![]() |
[align=justify]رابعاً: وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد:
حاول بعض الإخباريين أن يوجدوا علاقة بين وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وبين بيعة يزيد بن معاوية فذكر البعض أن معاوية رضي الله عنه لما رأى مكانة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد عند أهل الشام ـ بسبب مآثر عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسه ـ خافه معاوية فأمر ابن أثال الطبيب النصراني فدس إليه السم[1]، في حين يرجح ابن الكلبي سبب القتل إلى أمر آخر وهو: أن معاوية لما أراد أن يولي الأمور رجلاً من بعده فماذا ترون؟ فقالوا عليك بعبد الرحمن بن خالد، وكان فاضلاً فسكت معاوية وأضمرها في نفسه ثم إن عبد الرحمن اشتكى، فدعا معاوية طبيبه بن اثال وأمره بدس السم إلى عبد الرحمن[2]. فهذه الروايات بالإضافة إلى ضعف سندها يوجد اختلاف في متنها مع الواقع الملموس فمعاوية رضي الله عنه بيده عزل الأمراء أو توليتهم كما هو معروف، وليس بالصعوبة على معاوية أن يطلب من عبد الرحمن بن خالد أن يتنحى عن قيادة الصوائف على الثغر الرومي، ويهمل عبد الرحمن بن خالد ثم لا يكون له أي مكانة يُخشى منها وقد ورد أن معاوية عزله وولى بدلاً منه سفيان بن عوف الغامدي[3]على إحدي الصوائف[4]، وليس هذا يشكل صعوبة على معاوية، بل إن معاوية كان يعزل عن الإمارة من هو أعظم وأقوى من عبد الرحمن بن خالد ثم كيف يقوم معاوية بقتله وقد أورد الطبري ذكر غزوة البحر سنة 48هـ وكان قائد أهل مصر عقبة بن عامر الجهني، وعلى أهل المدينة المنذر بن زهير، وعلى جميعهم خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد[5]، فكيف يرضى معاوية أن يكون ولده قائداً كبيراً من بعد أبيه هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كيف يرضى أن يقوم ولده بقيادة الجيش لمعاوية إن كان معاوية قاتل أبيه، وهل يمكن أن يخفى على ولده هذا الأمر وهو أقرب الناس إليه[6]؟ فهذه أكاذيب واضحة حاولت أن توجد علاقة بين موت عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والبيعة ليزيد، ومثلها مثل الأكاذيب التي حاولت أن تربط بين موت الحسن بن علي والبيعة ليزيد ـ كما مرّ ذكره. إن خبر وفاة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالسم أورده القاسم بن سلام، وابن حبيب البغدادي[7]، وذكر أن الدافع هو الخوف من منافسة عبد الرحمن ليزيد في ولاية العهد[8]، كذلك أورد الخبر البلاذري[9]، وأبو الفرج الأصفهاني[10]، وأبو هلال العسكري[11]، وخبر اتهام معاوية رضي الله عنه بحادثة سم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد لم يرد بإسناد صحيح، بل هو من الأخبار المكذوبة على هذا الصحابي الكريم[12]وفي ذلك يقول ابن كثير: وقد ذكر بن جرير وغيره، أن رجلاً يقال له: ابن أثال ـ وكان رئيس الذمة بأرض حمص ـ سقاه شربة فيها سم فمات، وزعم بعضهم أن ذلك عن أمر معاوية له في ذلك ولا يصح[13]. خامساً: أسباب ترشيح معاوية لأبنه يزيد: 1 ـ الحفاظ على وحدة الأمة: نظر معاوية رضي الله عنه إلى ابنه يزيد على أنه المرشح الذي سيحظى بتأييد أهل الشام الذين يمثلون العامل الأقوى في استقرار الدولة وقد أبرز معاوية رضي الله عنه السبب الذي دعاه لاختيار ابنه يزيد وذلك أثناء جمع التأييد له من كبار أبناء الصحابة أثناء رحلته الأخيرة للحج إذا كان الدافع لمعاوية ـ رضي الله عنه ـ عندما سارع في أخذ البيعة ليزيد هو خوفه من الاختلاف[14]، الذي قد يطرأ على الأمة بعد موته، وربما تنخرط في قتال جديد لا يعلم سعته ومداه إلا الله عز وجل[15]. كان معاوية يرهب أن يدع أمة محمد صلى الله عليه وسلم كالضأن لا راعي لها[16]، ولذلك عمل على اختيار من يخلفه وكان الأولى بمعاوية رضي الله عنه أن يعين من أفاضل المجتمع الإسلامي رجالاً يجعلهم موضع شورى يختاروا من كان أهلاً للخلافة ويبتعد عن ترشيح ابنه يزيد، لأن اختيار يزيد لم يكن أماناً من الاختلاف والقتال وسفك الدماء ولقد وقع المحظور بعد وفاة معاوية، وسفكت الدماء ولم يزح اختيار معاوية يزيد ما تعلل به من المخاوف، ويبدو أنه وقع ما وقع بسبب شخصية يزيد، وإتباع الوراثة بديلاً من الشورى في اختيار الخليفة ولأسباب أخرى وعلى كل حال فمعاوية رضي الله عنه اجتهد ولم يكن مصيباً في تولية يزيد لولاية العهد، فقد كان بوسعه وقدراته السياسة الفائقة أن يطمئن في حياته على اجتماع كلمة المسلمين في أمر الخلافة من بعده باختيار واحد من قريش يشهد له الناس بحسن السيرة أكثر من يزيد ابنه ويجتمع عليه أعيان المجتمع الإسلامي في الشام والعراق وبلاد الحجاز وغيرها. 2 ـ قوة العصبية القبلية: خاض معاوية رضي الله عنه الحرب وتولى الخلافة بنصرة من أهل الشام، وكانوا من أشد الناس طاعة لمعاوية رضي الله عنه ومحبة لبني أمية ومن الدلائل على تلك الطاعة والمحبة هو أن معاوية رضي الله عنه لما عرض خلافة يزيد بن معاوية على أهل الشام وافقوا موافقة جماعية ولم يتخلف منهم أحد، وبايعوا ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه[17]، ومن الدلائل على قوة العصبية في بلاد الشام لبني أمية أن مروان بن الحكم تمكن من الانتصار بأهل الشام على عمال عبد الله بن الزبير، ثم تبعه بعد ذلك ابنه عبد الملك بن مروان، حتى تمكن من الانتصار بأهل الشام على ابن الزبير وقتله73هـ رضي الله عنه، ومع ذلك لم نجد أهل الشام انقادوا لأبن الزبير، بل إن أهل العراق غدروا بأخيه مصعب ابن الزبير ومالوا مع عبد الملك بن مروان فلماذا لم تجتمع الأمة على ابن الزبير وهو في ذلك الحين لا يشاركه أحد في فضائله ومكانته؟ بل نجد العكس نجد أن عبد الملك بن مروان الذي يعتبر في السن كأحد أبناء عبد الله بن الزبير، تمكن من تولي زعامة المسلمين[18]، فعصبية أهل الشام كانت سبباً مهماً في تولية يزيد وليست عصبية بني أميه فإن أسرة بني أميه لم تكن ذات تأثير كبير على الأحداث في مجيء معاوية رضي الله عنه إلى منصب الخلافة وقد بنى ابن خلدون دفاعه عن صنيع معاوية في ولاية العهد أن المصلحة تقتفي ذلك حيث قال: والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه أنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد حينئذٍ من بني أميه، إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش، وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حريصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع، وأن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه، فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم كلهم من أجل ذلك[19]، وقال أيضاً: عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة، بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه[20]. أي إن قوة عصبية بني أمية وسطوتهم، ونفورهم من الانقياد لغيرهم، جعلت معاوية رضي الله عنه يختار مرشحاً من بني أمية، فكان ابنه يزيد خوفاً منه على الأمة من الفرقة والاختلاف[21]، ومما لا شك فيه لو جاء معاوية برجل من ذوي الكفاءة من قريش غير ابنه يزيد واستفتى ذوي الرأي والنهي بشأنه، ثم وقف وراءه بثقله الكامل وتأييده الصريح، وطلب من أهل الحل والعقد في الأمة مبايعته بولاية العهد، فهل كان يعترض أحد؟ طبعاً لا، ذلك لأن أمير المؤمنين هو الداعي، ولأن المرشح لولاية العهد رجل أريد بترشيحه، ومبايعة مصلحة الأمة والدولة مجردة من كل شبهة أو عاطفة ألا ترى معي أن ذلك كان ممكناً وأنه كان محققاً للغرض القائل بأن القصد من ولاية العهد هو سد أبواب الخلاف بين المسلمين، وتجنب الأمة أخطار التنازع والفتن من جديد؟ ولكن معاوية رضي الله عنه على كل حال اجتهد، فإن كان مصيباً فله أجران، وإن كان مخطئاً فله أجر[22]. [/align] |
3[align=justify]
ـ محبة معاوية لابنه وقناعته به: قال ابن كثير: وقد كان معاوية لما صالح الحسن، عهد للحسن بالأمر من بعده، فلما مات الحسن قوي أمر يزيد عند معاوية ورأى أنه لذلك أهل، وذاك من شدة محبة الوالد لولده، ولما كان يتوسم فيه من النجابة الدنيوية، وسيما أولاد الملوك، ومعرفتهم بالحروب وترتيب الملك والقيام بأبهته، وكان ظن أن لا يقوم أحد من أبناء الصحابة في هذا المعنى[1]. وقال معاوية رضي الله عنه لعمرو بن حزم الأنصاري، الذي كان معارضاً للبيعة، فذكّر معاوية بالله، وطلب منه أن ينظر في عاقبة الأمور، فشكره معاوية وقال، إنك امرؤ ناصح. ثم أخذ معاوية يُبيّن له بصراحة أنه لم يبق إلا ابنه وأبنائهم وابنه أحق من أبنائهم[2]، وكانت ليزيد بعض الصفات التي شجعت معاوية على جعله ولياً للعهد قال الذهبي في ترجمة يزيد: كان قوياً شجاعاً، ذا رأي وحزم، وفطنة وفصاحة[3]، وقال ابن كثير: وكان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم، والحلم، والفصاحة، والشعر، والشجاعة، وحسن الرأي في الملك[4]، ربما كانت هذه الصفات دافعة لمعاوية وكافية له ليكون صالحاً للخلافة[5]، ولا شك أن الصحابة وأبنائهم أفضل من يزيد وأصلح ولكن مع ذلك فإن معاوية ربما رأى في ولده مقدرة لا تكن لغيره في قيادة الأمة، بسبب عيشته المتواصلة مع أبيه ومناصرة أهل الشام وولائهم الشديد له، ثم اطلاعه عن قرب على معطيات ومجريات السياسة في عصره وقد أنس معاوية رضي الله عنه من ولده يزيد حرصاً على العدل وتأسياً بالخلفاء الراشدين، فقد كان يسأله عن الكيفية التي سيسير بها في الأمة فيرد عليه يزيد بقوله: كنت والله يا أبت عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب[6]. وغير ذلك من الأسباب. فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحرب، الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف، وإن كان أميناً[7]. فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، وسئل الأمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزو، فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، يُغزى مع القوي الفاجر[8]. ومعظم المقصود من نصب الأئمة حياطة المسلمين، ودفع عدوهم، والأخذ على يد ظالمهم، وإنصاف مظلومهم، وتأمين سبلهم، وتفريق بيت مالهم فيهم، على ما أوجبه الشرع، فمن كان ناهضاً بهذه الأمور ونحوها فيه يحصل مقصود الإمامة، ويطيب عيشهم، ويأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم وحرمهم وإن كان غيره أكثر علماً منه، أو أوسع عبادة، أو أعظم ورعاً فإنه إذا كان غير ناهض بالقيام بهذه الأمور، فلا يعود على المسلمين من علمه أو ورعه وعبادته فائدة، ولا ينفعهم كونه مريداً للصلاح وإجراء الأمور مجاريها الشرعية مع عجزه عن ذلك وعدم قدرته على إنفاذه[9]. فقد كان معاوية رضي الله عنه يرى بولاية المفضول مع وجود الفاضل هذه أهم أسباب ترشيح معاوية رضي الله عنه لابنه. سادساً: الانتقادات التي وجهت لمعاوية بشأن البيعة ليزيد: لقد حمّل كثير من المؤرخين السابقين والمعاصرين معاوية رضي الله عنه مسئولية البيعة الكاملة، وبالتالي حملوه جميع الأخطاء التي يقع فيها الحكام من زمان معاوية حتى عصرنا الحاضر، فمنهم من اتهمه بالخروج على نظام الشورى في الإسلام فكان أول محطم لنظام الإسلام[10]. ومنهم من اتهم معاوية بأنه أقر النظام الذي يعتمد على السياسة أولاً وإلى الدين ثانياً[11]، والبعض شبه معاوية بالملوك الأقدمين من الفرس والروم[12]، والبعض يجعل معاوية بهذه البيعة هو رائد المدرسة ((المكيافيلية)) في السياسة القائمة على تسويغ الوسيلة من أجل الغاية[13]، والبعض حكم على معاوية بارتكابه كبيرة أضافها إلى كبائره السابقة[14]، والبعض أعتبر معاوية خارجاً على إجماع المسلمين بهذه البيعة[15]. ولمعرفة صحة هذه الاتهامات من عدمها يجدر بنا أن نعرف ماهية الشورى وكيفية تطبيقها، فالشورى دعامة من دعائم الحكم في الإسلام، وقاعدة صلبة من قواعده كما أن اختيار الحاكم في الإسلام وتولي أمر الأمة المسلمة لا تعطيه صفة مقدسة، أو سلطة مطلقة[16]، بل إنه مسئول عن كل عمل يقوم به وينفذ فيه ما ينفذ في شعبه وأما طريقة الشورى فلم يحدد لها نظام خاصاً، فتطبيقها إذن متروك للظروف والمقتضيات الجارية[17]، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير المسلمين فيما لم ينزل فيه وحي ويأخذ برأيهم فيما هم أعرف به من شئون دنياهم، وكذلك سار الخلفاء الراشدون في استشارة المسلمين وإليك استعراض موجز لكيفية انعقاد إمامة الخلفاء الراشدين: 1 ـ طريقة انعقاد بيعة أبي بكر رضي الله عنه: قام أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة بيعة الصديق بيع خاصة ثم رشحوه للناس في اليوم الثاني وبايعته الأمة في المسجد البيعة العامة[18]، وقد أفرز ما دار في سقيفة بني ساعدة مجموعة من المبادئ منها: أن قيادة الأمة لا يقام إلا بالاختيار، وأن البيعة هي أصل من أصول الاختيار وشرعية القيادة، وأن الخلافة لا يتولاها إلا الأصلب ديناً والأكفأ إدارة، فاختيار الخليفة يكون وفق مقومات إسلامية، وشخصية، وأخلاقية، وأن الخلافة لا تدخل ضمن مبدأ الوراثة النسبية أو القبلية، وإن إثارة ((قريش)) في سقيفة بني ساعدة باعتباره واقع يجب أخذه في الحسبان، ويجب اعتبار أي شيء مشابه ما لم يكن متعارضاً مع أصول الإسلام، وأن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة قام على قاعدة الأمن النفسي السائد بين المسلمين حيث لا هرج ولا مرج، ولا تكذيب ولا مؤامرات ولا نقض للاتفاق، ولكن تسليم للنصوص التي تحكمهم حيث المرجعية في الحوار إلى النصوص الشرعية[19] أ ـ وأول ما قرره اجتماع يوم السقيفة هو أن (نظام الحكم ودستور الدولة) يقرر بالشورى الحرة، تطبيقاً لمبدأ الشورى الذي نص عليه القرآن الكريم، ولذلك كان هذا المبدأ محل إجماع، وسند هذا الإجماع هو النصوص القرآنية التي فرضت الشورى، أي أن هذا الإجماع كشف وأكد أول أصل شرعي لنظام الحكم في السلام وهو الشورى الملزمة، وهذا أول مبدأ دستوري تقرر بالإجماع بعد وفاة رسولنا صلى الله عليه وسلم، ثم إن هذا الإجماع لم يكن إلا تأييداً وتطبيقاً لنصوص الكتاب والسنّة التي أوجبت الشورى. ب ـ تقرر يوم السقيفة أيضاً أن اختيار رئيس الدولة أو الحكومة الإسلامية وتحديد سلطاته يجب أن يتم بالشورى، أي البيعة الحرة التي تمنحه تفويضاً ليتولى الولاية بالشروط والقيود التي يتضمنها عقد البيعة الاختيارية الحرة ـ الدستور في النظم المعاصرة ـ وكان هذا ثاني المبادئ الدستورية التي أقرها الإجماع، وكان قراراً إجماعياً كالقرار السابق. جـ ـ تطبيقاً للمبدأين السابقين قرر اجتماع السقيفة اختيار أبي بكر ليكون الخليفة الأول للدولة الإسلامية[20]، ثم أن الترشيح لم يصح نهائياً إلا بعد أن تمت له البيعة العامة، أي موافقة جمهور المسلمين في اليوم التالي بمسجد الرسول صلى اله عليه وسلم، ثم قبوله لها بالشروط التي ذكرها في خطابه[21]المشهور الذي جاء فيه: أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمّهم الله بالبلاء أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله[22]. وقال عمر لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة[23]، وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب الإسلامية على إيجازها وقد قرر الصديق فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم وركز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد[24]. 2 ـ طريقة انعقاد بيعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لما اشتد المرض بالصديق رضي الله عنه جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله إيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمّروا عليكم من أحببتم فإنكم إن أمّرتم في حياة مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي[25]، وقد قام أبي بكر رضي الله عنه بعدة إجراءات لتتم عملية اختيار الخليفة القادم. أ ـ استشارة أبي بكر كبار الصحابة: تشاور الصحابة رضي الله عنهم وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية لذا رجعوا إليه، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإن فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: أنت أخبرنا به. فقال: على ذلك يا أبا عبد الله فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ما عدتك. ثم دعا أسيد بن حضير فقال له مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى الرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن عبيد الله خاف من شدته، فقد قال لأبي بكر: ما أنت قائل لرَبِّك إذا سألك استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أبالله تخوفوني؟ خاب من تزوَّد من أمركم بظلم أقول اللهم استخلفت عليهم خير أهلك[26] وبين لمن نبهه إلى غلظة عمر وشدته فقال: ذلك لأنه يراني رقيقاً ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه[27]. ب ـ نص العهد الذي كتبه أبو بكر لكي يقرأ على الناس: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، يوقن الفاجر ويصدق الكاذب، إني استخلف عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاستمعوا له وأطيعوا وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي، وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امريء ما اكتسب الخير أردت ولا أعلم الغيب ((وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)) (الشعراء ، الآية : 227). جـ ـ إبلاغ الناس بنفسه: إنه أراد إبلاغ الناس بلسانه واعياً مدركاً حتى لا يحصل أي لبس فأشرف أبو بكر على الناس وقال لهم: أترضون بما استخلف عليكم، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قربة، وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا سمعنا وأطعنا[28]. ر ـ التوجه بالدعاء لله: أنه توجه بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه، وهو يقول: اللهم وليته بغير أمر نبيك، ولم أرد بذلك إلا إصلاحهم وخفت عليهم الفتنة، واجتهدت لهم رأيي، فولَّيت عليهم خيرهم وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم فهم عبادك[29]. س ـ تكليف عثمان بقراءة العهد على الناس: كلف أبو بكر رضي الله عنه عثمان بن عفان أن يتولى قراءة العهد على الناس وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر بعد أن ختمه لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء الأمر، دون أي آثار سلبية، وقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به[30]. ش ـ وصية الصديق لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما : اختلى الصديق بالفاروق وأوصاه بمجموعة من التوصيات لإخلاء ذمته من أي شيء، حتى يمضي إلى ربه خالياً من أي تبعة بعد أن بذل قصارى جهده واجتهاده[31]، وقد جاء في الوصية: اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل غداً أن يكون خفيفاً، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه،فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف أن لا ألحق بهم وأن الله تعالى ذكر أهل النار، فذكرهم بأسوأ أعمالهم، ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم، قلت: إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء ليكون العبد راغباً راهباً، لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يك غائب أبغض إليك من الموت وليس تعجزه[32]. ونلاحظ أن عمر رضي الله عنه وليَّ الخلافة باتفاق أصحاب الحل والعقد وإرادتهم فهم الذين فوضوا لأبي بكر انتخاب الخليفة، وجعلوه نائباً عنهم في ذلك، فشاور ثم عين الخليفة، ثم عرض هذا التعيين على الناس فأقروه وأمضوه، ووافقوا عليه، وأصحاب الحل والعقد في الأمة هم النواب (( الطبيعيون )) عن هذه الأمة، وإذن فلم يكن أستخلا ف عمر رضي الله عنه إلا على أصح أساليب الشورية وأعدلها[33] إن الخطوات التي سار عليها أبوبكرالصديق في اختيارخليفته من بعده لاتتجاوز الشورى بأي حال من الأحوال، وإن كانت الاجراءات المتبعة فيها غير الاجراءات المتبعة في تولية أبي بكر نفسه[34]. وهكذا تم عقد الخلافة لعمر رضي الله عنه بالشورى والاتفاق، ولم يرد التاريخ أي خلاف وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحداً نهض طوال عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إجماع على خلافته وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدة واحدة[35] . [/align] |
3[align=justify]
ـ طريقة انعقاد بيعة عثمان رضي الله عنه: استطاع الفاروق رضي الله عنه في اللحظات الأخيرة وهو على فراش الموت، رغم ما يعانيه من آلام جراحاته البالغة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلاً ملموساً، ومعلماً واضحاً على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية، لقد مضى قبله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف بعده أحداً بنص صريح، ولقد مضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة، ولما طلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت، فكر في الأمر ملياً وقرر أن يسلك مسلكاً آخر يتناسب مع المقام، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الناس وكلهم مقر بأفضلية أبي بكر وأسبقيته عليهم، فاحتمال الخلاف كان نادراً، وخصوصاً أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الأمة قولاً وفعلاً إلى أن أبي بكر أولى بالأمر من بعده، والصديق لما رشح عمر كان يعلم أن عند الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأقدر وأفضل من يحمل المسئولية بعده،فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة ولم يخالف رأيه أحد منهم وحصل الاجماع على بيعة عمر[1]، وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد فتعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، فقد حصر ستة من صحابة رسول الله كلهم بدريون وكلهم توفي رسول الله عليه وسلم وهو عليهم راضٍ، وكلهم يصلحون لتولي الأمر ولو أنهم يتفاوتون وحدد لهم طريقة الانتخاب ومدته وعدد الأصوات، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد[2]. وبهذا يكون أمير المؤمنون أرسى نظاماً صالحاً للشورى لم يسبقه إليه أحد ولا يشك أن أصل الشورى مقرر في القرآن والسنة القولية والفعلية، وقد عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ولم يكن عمر مبتدعاً بالنسبة للأصل، ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة وحصر عدد معين جعلها فيهم وهذا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصديق ـ رضي الله عنهم ـ بل أول من فعل ذلك عمر ونعم ما فعل، فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت[3]. وبهذا جعل أمير المؤمنين هيئة سياسيسة عليا وهم أهل الشورى وأناط بهم وحدهم اختيار الخليفة من بينهم، ومن المهم أن نشير إلى أن أحداً من أهل الشورى لم يعارض هذا القرار الذي اتخذه عمر، كما أن أحداً من الصحابة الآخرين لم يثر أي اعتراض عليه، ذلك ما تدل عليه النصوص التي بين أيدينا، فحن لا نعلم: إن اقتراحاً آخر صدر عن أحد من الناس في ذلك، أو أن معارضة ثارت حول أمر عمر خلال السَّاعات الأخيرة من حياته، أو بعد وفاته وإنما رضي الناس كافة هذا التدابير، ورأوا فيه مصلحة لجماعة المسلمين، وفي وسعنا أن نقول: إنَّ عمر قد أحدث هيئة سياسية عليا مهمَّتها انتخاب رئيس الدولة أو الخليفة، وهذا التنظيم الدستوري الجديد، الذي أبدعته عبقرية عمر لا يتعارض مع المباديء الأساسية التي أقرها الإسلام ولاسيما فيما يتعلق بالشورى، لأن العبرة من حيث النتيجة العامة التي تجري في المسجد الجامع. وعلى هذا لا يتوجّه السؤال الذي قد يرد على بعض الأذهان، وهو: من أعطى عمر هذا الحق؟ ما هو مستند عمر في التدبير؟ ويكفي أن نعلم أن جماعة من المسلمين قد أقرت هذا التدبير، ورضيت به ولم يُسمع صوت اعتراض عليه حتى نتأكَّد: أنَّ الاجماع ـ وهو مصدر من مصادر التشريع ـ قد انعقد على صحته ونفاذه[4]، ولا ننسى : أن عمر خليفة راشد، كما ينبغي أن نؤكِّد أن أهل الشورى أعلى هيئة سياسية قد أقرّه نظام الحكم في الإسلام في العهد الراشدي، كما: أنَّ الهيئة التي سمّاها عمر، تمتَّعت بمزايا لم يتمتع بها غيرها من جماعة المسلمين، وهذه المزايا منحت لها من الله وبلغها الرسول، فلا يمكن عند المؤمنين أن يبلغ أحد من المسلمين مبلغ هؤلاء العشرة من التقوى، والأمانة[5]. ومن الأمور المهمة حرص الفاروق على ابعاد الإمارة عن أقاربه، مع أن فيهم من هو أهل لها، فهو يبعد قريبه سعيد بن زيد عن قائمة المرشحين للخلافة[6] وقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر مع أهل الشورى وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإن رضي ثلاثة رجل منهم، وثلاثة رجل منهم، فحكِّموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له، فليختاروا رجل منهم، فإن لم يرضوا يحكم عبد الله بن عمر، فيكون مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فوصف عبدر الرحمن بن عوف بأنه مسدد رشيد، له من الله حافظ فاسمعوا له[7]، وقد أشرف على العملية الانتخابية عبد الرحمن بن عوف وشاور الناس في أمر علي وعثمان رضي الله عنهما وكان يشاور كل من يلقاه في المدينة من كبار الصحابة، وأشرافهم، ومن أمراء الأجناد ومن يأتي للمدينة وشملت مشاوراته النساء في خدورهنَّ، وقد أبدين رأيهنّ، كما شملت الصَّبيان، والعبيد في المدينة وكانت نتيجة مشاورات عبد الرحمن بن عوف: أن معظم المسلمين كانوا يشيرون بعثمان بن عفان، ومنهم من كان يشير بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما... ثم بعد ذلك أعلن عبد الرحمن بعد صلاة الصبح من اليوم الأخير من شهر ذي الحجة 23 النتيجة التي وصل إليها فبعد أن تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد: يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل على نفسك سبيلا ثم بايع عثمان على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده. فبايعه الناس: المهاجرون ، والأنصار، ,امراء الأجناد والمسلمون[8]، وجاء في روية صاحب التمهيد، والبيان:أن علي بن أبي طالب أوّل من بايع عبد الرحمن بن عوف[9]، وقد اعتبر الذهبي ما قام به عبد الرحمن بن عوف من أفضل أعماله حيث قال: ومن أفضل أعمال عبد الرحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحلِّ، والعقد، فنهض في ذلك أتمَّ نهوض على جمع الأمَّة على عثمان، ولو كان محابياً فيها، لأخذها لنفسه، أو لولاها ابن عمّه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص[10]، وبهذا تحققت صورة أخرى من صور الشورى في أحد الخلفاء الراشدين: وهي الاستخلاف عن طريق مجلس الشورى، ليعينوا أحدهم بعد أخذ المشورة العامّة، ثم البيعة العامّة[11]. 4 ـ طريقة إنعقاد بيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه: تمت بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة بطريقة الاختيار وذلك بعد أن استشهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أيدي الخارجين المارقين الشذاذ الذين جاءوا من الآفاق ومن أمصار مختلفة وقبائل متباينة لا سابقة لهم، ولا أثر خير في الدين، فبعد أن قتلوه رضي الله عنه ظلماً وزوراً وعدواناً، يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين[12]، قام كل من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله بمبايعة علي رضي الله عنه بالخلافة وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الاطلاق في ذلك الوقت، فلم يدع الإمامه لنفسه أحد بعد عثمان ولم يكن أبو السبطين رضي الله عنه حريصاً عليها، وذلك لم يقبلها، إلا بعد إلحاح شديد ممن بقي من الصحابة بالمدينة وخوفاً من ازدياد الفتن وانتشارها ومع ذلك لم يسلم من نقد بعض الجهال أثر تلك الفتن كموقعة الجمل وصفين التي أوقد نارها وأنشبها الحاقدون على الإسلام كابن سبأ وأتباعه الذين استخفهم فأطاعوه لفسقهم ولزيغ قلوبهم عن الحق والهدى، وقد روي الكيفية التي تم بها اختيار علي رضي الله عنه للخلافة بعض أهل العلم[13]، فقد روى أبو بكر الخلال بإسناده إلى محمد الحنفية قال: كنت مع علي رحمه الله وعثمان محصر قال فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة قال: فقال علي رحمه الله: قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه فقال: خل لا أم لك قال: فأتى علي الدار وقد قتل الرجل رحمه الله فأتى داره فدخلها وأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا قد قتل، ولا بد للناس من خليفة ولا نعلم أحداً أحق بها منك فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزير خير مني لكم أمير، فقالوا: لا والله لا نعلم أحداً أحق بها منك، قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد فبايعه الناس[14]. 5 ـ طريقة انعقاد بيعة الحسن بن علي رضي الله عنه: كانت بيعة الحسن بن علي رضي الله عنه في شهر رمضان من سنة 40هـ وذلك بعد استشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد اختار الناس الحسن بعد والده ولم يعين أمير المؤمنين أحداً من بعده، فعن عبد الله بن سبع قال: سمعت علياً يقول: لتخضبن هذه من هذا[15]، فما ينتظربي الأشقى[16] قالوا: يا أمير المؤمنين، فأخبرنا به نبير عترته[17]، قال: إذن تالله تقتلون بي غير قاتلي0 قالوا: فاستخلف علينا قال: لا، ولكن أترككم إلى ماترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم وفي رواية: أقول اللهمّ استخلفني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني وتركتك فيهم وبعد مقتل علي صلى عليه الحسن ابن علي وكبر عليه أربع تكبيرات، ودفن بالكوفة، وكان أول من بايعه قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي، قال له: أبسط يدك أبايعك على كتاب الله عز وجل وسنه نبيه، وقتال المُحليِّن، فقال له الحسن رضي الله عنه: على كتاب الله وسنة نبيه فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط: فبايعه وسكت وبايعه الناس[18] وقد اشترط الحسن بن علي على أهل العراق عندما أرادوا بيعته فقال لهم: إنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت[19]، وفي رواية قال لهم: والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم قالوا: ما هو؟ قال تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت[20]، وفي رواية ابن سعد: إن الحسن بن علي بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين، بايعهم على الإمرة، وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه ويرضوا بما رضي به[21]. [/align] |
6[align=justify]
ـ طريقة انعقاد بيعة معاوية رضي الله عنه: تمت بيعة معاوية بتنازل الحسن بن علي رضي الله عنه في الخلافة وتهيأت له جميع أسبابها، فبويع أميراً للمؤمنين عام واحد وأربعين للهجرة وسمي هذا العام بعام الجماعة[1]، وقد بايع معاوية رضي الله عنه كل الصحابة الأحياء وأجمعت الأمة عليه وعدوا خلافته شرعية ورضوا إمامته، ورأوا أنه خير من يلي أمر المسلمين ويقوم به خير قيام. 7 ـ المآخذ على فكرة ولاية العهد في عهد معاوية: صحيح أن النظام الإسلامي للحكم لم ينص على طريقة معينة لاختيار ولي الأمر، ولكنه وضع الأساس التي لا تجوز الحيدة عنه، إلا في حالات الضرورة والاضطرار، وهو الشورى وليس للشورى أسلوب خاص، وطريقة واحدة، لا تتحقق إلا بها، ولكن تتحقق بأساليب شتى كما مرّ معنا في اختيار الأمة للخلفاء الراشدين، ولئن قصد معاوية رضي الله عنه بإحداث ولاية العهد في نظام الحكم الإسلامي جمع كلمة المسلمين، وحقن دمائهم، فهو إن شاء الله تعالى مأجور على أنه كان قادراً على أن يجعل العهد بعده لغير ولده من كبار الصحابة الموجودين في تلك الفترة، وكان فيهم كفاءات لو أسند إليهم الأمر، فقد كان الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر وغيرهم موجودين في هذا الوقت ولكن معاوية رضي الله عنه عدل عن هؤلاء وقصد لولده ليكون خليفة بعده، وبذلك حصل التغير الحقيقي في نظام الحكم الإسلامي، فليس التغيير في إيجاد نظام ولاية العهد... ولكن التغيير في أن يكون ولي العهد ولد الخليفة أو أحد أقاربه، حتى أصبحت الحكومة ملكية بعد أن كانت خلافة راشدة[2]، وإذا كنا مأمورين باتباع سنة الرسول وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، فإن التزام نظام الوراثة ليس من سنة النبي ولا من سنة خلفائه الراشدين، كما أن ترشيح يزيد لم يكن موفقاً لأسباب منها: إن المجتمع الإسلامي يومئذ كان فيه من أحق وأولى بالخلافة من يزيد في سابقته وعلمه وعمله ومكانه وصحبته كعبد الله بن عمر وابن عباس وغيرهم فأين الثرى من الثرية[3]؟ ومهما مبدأ توريث الحكم من الأب لابنه. وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة، فإنهم لا ينزهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب، فضلاً عن تنزيههم عن الخطأ في الاجتهاد، بل يقولون إن للذنوب أسباب تدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار والحسنات المحاية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم[4]، ومعاوية رضي الله عنه من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم وما هو ببريء من الهنات والله يعفو عنه[5]، والذي يجب أن نعتقده في معاوية أن قلوبنا لا تنضوي على غل لأحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بل نقول: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) (الحشر ، الآية : 10) ونقول بأن معاوية اجتهد للأمة خوفاً عليها من الانقسام والفتن، ولا يمكن أن يحمل تبعات كل أخطاء الملوك والأمراء الذين جاؤوا من بعده، كما قرره عبد القادر عوده ـ رحمه الله ـ: حيث يقول: وأقام معاوية أمر الأمة الإسلامية على المحجات والظلم وإهدار الحقوق، وقضى على الشورى وعطل قول الله تعالى: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) (الشورى ، الآية : 38) وحوّل الحكم العادل النظيف إلى حكم قذر قائم على الأهواء والشهوات، ووجه الناس إلى النفاق والذلة والصغار، ولا شك فيه أن كل من جاؤوا بعده إلى عصرنا هذا قد عمل بسنته وتثبتوا ببدعته حاشا عمر بن عبد العزيز، فعلى معاوية وقد استن هذه السنة السيئة إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة[6]. وإذا كان معاوية أو الخلفاء الأمويين قد حوّل الخلافة من الشورى إلى الملك، فإن حفيده معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ثالث خلفاء الأمويين قد أعاد الخلافة من الملك العضوض إلى الشورى الكاملة.. وإنه لما يستوجبه الإنصاف أن تصاغ القضية على هذا النحو بدلاً من التركيز على الشق الأول الخاص بتوريث الخلافة فقط ولم تستطع الأمة التي أعطيت حقها في اختيار خليفتها أن تعود إلى شكل من أشكال الاختيار السابق في عصر الراشدين، وبرز بوضوح دور العصبية الإقليمية والقبلية وحسم في النهاية الصراع الدائر حول منصب الخلافة لمصلحة البيت الأموي واستطاعت الشام أن تحقق الحسم التاريخي بعمق الالتحام بين بنائها القبلي والوجود الأموي بها[7]، وسيأتي بإذن الله التفصيل عن حديثنا عن معاوية الثاني والحقيقة أن بيعة يزيد قد قبلها الكثير حتى الصحابة رضوان الله عليهم فقد بايعه ستوت من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ابن عمر[8] خوفاً من الفتنة وحرصاً على وحدة الصف، فقد توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بعيد خروج معاوية من المدينة ولم يبق من المعارضين إلا ثلاثة هم ابن عمر وابن الزبير والحسين بن علي، أما ابن عمر فلما رأى الناس مجتمعة على يزيد بايعه وأرسل بيعته بعد وفاة معاوية رضي الله عنه وقال: إن كان خيراً رضينا به وإن كان بلاءً صبرنا[9]، وانحصرت المعارضة في شخص ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهما، وقد حاول بعض الناس أن يلفقوا على معاوية رضي الله عنه تحسره من بيعة يزيد فنقلوا عنه أنه قال: لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي[10]. والسند من طريق الواقدي وهو متروك[11]، ونسبوا إليه أيضاً أنه قال ليزيد: ما ألقى الله بشيء أعظم من نفسي من استخلافك[12]. والسند من الطريق الهيثم بن عدي وهو كذاب[13]، ولقد اعتمد محمد رشيد رضا رحمه الله على هذه الرواية وتحامل على معاوية تحاملاً قاسياً[14]، ولقد تورط الكثير من الباحثين في الروايات الضعيفة والموضوعة فيما يتعلق بتاريخ صدر الإسلام وبنوا عليها تصورات وأفكار وأحكام تحتاج إلى إعادة نظر من جديد. ومع ما وقع من إنحراف في تغيير النموذج الأعلى لنظام الحكم الإسلامي، الذي تتمثل فيه روح الإسلام كاملة وهو الخلافة واستبدال الملك العضوض به[15]، إلا أن الطابع الإسلامي هو الصفة الغالبة على مظهر الدولة، وتصرفات الحكام، فالصلاة تؤدي في أوقاتها، والزكاة تحصَّل من أربابها والصوم فريضة لا يُعارض في أدائها، وإقامة الحدود دون هوادة لم يقف شيء دون تنفيذها، والجهاد في سبيل الله فريضة ماضية بين رجالها، وبالجملة كانت تعاليم الإسلام مطبقة بحذافيرها[16]. سابعاً : الأيام الأخيرة في حياة معاوية: 1 ـ وصية معاوية رضي الله عنه ليزيد: لما حضر معاوية الموت وذلك سنة 60هـ وكان يزيد غائباً، دعا بالضحاك بن قيس الفهري ـ وكان صاحب شرطته ـ ومسلم بن عقبة المري، فأوصى إليهما فقال: بلغا يزيد وصيني، أنظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم وتعهد من غاب، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك فإن نابك شيء من عدوك فانتصر بهم، فإن أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن اقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم، وإني لست أخاف من قريش إلا ثلاثة حسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فأما ابن عمر فرجل قد وقذه الدين، فليس ملتمساً قِبَلك، وأما الحسين بن علي فإنه رجل خفيف، وأرجو أن يكفيه الله بمن قتل أباه، وخذل أخاه، وإن له رحماً ماسّة، وحقاً عظيماً، وقرابة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فاصفح عنه، فإني لو أني صاحبه عفوت عنه، وأما ابن الزبير فإنه خَبُّ ضَبُّ، فإذا شخص لك فالبد له، إلا أن يلتمس منك صلحاً، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت[17]. تظهر في هذه الوصية كفاية معاوية ودهائه السياسي من خلال تشخيصه لأهمية الأمصار ومدى تأثيرها المستقبلي على أوضاع الدولة الأموية فذكر في وصيته ثلاث أقاليم فقط هي الحجاز والعراق والشام، ذلك أن الأوضاع السياسية خارج دائرة هذه الأقاليم، لم تكن تثير أي هموم جدية لدى معاوية[18]. أ ـ الحجاز : فالبنسبة للحجاز يوصي معاوية ابنه قائلاً: انظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم وتعهد من غاب[19]، ويأتي اهتمام معاوية بالحجاز فضلاً عن كونه محل أهله وعشيرته فهو من الناحية السياسية كان ولوقت قريب مركز الثقل السياسي للدولة الإسلامية ((مقر الخلافة)) ومن الناحية الدينية لم يزل يحتل مركز الصدارة لاحتضانه جل ما تبقى من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبإمكانه تقويض حكم بني أمية فيما لو اجتمعت كلمته وأتيحت الفرصة، له وهو بعد ذلك لايزال المكان الحقيقي للبيعة[20]، والأهم من ذلك كله فإنه يضم عدداً من الشخصيات المعارضة للحكم الأموي، أمثال الحسين بن علي رضي الله عنه، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم جميعاً كما سنرى ذلك في الفقرات اللاحقة من الوصية، ولذلك نرى معاوية يحث يزيد على استخدام مختلف الوسائل لاستقطاب الحجاز بما في ذلك أغداق الأموال[21]، ولهذه الأسباب أيضاً وضع معاوية السلطة في هذا الإقليم تحت مراقبته المباشرة، حيث قام بتنفيذ سياسته في البيت الأموي، وقام بتشجيع مختلف النشاطات غير السياسية المناهضة له فيه[22]، واهتم بأهله اهتماماً خاصاً. ب ـ العراق: أما الأقليم الثاني الذي يثير اهتمام معاوية فهو العراق، لذا يوصي ولي عهده أن يعامل أهل العراق معاملة خاصة فيقول: انظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أحب إليّ من أن يشهر عليك مائة ألف سيف[23]، ومن الجدير بالذكر أن شكاية أهل العراق من ولاتهم كان منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. جـ ـ الشام: أما الإقليم الثالث هو الشام، فإن وصية معاوية به تأتي من باب رد الجميل لأهل الشام لدورهم الكبير في مساندته بالوصول إلى الحكم وتأييدهم المستمر لسياسته لذا يوصي ابنه أن يجعلهم محل ثقته وعنايته وأن يذخرهم للمهمات الجسام في قوله: وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك فإن نابك شيء من عدوك فانتصر بهم فإذا أصبتهم فأردد أهل الشام إلى بلادهم فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم[24]، وتظهر الفقرة الأخيرة من هذا النص بعد نظر معاوية السياسي، فهو يسدي مخاوفه من اختلاط أهل الشام[25]، ببقية سكان الأقاليم الأخرى فتتبدل أخلاقهم نتيجة مكوثهم مدة طويلة ولربما استطاع المعارضون للحكم الأموي التأثير على جند الشام، على الرغم من التقاء مصالحهم مع مصالح البيت الأموي، فتسقط من يد الخلافة الأموية الورقة الرابحة التي طالما استخدمها معاوية وقطف ثمارها ولهذا يوصي معاوية ابنه بأن يسرع في إعادة جند الشام إلى بلادهم حال انتهاء مهمتهم[26]، ومن أهم ما في وصية معاوية خطته التي رسمها لولي عهده في مواجهة الأحداث المقبلة، وأوكل إليه تنفيذها بعد أن عجز هو من اقناع نفر من قريش بالبيعة ليزيد على الرغم من أن الروايات تذكر أن معاوية ذهب إلى الحجاز لهذا الغرض والتقى بالشخصيات التي رفضت البيعة ليزيد كلاً على انفراد في محاولة للحصول منهم على وعود بالبيعة[27]، إلا إن هذه الجهود لم تثمر في تذليل المصاعب قب ظهورها[28]، والوصية تظهر أن الحجاز، وتحديداً المدينة، هي أكثر البلدان معارضة لحكم بني أمية ولهذا يوصي معاوية إبنه أن يكون حذراً ودقيقاً في تعامله معها، وأن يكون حازماً شديدا حين يتطلب الأمر ذلك، ومرناً ليناً مع من لا يشكلون خطراً حقيقاً عليه، لما للحجاز من أهمية بالغة في تقرير وتثبيت الحكم[29]. وكان معاوية رضي الله عنه مصيباً في رأيه بعبد الله بن عمر من أنه رجل قد وقذه الدين، ولا خطر على يزيد منه، وذلك أن الوليد بن عتبة حين طلبه للبيعة قال: إذا بايعت الناس بايعت فتركوه لثقتهم بزهادته في الأمر وشغله بالعبادة[30]، وكان مصيباً في حدسه من أهل العراق لن يتركوا الحسين بن علي رضي الله عنه حتى يخرجوه، ويبدو أنه كان متأكداً من وقوع الاصطدام بينهما، لذلك طلب من يزيد أن يعفوا عنه إذا تمكن منه، أما الخطر الحقيقي والذي يتطلب الحزم والشدة فإنه يأتي من عبد الله بن الزبير الذي كان يتمتع على ما يبدو من تأييد واسع النطاق بين معظم المعارضين للحكم الأموي، ولأنه كان رجل سياسة وحرب من الطراز الأول، وعلى الجملة فإن وصية معاوية تعكس سياسته ودهاءه في تصريف الأمور، فنراه من خلال الوصية يتعامل مع الأحداث التي تتطلب الشدة حزماً، وفيما عدا ذلك فهو يستخدم خبرته وتجربته السياسية الطويلة في مواجهة الأحداث، وقد وصف معاوية نفسه مشيراً إلى هذه السياسة بقوله: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً. فقيل له وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها وإذا أرخوها مددتها[31]، وكان على الدوام يوصي يزيد بهذه السياسة فيقول له: عليك بالحلم، والاحتمال حتى تمكنك الفرصة فإذا أمكنك فعليك بالصفح فإنه يدفع عنك معضلات الأمور، ويقيك مصارع المحذور[32]. وفي هذه الوصية يلخص معاوية رضي الله عنه منهجه وخبرته في السياسة والإدارة لابنه يزيد في كلمات قليلة جامعة تنم عما يتمتع به هذا الصحابي الكريم من حنكة سياسية وبراعة إدارية[33]. [/align] |
2[align=justify]
ـ آخر خطبة لمعاوية رضي الله عنه واشتداد مرضه ووفاته: كانت آخر خطبة خطبها معاوية رضي الله عنه قوله: أيُّها الناس إني من زرع قد استحصد، وإني قد وليتكم ولن يليكم أحد بعدي إلا من هو شر مني، كما كان من وليكم قبلي خيراً مني، ويا يزيد إذا وفى أجلي فوَلِّ غسلي رجلاً لبيباً، فإن اللبيب من الله بمكان فليُنعم الغسل وليجهر بالتكبير، ثم أعمد إلى منديل في الخزانة فيه ثوب من ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقُراضة من شعره وأظفاره فاستودع القراضة أنفي وفمي وأُذُنيَّ وعيْنيَّ، واجعل الثوب يلي جلدي دون أكفاني، ويا يزيد احفظ وصية الله في الوالدين، فإذا أدرجتموني في جريدتي، ووضعتموني في حفرتي فخلوا معاوية وأرحم الراحمين[1]. ولما احتضر معاوية جعل يقول: لعمري لقد عُمِّرتُ في الدهر بُرهة ودانت لي الدنيا بوقـع البواتـر وأعطيت حُمْرَ المال والحكم والنّهى وسِلْمَ قماقيم[2] الملـوك الجبـابر فأضحى الذي قد كان مما يَسُرُّني كحلم مضى في المزمنات الغوابر فيا ليتني لم أُعن في الملك ساعة ولم أُعْنَ في لذات عيشٍ نواضر وكنت كذي طمرين عاش ببُلْغةٍ من العيش حتى زار ضيق المقابر[3] وقد أوصى معاوية بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال كأنه أراد أن يُطيَّب له، لأن عمر بن الخطاب قاسم عمّاله[4]. وذكروا أنه في آخر عمره اشتد به البَرْدُ فكان إذا لبس أو تغطَّى بشيء ثقيل يَغُمُّه، فاتُّخذ له ثوب من حواصل الطير[5]، ثم ثقل عليه بعد ذلك، فقال: تبَّاً لك من دار ملكتك أربعين سنة، عشرين أميراً، وعشرين خليفة، ثم هذا حالي فيك، ومصيري منك، تباً للدنيا ومُحبِّيها[6]، ولما اشتد المرض وتحدث الناس أنه الموت قال لأهله، أحشوا عيْنيّ إثمداً، وأوسعوا رأسي دُهناً. ففعلوا وبرّقوا[7] وجهه بالدهن، ثم مُهِّد له فجلس وقال: أسندوني. ثم قال: إئذنوا للناس فليُسلموا عليَّ قياماً ولا يحبس أحد. فجعل الرجل يدخل فيُسلم قائماً فيراه متكحِّلاً مُتدهِّناً، فيقول متقوِّل الناس: هو لمّا به[8]، وهو أصح الناس، فلما خرَجوا من عنده[9] تمثل معاوية بقول أبي ذؤيب الهذلي الشاعر: وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كلَّ تميمة لا تنفع وكان به النقابة[10]، فمات من يومه ذلك[11]، وكان يقول لما نزل به الموت: يا ليتني كنت رجلاً من قريش بذى طوى ولم أَلِ من هذا الأمر شيئاً[12]، ومن الشعر الذي تمثل به أيضاً قول الشاعر: إن تناقش يكن نقاشك يا ربِّ عذاباً لا طوق لي بالعذاب أو تجاوز تجاوز العفو فاصفح عن مسيءٍ ذنوبه كالتُّراب[13] وقال رضي الله عنه وهو يُقَلبّ في مرضه، وقد صار كأنه سعفة محترقة: أي شيخ تقلِّبون إن نجاه الله من النار غداً[14]؟، وقال الحسن البصري: دُخل علىمعاوية وهو بالموت، فبكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي على الموت أن حل بي، ولا على دنيا أخلفها ولكن هما قبضتان: قبضة في الجنة، وقبضة في النار، فلا أدري في أي القبضتين أنا[15] وأغمى على معاوية رضي الله عنه في سكرات الموت ثم أفاق فقال لأهله: اتّقوا الله، فإن الله يَقي من اتَّقاه ولا يَقي من لا يَتَّقي[16]، وجعل معاوية رضي الله عنه لما احتضر يضع خده على الأرض ثم يُقلِّب وجهه ويضع الخد الآخر ويبكي ويقول: اللهم إنك قلت في كتابك: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) (النساء ، الآية : 48) اللهم اجعلني ممَّن تشاء أن تغفر له[17]، ومن دعائه في ذلك اليوم: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يَرْجُ غيرك فإنك واسع المغفرة ليس لذي خطيئة من خطيئته مهرب إلا إليك ثم مات[18]. وجاء في رواية: اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي[19]رحم الله معاوية رضي الله عنه. 3 ـ سنة وفاة معاوية ومن صلى عليه: قال الطبري: في هذه السنة هلك معاوية بن أبي سفيان بدمشق، فاختلف في وقت وفاته بعد إجماع جميعهم على أن هلاكه كان في سنة ستين من الهجرة وفي شهر رجب[20]، وقال ابن حجر: مات معاوية في رجب سنة ستين على الصحيح[21] وصلى على معاوية الضحاك ابن قيس الفهري، وكان يزيد غائباً حين مات معاوية[22]، فقد خرج الضحاك حتى صعد المنبر وأكفان معاوية على يديه تلوح، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن معاوية كان عود العرب[23]، وحدّ العرب[24]، قطع الله عز وجل به الفتنة وملَّكهُ على العباد، وفتح به البلاد. ألا إنه قد مات، فهذه أكفانه فنحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومُخَلُّون بينه وبين عمله، ثم هو البرزخ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضر عند الأولى[25]، وبعث البريد إلى يزيد بوجع معاوية وقد اختلف المؤرخون هل حاضر يزيد وفاة أبيه أم لا؟ والصحيح أن يزيد لم يدرك والده حياً وإنما جاء بعد موته[26]. ولما وصل يزيد الخبر قال: جاء البريـد بقرطاس يخـب بـه فأوجس القلب مــن قرطاسه فزعا قلنا: لك الويل ماذا فـي كتابكم؟ قالوا : الخليفة أمـس مثبتـاً وجعـا فمادت الأرض أو كادت تميد بنا كـأن أغبر مــن أركانها انقطعا من لا تزال نفسه توفي على شرف توشك مقاليد تلـك النفس أن تقعا لما انتهينا وبـاب الـدار منصفق وصوت رملة[27] رِيعَ القلب فانصدعا[28] 4 ـ عمر معاوية رضي الله عنه عند وفاته: علىالقول الراجح: توفي معاوية وهو ابن ثمان وسبعين سنة[29]، بدليل قول ابن حجر: إن مولده كان قبل البعثة بخمس سنوات على الأشهر[30]، وكما هو معروف فإن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، وبذلك يكون مولد معاوية قبل الهجرة بثمان عشرة سنة، ولما كانت وفاته سنة ستين، فهذا يعني أن عمره عند وفاته كان ثمان وسبعين سنة[31]. 5 ـ مدة خلافته: تنازل الحسن بن علي لمعاوية بالتخيلة وتمت بيعته في شهر ربيع الأول من عام 41هـ ومات بدمشق سنة 60هـ يوم الخميس لثمان بقين من رجب، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يوماً[32] 6 ـ ما قيل فيه من رثاء: قال أبو الورد العنبري يرثي معاوية رضي الله عنه: ألا أنعي معاوية بن حرب نعـاه الحـل للشهر الحرام نعـاه الناعجات[33] بكل فجٍّ خواضع في الأزمَّةِ كالسِّهام فهاتيك النجوم وهنَّ خُرْسٌ ينخـن على معاوية الشآم وقال أيمن بن خزيم يرثيه أيضاً: رمى الحدثانَّ نسوة آل حرب بمقدار سمدن له سُمودا فرَدَّ شعورهنَّ السُّود بيضاً ورد وجوههن البيض سُودا فإنك لو شهدت بكاء هند ورملة إذ يُصَفِّقْن الخُدودا بكيت بكاء مُعْوِلةٍ قّرِيح[34] أصاب الدهر واحدها الفريدا[35] 7 ـ ما قاله ابن عباس في موت معاوية رضي الله عنهم : قال عامر بن مسعود الجهني : مرّ بنا نعيُ معاوية ونحن في المسجد, فأتينا ابن عباس, فوجدناه جالساً وقد وضع خوانه[36], وعنده نفر, ولم يوضع الطعام, فقلنا يا : ابن عباس : أما علمت بهذا الخبر ؟ فقال : وما هو ؟ قلنا : هلك معاوية. فقال : ارفع خوانك ياغلام, وسكت ساعة هاجما[37], ثم قال : جبل تزعزع ثم زال بجمعه في البحر[38] . قال القاضي أبو يعلى بعدما ذكر القصة : اللهم أنت أوسع لمعاوية كنفاً, وأحسن من تجاوز عنه وعنّا[39]. [/align] |
8[align=justify]
ـ نقش خاتمه : كان نقش خاتمه : لكل عمل ثواب[1], وقيل : لا قوة إلا بالله[2]. 9 ـ التبرك بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم : عن عبد الأعلى بن ميمون, عن أبيه : أن معاوية قال في مرضه الذي مات فيه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني قميصاً فرفعته, وقلَّم أظفاره يوماً, فأخذت قلامته فجعلتها في قارورة, فإذا مت فألبسوني ذلك القميص, وقطعِّوا تلك القلامة, واسحقوها وذُرٌّوها في عيني, وفي فيّ[3], فعسى الله أن يرحمنى ببركتها[4]. ويعتبر تبرك الصحابة رضوان الله عليهم بآثار النبي صلى الله عليه وسلم الحسية المنفصلة عنه, من أنواع التبرك المشروع حيث فعله الصحابة رضوان الله عليهم أثناء حياته صلى الله عليه وسلم وبعد مماته[5] كما فعله السلف الصالح رحمهم الله تعالى ومن الأدلة على ذلك : أ ـ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل, فتوضأ, وصب علي من وضوئه فعقلت[6]. ب ـ عن عثمان بن عبد الله بن وهب قال : أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء .. فيها شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم, وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مخضبة[7]. قال ابن حجر: بعث إليها مخضبة ـ وهو من جملة الآنية ـ والمراد أنه كان من اشتكى أرسل إناء إلى أم سلمة فتجعل فيه تلك الشعرات وتغسلها فيه وتعيده فيشربه صاحب الإناء أو يغتسل بعده استشفاءً بها فتحصل له[8]. جـ ـ وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت في جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه كانت عند عائشة حتى قبضت فلما قبضت، قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها[9]. وقد فرّع العلماء على مسألة التبرك بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم مسألة التبرك بفضلات الصالحين، وآثارهم ففي حديث عروة بنى مسعود وهو يصف أصحاب رسول الله عليه وسلم حوله، قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلاوقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده... وإذا توضَّأ كادوا يقتتلون على وضوئه[10]، وقد علق الشاطبي على هذا الحديث، وأحاديث أخرى تماثله، فقال: فالظاهر في مثل هذا النَّوع أن يكون مشروعاً في حق من ثبتت ولايته، واتِّباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يتبرك بفضل وضوئه، ويُتدلَّك بنخامته، ويُستشفى بآثاره كلِّها، إلا أنَّه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه مشكل في تنزيله، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم في شيء من ذلك بالنِّسبة إلى مَنْ خَلَفه، إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنه وهو كان أفضل الأمة بعده، ثمّ كذلك عثمان بن عفان، ثمّ علي، ثمّ سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمَّة، ثمَّ لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبرِّكاً تبرك به أحد تلك الوجوه، أو نحوها، بل اقتصروا على الاقتداء بالأفعال، والأقوال، والسِّير التي اتَّبعوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إذا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء[11] الفصل الخامس عهد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان أولاً : اسمه ونسبه وكنيته : هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس القرشي، يكنى ((أبو خالد))[12]، وجدته من جهة أبيه: هند بنت عتبة بن ربيعة، أسلمت يوم الفتح، وكانت من أعقل النساء، حازمة شاعرة ذات نفس وأنفة[13]، وأمه ميسون بنت بحدل الكلبية شاعرة من شاعرات العرب، وكانت امرأة لبيبة وأبوها من أشراف قبيلة كلب[14]. ثانياً : ولادته ونشأته : كانت ولادة يزيد بن معاوية في خلافة عثمان رضي الله عنه[15] في سنة ست وعشرين[16]، وقيل أن ولادته وولادة عبد الملك بن مروان في سنة واحدة سنة ست وعشرين من الهجرة[17]، نشأت والدته في البادية حيث أن والدته طلقها أبوه فعاش مع أمه وأخواله وهم زعماء قبيلة كلب، فأثرت في طباعه تلك النشأة فتراه يتميز بالفصاحة والخطابة والكرم، والشجاعة[18]، واستمر متعلقاً بالبادية، حتى أنها أثرت في لباسه وعدم التكلف في حياته، فقد تلقوه أهل الشام بعد موت أبيه عائداً من أخواله ليس له عمامة ولا سيف فقال الناس: هذا الأعرابي الذي ولي أمر هذه الأمة[19]، واهتم به والده وعين له مؤدباً ليعلمه وهو دغفل بن حنظلة السدوس الشيباني[20]، وجعل معاوية ابنه يحضر في مجالسه ويستفيد من سياسته وتدبيره للملك[21]، واستفاد يزيد من عبيد بن شرية الجهرمي الذي استقدمه معاوية من صنعاء اليمن، وكان عالماً بأيام العرب، وأحاديثها وله كتاب الأمثال، وكتاب الملوك وأخبار الماضين[22]، وقد تأثر يزيد من هذا الشيخ الحكيم الذي حنكته التجارب والسنون وقد توفي عبيد بن شرية سنة 70هـ[23]، وأصبح يزيد يتحدث عن الأنساب تحدث الخبير[24]، قال الذهبي في ترجمة عبد الصمد بن علي الهاشمي وكان في تعدُّد النسب نظير يزيد الخليفة[25]، وقد توفر ليزيد ما لم يتوفر لغيره إضافة إلى أن أباه هو أحد الصحابة الأجلاء رضي الله عنهم وكاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى عن أبيه أحاديث منها: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين[26]، وقد ذكره أبو زرعة الدمشقي في الطبقة التي تلي الصحابة وقال له أحاديث[27]، وقد كان معاوية رضي الله عنه يحاول دوماً أن يوجه يزيد نحو الاستفادة من مجالس الوفود التي تفد عليه، فقد ذكر ابن المبارك أن معاوية قال لبعض رجالات الوفود ما تعدون المروءة فيكم قالوا: العفاف في الدين، والإصلاح في المعيشة، فقال معاوية: أسمع يا يزيد[28]، فقد كان معاوية رضي الله عنه منذ أن استقر له الأمر في الشام شديد الاهتمام بتربية ولده، فأشركه منذ وقت مبكر في الصوائف وتحمل المسئوليات[29]، وكان معاوية دائم الاتصال بمؤدبي ولده، كي يتعرف على ما أحرزه ابنه من تقدم، كما كان يسأل ابنه عن أحواله مع المؤدبين، فتشير إحدى الروايات إلى أن معاوية سأله في أحد الأيام قائلاً: أيضربك معلمك يا يزيد قال: لا يا أمير المؤمنين قال: ولم؟ قال: لأنه استن بسنة أمير المؤمنين بالعدل[30]، وعلاوة على ذلك فإننا نجد روايات أخرى تشير إلى أن بعض المناظرات الثقافية كانت تقع بين معاوية وولده ، على الرغم من صغر سنه مما يدل على مدى إهتمام أبيه به، فيروي ابن ظفر الصِّقلّي: أن معاوية بن أبي سفيان قال لابنه يزيد، وقد أتت عليه سبع سنين: يا بني في أي سورة أنت؟ فقال: في السورة التي تلي يا أمير المؤمنين. فقال: يا بني إن هذه السورة تليها سورتان وهي بينهما، ففي أيهما أنت؟ قال: في السورة التي في أولها((والذين آمنوا وعلموا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم)) (محمد ، الآية : 2). فتمثل معاوية بقول حذافة بن غانم العدوي حيث يقول: ملوك وأبناء الملوك وسادة تفلّق عنهم بيضة الطائر الصّقر متى تلقَ منهم ناشئاً في شبابه تجده على أعراق والده يجري فهم يغفرون الذَّنب ينقم مثله وهم تركوا رأي السَّفاهة والهجر[31] وكان معاوية يوجه أبنه ويرشده وينصحه ويدله على الصواب فقد رأى ابنه يضرب غلاماً له، فقال له: سوأة لك، أتضرب من لا يستطيع أن يمتنع عليك؟ والله لقد منعتني القدرة من ذوى الإحن، وإنَّ أحقَّ من عفا لمن قدر[32]، وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا مسعود يضرب غلاماً له، فقال له: اعلم أبا مسعود للهُ أقدر عليك منك عليه[33]، وذات يوم غضب معاوية على ابنه يزيد فهجره، فقال له الأحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين، أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا ونحن لهم سماء ظليلة، وأرضى ذليلة إن غضبوا فأرضهم، وإن طلبوا فأعطهم ولا تكن عليهم ثقلاً فيملّوا حياتك ويتمنَّوا موتك، فقال معاوية: لله درُّك يا أبا بحر، يا غلام ائت يزيد فأَقْرِئه مني السلام، وقل له: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بمائه ألف. فقال يزيد: من عند أمير المؤمنين؟ فقال: الأحنف. فقال: لا جرم لأُقاسمنه فبعث إلى الأحنف بخمسين ألف وخمسين ثوباً[34] ، وكان يزيد حاضر البديهة، قال العتبي: وقدم زياد بأموال عظيمة، وبسفط مملوءة جواهر على معاوية، فسرُّ بذلك معاوية، فقام زياد فصعد المنبر، ثم افتخر بما يفعله بأرض العراق من تمهيد الممالك لمعاوية، فقام يزيد فقال: إن تفعل ذلك يا زياد فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى قريش، ومن القلم إلى المنابر، ومن زياد بن عُبيد إلى حرب بن أميه. فقال له معاوية أجلس فداك أبي وأمي وكان معاوية يربي يزيد على القيام بالواجبات الاجتماعية مع أعيان المجتمع، فعندما وفد عبد الله بن عباس إلى معاوية، أمر ابنه يزيد أن يأتيه فيعزيه في الحسن بن علي، فلمّا دخل على ابن عباس رحّب به وأكرمه وجلس بين يديه، فأراد ابن عباس أن يرفع مجلسه، فأبى وقال: إنما أجلس مجلس المُعزِّي لا المُهَنِّي، ثم ذكر الحسن فقال: رحم الله ابا محمد أوسع الرحمة وأفسحها، وأعظم الله أجرك وأحسن عزاءك، وعوّضك من مُصابك ما خير لك ثواباً وخيرٌ عقبى. فلمّا نهض يزيد من عنده قال ابنُ عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب حلماء الناس. ثم أنشد متمثلاً مَغَاضٍ عن العوراءِ لا ينطقونها وأهلُ وِراثات الحلوم الأوائل[35] وكان معاوية رضي الله عنه يختبر ابنه بين الفينة والأخرى فذات يوم سأله: كيف تُراك فاعلاً إن وُلّيت؟ قال: يُمتعُ الله بك. قال: لتُخبرني قال: كنت والله يا أبة عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب. فقال معاوية: سبحان الله، سبحان الله، والله يا بُنيَّ لقد جهدت على سيرة عثمان فما أطقتها[36]. [/align] |
[align=justify]ثالثاً : زوجاته وأولاده :
تزوج يزيد أم هاشم بنت أبي سفيان بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فأنجبت له: 1 ـ معاوية بن يزيد: ويكنى أبا عبد الرحمن كما يعرف باسم أبي ليلى وهو الذي يقول فيه الشاعر: إني أرى فِتنة قد حان أوَّلُها والملك بعد أبي ليلى لمن غلب[1] 2 ـ خالد بن يزيد: ويكنى أبا هاشم وقد انصرف إلى عمل الكيمياء. 3 ـ أبو سفيان بن يزيد: وبعد وفاة يزيد تزوج أم هاشم مروان بن الحكم[2]. وتزوج أيضاً يزيد أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر، فأنجبت له عبد الله بن يزيد ويعرف بلقب ((الأسوار))[3]. وكان من أرمى العرب وهو الذي يقول فيه الشاعر: زعم الناسُ أن خيرَ قريش كلِّهم حين يُذكرُ الأُسوار[4] وكان له عدد من الأولاد من أمهات أولاد كثيرة ومن أبنائه هؤلاء: عبد الله الأصغر، وأبو بكر، وعمر، وعتبة، وعبد الرحمن، وحرب، والربيع، ومحمد[5]، ويبدو أن لمحمد هذا الأخير عقب لا يزال موجوداً حتى الآن في شبه جزيرة العرب في المنطقة المعروفة باسم عسير، إذ فرّ أحد أحفاده إلى هذه البقعة عند قيام الدولة العباسية وملاحقة الأمويين، واستطاع بعد مدة من تأسيس إمارة بسطت نفوذها على المنطقة واستمرت في أمرها حتى العصر الحديث، وكان منها آل عائض بن مرعي الذين كان لهم حكم المنطقة قبل سيطرة عبد العزيز آل سعود على أكثر الجزيرة[6]. رابعاً : أهم أعمال يزيد في عهد والده غزو القسطنطينية: تكمن أهمية هذه الغزوة بذكرها في الحديث الشريف، وفضيلتها وفضيلة أهلها المجاهدين، فقد ثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء يدخل إلى أم حرام بنت ملحان فتطعمه ـ وكانت تحت عبادة بن الصامت ـ فدخل يوماً، فأطعمته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ يضحك، قالت: فقلت، ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: ناس من أمتي عُرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة، أو قال: مثل الملوك على الأسرة ـ قلت: ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك، فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال ناس من أمتي عُرضوا عليّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج البحر ملوكاً على الأسرة ـ أو مثل الملوك على الأسرة، فقلت ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنت من الأولين، فركبت البحر زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت[7]. وفي رواية: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم[8]. قال ابن كثير في تعليقه على هذا الحديث: وقد كان ذلك في سنة سبع وعشرين مع معاوية حين استأذن عثمان في غزو قبرص، فأذن له فركب المسلمون في المركب حين دخلها وفتحها قسراً، وتوفيت أم حرام في هذه الغزوة في البحر وكانت مع معاوية فاخته بنت قرظة وأما الثانية فكانت في سنة اثنين وخمسين في أيام ملك معاوية، بعث ابنه يزيد ومعه الجنود إلى غزو القسطنطينية ومعه في الجيش جماعة من سادات الصحابة منهم أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد رضي الله عنه، فمات هناك وأوصى إلى يزيد بن معاوية، وأمره أن يدفنه تحت سنابك الخيل، وأن يوغل إلى أقصى ما يمكن أن تنتهي به إلى نحو جهة العدو، ففعل ذلك[9]، وفضيلة غزو القسطنطينية ليزيد، جعلت الذهبي مع شدة حمله على يزيد يقول: يزيد بن معاوية أبو خالد الأموي له هنات حسنة، وهي غزو القسطنطينية، وكان أمير ذلك الجيش وفيهم مثل أبي أيوب الأنصاري[10]، وما أجمل قول ابن تيمية: ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم، ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم[11]، ويبدو أن يزيد قد قام ببعض الحملات حتى وصل إلى خليج القسطنطينية ومعه زوجته أم كلثوم[12]، ويبدو أن معرفة يزيد بحرب الروم، وإدراكه بخطرهم الداهم، وأخذه بنصيحة والده رضي الله عنه، فكان آخر ما أوصى به معاوية أن قال: شد خناق الروم[13]، كل هذه الأمور جعلته بعد أن تولى الخلافة يسير على خطته في جهاد الروم، ولم تمنعه أحداث ابن الزبير وشيعة العراق من قتالهم[14]، وقد كانت وفاة يزيد فيما بعد متنفساً للروم، ليس فقط في وقف الهجمات الحربية عليهم من قبل المسلمين، بل بلغت بهم الجرأة إلى الإكثار من الغارات على بلاد الشام ومنطقة الثغور[15]،ولما عاد يزيد من غزوة القسطنطينية في نفس السنة حج بالناس[16]، وهذه الأعمال التي قام بها يزيد في غاية الأهمية في ذلك العصر، فكان يزيد يقود جيشاً من أعظم الجيوش في عصره، ويضم نخبة من الصحابة وأكابرهم وساداتهم وأبناءهم ويتجه هذا الجيش بقيادة يزيد إلى أهم جبهة في الدولة الإسلامية، وغير هذه الاعتبارات تدل على أن يزيد الذي يبلغ من العمر حين قيادة هذا الجيش ما بين (21 ـ 23) يملك روحاً قيادية وكفاءة حربية[17]، ولم يعترض أحد من الصحابة أو غيرهم على قيادة يزيد في تلك المرحلة، كما أن هذا التصرف من معاوية رضي الله عنه في توليه يزيد هذا الجيش ـ والذي يضم أكابر الصحابة وأبنائهم وفقهائهم وسادات المسلمين فيه دلالة على أن معاوية رضي الله عنه، يرى في ولده يزيد ملامح النجابة والكفاءة التي تؤهله لقيادة هذا الجيش[18]. خامساً : أهم صفات يزيد بن معاوية: إن المصادر التاريخية والأدبية على حد سواء تزودنا بأخبار قليلة عن صفات يزيد المكتسبة والموروثة، إلا أنها تحدد لنا بعض الملامح من شخصية يزيد بن معاوية[19] فمنها: 1 ـ القوة والشجاعة: قال عنه الذهبي: كان قوياً شجاعاً، ذا رأي وحزم وفطنة وفصاحة[20]، وكان يتمنى أن يوليه أبوه في الغزو على الصائفة بالمسلمين. وكان يحرص على إقامة السباقات بين الخيل، ويجعل الجوائز، لرفع مستوى الفروسية عند المسلمين[21]، علاوة على تمكنه من قيادة الجيش الإسلامي الذي حاصر القسطنطينية وسيطرته على مجريات القتال[22]، وذكر صفوان بن عمرو أن المسلمين لما جاوزوا بالأسارى من الروم، ضرب أعناقهم يزيد بن معاوية والروم تنظر إليهم[23]، كما أن من حزمه ما حكاه العتبي بإسناد أن أبا أيوب الأنصاري مرض في غزوة القسطنطينية، فأتاه يزيد عائداً فقال: ما حاجتك يا ابا أيوب؟ قال: ادفني عند اسوار القسطنطينية... فلما مات أمر يزيد بتكفينه وحُمل على سريره، ثم أخرج الكتائب فجعل قيصر يرى سريراً والناس يقتتلون فأرسل إلى يزيد: من هذا الذي أرى؟ قال: صاحب نبينا وقد سألنا أن نقدمه في بلادك ونحن منفذون وصيته أو تلحق أرواحنا بالله. قال: العجب كيف من ينسب أبوك للدهاء ويرسلك فتأتي بصاحب نبيك، وتدفنه في بلادنا، فإن وليت أخرجناه إلى الكلاب، فقال يزيد: إني والله ما أردت إيداعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم، فإنك كافر بالذي أكرمت هذا له، لئن بلغني أنه نبش من قبره أو مثل به، لا تركت بأرض العرب نصرانياً إلا قتلته، ولا كنيسة إلا هدمتها فبعث إليه قيصر: أبوك أعلم بك، فوحق المسيح لأحفظنه بيدي[24]. 2 ـ الفصاحة والشعر: ذكر الذهبي بأنه صاحب فصاحة[25]. ولما تكلم الخطباء عند معاوية قال والله لأرمينهم بالخطيب الأشدق، قم يا يزيد تكلم[26]، وقد ذكر المدائني بإسناده أن رجلاً قال لسعيد بن المسيب: أخبرني عن خطباء قريش، قال: معاوية، وابنه يزيد، ومروان بن الحكم، وابنه عبد الملك، وسعيد بن العاص وابنه وما ابن الزبير بدونهم[27]، وأما شعره فقد كان شاعراً مجيداً[28]، جعل الناس يقولون بدء الشعر بملك، وختم بملك، إشارة إلى امرؤ القيس وإلى يزيد[29]، ومن شعره ما كان ينشده هارون الرشيد ليزيد بن معاوية: إنهـا بين عامر بـن لؤَيِّ حين تَنْمِي وبين عبـد مناف ولهـا في المُطَيَّبِين جـدودٌ ثم نـالت مكـارم الأخْلافِ بنتُ عمِّ النبي أكـرمُ مـن يمشي بنعل على التُّراب وحافي لن تراها على التَّبَذُّل والغلظة إلا كــدرة الأصــداف[30] 3 ـ الكرم: اشتهر عن يزيد الكرم فكان يجزل العطاء لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب[31]، وليس غريباً عنه وهو الذي يقول: حفظ النديم والجليس وإكرامهما من كرم الخليفة وقضاء حق النعمة[32]، ولقد حازت هذه الأعطيات على إعجاب عبد الله بن جعفر وقال له: فداك أبي وأمي فوالله ما قلتها لأحد قبلك[33]،وكان يقول: أتلوموني على حسن الرأي في يزيد[34]. ومن كرمه أيضاً: أن عبد الله بن حنظلة عندما قدم عليه من المدينة وبنيه أعطاه مائة ألف وأعطى كل واحد منهم شعرة آلاف سوى كسوتهم وحملانهم[35] وقصته مع الأحنف في مقاسمته الجائزة التي أمر بها معاوية قد مرت معنا. وأما صفاته الخَلْقية: فقد كان ضخم الجسم سمينا طويلاً غليظ الأصابع كثيف الشعر جعده أسمر البشرة في وجهه أثر الجدري أحور العينيين حسن اللحية خفيفها، وبالجملة كان جميلاً[36] [/align]. |
[align=justify]سادساً : بيعة يزيد:
كان يزيد غائباً حين حضر معاوية الموت، فلما حضر يزيد كان قد دفن، فقصد يزيد باب الصغير حيث دفن أبوه، وهناك صلى على أبيه ومن خلفه المسلمون، فكبر أربعاً[1]، ولما خرج من المقبرة أُتي بمراكب الخلافة فركب، ثم دخل البلد، وأمر فنودي في الناس إن الصلاة جامعة، ودخل الخضراء ـ وهو قصر بناه معاوية ـ فاغتسل ولبس ثياباً حسنة، ثم خرج فخطب الناس أول خطبة خطبها وهو أمير المؤمنين، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس، إن معاوية عبداً من عبيد الله، أنعم الله عليه، ثم قبضه إليه، وهو خير ممن بعده، ودون من قبله، ولا أزكيه على الله ـ عز وجل ـ فإنه أعلم به، إن عفا عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه، وقد وليت الأمر من بعده ولست آسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئاً كان وقال لهم في خطبته هذه: إن معاوية كان يغزيكم في البحر، وإني لست حاملاً أحداً من المسلمين في البحر، وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم، ولست مشتياً أحداً بأرض الروم، وإن معاويةكان يخرج لكم العطاء أثلاثاً، وأنا أجمعه لكم كله: فافترق الناس، وهم لا يفضلون عليه أحد[2]. وفي هذه الخطبة شرح يزيد سياسته في قيادة الأمة، ووضح خطته التي سيلتزمها أثناء خلافته، وهي سياسة استطاع أن يكسب بها قلوب أهل الشام. وقد أجمعت ـ غالبية ـ الأمة على بيعة يزيد أو بمعنى آخر جددت له البيعة بعد وفاة أبيه ولم يبايع إلا الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما[3]. وسيكون لكل منهما مع يزيد شأن ـ كما سنرى بإذن الله تعالى ـ أما بقية الصحابة فقد بايعوا يزيد جمعاً للكلمة وحفظاً لوحدة الأمة وخوف الفتنة، مثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن الحنفية[4]، أما أهل الشام والعراق وغيرها من الأقاليم فقد بايعوا وكانت المعارضة ليزيد في أهل الحجاز يتزعهما الحسين بن علي وابن الزبير، ومما قيل من الشعر في بيعة يزيد ما قاله عبد الله بن همَّام يعزِّيه في أبيه: أصبر يزيد أعظم فقد فارقت ذا مقة[5] واشكر حُباء الذي بالملك حاباكا لا رُزءَ أعظم فـي الأقـوام نعلمه كمـا رُزِئت ولا عُفبى كعُقباكا أصبحت راعى أهـل الدِّين كلهم فأنـت ترعـاهم والله يَرْعـاك وفـي معاوية الباقي لنـا خلـف إذا نعيـت و لا نسمع بمنعـاك يعني معاوية بن يزيد[6] تولى يزيد الأمر بعد أبيه في رجب سنة 60هـ ـ 680م فأقر عمال أبيه على ولاياتهم، فكان على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص، وأمير الكوفة النعمان بن بشير وأمير البصرة عبد الله بن زياد[7]، وركز يزيد في أخذ البيعة من النفر الذين لم يبايعوه في حياة أبيه وكان أهمهم عنده الحسين بن علي، فكتب إلى أميرها الوليد بن عتبة كتاباً يخبره فيه بوفاة معاوية فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة أما بعد، فإن معاوية كان عبداً من عباد الله، أكرمه الله واستخلفه، وخوّله ومكّن له، فعاش بقدر، ومات بأجل فرحمه الله، فقد عاش محموداً، ومات براً تقياً والسلام[8]. ونظراً لتساهل الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في أخذ البيعة من الحسين وابن الزبير لأنه كان رجلاً يحب العافية[9]، وأنه كان رجلاً رفيقاً سرياً كريماً[10]، كما أنه كان يخشى عذاب الله وعقابه، فقد امتنع عن سجن الحسين أو قتله وقال:... والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وإني قتلت حسيناً سبحان الله! اقتل حسيناً أن قال: لا أبايع؟ والله إني لا أظن أمراً يحاسب بدم الحسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة. فقال مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت[11]. كان إصرار يزيد على طلب البيعة من الحسين وابن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ هو الشرارة الأولى في الفتنة التي اندلعت بين المسلمين فقد شعر كل منهما بأنه مطلوب، وأنه إذا لم يبايع فسيكون ضحية طيش يزيد، وأن سيوف أعوان الخليفة الجديد أصبحت مسلولة عليهم، فعادا إلى البيت الحرام، ولجآ إلى مكة المكرمة يطلبان فيها الأمان، ويحتميان بحمى الله فيها، ولئن أصاب يزيد حين أبقى عمال أبيه على الولايات، ليضمن استقرار الأمور فيها، فقد خانته عبقريته في إصراره على طلب البيعة من الحسين وابن الزبير، حيث كان إصراره هذا موحياً بعدم تأمين الحياة لهما، وبأن بقاءهما في عهد يزيد محفوف بالمخاطر، وذلك أدى بهما إلى أن يبحثا عن الأمان، ولم يجداه إلا في تجييش أنصارهما، وحشدهم في مكان يصعب على يزيد وأعوانه أن يقتحموه وكان ذلك في مكة المكرمة، في جوار بيت الله الذي قال فيه: ((وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ً)) (آل عمران ، الآية : 97). ولم يكن لهذا التجمع وذلك الحشد نتيجة سوى المواجهة التي أودت بحياة الآلاف من المسلمين، وكان على رأس هؤلاء جميعاً الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ حيث قتل في كربلاء ـ شهيداً ـ على يد فئة ظالمة من جيوش يزيد[12]. لقد كانت غلطة من يزيد، بدأ بها حياته، وظلت تلاحقه حتى مماته، ولم يستطع التخلص منها، وبدأت سلسلة الأخطاء تتوالى في حياة الخليفة، وكلما أدلهمت الأمور من حوله، عظمت الأخطاء، وتضخمت المشكلات، وكلما أراد حل مشكلة، عرض لها بمشكلة أخطر منها وأفظع، فمن الإصرار على عدم البيعة إلى تكوين جبهة معارضة تستعد للقتال، ومنها إلى معركة كربلاء، ثم تتمخض هذه المعركة عن قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتؤدي إلى غضب المسلمين، وإعلان ابن الزبير الخروج على الخليفة، وتستمر العداوة والبغضاء حتى تكون وقعة الحرة، وتتشوه صورة الخليفة في أعين المسلمين ثم يتوفى بعد ذلك بقليل أين غاب حلم معاوية عن ولي عهده؟ أغلب الظن أن الذي ورط يزيد في هذه الأخطاء الشنيعة هو غياب المستشارين الحكماء عن مجلسه وحداثة سنه وقلة خبرته. كما أن يزيد كان يفقد حلم أبيه، وتنقصه قوة إرادته في الحلول السلمية، لقد كانت الكوارث الكبرى في عهد يزيد مقتل الحسين رضي الله عنه، ووقعة الحرّة بالمدينة وحصار مكة لابن الزبير، لقد وصم يزيد عهده بوصمة لن يمحوها ماء البحار، ولن تزيل مرارتها عذوبة الأنهار[13]. إن أهل السنة والجماعة يعتبرون بيعة يزيد صحيحة ولكنهم عابوا عليها أمرين: 1 ـ قالوا إن هذه بدعة جديدة وهي أنه جعل الخلافة في ولده فكأنها صارت وراثة بعد أن كانت شورى وتنصيص على غير القريب، فكيف قريب وابن مباشر، فمن هذا المنطق رُفض المبدأ بغض النظر عن الشخص فهم رفضوا مبدأ أن يكون الأمر وراثة. 2 ـ أنه كان هناك من هم أولى من يزيد بالخلافة كإبن عمر وابن الزبير والحسين وغيرهم هذا من وجهة نظر أهل السنة[14]. أما من وجهة نظر الشيعة فإنهم يرون الإمامة والخلافة في علي وأبنائه فقط، فهم لا يعيبون بيعة يزيد بذاتها وإنما يعيبون كل بيعة لا تكون لعليّ وأولاده، فهم يعيبون بيعة أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية كلها بغض النظر عن المبايع له، لأنهم يرون أنها نص لعليّ وأبنائه إلى أن تقوم الساعة[15]، وقد ناقشت معتقد الشيعة في الإمامة في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبينت بطلانه. [/align][align=justify][/align] |
[align=justify]
المبحث الثاني : خروج الحسين بن علي رضي الله عنه: أولاً : اسمه ونسبه وشيء من فضائله: هو أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته ومحبوبه، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاطمة رضي الله عنها، كان مولده سنة أربع للهجرة، ومات ورضي الله عنه قتيلاً شهيداً، في يوم عاشوراء من شهر المحرم سنة إحدى وستين هجرية بكربلاء من أرض العراق فرضي الله عنه وأرضاه[1]. وقد وردت في مناقبه وفضائله أحاديث كثيرة منها: 1 ـ ما رواه أحمد بإسناده إلى يعلي العامري رضي الله عنه أنه خرج مع رسول الله يعني إلى طعام دعوا له قال فاستمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام القوم، وحسين مع غلمان يلعب فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذه فطفق الصبي يفر هنا مرة وهاهنا مرة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضاحكه حتى أخذه قال: فوضع إحدى يديه تحت قفاه الأخرى تحت ذقنه ووضع فاه وقبله وقال: حسين مني وأنا من حسين اللهم أحب من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط[2]. 2 ـ ما رواه البخاري بإسناده إلى ابن عمر قد سأله رجل من العراق عن المحرم يقتل الذباب فقال رضي الله عنه: أهل العراق يسألون عن الذباب وقد قتلوا ابن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم: هما ريحانتاي من الدنيا[3]. 3 ـ وروى أحمد بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة[4] وغير ذلك من الأحاديث وفي النية أفراد كتاب مستقل عن أبي عبد الله الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما بإذن الله تعالى. ثانياً : الأسباب التي أدت إلى خروج الحسين والفتوى التي بنى عليها خروجه رضي الله عنه: كان موقف الحسين من بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارض وشاركه في المعارضة عبد الله بن الزبير والسبب في ذلك: حرصهما على مبدأ الشورى وأن يتولى الأمة أصلحها ـ وتلك الممانعة الشديدة من قبل الحسين وابن الزبير، قد عبرت عن نفسها بشكل عملي فيما بعد فالحسين رضي الله عنه كما مر معنا، كان معارضاً للصلح، والذي حمله على قبوله هو متابعة أخيه الحسن بن علي ثم أن الحسين بن علي استمر على صلاته بأهل الكوفة وقد كان يعدهم بالمعارضة ولكن بعد وفاة معاوية، والدليل على ذلك أنه بمجرد وفاة معاوية سارع زعماء الكوفة بالكتابة إلى الحسين، وطلبوا منه المسير إليهم على وجه السرعة[5] ومن الأسباب التي أدت إلى خروج الحسين رضي الله عنه: 1 ـ هو إرادة الله عز وجل وأن ما قدره سيكون وإن أجمع الناس كلهم على رده فسينفذه الله، لا راد لحكمه ولا لقضاءه سبحانه وتعالى[6]. 2 ـ قلب الحكم من الشورى إلى الملك الوراثي: ومن الأسباب: ما كان من عدم التزام معاوية بشروط الحسن في الصلح والتي من ضمنها ما ذكره ابن حجر الهيثمي:.. بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين[7]. ورأى الحسين في محاولة معاوية توريث الحكم من بعده لابنه يزيد مخالفة واضحة لمنهج الإسلام في الحكم، ومع ذلك فإنه لم يهتم بالخروج على معاوية، نظراً لمبايعته له بالخلافة، فظل على عهده والتزامه[8]. ولكن بعد وفاة معاوية تغير الموقف، فالحسين لم يعد في عنقه بيعة توجب عليه السمع والطاعة، ويدل على ذلك محاولة والي المدينة الوليد بن عتبة أخذ البيعة من الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وخروجهما بعد ذلك إلى مكة دون أن يأخذ بيعتهما[9]. إن موقف الحسين وفتواه ضد الحكم الأموي مرت بمرحلتين: الأولى: مرحلة عدم البيعة ليزيد، وذهابه إلى مكة، وهذه المرحلة أسس فيها الحسين موقفه السياسي من حكم يزيد، بناء على نظرته الشرعية لحكم بني أمية، فهو يرى عدم جواز البيعة ليزيد، وذلك لسببين، فعلى الصعيد الشخصي فإن يزيد لا يصلح خليفة للمسلمين نظراً لانعدام توفر شرط العدالة فيه[10]، كما أن الحسين أفضل وأحق منه بمنصب الخلافة، فهو أكثر منه علماً، وصلاحاً وكفاءة وأكثر قبولاً لدى الناس من يزيد، أما الصعيد السياسي فلانعدام شرط الشورى، والاستئثار بالسلطة للحكم الأموي، والذي يخالف المنهج الإسلامي في الحكم. ولم يغب عن الحسين رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية[11]، ولكن فهمه لهذاالحديث أنه في حق من كان صالحاً للخلافة وأهلاً لها وكان عن شورى المسلمين[12]. وعدم مبايعة الحسين ليزيد كانت تعني عدم إعطاء الشرعية للحكم الأموي وهو أمر كان الأمويين يحرصون عليه أشد الحرص وقد كتب يزيد إلى واليه في المدينة بأخذ البيعة من الحسين وابن عمر وابن الزبير، وأن يأخذهم بالشدة حتى يبايعوا[13]، وفي نفس الوقت فإن عدم البيعة يسهل له حرية العمل السياسي واتخاذ القرار الذي يراه مناسباً لمقاومة الحكم الأموي. المرحلة الثانية: وهي مرحلة العمل على مقاومة الحكم الأموي وطرح نفسه بديلاً للسلطة الأموية في دمشق، وهو ما يعبر عنها الفقهاء بالخروج على الإمام. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الحسين قد مكث في مكة بضعة أشهر قبل خروجه إلى العراق فقد قدم إلى مكة في الثالث من شعبان سنة 60هـ للهجرة، وخرج إلى العراق في الثامن من ذي الحجة من نفس السنة[14]. وفي هذه الفترة كان رضي الله عنه يراسل أهل العراق، وتقدم إليه الوفود، حتى رأى أنه لابد من مقاومة الظلم وإزالة المنكر وأن هذا أمر واجب عليه، وكانت شيعته بالعراق على اتصال به وتمت بينهم مراسلات[15]، وقد وصل الحسين بن علي إلى قناعة راسخة وبنى قراره السياسي على فتوى اقتنع بها في مقاومته للحكم الأموي، فهو يرى أن بني أمية لم يلتزموا حدود الله في الحكم، وخالفوا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وبنى الحسين رضي الله عنه فتواه بتسلسل منطقي شرعي، فاستبداد بني أمية، والشك في كفاءة وعدالة يزيد، توجب عدم البيعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على علماء الأمة، ومن أكبر المنكر حكم بني أمية واستبدادهم، وبما أن الحسين ليس في عنقه بيعة، وهو أحد علماء الأمة وسادتها، فهو أحق الناس بتغيير هذا المنكر، وعلى ذلك فليس موقفه خروجاً على الإمام، بل هو تغيير المنكر، ومقاومة للباطل، وإعادة الحكم إلى مساره الإسلامي الصحيح[16]، ومما يدل على حرص الحسين رضي الله عنه على أن تكون فتواه وتحركاته السياسية في مقاومته للحكم الأموي متماشية مع تعاليم الإسلام وقواعده، امتناعه عن البقاء في مكة عندما عزم على مقاومة يزيد حتى لا تستحل حرمتها وتكون مسرحاً للقتال وسفك الدماء، فيقول لابن عباس: لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن أقتل بمكة وتستحل بي[17]. ثالثاً: عزم الحسين على الخروج إلى الكوفة ونصائح الصحابة والتابعين ورأيهم في خروج الحسين إلى الكوفة: 1 ـ عزم الحسين على الخروج إلى الكوفة: بعد توافد الرسائل من زعماء الكوفة على الحسين رضي الله عنه والتي تطلب منه المسارعة في القدوم إليهم، ولما كان العدد مشجعاً أراد أن يطلع على حقيقة الأمر، فبعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليستجلي له حقيقة الخبر، ثم يكتب إليه بواقع الحال، فإن كان ما يقولون حقاً قدم عليهم[18]، خرج مسلم بن عقيل بصحبة عبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي، وقيس بن مسهر الصيداوي، وعمارة بن عبيد السلولي فلما وصل مسلم المدينة أخذ معه دليلين، وفي الطريق إلى الكوفة تاهوا في البرية ومات أحد الدليلين عطشاً، وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه، وذلك بسبب إحساسه النفسي لمدى الصعوبات التي تنتظره في الكوفة، ولكن الحسين رفض طلبه، وأمره بمواصلة المسير نحو الكوفة[19]، ولما وصل مسلم بن عقيل إلى الكوفة نزل عند المختار بن أبي عبيد[20] في أول قدومه فلما جاء ابن زياد وتولى إمارة الكوفة، وأخذ يشدد على الناس انتقل مسلم عند هانيء بن عروة وذلك خشية انكشاف أمره ثم لمكانة هانيء وأهميته كأحد أعيان الكوفة، ولما بدا الشك يساور ابن زياد من هانيء بن عروة خشي مسلم بن عقيل على نفسه، وانتقل أخيراً ولفترة قصيرة جداً عند مسلم بن عوسجة الأسدي أحد دعاة الشيعة[21]، ولما بلغ أهل الكوفة قدوم مسلم بن عقيل قدموا إليه فبايعه اثنا عشر ألف[22]، وتمت تلك المبايعة بصورة سرية مع تحرص شديد، ولما تأكد لمسلم بن عقيل رغبة أهل الكوفة في الحسين وقدومه إليهم كتب إلى الحسين أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله إن جميع أهل الكوفة معك فأقبل حين تنظر في كتابي[23]، وهنا تأكد للحسين صدق نوايا أهل الكوفة وأنه ليس عليهم إمام كما ذكروا من قبل[24]، فلا بد في هذه الحالة أن يفي لهم بما وعدهم به، حين كتب إلى أهل الكوفة: وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإذا كتب إلي أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأته في كتبكم، أقدم عليكم إن شاء الله[25]، فلما وصل إلى الحسن بن علي كتاب مسلم بن عقيل والذي طلب منه القدوم إلى الكوفة وأن الأمر مهيأ لقدومه تجهز الحسين بن علي وعزم على المضي إلى الكوفى بأهله وخاصته[26]. [/align] |
2[align=justify]
ـ مواقف الصحابة والتابعين من خروج الحسين: أ ـ محمد بن الحنفية: لما بلغ محمد بن الحنفية عزم أخيه الحسين على الخروج إلى الكوفة قدم عليه وقال: يا أخي أنت أحب الناس إلي، وأعزهم علي، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك، تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم أبعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن بايعوا لك حمدن الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ويذهب به مروءتك ولا فضلك أني أخاف أن تدخل مصراً من هذه الأمصار وتأتي جماعة من الناس فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك فيقتلون فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هذه الأمة كلها نفساً، وأباً، وأماً، أضيعها دماً، وأذلها أهلاً فقال الحسين: فإني ذاهب يا أخي، قال: فانزل مكة فإذا أطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنتظر إلى ما يصير أمر الناس وتعرف عند ذلك الرأي فإنك أصوب ما تكون رأياً وأحزمه عملاً حين تستقبل الأمور استقبالاً، ولا تكون الأمور عليك أبداً أشكل منها حين تستدبرها استدباراً قال: يا أخي قد نصحت فأشفقت وأرجوا أن يكون رأيك سديداً[1] وجاء في رواية:.. فإن الحسين حين عزم على الخروج بعث إلى بني عبد المطلب في المدينة يدعوهم للخروج معه، فقدم عليه من خف منهم، وتبعهم محمد بن الحنفية فأدرك الحسين بمكة فأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومه هذا، فأبى الحسين أن يقبل في نفسه على أخيه محمد وقال: ترغب بولدك عن موضع أصاب فيه؟ فقال محمد وما حاجتي أن تصاب ويصابون معك، وإن كانت مصيبتك أعظم عندنا منهم[2]. ب ـ عبد الله بن عباس رضي الله عنه: ولما بلغ خبر عزمه على الخروج إلى ابن عمه عبد الله بن عباس أتاه وقال: يا ابن عم أنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟ قال: قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى، فقال له ابن عباس: أخبرني إن كان عدوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوهم وضبطوا بلادهم فسر إليهم، وإن كان أميرهم حي وهو مقيم عليهم، قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الذي دعوك أشد الناس عليك. فقال الحسين إني استخير الله وأنظر ما يكون. ولكن ابن عباس أدرك من كلام الحسين واستعداده أنه عازم على الخروج ولكنه يحاول إخفاء الأمر عنه لعلمه بعدم رضاه عن ذلك، لذا جاء ابن عباس إلى الحسين من الغد فقال: يا ابن عم إني أتصبر ولا اصبر، وإني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، أن أهل العراق قوم غدر فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصوناً وشعاباً، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس بمعزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب. فقال الحسين: يا ابن عم! والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير. فقال له: فإن كنت ولا بد سائراً فلا تسر بأولادك ونسائك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه، إلى أن قال: فوالله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني واقمت لفعلت ذلك[3]. وهكذا نجد أن محاولات ابن عباس لم تجد في إقناع الحسين على الرغم من أنه أظهر له ـ لما علم تصميمه على عدم رضاه بيزيد وضرورة العمل على تغييره ـ أنه لا يقف عند فكرة الحسين تماماً، ولكنه يوضح له عوامل فشل ما هو سائر لتحقيقه، ويطرح له البدائل التي ربما تكون أقرب لتحقيق ما يصبو إليه، وذلك بالانتظار حتى يقوم أهل العراق بالسيطرة التامة على إقليمهم ويحرروه من سلطان بني أمية وهو يدرك أنهم عاجزون عن ذلك فبالتالي هم عاجزون عن حماية الحسين أو أن يذهب إلى اليمن ويعمل بما أرشده إليه فإن عوامل النجاح فيه أكثر وعوامل الفشل فيه أقل من رحيله إلى العراق ولعل ابن عباس قد لا يريد للحسين لا هذا ولا ذاك ولكن أراد تأخير الحسين عن اتخاذ تلك الخطوة السريعة بخروجه إلى العراق والتي لا ينفع معها تدارك الأمر، أما لو اقتنع برأي ابن عباس من الانتظار حتى يتهيأ له الأمر في العراق، أو يعدل عنه إلى اليمن وهذا سيأخذ وقتلاً طويلاً لترتيب الأمور هناك، وبهذا أو ذاك فإنه يمكن أن يكون لعامل الوقت أثر في حل الوضع وإطفاء الفتنة[4] . ويفهم من كلام ابن عباس بأنه لا يخالف الحسين في خروجه على يزيد من الناحية الشرعية، ولكن كان يخالفه من الناحية الاستراتيجية فكان يرى ألا يخرج الحسين للعراق حتى يتأكد من قوة شيعته وأنصاره هناك، وأن الأمويين لم يعد لهم نفوذ، وإلا فإن اليمن بعيدة عن النفوذ الأموي وله فيها أنصار، وبها أماكن كثيرة للتخفي، حتى يتمكن من جمع القوى الكافية لمقاومة الأمويين[5]. ت ـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: فقد نصح الحسين رضي الله عنه في أكثر من موقف، فحين بلغه خروج ابن الزبير والحسين إلى مكة رافضين بيعة يزيد لقيهما وقال: أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس وتنظران، فإن اجتمع عليه الناس لم تشذا، وإن افترق عليه كان الذي تريدان[6]، ولما قدم المدينة وبلغه خروج الحسين لأهل الكوفة لحقه ابن عمر على مسيرة ليلتين فقال: أين تريد؟ قال: العراق، ومعه طوامير وكتب، فقال: لا تأتهم قال: هذه كتبهم وبيعتهم. فقال: إن الله خير نبيه بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنكم بضعة منه، لا يليها أحد منكم أبداً، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فارجعوا فأبى، فاعتنقه ابن عمر، وقال: استودعك الله من قتيل[7]. وكان ابن عمر يقول بعد ذلك: غلبنا الحسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له ألا يتحرك ما عاش وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير[8]. ج ـ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: اتهمته بعض الروايات الضعيفة أنه أحد المتسببين في إقناع الحسين بالخروج إلى الكوفة هو نفسه ثبت عنه بأنه قد أسدى النصائح للحسين، وحذره من مغبة مغادرة مكة والذهاب إلى الكوفة وقد نصح الحسين قائلاً: أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك، فقال له الحسين لإن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن تستحل بي ـ يعني مكة[9]... وقد نظر بعض الصحابة إلى العمل الذي سيقدم عليه الحسين بأنه في حقيقته خروج على الإمام صاحب البيعة، كما نظروا إلى خروج الحسين وما يحمله خروجه على أنه نذر شر وبلاء على الأمة مهما كانت النتائج لأي من الطرفين[10] منهم: ح ـ أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : حيث قال: غلبني الحسين على الخروح وقد قلت له: اتق الله في نفسك والزم بيتك، ولا تخرج على إمامك[11]. خ ـ وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: كلمت حسيناً فقلت له اتق الله ولا تضرب الناس بعضهم ببعض فوالله ما حمدتم ما صنعتم فعصاني[12] ولم تتوقف المحاولات الهادفة بين الحسين وبين خروجه إلى الكوفة فكتب إليه ابن جعفر: ر ـ عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: كتب إلى الحسين وأرسل كتابه مع ابنيه محمد وعون: أما بعد، فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإني مشفق عليك من الوجه التي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك[13]، ولكن الحسين رفض الرجوع وهنا ظن عبد الله بن جعفر أن سبب خروج الحسين هو خوفه من الوالي عمرو بن سعيد بن العاص، فذهب إلى عمرو بن سعيد بن العاص وطلب منه أن يكتب كتاباً إلى الحسين يؤمنه فيه ويعده بالخير، وكان رد عمرو بن سعيد أن قال لعبد الله بن جعفر: اكتب ما شئت وائت به أختمه[14]. فكتب ابن جعفر" بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي، أما بعد، فإني أسأل الله أن يصرفك عما يبوقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنك قد توجهت إلى العراق، وإني أعيذك بالله من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر، ويحي بن سعيد، فأقبل إليّ معهما، فإن لك عندي الأمان والبر والصلة وحسن الجوار لك، والله بذلك شهيد وكفيل، ومراع ووكيل، والسلام عليك[15]، ولكن الحسين رضي الله عنه رفض هذا الرجاء أيضاً وواصل مسيره. ز ـ أبو واقد الليثي رضي الله عنه: فقد روي عنه أنّه قال: بلغني خروج الحسين، فأدركته بملل، فناشدته الله ألا يخرج، فإنّه يخرج في غير وجه خروج، إنما يقتل نفسه، فقال: لا أرجع[16]. د ـ عمرة بنت عبد الرحمن: فقد كتبت إليه تعظّم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنّه إنّما يساق إلى مصرعه[17]. ذ ـ أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث: يا ابن عَمِّ إن الرحم تظأرُني[18] عليك وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك؟ قال: يا أبا بكر ما أنت ممن يُستغشُّ ولا يُتَّهمُ، فقل. قال: قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم وهم عبيد الدنيا، فيُقاتلك من قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره فأُذكِّرك الله في نفسك. فقال: جزاك الله يا ابن عمِّ خيراً، ومهما يقضي الله من أمر يكن. فقال أبو بكر: إنا لله عند الله نحتسب أبا عبد الله[19]. س ـ عبد الله بن مطيع فقد قال: إني فداك أبي وأمي! متعنا بنفسك، ولا تسر إلى العراق، فوالله لئن قتلك هؤلاء القوم ليتخذنا خولا وعبيداً[20]. ش ـ سعيد بن المسيب: فقد نقل عنه الذهبي أنه قال: لو أن الحسين لم يخرج لكان خيراً له[21]. ك ـ عمرو بن سعيد بن العاص: فقد كتب إليه يقول: إني أسأل الله أن يلهمك رشدك وأن يصرفك كمّا يرديك، بلغني أنك قد اعتزمت على لشخوص إلى العراق، فإني أعيذك بالله من الشّقاق[22]. و ـ الفرزدق: فقد لقيه بالصّفاح[23]، فسأله الحسين عمّا وراءه فقال: أنت أحب النّاس إلى النّاس، والقضاء في السماء، والسيوف مع بني أمية[24]. وفي خبر آخر قال أنّه قال: قلت له: يخذلونك، لا تذهب إليهم فلم يطعني[25]. هذه أقوال الصّحابة والتّابعين في موقفهم من خروج الحسين، وهذه فلسفتهم في هذه القضية، الهامّة، فهم لم يبايعوا يزيد لأنّهم يرونه أفضل من غيره من الصّحابة والتّابعين، ولكنهم فعلوا ذلك درءاً لمفسدة التّفرق والاختلاف بين المسلمين، ودليل ذلك ما رواه خليفة بن خياط وابن سعد، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن قال: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم، حين استخلف يزيد بن معاوية، فقال: أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد، لا أفقه منها فقهاً، ولا أعظمها فيها شرفاً؟ قلنا. نعم. قال: وأنا أقول ذلك، ولكن ـ والله ـ لأن تجتمع أمة محمد أحب إليَّ من أن تفترق أرأيتم باباً لو دخل فيه أمة محمد وسعهم، أكان يعجز عن رجل واحد لو دخل فيه؟ قلنا: لا. قال: أرأيتم لو أن أمّة محمد قال كل رجل منهم: لا أهريق دم أخي، ولا آخذ ماله، أكان هذا يسعهم؟ قلنا: نعم. قال: فذلك ما أقول لكم[26]، ومن الملاحظ إجماع كل من نصح الحسين ـ حتى من لم ير بأساً برفضه البيعة ـ على أن لا يخرج للعراق ولا يثق في أهل الكوفة، فقد كتب إليه المسور بن مخرمة رضي الله عنه بأن لا يغتر بكتب أهل العراق، ونصحه بأن لا يبرح الحرم فإن كانت لهم حاجة فسيضربون إليه آباط الإبل حتى يوافوه فيخرج في قوة وعدة[27]. ومما يلفت الانتباه ـ زيادة على إجماع الناصحين للحسين على خيانة أهل الكوفة ووجوب عدم الثقة بوعودهم ـ كذلك يلفت الانتباه إجماعهم في توقعهم لمقتل الحسين كما يبدو ذلك من أسفهم عليه وكلمات التوديع له. وما ذلك إلا دليل على معرفة أولئك الناصحين من العلماء بالأوضاع، ووعيهم لما سبق من أحداث جرت إبان الفتنة بين علي ومعاوية عرفوا من خلالها الدوافع والأهواء التي تدفع ببعض الأقوام للاستفادة من إثارة الإحن ودوام الفتن[28]. [/align] |
الساعة الآن 11:58 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |