منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   المكتبة العامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=239)
-   -   كتاب التوسل - محمد ناصر الدين الألباني (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8904)

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 09:58 PM

كتاب التوسل - محمد ناصر الدين الألباني
 
الكتاب : التوسل أنواعه وأحكامه
المؤلف : محمد ناصر الدين الألباني
الناشر : المكتب الإسلامي - بيروت
الطبعة : الثالثة
تحقيق : آلف بينها ونسقها محمد عيد العباسي
عدد الأجزاء : 1
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين
أما بعد :
فأصل هذه الرسالة التي أقدمها إلى القراء الكرام محاضرتان اثنتان كان قد ألقاهما أستاذنا محمد ناصر الدين الألباني في جمع من الشباب المسلم في صيف عام 1392 ه في داره في مخيم اليرموك بمدينة دمشق الفيحاء تناول فيهما مسألة التوسل من جميع جوانبها وبحثها من جميع نواحيها بما عرف عنه من علم غزير ونظر سديد وتحقيق دقيق قل أن تجد له في هذا العصر مثيلا
وقد أعجب الحاضرون بهذا البحث القيم لما فيه من دراسة علمية رصينة وحجة قوية ناصعة واقتنعوا بالنتائج التي توصل إليها والرأي الذي ذهب إليه والذي هو في الوقت نفسه مذهب الأئمة المجتهدين المتقدمين رحمهم الله تعالى


وقد رأينا الفائدة كبيرة والحاجة ماسة إلى نشر هذا البحث وتقديمه للمسلمين لعلهم يخلصون من الاضطراب الكبير الذي يعيش فيه كثير منهم إزاء هذا الموضوع الخطير
هذا وقد يسر الله تعالى - وله الفضل الكبير والمنة - ذلك إذ كان عدد من الأخوة قد سجل تلكما المحاضرتين وتطوع بعض الإخوان الغيورين والحريصين على العلم بنقلهما من آلة التسجيل إلى القرطاس بخط واضح جميل فجزاه الله تعالى على ذلك خيرا وشكر له سعيا
وقد عدت إلى ما كتبه فنقحته بما يجعله مناسبا للنشر وأضفت إليه بعض الفوائد المناسبة له وخرجت الآيات وبعض الأحاديث الواردة فيه ثم كان أن وقف أستاذنا الألباني على رسالة له مخطوطة كان كتبها منذ قرابة عشرين سنة بعنوان ( التوسل وأحاديثه ) وكانت حلقة من سلسلة أصدرها بعنوان ( تسديد الإصابة إلى من زعم نصرة الخلفاء الراشدين والصحابة ) رد فيها على بعض المبتدعين والخرافيين الذين تهجموا في عدة رسائل أصدروها على الدعوة السلفية وافتروا عليها وخلطوا فيها وخبطوا خبط عشواء بما لا يتفق مع العلم والإخلاص في شيء فأطلعني أستاذنا على تلك الرسالة وطالعتها فوجدت فيها فوائد قيمة وزيادات على ما في المحاضرتين نافعة فضممتها إليهما وآلفت بينها وبينهما وحذفت ما ذهبت مناسبته ولم تبق ثمة حاجة إليه ثم عرضت البحث كله بشكله الجديد على المؤلف حفظه الله تعالى فهذبه

ونقحه بما يزيد في توضيحه وإفادته وتحسينه فجاءت هذه الرسالة على اختصارها وإيجازها جامعة مانعة بفضل الله تعالى وتوفيقه وها أنذا أقدامها إلى القراء الكرام راجيا أن يجدوا فيها الخير الكثير والنفع العظيم سائلا المولى الكريم أن يكتب لمؤلفها وناشرها الثواب الجزيل والأجر الكبير والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وهو حسبنا ونعم الوكيل
دمشق في 27 ربيع الأول 1395 ه
الموافق / 19 نيسان سنة 1975 م
محمد عيد العباسي
التوسل : أنواعه وأحكامه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا }
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما }
أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
اضطرب الناس في مسألة التوسل وحكمها في الدين اضطرابا كبيرا واختلفوا فيها اختلافا عظيما بين محلل ومحرم ومغال

ومتساهل وقد اعتاد جمهور المسلمين منذ قرون طويلة أن يقولوا في دعائهم مثلا : ( اللهم بحق نبيك أو بجاهه أو بقدره عندك عافني واعف عني ) و ( اللهم إني أسألك بحق البيت الحرام أن تغفر لي ) و ( اللهم بجاه الأولياء والصالحين ومثل فلان وفلان . . ) أو ( اللهم بكرامة رجال الله عندك وبجاه من نحن في حضرته وتحت مدده ( 1 ) فرج الهم عنا وعن المهمومين ) و ( اللهم إنا قد بسطنا إليك أكف الضراعة متوسلين إليك بصاحب الوسيلة والشفاعة أن تنصر الإسلام والمسلمين . . . . ) . إلخ
ويسمون هذا توسلا ويدعون أنه سائغ ومشروع وأنه قد ورد فيه بعض الآيات والأحاديث التي تقره وتشرعه بل تأمر به وتحض عليه وبعضهم غلا في إباحة هذا حتى أجاز التوسل إلى الله تعالى ببعض مخلوقاته التي لم تبلغ من المكانة ما يؤهلها لرفعة الشأن كقبور الأولياء والحديد المبني على أضرحتهم والتراب والحجارة والشجرة القريبة منها زاعمين أن ما جاور العظيم فهو عظيم وأن إكرام الله لساكن القبر يتعدى إلى القبر نفسه حتى يصح أن يكون وسيلة إلى الله بل قد أجاز بعض المتأخرين الاستغاثة بغير الله وادعى أنها توسل مع أنها شرك محض ينافي التوحيد من أساسه
فما هو التوسل يا ترى ؟ وما هي أنواعه ؟ وما معنى الآيات والأحاديث الواردة فيه ؟ وما حكمه الصحيح في الإسلام ؟

يتبع

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 10:03 PM

( 1 ) الاعتقاد بإمداد بشر ميت للإحياء هو اعتقاد باطل وطلبه استغاثة بغير الله وهي نوع من أنواع الشرك الأكبر والعياذ بالله
الفصل الأول
التوسل في اللغة والقرآن
معنى التوسل في لغة العرب :
وقبل الخوض في هذا الموضوع بتفصيل أحب أن ألفت النظر إلى سبب هام من أسباب سوء فهم كثير من الناس لمعنى التوسل وتوسعهم فيه وإدخالهم فيه ما ليس منه وذلك هو عدم فهمهم لمعناه اللغوي وعدم معرفتهم بدلالته الأصلية ذلك أن لفظة ( التوسل ) لفظة عربية أصيلة وردت في القرآن والسنة وكلام العرب من شعر ونثر وقد عني بها التقرب إلى المطلوب والتوصل إليه برغبة قال ابن الأثير في ( النهاية ) : ( الواسل : الراغب والوسيلة : القربة والواسطة وما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به وجمعها وسائل ) وقال الفيروزآبادي في ( القاموس ) : ( وسل إلى الله تعالى توسيلا : عمل عملا تقرب به إليه كتوسل ) وقال ابن فارس في ( معجم المقاييس ) : ( الوسيلة : الرغبة والطلب يقال : وسل إذا رغب والواسل : الراغب إلى الله عز و جل وهو في قول لبيد :
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم بلى كل ذي دين إلى الله واسل )
وقال الراغب الأصفهاني في ( المفردات ) : ( الوسيلة : التوصل إلى الشيء برغبة وهي أخص من الوصيلة لتضمنها لمعنى الرغبة قال تعالى : وابتغوا إليه الوسيلة } وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى : مراعاة سبيله بالعلم والعبادة وتحري مكارم الشريعة وهي كالقربة والواسل : الراغب إلى الله تعالى )
وقد نقل العلامة ابن جرير هذا المعنى أيضا وأنشد عليه قول الشاعر :
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل
هذا وهناك معنى آخر للوسيلة وهو المنزلة عند الملك والدرجة والقربة كما ورد في الحديث تسمية أعلى منزلة في الجنة بها وذلك هو قوله صلى الله عليه و سلم :
( صحيح ) ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله إلى الوسيلة فإنها منزلة لا تبتغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة ) رواه مسلم وأصحاب السنن وغيرهم وهو مخرج في كتابي ( إرواء الغليل ) يراجع ( 242 ) طبع المكتب الإسلامي

وواضح أن هذين المعنيين الأخيرين للوسيلة وثيقا الصلة بمعناها الأصلي ولكنهما غير مرادين في بحثنا هذا
معنى الوسيلة في القرآن :
إن ما قدمته من بيان معنى التوسل هو المعروف في اللغة ولم يخالف فيه أحد وبه فسر السلف الصالح وأئمة التفسير الآيتين الكريمتين اللتين وردت فيهما لفظة ( الوسيلة ) وهما قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون } [ سورة المائدة : 35 ] وقوله سبحانه : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } [ سورة الإسراء : 57 ]
فأما الآية الأولى فقد قال إمام المفسرين الحافظ ابن جرير رحمه الله في تفسيرها : ( يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله فيما أخبرهم ووعد من الثواب وأوعد من العقاب . ( اتقوا الله ) يقول : أجيبوا الله فيما أمركم ونهاكم بالطاعة له في ذلك . ( وابتغوا إليه الوسيلة ) : يقول : واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه )
ونقل الحافظ ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معنى الوسيلة فيها القربة ونقل مثل ذلك عن مجاهد وأبي وائل والحسن



وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد ونقل عن قتادة قوله فيها : ( أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه ) ثم قال ابن كثير : ( وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه . . والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود ) ( 1 )
وأما الآية الثانية فقد بين الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مناسبة نزولها التي توضح معناها فقال :
( صحيح ) ( نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون ) ( 2 )
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله ( 3 ) : ( أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن والجن لا يرضون بذلك لكونهم أسلموا وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة وهذا هو المعتمد في تفسير الآية )
قلت : وهي صريحة في أن المراد بالوسيلة ما يتقرب به إلى الله تعالى ولذلك قال : ( يبتغون ) أي يطلبون ما يتقربون به إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة وهي كذلك تشير إلى هذه الظاهرة الغريبة المخالفة لكل تفكير سليم ظاهره أن يتوجه بعض الناس بعبادتهم ودعائهم إلى بعض عباد الله يخافونهم ويرجونهم مع أن هؤلاء
( 1 ) تفسير ابن كثير ( 2 / 52 - 53 )
( 2 ) رواه مسلم ( 8 / 245 نووي ) والبخاري بنحوه ( 8 / 320 - 321 فتح ) وفي رواية له : ( فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم )
( 3 ) فتح الباري ( 10 / 12 و 13 )

العباد المعبودين قد أعلنوا إسلامهم وأقروا لله بعبوديتهم وأخذوا يتسابقون في التقرب إليه سبحانه بالأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها ويطمعون في رحمته ويخافون من عقابه فهو سبحانه يسفه في هذه الآية أحلام أولئك الجاهلين الذين عبدوا الجن واستمروا على عبادتهم مع أنهم مخلوقون عابدون له سبحانه وضعفاء مثلهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا وينكر الله عليهم عدم توجههم بالعبادة إليه وحده تبارك وتعالى . وهو الذي يملك وحده الضر والنفع وبيده وحده مقادير كل شيء وهو المهيمن على كل شيء
الأعمال الصالحة وحدها هي الوسائل المقربة إلى الله :
ومن الغريب أن بعض مدعي العلم اعتادوا الاستدلال بالآيتين السابقتين على ما يلهج به كثير منهم من التوسل بذوات الأنبياء أو حقهم أو حرمتهم أو جاههم وهو استدلال خاطئ لا يصح حمل الآيتين عليه لأنه لم يثبت شرعا أن هذا التوسل مشروع مرغوب فيه ولذلك لم يذكر هذا الاستدلال أحد من السلف الصالح ولا استحبوا التوسل المذكور بل الذي فهموه منهما أن الله تباك وتعالى يأمرنا بالتقرب إليه بكل رغبة والتقدم إليه بكل قربة والتوصل إلى رضاه بكل سبيل
ولكن الله سبحانه قد علمنا في نصوص أخرى كثيرة أن علينا إذا أردنا التقرب إليه أن نتقدم إليه بالأعمال الصالحة التي يحبها

ويرضاها وهو لم يكل تلك الأعمال إلينا ولم يترك تحديدها إلى عقولنا وأذواقنا لأنها حينذاك ستختلف وتتباين وستضطرب وتتخاصم بل أمرنا سبحانه أن نرجع إليه في ذلك ونتبع إرشاده وتعليمه فيه لأنه لا يعلم ما يرضي الله عز و جل إلا الله وحده فلهذا كان من الواجب علينا حتى نعرف الوسائل المقربة إلى الله أن نرجع في كل مسألة إلى ما شرعه الله سبحانه وبينه رسوله صلى الله عليه و سلم ويعني ذلك أن نرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم وهذا هو الذي وصانا به رسولنا محمد صلوات الله عليه وسلامه حيث قال :
( حسن ) ( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنة رسوله ) ( 1 )
متى يكون العمل صالحا :
وقد تبين من الكتاب والسنة أن العمل حتى يكون صالحا مقبولا يقرب إلى الله سبحانه فلا بد من أن يتوفر فيه أمران هامان عظيمان :
أولهما : أن يكون صاحبه قد قصد به وجه الله عز و جل
وثانيهما : أن يكون موافقا شرعه الله تبارك وتعالى في كتابه أو بينه رسوله في سنته فإذا اختل واحد من هذين الشرطين لم يكن العمل صالحا ولا مقبولا
رواه مالك مرسلا والحاكم من حديث ابن عباس وإسناده حسن . وله شاهد من حديث جابر خرجته في ( سلسلة الأحاديث الصحيحة ) ( 1761 )
ويدل على هذا قوله تبارك وتعالى : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } [ سورة الكهف : 110 ] فقد أمر سبحانه أن يكون العمل صالحا أي موافقا للسنة ثم أمر أن يخلص به صاحبه لله لا يبتغي به سواه
قال الحافظ ابن كثير في ( تفسيره ) : ( وهذان ركنا العمل المتقبل لا بد أن يكون خالصا لله صوابا على شريعة رسول الله صلى الله عليه و سلم ) . وروي مثل هذا عن القاضي عياض رحمه الله وغيره

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 10:06 PM

الفصل الثاني
الوسائل الكونية والشرعية
إذا عرفنا أن الوسيلة هي السبب الموصل إلى المطلوب برغبة فاعلم أنها تنقسم إلى قسمين : وسيلة كونية ووسيلة شرعية
فأما الوسيلة الكونية فهي كل سبب طبيعي يوصل إلى المقصود بخلقته التي خلقه الله بها ويؤدي إلى المطلوب بفطرته التي فطره الله عليها وهي مشتركة بين المؤمن والكافر من غير تفريق ومن أمثلتها الماء فهو وسيلة إلى ري الإنسان والطعام وسيلة إلى شبعه واللباس وسيلة إلى حمايته من الحر والقر والسيارة وسيلة إلى انتقاله من مكان إلى مكان وهكذا
وأما الوسيلة الشرعية فهي كل سبب يوصل إلى المقصود عن طريق ما شرعه الله تعالى وبينه في كتابه وسنة نبيه وهي خاصة بالمؤمن المتبع أمر الله ورسوله
ومن أمثلتها النطق بالشهادتين بإخلاص وفهم وسيلة إلى دخول الجنة والنجاة من الخلود في النار وإتباع السيئة الحسنة وسيلة إلى
محو السيئة وقول الدعاء المأثور بعد الأذان وسيلة إلى نيل شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم وصلة الرحم وسيلة لطول العمر وسعة الرزق وهكذا
فهذه الأمور وأمثالها إنما عرفنا أنها وسائل تحقق تلك الغايات والمقاصد عن طريق الشرع وحده لا عن طريق العلم أو التجربة أو الحواس فنحن لم نعلم أن صلة الرحم تطيل العمر وتوسع الرزق إلا من قوله صلوات الله وسلامه عليه :
( صحيح ) ( من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه ) ( 1 ) . وهكذا الأمثلة الأخرى
ويخطئ الكثيرون في فهم هذه الوسائل بنوعيها خطأ كبيرا ويهمون وهما شنيعا فقد يظنون سببا كونيا ما يوصل إلى غاية معينة ويكون الأمر بخلاف ما يظنون وقد يعتقدون سببا شرعيا ما يؤدي إلى مقصد شرعي معين ويكون الحق بخلاف ما يعتقدون
فمن أمثلة الوسائل الباطلة شرعا وكونا في آن واحد ما يره المار في شارع النصر في دمشق في كثير من الأحيان إذ يجد بعض الناس قد وضعوا أمامهم مناضد صغيرة وعليها حيوان صغير يشبه الفأر الكبير وقد وضع بجانبه بطاقات مضمومة كتبت فيها عبارات فيها توقعات لحظوظ الناس كتبها صاحب الحيوان أو أملاها رواه الشيخان وغيرهما وهو مخرج في كتابي ( صحيح أبي داود ) ( 1486 )

عليه بعض الناس كما شاء لهم جهلهم وهواهم فيمر الصديقان الحميمان فيقول أحدهما للآخر : تعال لنرى حظنا ونصيبنا فيدفعان للرجل بضعة قروش فيدفع الحوين لسحب بطاقة ما ويعطيها أحدهما فيقرؤها ويطالع حظه المزعوم فيها
ترى ما مبلغ عقل هذا الإنسان الذي يتخذ الحيوان دليلا ليعلمه ما جهله وليطلعه على ما غيب عنه من قدره ؟
إنه إن كان يعتقد فعلا أن هذا الحيوان يعلم الغيب فلا شك أن الحيوان خير منه وإن كان لا يعتقد ذلك ففعله هذا عبث وسخف وإضاعة وقت ومال يتنزه عنه العقلاء . كما أن تعاطي هذا العمل تدجيل وتضليل وأكل لأموال الناس بالباطل
ولا شك أن لجوء الناس إلى هذا الحيوان لمعرفة الغيب وسيلة كونية بزعمهم ولكنها باطلة تدحضها التجربة ويهدمها النظر السليم فهي وسيلة خرافية أدى إليها الجهل والدجل ومن هي من الناحية الشرعية باطلة أيضا تخالف الكتاب والسنة والإجماع ويكفي في ذلك مخالفتها لقوله سبحانه في الثناء على نفسه : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول . . . } [ سورة الجن : 26 و 27 ]
ومن الأسباب الكونية الموهومة ظن بعضهم أنه إذا سافر أو تزوج مثلا يوم الأربعاء أخفق في سفره وخاب في زواجه واعتقادهم أن من شرع في عمل هام فرأى أعمى أو ذا عاهة لم يتم عمله ولم ينجح فيه
ومن هذه الأسباب أيضا ظن كثير من العرب والمسلمين اليوم أنهم بعددهم الكبير فقط ينتصرون على أعدائهم من الصهاينة والمستعمرين وأنهم على وضعهم الذي هم عليه سيرمون اليهود في البحر وقد أثبتت التجارب خطأ هذه الظنون وبطلانها وأن الأمر أعمق من أن يعالج بهذه الطريقة السطحية
ومن الأسباب الشرعية الموهومة اتخاذ بعض الناس أسبابا يظنونها تقربهم إلى الله سبحانه وهي تباعدهم منه في الحقيقة وتجلب لهم السخط والغضب بل واللعنة والعذاب فمن ذلك استغاثة بعضهم بالموتى المقبورين من الأولياء والصالحين ليقضوا لهم حوائجهم التي لا يستطيع قضاءها إلا الله سبحانه وتعالى كطلبهم منهم دفع الضر وشفاء السقم وجلب الرزق وإزالة العقم والنصر على العدو وأمثال ذلك فيتمسحون بحديد الأضرحة وحجارة القبور ويهزونها أو يلقون إليها أوراقا كتبوا فيها طلباتهم ورغباتهم فهذه وسائل شرعية بزعمهم ولكنها في الحقيقة باطلة ومخالفة لأساس الإسلام الأكبر الذي هو العبودية لله وحده وإفراده سبحانه بجميع أنواعها وفروعها
ومن ذلك اعتقاد بعضهم الصدق في خبر يتحدث به إنسان ما إذا عطس هو أو أحد الحاضرين عند تحدثه بذلك ( 1 )
ومنها اعتقادهم بأن أحدا من أصحابهم أو أقربائهم يذكرهم بخير إذا طنت آذانهم ( 2 ) وكذلك اعتقادهم بأن بلاء ينزل عليهم إذا قصوا أظفارهم في الليل وفي أيام السبت والأحد . . ( 3 ) أو إذا كنسوا بيوتهم ليلا . . ومنها اعتقادهم أنهم إذا حسنوا ظنهم بحجر واعتقدوا فيه فإنه ينفعهم ( 4 ) ( 1 ) لعل مستند هذا الاعتقاد حديث : ( من حدث حديثا فعطس عنده فهو حق ) وهو حديث باطل وقد أورده الشوكاني في كتابه ( الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ( صحيح ) 224 ) . وهذا وما بعده أمثلة جيدة لبيان خطر الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في نشر العقائد : الباطلة والعادات المسترذلة مما يوجب على كل مسلم واع معرفتها والتحذير منها ولا يتم ذلك إلا بالاهتمام بعلوم السنة ودراستها وهذا مما حدا بي إلى وضع كتابي ( سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة ) وقد صدر منه المجلد الأول يسر الله نشر المجلدات الباقية وهذا الحديث تجد الكلام عليه وبيان بطلانه مفصلا فيه برقم ( 136 )
( 2 ) أصل هذه العقيدة حديث موضوع هو : ( إذا طنت أذن أحدكم فليصل علي وليقل : ذكر الله بخير من ذكرني ) وأورده الشوكاني في ( الفوائد المجموعة ص 224 )
( 3 ) وقد تلقى هذه العقيدة الباطلة بعض المتفقهة فنظمها شعرا يلقن لبعض طلاب المدارس الشرعية ومنها قوله :
قص الأظافر يوم السبت آكلة تبدو وفيما يليه تذهب البركة
وعالم فاضل يبدو بتلوهما وإن يكن في الثلاثاء فاحذر الهلكة
( 4 ) أصل هذه العقيدة الضالة حديث : ( لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به ) وأورده الحافظ العجلوني في ( كشف الخفاء - 2 / 152 ) ونقل عن ابن تيمية أنه كذب وعن ابن حجر أنه لا أصل له وعن صاحب ( المقاصد ) أنه لا يصح ونقل عن ابن القيم قوله : ( هو من كلام عباد الأصنام الذين يحسنون ظنهم بالأحجار )
فهذه وأمثالها اعتقادات باطلة بل خرافات وترهات وظنون وأوهام ما أنزل الله بها من سلطان وقد رأيت أن أصلها أحاديث موضوعة مكذوبة لعن الله واضعها وقبح ملفقها
وعلى هذا فإن الوسائل الكونية منها ما هو مباح أذن الله به ومنها ما هو حرام نهى الله عنه وقد ذكرت فيما سبق أمثلة من هذه الوسائل بنوعيها مما يهيم الناس فيه ويظنونه مباحا وموصولا إلى القصد مع أنه بعكس ذلك وأذكر فيما يلي بعض الأمثلة على الوسائل الكونية المشروعة وغير المشروعة
فمن الوسائل الكونية المشروعة للكسب والحصول على الرزق اتخاذ البيع والشراء والتجارة والزراعة والإجارة ومن الوسائل الكونية المحرمة الإقراض بالربا وبيع العينة والاحتكار والغش والسرقة والميسر وبيع الخمور والتماثيل ومن أدلة ذلك قوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } [ سورة البقرة : 275 ]
فكل من البيع والربا سبب كوني لكسب الرزق ولكن الله تعالى أحل الأول وحرم الثاني

كيف تعرف صحة الوسائل ومشروعيتها :
والطريق الصحيح لمعرفة مشروعية الوسائل الكونية والشرعية هو الرجوع إلى الكتاب والسنة والتثبت مما ورد فيهما عنها والنظر في دلالات نصوصهما وليس هناك طريق آخر لذلك البتة
وأما الطريق الصحيح لمعرفة صحة الوسائل الكونية فهو النظر السليم والاختبار بواسطة الحواس والتجربة حسب المنهج العلمي المعروف
فهناك شرطان لجواز استعمال سبب كوني ما الأول أن يكون مباحا في الشرع والثاني أن يكون قد ثبت تحقيقه للمطلوب أو غلب ذلك على الظن
وأما الوسيلة الشرعية فلا يشترط فيها إلا ثبوتها في الشرع ليس غير
فاتخاذ الحيوان في المثال الأسبق وسيلة مزعومة لمعرفة الغيب هو من الناحية الكونية باطل تدحضه التجربة والنظر ومن الناحية الشرعية كفر وضلال بين الله بطلانه وحذر منه . وكثيرا ما يخلط الناس في هذه الأمور فيظنون أنه بمجرد ثبوت النفع بوسيلة ما . تكون هذه الوسيلة جائزة ومشروعة فقد يحدث أن يدعو أحدهم وليا أو يستغيث بميت فيتحقق طلبه وينال رغبته فيدعي أن هذا دليل على قدرة الموتى والأولياء على إغاثة الناس وعلى جواز دعائهم والاستغاثة بهم وما حجته في ذلك غير حصوله على طلبه وقد قرأنا مع الأسف في بعض الكتب الدينية أشياء كثيرة من هذا القبيل إذ يقول مسطرها أو ينقل عن بعضهم قوله مثلا : إنه وقع في شدة واستغاث بالولي الفلاني أو الصالح العلاني وناداه باسمه فحضر حالا أو جاءه في النوم فأغاثه وحقق له ما أراد
وما درى هذا المسكين وأمثاله أن هذا - إن صح وقوعه - استدراج من الله عز و جل للمشركين والمبتدعين وفتنة منه سبحانه لهم ومكر منه بهم جزاءا وفاقا على إعراضهم عن الكتاب والسنة واتباعهم لأهوائهم وشياطينهم
فهذا الذي يقول ذلك الكلام يجيز الاستغاثة بغير الله تعالى هذه الاستغاثة التي هي الشرك بعينه بسبب حادثة وقعت له أو لغيره ويمكن أن تكون هذه الحادثة مختلقة من أصلها أو محرفة ومضخمة لإضلال بني آدم كما يمكن أن تكون صحيحة وراويها صادقا فيما أخبر ولكنه أخطأ في حكمه على المنقذ والمغيث فظنه وليا صالحا وإنما هو شيطان رجيم فعل ذلك عن قصد خبيث هو تلبيس الأمور على الناس وإيقاعهم في حبائل الكفر والضلال من حيث يشعرون أو لا يشعرون
وقد تضافرت الأخبار على أن المشركين في الجاهلية كانوا يأتون إلى الصنم وينادونه فيسمعون صوتا فيظنون أن الذي يكلمهم ويجيبهم إنما هو معبودهم الذي قصدوه من دون الله وليس هو

في الحقيقة والواقع غير شيطان لعين يريد إضلالهم وإغراقهم في العقائد الباطلة
والمقصود من ذلك كله أن نعرف أن التجارب والأخبار ليست الوسيلة الصحيحة لمعرفة مشروعية الأعمال الدينية بل الوسيلة الوحيدة المقبولة لذلك هي الاحتكام للشرع المتمثل في الكتاب والسنة ليس غير
وأهم ما يخلط فيه كثير من الناس في هذا الباب الاتصال بعالم الغيب بطريقة من الطرق كإتيان الكهان والعرافين والمنجمين والسحرة والمشعوذين فتراهم يعتقدون في هؤلاء معرفة الغيب لأنهم يحدثونهم عن بعض الأمور المغيبة عنهم ويكون الأمر وفق ما يحدثون أحيانا ويظنون ذلك جائزا ومباحا بدليل وقوعه كما يخبرون . وهذا خطأ جسيم وضلال مبين فإن مجرد حصول منفعة ما بواسطة ما لا يكفي لإثبات مشروعية هذه الواسطة فبيع الخمر مثلا قد يؤدي إلى منفعة صاحبه وغناه وثروته وكذلك الميسر واليانصيب أحيانا ولذلك قال ربنا تبارك وتعالى فيهما : { يسألونك عن الخمر والميسر قل : فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } [ البقرة : 219 ] ومع ذلك فهما محرمان وملعون في الخمر عشرة كما ثبت في الحديث ( 1 ) وهو مخرج في بعض مصنفاتي فانظر ( صحيح الجامع الصغير وزيادته ) ( 4967 )

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 10:09 PM

فإتيان الكهان كذلك حرام لأنه قد ثبت في الدين النهي عنه والتحذير منه قال النبي صلى الله عليه و سلم :
( صحيح الإسناد ) ( من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل على محمد ) ( 1 )
( صحيح ) وقال صلى الله عليه و سلم : ( من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) ( 2 )
( صحيح ) وقال معاوية بن الحكم السلمي للنبي صلى الله عليه و سلم : إن منا رجالا يأتون الكهان ؟ فقال صلى الله عليه و سلم : ( فلا تأتهم ) ( 3 )
وقد بين الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه طريقة حصول الكهان والسحرة على بعض المغيبات بقوله صلى الله عليه و سلم :
( صحيح ) ( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كالسلسلة على صفوان ( 4 ) فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال : الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا واحد فوق الآخر ووصف سفيان - أحد رواة الحديث ( وهو ابن عيينة كما قال الحافظ ابن كثير في تفسيره بيده وفرج بين أصابع يده اليمنى نصبها بعضها فوق بعض فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذي يليه إلى الذي هو أسفل منه حتى يلقوها إلى الأرض ( وربما قال سفيان :
( 1 ) رواه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح . انظر المصدر السابق ( 5818 )
( 2 ) رواه مسلم . انظر المصدرالسابق ( 5816 )
( 3 ) رواه مسلم وغيره وهو مخرج في ( صحيح أبي داود ) ( 862 )
( 4 ) هو الصخر الأملس

حتى تنتهي إلى الأرض ) فتلقى على فم الساحر فيكذب معها مئة كذبة فيصدق فيقولون : ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقا ؟ ( للكلمة التي سمعت من السماء ) ( 1 )
وورد مثل هذا في حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
( صحيح ) كان رسول الله صلى الله عليه و سلم جالسا في نفر من أصحابه فاستنار نجم فقال صلى الله عليه و سلم :
( ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية ؟ ) قالوا : كنا نقولك يولد عظيم أو يموت عظيم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح السماء الدنيا ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش : ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء وتخطف الجن السمع فيرمون فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون ) ( 2 ) .
( 1 ) رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه منها كتاب التفسير ( 9 / 452 فتح ) عن أبي هريرة وصححه الترمذي وابن خزيمة وهو مخرج في ( الصحيحة ) ( 1293 ) وانظر ( صحيح الجامع الصغير ) 1 / 262
( 2 ) رواه أحمد في مسنده ( 1 / 218 ) ومسلم في صحيحه ( 7 / 36 و 37 ) والترمذي ( 9 / 91 - 92 - تحفة ) وغيرهم ( يقرفون ) يخلطون فيه الكذب وضبطها بعضهم ( يقذفون ) بوزنها ومعناها ورواها الترمذي بلفظ ( يحرفونه )



فمن هذين الحديثين وغيرهما نعلم أن الاتصال بين الإنس والجن واقع وأن الجني يخبر الكاهن ببعض الأخبار الصادقة فيضيف إليها الكاهن أخبارا أخرى ملفقة من عنده فيحدث الناس فيطلعون على صدق بعضهم ومع ذلك فقد نهى الشارع الحكيم عن إتيان هؤلاء الكهان وحذر من تصديقهم فيما يقولون كما مر آنفا
وبهذه المناسبة فلا يفوتنا أن نذكر أن الكهانة والعرافة والتنجيم ما يزال لها تأثير كبير على كثير من الناس حتى في عصرنا هذا الذي يدعي أهله أنه عصر العلم والتفكير والتمدن والثقافة ويظنون أن الكهانة والشعوذة والسحر قد ولت أيامها وانقضى سلطانها ولكن الذي يمكن النظر ويطلع على خفايا ما يحدث هنا وهناك يعلم علم اليقين أنها ما تزال تسيطر على كثيرين ولكنها لبست لبوسا جديدا وتبدت بأشكال عصرية لا يفطن إلى حقيقتها إلا القليل وما استحضار الأرواح ومخاطبتها والاتصال بها بأنواعه المختلفة إلا شكل من أشكال هذه الكهانة الحديثة التي تضلل الناس وتفتنهم عن دينهم وتربطهم بالأوهام والأباطيل ويظنونها حقيقة وعلما ودينا والحقيقة والعلم والدين منها برءاء
والخلاصة أن الأسباب الكونية وما يظن أنه من الأسباب الشرعية لا يجوز إثباتها وتعاطيها إلا بعد ثبوت جوازها في الشرع كما يجب في الأسباب الكونية إثبات صحتها وفائدتها بالنظر والتجربة
ومما يجب التنبه له أن ما ثبت كونه وسيلة كونية فإنه يكفي في إباحته والأخذ به أن لا يكون في الشرع النهي عنه وفي مثله يقول الفقهاء : الأصل في الأشياء الإباحة . وأما الوسائل الشرعية فلا يكفي في جواز الأخذ بها أن الشارع الحكيم لم ينه عنها كما يتوهمه الكثيرون بل لا بد فيها من ثبوت النص الشرعي المستلزم مشروعيتها واستحبابها . لأن الاستحباب شيء زائد على الإباحة فإنه مما يتقرب إلى الله تعالى والقربات لا تثبت بمجرد عدم ورود النهي عنها ومن هنا قال بعض السلف : ( كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تتعبدوها ) وهذا مستفاد من أحاديث النهي عن الابتداع في الدين وهي معروفة ومن هنا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( الأصل في العابدات المنع إلا لنص وفي العادات الإباحة إلا لنص ) . فاحفظ هذا فإنه هام جدا يساعدك على استبصار الحق فيما اختلف فيه الناس .

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 10:14 PM

الفصل الثالث
التوسل المشروع وأنواعه
عرفنا مما سبق أن هناك قضيتين مستقلتين أولاهما وجوب أن يكون التوسل به مشروعا وذلك لا يعرف إلا بدليل صحيح من الكتاب والسنة وثانيهما أن يكون التوسل بسبب كوني صحيحا يوصل إلى المطلوب
ونحن نعلم أن الله عز و جل أمرنا بدعائه سبحانه والاستعانة به فقال : { وقال ربكم : ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [ سورة غافر : 60 ] . وقال تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } [ سورة البقرة : 187 ]
وقد شرع لنا عز شأنه أنواعا من التوسلات المشروعة المفيدة المحققة للغرض والتي تكفل الله بإجابة الداعي بها إذا توفرت شروط الدعاء الأخرى فلننظر الآن فيم تدل عليه النصوص الشرعية الثابتة من التوسل دون تعصب أو تحيز
إن الذي ظهر لنا بعد تتبع ما ورد في الكتاب الكريم والسنة المطهرة أن هناك ثلاثة أنواع للتوسل شرعها الله تعالى وحث عليها ورد بعضها في القرآن واستعملها الرسول صلى الله عليه و سلم وحض عليها وليس في هذه الأنواع التوسل بالذوات أو الجاهات أو الحقوق أو المقامات فدل ذلك على عدم مشروعيته وعدم دخوله في عموم ( الوسيلة ) المذكورة في الآيتين السالفتين
أما الأنواع المشار إليها من التوسل المشروع فهي :
أ - التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه الحسنى أو صفة من صفاته العليا : كأن يقول المسلم في دعائه : اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم اللطيف الخبير أن تعافيني . أو يقول : أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي . ومثله قول القائل : اللهم إني أسألك بحبك لمحمد صلى الله عليه و سلم . . فإن الحب من صفاته تعالى
ودليل مشروعية هذا التوسل قوله عز و جل : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [ الأعراف : 180 ] . والمعنى : ادعوا الله تعالى متوسلين إليه بأسمائه الحسنى . ولا شك أن صفاته العليا عز و جل داخلة في هذا
الطلب لأن أسماءه الحسنى سبحانه صفاته له خصت به تبارك وتعالى
ومن ذلك ما ذكره الله تعالى من دعاء سليمان عليه السلام حيث قال : { قال : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } [ النمل : 19 ]
ومن الأدلة أيضا قول النبي صلى الله عليه و سلم في أحد أدعيته الثابتة عنه قبل السلام من صلاته صلى الله عليه و سلم :
( صحيح ) ( اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي . . . ) ( 1 )
( صحيح الإسناد ) ومنها أنه صلى الله عليه و سلم سمع جلا يقول في تشهده : ( اللهم إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم ) فقال صلى الله عليه و سلم : ( قد غفر له قد غفر له ) ( 2 )



( 1 ) رواه النسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا
( 2 ) رواه أبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم وإسناده صحيح
( صحيح الإسناد ) وسمع النبي صلى الله عليه و سلم رجلا آخر يقول في تشهده : ( اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك المنان يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي
يا قيوم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار ) فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه : ( تدرون بما دعا ؟ ) قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ( والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه العظيم ( وفي رواية : الأعظم ) الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطي ) ( 1 )
( صحيح الإسناد ) ومنها قوله صلى الله عليه و سلم : ( من كثر همه فليقل : ( اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي ) إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا ) ( 2 )
ومنها ما ورد في استعاذته صلى الله عليه و سلم وهي قوله :
( صحيح ) ( اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني . . . ) ( 3 )
ومنها ما رواه أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم :
( حسن ) ( كان إذا حزبه أمر قال : يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ) ( 4 )

( 1 ) رواه أبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم بإسناد صحيح
( 2 ) رواه أحمد ( 3712 ) واللفظ له والحاكم ( 1 / 509 ) وغيرهما وإسناده صحيح كما بينته في ( السلسلة الصحيحة - 199 ) ورددت على من ضعفه
( 3 ) متفق عليه
( 4 ) رواه الترمذي ( 1 / 267 - تحفة ) والحاكم ( 1 / 509 ) وهو حديث حسن



فهذه الأحاديث وما شابهها تبين مشروعية التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه أو صفة من صفاته وأن ذلك مما يحبه الله سبحانه ويرضاه ولذلك استعمله رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد قال الله تبارك وتعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه } [ الحشر : 8 ] . فكان من المشروع لنا أن ندعوه سبحانه بما دعاه به رسوله صلى الله عليه و سلم فذلك خير ألف مرة من الدعاء بأدعية ننشئها وصيغ نخترعها
ب - التوسل إلى الله تعالى بعمل صالح قام به الداعي :
كأن يقول المسلم : اللهم بإيماني بك ومحبتي لك واتباعي لرسولك اغفر لي . . . أو يقول : اللهم إني أسألك بحبي لمحمد صلى الله عليه و سلم وإيماني به أن تفرج عني . . . ومنه أن يذكر الداعي عملا صالحا ذا بال فيه خوفه من الله سبحانه وتقواه إياه وإيثاره رضاه على كل شيء وطاعته له جل شأنه ثم يتوسل به إلى ربه في دعائه ليكون أرجى لقبوله وإجابته
وهذا توسل جيد وجميل قد شرعه الله وارتضاه ويدل على مشروعيته قوله تعالى : { الذين يقولون : ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار } [ آل عمران : 16 ] . وقوله : { ربنا آمنا بما أنزلت

واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } [ آل عمران : 53 ] . وقوله : { إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان : أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار } [ آل عمران : 193 و 194 ] . وقوله : { إنه كان فريق من عبادي يقولون : ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين } [ المؤمنون : 109 ] . وأمثال هذه الآيات الكريمات المباركات . وكذلك يدل على مشروعية هذا النوع من التوسل ما رواه بريدة بن الحصيب رضي الله عنه حيث قال :
( صحيح الإسناد ) سمع النبي صلى الله عليه و سلم رجلا يقول : ( اللهم إني أسألك بأني أشهد أن أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) فقال : ( قد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطي وإذا دعي به أجاب ) ( 1 )
ومن ذلك ما تضمنته قصة أصحاب الغار كما يرويها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
( انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا : إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم

( وفي رواية لمسلم : فقال بعضهم لبعض : انظروا أعمالا عملتموهما صالحة لله فادعوا الله بها لعل الله يفرجها عنكم ) فقال رجل منهم : اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق ( 1 ) قبلهما أهلا ولا مالا فنأى بي في طلب شيء ( وفي رواية لمسلم : الشجر ) يوما فلم أرح عليهما ( 2 ) حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج قال النبي صلى الله عليه و سلم : وقال الآخر : اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس إلي فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة ( 3 ) من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت : لا أحل لك أن تفض ( وفي رواية لمسلم : يا عبد الله اتق الله ولا تفتح ) الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي

وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها قال النبي صلى الله عليه و سلم : وقال الثالث : اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال : يا عبد الله أد إلي أجري فقلت له : كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال : يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت : إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون ) ( 1 )
ويتضح من هذا الحديث أن هؤلاء الرجال المؤمنين الثلاثة حينما اشتد بهم الكرب . وضاق بهم الأمر ويئسوا من أن يأتيهم الفرج من كل طريق إلا طريق الله تبارك وتعالى وحده فلجؤوا إليه ودعوه بإخلاص واستذكروا أعمالا لهم صالحة كانوا تعرفوا فيها إلى الله في أوقات الرخاء راجين أن يتعرف إليهم ربهم مقابلها في أوقات الشدة كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه و سلم الذي فيه :
( صحيح لغيره ) ( . . . تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) ( 2 )
فتوسلوا إليه سبحانه بتلك الأعمال توسل الأول ببره والديه
وعطفه عليهما ورأفته الشديدة بهما حتى كان منه ذلك الموقف الرائع الفريد وما أحسب إنسانا آخر - حاشا الأنبياء - يصل بره بوالديه إلى هذه الحد
وتوسل الثاني بعفته من الزنى بابنة عمه التي أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء بعد ما قدر عليها واستسلمت له مكرهة بسبب الجوع والحاجة ولكنها ذكرته بالله عز و جل فتذكر قلبه وخشعت جوارحه وتركها والمال الذي أعطاها
وتوسل الثالث بحفاظه على حق أجيره الذي ترك أجرته التي كانت فرقا ( 1 ) من أرز كما ورد في رواية صحيحة للحديث وذهب فنماها له صاحب العمل وثمرها حتى كانت منه الشاة والبقرة والإبل والرقيق فلما احتاج الأجير إلى المال ذكر أجرته الزهيدة عند صاحبه فجاءه وطالبه بحقه فأعطاه تلك الأموال كلها فدهش وظنه يستهزئ به ولكنه لما تيقن منه الجد وعرف أنه ثمر له أجره حتى تجمعت منه تلك الأموال استساقها فرحا مذهولا ولم يترك منها شيئا وايم الله إن صنيع رب العمل هذا بالغ حد الروعة في الإحسان إلى العامل ومحقق المثل الأعلى الممكن في رعايته وإكرامه مما لا يصل إلى عشر معاشره موقف كل من يدعي نصرة العمال والكادحين ويتاجر بدعوى حماية الفقراء والمحتاجين وإنصافهم وإعطائهم حقوقهم دعا هؤلاء الثلاثة ربهم سبحانه متوسلين إليه بهذه الأعمال الصالحة أي صلاح والمواقف الكريمة أي كرم معلنين أنهم إنما فعلوها ابتغاء رضوان الله تعالى وحده لم يريدوا بها دنيا قريبة أو مصلحة عاجلة أو جاها أو مالا ورجوا الله جل شأنه أن يفرج عنهم ضائقتهم ويخلصهم من محنتهم . فاستجاب سبحانه دعاءهم وكشف كربهم وكان عند حسن ظنهم به فخرق لهم العادات وأكرمهم بتلك الكرامة الظاهرة فأزاح الصخرة بالتدريج على مراحل ثلاث كلما دعا واحد منهم تنفرج بعض الانفراج حتى انفرجت تماما مع آخر دعوة الثالث بعد ما كانوا في موت محقق . ورسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه يروي لنا هذه القصة الرائعة التي كانت في بطون الغيب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى ليذكرنا بأعمال فاضلة مثالية لأناس فاضلين مثاليين من أتباع الرسل السابقين لنقتدي بهم ونتأسى بأعمالهم . ونأخذ من أخبارهم الدروس الثمينة . والعظات البالغة . ولا يقولن قائل : إن هذه الأعمال جرت قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فلا تنطبق علينا بناء على ما هو الراجح في علم الأصول أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا . لأننا نقول : إن حكاية النبي صلى الله عليه و سلم لهذه الحادثة إنما جاءت في سياق المدح والثناء والتعظيم والتبجيل وهذا إقرار منه صلى الله عليه و سلم بذلك بل هو أكثر من إقرار لما قاموا به من التوسل بأعمالهم الصالحة المذكورة بل إن هذا ليس إلا شرحا وتطبيقا عمليا للآيات المتقدمة . وبذلك تتلاقى الشرائع السماوية في تعاليمها وتوجيهاتها ومقاصدها وغاياتها ولا غرابة في ذلك فهي تنبع من معين واحد وتخرج من مشكاة واحدة وخاصة فيما يتعلق بحال الناس مع ربهم سبحانه فهي لا تكاد تختلف إلا في القليل النادر الذي تقتضي حكمة الله سبحانه تغييره وتبديله

( 1 ) رواه البخاري في كتاب الإجارة واللفظ له ومسلم والنسائي وغيرهما

( 1 ) مكيال القدر سعته بثلاثة آصع ( 2 ) رواه أحمد عن ابن عباس وإسناده صحيح لغيره كما بينته في ( ظلال الجنة تخريج السنة ) لابن أبي عاصم يراجع ( 318 ) طبع المكتب الإسلامي

( 1 ) الغبوق : هو الذي يشرب بالعشي ومعناه : كنت لا أقدم عليهما في شرب اللبن أهلا ولا غيرهم عن ( الترغيب والترهيب )
( 2 ) المراح : موضع مبيت الماشية والمعنى : لم أرد الماشية من المرعى إلى حظائرها
( 3 ) السنة : العام المقحط الذي لم تنبت الأرض فيه شيئان سواء نزل غيث أم لم ينزل . عن ( الترغيب والترهيب )

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 10:22 PM

ج - التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح :
كأن يقع المسلم في ضيق شديد أو تحل به مصيبة كبيرة ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تبارك وتعالى فيجب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة . فيطلب منه أن يدعوا له ربه . ليفرج عنه كربه ويزيل عنه همه . فهذا نوع آخر من التوسل المشروع دلت عليه الشريعة المطهرة وأرشدت إليه وقد وردت أمثلة منه في السنة الشريفة كما وقعت نماذج منه من فعل الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم فمن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال :
( صحيح ) ( أصاب الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه و سلم فبينما النبي صلى الله عليه و سلم يخطب [ على المنبر 2 / 22 ] قائما في يوم الجمعة قام [ وفي رواية : دخل 2 / 16 ] أعرابي [ من أهل البدو 2 / 21 ] [ من باب كان وجاه المنبر ] [ نحو دار القضاء ورسول الله قائم فاستقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم قائما 2 / 17 ] [ فقال : يا رسول الله هلك المال وجاع [ وفي رواية : هلك ] العيال [ ومن طريق
أخرى : هلك الكراع وهلك الشاء ] ( 1 ) [ وفي أخرى هلكت : المواشي وانقطعت السبل ] فادع الله لنا [ أن يسقينا ] [ وفي أخرى يغيثنا ] فرفع يديه يدعو [ حتى رأيت بياض إبطه ] : [ اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا ] [ ورفع الناس أيديهم معه يدعون ] [ ولم يذكر أنه حول رداءه ولا استقبل القبلة 2 / 18 ] و [ لا والله ] ما نرى في السماء [ من سحاب ولا ] قزعة ( 2 ) [ ولا شيئا وما بيننا وبين سلع ( 3 ) من بيت ولا دار ] [ وفي رواية : قال أنس : وإن السماء لمثل الزجاجة ] [ قال : فطلعت من ورائه صحابة مثل الترس . فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت ] فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه و سلم [ وفي رواية : فهاجت ريح أنشأت سحابا ثم اجتمع ثم أرسلت المساء عزاليها ( 4 ) [ ونزل عن المنبر فصلى 2 / 19 ] فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا ] [ وفي رواية : حتى ما كاد الرجل يصل إلى منزله ] فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى



( 1 ) الكراع : الخيل الشاء : جمع شاة وهي الغنم
( 2 ) قطعة من السحاب الصغار المتفرق
( 3 ) جبل في المدينة
( 4 ) عزاليها : جمع عزلاء وهو فم المزادة الأسفل وفيه تشبيه غزارة المطر وشدته بالماء الخارج من أفواه القرب المصبوبة



[ ما تقلع ] ( 1 ) [ حتى سالت مثاعب المدينة ] ( 2 ) [ وفي رواية : فلا والله ما رأينا الشمس ستا ]
وقام ذلك الأعرابي أو غيره [ وفي رواية : ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه و سلم قائم يخطب فاستقبله قائما ] فقال : يا رسول الله تهدم البناء [ وفي رواية : تهدمت البيوت . وتقطعت السبل وهلكت المواشي ] [ وفي طريق : بشق المسافر ( 3 ) . ومنع الطريق ] وغرق المال فادع الله [ يحبسه ] لنا [ فتبسم النبي صلى الله عليه و سلم ] فرفع يديه فقال : اللهم حوالينا ولا علينا [ اللهم على رؤوس الجبال والإكام [ والظراب ] ( 4 ) وبطون الأودية ومنابت الشجر ] فما [ جعل ] يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت مثل الجوبة ( 5 ) [ وفي رواية : فنظرت إلى السحاب تصدع حول المدينة [ يمينا وشمالا ] كأنه إكليل ] [ وفي أخرى : فانجابت ] ( 6 ) عن المدينة انجياب الثوب ] [ يمطر ما حوالينا ولا يمطر فيها شيء [ وفي طريق : قطرة ] [ وخرجنا نمشي في الشمس ] يريهم الله

كرامة نبيه صلى الله عليه و سلم وإجابة دعوته ] . وسال الوادي [ وادي ] قناة شهرا ولم يجئ أحد من ناحية إلى حدث بالجود ) ( 1 )
ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أيضا ( 2 ) :
( صحيح ) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس ابن عبد المطلب فقال : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه و سلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال : فيسقون
ومعنى قول عمر : إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه و سلم وإنا نتوسل إليك بعم نبينا أننا كنا نقصد نبينا صلى الله عليه و سلم ونطلب منه أن يدعو لنا ونتقرب إلى الله بدعائه والآن وقد انتقل صلى الله عليه و سلم إلى الرفيق الأعلى ولم يعد من الممكن أن يدعو لنا فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس ونطلب منه أن يدعو لنا وليس معناه أنهم كانوا يقولون في دعائهم :
اللهم بجاه نبيك اسقنا ثم أصبحوا يقولون بعد وفاته صلى الله عليه و سلم : اللهم بجاه العباس اسقنا لأن مثل هذا دعاء مبتدع ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة ولم يفعله أحد من السلف الصالح رضوان
الله تعالى عليهم كما سيأتي الكلام على ذلك بشيء من البسط قريبا إن شاء الله تعالى
ومن ذلك أيضا ما رواه الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في ( تاريخه ) بسند صحيح ( 1 ) عن التابعي الجليل سليم ابن عامر الحبائري :
( صحيح ) ( أن السماء قحطت فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون فلما قعد معاوية على المنبر قال : أين يزيد بن الأسود الحرشي ؟ فناداه الناس فأقبل يتخطى الناس فأمره معاوية فصعد على المنبر فقعد عند رجليه فقال معاوية : اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الحرشي يا زيد ارفع يديك إلى الله فرفع يديه ورفع الناس أيديهم فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس وهبت لها ريح فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم )
وروى ابن عساكر أيضا بسند صحيح أن الضحاك بن قيس خرج يستسقي بالناس فقال ليزيد بن الأسود أيضا : قم يا بكاء ( زاد في رواية : فما دعا إلا ثلاثا حتى أمطروا مطرا كادوا يغرقون منه )
فهذا معاوية رضي الله عنه أيضا لا يتوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم لما سبق
ج - التوسل إلى الله تعالى بدعاء الرجل الصالح :
كأن يقع المسلم في ضيق شديد أو تحل به مصيبة كبيرة ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تبارك وتعالى فيجب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة . فيطلب منه أن يدعوا له ربه . ليفرج عنه كربه ويزيل عنه همه . فهذا نوع آخر من التوسل المشروع دلت عليه الشريعة المطهرة وأرشدت إليه وقد وردت أمثلة منه في السنة الشريفة كما وقعت نماذج منه من فعل الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم فمن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال :
( صحيح ) ( أصاب الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه و سلم فبينما النبي صلى الله عليه و سلم يخطب [ على المنبر 2 / 22 ] قائما في يوم الجمعة قام [ وفي رواية : دخل 2 / 16 ] أعرابي [ من أهل البدو 2 / 21 ] [ من باب كان وجاه المنبر ] [ نحو دار القضاء ورسول الله قائم فاستقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم قائما 2 / 17 ] [ فقال : يا رسول الله هلك المال وجاع [ وفي رواية : هلك ] العيال [ ومن طريق
أخرى : هلك الكراع وهلك الشاء ] ( 1 ) [ وفي أخرى هلكت : المواشي وانقطعت السبل ] فادع الله لنا [ أن يسقينا ] [ وفي أخرى يغيثنا ] فرفع يديه يدعو [ حتى رأيت بياض إبطه ] : [ اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا ] [ ورفع الناس أيديهم معه يدعون ] [ ولم يذكر أنه حول رداءه ولا استقبل القبلة 2 / 18 ] و [ لا والله ] ما نرى في السماء [ من سحاب ولا ] قزعة ( 2 ) [ ولا شيئا وما بيننا وبين سلع ( 3 ) من بيت ولا دار ] [ وفي رواية : قال أنس : وإن السماء لمثل الزجاجة ] [ قال : فطلعت من ورائه صحابة مثل الترس . فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت ] فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه و سلم [ وفي رواية : فهاجت ريح أنشأت سحابا ثم اجتمع ثم أرسلت المساء عزاليها ( 4 ) [ ونزل عن المنبر فصلى 2 / 19 ] فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا ] [ وفي رواية : حتى ما كاد الرجل يصل إلى منزله ] فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى



( 1 ) الكراع : الخيل الشاء : جمع شاة وهي الغنم
( 2 ) قطعة من السحاب الصغار المتفرق
( 3 ) جبل في المدينة
( 4 ) عزاليها : جمع عزلاء وهو فم المزادة الأسفل وفيه تشبيه غزارة المطر وشدته بالماء الخارج من أفواه القرب المصبوبة



[ ما تقلع ] ( 1 ) [ حتى سالت مثاعب المدينة ] ( 2 ) [ وفي رواية : فلا والله ما رأينا الشمس ستا ]
وقام ذلك الأعرابي أو غيره [ وفي رواية : ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه و سلم قائم يخطب فاستقبله قائما ] فقال : يا رسول الله تهدم البناء [ وفي رواية : تهدمت البيوت . وتقطعت السبل وهلكت المواشي ] [ وفي طريق : بشق المسافر ( 3 ) . ومنع الطريق ] وغرق المال فادع الله [ يحبسه ] لنا [ فتبسم النبي صلى الله عليه و سلم ] فرفع يديه فقال : اللهم حوالينا ولا علينا [ اللهم على رؤوس الجبال والإكام [ والظراب ] ( 4 ) وبطون الأودية ومنابت الشجر ] فما [ جعل ] يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت مثل الجوبة ( 5 ) [ وفي رواية : فنظرت إلى السحاب تصدع حول المدينة [ يمينا وشمالا ] كأنه إكليل ] [ وفي أخرى : فانجابت ] ( 6 ) عن المدينة انجياب الثوب ] [ يمطر ما حوالينا ولا يمطر فيها شيء [ وفي طريق : قطرة ] [ وخرجنا نمشي في الشمس ] يريهم الله

كرامة نبيه صلى الله عليه و سلم وإجابة دعوته ] . وسال الوادي [ وادي ] قناة شهرا ولم يجئ أحد من ناحية إلى حدث بالجود ) ( 1 )
ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أيضا ( 2 ) :
( صحيح ) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس ابن عبد المطلب فقال : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه و سلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال : فيسقون
ومعنى قول عمر : إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه و سلم وإنا نتوسل إليك بعم نبينا أننا كنا نقصد نبينا صلى الله عليه و سلم ونطلب منه أن يدعو لنا ونتقرب إلى الله بدعائه والآن وقد انتقل صلى الله عليه و سلم إلى الرفيق الأعلى ولم يعد من الممكن أن يدعو لنا فإننا نتوجه إلى عم نبينا العباس ونطلب منه أن يدعو لنا وليس معناه أنهم كانوا يقولون في دعائهم :
اللهم بجاه نبيك اسقنا ثم أصبحوا يقولون بعد وفاته صلى الله عليه و سلم : اللهم بجاه العباس اسقنا لأن مثل هذا دعاء مبتدع ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة ولم يفعله أحد من السلف الصالح رضوان
الله تعالى عليهم كما سيأتي الكلام على ذلك بشيء من البسط قريبا إن شاء الله تعالى
ومن ذلك أيضا ما رواه الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في ( تاريخه ) بسند صحيح ( 1 ) عن التابعي الجليل سليم ابن عامر الحبائري :
( صحيح ) ( أن السماء قحطت فخرج معاوية بن أبي سفيان وأهل دمشق يستسقون فلما قعد معاوية على المنبر قال : أين يزيد بن الأسود الحرشي ؟ فناداه الناس فأقبل يتخطى الناس فأمره معاوية فصعد على المنبر فقعد عند رجليه فقال معاوية : اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بخيرنا وأفضلنا اللهم إنا نستشفع إليك اليوم بيزيد بن الأسود الحرشي يا زيد ارفع يديك إلى الله فرفع يديه ورفع الناس أيديهم فما كان أوشك أن ثارت سحابة في الغرب كأنها ترس وهبت لها ريح فسقتنا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم )
وروى ابن عساكر أيضا بسند صحيح أن الضحاك بن قيس خرج يستسقي بالناس فقال ليزيد بن الأسود أيضا : قم يا بكاء ( زاد في رواية : فما دعا إلا ثلاثا حتى أمطروا مطرا كادوا يغرقون منه )
فهذا معاوية رضي الله عنه أيضا لا يتوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم لما سبق
( 1 ) ما تقلع : أي ما تنقطع
( 2 ) أي مجاري المياه
( 3 ) أي قطع به السير
( 4 ) الإكام : جمع أكمة وهو التراب المتجمع و ( الظراب ) جمع ( ظرب ) . وهو الجبل المنبسط ليس بالعالي
( 5 ) هي الحفرة المستديرة الواسعة
( 6 ) أي انكشفت



بيانه وإنما يتوسل بهذا الرجل الصالح : يزيد بن الأسود رحمه الله تعالى فيطلب منه أن يدعو الله تعالى ليسقيهم ويغيثهم . ويستجيب الله تبارك وتعالى طلبه . وحدث مثل هذا وفي ولاية الضحاك ابن قيس أيضا
بطلان التوسل بما عدا الأنواع الثلاثة السابقة :
فمما سبق تعلم أن التوسل المشروع الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وجرى عليه عمل السلف الصالح وأجمع عليه المسلمون هو :

1 - التوسل باسم من أسمائه الله تبارك وتعالى أو صفة من صفاته

2 - التوسل بعمل صالح قام به الداعي

3 - التوسل بدعاء رجل صالح
وأما ما عدا هذه الأنواع من التوسلات ففيه خلاف والذي نعتقده وندين الله تعالى أنه غير جائز ولا مشروع لأنه لم يرد فيه دليل تقوم به الحجة وقد أنكره العلماء المحققون في العصور الإسلامية المتعاقبة مع أنه قد قال ببعضه بعض الأئمة فأجاز الإمام أحمد التوسل بالرسول صلى الله عليه و سلم وحده فقط وأجاز غيره كالإمام الشوكاني التوسل به وبغيره من الأنبياء والصالحين ولكننا - كشأننا في جميع الأمور الخلافية - ندور مع الدليل حيث دار ولا نتعصب للرجال ولا ننحاز لأحد إلا للحق كما نراه ونعتقده وقد رأينا في قضية التوسل التي نحن بصددها الحق مع الذين حظروا التوسل بمخلوق ولم نر لمجيزيه دليلا صحيحا يعتد به ونحن نطالبهم بأن يأتونا بنص صحيح صريح من الكتاب أو السنة فيه التوسل بمخلوق وهيهات أن يجدوا شيئا يؤيد ما يذهبون إليه أو يسند ما يدعونه اللهم إلا شبها واحتمالات سنعرض للرد عليها بعد قليل
فهذه الأدعية الواردة في القرآن الكريم وهي كثيرة لا نجد في شيء منها التوسل بالجاه أو الحرمة أو الحق أو المكانة لشيء من المخلوقات وهاك بعض هذه الأدعية الكريمة على سبيل المثال : يقول ربنا رجل شأنه معلما إيانا ما ندعو به ومرشدا : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وأعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } [ البقرة : 286 ] . ويقول : { فقالوا : على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين } [ البقرة : 201 ] . ويقول : { وإذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } { رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء . ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } [ إبراهيم : 35 - 41 ] . ويقول على لسان موسى عليه السلام : { قال : رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي . . . } [ طه : 25 - 28 ] . ويقول سبحانه : { والذين يقولون : ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما . . } . . [ الفرقان : 65 ] إلى آخر ما هنالك من الأدعية القرآنية الكريمة وبعضها مما يعلمنا الله تعالى أن ندعو بها ابتداء وبعضها مما يحكيه سبحانه عن بعض أنبيائه ورسله أو بعض عباده وأوليائه وواضح أنه ليس في شيء منها ذاك التوسل المبتدع الذي يدندن حوله المتعصبون ويخاصم فيه المخالفون
وإذا انتقلنا إلى السنة الشريفة لنطلع منها على أدعية النبي صلى الله عليه و سلم التي ارتضاها الله تعالى له وعلمه إياها وأرشدنا إلى فضلها وحسنها نراها مطابقة لما في أدعية القرآن السالفة من حيث خلوها من التوسل المبتدع المشار إليه وهاك بعض تلك الأدعية النبوية المختارة :
فمنها دعاء الاستخارة المشهور الذي كان النبي صلى الله عليه و سلم يعلمه أصحابه إذا هموا بأمر كما كان يعلمهم القرآن وهو :
( صحيح ) ( اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضل العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب

اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به ) ( 1 )
ومنها :
( صحيح ) ( اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر ) ( 2 )
( صحيح الإسناد ) ( اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي . . . ) ( 3 ) . و :
( صحيح ) ( اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ) ( 4 ) . و :
( حسن ) ( اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك . . . . ) ( 5 ) . و :
( حسن لغيره ) ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد نعوذ بك من النار ) ( 6 ) . ومثل هذه الأدعية

1 ) رواه البخاري بنحوه وهو في ( مختصر البخاري ) برقم ( 605 )
( 2 ) رواه مسلم وهو مخرج في ( الروض النضير - 1112 )
( 3 ) رواه النسائي بإسناد صحيح وهو مخرج في ( تخريج الكلم الطيب - 105 )
( 4 ) رواه مسلم وهو مخرج في ( تخريج فقه السيرة - 481 )
( 5 ) رواه الترمذي وحسنه وهو كما قال وانظره بتمامه مع تخريجه في ( تخريج الكلم - 225 )
( 6 ) رواه الحاكم والطبراني وإسناده حسن لغيره كما بينته في ( السلسلة الصحيحة - 1544 )



( عن أبي حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به والدعاء المأذون فيه المأمور به ما استفيد من قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } . . )
ونحوه في الفتاوى الهندية ( 5 / 280 ) . وقال القدوري ( 1 ) في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي في ( باب الكراهة ) :
( قال بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف قال أبو حنيفة : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن يقول : بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك وهو قول أبي يوسف قال أبو يوسف : معقد العز من عرشه وهو الله فلا أكره هذا وأكره أن يقول : بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام قال القدوري : المسألة بخلقه ( 2 ) لا تجوز لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز وفاقا ) . نقله شيخ الإسلام في ( القاعدة الجليلة ) وقال الزبيدي في ( شرح الإحياء - 2 / 285 ) : ( كره أبو حنيفة وصاحباه أن يقول الرجل : أسألك بحق فلان أو بحق أنبياءك ورسلك أو بحق البيت الحرام والمشعر الحرام ونحو ذلك إذ ليس لأحد على الله حق وكذلك كره أبو حنيفة ومحمد أن يقول الداعي

اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك وأجازه أبو يوسف لما بلغه الأثر فيه ) ( 1 )
أقول : لكن الأثر المشار إليه باطل لا يصح رواه ابن الجوزي في ( الموضوعات ) وقال : ( هذا حديث موضوع بلا شك ) وأقره الحافظ الزيلعي في ( نصب الراية - / 273 ) فلا يحتج به

( 1 ) ما تقلع : أي ما تنقطع
( 2 ) أي مجاري المياه
( 3 ) أي قطع به السير
( 4 ) الإكام : جمع أكمة وهو التراب المتجمع و ( الظراب ) جمع ( ظرب ) . وهو الجبل المنبسط ليس بالعالي
( 5 ) هي الحفرة المستديرة الواسعة
( 6 ) أي انكشفت



بيانه وإنما يتوسل بهذا الرجل الصالح : يزيد بن الأسود رحمه الله تعالى فيطلب منه أن يدعو الله تعالى ليسقيهم ويغيثهم . ويستجيب الله تبارك وتعالى طلبه . وحدث مثل هذا وفي ولاية الضحاك ابن قيس أيضا
بطلان التوسل بما عدا الأنواع الثلاثة السابقة :
فمما سبق تعلم أن التوسل المشروع الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وجرى عليه عمل السلف الصالح وأجمع عليه المسلمون هو :

1 - التوسل باسم من أسمائه الله تبارك وتعالى أو صفة من صفاته

2 - التوسل بعمل صالح قام به الداعي

3 - التوسل بدعاء رجل صالح
وأما ما عدا هذه الأنواع من التوسلات ففيه خلاف والذي نعتقده وندين الله تعالى أنه غير جائز ولا مشروع لأنه لم يرد فيه دليل تقوم به الحجة وقد أنكره العلماء المحققون في العصور الإسلامية المتعاقبة مع أنه قد قال ببعضه بعض الأئمة فأجاز الإمام أحمد التوسل بالرسول صلى الله عليه و سلم وحده فقط وأجاز غيره كالإمام الشوكاني التوسل به وبغيره من الأنبياء والصالحين ولكننا - كشأننا في جميع الأمور الخلافية - ندور مع الدليل حيث دار ولا نتعصب للرجال ولا ننحاز لأحد إلا للحق كما نراه ونعتقده وقد رأينا في قضية التوسل التي نحن بصددها الحق مع الذين حظروا التوسل بمخلوق ولم نر لمجيزيه دليلا صحيحا يعتد به ونحن نطالبهم بأن يأتونا بنص صحيح صريح من الكتاب أو السنة فيه التوسل بمخلوق وهيهات أن يجدوا شيئا يؤيد ما يذهبون إليه أو يسند ما يدعونه اللهم إلا شبها واحتمالات سنعرض للرد عليها بعد قليل
فهذه الأدعية الواردة في القرآن الكريم وهي كثيرة لا نجد في شيء منها التوسل بالجاه أو الحرمة أو الحق أو المكانة لشيء من المخلوقات وهاك بعض هذه الأدعية الكريمة على سبيل المثال : يقول ربنا رجل شأنه معلما إيانا ما ندعو به ومرشدا : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وأعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } [ البقرة : 286 ] . ويقول : { فقالوا : على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين } [ البقرة : 201 ] . ويقول : { وإذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } { رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء . ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } [ إبراهيم : 35 - 41 ] . ويقول على لسان موسى عليه السلام : { قال : رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي . . . } [ طه : 25 - 28 ] . ويقول سبحانه : { والذين يقولون : ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما . . } . . [ الفرقان : 65 ] إلى آخر ما هنالك من الأدعية القرآنية الكريمة وبعضها مما يعلمنا الله تعالى أن ندعو بها ابتداء وبعضها مما يحكيه سبحانه عن بعض أنبيائه ورسله أو بعض عباده وأوليائه وواضح أنه ليس في شيء منها ذاك التوسل المبتدع الذي يدندن حوله المتعصبون ويخاصم فيه المخالفون
وإذا انتقلنا إلى السنة الشريفة لنطلع منها على أدعية النبي صلى الله عليه و سلم التي ارتضاها الله تعالى له وعلمه إياها وأرشدنا إلى فضلها وحسنها نراها مطابقة لما في أدعية القرآن السالفة من حيث خلوها من التوسل المبتدع المشار إليه وهاك بعض تلك الأدعية النبوية المختارة :
فمنها دعاء الاستخارة المشهور الذي كان النبي صلى الله عليه و سلم يعلمه أصحابه إذا هموا بأمر كما كان يعلمهم القرآن وهو :
( صحيح ) ( اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضل العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب

اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري وعاجله وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به ) ( 1 )
ومنها :
( صحيح ) ( اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر ) ( 2 ) ( 1 ) إنما أكثرت هذه النقول لأن كثيرين من متعصبة الحنفية وغيرهم ينكرون صحة هذا القول عن أبي حنيفة رحمه الله وإذا كان مثل هذا القول لا يصح عنه فليس هناك في كتب الفقه شيء يصح عنه مطلقا كما لا يخفى على الفقيه العالم بطريقة نقل أقوال الأئمة الحنفية في كتب المذهب
ومن غرائب بعضهم أنهم إذا جوبهوا بقول الإمام أبي حنيفة هذا صرحوا بأنهم غير ملزمين به لأنه مخالف للحديث لأنه قد صح - بزعمهم - الحديث بدعاء الله بغيره كما في حديث أصحاب الغار وحديث بريدة وقد تقدما ص 23 - 35 ، ويفسرونهما على غير الوجه الصحيح يقولون هذا مع أنهم في منهجهم العام وسبيلهم المعروف غارقون في التقليد إلى آذانهم ويعرضون عن أي حديث صحيح الإسناد صريح الدلالة إذا كان مخالفا لمذهبهم فما بالهم يعودون إلى منهجنا هذا حيثما سدت في وجوههم سبل الرد علينا من المذهب ؟ ترى هل هذا تناقض منهم أو غفلة أم هم { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } ليردوا الحق الذي نص عليه إمام مذهبهم لأنه يوافق ما ندعوهم إليه من ترك التوسل بالذات إلى التوسل بالله تعالى وصفاته ؟
وليت شعري هل هم مستعدون لأن يكون العمل بما صح به من الحديث منهجهم في فقهم كله حتى نطالبهم بعشرات بل بمئات الأحاديث الصحيحة التي خالفوها إلى مذهبهم وبذلك تتفق وجهة نظرهم مع وجهة نظرنا أم سيكون شأنهم اتباع الحديث ومخالفة المذهب إذا وافق ذلك الهوى والغرض والتمسك بالمذهب ومخالفة الحديث إذا لم يوافق ذلك الهوى والغرض
وأما احتجاجهم بحديث بريدة وحديث أصحاب الغار فمردود لأنهما صريحان في التوسل بالعمل الصالح وهو الشهادة بالتوحيد في الحديث الأول وبر الوالدين والعفة عن الحرام والإحسان إلى الأجير في الحديث الثاني ونحن قد قلنا بذلك ولم نتعصب لقول أبي حنيفة السابق الذي ينفي ظاهره هذا النوع من التوسل ولا يلزمنا نحن الأخذ به إذا خالف الحديث لأن الحديث مقدم عندنا على قوله وما الخلاف بيننا وبين المقلدة إلا لهذا فيما يظهرون ( والله أعلم بما يكتمون ) وأما تسميتهم هذا التوسل بدعاء الله بغيره فهي من تدليساتهم الباطلة ومغالطاتهم المكشوفة كما لا يخفى على ذوي الألباب
كان قول القائل : ( أسألك بمعاقد العز من عرشك ) يعود إلى التوسل بصفة من صفات الله عز و جل فهو توسل مشروع بأدلة أخرى كما سبق تغني عن هذا الحديث الموضوع . قال ابن الأثير رحمه الله : ( أسألك بمعاقد العز من عرشك أي بالخصال التي استحق بها العرش العز أو بمواضع انعقادها منه وحقيقة معناه : بعز عرشك وأصحاب أبي حنيفة يكرهون هذا اللفظ من الدعاء )
فعلى الوجه الأول من هذا الشرح وهو الخصال التي استحق بها العرش العز يكون توسلا بصفة من صفات الله تعالى فيكون جائزا وأما على الوجه الثاني الذي هو مواضع انعقاد العز من العرش فهو توسل بمخلوق فيكون غير جائز وعلى كل فالحديث لا يستحق زيادة في البحث والتأويل بعدم ثبوته فنكتفي بما سبق
( صحيح الإسناد ) ( اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي . . . ) ( 3 ) . و :
( صحيح ) ( اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ) ( 4 ) . و :
( حسن ) ( اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك . . . . ) ( 5 ) . و :
( حسن لغيره ) ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ومحمد نعوذ بك من النار ) ( 6 ) . ومثل هذه الأدعية

1 ) رواه البخاري بنحوه وهو في ( مختصر البخاري ) برقم ( 605 )
( 2 ) رواه مسلم وهو مخرج في ( الروض النضير - 1112 )
( 3 ) رواه النسائي بإسناد صحيح وهو مخرج في ( تخريج الكلم الطيب - 105 )
( 4 ) رواه مسلم وهو مخرج في ( تخريج فقه السيرة - 481 )
( 5 ) رواه الترمذي وحسنه وهو كما قال وانظره بتمامه مع تخريجه في ( تخريج الكلم - 225 )
( 6 ) رواه الحاكم والطبراني وإسناده حسن لغيره كما بينته في ( السلسلة الصحيحة - 1544 )

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 10:27 PM

الفصل الرابع
شبهات والجواب عليها
يورد المخالفون في هذا الموضوع بعض الاعتراضات والشبهات ليدعموا رأيهم الخاطئ ويوهموا العامة بصحته ويلبسوا الأمر عليهم وأعرض فيما يلي هذه الشبهات واحدة إثر واحدة وأراد عليها ردا علميا مقنعا إن شاء الله بما يقرر ما بينته في الفصل السابق وينسجم معه ويقنع كل مخلص منصف ويدحض كل افتراء علينا بالباطل وبالله تعالى وحده التوفيق وهو المستعان
الشبهة الأولى :
حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما
يحتجون على جواز التوسل بجاه الأشخاص وحرمتهم وحقهم بحديث أنس السابق
( صحيح ) ( أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا . قال : فيسقون ) فيفهمون من هذا الحديث أن توسل عمر رضي الله عنه إنما كان بجاه العباس رضي الله عنه ومكانته عند الله سبحانه وأن توسله كأنه مجرد ذكر منه للعباس في دعائه وطلب منه لله أن يسقيهم من أجله وقد أقره الصحابة على ذلك فأفاد بزعمهم ما يدعون . وأما سبب عدول عمر رضي الله عنه عن التوسل بالرسول صلى الله عليه و سلم - بزعمهم - وتوسله بدلا منه بالعباس رضي الله عنه عنه فإنما كان لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل ليس غير
وفهمهم هذا خاطئ وتفسيرهم هذا مردود من وجوه كثيرة أهمها :
- إن من القواعد المهمة في الشريعة الإسلامية أن النصوص الشرعية يفسر بعضها بعضا ولا يفهم شيء منها في موضوع ما بمعزل عن بقية النصوص الواردة فيه . وبناء على ذلك فحديث توسل عمر السابق إنما يفهم على ضوء ما ثبت من الروايات والأحاديث الواردة في التوسل بعد جمعها وتحقيقها ونحن والمخالفون متفقون على أن في كلام عمر : ( كنا نتوسل إليك بنبينا . . وإنا نتوسل إليك بعم نبينا ) شيئا محذوفا لا بد له من تقدير وهذا التقدير إما أن يكون : ( كنا نتوسل إليك ب ( جاه ) نبينا وإنا نتوسل إليك ب ( جاه ) عم نبينا ) على رأيهم هم أو يكون : ( كنا نتوسل إليك ب ( دعاء ) نبينا وإنا نتوسل إليك ب ( دعاء ) عم نبينا ) على رأينا نحن ولا بد من الأخذ بواحد من هذين التقديرين ليفهم الكلام بوضوح وجلاء
ولنعرف أي التقديرين صواب لا بد من اللجوء إلى السنة لتبين لنا طريقة توسل الصحابة الكرام بالنبي صلى الله عليه و سلم
ترى هل كانوا إذا أجدبوا وقحطوا قبع كل منهم في داره أو في مكان آخر أو اجتمعوا دون أن يكون معهم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم دعوا ربهم قائلين : ( اللهم بنبيك محمد وحرمته عندك ومكانته لديك اسقنا الغيث ) . مثلا أم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه و سلم ذاته فعلا ويطلبون منه أن يدعو الله تعالى لهم فيحقق صلى الله عليه و سلم طلبتهم ويدعو ربه سبحانه ويتضرع إليه حتى يسقوا ؟
أما الأمر الأول فلا وجود له إطلاقا في السنة النبوية الشريفة وفي عمل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ولا يستطيع أحد من الخلفيين أو الطرقيين أن يأتي بدليل يثبت أن طريقة توسلهم كانت بأن يذكروا في أدعيتهم اسم النبي صلى الله عليه و سلم ويطلبوا من الله بحقه وقدره عنده ما يريدون . بل الذي نجده بكثرة وتطفح به كتب السنة هو الأمر الثاني إذ تبين أن طريقة توسل الأصحاب الكرام بالنبي صلى الله عليه و سلم إنما كانت إذا رغبوا في قضاء حاجة أو كشف نازلة أن يذهبوا إليه صلى الله عليه و سلم ويطلبوا منه مباشرة أن يدعو لهم ربه أي أنهم كانوا يتوسلون إلى الله تعالى بدعاء الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم ليس غير ويرشد إلى ذلك قوله تبارك وتعالى : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } [ النساء : 64 ]
ومن أمثلة ذلك ما مر معنا في حديث أنس السابق الذي ذكر فيه مجيء الأعرابي إلى المسجد يوم الجمعة حيث كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب وعرضه له ضنك حالهم وجدب أرضهم وهلاك ماشيتهم وطلبه منه أن يدعو الله سبحانه لينقذهم مما هم فيه فاستجاب له صلى الله عليه و سلم وهو الذي وصفه ربه بقوله : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } [ التوبة : 128 ] فدعا صلى الله عليه و سلم لهم ربه واستجاب سبحانه دعاء نبيه ورحم عباده ونشر رحمته وأحيا بلدهم الميت
ومن ذلك أيضا مجيء الأعرابي السابق نفسه أو غيره إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو يخطب الجمعة التالية وشكواه له انقطاع الطرقات وتهدم البنيان وهلاك المواشي وطلبه منه أن يدعو لهم ربه ليمسك عنهم الأمطار وفعل صلى الله عليه و سلم فاستجاب له ربه جل شأنه أيضا
ومن ذلك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنه حيث قالت : شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه . قالت : فخرج
رسول الله صلى الله عليه و سلم حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله ثم قال :
( حديث غريب وإسناده جيد ) ( إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم . . ) الحديث ( 1 ) وفيه أنه صلى الله عليه و سلم دعا الله سبحانه وصلى بالناس فأغاثهم الله تعالى حتى سالت السيول وانطلقوا إلى بيوتهم مسرعين فضحك الرسول صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه وقال : ( أشهد أن الله على كل شيء قدير وأني عبد الله ورسوله )
فهذه الأحاديث وأمثالها مما وقع زمن النبي صلى الله عليه و سلم وزمن أصحابه الكرام رضوان الله تعالى عليهم تبين بما لا يقبل الجدال أو المماراة أن التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم أو بالصالحين الذي كان عليه السلف الصالح هو مجيء المتوسل إلى المتوسل به وعرضه حاله له وطلبه منه أن يدعو له الله سبحانه ليحقق طلبه فيستجيب هذا له ويستجيب من ثم الله سبحانه وتعالى

2 - وهذا الذي بيناه من معنى الوسيلة هو المعهود في حياة الناس وفي استعمالهم فإنه إذا كانت لإنسان حاجة ما عند مدير أو رئيس أو موظف مثلا فإنه يبحث عمن يعرفه ثم يذهب إليه ويكلمه ويعرض له حاجته فيفعل وينقل هذا الوسيط رغبته إلى الشخص المسؤول فيقضيها له غالبا . فهذا هو التوسل المعروف عند العرب منذ القديم وما يزال فإذا قال أحدهم : إني توسلت
إلى فلان فإنما يعني أنه ذهب إلى الثاني وكلمه في حاجته ليحدث بها الأول ويطلب منه قضاءها ولا يفهم أحد من ذلك أنه ذهب إلى الأول وقال له : بحق فلان ( الوسيط ) عندك ومنزلته لديك اقض لي حاجتي
وهكذا فالتوسل إلى الله عز و جل بالرجل الصالح ليس معناه التوسل بذاته وبجاهه وبحقه بل هو التوسل بدعائه وتضرعه واستغاثته به سبحانه وتعالى وهذا هو بالتالي معنى قول عمر رضي الله عنه : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا . أي : كنا إذا قل المطر مثلا نذهب إلى النبي صلى الله عليه و سلم ونطلب منه أن يدعو لنا الله جل شأنه - ويؤكد هذا ويوضحه تمام قول عمر رضي الله عنه : ( وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ) . أي إننا بعد وفاة نبينا جئنا بالعباس عم النبي صلى الله عليه و سلم وطلبنا منه أن يدعو لنا ربنا سبحانه ليغيثنا
ترى لماذا عدل عمر رضي الله عنه عن التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه مع العلم أن العباس مهما كان شأنه ومقامه فإنه لا يذكر أما شأن النبي صلى الله عليه و سلم ومقامه ؟
أما الجواب برأينا فهو : لأن التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم غير ممكن بعد وفاته فأنى لهم أن يذهبوا إليه صلى الله عليه و سلم ويشرحوا له حالهم ويطلبوا منه أن يدعو لهم ويؤمنوا على دعائه وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلى وأضحى في حال يختلف عن حال الدنيا وظروفها مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى فأنى لهم أن يحظوا بدعائه صلى الله عليه و سلم وشفاعته فيهم وبينهم وبينه كما قال الله عز شأنه : { ومن روائهم برزخ إلى يوم يبعثون } ؟ [ المؤمنون : 100 ]
ولذلك لجأ عمر رضي الله عنه وهو العربي الأصيل الذي صحب النبي صلى الله عليه و سلم ولازمه في أكثر أحواله وعرفه حق المعرفة وفهم دينه حق الفهم ووافقه القرآن في مواضع عدة لجأ إلى توسل ممكن فاختار العباس رضي الله عنه لقرابته من النبي صلى الله عليه و سلم من ناحية ولصلاحه ودينه وتقواه من ناحية أخرى وطلب منه أن يدعو لهم بالغيث والسقيا . وما كان لعمر ولا لغير عمر أن يدع التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم ويلجأ إلى التوسل بالعباس أو غيره لو كان التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم ممكنا وما كان من المعقول أن يقر الصحابة رضوان الله عليهم عمر على ذلك أبدا لأن الانصراف عن التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم إلى التوسل بغيره ما هو إلا كالانصراف عن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم في الصلاة إلى الاقتداء بغيره سواء بسواء ذلك أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يعرفون قدر نبيهم صلى الله عليه و سلم ومكانته وفضله معرفة لا يدانيهم فيها أحد كما نرى ذلك واضحا في الحديث الذي رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه :
( صحيح ) أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال : أتصلي بالناس فأقيم ؟ قال : فصلى أبو بكر فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن امكث مكانك فرفع أبو بكر يديه فحمد الله عز و جل على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه و سلم من ذلك ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم النبي صلى الله عليه و سلم فصلى ثم انصرف فقال : يا أبا بكر : ما منعك أن تثبت إذ أمرتك ؟ قال أبو بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ) ( 1 )
فأنت ترى أن الصحابة رضي الله عنهم لم يستسيغوا الاستمرار على الاقتداء بأبي بكر رضي الله عنه في صلاته عندما حضر الرسول صلى الله عليه و سلم كما أن أبا بكر رضي الله عنه نفسه لم تطاوعه نفسه على الثبات في مكانه مع أمر النبي صلى الله عليه و سلم له بذلك لماذا ؟ كل ذلك لتعظيمهم نبيهم صلى الله عليه و سلم وتأدبهم معه ومعرفتهم حقه وفضله فإذا كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لم يرتضوا الاقتداء بغير النبي صلى الله عليه و سلم عندما أمكن ذلك مع أنهم كانوا بدؤوا الصلاة في حال غيابه صلى الله عليه و سلم عنهم فكيف يتركون التوسل صلى الله عليه و سلم أيضا بعد وفاته لو كان ذلك ممكنا ويلجؤون إلى التوسل بغيره ؟ وكما لم يقبل أبو بكر أن يؤم المسلمين فمن البدهي أن لا يقبل العباس أيضا أن يتوسل الناس به ويدعوا التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم لو كان ذلك ممكنا

يزعم أنه صلى الله عليه و سلم في قبره حي كحياتنا لأنه لو كان ذلك كذلك لما كان ثمة وجه مقبول لانصرافهم عن الصلاة وراءه صلى الله عليه و سلم إلى الصلاة وراء غيه ممن لا يدانيه أبدا في منزلته وفضله . ولا يعترض أحد على ما قررته بأنه قد ورد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( أنا في قبري حي طري من سلم علي سلمت عليه ) وأنه يستفاد منه أنه صلى الله عليه و سلم حي مثل حياتنا . فإذا توسلنا به سمعنا واستجاب لنا فيحصل مقصودنا وتتحقق رغبتنا . وأنه لا فرق في ذلك بين حاله صلى الله عليه و سلم في حياته وبين حاله بعد وفاته أقول : لا يعترض أحد بما سبق لأنه مردود من وجهين :
الأول حديثي : وخلاصته أن الحديث المذكور لا أصل له بهذا اللفظ كما أن لفظة ( طري ) لا وجود لها في شيء من كتب السنة إطلاقا ولكن معناه قد ورد في عدة أحاديث صحيحة منها قوله صلى الله عليه و سلم : ( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثر علي الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي ) قالوا : يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ ( قال : يقولون : بليت ) قال :
( صحيح الإسناد ) ( إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء ) ( 1 ) . ومنها قوله صلى الله عليه و سلم :
( صحيح الإسناد ) ( الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون ) ( 2 ) . وقوله صلى الله عليه و سلم :
( صحيح ) ( مررت ليلة أسري بي على موسى قائما يصلي في قبره ) ( 1 ) . وقوله :
( صحيح ) ( إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام ) ( 2 )
الجواب الثاني فقهي : وفحواه أن حياته صلى الله عليه و سلم بعد وفاته مخالفة لحياته قبل الوفاة ذلك أن الحياة البرزخية غيب من الغيوب ولا يدري كنهها إلا الله سبحانه وتعالى ولكن من الثابت والمعلوم أنها تختلف عن الحياة الدنيوية ولا تخضع لقوانينها فالإنسان في الدنيا يأكل ويشرب ويتنفس ويتزوج ويتحرك ويتبرز ويمرض وتكلم ولا أحد يستطيع أن يثبت أن أحدا بعد الموت حتى الأنبياء عليهم السلام وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه و سلم تعرض له هذه الأمور بعد موته
ومما يؤكد هذا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في مسائل كثيرة بعد وفاته ولم يخطر في بال أحد منهم الذهاب إليه صلى الله عليه و سلم في قبره ومشاورته في ذلك وسؤاله عن الصواب فيها لماذا ؟ إن الأمر واضح جدا وهو أنهم كلهم يعلمون أنه صلى الله عليه و سلم انقطع عن الحياة الدنيا ولم تعد تنطبق عليه أحوالها ونواميسها فرسول الله صلى الله عليه و سلم بعد موته حي أكمل حياة يحياها إنسان في البرزخ
ولكنها حياة خاصة لا تشبه حياة الدنيا ولعل مما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه و سلم :
( حسن الإسناد ) ( ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ) ( 1 )
وعلى كل حال فإن حقيقتها لا يدريها إلا الله سبحانه وتعالى . ولذلك فلا يجوز قياس الحياة البرزخية أو الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية كما لا يجوز أن تعطى واحدة منها أحكام الأخرى بل لكل منها شكل خاص وحكم معين ولا تتشابه إلا في الاسم أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى
ونعود بعد هذا التنبيه إلى ما كنا فيه من الرد على المخالفين في حديث توسل عمر بالعباس فنقول : إن تعليلهم لعدول عمر رضي الله تعالى عنه عن التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه بأنه لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل وهو تعليل مضحك وعجيب . إذ كيف يمكن أن يخطر في بال عمر رضي الله عنه أو في بال غيره من الصحابة الكرام رضي الله عنهم تلك الحذلقة الفقهية المتأخرة وهو يرى الناس في حالة شديدة من الضنك والكرب والشقاء والبؤس يكادون يموتون جوعا وعطشا لشح الماء وهلاك الماشية وخلوا الأرض من الزرع والخضرة حتى سمي ذاك العام بعام الرمادة كيف يرد في خاطره تلك الفلسفة الفقهية في هذا الظرف العصيب فيدع الأخذ بالوسيلة الكبرى في دعائه . وهي التوسل بالنبي الأعظم صلى الله عليه و سلم لو كان ذلك جائزا ويأخذ بالوسيلة الصغرى التي لا تقارن بالأولى وهي التوسل بالعباس لماذا ؟ لا لشيء إلا ليبين للناس أنه يجوز لهم التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل
إن المشاهد والمعلوم أن الإنسان إذا حلت به شدة يلجأ إلى أقوى وسيلة عنده في دفعها ويدع الوسائل الأخرى لأوقات الرخاء . وهذا كان يفهمه الجاهليون المشركون أنفسهم إذ كانوا يدعون أصنامهم في أوقات اليسر ويتركونها ويدعون الله تعالى وحده في أوقت العسر كما قال تبارك وتعالى : { حتى إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } [ العنكبوت : 265 ( والفلك : السفن ) ]
فنعلم من هذا أن الإنسان بفطرته يستنجد بالقوة العظمى والوسيلة الكبرى حين الشدائد والفواقر وقد يلجأ إلى الوسائل الصغرى حين الأمن واليسر وقد يخطر في باله حينذاك أن يبين ذلك الحكم الفقهي الذي افترضوه وهو جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل وأمر آخر نقوله جوابا على شبهة أولئك وهو : هب أن عمر رضي الله عنه خطر في باله أن يبين ذلك الحكم الفقهي المزعوم ترى فهل خطر ذلك في باب معاوية والضحاك بن قيس حين توسلا بالتابعي الجليل : يزيد بن الأسود الجرشي أيضا ؟ لا شك أن هذا ضرب من التمحل والتكلف لا يحسدون عليه

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 10:31 PM

- إننا نلاحظ في حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما أمرا جديرا بالانتباه وهو قوله : ( إن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب ) ففي هذا إشارة إلى تكرر استسقاء عمر بدعاء العباس رضي الله عنهما ففيه حجة بالغة على الذي يتأولون فعل عمر ذلك أنه إنما ترك التوسل به صلى الله عليه و سلم إلى التوسل بعمه رضي الله عنه لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل فإننا نقول : لو كان الأمر كذلك لفعل عمر ذلك مرة واحدة ولما استمر عليه كلما استسقى وهذا بين لا يخفى إن شاء الله تعالى على أهل العلم والإنصاف
5 - لقد فسرت بعض روايات الحديث الصحيحة كلام عمر المذكور وقصده إذ نقلت دعاء العباس رضي الله عنه استجابة لطلب عمر رضي الله عنه فمن ذلك ما نقله الحافظ العسقلاني رحمه الله في الفتح حيث قال : ( قد بين الزبير بن بكار في ( الأنساب ) صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال : ( اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث ) قال : فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس ) الذين يزعمون أن توسل عمر كان بذات العباس لا بدعائه إذ لو كان الأمر كذلك لما كان ثمة حاجة ليقوم العباس فيدعو بعد عمر دعاء جديدا
ثانيا : أن عمر صرح بأنهم كانوا يتوسلون بنبينا صلى الله عليه و سلم في حياته وأنه في هذه الحادثة توسل بعمه العباس ومما لا شك فيه أن التوسلين من نوع واحد : توسلهم بالرسول صلى الله عليه و سلم وتوسلهم بالعباس وإذا تبين للقارئ - مما يأتي - أن توسلهم به صلى الله عليه و سلم إنما كان توسلا بدعائه صلى الله عليه و سلم فتكون النتيجة أن توسلهم بالعباس إنما هو توسل بدعائه أيضا بضرورة أن التوسلين من نوع واحد
أما أن توسلهم به صلى الله عليه و سلم إنما كان توسلا بدعائه فالدليل على ذلك صريح رواية الإسماعيلي في مستخرجه على الصحيح لهذا الحديث بلفظ : ( كانوا إذا قحطوا على عهد النبي صلى الله عليه و سلم استسقوا به فيستسقي لهم فيسقون فلما كان في إمارة عمر . . ) فذكر الحديث نقلته من ( الفتح 2 / 399 ) فقوله : ( فيستسقي لهم ) صريح في أنه صلى الله عليه و سلم كان يطلب لهم السقيا من الله تعالى ففي ( النهاية ) لابن الأثير : ( الاستسقاء استفعال من طلب السقيا إي إنزال الغيث على البلاد والعباد يقال : سقى الله عباده الغيث وأسقاهم والاسم السقيا بالضم واستسقيت فلانا إذا طلبت منه أن يسقيك )
إذا تبين هذا فقوله في هذه الرواية : ( استسقوا به ) أي بدعائه وكذلك قوله في الرواية الأولى : ( كنا نتوسل إليك بنبينا )أي بدعائه لا يمكن أن يفهم من مجموع رواية الحديث إلا هذا . ويؤيده :
ثالثا : لو كان توسل عمر إنما هو بذات العباس أو جاهه عند الله تعالى لما ترك عمر التوسل به صلى الله عليه و سلم بهذا المعنى لأن هذا ممكن لو كان مشروعا فعدول عمر عن هذا إلى التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه أكبر دليل على أن عمر والصحابة الذين كانوا معه كانوا لا يرون التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم وعلى هذا جرى عمل السلف من بعدهم كما رأيت في توسل معاوية بن أبي سفيان والضحاك ابن قيس بيزيد بن الأسود الجرشي وفيهما بيان دعائه بصراحة وجلاء
فهل يجوز أن يجمع هؤلاء كلهم على ترك التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم لو كان جائزا سيما والمخالفون يزعمون أنه أفضل من التوسل بدعاء العباس وغيره ؟ اللهم إن ذلك غير جائز ولا معقول بل إن هذا الإجماع منهم من أكبر الأدلة على أن التوسل المذكور غير مشروع عندهم فإنهم أسمى من أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير
اعتراض ورده :
وأما جواب صاحب ( مصباح الزجاجة في فوائد قضاء الحاجة ) عن ترك عمر التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم بقوله ( ص 25 ) :
( إن عمر لم يبلغه حديث توسل الضرير ولو بلغه لتوسل به )
فهو جواب باطل من وجوب :
الأول : أن حديث الضرير إنما يدل على ما دل عليه توسل عمر هذا من التوسل بالدعاء لا بالذات كما سبق ويأتي بيانه
الثاني : أن توسل عمر لم يكن سرا بل كان جهرا على رؤوس الأشهاد وفيهم كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم فإذا جاز أن يخفى الحديث على عمر فهل يجوز أن يخفى على جميع الموجودين مع عمر من الصحابة ؟
الثالث : أن عمر - كما سبق - كان يكرر هذا التوسل كلما نزل بأهل المدينة خطر أو كلما دعي للاستسقاء كما يدل على ذلك لفظ ( كان ) في حديث أنس السابق ( أن عمر كان إذا قحطوا استسقى بالعباس ) وكذلك روى ابن عباس عن عمر كما ذكره ابن عبد البر في ( الاستيعاب ) ( 3 / 98 ) فإذا جاز أن يخفى ذلك عليه أول مرة أفيجوز أن يستمر على الجهل به كلما استسقى بالعباس وعنده المهاجرون والأنصار وهم سوت لا يقدمون إليه ما عندهم من العلم بحديث الضرير ؟ اللهم إن هذا الجواب ليتضمن رمي الصحابة جميعهم بالجهل بحديث الضرير مطلقا أو على الأقل بدلالته على جواز التوسل بالذات والأول باطل لا يخفى بطلانه والثاني حق فإن الصحابة لو كانوا يعلمون أن حديث الضرير يدل على التوسل المزعوم لما عدلوا عن التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم إلى التوسل بدعاء العباس كما سبق
رابعا : أن عمر ليس هو وحده الذي عدل عن التوسل بذاته
صلى الله عليه و سلم إلى التوسل بالدعاء بل تابعه على ذلك معاوية بن أبي سفيان فإنه أيضا عدل إلى التوسع بدعاء يزيد بن الأسود ولم يتوسل به صلى الله عليه و سلم وعنده جماعة من الصحابة وأجلاء التابعين فهل يقال أيضا إن معاوية ومن معه لم يكونوا يعلمون بحديث الضرير ؟ وقل نحو ذلك في توسل الضحاك بن قيس بيزيد هذا أيضا
ثم أجاب صاحب المصباح بجواب آخر وتبعه من لم يوفق من المتعصبين المخالفين فقال : ( إن عمر أراد بالتوسل بالعباس الاقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم في إكرام العباس وإجلاله وقد جاء هذا صريحا عن عمر فروى الزبير بن بكار في ( الأنساب ) من طريق داود بن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر قال : ( استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة بالعباس بن عبد المطلب فخطب عمر فقال : إن رسول صلى الله عليه و سلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا أيها الناس برسوله الله صلى الله عليه و سلم واتخذوه وسيلة إلى الله . . . ) ورواه البلاذري من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه به
والجواب من وجوه أيضا :
الأول : عدم التسليم بصحة هذه الرواية فإنها من طريق داود بن عطاء وهو المدني وهو ضعيف كما في ( التقريب ) ومن طريق الزبير بن بكار عنه رواه الحاكم وسكت عليه وتعقبه الذهبي بقوله : ( داود متروك ) قلت : والراوي عنه ساعدة بن عبيد الله المزني لم أجد من ترجمه ثم إن في السند اضطرابا فقد رواه - كما رأيت - هشام بن سعد
عن زيد بن أسلم فقال : ( عن أبيه ) بدل ابن عمر لكن هشاما أوثق من داود إلا أننا لم نقف على سياقه لننظر هل فيه مخالفة لسياق داود هذا أم لا إلا أننا لم نقف على سياقه لنظر هل فيه مخالفة لسياق داود هذا أم لا ولا تغتر بقولهم في ( المصباح ) عقب هذا الإسناد : ( به ) المفيد أن السياق واحد فإن عمدته فيما نقله عن البلاذري إنما هو ( فتح الباري ) وهو لم يقل : ( به ) . انظر الفتح ( 2 / 399 )
الثاني : لو صحت هذه الرواية فهي إنما تدل على السبب الذي من أجله توسل عمر بالعباس دون غيره من الصحابة الحاضرين حينذاك وأما أن تدل على جواز الرغبة عن التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم - لو كان جائزا عندهم - إلى التوسل بالعباس أي بذاته فكلا ثم كلا لأننا نعلم بالبداهة والضرورة - كما قال بعضهم - أنه لو أصاب جماعة من الناس قحط شديد وأرادوا أن يتوسلوا بأحدهم لما أمكن أن يعدلوا عمن دعاؤه أقرب إلى الإجابة وإلى رحمة الله سبحانه وتعالى ولو أن إنسانا أصيب بمكروه فادح وكان أمامه نبي وآخر غير نبي وأراد أن يطلب الدعاء من أحدهما لما طلبه إلا من النبي ولو طلبه من غير النبي وترك النبي لعد من الآثمين الجاهلين فكيف يظن بعمر ومن معه من الصحابة أن يعدلوا عن التوسل به صلى الله عليه و سلم إلى التوسل بغيره لو كان التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم جائزا فكيف وهو أفضل عند المخالفين من التوسل بدعاء العباس وغيره من الصالحين ؟ لا سيما وقد تكرر ذلك منهم مرارا كما سبق وهم لا يتوسلون به صلى الله عليه و سلم ولا مرة واحدة واستمر الأمر كذلك فلم ينقل عن أحد منهم خلاف ما صنع عمر بل
صح عن معاوية ومن معه ما يوافق صنيعه حيث توسلوا بدعاء يزيد ابن الأسود وهو تابعي جليل فهل يصح أن يقال : إن التوسل به كان اقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم ؟
الحق أقول : إن جريان عمل الصحابة على ترك التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم عند نزول الشدائد بهم - بعد أن كانوا لا يتوسلون بغيره صلى الله عليه و سلم في حياته - لهو من أكبر الأدلة الواضحة على أن التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم غير مشروع وإلا لنقل ذلك عنهم من طرق كثيرة في حوادث متعددة ألا ترى إلى هؤلاء المخالفين كيف يلهجون بالتوسل بذاته صلى الله عليه و سلم لأدنى مناسبة لظنهم أنه مشروع فلو كان الأمر كذلك لنقل مثله عن الصحابة مع العلم أنهم أشد تعظيما ومحبة له صلى الله عليه و سلم من هؤلاء فكيف ولم ينقل عنهم ذلك ولا مرة واحدة بل صح عنهم الرغبة عنه إلى التوسل بدعاء الصالحين ؟
الشبهة الثانية : حديث الضرير
بعد أن فرغنا من تحقيق الكلام في حديث توسل عمر بالعباس رضي الله عنه وبينا أنه ليس حجة للمخالفين بل هو عليهم نشرع الآن في تحقيق القول في حديث الضرير والنظر في معناه : هل هو حجة لهم أم عليهم أيضا ؟ فنقول :
أخرج أحمد وغيره بسند صحيح عن عثمان بن حنيف :
( صحيح الإسناد ) أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ادع الله أن يعافيني . قال : إن شئت دعوت لك وإن شئت أخرت ذاك فهو خير ( وفي رواية : وإن شئت صبرت فهو خير لك ) فقال : ادعه . فأمره
أن يتوضأ فيحسن وضوءه فيصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء :
اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى لي اللهم فشفعه في [ وشفعني فيه ] . قال : ففعل الرجل فبرأ ( 1 )
يرى المخالفون : أن هذا الحديث يدل على جواز التوسل في الدعاء بجاه النبي صلى الله عليه و سلم أو غيره من الصالحين إذ فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم
وفي هذا الحديث : أولا : التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه لا بذاته كما بينه الزبير بن بكار وغيره وفي هذا رد واضح على علم الأعمى أن يتوسل به في دعائه وقد فعل الأعمى ذلك فعاد بصيرا
وأما نحن فنرى أن هذا الحديث لا حجة لهم فيه على التوسل المختلف فيه وهو التوسل بالذات بل هو دليل آخر على النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع الذي أسلفناه لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه . والأدلة على ما نقول من الحديث نفسه كثيرة وأهمها :
أولا : أن الأعمى إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم ليدعو له وذلك قوله : ( ادع الله أن يعافيني ) فهو قد توسل إلى لله تعالى بدعائه صلى الله عليه و سلم لأنه يعلم أن دعاءه صلى الله عليه و سلم أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي صلى الله عليه و سلم أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجه به إلى أن يأتي النبي صلى الله عليه و سلم ويطلب منه الدعاء له بل كان يقعد في بيته ويدعو ربه بأن يقول مثلا : ( اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن تشفيني وتجعلني بصيرا ) . ولكنه لم يفعل لماذا ؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة يذكر فيها اسم المتوسل به بل لا بد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة وطلب الدعاء منه له
ثانيا : أن النبي صلى الله عليه و سلم وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له وهو قوله صلى الله عليه و سلم : ( إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك ) . وهذا الأمر الثاني هو ما أشار إليه صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال :
( صحيح ) ( إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه - أي عينيه - فصبر عوضته منهما الجنة ) ( 1 )
ثالثا : إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله : ( فادع ) فهذا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه و سلم دعا له لأنه صلى الله عليه و سلم خير من وفى بما وعد وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق فقد شاء الدعاء وأصر عليه فإذن لا بد أنه صلى الله عليه و سلم دعا له فثبت المراد وقد وجه النبي صلى الله عليه و سلم الأعمى بدافع من رحمته وبحرص منه على أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه وجهه إلى النوع الثاني من التوسل المشروع وهو التوسل بالعمل الصالح ليجمع له الخير من أطرافه فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى يقدمها بين يدي دعاء النبي صلى الله عليه و سلم له وهي تدخل في قوله تعالى : ( وابتغوا إليه الوسيلة ) كما سبق
وهكذا فلم يكتف الرسول صلى الله عليه و سلم بدعائه للأعمى الذي وعده به بل شغله بأعمال فيها طاعة لله سبحانه وتعالى وقربة إليه ليكون الأمر مكتملا من جميع نواحيه وأقرب إلى القبول والرضا من الله سبحانه وتعالى وعلى هذا فالحادثة كلها تدور حول الدعاء - كما هو ظاهر - وليس فيها ذكر شيء مما يزعمون
وقد غفل عن هذا الشيخ الغماري أو تغافل فقال في ( المصباح ) وإن شئت دعوت . أي وإن شئت علمتك دعاء تدعو به ولقنتك إياه وهذا التأويل واجب ليتفق أول الحديث مع آخره )
قلت : هذا التأويل باطل لوجوه كثيرة منها : أن الأعمى إنما طلب منه صلى الله عليه و سلم أن يدعو له لا أن يعلمه دعاء فإذا كان قوله صلى الله عليه و سلم له : ( وإن شئت دعوت ) جوابا على طلبه تعين أنه الدعاء له ولا بد وهذا المعنى هو الذي يتفق مع آخر الحديث ولذلك رأينا الغماري لم يتعرض لتفسير قوله في آخره : ( اللهم فشفعه في وشفعني فيه ) لأنه صريح في أن التوسل كان بدعائه صلى الله عليه و سلم كما بيناه فيما سلف
ثم قال : ( ثم لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه و سلم دعا للضرير فذلك لا يمنع من تعميم الحديث في غيره ) قلت : وهذه مغالطة مكشوفة لأنه لا أحد ينكر تعميم الحديث في غير الأعمى في حالة دعائه صلى الله عليه و سلم لغيره ولكن لما كان الدعاء منه صلى الله عليه و سلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى غير معلوم بالنسبة للمتوسلين في شتى الحوائج والرغبات وكانوا هم أنفسهم لا يتوسلون بدعائه صلى الله عليه و سلم بعد وفاته لذلك اختلف الحكم وكان هذا التسليم من الغماري حجة عليه
رابعا : أن في الدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه و سلم إياه أن يقول : ( اللهم فشفعه في ) ( 1 ) وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 10:34 PM

أو جاهه أو حقه إذ أن المعنى : اللهم أقبل شفاعته صلى الله عليه و سلم في أي اقبل دعاءه في أن ترد علي بصري والشفاعة لغة الدعاء وهو المراد بالشفاعة الثابتة له صلى الله عليه و سلم ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة وهذا يبين أن الشفاعة أخص من الدعاء إذ لا تكون إلا إذا كان هناك اثنان يطلبان أمرا فيكون أحدهما شفيعا للآخر بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره قال في ( لسان العرب ) :
( الشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره والشافع الطالب لغيره يتشفع به إلى المطلوب يقال تشفعت بفلان إلى فلان فشفعني فيه )
فثبت بهذا الوجه أيضا أن توسل الأعمى إنما كان بدعائه صلى الله عليه و سلم لا بذاته
خامسا : إن مما علم النبي صلى الله عليه و سلم الأعمى أن يقوله : ( وشفعني فيه ) ( 1 ) أي اقبل شفاعتي أي دعائي في أن تقبل شفاعته صلى الله عليه و سلم أي دعاءه في أن ترد علي بصري . هذا الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه

( 1 ) هذه الجملة صحت في الحديث أخرجها أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وهي وحدها حجة قاطعة على أن حمل الحديث على التوسل بالذات باطل كما ذهب إليه بعض المؤلفين حديثا والظاهر أنهم علموا ذلك ولهذا لم يوردوا هذه الجملة مطلقا الأمر الذي يدل على مبلغ أمانتهم في النقل . وقريب من هذا أنهم أوردوا الجملة التي قبلها ( اللهم فشفعه في ) من الأدلة على التوسل بالذات وأما توضيح دلالتها على ذلك فمما لم يتفضلوا به على القراء ذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه

ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها ولا يتعرضون لها من قريب أو من بعيد لأنها تنسف بنيانهم من القواعد وتجتثه من الجذور وإذا سمعوها رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه . ذلك أن شفاعة الرسول صلى الله عليه و سلم في الأعمى مفهومة ولكن شفاعة الأعمى في الرسول صلى الله عليه و سلم كيف تكون ؟ لا جواب لذلك عندهم البتة ومما يدل على شعورهم بأن هذه الجملة تبطل تأويلاتهم أنك لا ترى واحدا منهم يستعملها فيقول في دعائه مثلا : اللهم شفع في نبيك وشفعني فيه
سادسا : إن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه و سلم ودعائه المستجاب . وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات فإنه بدعائه صلى الله عليه و سلم لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره ولذلك رواه المصنفون في ( دلائل النبوة ) كالبيهقي وغيره فهذا يدل على أن السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي صلى الله عليه و سلم ويؤيده أنه لو كان السر هو في دعاء الأعمى وحده دون دعائه صلى الله عليه و سلم لكان كل من دعا به من العميان مخلصا إليه تعالى منيبا إليه قد عوفي بل على الأقل لعوفي واحد منهم وهذا ما لم يكن ولعله لا يكون أبدا
كما أنه لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه و سلم وقدره وحقه كما يفهم عامة المتأخرين لكان من المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه صلى الله عليه و سلم بل ويضمون إليه أحيانا جاه جميع الأنبياء المرسلين وكل الأولياء والشهداء والصالحين وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة والإنس والجن أجمعين ولم نعلم ولا نظن أحد قد علم حصول مثل هذا خلال هذه القرون الطويلة بعد وفاته صلى الله عليه و سلم إلى اليوم
إذا تبين للقارئ الكريم ما أوردناه من الوجوه الدالة على أن حديث الأعمى إنما يدور حول التوسل بدعائه صلى الله عليه و سلم وأنه لا علاقة له بالتوسل بالذات فحينئذ يتبين له أن قول الأعمى في دعائه : ( اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه و سلم ) إنما المراد به : أتوسل إليك بدعاء نبيك أي : على حذف المضاف وهذا أمر معروف في اللغة . كقوله تعالى : { واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها } أي أهل القرية وأصحاب العير . ونحن ومخالفونا متفقون على ذلك أي على تقدير مضاف محذوف وهو مثل ما رأينا في دعاء عمر وتوسله بالعباس فإما أن يكون التقدير : إني أتوجه إليك ب [ جاه ] نبيك ويا محمد إني توجهت ب [ ذات ] ك أو [ مكانت ] ك إلى ربي كما يزعمون وإما أن يكون التقدير إني أتوجه إليك ب [ دعاء ] نبيك ويا محمد إني توجهت ب [ دعاء ] ك إلى ربي كما هو قولنا ولا بد لترجيح أحد التقديرين من دليل يدل عليه فأما تقديرهم ( بجاهه ) فليس لهم عليه دليل لا من هذا الحديث ولا من غيره إذ ليس في سباق الكلام ولا سياقه تصريح أو إشارة إلى لذكر الجاه أو ما يدل عليه إطلاقا كما أنه ليس عندهم شيء من القرآن أو من السنة أو من فعل الصحابة يدل على التوسل بالجاه فبقي تقديرهم من غير مرجح فسقط من الاعتبار والحمد لله أما تقديره فيقوم عليه أدلة كثيرة تقدمت في الوجوه السابقة
وثمة أمر آخر جدير بالذكر وهو أنه لو حمل حديث الضرير على ظاهره وهو التوسل بالذات لكان معطلا لقوله فيما بعده : ( اللهم فشفعه في وشفعني فيه ) وهذا لا يجوز كما لا يخفى فوجب التوفيق بين هذه الجملة والتي قبلها . وليس ذلك إلا على ما حملناه من أن التوسل كان بالدعاء فثبت المراد وبطل الاستدلال به على التوسل بالذات والحمد لله
على أنني أقول : لو صح أن الأعمى إنما توسل بذاته صلى الله عليه و سلم فيكون حكما خاصا به صلى الله عليه و سلم لا يشاركه فيه غيره من الأنبياء والصالحين وإلحاقهم به مما لا يقبله النظر الصحيح لأنه صلى الله عليه و سلم سيدهم وأفضلهم جميعا فيمكن أن يكون هذا مما خصه الله به عليهم ككثير مما صح به الخبر وباب الخصوصيات لا تدخل فيه القياسات فمن رأى أن توسل الأعمى كان بذاته صلى الله عليه و سلم فعليه أن يقف عنده ولا يزيد عليه كما نقل عن الإمام أحمد والشيخ العز بن عبد السلام رحمهما الله تعالى . هذا هو الذي يقتضيه البحث العلمي مع الإنصاف والله الموفق للصواب
دفع توهم :
هذا ولا بد من بيان ناحية هامة تتعلق بهذا الموضوع وهي أننا حينما ننفي التوسل بجاه النبي صلى الله عليه و سلم وجاه غيره من الأنبياء والصالحين فليس ذلك لأننا ننكر أن يكون لهم جاه أو قدر أو

مكانة عند الله كما أنه ليس ذلك لأننا نبغضهم وننكر قدرهم ومنزلتهم عند الله ولا تشعر أفئدتنا بمحبتهم كما افترى علينا الدكتور البوطي في كتابه ( فقه السيرة ) فقال ما نصه : ( فقد ضل أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم وراحوا يستنكرون التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم بعد وفاته . . . ) كلا ثم كلا فنحن ولله الحمد من أشد الناس تقديرا لرسول الله صلى الله عليه و سلم وأكثرهم حبا له واعترافا بفضله صلى الله عليه و سلم وإن دل هذا الكلام على شيء فإنما يدل على الحقد الأعمى الذي يملأ قلوب أعداء الدعوة السلفية على هذه الدعوة وعلى أصحابها حتى يحملهم على أن يركبوا هذا المركب الخطر الصعب ويقترفوا هذه الجريمة البشعة النكراء ويأكلوا لحوم إخوانهم المسلمين ويكفروهم دونما دليل اللهم إلا الظن الذي هو أكذب الحديث كما قال النبي الأكرم صلى الله عليه و سلم ( 1 )
ولا أدري كيف سمح هذا المؤلف الظالم لنفسه أن يصدر مثل هذا الحكم الذي لا يستطيع إصداره إلا الله عز و جل المطلع وحده على خفايا القلوب ومكنونات الصدور ولا تخفى عليه خافية
أتراه لا يعلم جزاء من يفعل ذلك أم إنه يعلم ولكنه أعماه الحقد الأسود والتحامل الدفين على دعاة السنة ؟ أي الأمرين كان فإننا نذكره بهذين الحديثين الشريفين لعله ينزجر عن غيه ويفيق من غفلته ويتوب من فعلته
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
( صحيح ) ( أيما رجل أكفر رجلا مسلما فإن كان كافرا وإلا كان هو الكافر ) ( 1 ) وقال عليه أفضل الصلاة والسلام :
( صحيح الإسناد ) ( إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق )
كما نقول له أخيرا : ترى هل دريت يا هذا بأنك حينما تقول ذاك الكلام فإنك ترد على سلف هذه الأمة الصالح وتكفر أئمتها المجتهدين ممن لا يجيز التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم وغيره بعد وفاتهم كالإمام أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى وقد قال أبو حنيفة : ( أكره أن يتوسل إلى الله إلا بالله ) كما تقدم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ونعود لنقول : إن كل مخلص منصف ليعلم علم اليقين بأننا والحمد لله من أشد الناس حبا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ومن أعرفهم بقدره وحقه وفضله صلى الله عليه و سلم وبأنه أفضل النبيين وسيد المرسلين وخاتمهم وخيرهم . وصاحب اللواء المحمود والحوض المورود والشفاعة العظمى والوسيلة والفضيلة والمعجزات الباهرات وبأن الله تعالى نسخ بدينه كل دين وأنزل عليه سبعا من المثاني والقرآن العظيم وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس إلى آخر ما هنالك من فضائله صلى الله عليه و سلم ومناقبه التي تبين قدره العظيم وجاهه المنيف صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تسليما كثيرا

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 10:41 PM

أقول : إننا - والحمد لله - من أول الناس اعترافا بذلك كله ولعل منزلته صلى الله عليه و سلم عندنا محفوظة أكثر بكثير مما هي محفوظة لدى الآخرين الذي يدعون محبته ويتظاهرون بمعرفة قدره لأن العبرة في ذلك كله إنما هي في الاتباع له صلى الله عليه و سلم وامتثال أوامره واجتناب نواهيه كما قال سبحانه وتعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } [ آل عمران : 31 ] ونحن بفضل الله من أحرص الناس على طاعة الله عز و جل واتباع نبيه صلى الله عليه و سلم وهما أصدق الأدلة على المودة والمحبة الخالصة بخلاف الغلو في التعظيم والإفراط في الوصف الذي نهى الله تعالى عنهما فقال سبحانه : { يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } [ النساء : 171 ] . كما نهى النبي صلى الله عليه و سلم عنهما فقال :
( صحيح ) ( لا تطروني كما أطرت النصارى أبن مريم فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله )
ومن الجدير بالذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل من الغلو في الدين أن يختار الحاج إذا أراد الجمرات بمنى الحصوات الكبيرة وأمر أن تكون مثل حصى الخذف
( صحيح ) فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم غداة العقبة : ( هات القط لي . قال : فلقطت له نحو حصى الخذف فلما وضعهن في يده قال : مثل هؤلاء - ثلاث مرات - وإياكم والغلو في الدين فإنما هلك من
كان قبلكم بالغلو في الدين ) ( 1 ) . ذلك لأنه صلى الله عليه و سلم يعد مسألة رمي الجمار مسألة رمزية الغرض منها نبذ الشيطان ومحاربته وليست حقيقة يراد بها قتله وإماتته فعلى المسلم تحقيق الأمر ومنابذة الشيطان عدو الإنسان اللدود بالعداء ليس غير ومع هذا التحذير الشديد من الغلو في الدين وقع المسلمون فيه مع الأسف واتبعوا سنن أهل الكتاب فقال قائلهم :
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
فهذا الشاعر الذي يعظمه كثير من المسلمين ويترنمون بقصيدته هذه المشهورة بالبردة ويتبركون بها وينشدونها في الموالد وبعض مجالس الوعظ والعلم ويعدون ذلك قربة إلى الله تبارك وتعالى ودليلا على محبتهم نبيهم صلى الله عليه و سلم أقول : هذا الشاعر قد ظن النهي الوارد في الحديث السابق منصبا فقط عن الادعاء بأن محمدا صلى الله عليه و سلم ابن الله فنهي عن هذه القولة ودعا إلى القول بأي شيء آخر مهما كان . وهذا غلط بالغ وضلال مبين ذلك لأن للإطراء المنهي عنه في الحديث معنيين اثنين أولهما مطلق المدح وثانيهما المدح المجاوز للحد . وعلى هذا فيمكن أن يكون المارد من الحديث النهي عن مدحه صلى الله عليه و سلم مطلقا من باب سد الذريعة واكتفاء باصطفاء الله تعالى له نبيا ورسولا وحبيبا وخليلا وبما أثنى سبحانه عليه في قوله : { وإنك لعلى خلق عظيم } [ القلم : 4 ] إذ ماذا يمكن للبشر أن يقولوا فيه بعد قول الله تبارك وتعالى هذا ؟ وما قيمة أي كلام يقولونه أمام شهادة الله تعالى هذه ؟ وإن أعظم مدح له صلى الله عليه و سلم أن نقول فيه ما قال ربنا عز و جل : إنه عبد له ورسول فتلك أكبر تزكية له صلى الله عليه و سلم وليس فيها إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير . وقد وصفه ربنا سبحانه وهو في أعلى درجاته وأرفع تكريما من الله تعالى له وذلك حينما أسرى وعرج به إلى السماوات العلى حيث أراه من آيات ربه الكبرى وصفه حينذاك بالعبودية فقال : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } [ الإسراء : 1 ]
ويمكن أن يكون المراد : لا تبالغوا مدحي فتصفوني بأكثر مما أستحقه وتصبغوا علي بعض خصائص الله تبارك وتعالى
ولعل الأرجح في الحديث المعنى الأول لأمرين اثنين : أولهما تمام الحديث وهو قوله صلى الله عليه و سلم : ( فقولوا عبد الله ورسوله ) أي اكتفوا بما وصفني به الله عز و جل من اختياراي عبدا له ورسولا وثانيهما ما عقد بعض أئمة الحديث له من الترجمة فأورده الإمام الترمذي مثلا تحت عنوان : ( باب تواضع النبي صلى الله عليه و سلم ) فحمل الحديث على النهي عن المدح المطلق هو الذي ينسجم مع معنى التواضع ويأتلف معه تنبيه
واعلم أنه وقع في بعض الطرق الأخرى لحديث الضرير السابق زيادتان لا بد من بيان شذوذهما وضعفهما حتى يكون القارئ على بينة من أمرهما فلا يغتر بقول من احتج بهما على خلاف الحق والصواب
الزيادة الأولى :
زيادة حماد بن سلمة قال : حدثنا أبو جعفر الخطمي . . فساق إسناده مثل رواية شعبة وكذلك المتن إلا أنه اختصره بعض الشيء وزاد في آخره بعد قوله : وشفع نبيي في رد بصري : ( وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك ) . رواه أبو بكر بن أبي خثيمة في تاريخه فقال : حدثنا مسلم بن إبراهيم : حدثنا حماد بن سلمة به
وقد أعل هذه الزيادة شيخ الإسلام ابن تيمية في ( القاعدة الجليلة ) بتفرد حماد بن سلمة بها ومخالفته لرواية شعبة وهو أجل من روى هذا الحديث وهذا إعلال يتفق مع القواعد الحديثية ولا يخالفها البتة وقول الغماري في : ( المصباح ) بأن حمادا ثقة من رجال الصحيح وزيادة الثقة مقبولة غفلة منه أو تغافل عما تقرر في المصطلح أن القبول مشروط بما إذا لم يخالف الراوي من هو أوثق منه قال الحافظ في ( نخبة الفكر ) : ( والزيادة مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أوثق فإن خولف بأرجح فالراجح المحفوظ ومقابلة الشاذ )
قلت : وهذا الشرط مفقود هنا فإن حماد بن سلمة وإن كان من رجال مسلم فهو بلا شك دون شعبة في الحفظ ويتبين لك ذلك بمراجعة ترجمة الرجلين في كتب القوم فالأول أورده الذهبي في ( الميزان ) وهو إنما يورد فيه من تكلم فيه ووصفه بأنه ( ثقة له أوهام ) بينما لم يورد فيه شعبة مطلقا ويظهر لك الفرق بينهما بالتأمل في ترجمة الحافظ لهما فقال في ( التقريب ) : ( حماد بن سلمة ثقة عابد أثبت الناس في ثابت وتغير حفظه بآخره ) ثم قال : ( شعبة بن الحجاج ثقة حافظ متقن كان الثوري يقول : هو أمر المؤمنين في الحديث وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال وذب عن السنة وكان عابدا )
قلت : إذا تبين لك هذا عرفت أن مخالفة حماد لشعبة في هذا الحديث بزيادته عليه تلك الزيادة غير مقبولة لأنها منافية لمن هو أوثق منه فهي زيادة شاذة كما يشير إليه كلام الحافظ السابق في ( النخبة ) ولعل حمادا روى هذا الحديث حين تغير حفظه فوقع في الخطأ وكأن الإمام أحمد أشار إلى شذوذ هذه الزيادة فإنه أخرج الحديث من طريق مؤمل ( وهو ابن إسماعيل ) عن حماد - عقب رواية شعبة المتقدمة - إلا أنه لم يسق لفظ الحديث بل أحال به على لفظ حديث شعبة فقال : ( فذكر الحديث ) ويحتمل أن الزيادة لم تقع في رواية مؤمل عن حماد لذلك لم يشر إليها الإمام أحمد كما هي عادة الحفاظ إذا أحالوا في رواية على أخرى بينوا ما في الرواية المحالة من الزيادة على الأولى . وخلاصة القول : إن الزيادة لا تصح لشذوذها ولو صحت لم تكن دليلا على جواز التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم لاحتمال أن يكون معنى قوله : ( فافعل مثل ذلك ) ) يعني من إتيانه صلى الله عليه و سلم في حال حياته وطلب الدعاء منه والتوسل به والتوضؤ والصلاة والدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يدعو به . والله أعلم
الزيادة الثانية :
قصة الرجل مع عثمان بن عفان وتوسله به صلى الله عليه و سلم حتى قضى له حاجته أخرجها الطبراني في ( المعجم الصغير ) وفي ( الكبير ) من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان : ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه و سلم نبي الرحمة وتذكر حاجتك ورح إلي حتى أروح معك فانطلق الرجل فصنع ما قال ثم أتى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله عليه فأجلسه معه على الطنفسة وقال : حاجتك ؟ فذكر حاجته فقضاها له ثم قال له : ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة وقال : ما كانت لك من حاجة فأتنا . ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له : جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته في فقال عثمان بن حنيف : والله ما كلمته ولكن

شهدت رسول الله صلى الله عليه و سلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : فتصبر فقال : يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات ) قال عثمان بن حنيف : فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط . قال الطبراني : ( لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي وهو ثقة وهو الذي يحدث عنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي - واسمه عمير بن يزيد - وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة والحديث صحيح )
قلت : لا شك في صحة الحديث وإنما البحث الآن في هذه القصة التي تفرد بها شبيب بن سعيد كما قال الطبراني وشبيب هذا متكلم فيه وخاصة في رواية ابن وهب عنه لكن تابعه عنه إسماعيل وأحمد ابنا شبيب بن سعيد هذا أما إسماعيل فلا أعرفه ولم أجد من ذكره ولقد أغفلوه حتى لم يذكروه في الرواة عن أبيه بخلاف أخيه أحمد فإنه صدوق وأما أبوه شبيب فملخص كلامهم فيه أنه ثقة في حفظه ضعف إلا في رواية ابنه أحمد هذا عنه عن يونس خاصة فهو حجة فقال الذهبي في ( الميزان ) : ( صدوق يغرب ذكره ابن عدي في ( كامله ) فقال . . . له نسخة عن يونس بن زيد مستقيمة حدث عنه ابن وهب بمناكير قال ابن المديني : كان يختلف في تجارة إلى مصر وكتابه صحيح قد كتبه عن ابنه أحمد . قال ابن عدي : كان شبيب لعله يغلط ويهم إذا حدث من حفظه وأرجو أنه لا يعتمد فإذا حدث عنه ابنه أحمد
[ 86 ] بأحاديث يونس فكأنه يونس آخر . يعني يجود ) فهذا الكلام يفيد أن شبيبا هذا لا بأس بحديثه بشرطين اثنين : الأول أن يكون من رواية ابنه أحمد عنه والثاني أن يكون من رواية شبيب عن يونس والسبب في ذلك أنه كان عنده كتب يونس بن يزيد كما قال ابن أبي حاتم في ( الجرح والتعديل ) عن أبيه فهو إذا حدث من كتبه هذه أجاد وإذا حدث من حفظه وهم كما قال ابن عدي وعلى هذا فقول الحافظ في ترجمته من ( التقريب ) : ( لا بأس بحديثه من رواية ابنه أحمد عنه لا من رواية ابن وهب ) فيه نظر لأنه أوهم أنه لا بأس بحديثه من رواية أحمد عنه مطلقا وليس كذلك بل هذا مقيد بأن يكون من روايته هو عن يونس لما سبق ويؤيده أن الحافظ نفسه أشار لهذا القيد فإنه أورد شبيبا هذا في ( من طعن فيه من رجال البخاري ) من ( مقدمة فتح الباري ) ثم دفع الطعن عنه - بعد أن ذكر من وثقه وقول ابن عدي فيه - بقوله : ( قلت : أخرج البخاري من رواية ابنه عنه عن يونس أحاديث ولم يخرج من روايته عن غير يونس ولا من رواية ابن وهب عنه شيئا ) . فقد أشار رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الطعن قائم في شبيب إذا كانت روايته عن غير يونس ولو من رواية ابنه أحمد عنه وهذا هو الصواب كما بينته آنفا وعليه يجب أن يحمل كلامه في ( التقريب ) توفيقا بين كلاميه ورفعا للتعارض بينهما
إذا تبين هذا يظهر لك ضعف هذه القصة وعدم صلاحية الاحتجاج بها . ثم ظهر لي فيها علة أخرى وهي الاختلاف على أحمد فيها فقد أخرج الحديث ابن السني في ( عمل اليوم والليلة ) والحاكم من ثلاثة طرق عن أحمد بن شبيب بدون القصة وكذلك رواه عون بن عمارة البصري ثنا روح ابن القاسم به أخرجه الحاكم وعون هذا وإن كان ضعيفا فروايته أولى من رواية شبيب لموافقتها لرواية شعبة وحماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي
وخلاصة القول : إن هذه القصة ضعيفة منكرة لأمور ثلاث : ضعف حفظ المتفرد بها والاختلاف عليه فيها ومخالفته للثقات الذين لم يذكروها في الحديث وأمر واحد من هذه الأمور كاف لإسقاط هذه القصة فكيف بها مجتمعة ؟
ومن عجائب التعصب واتباع الهوى أن الشيخ الغماري أورد روايات هذه القصة في ( المصباح ) من طريق البيهقي في ( الدلائل ) والطبراني ثم لم يتكلم عليها مطلقا لا تصحيحا ولا تضعيفا والسبب واضح أما التصحيح فغير ممكن صناعة وأما التضعيف فهو الحق ولكن
ونحو ذلك فعل من لم يوفق في ( الإصابة ) فإنهم أوردوا الحديث بهذه القصة ثم قالوا : ( وهذا الحديث صححه الطبراني في الصغير والكبير )
وفي هذا القول على صغره جهالات :
أولا : أن الطبراني لم يصحح الحديث في ( الكبير ) بل في ( الصغير ) فقط وأنا نقلت الحديث عنه للقارئين مباشرة لا بالواسطة كما يفعل أولئك لقصر باعهم في هذا العلم الشريف ( ومن ورد البحر استقل السواقيا )
ثانيا : أن الطبراني إنما صحح الحديث فقط دون القصة بدليل قوله . وقد سبق : ( قد روى الحديث شعبة . . والحديث صحيح ) فهذا نص على أنه أراد حديث شعبة وشعبة لم يرو هذه القصة فلم يصححها إذن الطبراني فلا حجة لهم في كلامه
ثالثا : أن عثمان بن حنيف لو ثبتت عنه القصة لم يعلم ذلك الرجل فيها دعاء الضرير بتمامه فإنه أسقط منه جملة ( اللهم فشفه في وشفعني فيه ) لأنه يفهم بسليقته العربية أن هذا القول يستلزم أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم داعيا لذلك الرجل كما كان داعيا للأعمى ولما كان هذا منفيا بالنسبة للرجل لم يذكر هذه الجملة ؟ قال شيخ الإسلام : ( ومعلوم أن الواحد بعد موته صلى الله عليه و سلم إذا قال : اللهم فشفعه في وشفعني فيه - مع أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يدع له - كان هذا كلاما باطلا مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره أن يسأل النبي صلى الله عليه و سلم شيئا ولا أن يقول : ( فشفعه في ) ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه وإنما أمره ببعضه وليس هناك من النبي صلى الله عليه و سلم شفاعة ولا ما يظن أنه شفاعة فلو قال بعد موته : ( فشفعه في ) لكان كلاما لا معنى له ولهذا لم يأمر به عثمان والدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر به والذي أمر به ليس مأثورا عن النبي صلى الله عليه و سلم ومثل هذا لا تثبت به شريعة كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في حسن العبادات أو الإباحات أو الإيجابيات أو التحريمات إذ لم يوافقه غيره من الصحابة عليه وكان ما يثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم يخالفه ولا يوافقه لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد ومما تنازعت فيه الأمة فيجب رده إلى والرسول )
ثم ذكر أمثلة كثيرة مما تفرد به بعض الصحابة ولم يتبع عليه مثل إدخال ابن عمر الماء في عينيه في الوضوء ونحو ذلك فراجعه . ثم قال :
وإذا كان ذلك كذلك فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم بعد موته من غير أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم داعيا له ولا شافعا فيه فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعا بعد مماته كما كان يشرع في حياته بل كانوا في الاستسقاء في حياته صلى الله عليه و سلم يتوسلون فلما مات لم يتوسلوا به بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر : لا يأكل سمينا حتى يخصب الناس ثم لما استسقى بالناس قال : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا . فيسقون . وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة ولم ينكره أحد مع شهرته وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته فلو كان توسلهم بالنبي صلى الله عليه و سلم بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا : كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم الذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله ؟ فلما لم يقل ذلك أحد منهم وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته )
هذا وفي القصة جملة إذا تأمل فيها العاقل العارف بفضائل الصحابة وجدها من الأدلة الأخرى على نكارتها وضعفها وهي أن الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه كان لا ينظر في حاجة ذلك الرجل ولا يلتفت إليه فكيف يتفق هذا مع ما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الملائكة تستحي من عثمان ومع ما عرف به رضي الله عنه من رفقه بالناس وبره بهم ولينه معهم ؟ هذا كله يجعلنا نستبعد وقوع ذلك منه لأنه ظلم يتنافى مع كماله رضي الله عنه وأرضاه
( تنبيه ) اطلعنا بعد صف هذه الملزمة على كتاب ( التوصل إلى حقيقة التوسل ) للشيخ محمد نسيب الرفاعي الذي ذيل اسمه عليه بلقب ( مؤسس الدعوة السلفية وخادمها ) وتقتضيها الأمانة العلمية والنصيحة الدينية وقول كلمة الحق أن نبين حكم الله كما نفهمه وندين الله تعالى به في هذا اللقب فنقول :
إن من نافلة القول أن نبين أن الدعوة السلفية إنما هي دعوة الإسلام الحق كما أنزل الله تعالى على خاتم رسوله وأنبيائه محمد صلى الله عليه و سلم فالله وحده سبحانه هو مؤسسها ومشرعها وليس لأحد من البشر كائنا من كان أن يدعي تأسيسها وتشريعها وحتى النبي الأكرم محمد صلوات الله وسلامه عليه إنما كان دوره فيها التلقي الواعي الأمين والتبليغ الكامل الدقيق ولم يكن مسموحا له التصرف في شيء من شرع الله تعالى ووحيه ولهذا فادعاء إنسان مهما علا وسما تأسيس هذه الدعوة الإلهية المباركة إنما هو في الحقيقة خطأ جسيم وجرح بليغ هذا إن لم يكن شركا أكبر والعياذ بالله تعالى
فلا ندري كيف وقع هذا من رجل عاش دهرا طويلا مع إخوانه في حلب وغيرها من البلاد الشامية في الدعوة السلفية التي من أخص خصائصها وأهم اهتماماتها محاربة الشركيات والوثنيات اللفظية فضلا عن الشركيات الاعتقادية ثم اعتزلهم جميعا فكان هذا الانحراف الخطير من آثار الخروج عن الجماعة . هدانا الله تعالى وإياه وجنبنا الزلل والفتن ومضلات الأهواء
ولعل أحدا يحاول التماس عذر للمؤلف بأنه إنما قصد من ذاك اللقب أنه مجدد الدعوة السلفية وليس أنه منشئها وصائغ تعاليمها وقد كان في المسلمين قديما وحديثا مجددون والمؤلف واحد من هؤلاء في ظنه
ونقول : نعم إن هناك مجددين لدعوة الإسلام الحق على تتالي الزمان ولكن شتان بين المؤلف وأولئك المجددين وحسبه أن يكون تابعا لأحدهم ولو وافقناه جدلا على حشر نفسه معهم لكان من الواجب عليه أن يحدد دائرة لتجديده المزعوم كبلد أو قطر أما إطلاقه ذاك اللقب الفضفاض فإنه يوحي إلى القراء بأنه المجد للإسلام في العالم الإسلامي كله في هذا العصر وأين هو من هذا ؟
أضف إلى ذلك أن من الأخلاق الأساسية التي يجب أن يتصف بها الداعية المسلم التواضع والبعد عن حب الظهور والتفاخر والادعاء فإن هذه أدواء قاتلة تجرد الساعي إليها والحريص عليها من أهلية الدعوة وتفقده سلاحا ماضيا للنصر على أعدائها وتجعل عمله هباء منثورا والعياذ بالله فاللهم عصمتك وهداك
هذا وقد تصفحنا الكتاب المشار إليه على عجل فوجدنا فيه بعض الأخطاء ننبه على بعضها في محله ومنها أنه قال في ص237 في صدد الحديث عن إسناد القصة السابقة ما نصه : ( إن في سند هذا الحديث رجلا اسمه روح بن صلاح وقد ضعفه الجمهور وابن عدي وقال ابن يونس : يروي أحاديث منكرة ) . وهذا خطأ محض لا ندري وجهه وهذا الرجل ( أي روح بن صلاح ) . إنما هو علة الحديث الثالث كما سيأتي
الشبهة الثالثة : الأحاديث الضعيفة في التوسل :
يحتج مجيزو التوسل المبتدع بأحاديث كثيرة إذا تأملناها نجدها تندرج تحت نوعين اثنين : الأول ثابت النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكنه لا يدل على مرادهم ولا يؤيد رأيهم كحديث الضرير وقد تقدم الكلام على هذا النوع
والنوع الثاني غير ثابت النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وبعضه يدل على مرادهم وبعضه لا يدل وهذه الأحاديث التي لا تصح كثيرة فأكتفي بذكر ما اشتهر منها فأقول :
الحديث الأول :
عن أبي سعيد الخدري مرفوعا : ( من خرج من بيته إلى الصلاة فقال : اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وأسألك بحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا . . . أقبل الله عليه بوجهه )
رواه أحمد واللفظ له وابن ماجه وانظر تخريجه مفصلا في ( سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم 24 ) وإسناده ضعيف ( 1 ) لأنه من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري وعطية ضعيف كما قال النووي في ( الأذكار ) وابن تيمية في ( القاعدة الجليلة ) والذهبي في ( الميزان ) بل قال في ( الضعفاء ) : ( مجمع على ضعفه ) . والحافظ الهيثمي في غير موضع من ( مجمع الزوائد ) منها وأورده أبو بكر بن المحب البعلبكي في ( الضعفاء والمتروكين ) والبوصيري كما يأتي وكذا الحافظ ابن حجر يقول فيه : ( صدوق يخطئ كثيرا كان شيعيا مدلسا ) وقد أبان فيه عن سبب ضعفه وهو أمران :
الأول : ضعف حفظه بقوله : ( يخطئ كثيرا ) وهذا كقوله فيه في ( طبقات المدلسين ) : ( ضعيف الحفظ ) وأصرح منه قوله في ( تلخيص الحبير ) وقد ذكر حديثا آخر : ( وفيه عطية بن سعيد العوفي وهو ضعيف )
الثاني : تدليسه لكن كان على الحافظ أن يبين نوع تدليسه فإن التدليس عند المحدثين على أقسام كثيرة اشهرها ما يلي :
الأول : أن يروي الراوي عمن لقيه ما لم يسمعه منه أو عمن
عاصره ولم يلقه موهما أنه سمعه منه كأن يقول : عن فلان أو قال فلان
الثاني : أن يأتي الراوي باسم شيخه أو لقبه على خلاف المشهور به تعمية لأمره وقد صرحوا بتحريم هذا النوع إذا كان شيخه غير ثقة فدلسه لئلا يعرف حاله أو أوهم أنه رجل آخر من الثقات على وفق اسمه أو كنيته ( 1 ) وهذا يعرف عندهم بتدليس الشيوخ
قلت : وتدليس عطية من هذا النوع المحرم كما كنت بينته في كتابي ( الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة - 24 )
وخلاصة ذلك أن عطية هذا كان يروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فلما مات جالس أحد الكذابين المعروفين بالكذب في الحديث وهو الكلبي فكان عطية إذا روى عنه كناه أبا سعيد فيتوهم السامعون منه أنه يريد أبا سعيد الخدري وهذا وحده عندي يسقط عدالة عطية هذا فكيف إذا انضم إلى ذلك سوء حفظه ولهذا كنت أحب للحافظ رحمه الله أن ينبه على أن تدليس عطية من هذا النوع الفاحش ولو بالإشارة كما فعل في طبقات المدلسين إذ قال : ( مشهور بالتدليس القبيح ) كما سبق
ثم كأن الحافظ نسي أو هم - أو غير ذلك من الأسباب التي تعرض للبشر - فقال في تخريجه لهذا الحديث : إن عطية قال في
رواية : حدثني أبو سعيد . قال : ( فأمن بذلك تدليس عطية ) كما نقله ابن علان عنه وقلده في ذلك بعض المعاصرين
قلت : والتصريح بالسماع إنما يفيد إذا كان التدليس من النوع الأول وتدليس عطية من النوع الآخر القبيح فلا يفيد فيه ذلك لأنه في هذه الرواية أيضا قال : ( حدثني أبو سعيد ) فهذا هو عين التدليس القبيح . ( 1 )
فتبين مما سبق أن عطية ضعيف لسوء حفظه وتدليسه الفاحش فكان حديثه هذا ضعيفا . وأما تحسين الحافظ له الذي اغتر به من لا علم عنده فهو بناء على سهوه السابق فتنبه ولا تكن من الغافلين . وفي الحديث علل أخر تكلمت عليها في الكتاب المشار إليه سابقا فلا حاجة للإعادة فليرجع من شاء الزيادة
وأما فهم بعض المعاصرين من عبارة الحافظ ابن حجر السابقة في ( التقريب ) أنها تفيد توثيق عطية هذا ففهم لا يغبطون عليه وقد سألت الشيخ أحمد بن الصديق حين التقيت به في ظاهرية ( 1 ) من هذا يتبين للقراء الكرام أن من قلد الحافظ في هذه الجملة بعد تنبيهنا على نوع تدليس عطية فإنما هو مغرض متبع للهوى كما فعل أحدهم حيث نقل عبارة الحافظ هذه في صدد الرد على إعلالي للحديث بالتدليس أيضا أقول : إنه مغرض لأنني على يقين من أنه اطلع على نوع التدليس المذكور في مقالي المشار إليه آنفا لأن رده في هذا الحديث ينصب عليه ومع ذلك فإنه تعامى عن ذلك ولم يجب عنه ولو بكلمة وإنما افترض أن التدليس من النوع الأول الذي ينجبر بمجيئه من طريق آخر مصرحا بالتحديث . أفلا يعذرني القراء إذا قلت : ألا يستحق هؤلاء أن يلحقوا بالمدلسين أمثال عطية هذا ؟ دمشق عن هذا الفهم فتعجب منه فإن من كثر خطؤه في الرواية سقطت الثقة به بخلاف من قل ذلك منه فالأول ضعيف الحديث والآخر حسن الحديث ولذلك جعل الحافظ في ( شرح النخبة ) من كثر غلطه قرين من ساء حفظه وجعل حديث كل منهما مردودا فراجعه مع حاشية علي القاري عليه
وإنما غر هؤلاء ما نقلوه عن الحافظ أنه قال في ( تخريج الأذكار ) : ( ضعف عطية إنما جاء من قبل تشيعه وقيل تدليسه وإلا فهو صادق )
وهم لقصر باعهم إن لم نقل لجهلهم في هذا العلم لا جرأة لهم على بيان رأيهم الصريح في أوهام العلماء بل إنهم يسوقون كلماتهم كأنها في مأمن من الخطأ والزلل لا سيما إذا كانت موافقة لغرضهم كهذه الجملة وإلا فهي ظاهرة التعارض مع قول الحافظ المنقول عن ( التقريب ) إذ أنها تعلل ضعف عطية بسببين :
أحدهما : التشيع وهذا ليس جرحا مطلقا على الراجح
والثاني : التدليس وهذا جرح قد يزول كما سيأتي ومع ذلك فإنه أشار إلى تضعيفه لهذا السبب بقوله : ( قيل ) . بينما جزم في ( التقريب ) بأنه كان مدلسا كما جزم بأنه كان شيعيا ولذلك أورده ( أعني الحافظ نفسه ) في رسالة ( طبقات المدلسين ) فقال : ( تابعي معروف ضعيف الحفظ مشهور بالتدليس القبيح ) ذكره في ( المرتبة الرابعة ) وهي التي يورد فيها ( من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 10:49 PM

لكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجاهيل كبقية بن الوليد ) كما ذكره في المقدمة فهذان النصان من الحافظ نفسه دليل على وهمه في تضعيفه كون عطية مدلسا في الجملة المذكورة آنفا فهذا وجه من وجوه التعارض بينها وبين عبارة التقريب . وثمة وجه آخر وهو أنه في هذه الجملة لم يصفه بما هو جرح عنده - كما سبق عن شرح النخبة - وهو قوله في ( التقريب ) : ( يخطيئ كثيرا ) فهذا كله يدلنا على أن الحافظ رحمه الله تعالى لم يكن قد ساعده حفظه حين تخريجه لهذا الحديث فوقع في هذا القصور الذي يشهد به كلامه المسطور في كتبه الأخرى وهي أولى بالاعتماد عليها من كتابه ( التخريج ) لأنه في تلك ينقل عن الأصول مباشرة ويلخص منها بخلاف صنيعه في ( التخريج )
ولما ذكرنا من حال العوفي ضعف الحديث غير واحد من الحفاظ كالمنذري في ( الترغيب ) ( 1 ) والنووي وشيخ الإسلام ابن تيمية في ( القاعدة الجليلة ) وكذا البوصيري فقال في ( مصباح الزجاجة ) :
( هذا إسناد مسلسل بالضعفاء : عطية وفضل بن مرزوق والفضل بن الموفق كلهم ضعفاء ) . وقال صديق خان في ( نزل الأبرار ) بعد أن أشار لهذا الحديث وحديث بلال الآتي بعده :

( وإسنادهم ضعيف صرح بذلك النووي في الأذكار )
الحديث الثاني :
وحديث بلال الذي أشار إليه صديق خان هو ما روي عنه أنه قال :
( ضعيف ) ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خرج إلى الصلاة قال : بسم الله آمنت بالله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله اللهم بحق السائلين عليكن وبحق مخرجي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا . . ) الحديث أخرجه ابن السني في ( عمل اليوم والليلة ) من طريق الوازع بن نافع العقيلي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عنه
قلت : وهذا سند ضعيف جدا وآفته الوازع هذا فإنه لم يكن عنده وازع يمنعه من الكذب كما بينته في ( السلسلة الضعيفة ) ولذلك لما قال النووي في ( الأذكار ) : ( حديث ضعيف أحد رواته الوازع بن نافع العقيلي وهو متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث ) قال الحافظ بعد تخريجه :
( هذا حديث واه جدا أخرجه الدارقطني في ( الأفراد ) من هذا الوجه وقال : تفرد به الوازع وهو متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث . والقول فيه أشد من ذلك فقال ابن معين والنسائي : ليس بثقة وقال أبو حاتم وجماعة : متروك الحديث وقال الحاكم : يروي أحاديث موضوعة )قلت في ( السلسلة الضعيفة ) بعد أن تكلمت على حديث بلال هذا والذي قبله :
( وجملة القول أن هذا الحديث ضعيف من طريقيه وأحدهما أشد ضعفا من الآخر )
فتغافل بعض المؤلفين عن هذه الجملة ( وأحدهما أشد ضعفا من الآخر ) فافتروا علي وقالوا : ( فقد اتضح أنهما حديثان متغايران في الإسناد ابتداء وانتهاء فكيف يصح أن يجعلا حديثا واحدا ويحكم عليهما بحكم واحد إن هذا دليل على مبلغ تخليط قائله )
قلت : فليتأمل القارئ هل صدقوا فيما زعموا ثم ليعذرني إذا ذكرت قوله صلى الله عليه و سلم : ( من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت )

قلت : فلا يجوز الاستشهاد به كما فعل الشيخ الكوثري والشيخ الغماري في ( مصباح الزجاجة ) وغيرهما من المبتدعة
ومع كون هذين الحديثين ضعيفين فهما لا يدلان على التوسل بالمخلوقين أبدا وإنما يعودان إلى أحد أنواع التوسل المشروع الذي تقدم الكلام عنه وهو التوسل إلى الله تعالى بصفة من صفاته عز و جل لأن فيهما التوسل بحق السائلين على الله وبحق ممشى المصلين . فما هو حق السائلين على الله تعالى ؟ لا شك أنه إجابة دعوتهم وإجابة الله دعاء عباده صفة من صفاته عز و جل وكذلك حق ممشى المسلم إلى المسجد هو أن يغفر الله له ويدخله الجنة ومغفرة الله تعالى ورحمته وإدخاله بعض خلقه ممن يطيعه الجنة كل ذلك صفات له تبارك وتعالى
وبهذا تعلم أن هذا الحديث الذي يحتج به المبتدعون ينقلب عليهم ويصبح بعد فهمه فهما جيدا حجة لنا عليهم والحمد لله على توفيقه



الحديث الثالث :
عن أبي أمامة قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أصبح وإذا أمسى دعا بهذا الدعاء : اللهم أنت أحق من ذكر وأحق من عبد . . أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض وبكل حق هو لك وبحق السائلين عليك . . )
قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) :
( رواه الطبراني وفيه فضال بن جبير وهو ضعيف مجمع على ضعفه )
قلت : بل هو ضعيف جدا اتهمه ابن حبان فقال :
( شيخ يزعم أنه سمع أبا أمامة يروي عنه ما ليس من حديثه )
وقال أيضا :
( لا يجوز الاحتجاج به بحال يروي أحاديث لا أصل لها )
وقال ابن عدي في ( الكامل ) :
( أحاديثه كلها غير محفوظة )
قلت : فالحديث شديد الضعف فلا يجوز الاستشهاد به أيضا كما فعل صاحب ( المصباح )
الحديث الرابع :
عن أنس بن مالك قال : لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي رضي الله عنهما دعا أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر ابن الخطاب وغلاما أسود يحفرون . . . فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فاضطجع فيه فقال : ( الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع مدخلها بحق نبيك . والأنبياء الذين من قبله فإنك أرحم الراحمين . . . )
قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) :
( رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح )
قلت : ومن طريق الطبراني رواه أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) وإسناده عندهما ضيف لأن روح بن صلاح الذي في إسناده قد تفرد به كما قال أبو نعيم نفسه وروح ضعفه ابن عدي . وقال ابن يونس : رويت عنه مناكير وقال الدارقطني : ( ضعيف في الحديث ) وقال ابن ما كولا : ( ضعفوه ) وقال ابن عدي بعد أن أخرج له حديثين : ( له أحاديث كثيرة في بعضها نكرة ) فقد اتفقوا على تضعيفه فكان حديثه منكرا لتفرده به
وقد ذهب بعضهم إلى تقوية هذا الحديث لتوثيق ابن حبان والحاكم لروح هذا ولكن ذلك لا ينفعهم لما عرفا به من التساهل في التوثيق فقولهما عند التعارض لا يقام له وزن حتى لو كان الجرح مبهما فكيف مع بيانه كما هي الحال هنا وقد فصلت الكلام على ضعف هذا الحديث في ( السلسلة الضعيفة - 23 ) فلا نعيد الكلام عليه في هذه العجالة ولكن المشار إليهم جاؤوا بما يضحك فقالوا : ( حكم عليه الشيخ ناصر بالضعف فنطالبه . بمن ضعف هذا الحديث من المحدثين )
قلت : قد ذكرنا من ضعف روايه روح بن صلاح الذي تفرد به وهذا يستلزم ضعف حديثه كما لا يخفى إلا عند المتابعة وقد نفاها أبو نعيم أو عند مجيئه من طريق آخر وهيهات ثم قالوا :
( ولو فرض تضعيفه فضعفه خفيف فلا يمنع جواز العمل لأنه من باب ما جوزه المحدثون والفقهاء من العمل بالضعيف الذي ليس ضعفه بشديد في الترغيب والترهيب ) . قلت : ليس في هذا الحديث شيء من الترغيب ولا هو يبين فضل عمل ثابت في الشرع إنما ينقل أمرا دائرا بين أن يكون جائزا أو غير جائز فهو إذن يقرر حكما شرعيا لو صح وأنتم إنما توردونه من الأدلة على جواز هذا التوسل المختلف فيه فإذا سلمتم بضعفه لم يجز لكم الاستدلال به وما أتصور عاقلا يوافقكم على إدخال هذا الحديث في باب الترغيب والترهيب وهذا شأن من يفر من الخضوع للحق يقول ما لا يقوله جميع العقلاء
الحديث الخامس :
عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال :
( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يستفتح بصعاليك المهاجرين )
فيرى المخالفون أن هذا الحديث يفيد أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يطلب من الله تعالى أن ينصره ويفتح عليه بالضعفاء المساكين من المهاجرين وهذا - بزعمهم - هو التوسل المختلف فيه نفسه . والجواب من وجهين :
الأول : ضعف الحديث فقد أخرجه الطبراني في ( المعجم الكبير ) : حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه حدثنا أبي حدثنا عيسى بن يونس حدثني أبي عن أبيه عن أمية به
وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي بن عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي إسحاق عن أمية بن خالد به . ثم رواه من طريق قيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة عن أمية بن خالد مرفوعا بلفظ : ( . . . يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين )
قلت : مداره على أمية هذا ولم تثبت صحبته فالحديث مرسل ضعيف وقال ابن عبد البر في ( الاستيعاب ) :
( لا تصح عندي صحبته والحديث مرسل ) وقال الحافظ في ( الإصابة ) :
( ليست له صحبة ولا رواية )
قلت : وفيه علة أخرى وهي اختلاط أبي إسحاق وعنعنته فإنه كان مدلسا إلا أن سفيان سمع منه قبل الاختلاط فبقيت العلة الأخرى وهي العنعنة
فثبت بذلك ضعف الحديث وأنه لا تقوم به حجة . وهذا هو الجواب الأول
الثاني : أن الحديث لو صح فلا يدل إلا على مثل ما دل عليه حديث عمر وحديث الأعمى من التوسل بدعاء الصالحين قال المناوي في ( فيض القدير ) : ( كان يستفتح ) أي يفتتح القتال من قوله تعالى : ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ذكره الزمخشري . ( ويستنصر ) أي يطلب النصرة ( بصعاليك المسلمين ) أي بدعاء فقراءهم الذين لا مال لهم )

قلت : وقد جاء هذا التفسير من حديثه صلى الله عليه و سلم أخرجه النسائي بلفظ : ( إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم ) وسنده صحيح وأصله في صحيح البخاري فقد بين الحديث أن الاستنصار إنما يكون بدعاء الصالحين لا بذواتهم وجاههم
ومما يؤكد ذلك أن الحديث ورد في رواية قيس بن الربيع المتقدمة بلفظ : ( كان يستفتح ويستنصر . . ) فقد علمنا بهذا أن الاستنصار بالصالحين يكون بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم وهكذا الاستفتاح وبهذا يكون هذا الحديث - إن صح - دليلا على التوسل المشروع وحجة على التوسل المبتدع والحمد لله
الحديث السادس :
عن عمر بن الخطاب مرفوعا : ( لما اقترف آدم الخطيئة قال : يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي فقال : يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه ؟ قال يا رب لما خلقتني بيدك ونخفت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا : لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك فقال : غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك )
أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق أبي الحارث عبد الله بن مسلم الفهري : حدثنا إسماعيل بن مسلمة : أنبأ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر . وقال : ( صحيح الإسناد وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد ابن أسلم في هذا الكتاب )
فتعقبه الذهبي بقوله :
( قلت : بل موضوع وعبد الرحمن واه وعبد الله بن أسلم الفهري لا أدري من ذا ) قلت : ومن تناقض الحاكم في ( المستدرك ) نفسه أنه أورد فيه حديثا آخر لعبد الرحمن هذا ولم يصححه : بل قال :
( والشيخان لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد )
قلت : والفهري هذا أورده الذهبي في ( الميزان ) وساق له هذا الحديث وقال :
( خبر باطل ) وكذا قال الحافظ ابن حجر في ( اللسان ) وزاد عليه قوله في الفهري هذا :
( لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله فإنه من طبقته ) قلت : والذي قبله هو عبد الله بن مسلم بن رشيد قال الحافظ : ذكره ابن حبان متهم بوضع الحديث يضع على ليث ومالك وابن لهيعة لا يحل كتب حديثه وهو الذي روى عن ابن هدية نسخة كأنها معمولة )
قلت : والحديث رواه الطبراني في ( المعجم الصغير ) : ثنا محمد بن داود بن أسلم الصدفي المصري : ثنا أحمد ابن سعيد المدني الفهري : ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم به . وهذا سند مظلم فإن كل من دون عبد الرحمن لا يعرفون وقد أشار إلى ذلك الحافظ الهيثمي حيث

قال في ( مجمع الزوائد ) :
( رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم )
قلت : وهذا إعلال قاصر . يوهم من لا علم عنده أن ليس فيهم من هو معروف بالطعن فيه وليس كذلك فإن مداره على عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال البيهقي : ( إنه تفرد به ) وهو متهم بالوضع رماه بذلك الحاكم نفسه ولذلك أنكر العلماء عليه تصحيحه لحديثه ونسوه إلى الخطأ والتناقض فقال ( وارث علم الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين شيخ الإسلام ابن تيمية ) ( 1 ) رحمه الله في ( القاعدة الجليلة ) :
( ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه فإنه نفسه قد قال في كتاب ( المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم ) : ( عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا تخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه ) . ( 2 ) قلت : وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيرا ( 3 ) ضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم
وقال ابن حبان : ( كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك
من روايته من رفع المراسيل ) وإسناد الموقوف فاستحق الترك )
وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث وقالوا : إن الحاكم يصحح أحاديث موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث . ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم )
قلت : وقد أورد الحاكم نفسه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في كتابه ( الضعفاء ) كما سماه العلامة ابن عبد الهادي وقال في آخره :
( فهؤلاء الذين قدمت ذكرتهم قد ظهر عندي جرحهم لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به فإن الجرح لا أستحله تقليدا والذي أختاره لطالب هذا الشأن أن لا يكتب حديث واحد من هؤلاء الذين سميتهم فالرواي لحديثهم داخل في قوله صلى الله عليه و سلم : ( من حديث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ) ( 1 )
قلت : فمن تأمل في كلام الحاكم هذا والذي قبله يتبين له بوضوح أن حديث عبد الرحمن بن زيد هذا موضع عند الحاكم نفسه وأن من يرويه بعد العلم بحاله فهو أحد الكاذبين
وقد اتفق عند التحقيق كلام الحفاظ ابن تيمية والذهبي والعسقلاني على بطلان هذا الحديث وتبعهم على ذلك غير واحد من المحققين كالحافظ ابن عبد الهادي كما سيأتي فلا يجوز لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصحح الحديث بعد اتفاق هؤلاء على وضعه تقليدا للحاكم في أحد قوليه مع اختياره في قوله الآخر لطالب العلم أن لا يكتب حديث عبد الرحمن هذا وأنه إن فعل كان أحد الكاذبين كما سبق
( تنبيه ) : إذا عرفت هذا فقول بعض المشايخ : ( إن حكم الشيخ ناصر على الحديث بأنه ( كذب وموضوع ) باطل لأن مستنده قول الذهبي إنه موضوع ) باطل حقا لأن الذهبي قد وافقه من ذكرنا من الحفاظ الأعلام ثم قالوا : ( ومستند الذهبي ما في إسناد الحاكم من رجل قيل فيه إنه متهم ) . قلت : هذا باطل أيضا لأن الرجل المشار إليه وهو عبد الله بن مسلم الفهري جهله الذهبي ولم يتهمه كما تقدم نقله عنه وما أظن هذا يخفى عليهم ولكنهم تجاهلوه لغرض في أنفسهم وهو أن يتسنى لهم أن يقولوا عقب ذلك :
( لكن للحديث إسناد آخر عند الطبراني ليس فيه هذا المتهم وغاية ما فيه أن فيه من هو غير معروف ) قلت : بل فيه ثلاثة لا يعرفون وإذا كانوا لا يعلمون ذلك فلماذا عدلوا عن تقليد الهيثمي في قوله : ( وفيه من لم أعرفهم ) كما سبق وهم هلكى وراء التقليد إلى قولهم : ( فيه من هو غير معروف ) ؟
السبب في ذلك أن قول الهيثمي نص على أن ( من هو غير معروف ) جماعة وأما قولهم فليس نصا على ذلك بل هذا يقال إذا كان في السند شخص لا يعرف أو أكثر فهو الحقيقة من تلبيساتهم على القراء نعوذ بالله من الخذلان . ثم قالوا عطفا على ما سبق : ( وإن فيه عبد الرحمن بن زيد وهو على الراجح عند الحافظ ابن حجر ممن يقال فيه ضعيف وهذه الكلمة من أخف مراتب التضعيف ) أقول : لكن الراجح عند غير الحافظ أنه أشد ضعفا من ذلك فقد قال فيه أبو نعيم : ( روى عن أبيه أحاديث موضوعة ) . وكذلك قال الحاكم نفسه كما سبق وهو وكذا أبو نعيم من المعروفين بتساهلهم في التوثيق فإذا جرحا فإنما ذلك بعد أن ظهر لهما أن عبد الرحمن مجروح حقا ولذلك اتفقوا على تضعيفه كما نص في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله . بل ضعفه جدا علي بن المديني وابن سعد وغيرهما وقال الطحاوي : ( حديثه عند أهل العلم بالحديث في النهاية من الضعف ) فهو معروف بالضعف الشديد منذ القديم فما الذي حمل المخالفين على الإعراض عن هذه الأقوال المتضافرة على أن عبد الرحمن هذا ضعيف جدا - إن لم يكن كذابا - إلى التمسك بقول الحافظ فيه ( ضعيف ) ؟ أقول هذا مع احتمال أن يكون سقط من قلم الحافظ أو قلم بعض النساخ عقب قوله ( ضعيف ) لفظة ( جدا ) وعلى كل حال فإن تقليدهم للحافظ في هذه الكلمة لا يفيدهم شيئا بعد أن حكم هو على الحديث بأنه ( خبر باطل ) كما سبق نقله عن ( لسانه ) فهذا من الأدلة الكثيرة على أن هؤلاء أتباع هوى وليسوا طلاب حق وإلا لأخذوا بقول الحافظ هذا الموافق لقول الذهبي وغيره من المحققين ولم يعرجوا على تضعيفه فقط لعبد الرحمن ليعارضوا به الذهبي ويدلسوا على الناس أمر الحديث ويظهروه بمظهر الأحاديث التي اختلف فيها العلماء حتى يتسنى لهم ابتداع رأي جديد .

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 11:02 PM

حول الحديث يتلاءم مع قول أحد الحفاظ في أحد رواته فانظر إليهم كيف قالوا عقب ما سبق : ( فما كان حاله هكذا عند المحدثين فليس من الموضوع ولا من الضعيف الشديد بل هو من القسم الذي يعمل به في الفضائل )
أقول : وهذا كلام ساقط من وجهين : الأول : أنه مبني على أن عبد الرحمن ضعيف فقط وليس كذلك بل هو ضعيف جدا كما سبق وسيأتي التصريح بذلك عن أحد الحفاظ النقاد . الثاني : أنه معارض لحكم الحافظ بل الحفاظ على الحديث بالبطلان كما سبق فيكف جاز لهم خالفتهم لا سيما قد صرح أحدهم في ( التعقيب الحثيث ) ( أنه ليس له صفة التصحيح والتضعيف فلعله قال ذلك تواضعا وإلا فأنت تراه هنا قد أعطى لنفسه منزلة تسوغ له الاستقلال في البحث ولو أدى إلى مخالفة كل أولئك الحفاظ النقاد ويؤيد هذا الذي نقوله فيه أنه قال عطفا على ما سبق : ( فنحن في هذا الحديث مع من لم ير به ذلك ( يعني الوضع ) كالحاكم والحافظ السبكي فليس علينا فيه افتيات على الحافظ الذهبي لكن رأينا ما عليها الحافظان المذكوران أقرب إلى الصواب )
أقول : ولا يخفى ما في هذا الكلام من التلبيس والتدليس فإن الحاكم إنما ذهب في ( المستدرك ) إلى تصحيح الحديث كما سبق والسبكي قلده في ذلك كما بينه الحافظ ابن عبد الهادي فقال في رده عليه في ( الصارم المنكي ) :
( وإني لأتعجب منه كيف قلد الحاكم في تصحيحه مع أنه حديث غير صحيح ولا ثابت بل هو حديث ضعيف الإسناد
جدا وقد حكم عليه بعض الأئمة بالوضع وليس إسناده من الحاكم إلى عبد الرحمن بن زيد بصحيح بل مفتعل على عبد الرحمن كما سنبينه ولو كان صحيحا إلى عبد الرحمن لكان ضعيفا غير محتج به لأن عبد الرحمن في طريقه وقد أخطأ الحاكم وتناقض تناقضا فاحشا كما عرف له ذلك في مواضيع فإنه قد قال في كتاب ( الضعفاء ) بعد أن ذكر عبد الرحمن منهم ) . وذكر ما نقلته عنه فيما سبق : ( فانظر إلى ما وقع للحاكم في هذا الموضع من الخطأ العظيم والتناقض الفاحش ثم إن هذا المعترض المخذول عمد إلى هذا الذي أخطأ فيه الحاكم وتناقض فقلده فيه واعتمد عليه فقال : ( ونحن قد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم ) وذكر قبل ذلك بقليل أنه مما تبين له صحته . فانظر يرحمك الله إلى هذا الخذلان البين والخطأ الفاحش كيف جاء هذا المعترض إلى حديث غير صحيح ولا ثابت بل هو حديث موضوع فصححه واعتمد عليه وقلد في ذلك الحاكم مع ظهور خطئه وتناقضه مع معرفة هذا المعترض بضعف راويه وجرحه واطلاعه على الكلام المشهور فيه )
أقول : هذا شأن السبكي رحمه الله تعالى في هذا الحديث وتقليد الحاكم في تصحيحه وهذا مع كونه خطأ في نفسه كما سبق بيانه فهو خلاف رأي المشار إليه سابقا الذي صرح بأن الحديث ضعيف لا صحيح ولا موضوع فقد خالف - هو ومن قلده وناصره - الحاكم والسبكي كما خالفوا من سبق ذكرهم من العلماء الفحول الذين قالوا بوضع الحديث أو بطلانه فليس افتئاتهم على الذهبي فقط بل وعلى من وافقه وخالفه جميعا فليتأمل العاقل ما يفعل الهوى بصاحبه لقد أرادوا أن ينزهوا أنفسهم عن الافتئات على الذهبي وإذا بهم يقولون بما هو أدهى وأمر من الافتئات على من ذكرنا من العلماء
ومن مغالطاتهم المكشوفة عند أهل العلم قولهم في أثناء كلامهم السابق بعد أن أشاروا إلى طريق الطبراني الذي سبق الكلام عليه :
( فالذهبي لم يطلع على هذا الطريق وإلا لو اطلع عليه لم يقل بذلك )
أقول : وهذا الكلام باطل إذ أن الذهبي حكم على الحديث بالوضع والبطلان من طريق الحاكم وفيه عبد الرحمن بن زيد ورجل آخر لا يعرفه كما سبق بيانه في أول هذا التنبيه وطريق الطبراني فيه علاوة على عبد الرحمن هذا ثلاثة رجال آخرون لا يعرفون كما سبق أيضا فكيف يصح أن يقال حينئذ :
( إن الذهبي لو اطلع على هذا الطريق لم يقل بذلك ) ؟
اللهم إن هذه مغالطة ومكابرة مكشوفة أو جهل مركب فرحمتك اللهم وهداك
لقد تبين للقراء الكرام مما سلف أن للحديثين علتين :
الأولى : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأنه ضعيف جدا
الثانية : جهالة الإسناد إلى عبد الرحمن
وللحديث عندي علة أخرى . وهي اضطراب عبد الرحمن أو من دونه في إسناده فتارة كان يرفعه كما مضى وتارة كان
يرويه موقوفا على عمر لا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم كما روه أبو بكر الآجري في كتاب ( الشرعية ) من طريق عبد الله ابن إسماعيل بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن زيد به وعبد الله هذا لم أعرفه أيضا فلا يصح عن عمر لا مرفوعا ولا موقوفا ثم رواه الأجري من طريق آخر عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أنه قال : من الكلمات التي تاب الله بها على آدم قال : ( اللهم أسألك بحق محمد عليك . . . الحديث نحوه مختصرا وهذا مع إرساله ووقفه فإن إسناده إلى ابن أبي الزناد ضعيف جدا وفيه عثمان ابن خالد والد أبي مروان العثماني قال النسائي : ( ليس بثقة )
وعلى هذا فلا يبعد أن يكون أصل هذا الحديث من الإسرائيليات التي تسربت إلى المسلمين من بعض مسلمة أهل الكتاب أو غير مسلمتهم أو عن كتبهم التي لا يوثق بها لما طرأ عليها من التحريف والتبديل كما بينه شيخ الإسلام في كتبه ثم رفعه بعض هؤلاء الضعفاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم خطأ أو عمدا
مخالفة هذا الحديث للقرآن :
ومما يؤيد ما ذهب إليه العلماء من وضع هذا الحديث وبطلانه أنه يخالف القرآن الكريم في موضعين منه :
الأول : أنه تضمن أن الله تعالى غفر لآدم بسبب توسله به صلى الله عليه و سلم والله عز و جل يقول : ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ) . وقد جاء تفسير هذه الكلمات عن
ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما بما يخالف هذا الحديث فأخرج الحاكم عنه { فتلقى آدم من ربه كلمات . . . } قال : أي رب ألم تخلقني بيدك ؟ قال : بلى . قال : ألم تنفخ في من روحك ؟ قال : بلى قال : أي رب ألم تسكني جنتك ؟ قال : بلى . قال : ألم تسبق رحمتك غضبك ؟ قال : بلى . قال : أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قال بلى . قال : فهو قوله : { فتلقى آدم من ربه كلمات } وقال الحاكم : ( صحيح الإسناد ) ووافقه الذهبي وهو كما قالا
قلت : وقول ابن عباس هذا في حكم المرفوع من وجهين :
الأول : أنه أمر غيبي لا يقال من مجرد الرأي
الثاني : أنه ورد في تفسير الآية وما كان كذلك فهو في حكم المرفوع كما تقرر في محله ولا سيما إذا كان من قول إمام المفسرين عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله : ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل )
وقد قيل في تفسير هذه الكلمات : إنها ما في الآية الأخرى : { قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } . وبهذا جزم السيد رشيد رضا في ( تفسيره ) لكن أشار ابن كثير إلى تضعيفه ولا منافاة عندي بين القولين بل أحدهما يتمم الآخر فحديث ابن عباس لم يتعرض لبيان ما قاله آدم عليه السلام بعد أن تلقى من ربه تلك الكلمات
وهذا القول يبين ذلك فلا منافاة والحمد لله وثبت مخالفة الحديث للقرآن فكان باطلا
الموضع الثاني : قوله في آخره : ( ولولا محمد ما خلقتك ) فإن هذا أمر عظيم يتعلق بالعقائد التي لا تثبت إلا بنص متواتر اتفاقا أو صحيح عند آخرين ولو كان ذلك صحيحا لورد في الكتاب أو السنة الصحيحة وافتراض صحته في الوقع مع ضياع النص الذي تقوم به الحجة ينافي قوله تبارك وتعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } والذكر هنا يشمل الشريعة كلها قرآنا وسنة كما قرره ابن حزم في ( الإحكام ) وأيضا فإن الله تبارك وتعالى قد أخبرنا عن الحكمة التي من أجلها خلق آدم وذريته فقال عز و جل : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } فكل ما خالف هذه الحكمة أو زاد عليها لا يقبل إلا بنص صحيح عن المعصوم صلى الله عليه و سلم كمخالفة هذا الحديث الباطل . ومثله ما اشتهر على ألسنة الناس : ( لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك ) فإنه موضوع كما قال الصنعاني ووافقه الشوكاني في ( الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ) . ومن الطرائف أن المتنبي ميرزا غلام أحمد القادياني سرق هذا الحديث الموضوع فادعى أن الله خاطبه بقوله : ( لولاك لما خلقت الأفلاك ) وهذا شيء يعترف به أتباعه القاديانون هنا في دمشق وغيرها . لوروده في كتاب متنبئهم ( حقيقة الوحي )
ثم على افتراض أن هذا الحديث ضعيف فقط كما يزعم بعض
المخالفين خلافا لمن سبق ذكرهم من العلماء والحافظ فلا يجوز الاستدلال به على مشروعية التوسل المختلف فيه لأنه - على قولهم - عبادة مشروعة وأقل أحوال العبادة أن تكون متسحبة والاستحباب حكم شرعي من الأحكام الخمسة التي لا تثبت إلا بنص صحيح تقوم به الحجة فإذ الحديث عنده ضعيف فلا حجة فيه البتة . وهذا بين لا يخفى إن شاء الله تعالى
الحديث السابع : ( توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظم ) :
وبعضهم يرويه بلفظ :
( باطل ) ( إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم )
هذا باطل لا أصل له في شيء من كتب الحديث البتة وإنما يرويه بعض الجهال بالسنة كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه في ( القاعدة الجليلة ) قال : مع أن جاهه صلى الله عليه و سلم عند الله أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين ولكن جاه المخلوق عند الخالق ليس كجاه المخلوق عند المخلوق فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب والله تعالى لا شريك له كما قال سبحانه : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [ سبأ : 22 و 23 ]
فلا يلزم إذن من كون جاهه صلى الله عليه و سلم عند ربه عظيما أن نتوسل به إلى الله تعالى لعدم ثبوت الأمر به عنه صلى الله عليه و سلم ويوضح ذلك أن الركوع والسجود من مظاهر التعظيم فيما اصطلح عليه الناس . فقد كانوا وما يزال بعضهم يقومون ويركعون ويسجدون لمليكهم ورئيسهم والمعظم لديهم ومن المتفق عليه بين المسلمين أن محمدا صلى الله عليه و سلم وهو أعظم الناس لديهم وأرفعهم عندهم . ترى فهل يجوز لهم أن يقوموا ويركعوا ويسجدوا له في حياته وبعد مماته ؟
الجواب : إنه لا بد لمن يجوز ذلك من أن يثبت وروده في الشرع وقد نظرنا فوجدنا أن السجود والركوع لا يجوزان إلا لله سبحانه وتعالى وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن يسجد أو يركع لأحد كما أننا رأينا في السنة كراهية النبي صلى الله عليه و سلم للقيام فدل ذلك على عدم مشروعيته
ترى فهل يستطيع أحد أن يقول عنا حين نمنع السجود لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إننا نكره جاهه وقدره ؟ كلا ثم كلا
وكذلك : فهل يستطع أحد أن يبني على ثبوت جاه الرسول صلى الله عليه و سلم ثبوت السجود له والركوع ؟ أيضا نقول . كلا ثم كلا
فظهر من هذا بجلاء إن شاء الله تعالى أنه لا تلازم بين ثبوت جاه النبي صلى الله عليه و سلم وبين تعظيمه بالتوسل بجاهه ما دام أنه لم يرد في الشرع
هذا وإن من جاهه صلى الله عليه و سلم أنه يجب علينا اتباعه وإطاعته كما يجب إطاعة ربه وقد ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( ما تركت شيئا يقربكم
إلى الله إلا أمرتكم به ) ( 1 ) . فإذا لم يأمرنا بهذا التوسل ولو أمر استحباب فليس عبادة . فيجب علينا اتباعه في ذلك وأن ندع العواطف جانبا . ولا نفسح لها المجال حتى تدخل في دين الله ما ليس منه بدعوى حبه صلى الله عليه و سلم . فالحب الصادق إنما هو الاتباع . وليس بالابتداع كما قال عز و جل : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ومنه قول الشاعر :
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمرك في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
أثران ضعيفان :

1 - أثر الاستسقاء بالرسول صلى الله عليه و سلم بعد وفاته :
وبعد أن فرغنا من إيراد الأحاديث الضعيفة في التوسل وتحقيق القول فيها يحسن بنا أن نورد أثرا كثيرا ما يورده المجيزون لهذا التوسل المبتدع لنبين حاله من صحة أو ضعف وهل له علاقة بما نحن فيه أم لا ؟ فأقول : قال الحافظ في ( الفتح ) ما نصه :
( وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار - وكان خازن عمر - قال : أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتي الرجل في المنام فقيل له : ائت عمر . . . الحديث . وقد روى سيف في ( الفتوح ) )
أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة )
قلت : والجواب من وجوه :
الأول : عدم التسليم بصحة هذه القصة لأن مالك الدار غير معروف العدالة والضبط وهذان شرطان أساسيان في كل سند صحيح كما تقرر في علم المصطلح وقد أورده ابن أبي حاتم في ( الجرح والتعديل ) ولم يذكر راويا عنه غير أبي صالح هذا ففيه إشعار بأنه مجهول ويؤيده أن ابن أبي حاتم نفسه - مع سعة حفظه واطلاعه - لم يحك فيه توثيقا فبقي على الجهالة ولا ينافي هذا قول الحافظ ( . . . بإسناد صحيح من وراية أبي صالح السمان . . . ) لأننا نقول : إنه ليس نصا في تصحيح جميع السند بل إلى أبي صالح فقط ولولا ذلك لما ابتدأ هو الإسناد من عند أبي صالح ولقال رأسا : ( عن مالك الدار . . . وإسناده صحيح ) ولكنه تعمد ذلك ليلفت النظر إلى أن هاهنا شيئا ينبغي النظر فيه والعلماء إنما يفعلون ذلك لأسباب منها : أنهم قد لا يحضرهم ترجمة بعض الرواة فلا يستجيزون لأنفسهم حذف السند كله لما فيه من إيهام صحته لا سيما عند الاستدلال به بل يوردون منه ما فيه موضع للنظر فيه وهذا هو الذي صنعه الحافظ رحمه الله هنا وكأنه يشير إلى تفرد إلى تفرد أبي صالح السمان عن مالك الدار كما سبق نقله عن ابن أبي حاتم وهو يحيل بذلك إلى وجوب التثبت من حال مالك هذا أو يشير إلى جهالته . والله أعلم
وهذا علم دقيق لا يعرفه إلا من مارس هذه الصناعة ويؤيد
ما ذهبت إليه أن الحافظ المنذري أورد في ( الترغيب ) قصة أخرى من رواية مالك الدار عن عمر ثم قال : ( رواه الطبراني في الكبير ورواته إلى مالك الدار ثقات مشهورون ومالك الدار لا أعرفه ) . وكذا قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد )
وقد غفل عن هذا التحقيق صاحب كتاب ( التوصل ) فاغتر بظاهر كلام الحافظ وصرح بأن الحديث صحيح وتخلص منه بقوله : ( فليس فيه سوى : جاء رجل . . ) واعتمد على أن الرواية التي فيها تسمية الرجل ببلال بن الحارث فيها سيف وقد عرفت حاله
وهذا لا فائدة كبرى فيه بل الأثر ضعيف من أصله لجهالة مالك الدار كما بيناه
الثاني : أنها مخالفة لما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء لاستنزال الغيث من السماء كما ورد ذلك في أحاديث كثيرة وأخذ به جماهير الأئمة بل هي مخالفة لما أفادته الآية من الدعاء والاستغفار وهي قوله تعالى في سورة نوح : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا . . . } وهذا ما فعله عمر بن الخطاب حين استسقى وتوسل بدعاء العباس كما سبق بيانه وهكذا كانت عادة السلف الصالح كلما أصابهم القحط أن يصلوا ويدعوا ولم ينقل عن أحد منهم مطلقا أنه التجأ إلى قبر النبي صلى الله عليه و سلم وطلب منه الدعاء للسقيا ولو كان ذلك مشروعا لفعلوه ولو مرة واحدة فإذا لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعية ما جاء في القصة
الثالث : هب أن القصة صحيحة فلا حجة فيها لأن مدارها على رجل لم يسم فهو مجهول أيضا وتسميته بلالا في رواية سيف لا يساوي شيئا لأن سيفا هذا - وهو ابن عمر التميمي - متفق على ضعفه عند المتحدثين بل قال ابن حبان فيه : ( يروي الموضوعات عن الأثبات وقالوا : إنه كان يضع الحديث ) . فمن كان هذا شأنه لا تقبل روايته ولا كرامة لا سيما عند المخالفة
( تنبيه ) : سيف هذا يرد ذكره كثيرا في تاريخ ابن جرير وابن كثير وغيرهما فينبغي على المشتغلين بعلم التاريخ أن لا يغفلوا عن حقيقة أمره حتى لا يعطوا الروايات ما لا تستحق من المنزلة
ومثله لوط بن يحيى أبو مخنف قال الذهبي في ( الميزان ) : ( أخباري تالف لا يوثق به . تركه أبو حاتم وغيره . وقال الدارقطني : ضعيف وقال يحيى بن معين : ليس بثقة وقال ابن عدي : شيعي محترق صاحب أخبارهم )
ومثله محمد بن عمر المعروف بالواقدي - شيخ ابن سعد صاحب ( الطبقات ) الذي يكثر الرواية عنه - وقد اغتر به الدكتور البوطي فروى أخبار كثيرة في ( فقه السيرة ) من طريقه مع أنه تعهد في مقدمته بأن ينقل الصحاح وما صح من السيرة والواقدي هذا متروك الحديث أيضا كما قال علماء الحديث فتأمل
الفرق بين التوسل بذات النبي صلى الله عليه و سلم وبين طلب الدعاء منه :
الوجه الرابع : أن هذا الأثر ليس فيه التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم بل فيه طلب الدعاء منه بأن يسقي الله تعالى أمته وهذه مسألة أخرى
لا تشملها الأحاديث المتقدمة ولم يقل بجوازها أحد من علماء السلف الصالح رضي الله عنهم أعنى الطلب منه صلى الله عليه و سلم بعد وفاته قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( القاعدة الجليلة ) :
( لم يكن النبي صلى الله عليه و سلم بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرعوا للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين ويستشفعوا بهم لا بعد مماتهم ولا في مغيبهم فلا يقول أحد : ( يا ملائكة الله اشفعوا لي عند الله سلوا الله لنا أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين يا نبي الله يا ولي الله ( الأصل : رسول الله ) ادع الله لي سل الله لي سل الله أن يغفر لي . . . ولا يقول : أشكو إليك ذنوبي أو نقص رزقي أو تسلط العدو علي أو أشكو إليك فلانا الذي ظلمني ولا يقول : أنا نزيلك أنا ضيفك أنا جارك أو أنت تجير من يستجيرك . ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور ولا يكتب أحد محضر أنه استجار بفلان ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين كما يفعله النصارى في كنائسهم وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين أو في مغيبهم فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام وبالنقل المتواتر وبإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يشرع هذا لأمته وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئا من ذلك ولا فعل هذا أحد من أصحاب صلى الله عليه و سلم والتابعين لهم بإحسان ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها أنه يستحب
لأحد أن يسأل النبي صلى الله عليه و سلم عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين وكان أصحابه يبتلون بأنواع البلاء بعد موته فتارة بالجدب وتارة بنقص الرزق وتارة بالخوف وقوة العدو وتارة بالذنوب والمعاصي ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول : نشكوا إليك جدب الزمان أو قوة العدو أو كثرة الذنوب ولا يقول : سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم بل وهذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين وكل بدعة ليست واجبة ولا مستحبة فهي بدعة سيئة وضلالة باتفاق المسلمين ( 1 ) . ومن قال في بعض البدع : إنها بدعة حسنة فإنما ذلك إذا قام دليل شرعي على أنها مستحبة فأما ما ليس بمستحب ولا واجب فلا يقولون أحد من المسلمين : إنها من الحسنات التي يتقرب بها إلى الله ومن تقرب بما ليس من الحسنات المأمور بها أمر إيجاب ولا استحباب فهو ضال متبع للشيطان وسبيله من سبيل الشيطان كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : خط لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله
( 1 ) يحمل كلام الشيخ الإسلام هنا على أحد وجهين : أولهما : أن يكون خاطب المخالفين بما يعتقدون من انقسام البدعة بحسب الأحكام الخمسة ومنها الوجوب والاستحباب . وثانيهما : أن يكون أراد بالبدعة اللغوية منها وهي ما يحدث بعد النبي صلى الله عليه و سلم ودل عليها الدليل الشرعي . وإنما قلنا هذا لما هو معروف عنه رحمه الله أنه يعد البدعة الشرعية كلها ضلالة وتمام كلامه هنا يدل على عليه
ثم قال : هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } . ) . [ الأنعام : 53 ]
قلت : وإنما وقع بعض المتأخرين في هذا الخطأ المبين بسبب قياسهم حياة الأنبياء والأولياء في البرزخ على حياتهم في الدنيا وهذا قياس باطل مخالف للكتاب والسنة والواقع . وحسبنا الآن مثالا على ذلك أن أحدا من المسلمين لا يجيز الصلاة وراء قبورهم ولا يستطيع أحد مكالمتهم ولا التحدث إليهم وغير ذلك من الفوارق التي لا تخفى على عاقل
الاستغاثة بغير الله تعالى :
ونتج من هذا القياس الفاسد والرأي الكاسد تلك الضلالة الكبرى والمصيبة العظمى التي وقع فيها كثير من عامة المسلمين وبعض خاصتهم ألا وهي الاستغاثة بالأنبياء والصالحين من دون الله تعالى في الشدائد والمصائب حتى إنك لتسمع جماعات متعددة عند بعض القبور يتسغيثون بأصحابها في أمور مختلفة كأن هؤلاء الأموات يسمعون ما يقال لهم ويطلب منهم من الحاجات المختلفة بلغات متباينة فهم عند المستغيثين بهم يعلمون مختلف لغات الدنيا ويميزون كل لغة عن الأخرى ولو كان الكلام بها في آن واحد وهذا هو الشرك في صفات الله تعالى الذي جهله كثير من الناس فوقعوا بسببه في هذه الضلالة الكبرى
ويبطل هذا ويرد عليه آيات كثيرة : منها قوله تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } [ الإسراء : 56 ] . والآيات في هذا الصدد كثيرة بل قد ألف في بيان ذلك كتب ورسائل عديدة ( 1 ) فمن كان في شك من ذلك فليرجع إليها يظهر له الحق إن شاء الله ولكني وقفت على نقول لبعض علماء الحنفية رأيت من المفيد إيرادها هنا حتى لا يظن ظان أن ما قلناه لم يذهب إليه أحد من أصحاب المذاهب المعروفة
قال الشيخ أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي في ( التعليق المغني على سنن الدارقطني ) :
( ومن أقبح المنكرات وأكبر البدعات وأعظم المحدثات ما اعتاده أهل البدع من ذكر الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله بقولهم : يا شيخ عبد القادر الجيلاني شيئا لله والصلوات المنكوسة إلى بغداد وغير ذلك مما لا يعد وهؤلاء عبدة غير الله ما قدروا الله حق قدره ولم يعلم هؤلاء السفهاء أن الشيخ رحمه الله لا يقدر على جلب نفع لأحد ولا دفع ضر عنه مقدار ذرة فلم يستغيثون به ولم يطلبون الحوائج منه ؟ أليس الله بكاف عبده ؟ اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك أو نعظم أحدا من خلفك كعظمتك قال في ( البزارية ) وغيرها من كتب الفتاوى : ( من قال : إن

أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر ) ( 1 ) وقال الشيخ فخر الدين أبو سعد عثمان الجياني بن سليمان الحنفي في رسالته : ومن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله واعتقد بذلك كفر . كذا في البحر الرائق وقال القاضي حميد الدين تاكوري الهندي في ( التوشيح ) : ( منهم الذين يدعون الأنبياء والأولياء عند الحوائج والمصائب باعتقاد أن أرواحهم حاضرة تسمع النداء وتعلم الحوائج وذلك شرك قبيح وجهل صريح قال الله تعالى : { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون } [ الأحقاف : 5 ] وفي البحر ( 2 ) : لو تزوج بشهادة الله ورسوله لا ينعقد النكاح ويكفر لاعتقاده أن النبي صلى الله عليه و سلم يعلم الغيب ( 3 ) وهكذا في فتاوى قاضي خان والعيني والدر المختار والعالمكيرية وغيرها من كتب الحنفية وأما الآيات الكرمية والسنة المطهرة في إبطال أساس الشرك والتوبيخ لفاعله فأكثر من أن تحصى - ولشيخنا العلامة السيد محمد نذير حسين الدهلوي في رد تلك البدعة المنكرة رسالة شافية )

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 11:07 PM

زيد ثنا بن عمرو بن مالك النكري حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال : قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة فقالت : انظروا قبر النبي صلى الله عليه و سلم فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف قال : ففعلوا فمطرنا مطرا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق )
قلت : وهذا سند ضعيف لا تقوم به حجة لأمور ثلاثة :
أولها : أن سعيد بن زيد وهو أخو حماد بن يزيد فيه ضعف . قال فيه الحافظ في ( التقريب ) : صدوق له أوهام . وقال الذهبي في ( الميزان ) :
( قال يحيى بن سعيد : ضعيف وقال السعدي : ليس بحجة يضعفون حديثه وقال النسائي وغيره : ليس بالقوي وقال أحمد : ليس به بأس كان يحيى بن سعيد لا يستمرئه )
وثانيها : أنه موقوف على عائشة وليس بمرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم ولو صح لم تكن فيه حجة لأنه يحتمل أن يكون من قبيل الآراء الاجتهادية لبعض الصحابة مما يخطئون فيه ويصيبون ولسنا ملزمين بالعمل بها
وثالثها : أن أبا النعمان هذا هو محمد بن الفضل يعرف بعارم وهو وإن كان ثقة فقد اختلط في آخر عمره . وقد أورده الحافظ برهان الدين الحلبي في ( الاغتباط بمن رمي بالاختلاط ) تبعا لابن الصلاح حيث أورده في ( المختلطين ) من كتابه ( المقدمة ) وقال :
( والحكم فيهم أنه يقبل حديث من أخذ عنهم قبل الاختلاط
ولا يقبل من أخذ عنهم بعد الاختلاط أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده )
قلت : وهذا الأثر لا يدرى هل سمعه الدارمي منه قبل الاختلاط أو بعده فهو إذن غير مقبول فلا يحتج به ( 1 ) وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( الرد على البكري ) : ( وما روي عن عائشة رضي الله عنها من فتح الكوة من قبره إلى السماء لينزل المطر فليس بصحيح ولا يثبت إسناده ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة بل كان باقيا كما كان على عهد النبي صلى الله عليه و سلم بعضه مسقوف وبعضهم مكشوف وكانت الشمس تنزل فيه كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد في إمارته لما زاد الحجر في مسجد الرسول صلى الله عليه و سلم . . ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد ثم إنه بنى حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف . وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذب بين ولو صح ذلك لكان حجة ودليلا على أن القوم لم يكونوا يقسمون على الله بمخلوق ولا يتوسلون في دعائهم بميت ولا يسألون الله به وإنما فتحو على القبر لتنزل الرحمة عليه ولم يكن هناك دعاء يقسمون به عليه فأين هذا من هذا ؟ والمخلوق إنما ينفع المخلوق بدعائه أو بعمله فإن الله تعالى يحب أن نتوسل إليه بالإيمان والعمل والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه و سلم ومحبته وطاعته وموالاته فهذه هي الأمور التي يحب الله أن نتوسل بها إليه وإن أريد أن نتوسل إليه بما تحب ذاته وإن لم يكن هناك ما يحب الله أن نتوسل به من الإيمان والعمل الصالح فهذا باطل عقلا وشرعا أما عقلا فلأنه ليس في كون الشخص المعين محبوبا له ما يوجب كون حاجتي تقضى بالتوسل بذاته إذا لم يكن مني ولا منه سبب تقضى به حاجتي فإن كان منه دعاء لي أو كان مني إيمان به وطاعة له فلا ريب أن هذه وسيلة وأما نفس ذاته المحبوبة فأي وسيلة لي منها إذا لم يحصل لي السبب الذي أمرت به فيها
وأما الشرع فيقال : العبادات كلها مبناها على الاتباع لا على الابتداع فليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله فليس لأحد أن يصلي إلى قبره ويقول هو أحق بالصلاة إليه من الكعبة وقد ثبت عنه صلى الله عليه و سلم في الصحيح أنه قال :
( صحيح ) ( لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها )
مع أن طائفة من غلاة العباد يصلون إلى قبور شيوخهم بل يستدبرون القبلة ويصلون إلى قبر الشيخ ويقولون : هذه قبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة وطائفة أخرى يرون الصلاة عند قبور شيوخهم أفضل من الصلاة في المساجد حتى المسجد الحرام [ والنبوي ] والأقصى . وكثير من الناس يرى أن الدعاء عند قبور الأنبياء والصالحين أفضل منه في المساجد وهذا كله مما قد علم جميع أهل العلم بديانة الإسلام أنه مناف لشريعة الإسلام . ومن لم يعتصم في هذا الباب وغيره بالكتاب والسنة فقد ضل وأضل ووقع في مهواة من التلف . فعلى العبد أن يسلم للشريعة المحمدية الكاملة البيضاء الواضحة ويسلم أنها جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإذا رأى من العبادات والتقشفات وغيرها التي يظنها حسنة ونافعة ما ليس بمشروع علم أن ضررها راجح على نفعها ومفسدتها راجحة على مصلحتها إذ الشارع حكيم لا يهمل المصالح ) ثم قال :
( والدعاء من أجل العبادات فينبغي للإنسان أن يلزم الأدعية المشروعة فإنها معصومة كما يتحرى في سائر عباداته الصور المشروعة فإن هذا هو الصراط المستقيم . والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين )
( تبيه ) : اعلم أن كتاب الدارمي هذا هو على طريقة السنن الأربعة في ترتيب الكتب والأبواب ولذلك فالصواب إطلاق اسم ( السنن ) عليه كما فعل فضيلة الشيخ دهمان في طبعته إياه
وقد اشتهر قديما ب ( مسند الدارمي ) وهذا وهم لا وجه له مطلقا عند أهل العلم ومثله تسميته ب ( الصحيح ) وهذا أبعد ما يكون عن الصواب لأن فيه أحاديث مرفوعة كثيرة ضعيفة الأسانيد وبعضها مرسلات ومعضلات وفيه آثار موقوفة وكثير منها ضعيفة كهذا الأثر فأنى له الصحة ومثل هذا الخطأ إطلاق لفظ ( الصحاح ) على السنن الأربعة أيضا كما يفعل بعض الدكاترة فإن هذا مع منافاته لأسمائها الحقيقية ( السنن ) فإنها منافية

أيضا لواقع الأمر فإن فيها أحاديث ضعيفة كثيرة أيضا ومنافية أيضا لصنيع مؤلفيها فإنهم ينبهون أحيانا على بعض الأحاديث الضعيفة التي وقعت فيها وبخاصة منهم الإمام الترمذي فإنه واسع الباع في بيان الضعيف الذي في كتابه كما يعرف ذلك أهل العلم بهذه ( السنن ) . وفي سنن ابن ماجه غير ما حديث موضوع فضلا عن الضعيف فلا يطلق على هذه ( السنن ) اسم ( الصحاح ) إلا جاهل أو مغرض
( 1 ) وتغافل عن هذه العلة الشيخ الغماري في ( المصباح - 43 ) كما تغافل عنها من لم يوفق للإصابة ليوهموا الناس صحة هذا الأثر
[ 129 ]

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 11:16 PM

الوجه الرابع :
الشبهة الرابعة : قياس الخالق على المخلوقين :
يقول المخالفون : إن التوسل بذوات الصالحين وأقدارهم أمر مطلوب وجائز لأنه مبني على منطق الواقع ومتطلباته ذلك أن أحدنا إذا كانت له حاجة عند ملك أو وزير أو مسؤول كبير فهو لا يذهب إليه مباشرة لأنه يشعر أنه ربما لا يلتفت إليه هذا إذا لم يرده أصلا ولذلك كان من الطبيعي إذا أردنا حاجة من كير فإننا نبحث عمن يعرفه ويكون مقربا إليه أثيرا عنده ونجعله واسطة بيننا وبينه فإذا فعلنا ذلك استجاب لنا وقضيت حاجتنا وهكذا الأمر نفسه في علاقتنا بالله سبحانه - بزعمهم - فالله عز و جل عظيم العظماء وكبير الكبراء ونحن مذنبون عصاة ويعيدون لذلك عن جناب الله ليس من اللائق بنا أن ندعوه مباشرة لأننا إن فعلنا ذلك خفنا أن يردنا على أعقابنا خائبين أو لا يلتفت إلينا فنرجع بخفي حنين وهناك أناس صالحون كالأنبياء والرسل والشهداء قريبون إليه سبحانه يستجيب لهم إذا دعوه ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا لديه أفلا يكون الأولى بنا والأحرى أن نتوسل إليه بجاههم ونقدم بين يدي دعائنا ذكرهم عسى أن ينظر الله تعالى إلينا إكراما لهم ويجيب دعاءنا مراعاة لخواطرهم فلماذا تمنعون هذا النوع من التوسل والبشر يستعملونه فيما بينهم فلم لا يستعملونهم مع ربهم ومعبودهم ؟
ونقول جوابا على هذه الشبهة : إنكم يا هؤلاء إذن تقيسون الخالق على المخلوق وتشبهون قيوم السماوات والأرض أحكم الحاكمين وأعدل العادلين الرؤوف الرحيم بأولئك الحكام الظالمين والمتسلطين المتجبرين الذين لا يأبهون لمصالح الرعية ويجعلون بينهم وبين الرعية حجبا وأستارا فلا يمكنها أن تصل إليهم إلا بوسائط ووسائل ترضي هذه الوسائط بالرشاوى والهبات وتخضع لها وتتذلل وتترضاها وتتقرب إليها فهل خطر ببالكم أيها المساكين أنكم حين تفعلون ذلك تذمون ربكم وتطعنون به وتؤذونه وتصفونه بما يمقته وما يكرهه ؟
هل خطر ببالكم أنكم تصفون الله تعالى بأبشع الصفات حين تقيسونه على الحكام الظلمة والمتسلطين الفجرة فكيف يسوغ هذا لكم دينكم وكيف يتفق هذا مع ما يجب عليكم من تعظيمكم لربكم وتمجيدكم لخالقكم ؟
ترى لو كان يمكن لأحد الناس أن يخاطب الحاكم وجها لوجه ويكلمه دون واسطة أو حجاب أيكون ذلك أكمل وأمدح له أم حين لا يتمكن من مخاطبته إلا من خلال وسائط قد تطول وقد تقصر ؟
يا هؤلاء إنكم تفخرون في أحاديثكم بعمر بن الخطاب رضي الله عنه
وتمجدونه وتشيدون به وتبينون للناس أنه كان متواضعا لا يتكبر ولا يتجبر وكان قريبا من الناس يتمكن أضعفهم من لقائه ومخاطبته وأنه كان يأتيه الأعرابي الجاهل الفظ من البادية فيكلمه دون واسطة أو حجاب فينظر في حاجته ويقضيها له إن كانت حقا . ترى هل هذا النوع من الحكام خير وأفضل أم ذاك النوع الذي تضربون لربكم به الأمثال ؟
فما لكم كيف تحكمون ؟ وما لعقولكم أين ذهبت وما لتفكيركم أين غاب وكيف ساغ لكم تشبيه الله تعالى بالملك الظالم أم كيف غطى عنكم الشيطان بشاعة قياس الله سبحانه على الأمير الغاشم ؟
يا هؤلاء إنكم لو شبهتم الله تعالى بأعدل الناس وأتقى الناس وأصلح الناس لكفرتم فكيف وقد شبهتموه سبحانه بأظلم الناس وأفجر الناس وأخبت الناس ؟
يا هؤلاء إنكم لو قستم ربكم الجليل على عمر بن الخطاب التقي العادل لوقعتم في الشرك فكيف تردى بكم الشيطان فلم ترضوا بذلك حتى أوقعكم في قياس ربكم على أهل الجور والفساد من الملوك والأمراء والوزراء ؟
إن تشبيه الله تعالى بخلقه كفر كله حذر منه سبحانه حيث قال : { ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون . فلا تضربوا لله الأمثال . إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون }[ النحل : 74 ] . قال الحافظ ابن كثير : ( أي لا تجعلوا لله أندادا وأشباها وأمثالها ) كما نفى سبحانه أي مشابهة بينيه وبين أي خلق من مخلوقاته فقال : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ] [ الشورى : 11 ] . ولكن شر تشبيه أن يشبهه المرء بالأشرار والفجار والفساق من الولاة وهو يظن أنه يحسن صنعا إن هذا هو الذي يحمل بعض العلماء والمحققين على المبالغة في إنكار التوسل بذوات الأنبياء واعتباره شركا وإن كان هو في نفسه ليس شركا عندنا بل يخشى أن يؤدي إلى الشرك وقد أدى فعلا بأولئك الذين يعتذرون لتوسلهم بذلك التشبيه السابق الذي هو الكفر بعينه لو كانوا يعلمون
ومن هنا يتبين أن قول بعض الدعاة الإسلاميين اليوم في الأصل الخامس عشر من أصوله العشرين : ( والدعاء إذا قرن بالتوسل إلى الله بأحد من خلقه خلاف فرعي في كيفية الدعاء وليس من مسائل العقيدة ) ليس صحيحا على إطلاقه لما علمت أن في الواقع ما يشهد بأنه خلاف جوهري إذ فيه شرك صريح كما سبق . ولعل مثل هذا القول الذي يهون من أمر هذا الانحراف هو أحد الأسباب التي تدفع بالكثيرين إلى عدم البحث فيه وتحقيق الصواب في أمره مما يؤدي في نهاية المطاف إلى استمرار المبتدعين في بدعهم واستفحال خطرها بينهم ولذلك قال الإمام العز بن عبد السلام في رسالة ( الواسطة ) : ( ومن أثبت الأنبياء وسواهم من مشايخ العلم والدين وسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب الذين بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله تعالى حوائج خلقه وأن الله تعالى إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملك حوائج الناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك ولأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهؤلاء مشبهون لله شبهوا الخالق بالمخلوق وجعلوا لله أندادا . . . )
الشبهة الخامسة : هل هناك مانع من التوسل المبتدع على وجه الإباحة لا الاستحباب ؟
قد يقول القائل : صحيح أنه لم يثبت في السنة ما يدل على استحباب التوسل بذوات الأنبياء والصالحين ولكن ما المانع منه إذا فعلنا على طريقة الإباحة لأنه لم يأتي نهي عنه ؟
فأقول : هذه شبهة طالما سمعناها ممن يريد أن يتخذ موقفا وسطا بين الفريقين لكي يرضي كلا منهما وينجو من حملاتهما عليه والجواب : يجب أن لا ننسى في هذا المقام معنى الوسيلة إذا هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود كما تقدم بيانه
ولا يخفى أن الذي يراد التوصل إليه إما أن يكون دينيا أو دنيويا وعلى الأول لا يمكن معرفة الوسيلة التي توصل إلى الأمر الديني إلا من طريق شرعي فلو ادعى رجل أن توسله إلى الله تعالى بآية من آياته الكونية العظيمة كالليل والنهار مثلا سبب لاستجابة الدعاء لرد عليه ذلك إلا أن يأتي بدليل ولا يمكن أن يقال حينئذ بإباحة هذا التوسل لأنه كلام ينقض بعضه بعضا إذ أنك تسميه توسلا وهذا لم يثبت شرعا وليس له طريق آخر في إثباته وهذا بخلاف القسم الثاني من القسمين المذكورين وهو الدنيوي فإن أسبابه يمكن أن تعرف بالعقل أو بالعلم أو بالتجربة ونحو ذلك مثل الرجل يتاجر ببيع الخمر فهذا سبب معروف للحصول على المال فهو وسيلة لتحقيق المقصود وهو المال ولكن هذه الوسيلة نهى الله عنها فلا يجوز اتباعها بخلاف ما لو تاجر بسبب لم يحرمه الله عز و جل فهو مباح أما السبب المدعى أنه يقرب إلى الله وأنه أرجى في قبول الدعاء فهذا سبب لا يعرف إلا بطريق الشرع فحين يقال : بأن الشرع لم يرد بذلك لم يجز تسميته وسيلة حتى يمكن أن يقال إنه مباح التوسل به وقد تقدم الكلام في هذا النوع مفصلا في الفصل الثاني من هذه الرسالة
وشيء ثان : وهو أن هذا التوسل الذي سلمنا بعدم وروده قد جاء في الشرع ما يغني عنه وهو التوسلات الثلاثة التي سبق ذكرها في أول البحث فما الذي يحمل المسلم على اختيار هذا التوسل الذي لم يرد والإعراض عن التوسل الذي ورد ؟ وقد اتفق العلماء على أن البدعة إذا صادمت سنة فهي بدعة ضلالة اتفاقا وهذا التوسل من هذا القبيل فلم يجز التوسل به ولو على طريق الإباحة دون الاستحباب
وأمر ثالث : وهو أن هذا التوسل بالذوات يشبه توسل الناس ببعض المقربين إلى الملوك والحكام والله تبارك وتعالى ليس كمثله

شيء باعتراف المتوسلين بذلك فإذا توسل المسلم إليه تعالى بالأشخاص فقد شبهه عملا بأولئك الملوك والحكام كما سبق بيانه وهذا غير جائز
الشبهة السادسة : قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح :
هذه شبهة أخرى يثيرها بعض أولئك المبتدعين

شيء باعتراف المتوسلين بذلك فإذا توسل المسلم إليه تعالى بالأشخاص فقد شبهه عملا بأولئك الملوك والحكام كما سبق بيانه وهذا غير جائز
الشبهة السادسة : قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح :
هذه شبهة أخرى يثيرها بعض أولئك المبتدعين ( 1 ) زينها لهم الشيطان ولقنهم إياها حيث يقولون : قد قدمتم أن من التوسل المشروع اتفاقا التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح فإذا كان التوسل بهذا جائزا فالتوسل بالرجل الصالح الذي صدر منه هذا العمل أولى بالجواز وأحرى بالمشروعية فلا ينبغي إنكاره . والجواب من وجهين :
الوجه الأول : أن هذا قياس والقياس في العبادات باطل كما تقدم ص 130 ، وما مثل من يقول هذا القول إلا كمثل من يقول : إذا جاز توسل المتوسل بعمله الصالح - وهو بلا شك دون عمل الولي والنبي - جاز أن يتوسل بعمل النبي والولي وهذا وما لزم منه باطل فهو باطل
الوجه الثاني : أن هذه مغالطة مكشوفة لأننا لم نقل - كما لم يقل أحد من السلف قبلنا - أنه يجوز للمسلم أن يتوسل بعمل غيره الصالح وإنما التوسل المشار إليه إنما هو التوسل بعمل المتوسل الصالح نفسه فإذا تبين هذا قلبنا عليهم كلامهم السابق فقلنا : إذا كان لا يجوز التوسل بالعمل الصالح الذي صدر من غير الداعي
زينها لهم الشيطان ولقنهم إياها حيث يقولون : قد قدمتم أن من التوسل المشروع اتفاقا التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح فإذا كان التوسل بهذا جائزا فالتوسل بالرجل الصالح الذي صدر منه هذا العمل أولى بالجواز وأحرى بالمشروعية فلا ينبغي إنكاره . والجواب من وجهين :
الوجه الأول : أن هذا قياس والقياس في العبادات باطل كما تقدم ص 130 ، وما مثل من يقول هذا القول إلا كمثل من يقول : إذا جاز توسل المتوسل بعمله الصالح - وهو بلا شك دون عمل الولي والنبي - جاز أن يتوسل بعمل النبي والولي وهذا وما لزم منه باطل فهو باطل
الوجه الثاني : أن هذه مغالطة مكشوفة لأننا لم نقل - كما لم يقل أحد من السلف قبلنا - أنه يجوز للمسلم أن يتوسل بعمل غيره الصالح وإنما التوسل المشار إليه إنما هو التوسل بعمل المتوسل الصالح نفسه فإذا تبين هذا قلبنا عليهم كلامهم السابق فقلنا : إذا كان لا يجوز التوسل بالعمل الصالح الذي صدر من غير الداعي فأولى ثم أولى ألا يجوز التوسل بذاته وهذا بين لا يخفى والحمد لله
الشبهة السابعة : قياس التوسل بذات النبي صلى الله عليه و سلم على التبرك بآثاره :
وهذه شبهة أخرى لم تكن معروفة فيما مضى من القرون ابتدعها وروجها الدكتور البوطي ذاته إذ قرر في كتابه ( فقه السيرة ص 344 - 455 ) خلال حديثه عن الدروس المستفادة من غزوة الحديبية مشروعية التبرك بآثار النبي صلى الله عليه و سلم ثم قاس على ذلك التوسل بذاته بعد وفاته وأتى نتيجة لذلك برأي غريب وعجيب لم يقل به أحد من المشتغلين بالعلم حتى من المغرقين في التقليد والجمود والتعصب والابتداع في الدين
ولكي لا يظن أحد أننا نتقول عليه أو نظلمه ننقل نص كلامه بتمامه ونعتذر إلى القراء لطوله قال :
( وإذا علمت أن التبرك بالشيء إنما هو طلب الخير بواسطته ووسيلته علمت أن التوسل بآثار النبي صلى الله عليه و سلم أمر مندوب إليه ومشروع فضلا عن التوسل بذاته الشريفة وليس ثمة فرق بين أن يكون ذلك في حياته صلى الله عليه و سلم أو بعد وفاته فآثار النبي صلى الله عليه و سلم وفضلاته لا تتصف بالحياة مطلقا سواء تعلق التبرك والتوسل بها في حياته أو بعد وفاته ولقد توسل الصحابة بشعراته من بعد وفاته كما ثبت ذلك في صحيح البخاري في شيب رسول الله صلى الله عليه و سلم ومع ذلك فقد ضل أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم وراحوا يستنكرون التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم بعد وفاته بحجة أن تأثير

النبي صلى الله عليه و سلم قد انقطع بوفاته فالتوسل به إنما هو توسل بشي لا تأثير له البتة . وهذه حجة تدل على جهل عجيب جدا فهل ثبت لرسول الله صلى الله عليه و سلم تأثير ذاتي في الأشياء في حال حياته حتى نبحث عن مصير هذا التأثير من بعد وفاته ؟ إن أحدا من المسلمين لا يستطيع أن ينسب أي تأثير ذاتي في الأشياء لغير الواحد الأحد ومن اعتقد خلاف ذلك يكفر بإجماع المسلمين كلهم . . فمناط التبرك والتوسل به أو بآثاره صلى الله عليه و سلم ليس هو إسناد أي تأثير إليه وإنما المناط كونه أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق وكونه رحمة من الله للعباد فهو التوسل بقربه صلى الله عليه و سلم إلى ربه وبرحمته الكبرى للخلق وبهذا المعنى توسل الأعمى به صلى الله عليه و سلم في أن يرد عليه بصره فرده الله عليه ( 1 ) وبهذا المعنى كان الصحابة يتوسلون بآثاره وفضلاته دون أن يجدوا منه أي إنكار . وقد مر بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النبوة في الاستسقاء وغيره وأن ذلك مما أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة والصنعاني وغيرهم . والفرق بعد هذا بين حياته وموته صلى الله عليه و سلم خلط عجيب وغريب في البحث لا مسوغ له )
ولنا على هذا الكلام مؤاخذات كثيرة نورد أهما فيما يلي :
أ - لقد أشرنا إلى تعريض البوطي بالسلفيين واتهامه إياهم بأن أفئدتهم لا تشعر بحمبة رسول الله صلى الله عليه و سلم والاستدلال
على ذلك بإنكارهم التوسل به صلى االله عليه وسلم بعد وفاته . وهذه فرية باطلة وبهتان ظالم لا شك أن الله تعالى سيحاسبه عليه أشد الحساب ما لم يتب إليه التوبة النصوح ذلك لأن فيه تكفيرا لآلاف المسلمين دونما دليل أو برهان إلا الظن والوهم اللذين لا يغنيان من الحق شيئا 2 - إنه قد خلط في كلامه السابق بين الحق والباطل خلطا عجيبا فاستدل بحقه على باطله فوصل من جراء ذلك إلى رأي لم يسبقه أحد من العالمين
وإذا أردنا أن نميز بين نوعي كلامه فإننا نقول :
إن الحق الذي تضمنه هو :
آ - أن النبي صلى الله عليه و سلم قريب إلى الله تبارك وتعالى وأنه كان رحمة من الله تعالى للخلق
ب - أنه لا تأثير لأحد حتى للنبي صلى الله عليه و سلم تأثيرا ذاتيا في الأشياء وإنما التأثير كله لله الواحد الأحد
ج - أنه يشرع التبرك بآثار النبي صلى الله عليه و سلم وأن الصحابة فعلوا ذلك في حياته صلى الله عليه و سلم وبإقرار منه
هذه النقاط الثلاثة صحيحة لا خلاف فيها ولو وقف الكاتب عندها لما كان ثمة حاجة للتعليق عليه
وأما الباطل الذي تضمنه كلامه وفيه الخلاف العريض فهو :
آ - أن التوسل بآثار النبي صلى الله عليه و سلم جائز وأن الصحابة كانوا يتوسلون بآثاره صلى الله عليه و سلم وفضلاته
ب - تسويته بين التبرك والتوسل
ج - أن التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم جائز كجواز التبرك بفضلاته

د- - أن مناط التوسل به صلى الله عليه و سلم هو كونه أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق
ه - جهلة بمعنى كلمة الاستشفاع مما حمله على الاستدلال بها على التوسل المبتدع
و - افتراؤه على السلفيين بأنهم يرون أن النبي صلى الله عليه و سلم كان له تأثير ذاتي في الأشياء خلال حياته وقد انقطع ذاك التأثير بوفاته وأن هذا هو سبب إنكارهم التوسل به صلى الله عليه و سلم بعد وفاته
ز - ادعاؤه أن الأعمى توسل بقربه صلى الله عليه و سلم من ربه
ح - ادعاؤه أن محمدا صلى الله عليه و سلم أفضل الخلائق على الإطلاق
وننتقل بعد هذا الإجمال إلى الشرح والتفصيل فنقول : 1 - تخليط البوطي في التسوية بين التبرك والتوسل :
لقد قال الدكتور البوطي : ( إن التوسل بآثار النبي صلى الله عليه و سلم أمر مندوب إليه ومشروع فضلا عن التوسل بذاته الشريفة ) . وظاهر كلامه أنه يقيس التوسل بذاته صلى الله عليه و سلم قياسا أولويا على التبرك بآثاره ويسمي هذا التبرك توسلا ويؤكد ما ذكرناه قوله ص 196 من كتابه المذكور حيث ذكر بعض الروايات التي فيها تبرك بعض الصحابة بآثاره صلى الله عليه و سلم ثم قال : ( فإذا كان هذا شأن التوسل بآثاره المادية فكيف بالتوسل بمنزلته عند الله جل جلاله ؟ وكيف بالتوسل بكونه رحمة للعالمين ؟ )
ولكنه سرعان ما تراجع عن كل ذلك زاعما أن التبرك والتوسل معناهما واحدا منكرا أن يقيس أحدهما على الآخر فقال : ( ولا يذهبن بك الوهم إلى أننا نقيس التوسل على التبرك وأن المسألة لا تعدو أن تكون استدلالا بالقياس فإن التوسل والتبرك كلمتان تدلان على معنى واحد وهو التماس الخير والبركة عن طريق المتوسل به وكل من التوسل بجاهه صلى الله عليه و سلم عند الله والتوسل بآثاره أو فضلاته أو ثيابه أفراد وجزئيات داخلة تحت نوع شامل هو مطلق التوسل الذي ثبت حكمه بالأحاديث الصحيحة وكل الصور الجزئية له يدخل تحت عموم النص بواسطة ما يسمى بتنقيح المناط عند علماء الأصول )
والحقيقة أن ظاهر كلام الدكتور الأول كان أهون بكثير من كلامه الأخير هذا لأن التوسل يختلف اختلافا بينا عن التبرك ومن يسوي بينهما فإنه يكون قد ارتكب خطأ شنيعا ووقع في جهل فظيع بالحقائق الشرعية مما لا يجوز أن يقع فيه طالب علم يحترم نفسه
إن التبرك هو التماس من حاز أثرا النبي صلى الله عليه و سلم حصول خير به خصوصية له صلى الله عليه و سلم وأما التوسل فهو إرفاق دعاء الله تعالى بشيء من الوسائل التي شرعها الله تعالى لعباده كأن يقول : اللهم إني أسألك بحبي لنبيك صلى الله عليه و سلم أن تغفر لي ونحو ذلك . ويتبدى هذا الفرق في أمرين :
أولهما : أن التبرك يرجى به شيء من الخير الدنيوي فحسب بخلاف التوسل الذي يرجى به أي شيء من الخير الدنيوي والأخروي
ثانيهما : أن التبرك هو التماس الخير العاجل كما سبق بيانه بخلاف التوسل الذي هو مصاحب للدعاء ولا يستعمل إلا معه
وبيانا لذلك نقول : يشرع للمسلم أن يتوسل في دعائه باسم من أسماء الله تبارك وتعالى الحسنى مثلا ويطلب بها تحقيق ما شاء من قضاء حاجة دنيوية كالتوسعة في الرزق أو أخروية كالنجاة من النار فيقول مثلا : اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بأنك أنت الله الأحد الصمد أن تشفيني أو تدخلني الجنة . . ولا أحد يستطيع أن ينكر عليه شيئا من ذلك بينما لا يجوز لهذا المسلم أن يفعل ذلك حينما يتبرك بأثر من آثاره صلى الله عليه و سلم فهو لا يستطيع ولا يجوز له أن يقول مثلا : اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بثوب نبيك أو بصاقه أو بوله أن تغفر لي وترحمني . . ومن يفعل ذلك فإنه يعرض نفسه من غير ريب ليشك الناس في عقله وفهمه فضلا عن عقيدته ودينه . وظاهر كلام الدكتور البوطي أنه يجيز هذا التوسل العجيب ويعده هو والتبرك بأثر من آثار النبي صلى الله عليه و سلم شيئا واحدا وهو بهذا يخلط خلطا قبيحا ومع ذلك لا يخجل من اتهام السلفيين بأنهم يخلطون خلطا عجيبا لا مسوغ له فقد علم القراء من الذي يخلط ويخبط خبط عشواء
إن هذا ليذكرنا حقا بالمثل العربي القائل : رمتني بدائها وانسلت . وصدق النبي الكريم صلى الله عليه و سلم حيث يقول :
( صحيح ) ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) .
وثمة ملاحظة هامة وخطيرة في كلام الدكتور السابق وهي أنه يدعي ثبوت مطلق التوسل بالأحاديث الصحيحة وهذا باطل لأنه ليس أكثر من افتراض ودعوى مجردة لا حقيقة لها إلا في ذهنه إذ لم يثبت من التوسل المتعلق بالنبي صلى الله عليه و سلم إلا دعاؤه صلى الله عليه و سلم كما تقدم في ثنايا هذه الرسالة وأما التوسل بجاهه صلى الله عليه و سلم أو آثاره فلم يثبت منه شيء البتة في كتاب أو سنة ونحن نطالب الدكتور أن يدلنا على حديث واحد ثابت فيه هذه الدعوى ونحن على يقين أنه لن يجد شيئا من ذلك فقد عودنا على تقرير أحكام ضخمة دونما دليل ( خبط لزق ) وادعاء دعاوي عريضة لا تقوم على أساس إلا أنهها بدت له هكذا وحسب القاريء له أن يؤمن بما يقول ويسلم له تسليما وإياه ثم إياه أن يسأله عن الدليل لأن ذلك من قلة الأدب ورقة الدين وطريقة السلفيين والعياذ بالله . فتأمل

2 - بطلان التوسل بآثار النبي صلى الله عليه و سلم :
وبعد إثبات الفرق بين التوسل والتبرك نعلم أن آثار النبي صلى الله عليه و سلم لا يتوسل بها إلى الله تعالى وإنما يتبرك بها فحسب أي يرجى بحيازتها حصول بعض الخير الدنيوي كما سبق بيانه
إننا نرى أن التوسل بآثار النبي صلى الله عليه و سلم غير مشروع البتة وأن من الافتراء على الصحابة رضوان الله تعالى عليهم الادعاء بأنهم كانوا يتوسلون بتلك الآثار ومن ادعى خلاف رأينا فعليه الدليل بأن يثبت أن الصحابة كان يقولون في دعائهم مثلا : اللهم ببصاق نبيك اشف مرضانا أو : اللهم ببول نبيك أو غائطه أجرنا من
النار إن أحدا من العقلاء لا يستسيغ رواية ذلك مجرد رواية فكيف باستعماله وإذا كان الدكتور البوطي ما يزال في شك من ذلك وإذا كان يرى جواز ذلك فعليه أن يثبته عمليا بأن يدعو من على منبره بمثل الدعوات السابقات وإن لم يفعل - ولن يفعل إن شاء الله ما بقي فيه عقل وفي قلبه ذرة من إيمان - فذلك دليل على أنه يقول بلسانه ما لا يعتقد في قلبه
هذا ولا بد من الإشارة إلى أننا نؤمن بجواز التبرك بآثاره صلى الله عليه و سلم ولا ننكره خلافا لما يوهمه صنيع خصومنا ولكن لهذا التبرك شروطا منها الإيمان الشرعي المقبول عند الله فمن لم يكن مسلما صادق الإسلام فلن يحقق الله له أي خير بتبركه هذا كما يشترط للراغب في التبرك أن يكون حاصلا على أثر من آثاره صلى الله عليه و سلم ويستعمله ونحن نعلم أن آثاره من ثياب أو شعر أو فضلات قد فقدت وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين وإذا كان الأمر كذلك فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمرا غير ذي موضوع في زماننا هذا (( 1 ) لقد حاول الدكتور في هامش ( ص 197 ) من كتابه المذكور الرد على ما كنت بينته في رسالتي ( نقد نصوص حديثية ) للكتاني ونقل أنني قلت فيها : ( إنه لا فائدة ترجى من أحاديث التبرك بآثاره صلى الله عليه و سلم في هذا العصر . . . ) وحرف كلامي تحريفي سيئا والذي قلته حقا هو ( لا يتعلق كبير فائدة في تقرير مشروعية التبرك بآثار صلى الله عليه و سلم في زماننا الحاضر ) . فانظر رحمك الله كيف غير الدكتور كلامي وحرفه وما أرى له بذلك من غرض إلا أن يتاح له المجال للطعن في وإثارة العامة علي فهل يتفق هذا الصنيع - أخي القارئ - مع تقوى الله عز و جل والإخلاص في الوصول إلى الحق ؟ وقد فصلت القول في الرد على هذه الفرية في إحدى مقالاتي التي تنشر في مجلة التمدن الإسلامي بعنوان ( تعليق على أحاديث فقه السيرة ) وقد نشرت قريبا في رسالة خاصة تحت عنوان ( دفاع عن الحديث النبوي والسيرة في الرد على جهالات الدكتور البوطي في كتاب فقه السيرة ))
ينبغي إطالة القول فيه ولكن ثمة أمر يجب تبيانه وهو أن النبي صلى الله عليه و سلم وإن أقر الصحابة في غزوة الحديبية وغيرها على التبرك بآثاره صلى الله عليه و سلم والتمسح بها وذلك لغرض مهم وخاصة في تلك المناسبة وذلك الغرض هو إرهاب كفار قريش وإظهار مدى تعلق المسلمين بنبيهم وحبهم له وتفانيهم في خدمته وتعظيم شأنه إلا أن الذي لا يجوز التغافل عنه ولا كتمانه أن النبي صلى الله عليه و سلم بعد تلك الغزوة رغب المسلمين بأسلوب حكيم وطريقة لطيفة عن هذا التبرك وصرفهم عنه وأرشدهم إلى أعمال صالحة خير لهم منه عند الله عز و جل وأجدى وهذا ما يدل عليه الحديث الآتي
عن عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم توضأ يوما فجعل أصحابه يتمسحون بوضوئه فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم : ( ما يحملكم على هذا ؟ ) قالوا : حب الله ورسوله : فقال النبي صلى الله عليه و سلم : من سره أن يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله فليصدق حديثه إذا حدث وليؤد أمانته إذا أؤتمن وليحسن جوار من جاوره ) ويكون أمرا نظريا محضا
3 - افتراء عريض :
والظاهر أن الدكتور لا يطيب له عيش ولا يهنأ له بال إلا إذا افترى على السلفيين وكذب عليهم كذبا مكشوفا حينا ومغطى حينا آخر . وهاهو هنا يفتري علينا حين يزعم أننا نحتج على منع التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم بعد وفاته بالقول بأن تأثيره صلى الله عليه و سلم في الحوادث قد انقطع بعد وفاته لذلك فمن غير السائغ أن نتوسل به صلى الله عليه و سلم بعد وفاته ويتطوع بأن يثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم سواء في حياته أو بعد وفاته ليس له تأثير ذاتي في الأشياء في كل ظرف وفي كل حين وأن المؤثر الوحيد فيها هو الله وحده سبحانه
وواضح من هذا بجلاء أنه يتهم السلفيين بأنهم يعتقدون أن النبي صلى الله عليه و سلم كان له تأثير ذاتي في الأشياء حال حياته . وهذا كذب صراح وافتراء مكشوف لم يقل به سلفي قط بل ولا خطر في بال أحد من السلفيين البتة وكيف يقولونه وهم دعاة التوحيد الخالص والدين الصحيح والذين جعلوا أكبر همهم دعوة الناس إلى إخلاص عبوديتهم لله تعالى وحده وتخليص عقائدهم من كل شائبة من شوائب الشرك والتنديد بكل ما يخدش جناب التوحيد ولو كان ذلك خطأ لفظيا . وقد تحملوا في سبيل ذلك الأذى من الناس والتشهير بهم والافتراء عليهم واتهامهم بأقبح التهم وما نقم الناس - وفيهم الدكتور البوطي - عليهم إلا لدعوتهم الحقة هذه ومع ذلك فلا يخجل من أن يرميهم بهذه التهمة الباطلة التي يعلم هو - فيما نرجح - قبل غيره أنها باطلة مفتراة وإلا فليبين لنا - إن استطاع - مصدر هذا القول المزعوم ومن قاله من السلفيين وفي أي كتاب ورد من كتبهم أو نشراتهم فإن لم يفعل - وهيهات أن يفعل - فإنه يكون قد ظهر لكل أحد كذبه وافتراؤه
وشيء آخر نذكره هنا وهو أن كلام البوطي السابق ( ومن ادعى شيئا من ذلك يكفر بإجماع المسلمين ) يفيد لمن تأمله تكفير السلفيين عموما وهذا كذب آخر واتهام ظالم لا شك أن الله تعالى سيحاسبه عليه لأن السلفيين هم مسلمون بل هم أحق الناس بصفة الإسلام وهم يعلمون حق العلم أن نسبة التأثير الذاتي للنبي صلى الله عليه و سلم أو لغيره هو من الشرك في الربوبية المخرج من الملة وهم من أشد الناس تنبها له وتحذيرا منه بينما البوطي وأمثاله يلتمسون للواقعين فيه مختلف الأعذار والتبريرات
ولا يفوتنا هنا أن نذكره وأمثاله بما بيناه في ثنايا هذه الرسالة من أن السبب الذي يدعونا إلى منع التوسل بذوات الصالحين ومكانتهم وجاههم إنما هو كونه لم يرد في الشريعة الغراء ولم يستعمله النبي صلى الله عليه و سلم ولا أصحابه فهو لذلك محدث مبتدع وما ورد من النصوص التي يحتج بها المخالفون بعضها ثابت ولكنه لا يدل على ما يدعون وبعضها الآخر غير ثابت وقد مضى تفصيل ذلك
إن هذا هو السبب الذي يحملنا على إنكار ذاك التوسل ونقول بصراحة : إنه لو ورد في الشرع لقلنا به ولم يمنعنا منه مانع

لأننا أسرى في يد الشريعة فما أجازته أجزناه وما منعته منعناه والغريب أن الدكتور تغافل عن هذا السبب الأساسي واختلق من عنده سببا تخيله كما شاء له هواه قاصدا بذلك أن يتمكن من الطعن فينا والتشهير بنا وإثارة الغوغاء علينا فانظر - رحمك الله - إلى هذا الأسلوب الغريب المنافي للدين والعلم واشتك معنا إلى الله عز و جل من غربة الحق وأهله في هذا الزمان 4 - خطؤه في ادعائه أن مناط التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم كونه أفضل لخلائق :
وهذا خطأ آخر وقع فيه الدكتور نتيجة لتهوره وعدم تفكيره فيما يكتب . حيث ادعى أن مناط التوسل بالنبي صلى الله عليه و سلم هو كونه أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق وكونه رحمة من الله للعباد كما تقدم من كلامه
ونقول له : أن معنى ذلك عندك أن من لم يكن كذلك ( أي أفضل الخلائق عند الله . . ) فلا يجوز التوسل به لأنه لم يتحقق فيه المناط المزعوم ذلك لأن المناط أصلا هو علة الحكم التي يوجد بوجودها وينعدم بعدمها وعلى هذا فمعنى عبارة الدكتور - لو كان يعقل ما يقول - إنه لا يجوز التوسل بأحد مطلقا إلا بالنبي صلى الله عليه و سلم ونحن نعلم علم اليقين أنه يعتقد خلاف ذلك ويرى جواز التوسل بك نبي أو ولي أو صالح وبهذا يكون هو نفسه قد قال ما لا يعتقد وناقض نفسه بنفسه والسبب في ذلك أحد أمرين

فإما أن يكون غير فاهم لاصطلاح المناط عند العلماء وإما أن يكون غير متأمل فيما ينتج عنه من كلامه وهذا هو الأقرب والله أعلم
وأمر آخر نذكره في هذه المناسبة وهو أن من المقرر لدى علماء الأصول أنه لا بد لاعتبار المناط في حكم ما من أن يكون قد ورد في تعيينه في نص من كتاب أو سنة ولا يكفي في الاعتماد على الظن والاستنباط
وإذا عدنا إلى ما ذكره الدكتور وجدنا أنه قد ادعى مناطا ليس عليه شب دليل من الكتاب أو السنة وإنما عمدته في ذلك مجرد الظن والوهم فهل هكذا يكون العلم وإثبات الحقائق الشرعية عند الدكتور الذي يعنون لبعض كتبه بأنها ( أبحاث في القمة ) ؟
وأمر ثالث وأخير أن الدكتور قد ادعى أن النبي صلى الله عليه و سلم أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق . وهذه عقيدة وهي لا تثبت عنده ( 1 ) إلا بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة ( 2 ) أي بآية قطعية الدلالة أو حديث متواتر قطعي الدلالة أي بآية قطعية الدلالة أو حديث متواتر قطعي الدلالة فأين هذا النص الذي يثبت كونه صلى الله عليه و سلم أفضل الخلائق عنده الله على الإطلاق ؟
ومن المعلوم أن هذه القضية مختلف فيها بين العلماء وقد توقف فيها الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ومن شاء التفصيل فعليه

أرب جمـال 2 - 8 - 2010 11:21 PM

5 - جهله بالمعنى اللغوي لكلمة الاستشفاع :
وهذه غلطة شنيعة أخرى وقع فيها الدكتور - أصلحه الله وهداه - إذ استدل بالاستشفاع الوارد في أحاديث الاستسقاء على التوسل المبتدع فقال : ( وقد مر بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النبوة الوراد في الاستسقاء وغيره وأن ذلك مما أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة والصنعاني وغيرهم ) . وما كان للدكتور أن يقع في هذا الخطأ لو كان يفقه معنى الاستشفاع في اللغة ورغبة في تنوير القراء وإفادتهم نورد بعض ما ذكرته كتب اللغة في بيان معنى الشفاعة والاستشفاع
قال صاحب ( القاموس المحيط ) : ( الشفع خلاف الوتر وهو الزوج والشفعة هي أن تشفع فيما تطلب فتضمه إلى ما عندك فتشفعه أي تزيده وشاة شافع : في بطنها ولد يتبعها آخر سميت شافعا لأن ولدها شفعها أو شفعته واستشفعه إلينا : سأله أن يشفع )
وفي ( المعجم الوسيط ) الذي أصدره مجمع اللغة العربية في مصر : ( شفع الشيء شفعا : ضم مثل إليه وجعله زوجا والبصر الأشباح : رآها شيئين واشتشفع : طلب الناصر والشفيع - والشفائع : المزدوجات والشفاعة : كلام الشفيع والشفيع : ما شفع غيره وجعله زوجا )
وفي ( النهاية ) لابن الأثير : ( الشفعة مشتقة من الزيادة لأن الشفيع يضم المبيع إلى ملكه فيشفعه به كأنه كان واحدا وترا فصار زوجا شفعا والشافع هو الجاعل الوتر شفعا . . )
فمن هذه النقول وأمثالها يظهر معنى الاستشفاع بوضوح وهو أن يطلب إنسان من آخر أن يشاركه في الطلب فيزيد به ويكونا شفعا أي زوجا وقد أخذ من هذا الأصل اللغوي المعنى الشرعي للاستشفاع حيث أريد به الطلب من أهل الخير والعلم والصلاح أن يشاركوا المسلمين في الدعاء إلى الله في الملمات فيشفعوهم بذلك ويزيدوا الداعين فيكون ذلك أرجى لقبول الدعاء
وبهذا يمكننا فهم الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه و سلم يوم القيامة فهي باتفاق العلماء دعاء النبي صلى الله عليه و سلم للناس بعد مجيئهم إليه وطلبهم منه أن يدعو الله تعالى ليعجل لهم الحساب ولم يفهم أحد من أهل العلم من ذلك أن يقول الناس مثلاك اللهم بمنزلة محمد عندك عجل لنا الحساب
ومن الغريب حقا أن يتجرأ الدكتور البوطي فيدعي إجماع الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة والصنعاني على فهمه الشاذ المبني على جهل فظيع بمعاني الألفاظ المستعملة في اللغة والشرع ونكتفي للرد عليه بنقل كلام أحد الأئمة الذين نص على أسمائهم وادعى مشاركتهم إياه في فهمه لمعنى الاستشفاع ونعني الإمام ابن قدامة المقدسي صاحب أكبر كتاب في الفقه الحنبلي وهو ( المغني ) إذ قال فيه ما نصه :
( ويستحب أن يستسقي بمن ظهر صلاحه لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء فإن عمر استسقى بالعباس عم النبي صلى الله عليه و سلم . قال ابن عمر : استسقى عمر عام الرمادة بالعباس فقال : اللهم إن هذا عم نبيك نتوجه إليك به فاسقنا فما برحوا حتى سقاهم الله ووري أن معاوية خرج يستسقي فلما جلس على المنبر قال : أين يزيد بن الأسود الحرشي ؟ فقام يزيد فدعاه معاوية فأجلسه عند رجليه ثم قال : اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا يزيد بن الأسود يا يزيد ارفع يديك فرفع يديه ودعا الله تعالى فثارت في الغرب سحابة مثل الترس وهب لها ريح فسقوا حتى كادوا لا يبلغون منازلهم واستسقى به الضحاك مرة أخرى )
وواضح من كلام ابن قدامة هذا أنه يعني بالاستشفاع الوارد في الاستسقاء أن يطلب إمام المسلمين من بعض أهل العلم والصلاح أن يشترك مع المسلمين في التوجه إلى الله ودعائه سبحانه لكشف الشدة عن عباده المؤمنين . ولم يقصد الإمام ابن قدامة ونجزم بأنه لم يخطر في باله ذاك المعنى الخاطئ الذي يحمله عليه البوطي وأمثال من المبتدعين ويريدون حمل الألفاظ الشرعية عليه
ترى كيف كان يدعي البوطي مثل هذا الإجماع المزيف ويستشهد بابن قدامة وغيره وها هو كلام ابن قدامة ينسف فهمه من الجذور ؟ أم أنه لا يفهم ما في كتب القوم أم لعله يدعي ما يروق له من الدعاوى الساقطة دون أن يراجع الكتب أو يقرأ كلام العلماء اعتمادا منه على أن قارئيه مقلدون تقليدا أعمى وليسوا ممن يراجع أو يقرأ أو يثبت مما يقال ؟
إنه لأمر مؤسف والله وبلية من أعظم البلايا التي نشهدها في واقع المسلمين وهي من غير شك من الأسباب الكبرى في تأخر المسلمين وضعفهم وانحطاطهم ومحال أن تتغير هذه الحال إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من الجمود والتصوف والفقه المذهبي وعلم
الكلام وعادوا إلى هدي الله الحق المتمثل في الكتاب والسنة والذي توضحه الدعوة السلفية الغراء



6 - خطؤه في ادعائه أن توسل الأعمى كان بمنزلة النبي صلى الله عليه و سلم عند الله :
ونختتم الرد على الدكتور البوطي بالإشارة إلى خطئه في ادعائه أن توسل الأعمى إنما كان بمنزلة النبي صلى الله عليه و سلم وبكونه أفضل الخلائق عند الله لأن ذلك مجرد دعوى لا برهان عليها ولم يستطع الدكتور أن يأتي بشبه دليل على ذلك وقد تقدم في هذه الرسالة إثبات أن توسل الأعمى إنما كان بدعاء النبي صلى الله عليه و سلم وقد فندنا كل الشبهات فيما علمنا التي يوردها المخالفون ويحتجون بها على رأيهم الخاطئ كما بينا ( 83 - 84 ) ضعف الزيادة التي أشار الدكتور إليها وسكت عنها جهلا أو تجاهلا وهي قوله : ( فإن كان لك حاجة فافعل مثل ذلك ) . ورغبة في عدم الإطالة لا نعيد ذلك
ومما سبق كله يتبين لكل منصف مريد للحق بطلان تلك الشبهة البوطية وسقوطها . وصدق الله تبارك وتعالى إذ يقول : ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون ) ويقول : ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا )
والحمد لله أولا وآخر على توفيقه وهداه وهو وحده المستعان لا إله غيره ولا رب سواه
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك



انتهى بحمد الله

الغراب الأسود 11 - 11 - 2010 10:01 PM

مجهود رائع وموضوع قيّم
استمتعت بتواجدي بصفحتك

بانتظار المزيد من هذا العطاء

لك مني ارقّ تحية وأعذبها

دمت بخير


الساعة الآن 04:00 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى