةُ أنكم جماعة يفتنكم الشيطان بوسوسته وإِغوائه ولذلك تقولون ما تقولون {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} أي وكان في مدينة صالح - وهي الحِجْر - تسعةُ رجالٍ من أبناء أشرافهم قال الضحاك: كان هؤلاء التسعة عظماء أهل المدينة {يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} أي شأنهم الإِفساد، وإِيذاء العباد بكل طريق ووسيلة قال ابن عباس: وهم الذين عقروا الناقة {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ} أي قال بعضُهم لبعض: احلفوا باللهِ {لَنُبَيِّتَنهُ وَأَهْلَهُ} أي لنقتلنَّ صالحاً وأهله ليلاً {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي ثم نقول لوليّ دمه ما حضرنا مكان هلاكه ولا عرفنا قاتله ولا قاتل أهله {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي ونحلف لهم إنا لصادقون قال ابن عباس: أتوا دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة فقتلتهم قال تعالى {وَمَكَرُوا مَكْرًا} أي دبَّروا مكيدةً لقتل صالح {وَمَكَرْنَا مَكْرًا} أي جازيناهم على مكرهم بتعجيل هلاكهم، سمَّاه مكراً بطريق المشاكلة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي من حيث لا يدرون ولا يعلمون قال أبو حيان: ومكرُهم ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله، ومكرُ الله إهلاكُهم من حيث لا يشعرون {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} أي فتأملْ وتفكرْ في عاقبة أمرهم ونتيجة كيدهم، كيف أنَّا أهلكناهم أجمعين وكان مآلهم الخراب والدمار ! {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} أي فتلك مساكنهم ودورهم خاليةً بسبب ظلمهم وكفرهم لآن أهلها هلكوا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي إن في هذا التدمير العجيب لعبرة عظيمة لقوم يعلمون قدرة الله فيتعظون {وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أي وأنجينا من العذاب المؤمنين المتقين الذين آمنوا مع صالح.



قصة لوط عليه السلام
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ(54)أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(55)فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ(56)فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ(57)وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ(58)}.
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} أي واذكر رسولنا "لوطاً" حين قال لقومه أهل سدوم {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} أي أتفعلون الفعلة القبيحة الشنيعة وهي اللواطة {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أي أنتم تعلمون علماً يقيناً أنها فاحشة وأنها عملٌ قبيح؟ {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} تكريرٌ للتوبيخ أي أئنكم أيها القوم لفرط سفهكم تشتهون الرجال وتتركون النساء؟ ويكتفي الرجال بالرجال بطريق الفاحشة القبيحة {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أي بل أنتم قوم سفهاء ما جنون ولذلك تفضلون العمل الشنيع على ما أباح الله لكم من النساء {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} أي فما كان جواب أولئك المجرمين إلا أن قالوا أخرجوا لوطاً وأهله من بلدتكم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي إنهم قوم يتنزهون عن القاذورات ويعدّون فعلنا قذراً، وهو تعليلٌ لوجوب الطرد والإخراج قال قتادة: عابوهم والله بغير؟ بأنهم يتطهرون من أعمال السوء وقال ابن عباس هو استهزاء يستهزئون بهم بأنهم يتطهرون عن أدبار الرجال {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ} أي فخلصناه هو وأهله من العذاب الواقع بالقوم إلا زوجته {قَدَّرْنَاهَامِنَالْغَابِرِينَ} أي جعلناها بقضائنا وتقديرنا من المهلكين، الباقين في العذاب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} أي أنزلنا عليهم حجارة من السماء كالمطر فأهلكتْهُم {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} أي بئس هذا العذاب الذي أُمطروا به وهو الحجارة من سجيلٍ منضود.
دلائل القدرة والوحدانية
{قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ(59)أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(60)أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ(61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ(62)أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(63)أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(64)}.
ولما ذكر تعالى قصص الأنبياء أتبعه بذكر دلائل القدرة والوحدانية فقال {قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} أي قل يا محمد الحمدُ للهِ على أفضاله وإنعامه، وسلامٌ على عباده المرسلين الذين اصطفاهم لرسالته،واختارهم لتبليغ دعوته قال الزمخشري: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الدالة على وحدانيته، الناطقة بالبراهين على قدرته وحكمته، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه، وفيه تعليمٌ حسن، وتوقيفٌ على أدبٍ جميل، وهو حمد الله والصلاة على رسله، ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابراً عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله وصلوا على رسوله أمام كل علم، وقبل كل عظة وتذكرة {ءآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} تبكيتٌ للمشركين وتهكمٌ بهم أي هل الخالق المبدع الحكيم خيرٌ أم الأصنام التي عبدوها وهي لا تسمع ولا تستجيب ؟ {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} برهان آخر على وحدانية الله أي أمَّن أبدع الكائنات فخلق تلك السماواتِ في ارتفاعها وصفائها، وجعل فيها الكواكب المنيرة، وخلق الأرض وما فيها من الجبال والسهول والأنهار والبحار، خيرٌ أمّا يشركون ؟ {وَأَنزَلَ لَكُمْمِنَالسَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي وأنزل لكم بقدرته المطر من السحاب فأخرج به الحدائق والبساتين، ذات الجمال والخضرة والنضرة، والمنظر الحسنِ البهيج {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} أي ما كان للبشر ولا يتهيأ لهم، وليس بمقدورهم ومستطاعهم أن يُنبتوا شجرها فضلاً عن ثمرها {أَءلَهُ مَعَ اللَّهِ} استفهام إنكار أي هل معه معبود سواه حتى تسوّوا بينهما وهو المتفرد بالخلق والتكوين؟ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي بل هم قوم يشركون بالله فيجعلون له عديلاً ومثيلاً، ويسوّون بين الخالق الرازق والوثن {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا} برهان آخر أي جعل الأرض مستقَراً للإِنسان والحيوان، بحيث يمكنكم الإِقامة بها والاستقرار عليها {وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا} أي وجعل في شعابها وأوديتها الأنهار العذبة الطيبة، تسير خلالها شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} أي وجعل جبالاً شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد وتضطرب بكم {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} أي وجعل بين المياه العذبة والمالحة فاصلاً ومانعاً يمنعها من الاختلاط، لئلا يُفسد ماء البحار المياهَ العذبة {أَءلَه مَعَ اللَّهِ}؟ أي أمع الله معبودٌ سواه؟ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي أكثر المشركين لا يعلمون الحق فيشركون مع الله غيره {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} برهانٌ ثالث أي أمّن يجيب المكروب المجهود الذي مسَّه الضر فيستجيب دعاءه ويلبي نداءه؟ {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} أي ويكشف عنه الضُرَّ والبأساء؟ {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} أي ويجعلكم سكان الأرض تعمرونها جيلاً بعد جيل، وأُمةً بعد أُمة {أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ}؟ أي أءِله مع الله يفعل ذلك حتى تعبدوه؟ {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} أي ما أقلَّ تذكركم واعتباركم فيما تشاهدون؟ {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}؟ برهان رابع أي أم من يرشدكم إلى مقاصدكم في أسفاركم في الظلام الدامس، في البراري، والقفار، والبحار؟ والبلاد التي تتوجهون إليها بالليل والنهار؟ {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}؟ أي ومن الذي يسوق الرياح مبشرةً بنزول المطر الذي هو رحمة للبلاد والعباد ؟ {أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ}؟ أي أءِلهٌ مع الله يقدر على شيءٍ من ذلك؟ {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تعظَّم وتمجَّد الله القادر الخالق عن مشاركة العاجز المخلوق {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} برهانٌ خامس أي أمَّنْ يبدأ خلق الإِنسان ثم يعيده بعد فنائه ؟ قال الزمخشري: كيف قال لهم ذلك وهم منكرون للإِعادة؟ والجواب أنه قد أُزيحت علَّتُهم بالتمكين من المعرفة والإِقرار، فلم يبق لهم عذرٌ من الإِنكار {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْمِنَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أي ومن يُنزل عليكم من مطر السماء، ويُنبتُ لكم من بركات الأرض الزروع والثمار؟ قال أبو حيان: لما كان إِيجاد بني آدم إنعاماً إليهم وإِحساناً عليهم، ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ منْ السَّمَاءِ} أي بالمطر {وَالأَرْضِ} أي بالنبات {أَءلَهُُ مَعَ اللَّهِ}؟ أي أإله مع الله يفعل ذلك ؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تزعمون إن كنتم صادقين في أنَّ مع الله إلهاً آخر.



علم الغيب لله وحده
{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} أي هو سبحانه وحده المختص بعلم الغيب، فلا يعلم أحدٌ من ملك أو بشر الغيب إلا اللهُ علامُ الغيوب قال القرطبي: نزلت في المشركين حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قيام الساعة {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}؟ أي وما يدري ولا يشعر الخلائق متى يُبعثون بعد موتهم؟ {بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} أي هل تتابع وتلاحق علمُ المشركين بالآخرة وأحوالها حتى يسألوا عن الساعة وقيامها؟ إنهم لا يصدقون بالآخرة فلماذا يسألون على قيامة الساعة؟ {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} إضراب عن السابق أي هم شاكون في الآخرة لا يصدّقون بها ولذلك يعاندون ويكابرون {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} أي بل هم في عَمىً عنها، ليس لهم بصيرةٌ يدركون بها دلائل وقوعها لأن اشتغالهم باللذات النفسانية من شهوة البطن والفرج صيّرهم كالبهائم والأنعام لا يتدبرون ولا يبصرون قال ابن كثير: هم شاكون في وقوعها ووجودها، بل هم في عماية وجهلٍ كبير في أمرها.
إنكار المشركين للبعث
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ(67)لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(68)قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ(69)وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ(70)وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(71)قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ(72)وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ(73)وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ(74)وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(75)}.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} أي قال مشركو مكة المنكرون للبعث: أئذا متنا وأصبحنا رفاتاً وعظاماً بالية، فهل سنخرج من قبورنا ونحيا مرة ثانية؟ {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} أي لقد وَعدنا محمدٌ بالبعث كما وعَدَ من قبله آباءنا الأولين، فلو كان حقاً لحصل { إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي ما هذا إلا خرافات وأباطيل السابقين. ينكرون البعث وينسون أنهم خُلقوا من العدم، وأن الذي خلقهم أولاً قادر على أن يعيدهم ثانياً! {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} أي قل لهؤلاء الكفار: سيروا في أرجاء الأرض {فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} أي فانظروا - نظر اعتبار - كيف كان مآل المكذبين للرسل؟ ألم يهلكهم الله ويدمّرهم؟ فما حدث للمجرمين من قبل، يحدث للمجرمين من بعد، والآيةُ وعيدٌ وتهديد {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} تسلية للرسول عليه السلام أي لا تحزن يا محمد ولا تأسف على هؤلاء المكذبين إنْ لم يؤمنوا، ولا يضقْ صدرك من مكرهم فإِن الله يعصمك منهم {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي يقولون استهزاءً: متى يجيئنا العذاب إن كنتم صادقين فيما تقولون؟ والخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} أي لعلَّ الذي تستعجلون به من العذاب قد دنا وقرُب منكم بعضه قال المفسرون: هو ما أصابهم من القتل والأسر يوم بدر {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أي لذو إفضالٍ وإِنعامٍ على الناس بترك تعجيل عقوبتهم على معاصيهم وكفرهم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} أي ولكنَّ أكثرهم لا يعرفون حقَّ النعمة، ولا يشكرون ربهم {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي وإِنه تعالى ليعلم ما يُخْفون وما يعلنون من عداوة الرسول وكيدهم له وسيجازيهم عليه {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي ليس من شيء في غاية الخفاء على الناس والغيبوبة عنهم إلا وقد علمه الله وأحاط به، وأثبته في اللوح المحفوظ عنده، فلا تخفى عليه سبحانه خافية قال ابن عباس: معناه ما من شيءٍ سرٍّ في السماوات والأرض أو علانية إلا وعند الله علمه.
ذكر أوصاف القرآن الكريم
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(76)وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ(77)إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ(78)فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ(79)إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ(80)وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ(81)}.
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} لما ذكر تعالى أمر المبدأ والمعاد والنبوة، وكان القرآن من أعظم الدلائل والبراهين على صدق محمد وصدق ما جاء به، أعقبه هنا بذكر القرآن المجيد وذكر أوصافه والمعنى: إن هذا القرآن المنزَّل على خاتم الرسل لهو الكتاب الحق الذي يبين لأهل الكتاب ما اختلفوا فيه من أمر الدين، ومن جملته اختلافهم في أمر المسيح وتفرقُهم فيه فرقاً كثيرة حتى لعن بعضهم بعضاً، فلو كانوا منصفين لأسلموا، لأن القرآن جاءهم بالرأي الساطع، والخبر القاطع {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي وإِنه لهداية لقلوب المؤمنين من الضلالة، ورحمة لهم من العذاب، قال القرطبي: وإِنما خصَّ المؤمنين بالذكر لأنهم المنتفعون به {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} أي إن ربك يا محمد يفصل بين بني إسرائيل يوم القيامة بحكمه العادل، وقضائه المبرم، فيجازي المحقَّ والمبطل {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي المنيع الغالب الذي لا يُردُّ أمره {الْعَلِيمُ} أي العليم بأفعال العباد فلا يخفى عليه شيء منهم {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي فوِّضْ إليه أمرك، واعتمد عليه في جميع شؤونك فإِنه ناصرك {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} أي إنك يا محمد على الدين الحق، الواضح المنير، فالعاقبة لك بالنصر على الكفار {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} أي لا تُسمع الكفار لتركهم التدبر والاعتبار، فهم كالموتى لا حسَّ لهم ولا عقل {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} أي ولا تُسمعهم دعاءَك ونداءك إِذا ذكَّرتهم بالله أو دعوتهم إلى الإِيمان، لأنهم كالصُّم الذين في آذانهم وقرٌ، فلا يستجيبون الدعاء، لا سيما إذا تولَّوا عنك معرضين، فإِن الأصمَّ إذا تولى مدبراً ثم ناديته كان أبعد عن السماع حيث انضم إلى صَمَمه بعدُ المسافة {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} أي وليس بوسعك يا محمد أن تصرف عُمي القلوب عن كفرهم وضلالهم {إِنْ تُسْمِعُ إِلا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} أي ما تُسمع - سماع تدبر وإِفهام - إلا المؤمنين، ولا يستجيب لدعوتك إلاّ أهل الإِيمان، وهم الذين انقادوا وأسلموا وجوههم للرحمن .. شبَّه من لا يسمع ولا يعقل بالموتى في أنهم لا يسمعون وإِن كانوا أحياء، ثم شبههم ثانياً بالصم وبالعُمي وإِن كانوا سليمي الحواس، وأكَّد عدم سماعهم بقوله { إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} لأن الأصمَّ إذا أدبر زاد صممُه أو عُدم سماعُه بالكلية، والغرضُ من الآية أنَّ هؤلاء الكفار كالموتى، وكالصُمّ، وكالعُمي، لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون، ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل الكونية، أو الآيات القرآنية.



إخراج دابة الأرض وحشر الأمم
{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ(82)وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ(83)حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(84)وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ(85)أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(86)}.
{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} هذا بيان لما يكون بين يدي الساعة أي وإِذا قَرُبَ نزولُ العذاب وقيام الساعة، وحان وقت عذاب الكفار {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةًمِنَالأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} أي أخرجنا للكفار هذه الآية الكبيرة "دابة الأرض" تكلم الناس وتناظرهم وتقول من جملة كلامها: ألا لعنةُ الله على الظالمين، الذين لا يصدّقون ولا يؤمنون بآيات الله، وخروجُ الدابة من أشراط الساعة وفي الحديث (لا تقوم الساعةُ حتى تروا عشر ءاياتٍ .. وعدَّ منها طلوع الشمس من مغربها، وخروجَ الدابة .. ) الحديث قال ابن كثير: هذه الدابة تخرج في آخر الزمان، عند فساد الناس وتركهم أوامر الله، وتبديلهم الدين الحق، فتكلم الناس وتخاطبهم مخاطبة، قال ابن عباس وعطاء: تكلمهم كلاماً فتقول لهم: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، وروي أن خروجها حين ينقطع الخير، ولا يُؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يبقى منيبٌ ولا تائب، وهي آية خاصة خارقة للعادة، ثم ذكر بعض مشاهد القيامة فقال {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} أي واذكر يوم نجمع للحساب والعقاب من كل أمةٍ من الأمم جماعة وزمرة { مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} أي من الجاحدين المكذبين بآياتنا ورسلنا {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي فهم يُجمعون ثم يُساقون بعنف {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} أي حتى إذا حضروا موقف الحساب والسؤال قال لهم تعالى مُوبِخاً ومُقرِّعاً: أكذبتم بآياتي المنزلة على رسلي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها، أو معرفة صدقها؟ {أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تقريع وتوبيخ آخر أيْ أيَّ شيء كنتم تعملون في الدنيا؟ وبَّخهم أولاً بقوله {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي} ثم أضرب عنه إلى استفهام تقرير وتبكيت كأنه قيل: دَعُوا ما نسبتُه إليكم من التكذيب وقولوا لي: أيَّ شيءٍ كنتم تعملونه في الدنيا غير التكذيب؟ {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا} أي بُهِتوا فلم يكن لهم جواب، وقامت عليهم الحجة وحقَّ عليهم العذاب، بسبب ظلمهم وهو تكذيبهم بآيات الله {فَهُمْ لا يَنطِقُونَ} أي فهم لا يتكلمون لأنه ليس لهم عذر ولا حجة، وقد شُغلوا بالعذاب عن الجواب .. ثم لما ذكر تعالى أهوال القيامة ذكر الأدلة والبراهين على التوحيد والحشر والنشر مبالغةً في الإِرشاد إلى الإِيمان فقال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}؟ أي ألم يروا قدرة الله فيعتبروا أنه تعالى جعل الليل مظلماً ليناموا ويستريحوا من تعب الحياة، وجعل النهار منيراً مشرقاً ليتصرفوا فيه في طلب المعاش والرزق؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إن في تقليب الليل والنهار من نور إلى ظلمة، ومن ظلمةٍ إلى نور لآيات باهرة، ودلائل قاطعة على قدرة الله لقومٍ يصدّقون فيعتبرون.
النفخ في الصور وتسيير الجبال
{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ(87)وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ(88)مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ(89)وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(90)}.
ثم أشار تعالى إلى أحوال الناس في الآخرة فقال {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} أي واذكر يوم ينفخ إسرافيل في الصور "نفخة الفزع" فلا يبقى أحدٌ من أهل السماواتِ والأرض إلا خاف وفزع إلا من شاء الله من الملائكة والأنبياء والشهداء قال المفسرون: هذه نفخة الفزع، ثم تتلوها نفخة الصَّعق - وهو الموت - ثم بعد ذلك نفخة النشور من القبور وهي نفخة القيام لرب العالمين، قال أبو هريرة: إن الملك له في الصور ثلاثُ نفخات: نفخةُ الفزع - وهو فزع الحياة الدنيا - وليس بالفزع الأكبر، ونفخة الصَّعْق، ونفخة القيامة من القبور {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} أي وكلٌّ من الأموات الذين أُحيوا أتَوْا ربَّهم صاغرين مطيعين لم يتخلف منهم أحد {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} أي وترى أيها المخاطب الجبال وقت النفخة الأولى تظنها ثابتة في مكانها وواقفة {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} أي وهي تسير سيراً سريعاً كالسحاب قال الإِمام الفخر الرازي: ووجه حسبانهم أنها جامدة أن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهجٍ واحد ظنَّ الناظر إليها أنها واقفة مع أنها تمر مراً سريعاً {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أي ذلك صنعُ الله البديع، الذي أحكم كل شيء خلقه، وأودع فيه من الحكمة ما أودع {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} أي هو عليم بما يفعل العباد من خير وشر، وسيجازيهم عليه أتم الجزاء .. ثم بيَّن تعالى حال السعداء والأشقياء في ذلك اليوم الرهيب فقال {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} أي من جاء يوم القيامة بحسنةٍ من الحسنات، فإِن الله يضاعفها له إلى عشر حسنات، ويعطيه بالعمل القليل الثواب الأبدي {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} أي وهم من خوف ذلك اليوم العصيب آمنون كما قال تعالى {لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} قال ابن عباس: السيئة: الإِشراك بالله أي ومن جاء يوم القيامة مسيئاً لا حسنة له أو مشركاً بالله فإِنه يكبُّ في جهنم على وجهه منكوساً، ويُلقى فيها مقلوباً {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يقال لهم توبيخاً: هل تُجزون إلا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من سيء الأعمال؟
الأمر بعبادة الله وتلاوة القرآن
{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} أي قل لهم يا محمد: لقد أُمرت أن أخصَّ الله وحده بالعبادة ربَّ البلد الأمين الذي جعل مكة حرماً آمناً لا يُسفك فيها دم، ولا يُظلم فيها أحد، ولا يصاد صيدها ولا يُختلى خلاها كما جاء في الحديث الصحيح {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} أي هو تعالى الخالق والمالك لكل شيء فهو رب كل شيء ومليكه {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَمِنَالْمُسْلِمِينَ} أي وأُمرتُ أن أكون من المخلصين لله بالتوحيد، المنقادين لأمره، المستسلمين لحكمه {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} أي وأُمرتُ أيضاً بتلاوة القرآن لتنكشف لي حقائقه الرائعة، وأن أقرأه على الناس {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} أي فمن اهتدى بالقرآن، واستنار قلبه بالإِيمان، فإِن ثمرة هدايته راجعة إليه {وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَامِنَالْمُنذِرِينَ} أي ومن ضلَّ عن طريق الهدى، فوبالُ ضلاله مختص به، إذْ ما على الرسول إلا البلاغ وقد بلغتكم رسالة الله {وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي قل يا محمد: الحمد لله على ما خصني به من شرف النبوة والرسالة، وما أكرمني من رفيع المنزلة والمقام {سَيُرِيكُمْءاياتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} تهديد ووعيد أي سيريكم ءاياته الباهرة الدالة على عظيم قدرته وسلطانه في الأنفس والآفاق فتعرفونها حين لا تنفعكم المعرفة {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي وما ربك بغافل عن أعمال العباد بل هو على كل شيء شهيد، وفيه وعدٌ ووعيد.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 01:39 AM

سورة القصص
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة القصص من السور المكية التي تهتم بجانب العقيدة "التوحيد، والرسالة، والبعث" وهي تتفق في منهجها ومقاصدها مع سورتي "النمل، والشعراء" كما اتفقت في جو النزول، فهي تكمِّل أو تُفصِّل ما أُجمل في السورتين قبلها.
* محور السورة الكريمة يدور حول فكرة الحق والباطل، ومنطق الإِذعان والطغيان، وتصور أشكال الصراع بين جند الرحمن، وجند الشيطان، وقد ساقت في سبيل ذلك قصتين: أولاهما قصة الطغيان بالحكم والسلطان، ممثلة في قصة فرعون الطاغية المتجبر الذي أذاق بني إسرائيل سوء العذاب، فذبح الأبناء، واستحيا النساء، بل وصل به الكبرياء إلى ادعاء الربوبية {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} والثانية: قصة الاستعلاء والطغيان بالثروة والمال ممثلة في "قارون مع قومه،" وكلا القصتين رمزٌ إلى طغيان الإِنسان في هذه الحياة، سواءً كان ذلك الطغيان بالمال، أو الجاه، أو السلطان.
* ابتدأت السورة بالحديث عن طغيان فرعون وعلوه وفساده في الأرض، ومنطق الطغيان في كل زمان ومكان.
* ثم انتقلت إلى الحديث عن ولادة موسى عليه السلام وخوف أُمه عليه من بطش فرعون، وإلهام الله تعالى لها بإلقائه في البحر ليعيش معززاً مكرماً في حجر فرعون كريحانةٍ زكية تنبتُ وسط الأشواك والأوحال.
* ثم تحدثت عن بلوغ موسى عليه السلام سن الرشد، وعن قتله للقبطيِّ، وعن هجرته إلى أرض مدين وتزوجه بابنة شعيب عليه السلام، ثم تكليف الله تعالى بالعودة إلى مصر لدعوة فرعون الطاغية إلى الله، وما كان من أمر موسى مع فرعون بالتفصيل إلى أن أغرقه الله، وتحدثت عن كفار مكة ووقوفهم في وجه الرسالة المحمدية، وبيَّنت أن مسلك أهل الضلال واحد.
* ثم انتقلت إلى الحديث عن قصة قارون، وبينت الفارق العظيم بين منطق الإيمان، ومنطق الطغيان.
*وختمت السورة الكريمة بالإرشاد إلى طريق السعادة وهو طريق الإِيمان الذي دعى إليه الرسل الكرام.
التسميَة:
سميت سورة "القصص" لأن الله تعالى ذكر فيها قصة موسى مفصلة موضحة من حين ولادته إلى حين رسالته، وفيها من غرائب الأحداث العجيبة ما يتجلى فيه بوضوح عناية الله بأوليائه وخذلانه لأعدائه.
نصر المستضعفين
{طسم(1)تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(3)إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهمْ إِنَّهُ كَانَمِنَالْمُفْسِدِينَ(4)وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6)}.
{طسم} الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن الكريم، والإِشارة إلى أن هذا الكتاب المعجز في فصاحته وبيانه مركبٌ من أمثال هذه الحروف الهجائية {تِلْكَءايات الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي هذهءاياتالقرآن الواضح الجلي، الظاهر في إعجازه، الواضح في تشريعه وأحكامه {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} أي نقرأ عليك يا محمد بواسطة الروح الأمين من الأخبار الهامة عن موسى وفرعون من الحق الذي لا يأتيه الباطل، والصدق الذي لا ريب فيه ولا كذب {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي لقومٍ يصدقون بالقرآن فينتفعون .. ثم بدأ بذكر قصة فرعون الطاغية فقال {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} أي استكبر وتجبَّر، وجاوز الحد في الطغيان في أرض مصر {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} أي جعل أهلها فرقاً وأصنافاً في استخدامه وطاعته {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} أي يستعبد ويستذل فريقاً منهم وهم بنو إسرائيل فيسومهم سوء العذاب {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ} أي يقتّل أبناءهم الذكور ويترك الإِناث على قيد الحياة لخدمته وخدمة الأقباط قال المفسرون: سبب تقتيله الذكور أن فرعون رأى في منامه أن ناراً عظيمةً أقبلت من بيت المقدس وجاءت إلى أرض مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل، فسأل عن ذلك المنجّمين والكهنة، فقالوا له: إن مولوداً يولد في بني إسرائيل، يذهب ملكك على يديه، ويكون هلاكك بسببه فأمر أن يقتل كل ذكر من أولاد بني إسرائيل {إِنَّهُ كَانَمِنَالْمُفْسِدِينَ} أي من الراسخين في الفساد، المتجبرين في الأرض، ولذلك ادعى الربوبية وأمعن في القتل وإذلال العباد {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} أي ونريد برحمتنا أن نتفضل وننعم على المستضعفين من بني إسرائيل فننجيهم من بأس فرعون وطغيانه {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} أي ونجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير بعد أن كانوا أذلاء مسخرين قال ابن عباس: {أَئِمَّةً} قادة في الخير، وقال قتادة: ولاةً وملوكاً {وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ} أي ونجعل هؤلاء الضعفاء وارثين لملك فرعون وقومه، يرثون ملكهم ويسكنون مساكنهم بعد أن كان القبط أسياد مصر وأعزتها {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ } أي ونملكهم بلاد مصر والشام يتصرفون فيها كيف يشاءون قال البيضاوي: أصل التمكين أن تجعل للشيء مكاناً يتمكن فيه ثم استعير للتسليط وإطلاق الأمر {وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} أي ونري فرعون الطاغية، ووزيره "هامان" والأقباط من أولئك المستضعفين ما كانوا يخافونه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولودٍ من بني إسرائيل.
إلقاء موسى في اليم والبشارة بنبوته
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُمِنَالْمُرْسَلِينَ(7)فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ(8)وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(9)وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَمِنَالْمُؤْمِنِينَ(10)وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(11)وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ(12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(13)وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ءاتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(14)}.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} أي قذفنا في قلبها بواسطة الإِلهام قال ابن عباس: هو وحيُ إلهام وقال مقاتل: أخبرها جبريل بذلك قال القرطبي: فعلى قول مقاتل هو وحيُ إعلام لا إلهام، وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية، وإنما إرسال الملك إليها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث المشهور، وكذلك تكليم الملائكة للناس من غير نبوة، وقد سلَّمت على "عمران بن حصين" فلم يكن نبياً {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} أي فإذا خفت عليه من فرعون فاجعليه في صندوق وألقيه في البحر - بحر النيل - {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} أي لا تخافي عليه الهلاك ولا تحزني لفراقه {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُمِنَالْمُرْسَلِينَ} أي فإنا سنرده إليك ونجعله رسولاً نرسله إلى هذا الطاغية لننجّي بني إسرائيل على يديه{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} أي فأخذه وأصابه أعوان فرعون لتكون عاقبة الأمر أن يصبح لهم عدواً ومصدر حزن وبلاءً وهلاك قال القرطبي: اللام في "ليكون" لام العاقبة ولام الصيرورة، لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرة عين، فكان عاقبة ذلك أن صار لهم عدواً وحزناً، فذكر الحال بالمال كما قال الشاعر:
وللمنايا تُرَبِّي كلُّ مرضعةٍ ودورُنا لخراب الدهر نبْنيها
{إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} أي كانوا عاصين مشركين آثمين، قال العلماء: الخاطئ من تعمد الذنب والإِثم، والمخطئ من فعل الذنب عن غير تعمد {وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} أي قالت زوجة فرعون لفرعون: هذا الغلام فرحة ومسرة لي ولك لعلنا نسر به فيكون قرة عين لنا قال الطبري: ذكر أن المرأة لما قالت هذا القول لفرعون قال لها: أمَّا لك فنعم، وأما لي فليس بقرة عين، وقال ابن عباس: لو قال قرة عين لي لهداه الله به ولآمن ولكنه أبى {لا تَقْتُلُوهُ} أي لا تقتله يا فرعون، خاطبته بلفظ الجمع كما يُخاطب الجبارون تعظيماً له ليساعدها فيما تريد {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} عسى أن ينفعنا في الكبر، أو نتبناه فنجعله لنا ولداً تقَرُّ به عيوننا قال المفسرون: وكانت لا تلد فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها قال تعالى {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي وهم لا يشعرون أن هلاك فرعون وزبانيته سيكون على يديه وبسببه {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} أي صار قلبها خالياً من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى، وقيل المعنى: طار عقلها من فرط الجزع والغم حين سمعت بوقوعه في يد فرعون {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أي إنها كادت أن تكشف أمره وتظهر أنه ابنها من شدة الوجد والحزن قال ابن عباس: كادت تصيح واإبناه، وذلك حين سمعت بوقوعه في يد فرعون {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} أي لولا أن ثبتناها وألهمناها الصبر {لِتَكُونَمِنَالْمُؤْمِنِينَ} أي لتكون من المصدقين بوعد الله برده عليها {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي قالت أم موسى لأخت موسى: اتبعي أثره حتى تعلمي خبره قال مجاهد : قصي أثره وانظري ماذا يفعلون به ؟ {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي فأبصرته عن بعد وهم لا يشعرون أنها أخته، لأنها كانت تمشي على ساحل البحر حتى وصل الصندوق إلى بيت فرعون وهي ترقبه مستخفيةً عنهم {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} أي ومنعنا موسى أن يقبل ثدي أي مرضعة من المرضعات اللاتي أحضروهن لإِرضاعه من قبل مجيء أُمه قال المفسرون: بقي أياماً كلما أُتي بمرضع لم يقبل ثديها، فأهمهم ذلك واشتد عليهم الأمر فخرجوا به يبحثون له عن مرضعة خارج القصر فرأوا أخته {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} أي هل أدلكم على مرضعة له تكفله وترعاه ؟ {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} أي لا يقصرون في إرضاعه وتربيته قال السدي: فدلتهم على أم موسى فانطلقت إليها بأمرهم فجاءت بها، والصبي على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع، فدفعه إليها فلما وجد ريح أُمه قبل ثديها، فقال فرعون: من أنت منه فقد أبى كل ثديٍ إلا ثديك ؟ فقالت: إني امرأة طيبة الريح، طيبة اللبن، لا أكاد أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها، فرجعت إلى بيتها من يومها ولم يبق أحدٌ من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالهدايا والجواهر فذلك قوله تعالى { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} أي أعدناه إليها تحقيقا للوعد كي تسعد وتهنأ بلقائه ولا تحزن على فراقه {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي ولتتحقق من صدق وعد الله برده عليها وحفظه من شر فرعون {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكن أكثر الناس يرتابون ويشكون في وعد الله القاطع {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} أي ولما بلغ كمال الرشد، ونهاية القوة، وتمام العقل والاعتدال قال مجاهد: هو سنُّ الأربعين {ءاتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} أي أعطيناه الفهم والعلم والتفقه في الدين مع النبُوَّة {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي ومثل هذا الجزاء الكريم نجازي المحسنين على إحسانهم.



قتل موسى القبطيَّ خطأً وخروجه من مصر
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ(15)قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(16)قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ(17)فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ(18)فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَمِنَالْمُصْلِحِينَ(19)وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَمِنَالنَّاصِحِينَ(20)فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِيمِنَالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(21)}.
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} أي دخل مصر وقت الظهيرة والناس يخلدون للراحة عند القيلولة {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} أي فوجد شخصين يتقاتلان: أحدهما من بني إسرائيل من جماعة موسى، والآخر قبطي من جماعة فرعون {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} فاستنجد الإسرائيلي بموسى وطلب غوثه ليدفع عنه شر القبطي {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}أي ضربه موسى بجمع كفه فقتله، قال القرطبي: فعل موسى ذلك وهو لا يريد قتله إنما قصد دفعه فكانت فيه نفسه وكانت القاضية {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } أي هذا من إغواء الشيطان فهو الذي هيَّج غضبي حتى ضربت هذا {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} أي إن الشيطان عدوٌ لابن آدم، مضلٌ له عن سبيل الرشاد، ظاهر العداوة قال الصاوي: نسبه إلى الشيطان من حيث إنه لم يؤمر بقتل القبطي، وظهر له أن قتله خلاف الأولى لما يترتب عليه من الفتن، والشيطان تفرحه الفتن ولذلك ندم على فعله {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} أي إني ظلمت نفسي بقتل القبطيِّ فاعف عني ولا تؤاخذني بخطيئتي {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي إنه تعالى المبالغ في المغفرة للعباد، الواسع الرحمة لهم {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} أي بسبب إنعامك عليَّ بالقوة وبحق ما أكرمتني به من الجاه والعز، فلن أكون عوناً لأحد من المجرمين، وهذه معاهدة عاهد موسى ربه عليها وقيل: هو قسم وهو ضعيف {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} أي فأصبح موسى في المدينة التي قتل فيها القبطي خائفاً على نفسه يتوقع وينتظر المكروه، ويخاف أن يؤخذ بجريرته {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} أي فإذا صاحبه الإِسرائيلي الذي خلَّصه بالأمس يقاتل قبطياً آخر فلما رأى موسى أخذ يصيح به مستغيثاً لينصره من عدوه {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} أي قال موسى للإِسرائيلي: إنك لبيِّنُ الغواية والضلال، فإني وقعت بالأمس فيما وقعت فيه من قتل رجلٍ بسببك وتريد أن توقعني اليوم في ورطةٍ أخرى ؟ {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} أي فحين أراد موسى أن يبطش بذلك القبطي الذي هو عدوٌ له وللإِسرائيلي {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} أي قال القبطي: أتريد قتلي كما قتلت غيري بالأمس ؟ {إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ} أي ما تريد يا موسى إلا أن تكون من الجبابرة المفسدين في الأرض {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَمِنَالْمُصْلِحِينَ} أي وما تريد أن تكون من الذين يصلحون بين الناس.
{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} أي وجاء رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه من أبعد أطراف المدينة يشتد ويسرع في مشيه قال ابن عباس: هذا الرجل هو مؤمن من آل فرعون {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} أي قال له يا موسى: إن أشراف فرعون، ووجوه دولته يتشاورون فيك بقصد قتلك { فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَمِنَالنَّاصِحِينَ} أي فاخرج قبل أن يدركوك فأنا ناصحٌ لك من الناصحين {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} أي فخرج من مصر خائفاً على نفسه يترقب وينتظر الطلب أن يدركه فيأخذه، ثم التجأ إلى الله سبحانه بالدعاء لعلمه بأنه لا ملجأ سواه {قَالَ رَبِّ نَجِّنِيمِنَالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي خلصني من الكافرين واحفظني من شرهم - والمراد بهم فرعون وملؤُه - .
ذهاب موسى إلى أرض مدين وزواجه من ابنة شعيب
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ(22)وَلَمَّا وَرَدَ مآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةًمِنَالنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ(23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(24)فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَمِنَالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(25)قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَئْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ(26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُمِنَالصَّالِحِينَ(27)قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ(28)}.
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} أي قصد بوجهه ناحية مدين وهي بلدة شعيب عليه السلام {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي لعل الله يرشدني إلى الطريق السوي الذي يوصلني إلى مقصدي وغايتي قال المفسرون: خرج خائفاً بغير زاد ولا ظهر -مركب- وكان بين مصر ومدين مسيرةُ ثمانية أيام، ولم يكن له علمٌ بالطريق سوى حسن ظنه بربه، فبعث الله إليه ملكاً فأرشده إلى الطريق، ويروى أنه لما وصل مدين كانت خضرةُ البقل تتراءى من بطنه من الهزال، لأنه كان في الطريق يتقوت ورق الشجر {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةًمِنَالنَّاسِ يَسْقُونَ} أي ولما وصل إلى مدين بلدة شعيب وجد على البئر الذي يستقي منه الرعاة جمعاً كثيفاً من الناس يسقون مواشيهم {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} أي ووجد سوى الجماعة الرعاة امرأتين تكفَّان غنمهما عن الماء {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا}؟ أي ما شأنكما تمنعان الغنم عن ورود الماء ؟ ولم تسقيا مع السقاة ؟ {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} أي من عادتنا التأني حتى ينصرف الرعاةُ مع أغنامهم عن الماء، فنحن لا طاقة لنا على مزاحمة الأقوياء، ولا نريد مخالطة الرجال، وأبونا رجل مُسنٌّ لا يستطيع لضعفه أن يباشر سقاية الغنم، ولذلك اضطررنا إلى أن نسقي بأنفسنا قال أبو حيان: فيه اعتذارٍ لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما، وتنبيهٌ على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخوخته وكبره، واستعطافٌ لموسى على إعانتهما {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} أي فسقى لهما غنمهما رحمة بهما، ثم تنحى جانباً فجلس تحت ظل شجرة {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أي إني يا ربّ محتاجٌ إلى فضلك وإحسانك، وإلى الطعام الذي أسُدُّ به جوعي، طلب من الله ما يأكله وكان قد اشتد عليه الجوع قال الضحاك: مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاماً إلا بقل الأرض وقال ابن عباس: سار موسى من مصر إلى "مدين" ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافياً فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وجلس في الظل -وهو صفوة الله من خلقه- وإن بطنه للاصقٌ بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لتُرى من داخل جوفه، وإنه لمحتاجٌ إلى شق تمرة {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} في الكلام اختصار تقديره: فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكان من عادتهما الإِبطاء فحدثتاه بما كان من أمر الرجل، فأمر إحداهما أن تدعوه له فجاءته تمشي .. الخ أي جاءته حال كونها تمشي مشية الحرائر بحياء وخجل قد سترت وجهها بثوبها قال عمر: لم تكن بسلفع من النساء خرَّاجة ولاَّجة {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} أي إنَّ أبي يطلبك ليعوضك عن أجر السقاية لغنمنا قال ابن كثير: وهذا تأدبٌ في العبارة لم تطلبه طلباً مطلقاً لئلا يوهم ريبة {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَمِنَالْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي فلما جاءه موسى وذكر له ما كان من أمره وسبب هربه من مصر قال له شعيب: لا تخف فأنت في بلدٍ آمن لا سلطان لفرعون عليه وقد نجاك الله من كيد المجرمين {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} أي استأجره لرعي أغنامنا وسقايتها {إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} أي إنَّ أفضل من تستأجره من كان قوياً أميناً قال أبو حيان: وقولها كلام حكيم جامع لأنه إذا اجتمعت الكفاية والأمانة في القائم بأمرٍ من الأمور فقد تمَّ المقصود، روي أن شعيباً قال لها: وما أعلمك بقوته وأمانته ؟ فقالت: إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإني لما جئتُ معه تقدمتُ أمامه فقال لي: كوني من ورائي ودليني على الطريق، ولما أتيته خفض بصره فلم ينظر إليَّ، فرغب شعيب في مصاهرته وتزويجه بإحدى بناته {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} أي إني أريد أن أزوجك إحدى بنتيَّ هاتين الصغرى أو الكبرى {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أي بشرط أن تكون أجيراً لي ثماني سنين ترعى فيها غنمي {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} أي فإن أكملتها عشر سنين فذلك تفضل منك، وليس بواجب عليك {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} أي وما أُريد أن أوقعك في المشقة باشتراط العشر {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُمِنَالصَّالِحِينَ} أي ستجدني إن شاء الله حسن المعاملة، ليِّن الجانب، وفياً بالعهد قال القرطبي: في الآية عرضُ الوليّ ابنته على الرجل، وهذه سُنة قائمة، عرض شعيب ابنته على موسى، وعرض عمر ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن الحُسْن عرض الرجل وليته على الرجل الصالح، اقتداءً بالسلف الصالح {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ } أي قال موسى: إنَّ ما قلته وعاهدتني عليه قائم بيننا جميعاً لا نخرج عنه، وأيَّ المدتين الثماني أو العشر أديتها لك فلا إثم ولا حرج عليَّ {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي والله شاهد على ما تعاهدنا وتواثقنا عليه.



عودة موسى عليه السلام إلى مصر
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءانَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍمِنَالنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ(29)فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِمِنَالشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(30)وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَمِنَالآمِنِينَ(31)اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَمِنَالرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإيْهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(32)}.
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} أي فلما أتم موسى المدة التي اتفقا عليها قال ابن عباس: قضى أتم الأجلين وأكملهما وأوفاهما وهو عشر سنين {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} أي ومشى بزوجته مسافراً بها إلى مصر {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} أي أبصر من بعيد ناراً تتوهج من جانب جبل الطور {قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي ءانَسْتُ نَارًا} أي قال لزوجته امكثي هنا فقد أبصرت ناراً عن بعد قال المفسرون: كانت ليلةً باردة وقد أضلوا الطريق، وهبَّت ريح شديدة فرقت ماشيته، وأخذ أهله الطلق فعند ذلك أبصر ناراً بعيدة فسار إليها لعله يجد من يدله على الطريق فذلك قوله تعالى {لَعَلِّي ءاتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} أي لعلي آتيكم بخبر الطريق وأرى من يدلني عليه {أَوْ جَذْوَةٍمِنَالنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي أو آتيكم بشعلة من النار لعلكم تستدفئون بها {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِمِنَالشَّجَرَةِ} أي فلما وصل إلى مكان النار لم يجدها ناراً وإنما وجدها نوراً، وجاءه النداء من جانب الوادي الأيمن في ذلك المكان المبارك من ناحية الشجرة {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي نودي يا موسى إن الذي يخاطبك ويكلمك هو أنا الله العظيم الكبير، المنزه عن صفات النقص، ربُّ الإِنس والجن والخلائق أجمعين {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} أي ونودي بأن اطرح عصاك التي في يدك {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي فألقاها فانقلبت إلى حيّة فلما رآها تتحرك كأنها ثعبان خفيف سريع الحركة انهزم هارباً منها ولم يلتفت إليها قال ابن كثير: انقلبت العصا إلى حية وكانت كأنها جانٌّ في حركتها السريعة مع عِظَم خلقتها، واتساع فمها، واصطكاك أنيابها بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها تنحدر في فمها تتقعقع كأنها منحدرة في واد، فعند ذلك ولَّى مدبراً ولم يلتفت، لأن طبع البشرية ينفر من ذلك {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَمِنَالآمِنِينَ} أي فنودي يا موسى: ارجع إلى حيث كنت ولا تخف فأنت آمنٌ من المخاوف، فرجع وأدخل يده في فم الحية فتحولت إلى عصا {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي أدخل يدك في جيب قميصك - وهو فتحة الثوب مكان دخول الرأس - ثم أخرجها تخرج مضيئةً منيرة تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق من غير أذى ولا برص {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَمِنَالرَّهْبِ} قال ابن عباس: اضمم يدك إلى صدرك من الخوف يذهب عنك الرعب قال المفسرون: المراد بالجناح اليد لأن يدي الإِنسان بمنزلة جناحي الطائر، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه وبذلك يذهب عنه الخوف من الحية ومن كل شيء {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإيْهِ} أي فهذان - العصا واليد - دليلان قاطعان، وحجتان نيرتان واضحتان من الله تعالى تدلان على صدقك، وهما آيتان إلى فرعون وأشراف قومه الطُغاة المتجبرين على صدق نبوّتك { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} أي خارجين عن طاعتنا، مخالفين لأمرنا.
تأييد موسى بنبوة أخيه هارون
{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ(33)وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ(34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ(35)فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِيءابائِنَا الأَوَّلِينَ(36)وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(37)}.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} أي قال موسى يا رب إني قتلت قبطياً من آل فرعون وأخشى إن أتيتهم أن يقتلوني به قال المفسرون: هو القبطي الذي وكزه فمات، فطلب من ربه ما يزداد به قوة على مجابهة فرعون بإرسال أخيه هارون معه فقال {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} أي هو أوضح بياناً، وأطلق لساناً، لأن موسى كان في لسانه حُبْسة من أثر الجمرة التي تناولها في صغره {فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} أي فأرسلْهُ معي معيناً يبيّن لهم عني ما أُكلمهم به بتوضيح الحجج والبراهين {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} أي أخاف إن لم يكن لي وزير ولا معين أن يكذبوني لأنهم لا يكادون يفقهون عني، قال الرازي: والمعنى أرسل معي أخي هارون حتى يعاضدني على إظهار الحجة والبيان، وليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له: صدقتَ، أو يقول للناس: صدقَ موسى، وإنما هو أن يُلخّص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل، ويجيب عن الشبهات، ويجادل به الكفار {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} أي أجابه تعالى إلى طلبه وقال له: سنقوّيك بأخيك ونعينك به، ونجعل لكما غلبةً وتسلطاً على فرعون وقومه {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} أي لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب ما أيدتكما به من المعجزات الباهرات {أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} أي العاقبة لكما ولأتباعكما في الدنيا والآخرة، وأنتم الغالبون على القوم المجرمين كقوله تعالى {كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} {فَلَمَّا جَاءهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ} أي فلما جاءهم موسى بالبراهين الساطعة، والمعجزات القاطعة، الدالة على صدقه وأنه رسولٌ من عند الله {قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى} أي ما هذا الذي جئتنا به من العصا واليد إلا سحرٌ مكذوب مختلق، افتريته من قبل نفسك وتنسبه إلى الله {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي ءابَائِنَا الأَوَّلِينَ} أي وما سمعنا بمثل هذه الدعوى -دعوى التوحيد- فيءابائنا وأجدادنا السابقين {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} أجمل موسى في جوابهم تلطفاً في الخطاب، وإيثاراً لأحسن الوجوه في المجادلة معهم والمعنى: إن ما جئتكم به حقٌ وهدى وليس بسحر، وربي عالمٌ بذلك يعلم أني محقٌ وأنتم مبطلون، ويعلم من تكون له العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي لا يسعد ولا ينجح من كان ظالماً فاجراً، كاذباً على الله، فعاقبة الظلم الخسران.
ادِّعاء فرعون الأُلوهية وتكبُّرِه في الأرض
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لاظُنُّهُمِنَالْكَاذِبِينَ(38)وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ(39)فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ(40)وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ(41)وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْمِنَالْمَقْبُوحِينَ(42)وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(43) }.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلا مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} أي قال فرعون لأشراف قومه وسادتهم وهم حاشيته: لا أعلم لكم ربّاً سوايَ قال ابن عباس: كان بين هذه القولة الفاجرة وبين قوله {أَنا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} أربعون سنة، وكذب عدوُّ الله بل علم أن له رباً هو خالقه وخالق قومه {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا} أي فاطبخ لي يا هامان الآجر فاجعل لي منه قصراً شامخاً رفيعاً { لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} أي لعلي أرى وأشاهد إله موسى الذي زعم أنه أرسله، قال ذلك على سبيل التهكم ولهذا قال بعده {وَإِنِّي لأظُنُّهُمِنَالْكَاذِبِينَ} أي وإني لأظن موسى كاذباً في ادعائه أن في السماء رباً قال تعالى {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي وتكبر وتعظم فرعون وقومه عن الإيمان بموسى في أرض مصر بالباطل والظلم {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} أي واعتقدوا أن لا بعث ولا نشور، ولا حساب ولا جزاء {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} أي فأخذناه مع جنوده فطرحناهم في البحر، وأغرقناهم فلم يبق منهم أحد {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي فانظر يا محمد بعين قلبك نظر اعتبار كيف كان مئال هؤلاء الظالمين الذين بلغوا من الكفر والطغيان أقصى الغايات ؟ {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي وجعلناهم في الدنيا قادة وزعماء في الكفر يقتدي بهم أهلُ الضلال {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ} أي ويوم القيامة ليس لهم ناصر يدفع عنهم العذاب {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي جعلنا اللعنة تلحقهم في هذه الحياة الدنيا من الله والملائكة والمؤمنين {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْمِنَالْمَقْبُوحِينَ} أي وفي الآخرة هم من المبعدين المطرودين من رحمة الله عز وجل.
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} اللام موطئة للقسم أي والله لقد أعطينا موسى التوراة من بعد ما أهلكنا الأمم التي كانت قبله كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود وقوم لوطٍ وغيرهم من المكذبين لرسلهم {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أي ضياءً لبني إسرائيل ونوراً لقلوبهم يتبصرون بها الحقائق، ويميزون بها بين الحق والباطل {وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي وهدى من الضلالة، ورحمة لمن آمن بها ليتعظوا بما فيها من المواعظ والإِرشادات الإِلهية.
الحاجة إلى إرسال الرسل
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَمِنَالشَّاهِدِينَ(44)وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ(45)وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(46)وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَمِنَالْمُؤْمِنِينَ(47)}.
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي، وهو المكان الذي كلّم الله تعالى به موسى {إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} أي حين أوحينا إلى موسى بالنبوة وأرسلناه إلى فرعون وقومه {وَمَا كُنتَمِنَالشَّاهِدِينَ} أي وما كنت من الحاضرين في ذلك المكان، ولكن الله أوحى إليك ذلك ليكون حجة وبرهاناً على صدقك قال ابن كثير: يقول تعالى منبهاً على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالغيوب الماضية خبراً كأنَّ سامعه شاهد و راءٍ لما تقدَّم، وهو رجل أُميٌ لا يقرأ شيئاً من الكتب، نشأ بين قوم لا يعرفون شيئاً من ذلك، والمعنى ما كنتَ حاضراً لذلك ولكنَّ الله أوحاه إليك لتخبرهم بتلك المغيبات {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} أي ولكنَّنا خلقنا أُمماً وأجيالاً من بعد موسى، فتطاول عليهم الزمان، وطالت الفترة فنسوا ذكر الله، وبدَّلوا وحرفوا الشرائع فأرسلناك يا محمد لتجدّد أمر الدين قال أبو السعود: المعنى ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى قروناً كثيرة، فتمادى عليهم الأمر، فتغيرت الشرائع والأحكام، وعميت عليهم الأنباء فأوحينا إليك، فحذف المستدرك اكتفاءً بذكر الموجب {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا} أي وما كنتَ يا محمد مقيماً في أهل مدين فتعلم خبر موسى وشعيب وابنتيه فتتلو ذلك على أهل مكة {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي ولكنا أرسلناك في أهل مكة وأخبرناك بتلك الأخبار، ولولا ذلك لما علمتها {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} أي وما كنتَ أيضاً بجانب جبل الطور وقت ندائنا لموسى وتكليمنا إياه {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} أي لم تشاهد شيئاً من أخبار وقصصَ الأنبياء، ولكنّا أوحيناها إليك، وقصصناها عليك، رحمةً من ربك لتخوّف قوماً ما جاءهم رسول قبلك يا محمد {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي لعلهم يتعظون بما جئتهم به من الآيات البينات، فيدخلوا في دينك قال المفسرون: المراد بالقوم الذين كانوا في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وهي نحوٌ من ستمائة سنة {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي ولولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ وَنَكُونَمِنَالْمُؤْمِنِينَ} أي فيقولوا عند ذلك ربنا هلاّ أرسلت إلينا رسولاً يبلغنا آياتك فنتبعها ونكون من المصدقين بها !! قال القرطبي: وجواب {لَوْلا} محذوف تقديره لما بعثنا الرسل، وقال في التسهيل: {لَوْلا} الأولى حرف امتناع، و{لَوْلا} الثانية عرضٌ وتحضيض، والمعنى: لولا أن تصيبهم مصيبة بكفرهم لم نرسل الرسل، وإنما أرسلناهم على وجه الإِعذار وإقامة الحجة عليهم لئلا يقولوا ربَّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتَّبع آياتك ونكون من المؤمنين.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 01:41 AM

عناد المشركين وتعنتهم في رد الحق
{فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ(48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(49)فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50)وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(51)}.
ثم أخبر تعالى عن عناد المشركين وتعنتهم في ردِّ الحق فقال {فَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} أي فلما جاء أهل مكة الحقُّ المبين وهو محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن المعجز من عندنا قالوا -على وجه التعنت والعناد- هلاّ أُعطي محمد من الآيات الباهرة، والحجج القاهرة مثل ما أُعطي موسى من العصا واليد !! قال تعالى رداً عليهم {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أي أولم يكفر البشر بما أوُتي موسى من تلك الآيات الباهرة ؟ ! قال مجاهد: أمرت اليهود قريشاً أن يقولوا لمحمد: ائتنا بمثل ما جاء به موسى من المعجزات، فردَّ الله عليهم بأنهم كفروا بآيات موسى، فالضمير في {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا} لليهود، وهذا اختيار ابن جرير وقال أبو حيان: ويظهر عندي أن الضمير عائد على قريش الذين قالوا لولا أُوتي محمد مثل ما أُوتي موسى، وذلك أن تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيبٌ لموسى، ونسبتهم السحر للرسول نسبة السحر لموسى، إذ الأنبياء من وادٍ واحدٍ فمن نسب إلى أحدٍ من الأنبياء ما لا يليق كان ناسباً ذلك إلى جميع الأنبياء، وتتناسق حينئذٍ الضمائر كلُّها {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} أي وقال المشركون ما التوراة والقرآن إلا من قبيل السحر، فهما سحران تعاونا بتصديق كل واحدٍ منهما الآخر قال السُدّي: صدَّق كل واحدٍ منهما الآخر {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} أي إنّا بكل من الكتابين كافرون قال أبو السعود: وهذا تصريحٌ بكفرهم بهما وذلك لغاية عتوهم وتماديهم في الكفر والطغيان {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} أمرٌ على وجه التعجيز أي قل لهم يا محمد إنكم إذْ كفرتم بهذين الكتابين مع ما تضمنا من الشرائع والأحكام ومكارم الأخلاق فائتوني بكتاب منزلٍ من عند الله أهدى منهما وأصلح أَتمسك به {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي على قولكم بأن التوراة والقرآن سحران قال ابن كثير: وقد عُلم بالضرورة لذوي الألباب أن الله تعالى لم ينزل كتاباً من السماء أكمل ولا أشمل ولا أفصح ولا أعظم من الكتاب الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، وبعده في الشرف والعظمة الكتاب الذي أنزله على موسى، وهو الكتاب الذي قال فيه {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} والإِنجيلُ إنما أُنزل متمماً للتوراة ومُحلاً لبعض ما حُرم على بني إسرائيل {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} أي فإن لم يجيبوك إلى ما طلبته منهم فاعلم أن كفرهم عنادٌ واتباع للأهواء لا بحجةٍ وبرهان {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} أي لا أحد أضلُّ ممن اتبع هواه بغير رشادٍ ولا بيانٍ من الله {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي لا يوفق للحق من كان معانداً ظالماً، بالانهماك في اتباع الهوى، والإِعراض عن سبيل الهدى {وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي ولقد تابعنا ووالينا لقريش القرآن يتبع بعضُه بعضاً، وعداً ووعيداً، وقصصاً وعبراً، ونصائح ومواعظ ليتعظوا ويتذكروا بما فيه قال ابن الجوزي: المعنى أنزلنا القرآن يتبع بعضُه بعضاً، ويخبر عن الأمم الخالية كيف عُذبوا لعلهم يتعظون.
إيمان طوائف من أهل الكتاب بالقرآن
{الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ(52)وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ(53)أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(54)وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ(55)}.
سبب النزول:
نزول الآية (52):
{وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ}: أخرج ابن جرير عن علي بن رفاعة قال: خرج عشرة رهط من أهل الكتاب، منهم رفاعة -يعني أباه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فآمنوا فأوذوا، فنزلت: {الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ}. وأخرج أيضاً عن قتادة قال: كنا نتحدث أنها نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على الحق، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فآمنوا به، منهم سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام.
وقال سعيد بن جُبَيْر: نزلت هذه الآية في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليه: {يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} حتى ختمها، فجعلوا يبكون، وأسلموا.
وعلى كل حال، العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
{الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} أي الذين أعطيناهم التوراة والإِنجيل من قبل هذا القرآن -من مسلمي أهل الكتاب- هم بهذا القرآن يصدقون قال ابن عباس: يعني من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} أي وإذا قرئ عليهم القرءان قالوا صدقنا بما فيه {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} أي كنا من قبل نزوله موحدين لله، مستسلمين لأمره، مؤمنين بأنه سيبعث محمد وينزل عليه القرءان قال تعالى {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} أي أولئك الموصوفون بالصفات الجميلة يعطون ثوابهم مضاعفاً، مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرةً على إيمانهم بالقرآن وفي الحديث (ثلاثة يُؤْتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه ثم آمن بي ..) الحديث { بِمَا صَبَرُوا} أي بسبب صبرهم على اتباع الحقِّ، وتحملهم الأذى في سبيل الله قال قتادة: نزلت في أناسٍ من أهل الكتاب، كانوا على شريعةٍ من الحق يأخذون بها وينتهون إليها، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وصدَّقوه، فأعطاهم الله أجرهم مرتين بما صبروا، وذُكر أن منهم سلمان وعبدالله بن سلام {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي ويدفعون الكلام القبيح كالسب والشتم بالحسنة أي الكلمة الطيبة الجميلة قال ابن كثير: لا يقابلون السيء بمثله ولكن يعفون ويصفحون {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي ومن الذي رزقناهم من الحلال ينفقون في سبيل الخير {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} أي وإذا سمعوا الشتم والأذى من الكفار وسمعوا ساقط الكلام، لم يلتفتوا إليه ولم يردُّوا على أصحابه {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي لنا طريقنا ولكم طريقكم { سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي سلام متاركة ومباعدة، قال الزجاج: لم يريدوا التحية وإنما أرادوا بيننا وبينكم المتاركة {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أي لا نطلب صحبتهم ولا نريد مخالطتهم قال الصاوي: كان المشركون يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون: تباً لكم أعرضتم عن دينكم وتركتموه ! فيعرضون عنهم ويقولون لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. في هذه الآيات مدحَ الله تعالى أهل الكتاب السابقين بالإيمان، ثم مدحهم بالإحسان، ثم مدحهم بالعفو والصفح عن أهل العدوان، وهي خصالٌ جعلتهم يقبلون على الإسلام بقلوب مطمئنة.
الرد على شبه المشركين
{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(56)وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(57)وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ(58)وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ(59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ(60)أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ(61)}.
سبب النزول:
نزول الآية (56):
{إِنَّكَ لا تَهْدِي}: أخرج مسلم وعبد بن حميد والترمذي والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: قل: لا إله إلا الله، أشهد لك يوم القيامة، قال: لولا أن تعيرني نساء قريش، يقلن: إنه حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
وأخرج النسائي وابن عساكر في تاريخ دمشق بسند جيد عن أبي سعيد بن رافع قال: سألت ابن عمر عن هذه الآية: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} في أبي جهل وأبي طالب ؟ قال: نعم.
نزول الآية (57):
{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ}: أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن أناساً من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن نتبعك تخطفنا الناس، فنزلت.
وأخرج النسائي عن ابن عباس أن الحارث بن عثمان بن عامر بن نوفل بن عبد مناف هو الذي قال ذلك، وعبارته -كما في البيضاوي-: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن تبعناك وخالفنا العرب - وإنما نحن أكلة الرأس، أي قليلو العدد -أن يتخطفونا من أرضنا، فنزل قوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ} الآية.
نزول الآية (61):
{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ}: أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ} الآية، قال : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل بن هشام. وأخرج من وجه آخر عنه: أنها نزلت في حمزة وأبي جهل.
ثم قال تعالى مخاطباً رسوله {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي إنك يا محمد لا تقدر على هداية أحد، مهما بذلت فيه من مجهود، وجاوزت في السعي كل حدٍّ معهود {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي ولكنه تعالى بقدرته يهدي من قدر له الهداية، فسلم أمرك إليه فإنه أعلم بأهل السعادة والشقاوة {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي هو تعالى العالم بمن فيه استعداد للهداية والإيمان فيهديه قال المفسرون: نزلت في عمه "أبي طالب" حين عرض عليه الإِسلام عند موته فأبى قال أبو حيان: ومعنى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي لا تقدر على خلق الهداية فيه، ثم قال: ولا تنافي بين هذا وبين قوله {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} لأن معنى هذا: وإنك لترشد، وقد أجمع المسلمون على أنها نزلت في "أبي طالب" ثم ذكر تعالى شبهةً من شبهات المشركين وردَّ عليها بالبيان الواضح فقال {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} أي وقال كفار قريش: إن اتبعناك يا محمد على دينك وتركنا ديننا نخاف أن تتخطفنا العرب فيتجمعون على محاربتنا، ويخرجوننا من أرضنا، قال المبرد: والتخطُّف الانتزاع بسرعة، قال تعالى رداً عليهم {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} أي أولم نعصمْ دماءهم ونجعل مكانهم حرماً ذا أمن، بحرمة البيت العتيق ؟ فكيف يكون الحرم آمناً لهم في حال كفرهم، ولا يكون آمناً لهم في حال إسلامهم؟ {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} أي تُجْلب إليه الأرزاق من كل مكان مع أنه بوادٍ غير ذي زرع رزقاً لهم من عندنا {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكن أكثرهم جهلة لا يتفكرون في ذلك ولا يتفطنون قال أبو حيان: قطع الله حجتهم بهذا البيان الناصع إذْ كانوا وهم كفارٌ بالله، عباد أصنام قد أمِنوا في حرمهم، والناسُ في غيره يتقاتلون وهم مقيمون في بلدٍ غير ذي زرع، يجيء إليهم ما يحتاجون من الأقوات، فكيف إذا آمنوا واهتدوا ؟ {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي وكثير من أهل قريةٍ طغت وأشرت وكفرت نعمة الله فدمَّر الله عليهم وخرب ديارهم {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا} أي فتلك مساكنهم خاويةً بما ظلموا لم تسكن من بعد تدميرها إلاَّ زماناً قليلاً إذْ لا يسكنها إلا المارَّةُ والمسافرون يوماً أو بعض يومٍ {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} أي وكنا نحن الوارثين لأملاكهم وديارهم قال في البحر: والآية تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم، من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن، وخفض العيش، فكفروا النعمة وقابلوها بالشر والبطر فدمرهم الله وخرب ديارهم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} أي ما جرت عادة الله جل شأنه أن يهلك أهل القرى الكافرة {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} أي حتى يبعث في أصلها وعاصمتها رسولاً يبلغهم رسالة الله لقطع الحجج والمعاذير {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} أي وما كنا لنهلك القرى إلا وقد استحق أهلها الإِهلاك، لإِصرارهم على الكفر بعد الإِعذار إليهم ببعثة المرسلين قال القرطبي : أخبر تعالى أنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الإِهلاك بظلمهم، وفي هذا بيانٌ لعدله وتقدّسه عن الظلم، ولا يهلكهم - مع كونهم ظالمين - إلا بعد تأكيد الحجة والإِلزام ببعثة الرسل، ولا يجعل علمه تعالى بأحوالهم حجة عليهم {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} أي وما أعطيتم أيها الناس من مالٍ وخيرٍ فهو متاعٌ قليل تتمتعون به في حياتكم ثم ينقضي ويفنى قال ابن كثير: يخبر تعالى عن حقارة الدنيا وما فيها من الزينة الدنيئة، والزهرة الفانية، بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة، من النعيم العظيم المقيم {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي وما عنده من الأجر والثواب، والنعيم الدائم الباقي خير وأفضل من هذا النعيم الزائل {أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ توبيخٌ لهم أي أفلا تعقلون أن الباقي أفضل من الفاني ؟ قال الإِمام الفخر: بيَّن تعالى أن منافع الدنيا مشوبةٌ بالمضارِّ، بل المضارُّ فيها أكثر، ومنافع الآخرة غير منقطعة، بينما منافع الدنيا منقطعة، ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً، فكيف ونصيب كل أحدٍ من الدنيا كالذرة كالقياس إلى البحر، فمن لم يرجَّح منافع الآخرة على منافع الدنيا يكون كأنه خارجٌ عن حدّ العقل {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ} أي أفمن وعدناه وعداً قاطعاً بالجنة وما فيها من النعيم المقيم الخالد، فهو لا محالة مدركه لأن وعد الله لا يتخلف {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}؟ أي كمن متعناه بمتاع زائل، مشوب بالأكدار، مملوءٍ بالمتاعب، مستتبع للحسرة على انقطاعه ؟ {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِمِنَالْمحْضَرِينَ} أي ثم هو في الآخرة من المحضرين للعذاب، فهل يساوي العاقل بينهما ؟ قال ابن جزي: والآية ايضاحٌ لما قبلها من البون الشاسع بين الدنيا والآخرة، والمراد بمن وعدناه المؤمنين، وبمن متعناه الكافرين.
توبيخ المشركين يوم القيامة على مزاعمهم
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَاءي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(62)قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ(63)وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ(64)وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ(65)فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءلُونَ(66)فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَمِنَالْمُفْلِحِينَ(67)}.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي واذكر حال المشركين يوم يناديهم الله فيقول لهم على سبيل التوبيخ والتقريع: أين هؤلاء الشركاء والآلهة من الأصنام والأنداد الذين عبدتموهم من دوني، وزعمتم أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم ؟ {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ} أي قال رؤساؤهم وكبرؤاهم الذين وجب عليهم العذاب لضلالهم وطغيانهم {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} أي هؤلاء أتباعنا الذين أضللناهم عن سبيلك {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} أي أضللناهم كما ضللنا، لا بالقسر والإِكراه ولكن بطريق الوسوسة وتزيين القبيح فضلّوا كما ضللنا نحن {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ} أي تبرأنا إليك يا الله من عبادتهم إيانا، فما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون أهواءهم وشهواتهم {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} أي وقيل للكفار استغيثوا بآلهتكم التي عبدتموها في الدنيا لتنصركم وتدفع عنكم عذاب الله، وهذا على سبيل التهكم بهم {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} أي فاستغاثوا بهم فلم يجيبوهم ولم ينتفعوا بهم، وهذا من سخافة عقولهم {وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} أي وتمنَّوا حين شاهدوا العذاب لو كانوا مهتدين قال الطبري: أي فودُّوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين للحق {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ} توبيخٌ آخر للمشركين أي ويوم يناديهم الله ويسألهم: ماذا أجبتم رسلي ؟ هل صدقتموهم أم كذبتموهم ؟ {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءلُونَ} أي فخفيت عليهم الحجج، وأظلمت عليهم الأمور، فلم يعرفوا ما يقولون، فهم حيارى واجمون، لا يسأل بعضهم بعضاً عن الجواب لفرط الدهشة والحيرة {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَمِنَالْمُفْلِحِينَ} أي فأمّا من تاب من الشرك، وجمع بين الإِيمان والعمل الصالح فعسى أن يكون من الفائزين بجنات النعيم قال الصاوي: والترجي في القرآن بمنزلة التحقق، لأنه وعد كريم من ربٍّ رحيم، ومن شأنه تعالى أنه لا يخلف وعده.



الله وحده هو الخالق المتصرف العالم بمكنونات الأنفس
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} أي هو تعالى الخالق المتصرف، يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد، فلا اعتراض لأحدٍ على حكمه قال مقاتل: نزلت في "الوليد بن المغيرة" حين قال {لولا نُزّل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم}{مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} أي ما كان لأحدٍ من العباد اختيار، إنما الاختيار والإِرادة لله وحده {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه الله العظيم الجليل وتقدس أن ينازعه أحدٌ في ملكه، أو يشاركه في اختياره وحكمته قال القرطبي: المعنى وربك يخلق ما يشاء من خلقه، ويختار من يشاء لنبوته، والخيرة له تعالى في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة، فليس لأحدٍ من خلقه، أن يختار عليه {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي هو تعالى العالم بما تخفيه قلوبهم من الكفر والعداوة للرسول والمؤمنين، وما يظهرونه على ألسنتهم من الطعن في شخص رسوله الكريم حيث يقولون: ما أنزل الله الوحي إلا على يتيم أبي طالب ! {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي هو جل وعلا اللهُ المستحقُ للعبادة، لا أحد يستحقها إلا هو {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ} أي له الثناء الكامل في الدنيا والآخرة، لأنه تعالى المتفضل على العباد بالنعم كلها في الدارين {وَلَهُ الْحُكْمُ} أي وله القضاء النافذ والفصل بين العباد {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي إليه وحده مرجع الخلائق يوم القيامة، فيجازي كل عاملٍ بعمله.
دلائل قدرة الله عز وجل وتأكيد توبيخ المشركين
{قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ(71)قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ(72)وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(73)وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(74)وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(75)}.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين من كفار مكة: أخبروني لو جعل الله عليكم الليل دائماً مستمراً بلا انقطاع إلى يوم القيامة {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} ؟ أي من هو الإِله الذي يقدر على أن يأتيكم بالنور الذي تستضيئون به في حياتكم غيرُ الله تعالى ؟ {أَفَلا تَسْمَعُونَ} أي أفلا تسمعون سماع فهمٍ وقبول فتستدلوا بذلك على وحدانية الله تعالى ؟ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي أخبروني لو جعل الله عليكم النهار دائماً مستمراً بلا انقطاع {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} أي من هو الإله القادر على أن يأتيكم بليلٍ تستريحون فيه من الحركة والنصب غير الله تعالى ؟ { أَفَلا تُبْصِرُونَ} أي أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال ؟ ثم نبه تعالى إلى كمال رحمته بالعباد فقال {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي ومن آثار قدرته، ومظاهر رحمته أن خلق لكم الليل والنهار يتعاقبان بدقةٍ وإحكام {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي لتستريحوا بالليل من نصب الحياة وهمومها وأكدارها، ولتلتمسوا من رزقه بالمعاش والكسب في النهار {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولتشكروا ربكم على نعمه الجليلة التي لا تُحصى، ومنها نعمةُ الليل والنهار قال الإِمام الفخر: نبه تعالى بهذه الآية على أن الليل والنهار نعمتان يتعاقبان على الزمان، لأن المرء في الدنيا مضطر إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه، ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار، ولولا الراحة والسكون في الليل، فلا بدَّ منهما في الدنيا، وأما في الجنة فلا نصب ولا تعب فلا حاجة بهم إلى الليل، فلذلك يدوم لهم الضياء واللذات {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} قال ابن كثير: هذا نداءٌ ثانٍ على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد مع الله إلهاً آخر، يناديهم الرب على رؤوس الأشهاد: أي شركائي الذين زعمتموهم في الدنيا ؟ {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } أي أخرجنا من كل أمةٍ شهيداً منهم يشهد عليهم بأعمالهم وهو نبيُّهم {فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } أي هاتوا حجتكم على ما كنتم عليه من الكفر، وهذا إعذار لهم وتوبيخٌ وتعجيز {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} أي فعلموا حينئذٍ أن الحقَّ لله ولرسله، وأنه لا إله إلا هو {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع ما كانوا يتخرصونه في الدنيا من الشركاء والأنداد.
قصة قارون وبغيه على قوم موسى
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءاتَيْنَاهُمِنَالْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ(76)وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الأخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَمِنَالدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِمِنَالقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْئلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ(78)}.
ثم ذكر تعالى قصة "قارون" ونتيجة الغرور والطغيان فقال{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} أي من عشيرته وجماعته قال ابن عباس: كان ابن عم موسى {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} أي تجبر وتكبر على قومه، واستعلى عليهم بسبب ما منحه الله من الكنوز والأموال قال الطبري: أي تجاوز حدَّه في الكبر والتجبر عليهم {وءاتَيْنَاهُمِنَالْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} أي أعطيناه من الأموال الوفيرة، والكنوز الكثيرة ما يثقل على الجماعة أصحاب القوة حمل مفاتيح خزائنه لكثرتها وثقلها فضلاً عن حمل الخزائن والأموال والآية تصويرٌ لما كان عليه قارون من كثرة المال والغنى والثراء {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} أي لا تأشر ولا تبطر {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي لا يحب البطرين الذين لا يشكرون الله على إنعامه، ويتكبرون بأموالهم على عباد الله {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} أي اطلب فيما أعطاك الله من الأموال رضى الله، وذلك بفعل الحسنات والصدقات والإِنفاق من الطاعات {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَمِنَالدُّنْيَا} قال الحسن: أي لا تضيّع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إيّاه {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} أي لا تطلب بالمال البغي والتطاول على الناس، والإِفساد في الأرض بالمعاصي {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} أي لا يحب من كان مجرماً باغياً مفسداً في الأرض {قال إنّما أوتيتُه على علمٍ عندي} لمَّا وعظه قومه أجابهم بهذا على وجه الرد عليهم والتكبر عن قبول الموعظة والمعنى: إنما أعُطيت هذا المال على علمٍ عندي بوجوه المكاسب، ولولا رضى الله عني ومعرفته بفضلي واستحقاقي له ما أعطاني هذا المال ! قال تعالى رداً عليه {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِمِنَالقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} أي أولم يعلم هذا الأحمق المغرور أنَّ الله قد أهلك من قبله من الأمم الخالية من هو أقوى منه بدناً وأكثر مالاً ؟! قال البيضاوي: والآية تعجبٌ وتوبيخ على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة، وسمعه من حفاظ التواريخ {وَلا يُسْئلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ} أي لا حاجة أن يسألهم الله عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه عالمٌ بكل شيء، ولا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤالهم بل متى حقَّ عليهم العذاب أهلكهم بغتة.
طغيان قارون بجاهه وماله
{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(79)وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ(80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَمِنَالمُنْتَصِرِينَ(81)وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(82)}.
ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بنصيحة قومه، بل تمادى في غطرسته وغيِّه فقال تعالى {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} أي فخرج قارون على قومه في أظهر أبهى وأكملها قال المفسرون : خرج ذات يوم في زينةٍ عظيمة بأتباعه الكثيرين، ركباناً متحلين بملابس الذهب والحرير، على خيولٍ موشحةٍ بالذهب، ومعه الجواري والغلمان في موكبٍ حافلٍ باهر {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} أي فلما رآه ضعفاء الإِيمان ممن تخدعهم الدنيا ببريقها وزخرفها وزينتها قالوا: يا ليت لنا مثل هذا الثراء والغنى الذي أُعطيه قارون {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي ذو نصيب وافرٍ من الدنيا {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي وقال لهم العقلاء من أهل العلم والفهم والاستقامة {وَيْلكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي ارتدعوا وانزجروا عن مثل هذا الكلام فإن جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين خيرٌ مما ترون وتتمنَّون من حال قارون قال الزمخشري: أصل {ويلك} الدعاء بالهلاك ثم استعمل في الزجر والردع، والبعث على ترك ما لا يرتضى {وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ} أي ولا يُعطى هذه المرتبة والمنزلة في الآخرة إلا الصابرون على أمر الله قال تعالى تنبيهاً لنهايته المشئومة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} أي جعلنا الأرض تغور به وبكنوزه، جزاءً على عتوه وبطره {فَمَا كَانَ لَهُمِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ما كان له أحد من الأنصار والأعوان يدفعون عنه عذاب الله {وَمَا كَانَمِنَالمُنْتَصِرِينَ} أي وما كان من المنتصرين بنفسه بل كان من الهالكين {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} أي وصار الذين تمنوا منزلته وغناه بالأمس القريب بعد أن شاهدوا ما نزل به من الخسف {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} أي يقولون ندماً وأسفاً على ما صدر منهم من التمني : اعجبوا أيها القوم من صنع الله، كيف أن الله يوسّع الرزق لمن يشاء من عباده - بحسب مشيئته وحكمته - لا لكرامته عليه، ويضيّق الرزق على من يشاء - لحكمته وقضائه ابتلاءً - لا لهوانه عليه !! قال الزمخشري: {وَيْكَأَنَّ} كلمتان "وَيْ" مفصولة عن "كأنَّ" وهي كلمة تنبيه على الخطأ وتندم، ومعناه أن القوم تنبهوا على خطئهم في تمنيهم منزلة قارون وتندموا وقالوا {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} أي لولا أنَّ الله لطف بنا، وتفضَّل علينا بالإِيمان والرحمة، ولم يعطنا ما تمنيناه {لَخَسَفَ بِنَا} أي لكان مصيرنا مصير قارون، وخسف بنا الأرض كما خسفها به {وَيْكَأَنهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أي أعجبُ من فعل الله حيث لا ينجح ولا يفوز بالسعادة الكافرون لا في الدنيا، ولا في الآخرة ... وإلى هنا تنتهي "قصة قارون" وهي قصة الطغيان بالمال.
الآخرة دار الجزاء
بعد أن ذكر تعالى قصة الطغيان بالجاه والسلطان في قصة فرعون وموسى، جاء تقرير الحقيقة الربانية في قوله تعالى {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} اسم الإِشارة للتفخيم والتعظيم أي تلك الدار العالية الرفيعة التي سمعت خبرها، وبلغك وصفها هي دار النعيم الخالد السرمدي، التي فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نجعلها للمتقين الذين لا يريدون التكبر والطغيان، ولا الظلم والعدوان في هذه الحياة الدنيا {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} أي العاقبة المحمودة للذين يخشون الله ويراقبونه، ويبتغون رضوانه ويحذرون عقابه { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} أي من جاء يوم القيامة بحسنةٍ من الحسنات فإن الله يضاعفها له أضعافاً كثيرة {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ومن جاء يوم القيامة بالسيئات فلا يجزى إلا بمثلها، وهذا من فضل الله على عباده أنه يضاعف لهم الحسنات ولا يضاعف لهم السيئات.
قصص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع قومه
{إنَّ الَّذي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(85)وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ(86)وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْءاياتاللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّمِنَالْمُشْرِكِينَ(87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(88)}.
سبب النزول:
نزول الآية (85):
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ}: أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فبلغ الجُحْفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}.
وقال مقاتل: إنه صلى الله عليه وسلم خرج من الغار - غار ثور حين الهجرة - وسار في غير الطريق، مخافة الطلَب، فلما أمن رجع إلى الطريق، ونزل بالجُحْفة بين مكة والمدينة، وعرف الطريق إلى مكة، واشتاق إليها، وذكر مولده ومولد أبيه، فنزل جبريل عليه السلام، وقال له: تشتاق إلى بلدك ومولدك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال جبريل عليه السلام: فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} يعني إلى مكة ظاهراً عليهم. قال الرازي: وهذا المعنى أقرب، لأن ظاهر المعاد أنه كان فيه، وفارقه وحصل العود، وذلك لا يليق إلا بمكة، وإن كان سائر الوجوه محتملاً، لكن ذلك أقرب.
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أي إن الذي أنزل عليك يا محمد القرآن وفرض عليك العمل به {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي لرادُّك إلى مكة كما أخرجك منها، وهذا وعدٌ من الله بفتح مكة ورجوعه عليه السلام إليها بعد أن هاجر منها قال ابن عباس: معناه لرادك إلى مكة، وقال الضحاك: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجُحْفة اشتاق إلى مكة، فأنزل الله عليه هذه الآية {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين : ربي أعلم بالمهتدي والضال هل أنا أو أنتم ؟ فهو جلَّ وعلا الذي يعلم المحسن من المسيء، ويجازي كلاً بعمله، وهو جواب لقول كفار مكة: إنك يا محمد في ضلال مبين {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي وما كنت تطمع أن تنال النبوة، ولا أن ينزل عليك الكتابُ ولكن رحمك الله بذلك ورحم العباد ببعثتك قال الفراء: وهذا استثناء منقطع والمعنى إلا أنّ ربك رحمك فأنزله عليك {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} أي لا تكن عوناً لهم على دينهم، ومساعداً لهم على ضلالهم، بالمداراة والمجاملة ولكن نابذهم وخالفهم قال المفسرون: دعا المشركون الرسول إلى دينءابائه، فأُمر بالتحرز منهم وأن يصدع بالحق، والخطابُ بهذا وأمثاله له عليه السلام، والمراد أمته لئلا يظاهروا الكفار ولا يوافقوهم {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} أي ولا تلتفت إلى هؤلاء المشركين، ولا تركن إلى قولهم فيصدوك عن اتباع ما أنزل الله إليك من الآيات البينات {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أي وادع الناس إلى توحيد ربك وعبادته {وَلا تَكُونَنَّمِنَالْمُشْرِكِينَ} أي بمسايرتهم على أهوائهم، فإن من رضي بطريقتهم كان منهم {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ} أي لا تعبد إلهاً سوى الله {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود بحقٍ إلا الله تعالى قال البيضاوي: وهذا وما قبله للتهييج وقطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} أي كل شيء يفنى وتبقى ذاتُه المقدسة، أطلق الوجه، وأراد ذات الله جلَّ وعلا قال ابن كثير: وهذا إخبار بأنه تعالى الدائم الباقي، الحيُّ القيوم، الذي تموت الخلائق ولا يموت، فعبَّر بالوجه عن الذات كقوله {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي له القضاء النافذ في الخلق، وإليه مرجعهم جميعاً يوم المعاد لا إلى أحدٍ سواه.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 01:42 AM

سورة العنكبوت
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة العنكبوت مكية وموضوعها العقيدة في أصولها الكبرى "الوحدانية، الرسالة، البعث والجزاء" ومحور السورة الكريمة يدور حول الإِيمان و "سنة الابتلاء" في هذه الحياة لأن المسلمين في مكة كانوا في أقسى المحنة والشدَّة، ولهذا جاء الحديث عن موضوع الفتنة والابتلاء في هذه السورة مطوَّلاً مفصلاً وبوجه خاص عند ذكر قصص الأنبياء.
* تبتدئ السورة الكريمة بهذا البدء الصريح {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} ؟ وتمضي السورة تتحدث عن فريق من الناس يحسبون الإِيمان كلمةً تقال باللسان، فإِذا نزلت بهم المحنة والشدة انتكسوا إِلى جحيم الضلال، وارتدوا عن الإِسلام تخلصاً من عذاب الدنيا، كأن عذاب الآخرة أهون من عذاب الدنيا {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ..} الآيات.
* وتمضي السورة تتحدث عن "محنة الأنبياء" وما لاقوه من شدائد وأهوال في سبيل تبليغ رسالة الله، بدءاً بقصة نوح، ثم إِبراهيم، ثم لوط، ثم شعيب، وتتحدث عن بعض الأمم الطغاة والأفراد المتجبرين كعاد، وثمود، وقارون، وهامان وغيرهم وتذكر ما حلَّ بهم من الهلاك والدمار {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} الآيات.
* وفي قصص الأنبياء دروسٌ من المحن والابتلاء، تتمثل في ضخامة الجهد وضآلة الحصيلة، فهذا نوح عليه السلام يمكث في قومه تسعمائة وخمسين سنة يدعوهم إلى الله فما يؤمن معه إلا قليل {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} وهذا أبو الأنبياء إِبراهيم الخليل يحاول هداية قومه بكل وسيلة، ويجادلهم بالحجة والبرهان فما تكون النتيجة إِلا العلو والطغيان {قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ..} الآيات.
* وفي قصة لوط يظهر التبجح بالرذيلة دون خجل أو حياء {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍمِنَالْعَالَمِينَ} الآيات وبعد ذلك الاستعراض السريع لمحنة الأنبياء، تمضي السورة الكريمة تبيّن صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهو رجل أميٌّ لم يقرأ ولم يكتب ثم جاءهم بهذا الكتاب المعجز، وهذا من أعظم البراهين على أنه كلام رب العالمين {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} وتنتقل السورة للحديث عن الأدلة والبراهين على القدرة والوحدانية منبثقة من هذا الكون الفسيح، ثم تختم ببيان جزاء الذين صبروا أمام المحن والشدائد وجاهدوا بأنواع الجهاد النفسي والمالي، ووقفوا في وجه المحنة والابتلاء {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
التسِميَة:
سميت "سورة العنكبوت" لأن الله ضرب العنكبوت فيها مثلاً للأصنام المنحوتة، والآلهة المزعومة {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا.. } الآيات.
اختبار الناس وجزاؤهم
{الم(1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ(4)مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(5)وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّعَنِالْعَالَمِينَ(6)وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(7)}
سبب النزول:
نزول الآية (1-7):
روي أنها نزلت في ناس من الصحابة جزعوا من أذى المشركين، وقيل: في عمار، وقد عذب في الله، فقد أخرج ابن سعد عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله: {أَحَسِبَ النَّاسُ} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي في قوله: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} الآية قال: أنزلت في أناس كانوا بمكة، وقد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة أنه لا يقبل منكم حتى تهاجروا، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فتبعهم المشركون، فردوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم أنه قد نزل فيكم كذا وكذا، فقالوا: نخرج، فإن اتَّبَعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110].
وأخرج ابن أبي حاتم أيضاً عن قتادة قال: أنزلت {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ} في أناس من أهل مكة خرجوا، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض لهم المشركون، فرجعوا، فكتب إليهم إخوانهم بما نزل فيهم، فخرجوا فقتل من قتل، وخلص من خلص، فنزل القرآن: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
وقال مقاتل: نزلت في مِهْجَع مولى عمر بن الخطاب، كان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ: "سيد الشهداء مِهْجَع، وهو أول من يُدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة" فجزع عليه أبواه وامرأته، فنزلت: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا..} الآية.
{الم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرءان { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}؟ الهمزة للاستفهام الإِنكاري أي أظنَّ الناسُ أن يُتركوا من غير افتتان لمجرد قولهم باللسان آمنا؟ لا ليس كما ظنوا بل لا بدَّ من امتحانهم ليتميز الصادق من المنافق قال ابن جزي: نزلت في قومٍ من المؤمنين كانوا بمكة مستضعفين، منهم "عمار بن ياسر" وغيره، وكان كفار قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإِسلام، فضاقت صدورهم بذلك فآنسهم الله بهذه الآية ووعظهم وأخبرهم أن ذلك اختبار، ليوطنوا أنفسهم على الصبر على الأذى، والثبات على الإِيمان، وأعلمهم أن تلك سيرته في عباده يسلّط الكفار على المؤمنين ليمحصهم بذلك، ويظهر الصادق في إيمانه من الكاذب {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي ولقد اختبرنا وامتحنا من سبقهم بأنواع التكاليف والمصائب والمحن قال البيضاوي: والمعنى أن ذلك سنة قديمة، جارية في الأمم كلها، فلا ينبغي أن يتوقع خلافه {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} أي فليميزنَ الله بين الصادقين في دعوى الإِيمان، وبين الكاذبين فيه، وعبَّر عن الصادقين بلفظ الفعل {الَّذِينَ صَدَقُوا} وعن الكاذبين باسم الفاعل {الْكَاذِبِينَ} للإِشارة إِلى أن الكاذبين وصفهم مستمر وأن الكذب راسخ فيهم بخلاف الصادقين فإِن الفعل يفيد التجدد، قال الإِمام الفخر: إِن اسم الفاعل يدل في كثير من المواضع على ثبوت المصدر ورسوخه فيه، والفعل الماضي لا يدل عليه كما يقال: فلانٌ شرب الخمر، وفلانٌ شاربُ الخمر، فإِنه لا يفهم من صيغة الفعل الثبوتُ والرسوخ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} أي أيظن المجرمون الذين يرتكبون المعاصي والموبقات أنهم يفوتون من عقابنا ويعجزوننا ؟ {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي بئس ما يظنون قال الصاوي: والآية انتقال من توبيخ إلى توبيخ أشد، فالأول توبيخ للناس على ظنهم أنهم يفوتون عذاب الله ويفرون منه مع دوامهم على كفرهم {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ} لما بيَّن تعالى أن العبد لا يترك في الدنيا سُدى، بيَّن هنا أن من اعترف بالآخرة وعمل لها لا يضيع عمله، ولا يخيب أمله والمعنى من كان يرجو ثواب الله فليصبر في الدنيا على المجاهدة في طاعة الله حتى يلقى الله فيجازيه، فإِن لقاء الله قريب الإِتيان، وكلُّ ما هو آتٍ قريب، والآية تسلية للمؤمنين ووعدٌ لهم بالخير في دار النعيم {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي هو تعالى السميع لأقوال العباد، العليم بأحوالهم الظاهرة والباطنة {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} أي ومن جاهد نفسه بالصبر على الطاعات، والكف عن الشهوات، فمنفعة جهاده إِنما هي لنفسه {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّعَنِالْعَالَمِينَ} أي مستغنٍ عن العباد، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي لنمحونَّ عنهم سيئاتهم التي سلفت منهم بسبب إيمانهم وعملهم الصالح {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ونجزيهم بأحسن أعمالهم الصالحة وهي الطاعات.
التوصية بحسن معاملة الوالدين وبيان خسة المنافقين
{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(8)وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ(9)وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ(10)وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ(11)وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(12)وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْئلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ(13)}.
سبب النزول:
نزول الآية (8):
{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ}: روى مسلم وأحمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن سعد بن أبي وقاص قال: قالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبر ؟ والله لا أَطعَم طعاماً، ولا أشرب شراباً حتى أموت أو تكفر، فنزلت: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ}.
وتوضيح ذلك في رواية الترمذي: أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقَّاص وأمه حَمْنة بنت أبي سفيان لما أسلم، وكان من السابقين الأولين، وكان بارّاً بأُمِّه، قالت له: ما هذا الدين الذي أحدثت ؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فتعيَّر بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوماً وليلة، لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت وقد جَهَدت، ثم مكثت يوماً آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه، لو كانت لك مئة نفس، فخرجت نفساً نفساً، ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية، آمراً بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك به.
وقال ابن عباس في آية {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي}: نزلت في عيَّاش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه، وقد فعلت أمه مثل ذلك. وعنه أيضاً: نزلت في جميع الأمة، إذ لا يصبر على بلاء الله إلا صدّيق.
نزول الآية (10):
{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ}: نزلت في المنافقين. قال مجاهد : نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا.
وقال الضحاك: نزلت في أناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أُوذوا رجعوا إلى الشرك.
وقال ابن عباس: نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون عن الدين فارتدُّوا، والذين نزلت فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} الآية [النساء : 97]. وقيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة: أسلم وهاجر، ثم أوذي وضرب فارتد، وكان عذبه أبو جهل والحارث، وكانا أخوين لأمه، ثم عاش بعد ذلك وحسن إسلامه.
نزول الآية (12):
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قال مجاهد: إن الآية نزلت في كفار قريش قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فاتبعونا، فإن كان عليكم إثم فعلينا.
{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} أي أمرناه أمراً مؤكداً بالإِحسان إِلى والديه غاية الإِحسان، لأنهما سبب وجوده ولهما عليه غاية الفضل والإِحسان، الوالد بالإِنفاق والوالدة بالإِشفاق قال الصاوي: وإِنما أمر الله الأولاد ببر الوالدين دون العكس، لأن الأولاد جُبلوا على القسوة وعدم طاعة الوالدين، فكلفهم الله بما يخالف طبعهم، والآباء مجبولون على الرحمة والشفقة بالأولاد فوكلهم لما جُبلوا عليه {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} أي وإِن بذلا كلَّ ما في وسعهما، وحرصا كلَّ الحرص على أن تكفر بالله وتشرك به شيئاً لا يصح أن يكون إِلهاً ولا يستقيم، فلا تطعهما في ذلك لأنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الله {إِلَيَّ مَرْجِعُكمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إِليَّ مرجع الخلائق جميعاً، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فأجازي كلاّ بما عمل، وهذا وعدٌ حسن لمن برَّ والديه واتبع الهدى، ووعيدٌ لمن عقَّ والديه واتبع سبيل الرَّدى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}أي لندخلنَّهم في زمرة الصالحين في الجنة قال القرطبي: كرَّر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين لتحريك النفوس الى نيل مراتبهم، وفي {الصَّالِحِينَ} مبالغة أي الذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته، ولما ذكر تعالى ما أعده للمؤمنين الخلَّص ذكر حال المنافقين المذبذبين فقال {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} أي ومن الناس فريقٌ يقولون بألسنتهم آمنا بالله، فإذا أُوذي أحدهم بسبب إيمانه ارتد عن الدين وجعل ما يصيبه من أذى الناس سبباً صارفاً له عن الإيمان كعذاب الله الشديد الذي يصرف الإنسان عن الكفر قال المفسرون: والتشبيه {كَعَذَابِ اللَّهِ} من حيث إن عذاب الله مانع للمؤمنين من الكفر، فكذلك المنافقون جعلوا أذاهم مانعاً لهم من الإيمان، وكان مقتضى إيمانهم أن يصبروا ويتشجعوا، ويروا في العذاب عذوبة، وفي المحنة منحة، فإن العاقبة للمتقين قال الامام الفخر: أقسام المكلفين ثلاثة: مؤمنٌ ظاهر بحسن اعتقاده، وكافرٌ مجاهر بكفره وعناده، ومذبذبٌ بينهما يظهر الإيمان بلسانه ويضمر الكفر في فؤاده، فلما ذكر تعالى القسمين بقوله {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} ذكر القسم الثالث هنا {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} واللطيفة في الآية أن الله أراد بيان شرف المؤمن الصابر، وخسَّة المنافق الكافر، فقال هناك: أُوذي المؤمن في سبيل الله ليترك سبيله ولم يتركه، وأوذي المنافق الكافر فترك الله بنفسه، وكان يمكنه أن يظهر موافقتهم ويكون قلبه مطمئناً بالإيمان، ومع هذا لم يفعله بل ترك الله بالكلية {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي ولئن جاء نصر قريب للمؤمنين، وفتح ومغانم قال أولئك المذبذبون: إنا كنا معكم ننصركم على أعدائكم، فقاسمونا فيما حصل لكم من الغنائم قال تعالى رداً عليهم {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} ؟ استفهام تقرير أي أوليس الله هو العالم بما انطوت عليه الضمائر من خير وشر، وبما في قلوب الناس من إيمان ونفاق ؟ بلى إنه بكل شيء عليم، ثم أكد ذلك بقوله {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} أي وليُظهرنَّ الله لعباده حال المؤمنين وحال المنافقين حتى يتميزوا فيفتضح المنافق، ويظهر شرف المؤمن الصادق قال المفسرون: والمراد {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} إظهار علمه للناس حتى يصبح معلوماً لديهم، وإلا فالله عالم بما كان، وما يكون، وما هو كائن لا تخفى عليه خافية، فهو إذاً علمُ إظهار وإبداء، لا علمُ غيبٍ وخفاء بالنسبة لله تعالى، وقد فسَّر ابن عباس العلم بمعنى الرؤية {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أي قال الكفار للمؤمنين اكفروا كما كفرنا، واتَّبعوا ديننا ونحن نحمل عنكم الإثم والعقاب، إن كان هناك عقاب قال ابن كثير: كما يقول القائل: افعلْ هذا وخطيئتك في عنقي، فإن قيل {وَلْنَحْمِلْ} صيغة أمر، فكيف يصح أمر النفس من الشخص ؟ فنقول: الصيغةُ أمرٌ والمعنى شرطٌ وجزاء أي إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي وما هم حاملين شيئاً من خطاياهم، لأنه لا يحمل أحدُ وزر أحد {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي وإنهم لكاذبون في ذلك، ثم قال تعالى {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} أي وليحملُنَّ أوزارهم وأوزار من أضلوهم دون أن ينقص من أوزار أولئك شيء كما في الحديث (ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبّعه من غير أن يَنْقص من آثامهم شيء) {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي وليسألنَّ سؤال توبيخ وتقريع {عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي عما كانوا يختلقونه من الكذب على الله عز وجل.
قصة نوح عليه السلام
ثم ذكر تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قصة نوح تسليةً له عما يلقاه من أذى المشركين فقال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} أي ولقد بعثنا نوحاً إلى قومه فمكث فيهم تسعمائة وخمسين سنة يدعوهم إلى توحيد الله جلّ وعلا، وكانوا عبدة أصنام فكذبوه { فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} أي فأهلكهم الله بالطوفان وهم مصرّون على الكفر والضلال قال أبو السعود: والطوفان: كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة، من السيل والريح والظلام، وقد غلب على طوفان الماءقال الرازي: وفيقوله {وَهُمْ ظَالِمُونَ} إشارة إلى لطيفة، وهي أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم، وإنما يعذب على الإصرار على الظلم ولهذا قال {وَهُمْ ظَالِمُونَ} يعني أهلكهم وهم على ظلمهم {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} أي فأنجينا نوحاً من الغرق ومن ركب معه في السفينة من أهله وأولاده وأتباعه المؤمنين {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} أي وجعلنا تلك الحادثة الهائلة عظة وعبرة للناس بعدهم يتعظون بها.
قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه
{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(16)إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(17)وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(18)أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(19) قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(20)يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ(21)وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(22)وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(23)}.
{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} قال ابن كثير: يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله "إبراهيم" إمام الحنفاء، أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له في التقوى، وطلب الرزق منه وحده، وتوحيده في الشكر فإنه المشكور على النعم لا مُسدي لها غيره {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}أي عبادة الله وتقواه خير لكم من عبادة الأوثان إن كنتم تعلمون الخير من الشر وتفرقون بينهما {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} أي أنتم لا تعبدون شيئاً ينفع أو يضر، وإنما تعبدون أصناماً من حجارة صنعتموها بأيديكم {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} أي وتصنعون كذباً وباطلاً قال ابن عباس: تنحتون وتصورون إفكاً {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} أي إن هؤلاء الذين تعبدونهم لا يقدرون على أن يرزقوكم {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أي فاطلبوا الرزق من الله وحده، فإنه القادر على ذلك {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} أي وخصوه وحده بالعبادة واخشعوا واخضعوا له، واشكروه على نعمه التي أنعم بها عليكم {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي إليه لا إلى غيره مرجعكم يوم القيامة فيجازي كل عاملٍ بعمله {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ } لما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد، أي وإن تكذبوني فلن تضروني بتكذيبكم وإنما تضرون أنفسكم فقد سبق قبلكم أمم كذبوا رسلهم فحلَّ بهم عذاب الله، وسيحل بكم ما حلَّ بهم {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي وليس على الرسول إلا تبليغ أوامر الله، وليس عليه هداية الناس قال الطبري: ومعنى {الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي الذي يبينُ لمن سمعه ما يُراد به، ويفهم منه ما يعني به {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} الاستفهام للتوبيخ لمنكري الحشر أي أولم ير المكذبون بالدلائل الساطعة كيف خلق تعالى الخلق ابتداءً من العدم، فيستدلون بالخلقة الأولى على الإعادة في الحشر ؟ قال قتادة: المعنى أولم يروا بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعيد الله الأجسام بعد الموت ؟ {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي سهل عليه تعالى فكيف ينكرون البعث والنشور ؟ فإن من قدر على البدء قادرٌ على الإعادة، قال القرطبي: ومعنى الآية على ما قاله البعض: أولم يروا كيف يبدئ الله الثمار فتحيا ثم تفنى ثم يعيدها أبداً، وكذلك يبدأ خلق الإنسان ثم يهلكه بعد أن خلق منه ولداً، وخلق من الولد ولداً، وكذلك سائر الحيوان، فإذا رأيتم قدرته على الإبداء والإيجاد، فهو القادر على الإعادة لأنه إذا أراد أمراً قال له كن فيكون {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} أي قل لهؤلاء المنكرين للبعث سيروا في أرجاء الأرض فانظروا كيف أن الله العظيم القدير خلق المخلوقات على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم، واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، وانظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف أهلكهم الله، لتعلموا بذلك كمال قدرة الله عز وجل ! {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} أي ثم هو تعالى ينشئهم عند البعث نشأةً أخرى {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه تعالى شيء ومنه البدء والإعادة {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} أي هو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله الخلق والأمر، لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} أي وإليه تُرجعون يوم القيامة {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} أي لا تفوتون من عذاب الله، وليس لكم مهربٌ في الأرض ولا في السماء قال القرطبي: والمعنى لو كنتم في السماء ما أعجزتم الله كقوله {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي ليس لكم غير الله وليُّ يحميكم من بلائه، ولا نصير ينصركم من عذابه {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} أي كفروا بالقرآن والبعث {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} أي أولئك المنكرون الجاحدون قنطوا من رحمتي قال ابن جرير: وذلك في الآخرة عند رؤية العذاب {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لهم عذاب موجع مؤلم.
جواب قوم إبراهيم له وإيمان لوط به
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُمِنَالنَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(24)وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(25)فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(26)وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ(27)}.
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} أي فما كان ردُّ قومه عليه حين دعاهم إلى الله ونهاهم عن الأصنام إلا أن قال كبراؤهم المجرمون: اقتلوه لتستريحوا منه أو حرّقوه بالنار {فَأَنجَاهُ اللَّهُمِنَالنَّارِ} أي فألقوه في النار فجعلها برداً وسلاماً عليه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إنَّ في إِنجائنا لإِبراهيم من النار لدلائل وبراهين ساطعة على قدرة الله لقوم يصدقون بوجود الله وكمال قدرته وجلاله {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} أي قال إبراهيم لقومه توبيخاً لهم وتقريعاً: إنما عبدتم هذه الأوثان والأصنام وجعلتموها آلهة مع الله {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي من أجل أن تدوم المحبة والألفة بينكم في هذه الحياة باجتماعكم على عبادتها {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} أي ثم في الآخرة ينقلب الحال فتصبح هذه الصداقة والمودة عداوةً وبغضاء حيث يقع التناكر ويتبرأ القادة من الأتباع ويلعن الأتباع القادة، لأن صداقتهم في الدنيا لم تكن من أجل الله {وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي ومصيركم جميعاً جهنم وليس لكم ناصر أو معين يخلصكم منها {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} أي فآمن معه لوط وصدَّقه وهو ابن أخيه وأول من آمن به لما رأى من الآيات الباهرة {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} أي وقال الخليل إبراهيم، إني تاركٌ وطني ومهاجر من بلدي رغبة في رضى الله قال المفسرون: هاجر من سواد العراق إلى فلسطين والشام ابتغاء إظهار الدين والتمكن من نشره { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي هو العزيز الذي لا يذل من اعتمد عليه، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} أي وهبنا لإبراهيم -لما فارق قومه في الله- ولداً صالحاً هو إسحاق وولد ولدٍ وهو يعقوب بن إسحاق {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} أي خصصناه بهذا الفضل العظيم حيث جعلنا كل الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته، وجعلنا الكتب السماوية نازلةً على الأنبياء من بنيه قال ابن كثير: وهذه خصلة سنية عظيمة مع اتخاذ الله إياه خليلاً، وجعله إماماً للناس، أن جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، فلم يوجد نبيٌ بعد إبراهيم إلا وهو من سلالته، فجميع أنبياء بني إِسرائيل من سلالة ولده "يعقوب" ولم يوجد نبي من سلالة "إِسماعيل" سوى النبي العربي عليه أفضل الصلاة والتسليم {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} أي وتركنا له الثناء الحسن في جميع الأديان {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ} أي وهو في الآخرة في عداد الكاملين في الصلاح، وهذا ثناءٌ عظيم على أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
قصة لوط عليه السلام مع قومه
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍمِنَالْعَالَمِينَ(28)أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَمِنَالصَّادِقِينَ(29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ(30)وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ(31)قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْمِنَالْغَابِرِينَ(32)وَلَمَّا أَنْ جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْمِنَالْغَابِرِينَ(33) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًامِنَالسَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(34)وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(35)}.
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} أي واذكر رسولنا لوطاً عليه السلام حين قال لقومه { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} أي إنكم يا معشر القوم لترتكبون الفعلة المتناهية في القبح {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍمِنَالْعَالَمِينَ} أي لم يسبقكم بهذه الشنيعة، والفعلة القبيحة -وهي اللواطة- أحدٌ من الخلق، ثم فسر تلك الشنيعة فقال {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} أي إنكم لتأتون الذكور في الأدبار وذلك منتهى القذارة والخسَّة قال المفسرون: لم يقدم أحد قبلهم عليها اشمئزازاً منها في طباعهم لإفراط قبحها حتى أقدم عليها قوم لوط، ولم ينزل ذكرٌ على ذكر قبل قوم لوط {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} أي وتقطعون الطريق على المارة بالقتل وأخذ المال، وكانوا قطاع الطريق قال ابن كثير: كانوا يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ} أي وتفعلون في مجلسكم ومنتداكم ما لا يليق من أنواع المنكرات علناً وجهاراً، أما كفاكم قبحُ فعلكم حتى ضممتم إِليه قبح الإِظهار !؟ قال مجاهد: كانوا يأتون الذكور أمام الملأ يرى بعضهم بعضاً، وقال ابن عباس: كانوا يحذفون بالحصى من مرَّ بهم مع الفحش في المزاح، وحل الإِزار، والصفير وغير ذلك من القبائح {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} أي فما كان ردُّ قومه عليه حين نصحهم وذكّرهم وحذَّرهم {إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} أي إِلا أن قالوا على سبيل الاستهزاء: ائتنا يا لوط بالعذاب الذي تعدنا به {إِنْ كُنتَمِنَالصَّادِقِينَ} أي إِن كنت صادقاً فيما تهددنا به من نزول العذاب قال الإِمام الفخر الرازي: فإِن قيل إِن الله تعالى قال ههنا {إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا} وقال في موضع آخر {إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} فكيف وجه الجمع بينهما ؟ فنقول: إِن لوطاً كان ثابتاً على الإِرشاد، مكرراً عليهم النهي والوعيد، فقالوا أولاً: ائتنا بعذاب الله، ثم لما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا أخرجوا آل لوط، ثم إِن لوطاً لما يئس منهم طلب النصرة من الله { قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} أي قال لوط: ربّ أهلكهم وانصرني عليهم فإِنهم سفهاء مفسدون لا يُرجى منهم صلاح، وقد أغرقوا في الغيّ والفساد قال الرازي: واعلم أن نبياَّ من الأنبياء ما طلب هلاك قوم إِلا إِذا علم أن عدمهم خير من وجودهم كما قال نوح {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} فكذلك لوط لما رأى أنهم يفسدون في الحال، ولا يرجى منهم صلاح في المآل طلب لهم العذاب {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} المراد بالرسل هنا "الملائكة" والبشرى هي تبشير إبراهيم بالولد، أي لما جاءت الملائكة تبشّر إِبراهيم بغلام حليم {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} أي جئنا لنهلك قرية قوم لوط {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} أي لأنَّ أهلها ممعنون في الظلم والفساد، طبيعتهم البغيُ والعناد قال المفسرون: لما دعا لوط على قومه، استجاب الله دعاءه، وأرسل ملائكته لإِهلاكهم، فمرُّوا بطريقهم على إِبراهيم أولاً فبشروه بغلامٍ وذرية صالحة، ثم أخبروه بما أُرسلوا من أجله، فجادلهم بشأن ابن أخيه لوط {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا} أي كيف تهلكون أهل القرية وفيهم هذا النبي الصالح "لوط" ؟ {قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} أي نحن أعلم به وبمن فيها من المؤمنين قال الصاوي: وهذا بعد المجادلة التي تقدمت فيها سورة هود {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} حيث قال لهم: أتهلكون قريةً فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا لا، إِلى أن قال: أفرأيتم إِن كان فيها مؤمن واحد ؟ قالوا لا فقال لهم {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا} فأجابوه بقولهم {قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} ثم بشروه بإِنجاء لوط والمؤمنين {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْمِنَالْغَابِرِينَ} أي سوف ننجيه مع أهله من العذاب، إِلا امرأته فستكون من الهالكين لأنها كانت تمالئهم على الكفر، ثم ساروا من عنده فدخلوا على "لوط" في صورة شبان حسان {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي ولما دخلوا على لوط حزن بسببهم، وضاق صدره من مجيئهم لأنهم حسان الوجوه في صورة أضياف، فخاف عليهم من قومه، فأعلموه أنهم رسل ربه {وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ} أي لا تخف علينا ولا تحزن بسببنا، فلن يصل هؤلاء المجرمون إِلينا {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْمِنَالْغَابِرِينَ} أي كانت من الهالكين الباقين في العذاب {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًامِنَالسَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي منزلون عليهم عذاباً من السماء بسبب فسقهم المستمر قال ابن كثير: وذلك أن جبريل عليه السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض، ثم رفعها إلى عنان السماء ثم قلبها عليهم، وأرسل عليهم حجارة من سجيل منضود، وجعل الله مكانها بحيرةً خبيثةً منتنة، وجعلهم عبرةً إلى يوم التناد، وهم من أشد الناس عذاباً يوم المعاد {وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً} أي ولقد تركنا من هذه القرية علامةً بينةً واضحة، هي آثار منازلهم الخربة {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي لقومٍ يتفكرون ويتدبرون ويستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 01:44 AM

قصص شعيب وهود وصالح وموسى عليهم السلام
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(36)فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ(37)وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْعَنِالسَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ(38)وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ(39) فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(40)}.
ثم أخبر تعالى عن قصة شعيب فقال {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} أي وأرسلنا إلى قوم مدين أخاهم شعيباً {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} أي فقال لقومه ناصحاً ومذكراً : يا قوم وحّدوا الله وخافوا عقابه الشديد في اليوم الآخر {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي لا تسعوا بالإِفساد في الأرض بأنواع البغي والعدوان {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ} أي فكذبوا رسولهم شعيباً فأهلكهم الله برجفةٍ عظيمة مدمرة زلزلت عليهم بلادهم، وصيحة هائلة أخرجت القلوب من حناجرها {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي فأصبحوا هلكى باركين على الركب ميتين {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} أي وأهلكنا عاداً وثمود، وقد ظهر لكم يا أهل مكة من منازلهم بالحجاز واليمن آيتنا في هلاكهم أفلا تعتبرون ؟ {وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أي وحسَّن لهم الشيطان أعمالهم القبيحة من الكفر والمعاصي حتى رأوها حسنة {فَصَدَّهُمْعَنِالسَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} أي فمنعهم عن طريق الحق، وكانوا عقلاء متمكنين من النظر والاستدلال، لكنهم لم يفعلوا تكبراً وعناداً {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} أي وأهلكنا كذلك الجبابرة الظالمين، {وَقَارُونَ} صاحب الكنوز الكثيرة {وَفِرْعَوْنَ} صاحب الملك والسلطان، ووزيره {وَهَامَانَ} الذي كان يُعينُه على الظلم والطغيان {وَلَقَدْ جَاءهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} أي ولقد جاءهم موسى بالحجج الباهرة، والآيات الظاهرة {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ} أي فاستكبروا عن عبادة الله وطاعة رسوله {وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} أي وما كانوا ليفلتوا من عذابنا قال الطبري: أي ما كانوا ليفوتونا بل كنا مقتدرين عليهم {فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} أي فكلاً من هؤلاء المجرمين أهلكناه بسبب ذنبه وعاقبناه بجنايته قال ابن كثير: أي وكانت عقوبته بما يناسبه {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} أي ريحاً عاصفة مدمرة فيها حصباء "حجارة" كقوم لوط {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} أي ومنهم من أخذته صيحةُ العذاب مع الرجفة كثمود {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ} أي خسفنا به وبأملاكه الأرض حتى غاب فيها كقارون وأصحابه {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} أي أهلكناه بالغرق كقوم نوح وفرعون وجنده {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي وما كان الله ليعذبهم من غير ذنب فيكون لهم ظالماً {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكن ظلموا أنفسهم فاستحقوا العذاب والدمار.
تشبيه حال عبدة الأوثان بحال العنكبوت
ثم ضرب تعالى مثلاً للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله فقال {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} أي مثل الذي اتخذوا من دون الله أصناماً يعبدونها في اعتمادهم عليها ورجائهم نفعها كمثل العنكبوت في اتخاذها بيتاً لا يغني عنها في حر ولا برد، ولا مطر ولا أذى قال القرطبي: هذا مثل ضربه الله سبحانه لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حراً ولا برداً {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي وإِن أضعف البيوت لبيتُ العنكبوت لتفاهته وحقارته، لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم ما عبدوها {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} أي هو تعالى عالم بما عبدوه من دونه لا يخفى عليه ذلك، وسيجازيهم على كفرهم {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وهو جل وعلا العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} أي وتلك الأمثال نبينها للناس في القرآن لتقريبها إلى أذهانهم {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} أي وما يدركها ويفهمها إِلا العالمون الراسخون، الذين يعقلون عن الله عز وجل مراده.
فائدة خلق السماوات والأرض وتلاوة القرآن وإقامة الصلاة
{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي خلقهما بالحق الثابت لا على وجه العبث واللعب {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} أي إِن في خلقهما بذلك الشكل البديع، والصنع المحكم لعلامة ودلالة للمصدقين بوجود الله ووحدانيته {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَمِنَالْكِتَابِ} أي اقرأ يا محمد هذا القرآن المجيد الذي أوحاه إِليك ربك، وتقرّب إِليه بتلاوته وترداده، لأن فيه محاسن الآداب ومكارم الأخلاق {وَأَقِمْ الصَّلاةَ} أي دم على إِقامتها بأركانها وشروطها وآدابها فإِنها عماد الدين { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىعَنِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} أي إِنَّ الصلاة الجامعة لشروطها وآدابها، المستوفية لخشوعها وأحكامها، إِذا أداها المصلي كما ينبغي، وكان خاشعاً في صلاته، متذكراً لعظمة ربه، متدبراً لما يتلو، نهته عن الفواحش والمنكرات {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي ولذكر الله أكبر من كل شيء في الدنيا، وهو أن تتذكر عظمته وجلاله، وتذكره في صلاتك وفي بيعك وشرائك، وفي أمور حياتك ولا تغفل عنه في جميع شؤونك {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} أي يعلم جميع أعمالكم وأفعالكم فيجازيكم عليها أحسن المجازاة، قال أبو العالية: إن الصلاة فيها ثلاث خصال: الإِخلاص، والخشية، وذكر الله، فالإخلاص يأمره بالمعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله - القرآن - يأمره وينهاه فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة.
مناقشة أهل الكتاب بالحسنى
{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(46)وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاء مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ(47)وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ(48)بَلْ هُوَءاياتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ(49)}.
{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي لا تدعوا أهل الكتاب إلى الإِسلام وتناقشوهم في أَمر الدين إلا بالطريقة الحسنى كالدعاء إلى الله بآياته، والتنبيه على حججه وبيناته {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أي إلا من كان ظالماً، محارباً لكم، مجاهداً في عداوتكم، فجادلوهم بالغلظة والشدة، قال الإِمام الفخر: إن المشرك لما جاء بالمنكر الفظيع كان اللائق أن يُجادل بالأخشن، ويُبالغ في توهين شبهه وتهجين مذهبه، وأما أهل الكتاب فإنهم آمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل إلا الاعتراف بالنبي عليه السلام، فلمقابلة إحسانهم يُجادلون بالأحسن إلا الذي ظلموا منهم بإثبات الولد لله، والقول بثالث ثلاثة فإنهم يُجادلون بالأخشن من تهجين مقالتهم، وتبيين جهالتهم {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} أي وقولوا لهم: آمنا بالقرآن الذي أُنزل إلينا وبالتوراة والإِنجيل التي أنزلت إليكم، قال أبو هريرة: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإِسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي ربنا وربكم واحد لا شريك له في الألوهية، ونحن له مطيعون، مستسلمون لحكمه وأمره {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} أي وكما أنزلنا الكتاب على من قبلك يا محمد أنزلناه عليك {فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي فالذين أعطيناهم الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله ممن أسلم من اليهود والنصارى يؤمنون بالقرآن {وَمِنْ هَؤُلاء مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} أي ومن أهل مكة من يؤمن بالقرآن كذلك {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ} أي وما يكذب بآياتنا وينكرها مع ظهورها وقيام الحجة عليها إلا المتوغلون في الكفر، المصرّون على العناد، قال قتادة: وإنما يكون الجحود بعد المعرفة {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} أي وما كنتَ يا محمد تعرف القراءة ولا الكتابة قبل نزول هذا القرآن لأنك أميٌ، قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ شيئاً ولا يكتب { إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} أي لو كنت تقرأ أو تكتب إذاً لشك الكفار في القرآن، وقالوا لعله التقطه من كتب الأوائل ونسبه إلى الله، والآيةُ احتجاجٌ على أن القرآن من عند الله، لأن النبي أميٌ وجاءهم بهذا الكتاب المعجز، المتضمن لأخبار الأمم السابقة، والأمور الغيبية، وذلك أكبر برهان على صدقه صلى الله عليه وسلم، قال ابن كثير: المعنى قد لبثت في قومك يا محمد -من قبل أن تأتي بهذا القرآن- عمراً لا تقرأ كتاباً، ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك يعرف أنك أميٌ لا تقرأ ولا تكتب، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً إلى يوم الدين لا يحسن الكتابة، ولا يخط حرفاً ولا سطراً بيده، بل كان له كتَّاب يكتبون له الوحي {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} {بَلْ} للإِضراب أي ليس الأمر كما حسب الظالمون والمبطلون بل هو آياتٌ واضحاتُ الإِعجاز، ساطعات الدلالة على أنها من عند الله، محفوظة في صدور العلماء، قال المفسرون: من خصائص القرآن العظيم أنَّ الله حفظه من التبديل والتغيير بطريقين: الأول: الحفظُ في السطور، والثاني: الحفظُ في الصدور، بخلاف غيره من الكتب فإنها مسطّرة لديهم غير محفوظة في صدورهم ولهذا دخلها التحريف، وقد جاء في صفة هذه الأمة "أنا جيلُهم في صدورهم" وقال الحسن: أُعطيت هذه الأمة الحفظ، وكان من قبلها لا يقرءون كتابهم إلا نظراً، فإذا أطبقوه لم يحفظ ما فيه إلا النبيّون {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ} أي وما يكذب بها إلا المتجاوزون الحد في الكفر والعناد.
بعض مطالب المشركين التعجيزية
{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِءاياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(50)أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ(52)وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(53)يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ(54)يَوْمَ يَغْشَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(55)}.
سبب النزول:
نزول الآية (51):
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ }: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والدارمي في مسنده وأبو داود عن يحيى بن جَعْدة قال: جاء ناس من المسلمين بكتب كتبوها، فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كفى بقوم حُمْقاً أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم"، فنزلت: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}.
وأخرج البخاري عند تفسير الآية قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن" أي يستغني به عن غيره.
وأخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة، فقال: هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيراً شديداً لم أر مثله قط، فقال عبد الله بن الحارث لعمر: أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيّاً، فسُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظي من الأمم".
{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِءاياتٌ مِنْ رَبِّهِ} أي وقال كفار مكة: هلاَّ أُنزل على محمد آيات خارقة من ربه تدل على صدقه مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى!! {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي قل لهم يا محمد: إنما أمر هذه الخوارق والمعجزات لله وليست بيدي، إن شاء أرسلها، وإن شاء منعها. وليس لأحدٍ دخلٌ فيها {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي وإنما أنا منذر أخوفكم عذاب الله، وليس من شأني أن آتي بالآيات {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}؟ الاستفهام للتوبيخ أي أولم يكف المشركين من الآيات هذا الكتاب المعجز الذي لا يزال يقرع أسماعهم؟ وكيف يطلبون آيةً والقرآن أعظم الآيات وأوضحها دلالة على صحة نبوتك؟ قال ابن كثير: بيَّن تعالى كثرة جهلهم، وسخافة عقلهم، حيث طلبوا آياتٍ تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته، بل عن معارضة سورة منه، أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم وأنت رجلٌ أميٌ لا تقرأ ولا تكتب، وجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى؟ ولهذا قال بعده {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إن في إنزال هذا القرآن لنعمةً عظيمة على العباد بإنقاذهم من الضلالة، وتذكرة بليغة لقوم غرضهم الإِيمان لا التعنت {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} أي قل لهم: كفى أن يكون الله جلَّ وعلا شاهداً على صدقي، يشهد لي أني رسولُه {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي لا تخفى عليه خافية من أمر العباد، فلو كنتُ كاذباً عليه لانتقم مني {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} أي والذين آمنوا بالأوثان وكفروا بالرحمن، أولئك هم الكاملون في الخسران حيث اشتروا الكفر بالإيمان {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} أي يستعجلك يا محمد المشركون بالعذاب يقولون {أَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةًمِنَالسَّمَاءِ} وهو استعجال على جهة التكذيب والاستهزاء {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءهُمْ الْعَذَابُ} أي لولا أن الله قدَّر لعذابهم وهلاكهم وقتاً محدوداً لجاءهم العذاب حين طلبوه {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي وليأتينهم فجأةً وهم ساهون لاهون لا يشعرون بوقت مجيئه {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} تعجبٌ من قلة فطنتهم ومن تعنتهم وعنادهم والمعنى: كيف يستعجلون العذاب والحال أن جهنم محيطةٌ بهم يوم القيامة كإحاطة السوار بالمعصم، لا مفرَّ لهم منها؟ ثم ذكر كيفية إحاطة جهنم بهم فقال {يَوْمَ يَغْشَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} أي يوم يجللهم العذاب ويحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم، ومن جميع جهاتهم {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ويقول الله عز وجل لهم: ذوقوا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا من الاستهزاء والإجرام، وسيء الأعمال.
الحض على الهجرة عند التضييق على المؤمنين
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ(56)كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ(57)وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْمِنَالْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(58)الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(59)وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(60)}.
سبب النزول:
نزول الآية (56):
{يا عباد}: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة، كانوا في ضيق من إظهار الإسلام بها. قال مقاتل والكلبي: هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة، أي في قوم تخلفوا عن الهجرة وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة.
نزول الآية (60):
{وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ}: عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون: اخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوروا الظلمة، قالوا: ليس لنا بها دار ولا عقار، ولا من يطعمنا، ولا من يسقينا، فنزلت الآية: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أي ليس معها رزقها مدخراً، وكذلك أنتم يرزقكم الله في دار الهجرة.
ثم لما بيَّن تعالى حال المكذبين الجاحدين، أعقبه بذكر حال الأبرار المتقين فقال {يَا عِبَادِي الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} خطابُ تشريفٍ للتحريض على الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام أي يا من شرفكم الله بالعبودية له هاجروا من مكة إن كنتم في ضيق من إظهار الإِيمان فيها، ولا تجاوروا الظلمة فأرضُ الله واسعة، قال مقاتل: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} أي فخصوني بالعبادة ولا تعبدوا أحداً سواي {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي أينما كنتم يدرككم الموتُ، فكونوا دائماً وأبداً في طاعة الله، وحيث أُمرتم فهاجروا فإن الموت لا بدَّ منه ولا محيد عنه، ثم إلى الله المرجع والمآب {وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي جمعوا بين إخلاص العقيدة وإخلاص العمل {لَنُبَوِّئَنَّهُمْمِنَالْجَنَّةِ غُرَفًا} أي لنزلنَّهم أعالي الجنة ولنسكننهم منازل رفيعة فيها {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي تجري من تحت أشجارها وقصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها إلى غير نهاية لا يخرجون منها أبداً {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} أي نعمت تلك المساكن العالية في جناتِ النعيم أجراً للعاملين {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} هذا بيانٌ للعاملين أي هم الذين صبروا على تحمل المشاقّ من الهجرة والأذى في سبيل الله، وعلى ربهم يعتمدون في جميع أمورهم، قال في البحر: وهذان جماع الخير كله: الصبر، وتفويض الأمر إليه تعالى {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} أي كم من دابة ضعيفة لا تقدر على كسب رزقها ولكنَّ الله يرزقها مع ضعفها {اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} أي الله تعالى يرزقها كما يرزقكم، وقد تكفل برزق جميع الخلق، فلا تخافوا الفقر إن هاجرتم، فالرازق هو الله، قال في التسهيل: والقصدُ بالآية التقوية لقلوب المؤمنين إذا خافوا الفقر والجوع في الهجرة من أوطانهم، فكما يرزق الله الحيوانات الضعيفة كذلك يرزقكم إذا هاجرتم من بلدكم {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي هو السميع لأقوالكم، العليمُ بأحوالكم.
اعتراف المشركين بالإله الخالق الرازق المحيي
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ(61)اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(62)وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَمِنَالسَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ(63)}.
ثم عاد الحديث إلى توبيخ المشركين في عبادة غير الله فقال {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي ولئن سألت المشركين من خلق العالم العلوي والسفلي وما فيهما من العجائب والغرائب؟ ومن ذلَّل الشمس والقمر وسخرهما لمصالح العباد يجريان بنظام دقيق؟ ليقولون: الله خالق ذلك {فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ} أي فكيف يُصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك؟ {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أي هو جلَّ وعلا الخالق وهو الرازق، يوسّع الرزق لمن يشاء من عباده امتحاناً، ويضيّق الرزق على من يشاء ابتلاءً، ليظهر الشاكر والصابر {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي إنه تعالى واسع العلم يفعل ما تقتضيه الحكمة والمصلحة {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَمِنَالسمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} توبيخٌ آخر وإقامة حجة أخرى عليهم أي ولئن سألت المشركين من الذي أنزل المطر من السماء فأخرج به أنواع الزروع والثمار بعد جدب الأرض ويبسها؟ ليقولون: الله فاعلُ ذلك{قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} أي قل يا محمد: حمداً لله على ظهور الحجة، بل أكثرهم لا يعقلون، حيث يقرون بأن الله هو الخالق الرازق ويعبدون غيره.
تبيين حال الدنيا والكفار فيها
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(64)فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ(65)لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(66)أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ(67)وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ(68)وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69)}.
سبب النزول:
نزول الآية (67):
{أَوَلَمْ يَرَوْا..} أخرج جويبر عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد، ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقتلنا، والأعراب أكثر منا، فمتى ما يبلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا، فكنا أكلة رأس، فأنزل الله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا}.
{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} أي وما الحياة في هذه الدنيا إلا غرور ينقضي سريعاً ويزول، كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي وإن الآخرة لهي دار الحياة الحقيقية التي لا موت فيها ولا تنغيص {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي لو كان عندهم علم لم يُؤْثروا دار الفناء على دار البقاء، لأن الدنيا حقيرة لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولقد أحسن من قال:
تأملْ في الوجـود بعين فـكر ترى الدنـيا الــدنيَّة كالخيال
ومَنْ فيها جميعاً سوف يفنى ويبقى وجهُ ربك ذو الجلال
{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} إقامة حجة ثالثة على المشركين في دعائهم الله عند الشدائد، ثم يشركون به في حال الرخاء والمعنى إذا ركبوا في السفن وخافوا الغرق دعوا الله مخلصين له الدعاء، لعلمهم أنه لا يكشف الشدائد عنهم إلاّ هو، وفي لفظ {مُخْلِصِينَ} ضربٌ من التهكم {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} أي فلما خلَّصهم من أهوال البحر، ونجاهم إلى جانب البر إذا هم يعودون إلى كفرهم وإشراكهم، ناسين ربهم الذي أنقذهم من الشدائد والأهوال {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أمرٌ على وجه التهديد أي فليكفروا بما أعطيناهم من نعمة الإِنجاء من البحر، وليتمتعوا في هذه الحياة الدنيا بباقي أعمارهم، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} أي أولم ير هؤلاء الكفار، رؤية تفكر واعتبار، أنا جعلنا بلدهم "مكة" حرماً مصوناً عن السلب والنهب، آمناً أهله من القتل والسبي، والناسُ حولهم يُسبون ويُقتلون؟ قال الضحاك: {ويتخطف الناس من حولهم} أي يقتل بعضُهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً { أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} أي أفبعد هذه النعم الجليلة يؤمنون بالأوثان ويكفرون بالرحمن؟ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ} أي لا أحد أظلم ممن عبد غير الله وكذَّب بالقرآن حين جاءه {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}؟ أي أليس في جهنم مأوى وموضع إقامة للكافرين بآيات الله جزاء افترائهم وكفرهم؟ {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أي والذين جاهدوا النفس والشيطان والهوى والكفرة أعداء الدين ابتغاء مرضاتنا لنهدينهم طريق السير إلينا {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} أي مع المؤمنين بالنصر والعون.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 01:45 AM

سورة الروم
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة الروم مكية، وأهدافها نفس أهداف السور المكية، التي تعالج قضايا العقيدة الإِسلامية في إطارها العام وميدانها الفسيح "الإِيمان بالوحدانية، وبالرسالة، وبالبعث والجزاء".
* ابتدأت السورة الكريمة بالتنبؤ بحدثٍ غيبي هام، أخبر عنه القرآن الكريم قبل حدوثه، ألا وهو انتصار الروم على الفرس في الحرب التي ستقع قريباً بينهما، وقد حدث كما أخبر عنه القرآن، وبذلك تحققت النبوءة، وذلك أظهر الدلائل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الوحي، ومن أعظم معجزات القرآن.
* ثم تحدثت السورة عن حقيقة المعركة بين حزب الرحمن، وحزب الشيطان، وأنها معركة قديمة قدم هذه الحياة، فالحرب لا تهدأ ما دام هناك حقٌّ وباطل، وخير وشرٌّ، وما دام الشيطان يحشد أعوانه وأنصاره لإِطفاء نور الله، ومحاربة دعوة الرسل الكرام، وقد ساقت الآيات دلائل وشواهد على انتصار الحق على الباطل، في شتَّى العصور والدهور، وتلك هي سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
* ثم تناولت السورة الحديث عن الساعة والقيامة، وعن المصير المشئوم لأهل الكفر والضلال في ذلك اليوم العصيب، حيث يكون المؤمنون في روضات يُحبرون، ويكون المجرمون في العذاب محضرين، وتلك نهاية المطاف للأبرار والفجار، والعاقبة المؤكدة للمحسنين والمجرمين.
* وتناولت السورة بعد ذلك بعض المشاهد الكونية، والدلائل الغيبية، الناطقة بقدرة الله ووحدانيته لإِقامة البرهان على عظمة الواحد الديان، الذي تخضع له الرقاب، وتعنو له الوجوه، وضربت بعض الأمثلة للتفريق والتمييز بين من يعبد الرحمن، وبين من يعبد الأوثان.
* وختمت السورة بالحديث عن كفار قريش، إذ لم تنفعهم الآيات والنُّذر ومهما رأوا من الآيات الباهرة، والبراهين الساطعة، لا يعتبرون ولا يتعظون، لأنهم كالموتى لا يسمعون ولا يبصرون، وكلُّ ذلك بقصد التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى المشركين، والصبر حتى يأتي النصر.
التسميَة:
سميت "سورة الروم" لذكر تلك المعجزة الباهرة، التي تدل على صدق أنباء القرآن العظيم {الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ } وتلك هي بعض معجزات القرآن.
سبب النزول:
أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان يوم بدر، ظهرت الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين، فنزلت {الم* غُلِبَتْ الرُّومُ}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب الزهري قال: بلغنا أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين، وهم بمكة، قبل أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: الروم يشهدون أنهم أهل كتاب، وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل على نبيكم، فكيف غلب المجوس الروم، وهم أهل كتاب؟! فسنغلبكم كما غلب فارس الروم، فأنزل الله: {الم* غُلِبَتْ الرُّومُ}.
وأخرج الترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي: أن فارساً غَزوا الروم، فوافَوْهم بأذْرِعات وبُصرى من أرض الشام، فغلبوا عليهم، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو بمكة، فشق ذلك عليهم، من قِبَل أن الفرس مجوس، والروم أهل كتاب، وفرح المشركون بمكة وشَمِتوا، ولَقُوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم فرحون، وقالوا: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على أخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرَنَّ عليكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات.
فخرج أبو بكر رضي الله عنه إلى المشركين، فقال: أفرِحْتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟ فلا تفرحوا، ولا يَقَرَّنَّ اللهُ أعينكم، فوالله لتَظْهَرَنَّ الروم على فارس، كما أخبرَنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أبيّ بن خلَف، فقال: كذبت، فقال: أنت أكذب يا عدو الله، اجعل بيننا أجلاً أناحِبك عليه على عشر قلائص مني، وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرِمتَ، وإن ظهرت فارس غرمتُ إلى ثلاث سنين، فناحبه، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: "زايده في الخَطَر وماده في الأجل" فخرج أبو بكر، فلقي أُبياً، فقال: لعلك ندمت، فقال: لا، تعال أزايدك في الخطر، وأمادّك في الأجل، فاجعلها مئة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت، فلما أراد أبو بكر الهجرة، طلب منه أُبَي كفيلاً بالخطر إن غُلِب، فكفل به ابنه عبد الرحمن، فلما أراد أُبيّ الخروج إلى أحُد، طلبه عبد الرحمن بالكفيل، فأعطاه كفيلاً، ومات أُبيّ من جرح جرحه إياه النبي صلى الله عليه وسلم في الموقعة، وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة، فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبيّ، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدّقْ به". وقد كان هذا قبل تحريم القمار، لأن السورة مكية، وتحريم الخمر والميسر بالمدينة. واستدل به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب.
والآية من دلائل النبوة، لأنها إخبار عن الغيب.
الإخبار عن غيب المستقبل
الم(1)غُلِبَتِ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3)فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4)بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(5)وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(6)يَعْلَمُونَ ظَاهِرًامِنَالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)}.
{الم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن {غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ} أي هُزم جيش الروم في أقرب أرضهم إلى فارس {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} أي وهم من بعد انهزامهم وغلبة فارس لهم سيغلبون الفرس وينتصرون عليهم {فِي بِضْعِ سِنِينَ} أي في فترة لا تتجاوز بضعة أعوام، والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع، قال المفسرون: كان بين فارس والروم حربٌ، فغلبت فارس الروم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فشقَّ ذلك عليهم، وفرح المشركون بذلك لأن أهل فارس كانوا مجوساً لم يكن لهم كتاب، والرومُ أصحاب كتاب فقال المشركون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنكم أهل كتاب، والروم أهل كتاب، ونحن أُميون، وقد ظهر إِخواننا من أهل فارس على إِخوانكم من الروم، فلنظهرنَّ عليكم، فقال أبو بكر: لا يقرُّ الله أعينكم، فأنزل الله {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} وقد التقى الجيشان في السنة السابعة من الحرب، وغلبت الرومُ فارس وهزمتهم، وفرح المسلمون بذلك، قال أبو السعود: وهذه الآياتُ من البينات الباهرة، الشاهدة بصحة النبوة، وكون القرآن من عند الله عز وجل حيث أخبر عن الغيب الذي لا يعلمه إِلا العليم الخبير، ووقع كما أخبر، وقال البيضاوي: والآية من دلائل النبوة لأنها إِخبارٌ عن الغيب {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} أي لله عز وجل الأمر أولاً وآخراً، من قبل الغلبة ومن بعد الغلبة، فكل ذلك بأمر الله وإرادته، ليس شيء منهما إِلا بقضائه، قال ابن الجوزي: المعنى إِن غلبة الغالب، وخذلان المغلوب، بأمر الله وقضائه {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} أي ويوم يهزم الروم الفرس ويتغلبون عليهم، ويحل ما وعده الله من غلبتهم يفرح المؤمنون بنصر الله لأهل الكتاب على المجوس، لأن أهل الكتاب أقرب إلى المؤمنين من المجوس، وقد صادف ذلك اليوم يوم غزوة بدر، قال ابن عباس: كان يوم بدر هزيمة عبدة الأوثان، وعبدة النيران {يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي ينصر من يشاء من عباده، وهو العزيز بانتقامه من أعدائه، الرحيمُ بأوليائه وأحبابه {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي ذلك وعدٌ مؤكد وعد الله به فلا يمكن أن يتخلف، لأن وعده حق وكلامه صدق {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون ذلك لجهلهم وعدم تفكرهم {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًامِنَالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي يعلمون أمور الدنيا ومصالحها وما يحتاجون إِليه فيها من أمور الحياة كالزراعة والتجارة والبناء ونحو ذلك، قال ابن عباس: يعلمون أمر معايشهم متى يزرعون، ومتى يحصدون، وكيف يغرسون، وكيف يبنون {وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} أي وهم عميٌ عن أمر الآخرة، ساهون غافلون عن التفكر فيها والعمل لها، قال الإِمام الفخر: ومعنى الآية أن علمهم منحصرٌ في الدنيا، وهم مع ذلك لا يعلمون الدنيا كما هي وإِنما يعلمون ظاهرها، وهي ملاذها وملاعبها، ولا يعلمون باطنها وهي مضارُّها ومتاعبها، ويعلمون وجودها الظاهر ولا يعلمون فناءها وهم عن الآخرةغافلون،ولعل في التعبير بقوله {ظَاهِرًا} إِشارة إلى أنهم عرفوا القشور، ولم يعرفوا اللباب فكأن علومهم إِنما هي علوم البهائم.
التفكر بمخلوقات الله يدل على وجوده
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًامِنَالنَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ(8)أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(9)ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسئُوا السُّوأى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون(10)}.
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى}أي أولم يتفكروا بعقولهم فيعلموا أن الله العظيم الجليل ما خلق السماوات والأرض عبثاً، وإِنما خلقهما بالحكمة البالغة لإِقامة الحق لوقتٍ ينتهيان إِليه وهو يوم القيامة؟ قال القرطبي: وفي هذا تنبيه على الفناء، وعلى أن لكل مخلوقٍ أجلاً، وعلى ثواب المحسن وعقاب المسيء {وَإِنَّ كَثِيرًامِنَالنَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} أي وأكثر الناس منكرون جاحدون للبعث والجزاء {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي أولم يسافروا في أرجاء العالم فينظروا مصارع الأمم قبلهم كيف أُهلِكوا بتكذيبهم رسلهم فيعتبروا!! {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي كانوا أقوى منهم أجساداً، وأكثر أموالاً وأولاداً {وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي وحرثوا الأرضَ للزراعة، وحفروها لاستخراج المعادن، وعمروها بالأبنية المشيدة، والصناعات الفريدة أكثر مما عمرها هؤلاء، قال البيضاوي: وفي الآية تهكم بأهل مكة من حيث إِنهم مغترون بالدنيا، مفتخرون بها، وهم أضعف حالاً فيها، إِذ مدار أمرها على السعة في البلاد، والتسلط على العباد، والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارة، وهم ضعفاء ملجئون إلى دار لا نفع فيها {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي وجاءتهم الرسل بالمعجزات الواضحات والآيات البينات فكذبوهم {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} أي فما كان الله ليهلكهم بغير جُرم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر والتكذيب فاستحقوا الهلاك والدمار {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسئوا السُّوأى} أي ثم كان عاقبة المجرمين العقوبة التي هي أسوأ العقوبات وهي نار جهنم {أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} أي لأجل أنهم كذبوا بآياتنا المنزلة على رسلنا واستهزءوا بها.


أرب جمـال 21 - 11 - 2009 01:46 AM

إنشاء خلق الإنسان عند قيام الساعة
{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(11)وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ(12)وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاؤُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ(13)وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ(14)فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ(15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ(16)}
{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي الله جل وعلا بقدرته ينشئ خلق الناس ثم يعيد خلقهم بعد موتهم {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي ثم إِليه مرجعكم للحساب والجزاء {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} أي ويوم تقوم القيامة ويُحْشر الناس للحساب يسكت المجرمون وتنقطع حجتهم، فلا يستطيعون أن ينبسوا ببنت شفة، قال ابن عباس: {يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} ييأس المجرمون، وقال مجاهد: يفتضح المجرمون، قال القرطبي: والمعروف في اللغة: أبلس الرجل إِذا سكت وانقطعت حجته {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} أي ولم يكن لهم من الأصنام التي عبدوها شفعاء يشفعون لهم {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} أي تبرءوا منها وتبرأت منهم {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} كرر لفظ قيام الساعة للتهويل والتخويف لأن قيام الساعة أمر عظيم أي ويوم تقوم القيامة يؤمئذٍ يتفرق المؤمنون والكافرون، ويصبحون فريقين: فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير، ولهذا قال {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي فأما المؤمنون المتقون الذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أي فهم في رياض الجنة يُسرون وينعمون {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ} أي وأما الذين جحدوا بالقرآن وكذبوا بالبعث بعد الموت {فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أي فأولئك في عذاب جهنم مقيمون على الدوام.
تنزيه الله وحمده
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} أي سبحوا الله ونزّهوه عما لا يليق به من صفات النقص، حين تدخلون في المساء، وحين يبزغ نور الصباح {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} أي وهو جل وعلا المحمود في السماوات والأرض، قال ابن عباس: يحمده أهل السماواتِ وأهلُ الأرض ويُصلون له، قال المفسرون: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} جملة اعتراضية وأصل الكلام: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} {وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} والحكمة في ذلك الإِشارة إلى أن التوفيق للعبادة نعمةٌ ينبغي أن يحمد عليها، والعشي: من صلاة المغرب إلى العتمة، { تُظْهِرُونَ} أي تدخلون وقت الظهر {يُخْرِجُ الْحَيَّمِنَالْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَمِنَالْحَيِّ} أي يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والنبات من الحب، والحبّ من النبات، والحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان {وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي ويحيي الأرض بالنبات بعد يبسها وجدبها {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي كما يخرج الله النبات من الأرض كذلك يخرجكم من قبوركم للبعث يوم القيامة، قال القرطبي: بيَّن تعالى كمال قدرته، فكما يحيي الأرض بإِخراج النبات بعد همودها كذلك يحييكم بالبعث.
أدلة وجود الله وربوبيته
{وَمِنْءاياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ(20)وَمِنْءاياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(21)وَمِنْءاياتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ(22)وَمِنْءاياتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(23) وَمِنْءاياتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُمِنَالسَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(24)وَمِنْءاياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةًمِنَالأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ(25)وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ(26)وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(27)}.
{وَمِنْءاياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي ومنءاياته الباهرة الدالة على عظمته وكمال قدرته أن خلق أصلكم "آدم" من تراب، وإِنما أضاف الخلق إِلى الناس {خَلَقَكُمْ} لأن آدم أصل البشر {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} أي ثم أنتم تتطورون من نطفة إِلى علقة إِلى مضغة إِلى بشر عقلاء، تتصرفون فيما هو قوام معايشكم، قال ابن كثير: فسبحان من خلقهم وسيَّرهم وسخّرهم وصرّفهم في فنون المعايش والمكاسب، وفاوت بينهم في العلوم والفكر، والحسن والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة!! {وَمِنْءاياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أي منءاياته الدالة على عظمته وكمال قدرته أن خلق لكم من صنفكم وجنسكم نساءً آدميات مثلكم، ولم يجعلهن من جنسٍ آخر، قال ابن كثير: ولو أنه تعالى جعل الإِناث من جنسٍ آخر، من جان أو حيوان، لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج، بل كانت تحصل النفرة، وذلك من تمام رحمته ببني آدم {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} أي لتميلوا إِليهن وتألفوهن {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} أي وجعل بين الأزواج والزوجات محبة وشفقة، قال ابن عباس: المودة: حب الرجل امرأته، والرحمةُ شفقته عليها أن يصيبها بسوء {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي إِنَّ فيما ذكر لعبراً عظيمة لقوم يتفكرون في قدرة الله وعظمته، فيدركون حكمته العلية {وَمِنْءاياتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} أي ومنءاياته العظيمة الدالة على كمال قدرته خلق السماوات في ارتفاعها واتساعها، وخلق الأرض في كثافتها وانخفاضها، واختلاف اللغات من عربيةٍ وأعجمية، وتركية، ورومية، واختلاف الألوان من أبيض وأسود وأحمر، حتى لا يشتبه شخص بشخص، ولا إِنسان بإِنسان، مع أنهم جميعاً من ذرية آدم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} أي لمن كان من ذوي العلم والفهم والبصيرة {وَمِنْءاياتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي ومنءاياته الدالة على كمال قدرته نومكم في ظلمة الليل، ووقت الظهيرة بالنهار راحةً لأبدانكم {وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي وطلبكم للرزق بالنهار {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي يسمعون سماع تفهم واستبصار {وَمِنْءاياتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي ومنءاياته العظيمة الدالة على قدرته ووحدانيته أنه يريكم البرق خوفاً من الصواعق، وطمعاً في الغيث والمطر، قال قتادة: خوفاً للمسافر، وطمعاً للمقيم {وَيُنَزِّلُمِنَالسَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي وينزل المطر من السماء فينبت به الأرض بعد أن كانت هامدة جامدة لا نبات فيها ولا زرع { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي إِن في ذلك المذكور لعبراً وعظاتٍ لقومٍ يتدبرون بعقولهم آلاء الله {وَمِنْءاياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} أي ومنءاياته الباهرة الدالة على عظمته أن تستمسك السماواتُ بقدرته بلا عمد، وأن تثبت الأرض بتدبيره وحكمته فلا تنكفئ، بسكانها ولا تنقلب بأهلها {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} أي ثم إِذا دعيتم إِلى الخروج من القبور، إِذا أنتم فوراً تخرجون للجزاء والحساب، لا يتأخر خروجكم طرفة عين، قال المفسرون: وذلك حين ينفخ إِسرافيل في الصور النفخة الثانية ويقول: يا أهل القبور قوموا، فلا تبقى نسمةٌ من الأولين والآخرين، إِلا قامت تنظر {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي وله جل وعلا كل من في السماوات والأرض من الملائكة والإِنس والجن ملكاً وخلقاً وتصرفاً لا يشاركه فيها أحد {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي جميعهم خاشعون خاضعون منقادون لأمره تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي وهو تعالى يُنشئ الخلق من العدم، ثم يعيدهم بعد موتهم للحساب والجزاء {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي إِعادة الخلق أهون عليه من بدئه، قال ابن عباس: يعني أيسر عليه، وقال مجاهد: الإِعادة أهون عليه من البداءة، والبداءة عليه هيّنة، قال المفسرون: خاطب تعالى العباد بما يعقلون، فإِذا كانت الإِعادة أسهل من الابتداء في تقديركم وحكمكم، فإِن من قدر على الإِنشاء كان البعث أهون عليه حسب منطقكم وأصولكم { وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} أي له الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه فيه من الجلال والكمال، والعظمة والسلطان {فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي يصفه به من فيهما وهو أنه الذي ليس كمثله شيء {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي القاهر لكل شيء الحكيم الذي كل أفعاله على مقتضى الحكمة والمصلحة.
إثبات الوحدانية وبطلان الشريك لله
سبب النزول:
أخرج الطبراني عن ابن عباس قال: كان يلبي أهل الشرك: لبَّيْكَ اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملَك، فأنزل الله: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ}.
ثم وضّح تعالى بطلان عبادتهم للأوثان بمثل فقال: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ } أي ضرب لكم أيها القوم ربكم مثلاً واقعياً من أنفسكم {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي هل يرضى أحدكم أن يكون عبده ومملوكه شريكاً له في ماله الذي رزقه الله تعالى؟ فإِذا لم يرض أحدكم لنفسه ذلك فكيف ترضون لله شريكاً له وهو في الأصل مخلوق وعبدٌ لله؟ {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } هذا من تتمة المثل أي لستم وعبيدكم سواءٌ في أموالكم، ولستم تخافونهم كما تخافون الأحرار مثلكم، وأنتم لا ترضون أن يكون عبيدكم شركاء لكم في أموالكم، فكيف رضيتم لله شريكاً في خلقه وملكه؟ {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي مثل ذلك البيان الواضح نبيّن الآيات لقومٍ يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال {بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } بلْ للإِضراب أي ليس لهم حجة ولامعذرة في إِشراكهم بالله بل ذلك بمجرد هوى النفس بغير علم ولا برهان، قال القرطبي: لما قامت عليهم الحجة ذكر أنهم يعبدون الأصنام باتباع أهوائهم في عبادتها، وتقليد الأسلاف في ذلك {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي لا أحد يستطيع أن يهدي من أراد الله إِضلاله {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي ليس لهم من عذاب الله منقذٌ ولا ناصرٌ.
الأمر باتباع الدين الحق: الإسلام:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ } أي أخلص دينك لله وأقبل على الإِسلام بهمة ونشاط {حَنِيفًا} أي مائلاً عن كل دين باطل إلى الدين الحق وهو الإِسلام {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي هذا الدين الحق الذي أمرناك بالاستقامة عليه هو خلقة الله التي خلق الناس عليها وهو فطرة التوحيد كما في الحديث (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه) الحديث {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي لا تغيير لتلك الفطرة السليمة من جهته تعالى، قال ابن الجوزي: لفظه لفظ النفي ومعناه النهي أي لا تبدلوا خلق الله فتغيّروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي ذلك هو الدين المستقيم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي أكثر الناس جهلة لا يتفكرون فيعلمون أن لهم خالقاً معبوداً {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي أقيموا وجوهكم أيها الناس على الدين الحق حال كونكم منيبين إِلى ربكم أي راجعين إِليه بالتوبة وإِخلاص العمل، وخافوه وراقبوه في أقوالكم وأفعالكم، وأقيموا الصلاة على الوجه الذي يُرضي الله {وَلا تَكُونُوامِنَالْمُشْرِكِينَ} أي ولا تكونوا ممن أشرك بالله وعبد غيره ثم فسَّرهم بقوله {مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} أي من الذين اختلفوا في دينهم وغيّروه وبدَّلوه فأصبحوا شيعاً وأحزاباً، كلٌ يتعصب لدينه، وكلٌ يعبد هواه {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي كل جماعة وفرقة متمسكون بما أحدثوه، مسرورون بما هم عليه من الدين المعوج، يحسبون باطلهم حقاً، قال ابن كثير: أي لا تكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم أي بدلوه وغيروه، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض، كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان، وسائر أهل الأديان الباطلة -مما عدا أهل الإِسلام- فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء ومذاهب باطلة، وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء.



الساعة الآن 05:30 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى