![]() |
حيلـة القاضـي
كان جمال الدين بن العديم، قاضي حلب، عاقلاً عادلاً خبيراً بالأحكام. حدث أن ادّعى عنده مدّع على آخر بمبلغ. فلما أنكر المدّعى عليه، أخرج المدّعي وثيقة فيها إقرار "منصور بن أبي جرادة بتسلم المبلغ". فأنكر المدعى عليه أن الاسم المذكور في الوثيقة (أبا جرادة) اسم أبيه. قال له القاضي ابن العديم: فما اسمك أنت؟ قال: منصور. قال: واسم أبيك؟ قال: هبة الله. فسكت عنه القاضي، وتشاغل بالحديث مع من كان عنده حتى طال ذلك، وكان جليسه يقرأ عليه في صحيح البخاري. ثم إذا بالقاضي يصيح فجأة: يا بن أبي جرادة! فأجابه المدّعى عليه مبادراً: مولاي! فقال له: ادفع لغريمك حقَّه. " من كتاب الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" لابن حجر العسقلاني. |
حيّـات الوزيـر
كان جعفر بن الفضل بن الفرات الوزير بمصر والمعروف بابن حنزابة، يهوى النظر إلي الأفاعي والحيّات والعقارب وما يجري مجراها من الحشرات. وكان في داره قاعة لطيفة فيها سلل الحيّات، ولها قَيِّم فرّاس هو حاوٍ من الحواة ومعه مستخدمون. وكان كل حاوٍ في مصر وأعمالها يصيد له منها ما يقدر عليه، والوزير يثيبهم ويبذل لهم الجزيل حتى يجتهدوا في تحصيلها. وكان له وقت يجلس فيه على دكّة مرتفعة، ويدخل المستخدمون والحواة، فيخرجون ما في السلل ويطرحونه على الرخام، وهو يتفرج ويتعجب ويستحسن. وفي أحد الأيام بعث ابن حنزابة إلى ابن المدّبر الكاتب ـ وكان يسكن إلى جوار دار الوزير ـ رقعة يقول له فيها: "نُعلم الشيخ الجليل ـ أدام الله سلامته ـ أنه لما كان البارحة عرض علينا الحواة الأفاعي والحشرات. فانساب منها وتسلل إلى داركم الحيّة البتراء وذات القرنين والعقربان الكبير وأبو صوفة. ونحن نأمر الشيخ ـ وفقه الله ـ أن يطلب من حاشيته وصبيته بصون ما يجدونه منها إلى أن تأتي الحواة لأخذها وردّها إلى سللها". فلما قرأ ابن المدبر الرقعة كتب إلى الوزير: "أتاني أمر سيدنا الوزير ـ خلّد الله نعمته ـ بما أشار إليه في أمر الحيات والحشرات. والطلاق يلزمني ثلاثًا إن بتُّ أنا أو بات أحد من أهلي في دار تجاور داركم. والسلام". من كتاب "الخطط المقريزية". |
خبرُ الحجّام مع الحجّاج
احتجم الحجـّاج ذات يوم، فلما ركـّب المحاجم على رقبته قال له: أُحبّ أيها الأمير أن تخبرني بخبرك مع ابن الأشعث وكيف عصا عليك فقال له: لهذا الحديث وقت آخر، وإذا فرغتَ من شأنك حدَّثتك. فأعاد الحجـّام مسألته وكرّرها، والحجـّاج يدفعه ويعده ويحلف له على الوفاء له. فلما فرغ ونزع المحاجم عنه وغسل الدم، أحضر الحجـّام وقال له. إنـّا وعدناك بأن نحدّثك حديث ابن الأشعث معنا، وحلفنا لك، ونحن محدِّثوك. ثم نادى: يا غلام، السِّياط! فأُتي بها. فأمر الحجاج بالحجام فجـُرِّد، وعـَلـَتـْه السياط، وأقبل الحجاج يقصّ عليه قصة ابن الأشعث بأطول حديث. فلما فرغ استوفى الحجامُ خمسمائة سوط، فكاد يتلف. ثم رفع الضرب وقال له: قد وفـَّينا لك بالوعد، وأيّ وقت أحببت أن تسأل خبرنا مع غير ابن الأشعث على هذا الشرط أجبناك! من كتاب "الوزراء" للهلال بن المحسن الصابئ. |
خبـز القاضـي
قال ابن الزراد: كان عندنا بقرطبة قاض يعرف بمسرور، وكان من الزهاد، استأذن من حضره من الخصوم يوماً في أن يقوم لحاجة فأذنوا له، فقام عنهم نحو منزله، ولم يلبث أن خرج وفي يده خبزة نية، فتوجه بها إلى الفرن لتخبز له. فقال له بعض من رآه: أنا أكفيك أيها القاضي. فقال له: فإذا أنا عزلت عن القضاء، أتراني أجدك كل يوم تكفيني حملها؟ لا أظنك ستفعل ذلك، بل الذي حملها قبل القضاء يحملها بعد القضاء. من كتاب "المقتبس من أنباء أهل الأندلس" لابن حيان القرطبي. |
خروج نظام الملك للحج
حكى عبد الله السّاوَجِيّ: استأذن الوزير نظامُ الملك السلطانَ ملكشاه في الحج، فأذن له. فعبر دِجلة وعبر خدمه بالآلات والأقمشة، وضربت الخيام على شط دجلة. فأردتُ يوماً أن أدخل عليه، فرأيت بباب الخيمة فقيراً يلوح عليه سيما المتصوفة. فقال لي: يا شيخ، أمانة توصلها إلى الوزير. قلت: نعم. فأعطاني رقعة مطوية، فدخلت بها، ولم أنظر فيها حفظاً للأمانة، ووضعتها بين يدي الوزير. فلما نظر فيها بكى حتى ندمتُ وقلت في نفسي: ليتني نظرت فيها، فإن كان ما فيها يسوءه لم أدفعها إليه. ثم قال لي: يا شيخ، أدخل عليّ صاحب هذه الرُّقعة. فخرجتُ فلم أجده، وطلبتُه فلم أظفر به. فأخبرت الوزير بذلك، فدفع إليّ الرُّقعة فإذا فيها: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وقال لي: اذهب إلى الوزير وقل له: لِمَ تذهب إلى مكة؟ حجُّك هاهنا. حجُّك في إعانة أصحاب الحوائج". وعاد نظام الملك إلى بلاده ولم يحج. ثم رأيت الفقير بعد ذلك على شط دجلة وهو يغسل خُرَيْقات له. فقلت: إن الوزير يطلبك. فقال: مالي وللوزير؟ إنما كانت عندي أمانة فأديتُها. من كتاب "طبقات الشافعية الكبرى" لتاج الدين السبكي. |
خصلتـان
قيل لأشعب: لو أنّك حفِظتَ الحديث حِفْظكَ هذه النوادر، لكان أولَى بك. قال: قد فعلتُ. قالوا له: فما حفظتَ من الحديث؟ قال: "حدّثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "من كان فيه خصلتان كُتب عند اللّه خالصاً مُخلصاً" قالوا: هذا حديث حسن فما هاتان الخصلتان؟ قال: نسي نافع واحدة، ونسيت أنا الأخرى! من كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه. |
خليفـة وخليفــة
روى أبو سفيان الثوري قال: لما حج المهدي، أبى إلا أن يطلبني، فوضعوا لي الرصد حول البيت، وأخذوني بالليل، فلما مثلت بين يديه، أدناني ثم قال: لأي شيء لا تأتينا فنستشيرك في أمرنا، فما أمرتنا بشيء صرنا إليه، وما نهيتنا عن شيء انتهينا عنه، فقلت له: كم أنفقت في سفرك هذا؟ قال: لا أدري، إن لي أمناء ووكلاء، قلت فما عذرك غداً إذا وقفت بين يدي الله وسألك عن ذلك، لكن عمر بن الخطاب لما حج، قال لغلامه: كم أنفقت في سفرنا هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، ثمانية عشر ديناراً، قال: ويحك، أجحفنا ببيت مال المسلمين. وأنـَّى لنا بعمر بن الخطاب؟ وكيف تصح المقارنة؟ وكيف تكون الموازنة بين خليفتين، عاشر أولهما النبي، واقتدى به، وتأسـَّى بفعاله، وبعـُد العهد بثانيهما فانحرف عن الجادة، بما استـُحدث من الإسراف والتبذير. أسمعت أن من الخلفاء الراشدين، من كان يعطي شاعراً أو مادحاً؟ لم يرو لنا التاريخ شيئاً من ذلك، ولكن التاريخ مليء بأخبار من أتوا بعدهم، من الأمويين والعباسيين، في الإسراف في العطاء، والتبذير في الأموال، لا في أموالهم ولكن في أموال المسلمين، وكل مجزيٌّ بعمله. |
خمـس خصــال
قال سيدنا علي: أيها الناس، احفظوا عني خمساً، فلو شددتم إليها المطايا حتى تقضوها، لم تظفروا بمثلها: ألا لا يرجوَنَّ أحدكم إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه، ولا يستحي أحدكم إذا لم يعلم، أن يتعلم، وإذا سئل عما لا يعلم، قال لا أعلم. ألا وإن الخامسة الصبر، فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ومن لا صبر له، لا إيمان له، ومن لا رأس له، لا جسد له، ولا خير في قراءة إلا بتدبر، ولا في عبادة إلا بتفكر، ولا في حلم إلا بعلم، والعالـِم من لم يـُزين لعباد الله، معاصي الله، ولم يؤمنهم مكره، ولم يؤيسهم من رَوْحه. |
دُعــاء
توجـّه السلطان ملكشاه السلجوقي لحرب أخيه تكش، فاجتاز بمشهد علي بن موسى الرضا رضي الله عنهما بطوس. ودخل مع وزيره نظام الملك وصليا فيه وأطالا الدعاء، ثم التفت السلطانُ إلى وزيره، وقال: بأي شيء دعوتَ؟ قال: دعوتُ اللّه تَعالى أن ينصرَك ويظفرك بأخيك. قال السلطان: أما أنا فلم أدع بهذا، بل قلت: اللهم انصرْ أصلَحنا للمسلمين وأنفعـَنا للرعّية. من كتاب "تكملة تاريخ الطبري" لابن عبد الملك الهمذاني. |
دعـوات أربــع
كان رجل شريب، جمع قوماً من ندمائه، ودفع إلى غلامه أربعة دراهم، وأمره أن يشتري شيئاً من الفواكه للمجلس، فمر الغلام بباب مجلس منصور بن عمار، وهو يسأل لفقير شيئاً ويقول: من دفع أربعة دراهم، دعوت له أربع دعوات، فدفع إليه الغلام الدراهم، فقال منصور: ما الذي تريد أن أدعو لك؟ فقال: لي سيد أريد أن أتخلص منه، فدعا منصور، وقال: الأخرى، فقال الغلام: أن يخلف الله عليَّ دراهمي، فدعا ثم قال: الأخرى، قال الغلام: أن يتوب الله على سيدي. فدعا ثم قال: الأخرى، فقال: أن يغفر الله لي ولسيدي ولك وللقوم، فدعا منصور، فرجع الغلام فقال له سيده: لـِمَ أبطأت؟ فقص عليه القصة، قال: وبم دعا، فقال: سألت لنفسي العتق. فقال له: اذهب فأنت حر، قال: وما الثاني، قال: أن يخلف الله عليَّ الدراهم، قال: لك أربعة آلاف درهم، قال: وما الثالث، قال: أن يتوب الله عليك، قال: تبت إلى الله، قال: وما الرابع، قال: أن يغفر الله لي ولك وللقوم، قال: هذا الواحد ليس إليَّ، فلما بات تلك الليلة رأى في المنام كأن قائلاً يقول له: أنت فعلت ما كان إليك، أفترى أني لا أفعل ما إليّ، قد غفرت لك وللغلام ولمنصور بن عمار وللقوم الحاضرين أجمعين. |
دواء الاستسقــاء
أصيب رجل بداء الاستسقاء وأيـَس أهله من حياته. فحـُمل إلى بغداد وشاوروا الأطباء فيه فوصفوا له أدوية كان قد تناولها بالبصرة ولم تنفع، فقال أهله: لا حيلة لنا في بـُرْئه. فلما سمع العليل قولهم قال: دعوني الآن أتزوّد من الدنيا وآكل ما أشتهي. فقالوا: كـُلْ ما تريد. فكان يجلس بباب الدار، فمهما اجتاز به اشتراه وأكله. فمرّ به رجل يبيع جراداً مطبوخـاً، فاشترى منه عشرة أرطال فأكلها بأسرها، فانحلّ طبعه فقام في ثلاثة أيام أكثر من ثلاثمائة مجلس وكاد يتلف. ثم انقطع القيام وقد زال كل ما كان في جوفه، واسترد قوته فبرأ وخرج يتصرف في حوائجه. فرآه بعض الأطباء فعجب من أمره وسأله عن الخبر فعرّفه. فقال الطبيب: ليس من شأن الجراد أن يفعل هذا الفعل. ولا بد أن يكون في الجراد الذي فعل ذلك خاصية. فأحب أن تدلني على صاحب هذا الجراد الذي باعه لك. فما زالوا في طلبه حتى اجتاز بالدار فرآه الطبيب. فقال له: ممن اشتريت هذا الجراد؟ قال: ما اشتريته. أنا أصيده وأجمع منه شيئـاً كثيراً وأطبخه وأبيعه. قال: فمن أين تصطاده؟ فذكر له مكانـاً على فراسخ يسيرة من بغداد. فقال له الطبيب: أعطيك ديناراً وتجيء معي إلى الموضع الذي اصطدت منه الجراد. قال: نعم. فخرجا، وعاد الطبيب من الغد ومعه من الجراد شيء ومعه حشيشة. فقالوا له: ما هذا؟ قال: صادفتُ الجراد الذي يصيده هذا الرجل يرعى في صحراء جميع نباتها حشيشة يقال لها مازريون، وهي من الأدوية التي توصف لداء الاستسقاء، فإذا أُعطى العليل منها وزن درهم أسهله إسهالاً عظيمـاً لا يـُؤمن أن ينضبط، والعلاج بها خطر، ولذلك ما يكاد يصفها الأطباء. فلما وقع الجراد على هذه الحشيشة ونضجت في معدته ثم طـُبخ الجراد ضعف تأثيرها فاعتدلت بمقدار ما أبرأتْ هذا الرجل. من كتاب "الفرج بعد الشـدة" للتنوخـي |
ذكـاء أبـي العـلاء
كان أبو العلاء المعرّي في غاية الذكاء المفرط. ويذكرون عنه أنه مرّ في بعض أسفاره بمكان، فطأطأ رأسه. فلما سـُئل عن ذلك قال: أما هنا شجرة؟ قالوا: لا. ونظروا، فإذا أصل شجرة هناك في الموضع الذي طأطأ رأسه فيه، وقد قـُطعت. وكان قد اجتاز بها قديمـًا مرّة، فأمره من كان معه بطأطأة رأسه لما جازوا تحتها، فلما مرّ بها المرّة الثانية طأطأ رأسه خوفـًا من أن يصيبه شيء منها. وكان يومـًا عند الخليفة ببغداد، وكان الخليفة يكره المتنبي ويضع منه، وأبو العلاء يحب المتنبي ويرفع من قدره ويمدحه. فجرى ذكر المتنبي في ذلك المجلس، فذمـّه الخليفة. فقال أبو العلاء: لو لم يكن للمتنبي إلا قصيدته التي أوّلها: لك يا منازل في القلوب منازلُ.... لكفاه ذلك. فغضب الخليفة، وقال لمن في المجلس: أتدرون ما أراد هذا الكلب من ذكره لهذه القصيدة؟ أراد قول المتنبي فيها: وإذا أتتـكَ مـذمـّتي من ناقصٍ فهي الشـهادة لـي بأنـّي كاملُ وإلاّ فالمتنبي له قصائد أحسن من هذه، وإنما أراد هذا. ثم قال: أخرجوا عني هذا الكلب! من كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير. |
ذكـاء طبيـب
كان الحكيم الأجلّ رشيد الدين أبو حليقة أوحد زمانه في صناعة الطب، وقد خدم الملك الكامل ثم ولده الملك الصالح أيوب، ثم ولده الملك المعظم تورانشاه. ومن نوادره أنه جاءت إليه امرأة من الريف، ومعها ولدها، وهو شاب قد غلب عليه النحول والمرض. فشكت إليه حال ولدها، وأنها قد أعيت فيه من المداواة، وهو لا يزداد إلا سقاماً ونحولاً. فنظر رشيد الدين إليه، واستقرأ حاله، وجسّ نبضه. فبينما هو يجس نبضه قال لغلامه، (وكان الوقت بارداً): ادخل ناولني الفرجية حتى أجعلها عليّ. فتغير نبض الشاب عند قوله تغيراً كثيراً، وتغيرّ لونه. فحدس رشيد الدين أن يكون عاشقاً. ثم جسّ نبضه بعد ذلك فوجده قد سكن. وعندما خرج الغلام إليه وقال له: هذه الفرجية، جسّ نبضه فوجده قد تغير. فقال لوالدته: إن ابنك هذا عاشق، والتي يهواها اسمها فرجية. فقالت: إي والله يا مولاي! هو يحب واحدة اسمها فرجية. وتعجبت من قوله لها غاية التعجب، ومن اطلاعه على اسم المرأة من غير معرفة متقدمة له لذلك. من كتاب "طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة. |
ذكـاء وفطنــة
رُوِيَ أن المنصور كان جالساً يوماً في أحد قباب المدينة، فرأى رجلاً ملهوفاً يجول في الطرقات، فأرسل إليه من أتاه به، فسأله عن حاله، فأخبره أنه خرج في تجارة، فأفاد منها مالاً كثيراً، وأنه رجع إلى زوجته، ودفع إليها المال، فذكرت المرأة أن المال سرق من المنزل، ولم ير نقباً ولا مـَسلقاً، فقال له المنصور: منذ كم تزوجتها؟ قال: منذ سنة. قال تزوجتها بكراً أم ثيباً؟ قال: ثيباً. شابة أم مسنة؟ قال: شابة. فدعا المنصور بقارورة طيب وقال: تطيب بهذا فإنه يـُذهب همك، فأخذها وانقلب إلى أهله، فقال المنصور لجماعة من نقبائه، اقعدوا على أبواب المدينة، فمن مرّ بكم وشممتم فيه رائحة الطيب، فأتوني به. ومضى الرجل بالطيب إلى بيته، فدفعه إلى المرأة وقال: هذا من طيب أمير المؤمنين، فلما شممته أعجبها للغاية، فبعثت به إلى رجل كانت تحبه، وهو الذي دفعت المال إليه، وقالت له: تطيـَّب بهذا الطيب، فتطيب به، ومر يجتاز ببعض الأبواب، ففاحت منه روائح الطيب، فأخذوا به، وأتى إلى المنصور، فقال له: من أين استفدت هذا الطيب، فتلجلج في كلامه، فسلمه إلى صاحب شرطته وقال له: إن أحضر كذا وكذا من الدنانير، فخذ منه، وإلا فاضربه ألف سوط، فما هو إلا أن جـُرّد وهـُدد، حتى أذعن برد الدنانير، وأحضرها كهيئتها، ثم علم المنصور بذلك، فدعا صاحب الدنانير، وقال له: أرأيتك إن رددت إليك الدنانير، أتحكمني في امرأتك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ها هي دنانيرك، وقد طلقت امرأتك، وقص عليه الخبر. |
رأس الديــك
قال دِعـْبل: كنا عند سهل بن هارون في زيارة وهو معروف بالبخل، فلم نبرح حتى كاد يموت من الجوع فقال: يا غلام آتنا غداءنا، فأتى بقصعة فيها ديك مطبوخ وتحته ثريد قليل، فتأمل الديك فرآه بغير رأس، فقال لغلامه: وأين الرأس؟ فقال: رميته، فقال: والله إني لأكره من أن يـُرمى برجله فكيف من يـَرمي برأسه ويحك، أما علمت أن الرأس رئيس الأعضاء، ومنه يصيح الديك، ولولا صوته ما أريد، وفيه عـُرْفـُه الذي يـُتـَبرك به، وعينه التي يـُضرب بها المثل في الصفاء، فيقال شراب كعين الديك، ولم نر عظما أهشَّ تحت الأسنان من عظم رأسه. وهبك ظننت أني لا آكله، أما قلت عنده من يأكله؟ انظر في أي مكان رميته فأئتني به، فقال الغلام: لا أعرف أين رميته، فقال: ولكني أعرف أين رميته، قد رميته في بطنك، الله حسبك. |
رجاحـة عقــل
حـُكي أن أم جعفر، عاتبت الرشيد يوماً، على تقريظه للمأمون دون ولدها الأمين، فدعا خادماً وقال له: وجـِّه إلى الأمين والمأمون من يقول لكل منهما على الخلوة، ما تفعل بي، إذا أفضت الخلافة إليك؟ فأما الأمين فقال: أقطـِعـُك وأعطيك، وأما المأمون فقال: تسألني عما أفعل بك يوم يموت أمير المؤمنين؟ وخليفة رب العالمين!! إني أرجو أن نكون جميعاً فداء له، فقال الرشيد لأم جعفر، كيف ترين؟ فسكتت عن الجواب. |
رحمـة الله
حدّث ابن عمران قال: جاء الفرزدق فتذاكرنا رحمة الله تعالى وسعتها، فكان الفرزدق أوثقنا بالله. فقال له رجل: ألك هذا الرجاء وهذا المذهب وأنت تفعل ما تفعل؟! فقال: أتروني لو أذنبتُ إلى والديّ، أكان يقذفان بي في تَنُّور، وتطيب أنفسهما بذلك؟ قلنا: لا، بل كانا يرحمانك. فقال: أنا والله برحمة الله أوثق منّي برحمتهما. من كتاب "سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون" لابن نباتة. |
رغيـف بألف دينـار
في أيام المستنصر الفاطمي، وقع بمصر الغلاء الذي فَحُش أمرُه، وشنع ذكره. وكان أمده سبع سنين، وسببه ضعف السلطنة، واختلال أحوال المملكة، واستيلاء الأمراء على الدولة، واتصال الفتن بين العربان، وقصور النيل.. وقد استولى الجوع لعدم القوت حتى بيع الإردب من القمح بثمانين دينارًا، وأُكِلت الكلاب والقطط، فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير. وتزايدت الحال حتى أكل الناسُ بعضهم بعضًا. وكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها ومعهم حبال فيها كلاليب، فإذا مرَّ بهم أحد ألقوها عليه، ونشلوه في أسرع وقت، وشرّحوا لحمه وأكلوه. وجاء الوزير يومًا إلى الخليفة على بغلته، فأكلتها العامة، فشنق طائفة منهم، فاجتمع عليهم الناس فأكلوهم. ومن غريب ما وقع أن امرأة من أرباب البيوتات أخذت عِقدًا لها قيمته ألف دينار، وعرضته على جماعة في أن يعطوها به دقيقًا. وكان يُعتَذَرإليها إلى أن رحمها بعض الناس، وباعها به كيس دقيق. فلما أخذته أعطت بعضه لمن يحمله ويحميه من النهّابة في الطريق. فلما وصلت إلى باب زويلة، تسلّمته من الحُماة له ومشت قليلاً. فتكاثر الناس عليها وانتهبوه نهبًا. فأخذت هي أيضًا مع الناس من الدقيق ملء يديها، لم ينُبها غيره. ثم عجنته وشوته، فلما صار قرصة أخذتها معها، وتوصَّلت إلى أحد أبواب القصر، ووقفت على مكان مرتفع، ورفعت القرصة على يديها بحيث يراها الناس، ونادت بأعلى صوتها: يا أهل القاهرة! ادعوا لمولانا المستنصر الذي أسعد اللّهُ الناسَ بأيامه حتى تقوّمت عليّ هذه القرصة بألف دينار! من كتاب"إغاثة الأمـّة بكشف الغُمـَّـة" للمقريزي. |
رفـق عمـر بأهلـه
كان أعرابي يعاتب زوجته، فعلا صوتـُها صوته، فساءه ذلك منها، وأنكره عليها، ثم قال: والله لأشكونك إلى أمير المؤمنين، وما إن كان ببابه ينتظر خروجه، حتى سمع امرأته، تستطيل عليه وتقول: اتق الله يا عمر فيما ولاك، وهو ساكت لا يقول، فقال الرجل في نفسه وهو يهم بالانصراف: إذا كان هذا حال أمير المؤمنين، فكيف حالي؟ وفيما هو كذلك، خرج عمر، ولما رآه قال له: ما حاجتك يا أخا العرب؟ فقال الأعرابي: قد وقعت على حاجتي، فأقسم عليه عمر، إلا أن يقول، فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين، جئت إليك أشكو خـُلق زوجتي، واستطالتها عليّ، فرأيت عندك ما زهـَّدني، إذ كان ما عندك أكثر مما عندي، فهممت بالرجوع، وأنا أقول: إذا كان هذا حال أمير المؤمنين مع زوجته، فكيف حالي؟ فتبسم عمر وقال: يا أخا الإسلام، إني أحتملها لحقوق لها عليّ، إنها طباخة لطعامي، خبازة لخبزي، مرضعة لأولادي، غاسلة لثيابي، وبقدر صبري عليها، يكون ثوابي. |
رُقـْيـَة بـُديــح
دخل عبد الله بن جعفر على الخليفة عبد الملك بن مروان وهو يتأوّه، فقال: ما علـّتك يا أمير المؤمنين؟ قال: هاج بي عـِرق النـَّسا في ليلتي هذه فبلغ مني. فقال له ابن جعفر: إن لي مولًى يُدعى بـُديح، كانت أمّه بربرية، وكانت تَرقـِي من هذه العـِلـَّة، وقد أخذ ذلك منها. قال: فادْعُ به. فلما مضى الرسول، سـُقط في يـَدَي ابن جعفر، وقال في نفسه: كـِذْبة قبيحة عند خليفة! فما كان بأسرعَ من أن طلع بـُديح. فقال له عبد الملك: كيف رُقيتك من عـِرق النسا؟ قال: أرقـَى الخلقِ يا أمير المؤمنين! فسـُرِّيَ عن ابن جعفر لأن بُديحـاً كان صاحب فكاهة يُعرف بها. وجعل بـُديح يتفـُل على ركبة عبد الملك ويُهـَمْهـِم، ثم قال: قم يا أمير المؤمنين، جعلني الله فـِداك. فقام عبد الملك لا يجدُ وجعـاً. فقال: الله أكبر! وجدتُ والله خـَفـّا! يا غلام، ادعُ فلانة الجارية حتى تكتب الرُّقية، فإنـّا لا نأمن هيجتها بالليل فلا نـَذْعـَر بُدَيحـاً. فلما جاءت الجارية، قال بديح: يا أمير المؤمنين، امرأتي طالق إن كَتـَبـْتها حتى تُعـَجـِّل صِلـَتي. فأمر له بأربعة آلاف درهم. فلما صار المال بين يديه قال: امرأتي طالق إن كَتـَبْتـُها أو يصير المال إلى منزلي. فأمر به فحـُمل إلى منزله. ثم شرعت الجارية تكتب "بسم الله الرحمن الرحيم". فقال بـُديح: ليس فيها باسم الله الرحمن الرحيم! قال عبد الملك: كيف تكون ويلـَك رُقيةٌ ليس فيها باسم الله الرحمن الرحيم؟! قال بديح: هو ذاك. امرأتي طالق إن كنتُ قد قرأت على رِجلك إلا بيت نصيب: ألا إن ليلى العامرية أصبحت على النَّأْي منِّي ذَنْبَ غَيْرِي تنقِمُ! قال عبد الملك: ويلك، ما تقول؟ قال: هو ذاك! فطفق عبد الملك ضاحكـاً يفحص برِجـْلـَيـْه. من كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني |
زَقْفَيـْلَم
كان لدى أبي عَلْقَمَة النَّحْوِيّ غلام يخدُمه. فأراد أبو علقمة الدخول في بعض حوائجه، فقال له: يا غلام، أصَقَعَتِ العَتَارِيف؟ فقال له الغلام: زَقْفَيْلم. قال أبو علقمة: وما زقفيلم؟ قال له: وما معنى صقعت العتاريف؟ قال: قلت لك أصاحت الديوك؟ قال: وأنا قلت لك لم يصح منها شيء! من كتاب "معجم الأدباء" لياقوت. |
زهــد وإيثــار(1)
روي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه صرَّ أربعمائة دينار وقال للغلام: "اذهب بها إلى أبي عـُبـَيدة بن الجراح، ثم تربـَّص عنده في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع". فذهب بها الغلام إليه، وقال له: يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "اجعل هذه في بعض حوائجك" فقال له: "وصله الله ورحمه". ثم دعا بجارية وقال لها: "اذهبي بهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه السبعة إلى فلان، حتى أنفذها". فرجع الغلام إلى عمر وأخبره، فوجده قد أعد مثلها إلى معاذ بن جبل، وقال له: انطلق بها إلى معاذ بن جبل وانظر ما يكون من أمره. فذهب إليه وقال له كما قال لأبي عبيدة بن الجراح، ففعل معاذ مثل ما فعل أبو عبيدة، فرجع الغلام وأخبر عمر فقال "إنهم إخوة بعضهم من بعض" رضي الله عنهم أجمعين. |
زهـد وإيثــار (2)
بينما كان أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، ماراً بسوق البصرة، وكان معه غلامه (قنبر)، فوقف أمام غلام يبيع أثواباً. فقال: يا غلام، عندك ثوبان بخمسة دراهم؟ فقال: نعم، فأعطى غلامه ثوباً بثلاثة دراهم، وأخذ لنفسه الثوب ذي الدرهمين. فقال له الغلام: خذ هذا أنت، فإنك تعلو المنبر وتخطب الناس. فقال له أمير المؤمنين: وأنت شاب، ولك بشرة الشباب، وأنا أستحي من ربي، أن أتفضل عليك، فإني سمعت رسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، يقول: "ألبسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تأكلون". |
سـاحرُ النيـل
كان أبو جعفر النحاس، النحويّ المصريّ، من أهل العلم بالفقه والقرآن، رحل إلى العراق، وسمع من الزَّجَّاج، وأخذ عنه النحوَ وأكثر. وله مصنّفات في القرآن، منها كتاب الإعراب، وكتاب المعاني، وهما كتابان جليلان أغنيا عما صُنِّف قبلهما في معناهما، وكتاب تفسير أبيات كتاب سيبويه، ولم يُسبَق إلى مثله، وكل من جاء من بعده استمدَّ منه. جلس يومًا على دَرَج المقياس بمصر على شاطئ النيل وهو في مَدِّه وزيادته، ومعه كتاب العَروض، هو يقطّع منه بحرًا. فسمعه بعض العوام، فقال: هذا يسحر النيل حتى لا يزيد، فتغلو الأسعار! ثم دَفَع النحاسَ برجله، فذهب في المدّ، فلم يُوقَفْ له على خبر. من كتاب "إنباه الرواة على أنباه النّحاة" للقفطي. |
سـارقو البطيـخ
حكى ابن حمدون النديم أن الخليفة المعتضد العباسي كان قد شرط علينا أنّا إذا رأينا منه شيئـًا ننكره نقول له، وإن اطـّلعنا على عيب واجهناه به. فقلت له يومًا: يا مولانا، في قلبي شيء أردت سؤالك عنه منذ سنين. قال: ولم أخّرته إلى اليوم؟ قلت: لاستصغاري قدري ولهيبة الخلافة. قال: قل ولا تخف. قال: اجتاز مولانا ببلاد فارس، فتعرّض الغلمانُ للبطيخ الذي كان في تلك الأرض، فأمرتَ بضربهم وحبسهم، وكان ذلك كافيًا. ثم أمرتَ بصلبهم، وكان ذنبهم لا يجوز عليه الصَّلب. فقال: أَوَتحسب أن المصلَّبين كانوا أولئك الغلمان؟ وبأي وجه كنت ألقى اللّه تعالى يوم القيامة لو صلبتهم لأجل البطيخ؟ وإنما أمَرَت بإخراج قوم من قطّاع الطريق كان وجب عليهم القتل، وأمرتُ أن يُلْبَسوا أقبية الغلمان وملابسهم إقامة للهيبة في قلوب العسكر، ليقولوا: إذا صلَب أخصّ غلمانه على غَصْب البطيخ، فكيف يكون على غيره؟ وكنت قد أمرت بتلثيمهم ليستتر أمرهم على الناس. من كتاب "فوات الوفيات" لابن شاكر الكتبي. |
سـعر الزَّيـت
حدّث أبو عبد الله بن أبي عوف التاجر، قال: ضاق صدري في وقت من الأوقات ضيقًا شديدًا لا أعرف سببه، فتقدّمتُ إلى من حمل لي طعامًا كثيرًا وفاكهة وعدة من جواريّ إلى بستان لي على نهر عيسى، وأمرت غلماني وأصحابي أن لا يجيئني أحد منهم بخبر يشغل قلبي ولو ذهب مالي كله، ولا يكاتبني. وعملت على أن أقيم في البستان بقية أسبوعي أتفرّج مع أولئك الجواري. لما قربت من البستان، استقبلني ساعٍ معه رسائل. فقلت له: من أين وردت؟ فقال: من الرقـّة. أردت أن أقف على كتبه وأخبار الرقة وأسعارها. فقلت: أنت قريب من بستان لي، فتعال معي حتى تستريح الليلة في البستان، وأغيّر حالك، وأطعمك، وتدخل بغداد غدًا. فقال: نعم. ومشى معي راجعًا حتى دخلنا البستان، فأمرتُ من فيه أن يُدخله حمّامًا، ويغيّر ثيابه ببعض ثياب غلماني ويطعمه. فابتدأوا معه في ذلك. وتقدَّمتُ إلى غلام لي فسرق كتبه، وجاءني بها ففتحتها، وقرأت جميع ما فيها، وعرفت من أسرار التجار الذين يعاملونني شيئًا كثيرًا، وتفرّجت بذلك. ووجدت جميع الكتب تنصح التجار بأن يتمسّكوا بما في أيديهم من الزيت، ولا يبيعوا منه شيئًا، فإنه قد غلا عندهم وعَزّ. فأنفَذْت إلى وكلائي في الحال فاستدعيتهم، وقلت لهم: خذوا من فلان الصيرفي وفلان الصيرفيّ كل ما عندهم من الدنانير والدراهم الساعة، ولا ينقضي اليوم إلا وتبتاعون كل ما تقدرون عليه من الزيت، واكتبوا إليّ عند انقضاء النهار بالصورة. فمضوا. فلما كان العشاء جاءني خبرهم بأنهم قد ابتاعوا زيتًا بثلاثة آلاف دينار. فكتبت إليهم بقبض ألوف دنانير أُخر، وبشراء كل ما يقدرون عليه من الزيت. وأصبحنا، فدفعت إلى الساعي ثلاثة دنانير، وقلت له: إن أقمتَ عندي دفعت إليك ثلاثة دنانير أخرى. فقال: أَفعل. وجاءتني رقعة أصحابي بأنهم ابتاعوا زيتًا بأربعة آلاف دينار، وأن سعره قد غلا لطلبهم إياه. فكتبت بأن يبتاعوا كل ما يقدرون عليه وإن كان السعر قد زاد. وشاغلتُ الرسول اليوم الثالث، ودفعتُ إليه في اليومين ستة دنانير، وأقام ثلاثة أيام، وابتاع أصحابي بثلاثة آلاف دينار أخرى. وجاءوني عشيّا فقالوا: كان ما ابتعناه اليوم زائدًا على ما قبله في السـِّعر، في كل عشرة نصف درهم، ولم يبق في السوق شيء يفكـِّر فيه. فصرفت الرسول. وأقمت في بستاني أيامًا، ثم عدت إلى داري، وقد قرأ التجار الكتب، وعرفوا خبر الزيت بالرقة، فجاءوني يهرعون ويبذلون في الزيت زيادة اثنين في العشرة، فلم أبع، فبذلوا زيادة ثلاثة في العشرة، فلم أبع. ومضى على ذلك نحو من شهر، فجاءوني يطلبون زيادة خمسة وستة، فلم أفعل. فجاءوا بعد أيام يعرضون شراء الزيت بعشرين ألف دينار، فبعته. ونظرت، فلم يكن لضيق صدري وانفرادي في البستان ذلك اليوم سبب إلا ما أحبّه الله تعالى، أن يوصل إليّ ربح عشرة آلاف دينار! من كتاب "نشوار المحاضرة" للتنوخي. |
سياسـة وكياســة
بلغ بعض الملوك سياسة ملك آخر. فكتب إليه: قد بلغتَ من حسن السياسة مبلغاً لم يبلغه ملك في زمانك، فأفدني الذي بلغت به ذلك. فكتب إليه: لم أهزل في أمر ولا نهي، ولا وعد ولا وعيد، واستكفيت أهل الكفاية. وأَثـْبتُ على الغـَناء لا على الهوى. وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت، ووُدَّا لم يشبه كذب، وعممت القوت، ومنعت الفضول. |
شجاعـة ودهــاء
كان لعبد الله بن الزبير أرض قريبة من أرض لمعاوية، فيها عبيد له من الزنوج يعمرونها، فدخلوا في أرض عبد الله، فكتب إلى معاوية: أما بعد، فإنه يا معاوية، إن لم تمنع عبيدك من الدخول في أرضي، وإلا كان لي ولك شأن. فلما وقف معاوية على الكتاب، دفعه إلى ابنه يزيد، فلما قرأه، قال له: ما ترى؟ قال: أرى أن تـُنفذ إليه جيشاً أوله عنده وآخره عندك يأتونك برأسه، فقال: يا بني، عندي خير من ذلك، عليّ بدواة وقرطاس، وكتب: وقفت على كتابك يا ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساءني والله ما ساءك، والدنيا هينة عندي في جنب رضاك، وقد كتبت على نفسي رقماً بالأرض والعبيد، وأشهدت عليّ فيه، ولتُضف الأرض إلى أرضك، والعبيد إلى عبيدك والسلام. فلما وقف عبد الله على كتاب معاوية، كتب إليه: وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، فلا عدم الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل والسلام. فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله، رماه إلى ابنه يزيد، فلما قرأه اصفر وجهه، فقال له معاوية: يا بني. إذا رُميت بهذا الداء، فداوه بهذا الدواء. |
شربة ماء
طلب هارون الرشيد ماء، فلما أراد شربه قال له ابن السماك: مهلاً يا أمير المؤمنين! بقرابتك من رسول اللّه، لو مُنِعتَ هذه الشَّرْبة، بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف مُلْكي. قال: اشرب. فلما شرب قال: أسألك بقرابتك من رسول اللّه، لو مُنعتَ خروجها من بدنك بماذا كنت تشتريها؟ قال الرشيد: بجميع مُلكي. قال له ابن السماك: إن مُلْكًا لا يساوي شربة ماء وخروج بولة لجَديرٌ أن لا يُنافَسَ فيه! من كتاب "الكامل في التاريخ" لابن الأثير |
شَـرْطُ نظـْمِ الشِّـعر
استأذن أبو نواس خلفًا الأحمر في نظم الشعر، فقال له: لا آذن لك في عمل الشعر إلا أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة. فغاب عنه مدة وحضر إليه، فقال له: قد حفظتُها. فقال له خلف الأحمر: أَنشِدْها. فأنشده أكثرها في عدة أيام. ثم سأله أن يأذن له في نظم الشعر، فقال له: لا آذن لك إلا أن تنسى هذه الألف أرجوزة كأنك لم تحفظها. فقال له: هذا أمرٌ يصعب عليَّ، فإني قد أتقنت حفظها. فقال له: لا آذن لك إلا أن تنساها. فذهب أبو نواس إلى بعض الأديرة، وخلا بنفسه، وأقام مدّة حتى نسيها. ثم حضر فقال: قد نسيتها حتى كأن لم أكن حفظتها قط. فقال له خلف: الآن انظم الشِّعر! من كتاب "أخبار أبي نواس" لابن منظور. |
شكايـة صريحــة
قدم أمير المؤمنين المنصور مكة حاجاً، فكان يخرج للطواف ليلاً، وبينما هو يطوف إذ سمع رجلاً يقول، اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع، فاستدعاه المنصور وسأله: ما هذا الذي تقوله؟ لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني، فأجابه الرجل: إنما عنيتك بقولي، وقصدتك لا سواك، قال المنصور: وكيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء في يدي، والحـُلو والحامض في قبضتي، قال الرجل: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم، فأغفلت أمورهم، واهتممت بجمع أموالهم، وجعلت بينك وبينهم حجاباً، واتخذت لك أعواناً ووزراء ظلمة آثمين، إن نسيت لم يذكروك، وإن ذكرت لم يعينوك، وقويتهم على ظلم رعيتك، وابتزاز أموالهم، فلما رأتك حاشيتك هذه قد استخلصت أفرادها لنفسك، وآثرتهم على أمتك، قالوا هذا خان الله، فلماذا لا نخونه؟ فأتمروا على ألا يصل إليك شيء من أخبار الناس، إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمراً إلا أقصوه، حتى امتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً، وأنت تنظر ولا تنكر، وترى ولا تغير، فماذا تقول إذا انتزع الملك الحق المبين الدنيا من يدك، ودعاك إلى الحساب؟ هل يغني عنك عنده شيء مما كنت فيه؟ فبكى المنصور حتى نـَحـِب، ثم زهد وتنسك، واستبدل بحاشيته الأئمة الأعلام المرشدين، فصلحت بهم الرعية واستقامت أمورهم. |
شهادة ابن أبي ذئب
عاقب والي المدينة أحد القرشيين وحبسه حبسًا ضيقًا. فكتب بعض أقرباء القرشيّ إلى الخليفة أبي جعفر المنصور فشكى إليه وأخبره فأرسل أبو جعفر المنصور رسولا إلى المدينة وقال له: اذهب فاختر قومًا من العلماء، فأَدْخلهم على القرشيّ في محبسه حتى يروا حاله وتكتبوا إليّ بها. فاختار الرسول مالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وابن أبي سبرة، وغيرهم من العلماء وأدخلهم عليه في حبسه وقال لهم: اكتبوا بما ترون إلى أمير المؤمنين. وكان والي المدينة قد بلغه الخبر، فحلّ عن القرشيّ وثاقه وألبسه ثيابا وكنس المحبس الذي كان فيه ورشّه ثم أدخل العلماء عليه. فأخذ العلماء يكتبون: يشهد فلان و فلان … فقال ابن أبي ذئب: لا تكتبوا شهادتي. أنا أكتب شهادتي بيدي. إذا فرغتم فارموا إليّ بالقرطاس فكتبوا: رأينا محبسًا لينًا وهيأة حسنة … وما يشبه هذا الكلام. ثم دفعوا القرطاس إلى ابن أبي ذئب، فكتب: رأيتُ محبسًا ضيقًا وأمرًا شديدًا … وجعل يذكر شدّة الحبس. وبُعِث بالكتاب إلى أبي جعفر. ثم قدم أبو جعفر حاجّاً فمرّ بالمدينة، فدعاهم ودعا الوالي. فجعل ابن أبي ذئب يذكر شدة حبس القرشي، وجعل الخليفة ينظر إلى الوالي غضبان وقد تغير لونه، ثم سأل الخليفة ابن أبي ذئب: فما تقول في الوالي؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ولي علينا ففعل بنا وفعل … وجعل يذكر شدة الوالي وما يلقون منه. فامتلأ الوالي غيظًا وقال لأبي جعفر: يا أمير المؤمنين، سله عن رأيه فيك! فقال أبو جعفر لابن أبي ذئب: فإني أسألك عن نفسي. قال ابن أبي ذئب: لا تسألني! فقال: أنشدك بالله، كيف تراني؟ قال: لا أعلمك إلا ظالمًا جائرًا! فقام إليه أبو جعفر وفي يده عمود، وجمع له بعض الحاضرين إليه ثوبه مخافة أن يصيبه من دم ابن أبي ذئب. وجعل الخليفة يردّد قوله: أتقول هذا لخليفة الله في أرضه؟! وابن أبي ذئب يقول: نشدتني بالله! إنك نشدتني بالله! فما ناله أبو جعفر بسوء. من كتاب "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي. |
شهـادة الحمـير
كان بمكة رجل يجمع بين الرجال والنساء، ويحمل لهم الشراب. فشُكِيَ إلى عامل مكة، فنفاه إلى عرفات، فبنى بها منزلاً، وأرسل إلى إخوانه فقال: ما يمنعكم أن تعاودوا ما كنتم فيه؟ قالوا: وأين بك وأنت في عرفات؟ فقال: حمار بدرهم، وقد صِرتم على الأمن والنـُّزهة. ففعلوا، فكانوا يركبون إليه حتى فسدت أحداث مكة. فعادوا بشكايته إلى والي مكة، فأُرسل إليه وأُتيَ به. فقال الرجل: يكذبون عليّ، أصلح اللّه الأمير. فقالوا: دليلنا على ما نقول أن تأمر بحمير مكة فتُجمع وتُرسَل بها أمناءُ إلى عرفات، ثم يرسلونها، فإن لم تقصد لمنزله من بين المنازل كعادتها إذا ركبها السفهاء فنحن غير مبطلين. فقال الوالي: إن في هذا لدليلاً وشاهدًا عدلاً. فأمر بحمير من حمير الكِراء فجُمعت ثم أُرسلت، فصارت إلى منزله كما هي من غير دليل. فأعلمه بذلك أمناؤه، فقال: ما بعد هذا شيء. جـَرِّدوه! فلما نظر الرجل إلى السـّياط قال: لا بدّ أصلحك اللّه من ضربي؟ قال: نعم. قال: واللّه ما في ذلك شيء هو أشدّ عليَّ من أن يشمت بنا أهلُ العراق ويضحكوا منا ويقولوا: أهل مكة يجيزون شهادة الحمير! فضحك الوالي وخلّى سبيله. من كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه. |
شيرلـوك هولمـز العـرب
نظر إياس بن معاوية، قاضي البصرة، يومـًا إلى رجل لم يره قط، فقال: هذا غريبٌ، من بلدة واسط، معلـّم كتـّاب، هرب له غلام. فلما وجدوا الأمر كذلك، سئل عن ذلك، فقال: رأيتُه يمشي ويلتفت في الأماكن والطرق، فعلمتُ أنه غريب. ورأيت على ثوبه حـُمرة تراب واسط، فعلمت من أهلها. ورأيته يمرّ بالصبيان فيسلـّم عليهم ولا يسلـّم على الرجال، فعلمت أنه معلم. ورأيته إذا مرّ بذي هيئة لم يلتفت إليه، وإذا مرّ بأسود ذي أسـْمال تأمـّله، فعلمت أنه يطلب عبدًا هاربـًا. من كتاب "شرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون" لابن نباتة. |
صبـر وحكمــة
حكى اليافعي عن أبي الحسن السراج قال: خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام فبينما أنا أطوف، وإذا بامرأة قد أضاء حسن وجهها، فقلت: والله ما رأيت كاليوم قط نضارة وحسناً مثل هذه المرأة، وما ذلك، إلا لقلة الهم والحزن، فسمعت ذلك القول مني. فقالت: كيف قلت هذا يا رجل؟ والله إني لوثيقة بالأحزان، مكلومة الفؤاد بالهموم والأشجان، فقلت لها: وكيف ذلك؟ قالت: ذبح زوجي شاة ضحـَّى بها، ولي ولدان صغيران يلعبان وعلى ثديي طفل يرضع، فقمت لأصنع طعاماً فقال ابني الكبير لأخيه الصغير: ألا أريك كيف صنع أبي بالشاة؟ قال: بلى، فأضجعه وذبحه وخرج هارباً نحو الجبل، فأكله الذئب، فانطلق أبوه في طلبه فأدركه العطش فمات، فوضعت الطفل وخرجت إلى الباب أنظر ما فعل أبوه، فدب الطفل إلى البرمة وهي على النار، فألقى يده فيها، وصبها على نفسه وهي تغلي، فانتثر لحمه على عظمه، فبلغ ذلك ابنة لي كانت عند زوجها. فرمت بنفسها على الأرض فوافقت أجلها. فأفردني الدهر من بينهم. فقلت لها: فكيف صبرك على هذه المصائب؟ فقالت: ما من أحد ميـّز الصبر والجزع إلا وجد بينهما منهاجاً متفاوتاً، فأما الصبر بحسن العلانية، فمحمود العاقبة. وأما الجزع فصاحبه غير مـُعوَّض. فقلت لها: لقد صبرت فأجملت ونعم عقبى الصابرين. |
صدقـت الرؤيــا
حكى أبو محمد الصالحي قال: كنا حول سرير المعتضد بالله، ذات يوم نصف النهار، فقام بعد أن أكل، فانتبه منزعجاً وقال: يا غلمان، فأسرعنا الجواب، فقال: ويلكم!! أعينوني والحقوا بالشط، فأول ملاح ترونه منحدراً في سفينة فارغة، فأتوني به، ووكلوا بالسفينة من يحفظها، فأسرعنا فوجدنا ملاحاً في سفينة فجئنا به المعتضد، فلما رآه الملاح، كاد يتلف، فصاح عليه صيحة عظيمة، كادت روحه تذهب منها، وقال: أصدقني يا ملعون عن قضيتك مع المرأة التي قتلتها اليوم، وإلا ضربت عنقك، فتلعثم وقال: كنت في الشـّرعة الفلانية وقت السحر، فنزلت امرأة لم أر مثلها، عليها ثياب فاخرة، وحلي كثير وجواهر، فطمعت فيها، واحتلت عليها، حتى سددت فمها، وأخذت جميع ما كان عليها، ثم طرحتها في الماء، ولم أجسر على حمل سلبها إلى داري لئلا يفشو الخبر، فعوَّلت على الهرب والانحدار إلى الشط، فصبرت حتى خلا الشط في هذه الساعة من الملاحين، فأخذت في الانحدار، فتعلق بي هؤلاء القوم، فحملوني إليك. فقال: وأين الحلي والسلب؟ قال: في صدر السفينة تحت البواري، قال المعتضد: عليّ به الساعة، فلما أحضروه، أمر بتغريق الملاح ثم أمر أن يـُنادَى في بغداد، من خرجت له امرأة من الشرعة الفلانية سحراً، وعليها ثياب فاخرة وحلي، فليحضر، فحضر في اليوم الثاني أهلها، وأعطوا صفاتها وصفة ما كان عليها، فسلم ذلك إليهم، قال: فقلت يا مولاي، من أعلمك؟ أؤحي إليك بأمر هذه الصبية، قال: بل رأيت في منامي رجلاً أبيض الرأس واللحية والثياب، وهو ينادي، يا أحمد، أول ملاح ينحدر الساعة، فاقبض عليه، وقرِّره على المرأة التي قتلها اليوم ظلماً، وسلبها ثيابها وأقم الحد عليه، ولا يفتك، فكان ما شاهدتم. |
صفـة علـــي
كان ضرار الصدَّائي، من أشد الناس نصرة لعلي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، فدخل ذات يوم على معاوية في خلافته، فقال معاوية: يا ضرار صف لي علياً، قال: أعفني يا أمير المؤمنين، قال: لتصفنـَّه، قال ضرار: أما إذ لا بد من وصفه، فإني أقول: كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يـُقلـّب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصـُر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن مع تقريبه إيانا، وقربه منا، لا نكاد نكلمه لهيبته، ولا نبتدئه لعظمته، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، وأشهد لقد رأيته ذات ليلة، وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه، وهو يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء اليتيم، ويقول: يا دنيا غرِّي غيري، إليَّ تعرضت؟ أم إليَّ تشوقت؟ هيهات هيهات، فقد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك حقير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق. فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن، فلقد كان كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذُبح واحدها في حجرها. |
صـلاح النفــس
روي أن رجلاً أتى إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه، فقال: يا أبا إسحق، إني مسرف على نفسي، فاعرض عليّ ما يكون لها زاجراً ومستنقذاً، قال: إن قبلت خمس خصال وقدرت عليها، لم تضرك المعصية، ولم توبقك لذة، قال: هات يا أبا إسحق. قال: أما الأولى فإذا أردت أن تعصي الله عز وجل فلا تأكل رزقه، قال: فمن أين آكل وكل ما في الأرض رزقه؟ قال: يا هذا، أفيحسن بك أن تأكل رزقه وتعصيه؟ قال: لا، هات الثانية، قال: وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئاً من بلاده قال: هذه أعظم من الأولى يا هذا، إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له فأين أسكن؟ قال: يا هذا، أفيحسن بك أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه؟ قال: لا، هات الثالثة. قال: وإذا أردت أن تعصيه وأنت تحت رزقه وفي بلاده، فانظر موضعاً لا يراك فيه، فاعصه فيه، قال: يا إبراهيم، ما هذا وهو يطلع على ما في السرائر، قال: يا هذا أفيحسن بك أن تأكل رزقه وتسكن بلاده، وتعصيه وهو يراك ويعلم ما تجاهر به؟ قال: لا، هات الرابعة. قال: فإذا جاءك ملك الموت لقبض روحك، فقل له: أخـّرني حتى أتوب توبة نصوحاً، وأعمل لله صالحاً، قال: لا يقبل مني، قال: يا هذا، فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب، وتعلم أنه إذا جاءك، لم يكن له تأخير، فكيف ترجو وجه الخلاص؟ قال: هات الخامسة. قال: إذا جاءك الزبانية يوم القيامة، ليأخذوك إلى النار، فلا تذهب معهم، قال: إنهم يـَدَعـُوني ولا يقبلون مني، قال: فكيف ترجو النجاة إذن؟ قال له: يا إبراهيم حسبي حسبي، أنا أستغفر الله وأتوب إليه، وَلزِم العبادة حتى فارق الدنيا رحمه الله. |
صندوق أم البنين
قيل إن أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، وهي زوجة الخليفة الوليد ابن عبد الملك، كانت تهوى وضاح اليمن الشاعر، وكان جميلاً، وكانت ترسل إليه فيدخل إليها ويقيم عندها، فإذا خافت وارته في صندوق عندها، وأقفلت عليه. فدخل الخادم إليها مفاجأة فرأى وضاحا عندها، فأدخلته الصندوق. فطلب منها الخادم حجرًا نفيسًا كان يعرفه عندها، فمنعته إياه بُخلاً به. فمضى الخادم وأخبر الوليد بالحال، فقال له: كذبت! ثم جاء الوليد إلى أم البنين وهي جالسة تمشط رأسها. وكان الخادم قد وصف له الصندوق، فجلس الوليد فوقه، ثم قال: يا أم البنين، هبي لي صندوقا من هذه الصناديق. فقالت: كلها بحكمك يا أمير المؤمنين. فقال: إنما أريد واحدًا منها. فقالت: خذ أيها شئت. فقال: هذا الصندوق الذي تحتي. فقالت: غيره أحبّ إليك منه، فإن لي فيه أشياء أحتاج إليها. فقال: ما أريد سواه. فقالت: خذه. فدعا بالخدم، وأمرهم بحمله حتى انتهى إلى مكان فوضعه فيه، ثم دعا عبيدًا له عجمًا وأمرهم بحفر بئر في المكان، فحُفرت إلى الماء. ثم دعا بالصندوق، فوضعه على شفير البئر، ودنا منه وقال: يا صاحب الصندوق، إنه بلغنا شيء إن كان حقًا فقد دفنّاك ودفنّا ذكرك إلى آخر الدهر، وإن كان باطلاً فإنما دفنّا الخشب. ثم قذف به في البئر، و هيل عليه التراب، وسوّيت الأرض. فما رؤي الوضاح بعد ذلك اليوم، ولا أبصرت أم البنين في وجه الوليد غضبًا حتى فرّق الموت بينهما. من كتاب "وفيات الأعيان" لابن خلكان. |
صُهـيب والجـلاّد
جُلد صـُهيب المدينيّ في الشراب. وكان طويلاً جسيمـًا، وكان الجلاّد قصيرًا قميئـًا. فقال الجلاد له: تقاصرْ لينالك السـَّوْط! فقال: يا ابن الفاعلة! إلى أكل الفالوذج تـَدْعوني؟! من كتاب "البصائر والذخائر" لأبي حيان التوحيدي. |
الساعة الآن 09:33 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |