![]() |
عبد الناصر صالح شاعر الجوع والشمس
في غمرة الدواوين الشعرية الجديدة كان صوت عبد الناصر[1] يحمل نغمة مأساوية (واقنسية). أما المأساة فقد استهلكها الشاعر واستهلكته ، وكان وهو يافع قد غُمِد في سجن طولكرم سنة - بانتظاراتها وتأملاتها.... فلا بدع إن قال: والفارس الموعود ما زال ينتظر القطار (الفارس الذي قُتل قبل المبارزة ص 75) وأما (الواقنسية) فأعني بها مصطلحًا جديدًا كنت قد نحتُّه [2] من لفظتَي - الواقعية والرومانسية، فواقعية التفاؤلية- رغم سوادها- تلبس لبوسًا شفافًا على إيقاع موسيقي حالم: أماه يا لحن النهار هل تسمعين القلب يخفق والتشوق والحنين أماه ليتك تسمعين ندائي الملهوف يخترق الجدار يأتي إليك مع الطيور الباكيات على الديار يأتي مع المطر المحلق فوق أطلال المآسي والألم أماه يا أحلى نغم (الفارس الذي قُتل قبل المبارزة ص21) |
فمن سمات الواقنسية - كما أراها - استعمال القاموس الرومانسي : من خيال وحنين وطبيعة وماض وذات ... وذلك ضمن إطار المجموع. فعبد الناصر صالح لا يتشوق هنا إلى أمه الحقيقية بقدر ما يرمز إلى شوقه إلى أمه الكبرى. القصيدة فيها تزامن ، وكلما كانت القصيدة شخصية ، وكلما زاد ارتباطها بالزمكانية اقتربت من مركز الشعر - كما يرى الشاعر الألماني الرومانسي نوفاليس.
ولو تقرّينا رموز الشاعر لنجعلها مفاتيح لنا لأبوابه لوجدنا حركات أو موتيفات : (الجوع) و (الشمس) و (الزيتون) هي أبرز ما يتردد عنده، فالجوع يعني لديــه العذاب والمعاناة: ليتنا نعرف في الجوع الحياة (ص17) أو وتعود يا طفل الشقاء تعود ترسم دربك المدهون بالجوع القديم (ص74) لقد طافت أسراب الغربان تبشر قلب الشاعر بالجوع (ص10) بينما الجياع الآخرون فرشوا دماءهم الهادرة (ص15)، وعندما جاع انهارت تعاويذه (ص34) وبقي يحن إليها (56) ، ويظل الجوع الحاد ينبري في وسط الطريق (ص73) ، فيجوع ، ويجوع حتى النور آلاتي من عمق الشاعر (ص43). ويدوي الجوع والجوع مباح آه من دهر المآسي والجراح (ص94) وإذا كنا لاحظنا لازمة الجوع تتردد لفظًا فإنها تتوافق معنى: ها إنني وحدي بلا زاد وبلا ماء (ص81) تذكّرني هذه اللازمة أو الحركة بدراسة د. عبد الغفار مكاوي عن شعر رامبو ، فهو يرى أن العطش والجوع في لغة رامبو، وهما من الكلمات التي استخدمها المتصوفون- كما استخدمها دانتي- للتعبير عن شوقهم للاتحاد بالذات العلية. [3] غير أن رامبو يستخدمها للدلالة على حالة من الظمأ - الذي لا يروي ، والجوع الذي لا يشبع. إذن فرمز (الجوع) عند شاعرنا ليس مستحدثًا في الشعر ولكنه مستقى أو على الأقل موازٍ، غير أن ترديده يضفي عند عبد الناصر تكثيفًا للمعاناة والأزمة. أما الرمز الثاني فهو (الشمس) ، وليس هذا الرمز بالمصطلح الصوفي الذي يعني الحقيقة، وإنما الشمس توءم للوطن ، أو كأن الشمس وفلسطين كل واحد، وعندما اعتُدي على أحدهما كان قرص الشمس محروق الضياء (ص31) ، وقد ربطت الشمس بقضبان الحديد (ص18) ، وبقيت واجفة بلا مأوى (ص24) ، وشعاعها تلوث باللون الأسود(ص85) ، فكان لا بد من أن يأتي أورفيوس- وهو مغنٍ مشهور في الأسطورة البابلية يرمز كذلك إلى الحب- حتى يغسل قرص الشمس الملوث(ص97) ، وبعدها سيكون المشوار في عيون الشمس.[4] رأينا أن الرمزين (الجوع)، و (الشمس) يتممان الصورة. ولنسمع عبد الناصر مستخدمًا كليهما في معرض قوله: أدفن الآهات في قلبي وأعرى وأجوع نختفي يا عاشق الشمس زمانًا ضاع ما بين الدموع (ص60) |
أما غصن الزيتون فهو مرادف للإصرار والأمل ، وهو البداية والنهاية [5]: هذا القلب حزينًا صار حزينًا كغصون الزيتون المصفرة (ص9) ثم بعد ذلك: يا فرح الزيتون بعد رحلة المخاض والخريف (ص98) وإذا كان الديوان قد خرج عن إطار الغموض المزيف الذي يبرزه المتشاعرون - الذين هم كالأطفال يناجون أنفسهم على ملأ من الناس.... برطانة لا يفقهها غيرهم [6]، فإن عبد الناصر صالح تبدو عليه سيماء الرهافة الشعرية الصادقة ، رغم ما تمليه عليه موجة التقليد المفتعل أحيانًا. فعلى سبيل المثال: ما الذي يحوج الشاعر أن يعنون قصيدة له هكذا: (تخطيط أولي للوحة تجريدية)؟ (ص53) ، فهل الشاعر بحاجة إلى التجريد ليعكس جوعه ، أو ليغسل شمسه؟! وهل هذه اللوحة- إن كانت أصلاً - ورأيي أنها لم تكن- تطعم خبزًا؟ بل إنني لأتساءل : ما الذي دعا شاعرنا أن يجعل العنوان لإحدى قصائده - وبالتالي للمجموعة التي نعالجها الفارس الذي قتل قبل المبارزة فهذا الفارس يذرف الدموع ويعترف بالهزيمة (ص101) ؟؟؟ فلماذا لا يكون الفعل- (بُعث قبل .....) أو على الأقل (سًجن قبل المبارزة .....) حتى يكون معنى للمبارزة المرتقبة. إن العنوان يعمق المأساة والفاجعة ، ولكنه مثبّط هنا نوعًا ما ؛ وهذا الرأي يسوقني إلى الاعتراض على الإهداء ، وفيه يشير الشاعر: " إلى الذين يموتون قبيل مجيء الوقت والذين يولدون بعد فوات الأوان بحثًا عن الحلقة الموصلة" أما الشق الأول فهو يلائم عنوان المجموعة وفيه مبرر، لأن من أقسى الأمور أن يموت الإنسان قبل أن يكون شاهدًا على الخلاص. ولكني لا أرى مبررًا لهؤلاء الذين سيولدون مستقبلاً ، لأن لهم مشاغل جديدة لا تدعهم ينظرون إلى الماضي، وسيكون المستقبل غريبًا جدًا علينا. يقول أدونيس محللاً هذه الظاهرة : " من هذا الواقع الوجودي انبثق ما يمكن تسميته بحس الشعر......أمام هذه القوة يحس الشاعر الجاهلي أنه عاجز ولا حيلة له، إنها ليست قوة الموت ، بل قوة الحركة الأفقية التي تندرج في تيارها ظاهرة الغياب، غياب الحبيبة والأهل والقبيلة. إنه شيء خفي يأتي من الخلف مفاجئًا لا يغلب" .[7] ولا بد من الإشارة إلى ملاحظات شكلية مؤثرة - كأن يعتمد الشاعر القافية للقافية ، وهاك أمثلة: ما عدت أطيق الغربة والهجران (ص13) أضيفت (الهجران) ، وأردفت حتى تتقفى و (الشطآن) والشعر الحر كما نعلم لا يشترط القافية، ويقول: أيها الموت الظليم (ص16) (الظليم) حتى تلائم (الجحيم) رغم أن اللفظة تعني الفاعلية والمفعولية. ويقول: يبكي على الأراك (ص89) وما اضطره إلى (الأراك) هو إلى (الحراك) ، ومشى على ذلك. ولا أدري كيف يجيز الشاعر لنفسه أن يقول: وما الذي قلتيه لليل والأموات (ص38) ويمكن تصويبها إذا قسمنا السطر الشعري : وما الذي قلته لليل والأموات ؟ وما هي الحنادسة: وأنا أراك على حنادسة تقوم فالحندس كما نعلم هو الظلام والليل الشديد السواد ، وجمعه الحنادس. أقول هذا وأنا أتذكر مقولة طه حسين "علينا أن نجدد مراعين اللغة والنحو" . وقبل أن أودع الشاعر أرجو أن يحافظ على المستوى الشعري الذي يتميز به ، فشتان بين قوله: وأقابل سيقان الألم الأسود (ص71) وقوله: لن أحني رأسي ولن أخضع لك (ص87) وشتان بين شاعرية : أتسلق أيامي الملأى بالآهات ونثرية: باردًا كان كالجليد (ص19) ومع ذلك فنحن بانتظار عطاء متواصل فيه إبداع يُنتظر من الشاعر....... أيار/1980 63 - انظر مقالي في الجديد ، العدد الثامن-1978 [3] - عبد الغفار مكاوي ، ثورة الشعر الحديث ، ج1 ص126 [4] - عنوان إحدى قصائده ، ومن الملاحظ أن هناك قصيدة أخرى جعلت (الشمس) في العنوان. وإذا اعتبرنا العنوان تركيزًا لبؤرة القصيدة فإننا نرى أهمية هذا الرمز في شعره. [5] - انظر المجموعة ص 13،59. [6] - عن الغموض المزيف راجع مقال مكس استمن في كتاب الأديب وصناعته ص41. [7] - أدونيس: مقدمة الشعر العربي ص28. |
في حوار مع الشاعر عبد الناصر صالح يبقى الشعر سيد الإبداع الأدبي في كل الأزمان http://www.thaqafa.org/Main/DataFile...asersala71.jpg حاوره: طلعت سقيرق رفقة عمر امتدت شرايين عطائها عشقاً على الورق.. قرأتهُ في الكثير من قصائده وأنا أجسّ نبض مفرداته المسكونة بهمه الوطني وعشقه الذي لا يحدّ لفلسطين.. ومن القصائد المفردة، إلى دواوينه.. كنت أتحدث عنه حديث الصديق الذي يعرف كل شيء عن صديقه... وكانت زيارته لدمشق في العام 2005م فاتحة لقاء امتدّ عناقاً يسطُر على صفحات العمر أنّ الشعراء يعرفون بعضهم ويحبون ويعشقون ويغزلون أطر العلاقة من قلب وطن يسقي الجميع فاتحة الدخول إلى لغة الحوار الثرّ.. ضمتنا شوارع دمشق.. قلنا ما قلناه، وبقي صوت اللقاء معلقاً في فسحة التراسل والتهاتف وعلى أجنحة طيور الكلام.. وكان عليّ أن أضع السؤال بعد تجربة طويلة من الكتابة عن عبد الناصر صالح.. وكان عليه أن يفتح صنابير الحروف ليروي سيرة عاشق لفلسطين.. فكان هذا الحوار..*عودة إلى البدايات.. ليتك صديقي تضعنا أمام الخطوط الأولى؟ ** بدأت كتابة الشعر متأثراً بوالدي الشاعر محمد علي الصالح، الذي كان له دورٌ بارزٌ على الصعيدين الثقافي والوطني في النصف الأول من القرن الماضي، أي سنوات الانتداب البريطاني على فلسطين، وقد كانت سيرته الأدبية والشعرية والنضالية، محطّ إعجاب العائلة والمقرّبين من المثقفين ورجال الفكر والتربية وأهالي طول كرم بشكل عام. ولازالت قصائده تتردد على ألسنة الكثيرين إلى وقتنا هذا، خاصة قصيدته في رثاء الشهيد عز الدين القسّام التي نشرت في العام 1936 في صحيفة "اللواء" الصادرة في حيفا آنذاك. كان والدي رحمه الله قارئاً من الطراز الأول، يقرأ في الشعر والأدب والسياسة، ولازلت أحتفظ ببعض الكتب القديمة النادرة التي كانت تغصّ بها مكتبة والدي التي أتى بها من حيفا إلى طولكرم عام 1948، أقول بعض الكتب، لأن الاحتلال الإسرائيلي اللعين قام بمصادرة أعداد كبيرة من القصص والمجموعات الشعرية والدراسات الأدبية في حملات التفتيش الكثيرة لبيتنا بهدف اعتقالي والبحث عن "مواد تحريضية" تدعو الشعب الفلسطيني للصمود ومقاومة الاحتلال. كنت أحيط والدي بهالة من التقديس، حيث بقي إلى أن توفاه الله عام 1989 قابضاً على الجمر، متمسكاً بالأهداف والحقوق الوطنية لشعبنا، لم يقايض أحداً على مبادئه وأخلاقه ولقمة عيشه. لازلت أعتزّ ـ كما كنت ـ بهذه السيرة العطرة، وأستمد منها قوتي المعنوية وثباتي على المواقف. وأتذكر أنني عندما اعتقلت للمرة الأولى عام 1977، قال لي والدي عندما جاء لزيارتي: ـ السجن للرجال، فتعلمتُ الصبر والثبات.. والقراءة. قرأتُ ما توفر من الكتب الثقافية: قصص نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله ومجموعات شعرية للبياتي وعبد الصبور ونزار قباني، ومؤلفات في الفكر والسياسة لميشيل عفلق وعبد الله عبد الدايم وعبد القادر ياسين وغيرها الكثير، الأمر الذي ساهم في تشكيل وعيي الأدبي والشعري.. والسياسي، فكان أن انفتحتُ على عالم الثقافة من غرفة السجن. حيث تبدو الصورة الشعرية أوضح مما كانت عليه، تلمع كالبرق في ذهني، معزّزة باللغة والدلالات؛ فبالإضافة إلى الدور التنظيمي الذي أُنيط بي لدى الأخوة والرفاق في السجن، بدأ اهتمامي بالتقاط اللحظة الشعرية، بكل تجلياتها.. وبتفريغها، لاحقاً، على الورق. |
كان مندوبو الصليب الأحمر يزودّوننا بالأقلام والدفاتر. البعض من الأسرى يكتبون الرسائل لزوجاتهم وأبنائهم، ويصنعون البراويظ من مخلفات معجون الحلاقة ومعجون تنظيف الأسنان، ثم يرصّعونها بآيات قرآنية ومقاطع من قصائد لمحمود درويش أو سميح القاسم أو توفيق زيّاد، ويحتفظون بها ليقدموها كهدايا للأهل والأحباب حال خروجهم من السجن. في السجن بدأ مشواري الشعري الحقيقي، فكل ما كتبته قبل ذلك لا يتعدّى كونه مجموعة خواطر لطالب في المرحلة الثانوية، خواطر ينقصها اللون والموسيقى والبحور الخليلية. كتبت في الغرف المغلقة الأبواب وبين السلاسل الحديدية ديواني الأول: "الفارس الذي قُتل قبل المبارزة"، مجموعة من القصائد التي أضاءت الزنازين والغرف المظلمة بنورها ودلالاتها ومضامينها الوثابة. كل قصيدة كتبتها داخل السجن، كنت أقرأها بنبرة عالية ليسمعها المعتقلون في الغرف المجاورة، ولتسمعها، كذلك، إدارة السجن الإسرائيلية المختبئة خلف العصي والهراوات. وقنابل الغاز. كنت أنفذ وصايا والدي التي تأتيني من وراء الشبك الحديد في أوقات الزيارة، لتحثني على الجرأة والصمود وقراءة التاريخ. "إن القراءة كنز المعرفة يا ولدي". فقرأت وكتبت وحفرت على جدران الغرف مقاطع من شعري تحدياً لقرارات إدارة السجن بحظر الكتابة والرسم والأغاني. صدر ديواني الأول عام 1980 عن دار الأسوار في عكا، فكان باكورة الإنتاج الثانية التي ترى النور لشاعر سجين. كانت "خواطر من الزنزانة" باكورة الإنتاج الشعري الأول التي تُكتب في السجن للشاعر محمد عبد السلام، الذي اختفى عن المسرح الشعري دون أن ألتقيه. خلال فترة اعتقالي العصيبة، أزهر الشعر في دمي، وقلبي وأعصابي، وسكن في عقلي وما بين أصابعي. نضجت تجربتي الشعريّة وانفتحت الآفاق أمامي على الثقافة الفلسطينية والعربية والعالمية. وتطورت أداتي الفنية من خلال الأبعاد المعرفية التي منها يستمد الفعل الإبداعي دوره في تحديد أسئلة الهوية والوطن.. والشعر. في لحظات اليأس والألم والعذاب كتبتُ القصيدة المقاومة، التي تعبق بالثورة والحنين ورائحة الشهداء فالقصيدة، داخل المعتقل، هي سلاح الشاعر المقاتل السجين، وهي نافذته الوحيدة على فلسطين. هكذا تشكل الخطاب الجمالي لقصيدتي، ومن خلال ما نُظّم من ندوات ثقافية وفكرية وأمسيات شعرية في المناسبات التي مرّ بها الشعب الفلسطيني، كانطلاقة الثورة ويوم الأرض وذكرى النكبة واستشهاد قادة الفكر في بيروت وذكرى مجازر صبرا وشاتيلا، ومن خلال احتكاكي وصداقتي للأسرى ذوي الحيثية الفكرية والاجتماعية، استفدت الكثير على صعيد تنمية قدراتي وموهبتي، فواجهت أسئلة الإبداع وكتبت القصيدة المختلفة إلى حد ما، القصيدة التي واجهت الواقع بصورة جديدة ورؤية جديدة وانثيال فني شفاف كشلال متدفق بالحب والحياة والثورة. لقد شكل السجن نقطة ارتكاز أساسية لانطلاقتي نحو العالم واكتشافه من جديد، وسبر أغوار القصيدة لمعرفة مكنوناتها وما تحمله من إشارات. * التأثير الذي يعتبر مفصلياً في التفاتك إلى الشعر، ما هو؟ ؟.. **أعتقد أنني لم أصبح شاعراً من فراغ. فالشعر موهبة وحاجة داخلية وتأثر بالمحيط. ولم تتولد القصيدة إلا كنتيجة حتمية لتراكمات نفسية واجتماعية وثقافية. كان والدي شاعراً، كما قلت، وانعكس ذلك على أسرتي، فأصبحوا يعشقون الشعر والأدب والعلم. وقد بدأت محاولاتي الشعرية في مرحلة الدراسة الثانوية، عام 1974 مستلهماً تراث والدي الشعري والأدبي، وتراث صديقيْه عبد الكريم الكرمي وعبد الرحيم محمود، كان معجباً بهما إلى حد كبير، خاصة الشاعر الكرمي، أبي سلمى، أخيه في الرضاعة وصديقه الحميم وزميل دراسته في "الكلية الإسلامية" بالقدس، في العشرينيات من القرن الماضي، هذه الكلية كان يرأسها الحاج أمين الحسيني. حفظت مئات الأبيات من شعر الكرمي وعبد الرحيم محمود عن ظهر قلب، وأعجبت كذلك بالشعراء أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والبارودي وشعراء مدرستيّ الديوان وأبولو واتجهت، فيما بعد، لقراءة شعراء الحداثة معجباً بطريقتهم في كسر القوالب القديمة للقصيدة، وابتداع أشكال جديدة لها، اعتبرتُ ذلك تحرراً من قيود النظم التقليدي، وانتصاراً لنهج التحديث، فإعادة صياغة العالم من جديد، تتطلب قصيدة جديدة تحمل الهم الوطني والإنساني على السواء. في عام 1979 التحقت بجامعة النجاح الوطنية في نابلس، لدراسة التربية وعلم النفس، بناءً على رغبة جادة في نفسي لدراسة هذا التخصّص، فالإطّلاع على النظريات التي تفسر الأدب وتحلله من منظور نفسي واجتماعي، كان هدفاً بحد ذاته. فقد تسنَّى لي أن أعرف علم الجمال والأساطير اليونانية والبابلية والتراث العربي القديم الذي شكل أرضية خصبة لرؤية شعرية تقوم على تحرير الذاكرة الإبداعية من الرؤى السابقة، ممّا اعتبرتُه، آنذاك، إضافة نوعية لثقافتي. لقد أثرت الدراسة الجامعية في نفس الشاعر إلى حدٍّ كبير، وخلال الأعوام الخمسة التي أمضيتها في جامعة النجاح، أصدرت ديواني الثاني "داخل اللحظة الحاسمة" عام 1981، وهو مجموعة قصائد تستند إلى بنية وصورة فنية وعناصر ترتقي بالشعر إلى أنساق مختلفة عن طريق استيعاب طرق الأسلبة والأدوات الشعرية الحديثة. لقد شكل هذا الانعطاف تغييراً نوعياً في مرجعية الشعر، فكما صمدت قصيدتي أمام كل محاولات الترهيب والتعذيب والعقاب الفردي في زنازين الاحتلال الإسرائيلي، استقام عودها، مرة أخرى، لاستيعاب مفاهيم الحداثة والمعاصرة. |
ومن خلال موقعي في مجلس اتحاد الطلبة، قدّمت الكثير على صعيد الكتابة، حيث بادرتُ إلى عقد الندوات والمحاضرات الأدبية التي تهدف إلى النهوض بثقافة الطلبة وتطوير ذائقتهم، بمشاركة عدد من كبار الكُتاب والمثقفين الفلسطينيين أمثال صبحي شحروري، ومحمد البطراوي، وأميل حبيبي، وعادل الأسطة، وخليل عودة، وإبراهيم العلم وغيرهم من روّاد الفكر والأدب. واستضاف مجلس الطلبة، في أمسيات شعرية حاشدة، الشعراء: سميح القاسم وعلي الخليلي وحنّا أبو حنّا والمتوكل طه وسليمان دغش وعبد اللطيف عقل، الأمر الذي أسهم في خلق أجواء حياة ثقافية تشحذ الهمم لمواصلة النضال، وتعزّز روح الديمقراطية والتفاهم والحوار والاحترام المتبادل بين كافة قوى وفصائل منظمة التحرير على أساس إنجاز الوحدة الوطنية كقاسم مشترك للجميع.
فور تخرّجي من الجامعة العام 1984، عملتُ مدرّساً في كلية النجاح المتوسطة، درّستُ مادّتي علم النفس وعلم الاجتماع.. هذه الكلية كانت، ولازالت، تمنح شهادة الدبلوم في التخصصات الأدبية والإنسانية والعلوم التطبيقية والهندسية. فواصلت المشوار، حاملاً نفس الهدف والتطلعات. وفي غمرة النشاط الأدبي والثقافي الحيوي، صدر ديواني الثالث: "خارطة للفرح" عن منشورات وكالة أبو عرفة في القدس العام 1986، ويضمّ بين دفتيه مجموعة من القصائد التي لها مرجعيتها التناصية مع التراث الشعري العربي وغير العربي، بحيث قفزت قصائدي إلى مرحلة تتميز بأدوات كثيرة مثل الأسطورة والقناع، وينحو فيه الشعر بعيداً عن الخطابية والمباشرة، إلى عالم الحرية والإنسانية الرّحب. فالحرية هي شرط الإبداع الأساسي ونهر الثورة الذي يجرف السدود والحواجز. * كنت قريباً من نبض الشارع الفلسطيني، هل استطاعت القصيدة في هذه المرحلة أن تحافظ على فنِّيتها؟؟.. ** أفرزت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، مفردات جديدة لم يكن يستعملها الشعراء من قبل، كالملثم والحجر والمتراس والكوفيّة وغيرها من المفردات التي دخلت قاموس الشعر الفلسطيني، وعبّرت بكل وضوح عن حالة شعبنا، والمعارك البطولية التي يخوضها ضد الاحتلال وآلة القتل والدمار الإسرائيلية، كتبت، في تلك الفترة، القصيدة القريبة بمفهومها من الناس، والتي يردّدونها في جنازات الشهداء وحفلات تأبينهم وفي ميادين المواجهة اليوميّة بين فرسان الانتفاضة وضد الجنود الصهاينة، وفي حالات الحصار والاعتقال ومنع التجوّل. شعرتُ، أنّ من واجبي كتابة هذا النوع من الشعر، لكنني كنت أحرص على المستوى الفنيّ وعدم الوقوع في مأزق النثرية والشعارات. لقد تمثلتُ الانتفاضة بتجلياتها وصورها ومشاهدها، وأعتقد أنني كنت ناطقاً رسمياً أميناً بلسانها. هذه هي مهمّة الشاعر، أنْ تمسّ قصائده الواقع، وأن يكون صادقاً في التعبير عن مشاعر الناس وأحاسيسهم التي لا يستطيعون التعبير عنها بالشعر. هم يصنعون الحدث ـ المعجزة بأيديهم وحجارتهم ومقاليعهم، ونحن كشعراء مهمتنا تحويل هذا الفن البطولي إلى فن شعري. * كان الشعراء السابقون زمنياً: محمود درويش، سميح القاسم، فدوى طوقان، توفيق زَيّاد، هم المعروفون عندنا في الوطن العربي.. ألم يصبكم هذا بالظلم؟؟. **الشعراء الذين ذكرتهم شعراء كبار لهم قاماتهم الشعرية العالية، وأثروا المشهد الشعري الفلسطيني والعربي، وربما العالمي، وهم قيمة فنية وتاريخية لا يمكن تجاهلها، فهم الجذع الثقافي الذي ترعرعت عليه قصائدنا ومدّنا بأسباب الحياة والتقدم. وهم المظلة التي ننعم في رحابها بالدفء والراحة والاكتشاف. ولكن المؤسسة الثقافية العربية بتركيزها على هذه الأسماء فقط، وتسليط الضوء عليها، أصابتنا بنوع من الإجحاف، لقد تم تجاهلنا، نحن الجيل الذي تلا شعراء المقاومة الأوائل. لا أدري، ربما عن غير قصد، وربما توجد هناك أسباب موضوعية أو فنية لهذا التجاهل. نأمل أن يتم الالتفات لنا والاطلاع على تجاربنا وفتح الطريق أمامنا للتواصل مع العالم العربي، وإسماع صوتنا للجماهير العربية. نحن شعراء قضيّة وبالتالي، ننأى بأنفسنا عن الخوض في متاهات الصراع والمحسوبية والتحزّب والانجرار وراء مصالح سياسية وشخصية ضيقة، وننأى بأنفسنا وأقلامنا عن "الكتابة الحلمنتيشية" التي تولد الفراغ والوهم والعدم؛ فالشعر الهابط ليس له لون ولا طعم ولا رائحة.. في الداخل الفلسطيني، هناك حراك ثقافي وشعري متواصل، وأصوات شعرية جديرة بالاهتمام والمتابعة لإبراز دورها وموهبتها. أدّعي ـ بتواضع ـ أننا قدمنا جهداً لا بأس به على صعيد الشعر، وأدخلنا دماء جديدة للقصيدة الفلسطينية تحت الاحتلال، وأضفينا عليها لوناً خاصاً بها، وحداثة خاصة تؤهلها لعضوية نادي الشعر العربي. نتمنى على أخوتنا في وزارات الثقافة العربية واتحادات الكُتّاب والمنتديات والمراكز والجمعيات الثقافية، أن يسدلوا الستار ـ قريباً ـ على هذه المعضلة، وأن يفتحوا الأبواب أمام التجارب المتميزة والجادّة. *عانيتَ من السجن والاعتقال، ما تأثير ذلك على صحتك أولاً، وعلى نفسيّتك ثانياً،وعلى شعرك ثالثاً؟؟.. ** في السجن، تعرضتُ لأبشع أنواع التعذيب على أيدي رجال المخابرات الإسرائيلية، فمن الاعتداء بالضرب والشبح وتكبيل اليدين إلى الخلف، وتغطية الرأس، بشكل كامل، بكيسٍ أسود ذي رائحة نتنة، إلى الزجّ في الزنازين الخشبية والإسمنتية لأيام عديدة وعدم تمكين السجين من النوم عن طريق إسماعه أصوات ٍ غريبة مزعجة يقومون بتسجيلها على شريط كاسيت ووضعه بالقرب من السجين، وعندما يتم ربط جهاز التسجيل بالكهرباء تبدأ الأصوات بالخروج.. كنت أسمع أصوات مختلفة من الصراخ العالي والبكاء والعويل، وأخرى تنهال عليّ بالشتائم ثم تسدي لي النصائح بالاعتراف بالتهم الموجّهة ضدي لضمان "سلامتي" وخروجي من أقبية التحقيق حياً، وإلاَّ فإن الموت أو العاهات الدائمة ستكون من نصيبي، فلربما أصاب بالشلل أو العجز الجنسي.. أو الجنون. هذا غيضٌ من فيض مما يتفننون به من أساليب تعذيب بحق الأسرى، ففي أيام الشتاء والبرد القارس، يجبرون الأسير على خلع ملابسه والظهور أمامهم عارياً بالكامل لبضع ساعات وهم يغمزون ويلمزون ويتبادلون الضحكات. وبعد ذلك، يأتي دور اللكمات والعصي والأسلاك الكهربائية.. والرش بالماء. كنت، كلما تعرضتُ للتعذيب، أشعر أنّ فلسطين تقترب مني، وأقترب منها، وتمنح لقصائدي شرعيّتها. وكلما تمادى رجال المخابرات الإسرائيلية في تسديد الضربات لي، ازداد اقتناعي بعدالة قضيتي، وبحق شعبي في العودة وممارسة سيادته الوطنية على أرضه التي شرّد منها بالقوة.. الآن، حالتي الصحية ليست على ما يرام، فما تزال آثار السجن مطبوعة على جسدي.. وفي قلبي. أجدني، أقف، الآن على رأس تلة في طولكرم، أنادي أشجار الزيتون واللوز وبيادر القمح والزعتر، أن لا تتلوّث بغبار العولمة.. والتطبيع، وأخاطب مبدعي الأرض الذين يروونها بعرقهم ودمهم، أن يصمدوا أمام جدار برلين الجديد، جدار الفصل العنصري الإسرائيلي، وأمام غول الاستيطان. أما حالتي النفسيّة، فهي على أحسن ما يرام، فالقيود التي كبّلتني لسنوات، أضحت مصدر قوةٍ وتمكين وإصرار صلب على نيل الحقوق الوطنية من جهة، وعلى حتمية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني وإقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس، من جهةٍ ثانية. |
هل تستطيع إسرائيل أن تلغي الذاكرة الفلسطينية؟ يمكن لطائراتها ودباباتها وجرافاتها وكل ترسانتها الضخمة أن تقتل وتبطش وتدمّر، لكنها تعجز، بالتأكيد، عن إلغاء فلسطين من ذاكرة شعبنا الفلسطيني وتاريخه وتراثه، وفي أدق تفاصيل حياته اليومية، والواقع، أنها لا تعجز فحسب، وإنما هي بالمقابل، تزيد من إصرار شعبنا على حقّ العودة، وإضاءة أبعاد جديدة في ثقافتنا المعاصرة. فالحق لا يضيع، فثقافتنا تتجدد وتتطور، وتبقى راسخة، في الوقت نفسه في الجذور.
وكلما أمعن الاحتلال الإسرائيلي في سياسته القمعية التنكرية لحقوق شعبي، كلما وجدتُ، ووجد غيري، أفقنا الأوسع في التعبير عن الوطن بكل أدواتنا الفنية ووسائل إبداعنا، وكلما وجدنا، أيضاً أفقنا الوطني النضالي والشعري لمواصلة الكتابة والصمود والسير على درب العودة والاستقلال والدولة. أما من حيث تأثير السجن على قصيدتي، فالكتابة داخل السجون تعني مقاومة الموت، تعني أن ينتصر الشعر في صراعه مع السجّان. في السجن تبدو القصيدة هي الرئة الصالحة للتنفس والحصن الواقي من الموت.. كان الشعر شرياني الباقي وعينيَّ المفتوحتين على الأفق. اكتب أيُّها الشاعر، قلت في نفسي، هاهي القصيدة تأتيك منقادةً كحصانٍ أليف. اكتب أيها الفارس المحاصر إلاَّ من إرادتك وعنفوانك، فكتبتُ على الأوراق النادرة ولفافات السجائر، وعلى جدران الغرف الرمادية والزنازين الخانقة، دمي النازف من رأسي حتى أخمص قدميّ. ذات ليلة من عام 1977، زارتني قصيدة: "رسائل سجينة إلى أمي" فأخذت أردّد في صمت: "الموكب الموعود شقّ طريقه عبر البحار وسرى، تعانقه النسائم والمحار ورأيت طلعتك الندية من بعيد مَثُلتْ أمامي مثل طيفٍ لا يحيد أماه يا لحن النهار هل تسمعين؟ القلب يخفق والتشوّق والحنين". |
وعندما هممتُ بكتابتها وتفريغها على الورق، أطفأ السّجانون الأنوار في غرف الأسرى، فقد حان موعد النوم حسب قانون إدارة السجن. لقد أطفؤوا نور الغرفة، لكنهم عجزوا عن إطفاء نور الشعر وبريق الأمل القادم رغم ستائر العتمة. عندما أشرقت الشمس في اليوم التالي، قمتُ بتفريغ شحنتي العاطفية على ما توفر لي من أوراق. عندما تزورني القصيدة أحسّ بالذهول، بحالة من التوتر وعدم التركيز، بحيث لا أستطيع سماع الأحاديث من حولي، أو الانتباه إلى حركات الأخوة والرفاق داخل غرفة السجن. كنت ـ تحت ضغط هذه الحالة النفسية ـ أشعر بأني أمتلك قوة غير عادية، تمكنّني من اختراق جدران السجن وقضبانه وأبوابه الحديدية الموصدة بشكل محكم، لأذهب بعيداً.. أتكئ على جذع زيتونة منتظراً أن تأتي الفتاة التي أحببتُّها وأرى في عينيها صورتي، وترى في عينيّ بشائر الحرية القادمة.
الذكريات أمامي تنساب كمنبعٍ متدفق، لتصبّ في نهر الانتفاضة المقدّس، محافظة على وضوح الرؤية ونقاء الصورة. هل يكفي الحديث عن السجن؟ هل يكفي الحديث عن القصيدة التي تلمع كالبرق في ظلام الخيام والغرف المغلقة؟. في تلك الفترة، كتبتُ الشعر الغنائي الذي يلهب العواطف والمشاعر، ويحوّل التراب والشجر والحجر إلى كائنات حيّة تتحرّك وتتنفّس.. وتقاوم. أما الآن، فإنني أسعى لأن يكون لقصيدتي تشفيرها الخاص وأنساقها الإشارية الخاصة بها، أكتب الشعر الذي يخلو من تيار التدفق والغنائية المفرطة. وفي ديواني الأخير "فاكهة الندم" خروج عن السمترية القديمة والقوالب الشعرية الجاهزة. وقصائدي الأخيرة تجنح نحو الميثوبيا، وفيها اهتمام واضح بالبنية الداخلية، ومنخرطة في أطر نسقية مختلفة. في رأيي، هو المايسترو الذي يضبط إيقاع الحياة. وإيقاع الحياة متوتر وقلق ومدهش.. ومجنون. *بعض قصائدك كانت تُهَرّب من السجن بطرق مختلفة لتصل إلى الناس، ليتك تحدثنا عن ذلك؟ ** عندما كنا نضرب عن الطعام لهدف تحسين أوضاعنا الاعتقالية، مثل تزويدنا بالكتب والدفاتر والأقلام وشفرات الحلاقة والصابون وفرشات النوم والراديو والصحف اليوميّة، كان السجانون يداهمون الغرف مدججين بالأسلحة والهراوات والدروع الواقية وقنابل الغاز المسيل للدموع، مستعينين بقوات الجيش وحرس الحدود، ويعتدون على الأسرى بالضرب والإهانات والألفاظ النابية. كانوا يخرجوننا إلى ساحة السجن ويصلبوننا في الشمس الحارقة أو في البرد الذي لا يطاق، وجوهنا إلى الحائط وأيدينا خلف ظهورنا ثم يتّبعون أساليبهم المعهودة لنا، فالتهديد والشتائم والاعتداء بالأيدي والأرجل وأعقاب البنادق، هي اللغة التي لا يتقنون غيرها. نبقى على هذا الوضع لساعتين أو ثلاث، أو ربّما من الصباح إلى المساء. قسم من الجنود يذهب إلى الغرف لتفتيش حاجات الأسرى، مثل الخزائن الصغيرة المثبتة على الحائط والملابس والبطانيات والشبابيك.. وحتى دورات المياه. والقسم الآخر يبقى في الساحة لإكمال مهمّته "الأمنية". كانوا يصادرون كل شيء، حتى أبسط حقوق الأسرى: الفراش. وعندما نعود إلى الغرف في المساء، نجدها خالية إلاَّ من البلاط. |
كنا نعرف النوايا الحقيقية لإدارة السجن. فهي تهدف من وراء هذه "الغارة" إلى كسر الإضراب وتركيع الأسرى وتقويض جبهتهم الداخلية. وفي المقابل، نتفق، فيما بيننا على استمرار هذه الخطوة النضالية، فمن غير الممكن أن نمنحهم فرصة للانتصار علينا. فوحدتنا هي صمام أمان صمودنا، وهي الصخرة التي تتحطم عليها مؤامرات إدارة السجن الصهيونية. يتجدد العهد، ويستمر الإضراب عن الطعام لمدة أسبوع أو أسبوعين حتى تذعن إدارة السجن لمطالب الأسرى وتزودنا باحتياجاتنا. كنت، في مثل هذه الأوضاع الصعبة والقاسية، أخبئ قصائدي في معدتي خشية السطو عليها ومصادرتها، بحيث أغلْفها جيداً بالنايلون الشفاف المخصّص لقطع الخبز وأُحكم إغلاقها بواسطة الولاعة، فيذوب النايلون على نفسه، وبعد فترة قصيرة يتماسك، أبتلع القصائد المحميّة من التلف، بهذه الطريقة، كما أبتلع كبسولة الدواء..فتستقرّ في المعدة. وعند الحاجة، أقوم بإخراجها، إمّا عن الطريق التقيّؤ، أو.. دوره المياه. كانت الكبسولة الواحدة تكفي للاحتفاظ بعشرات القصائد والبيانات والقرارات التنظيمية. فعددٌ قليل جداً من الورق الناعم الشبيه بورق السجائر، يتّسع لكتابة ديوان شعر كامل. وعندما كانوا يصادرون دفاتر الشعر والمقالات الأدبية الخاصة بي، تظل "الكبسولة" هي النسخة البديلة التي لا يستطيعون مصادرتها أو الاستيلاء عليها. بهذا الأسلوب كنت أهرّب أشعاري إلى الخارج من السجن أو إلى السجون الأخرى. فالسجين المفرج عنه كان يبتلع عدداً من الكبسولات عشيّة إطلاق سراحه، وعندما يحين موعد زيارة الأسرى، نعلم أن الأمانة وصلت إلى أصحابها.. إما للأهل أو لمكاتب الصحف والمجلات في القدس وحيفا. هذا الاختراع الذي أنجزه الأسرى، بجدارة هو جزء من فن إدارة الصراع مع سلطات الاحتلال في السجون الإسرائيلية. |
*من هم شعراء جيلك، وماذا تقول عنهم؟ ** شعراء جيلي كثيرون، وأنا أحبهم جميعاً، وأعتز بهم وبما قدموه للمشهد الشعري الفلسطيني. وبعضهم جاد في تطوير ثقافته واستكمال مشروعه الشعري، وأخص بالذكر الشاعر المتوكل طه الذي أصدر عدداً من المجموعات الشعريّة الجديدة التي ترتقي إلى مستوى متقدم، من الناحية الفنية واللغوية والإيقاعية وفيها دلالات وتجاوز للشكل القديم، وكذلك الشاعر محمد حلمي الريشة الذي اتجه لكتابة قصيدة النثر المحمّلة بإشارات ومضامين ذاتية ملغزة. والشاعر سميح فرج الذي يتمترس خلف قصيدته الغنائية التي تزخر بالصدق الفني والهم الوطني العام. والشاعر وسيم الكردي، القارئ والمثقف، الذي يؤمن بأن الشعر يجب أن ينهض بذائقة الملتقي. والشاعر محمد مسعد الذي كتب القصيدة الرمزية الجميلة المفعمة بالتراث والأسطورة. والشاعر عبد القادر صالح صاحب الموهبة الجياشة والقصيدة العالية والذي لم أقرأ له منذ سنوات ولا أعرف أين هو الآن. أدعو لهم، جميعاً، بالمزيد من الإبداع والتقدم. * هل استطاع النقد العربي أن يغطي جزءاً من تجربتكم الشعرية، إذا افترضنا أنكم شعراء الجيل الثاني في الشعر المقاوم زمنياً؟ ** مع الأسف، لم يتطرّق أحد من النقاد العرب لنتاجنا الشعري، باستثناء الشاعر والناقد طلعت سقيرق الذي قدّم جهداً عظيماً يستحق التقدير، بتأليفه كتاب "الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني"، حيث قام بجمع قصائدنا والكتابة عنها والإشارة لتجاربنا الشعرية بشكل مستفيض. فمن خلال عرضه للقصائد وتحليلها ووضعها في سياقها الاجتماعي والثوري، مهّد الطريق لكي يتعرّف القارئ العربي على نتاجاتنا، وفتح نافذة كانت موصدة لزمن طويل، نفذنا من خلالها إلى ذائقة المتلقي العربي، كذلك الأمر في كتابيه "شعر الانتفاضة" و"عشرون قمراً للوطن"، وهو جهد عظيم يدل على مدى ارتباط الأستاذ طلعت سقيرق بأرضه وشعبه وثقافته. كما أودّ الإشادة بالأستاذة الأديبة فريدة النقاش، رئيسة تحرير مجلة "أدب ونقد" المصرية التي تناولت ديواني: "المجد ينحني أمامكم" وتجربتي الشعرية في معتقل "أنصار 3"، في مقالها الأسبوعي بجريدة الأهالي المصرية، ولا تزال تفرد صفحات مجلة أدب ونقد للإبداع الشعري والقصصي الفلسطيني داخل فلسطين، وبين الفينة والأخرى، تنشر لي هذه المجلة الرائعة بمستواها وهيئة تحريرها، مجموعة من القصائد، والدراسات النقدية التي تتصدّى لأعمالي الشعرية. دون ذلك، لم أسمع أنّ أحداً من النقاد العرب التفت إلينا. *هل يختلف ذلك في الداخل، بمعنى، هل استطاع النقد أن يعطيكم حقكم داخل فلسطين. ** في فلسطين، الأمر يختلف كليّاً، فالنقاد والأكاديميون الذين يدّرسون مادة الأدب العربي في الجامعات الفلسطينية، منشغلون بالكتابة عن الأدب الفلسطيني، كالشعر، والرواية والقصة والمسرحيّة، ويكلفون طلبة كليات الآداب بالمهمة ذاتها. ومن حسن حظنا، نحن الجيل الذي نما وترعرع تحت الاحتلال الإسرائيلي، أن تناول الأديب والناقد المميّز الأستاذ صبحي شحروري أعمالنا الشعرية بالنقد والتحليل. هذا الناقد المثقف المطلع على نظريات النقد الأدبي، يتمثل النص الذي يريد الكتابة عنه، حتى أنّ ذاته الناقدة تحلّ محل ذات الشاعر أو الروائي أو القاص، فقد استوعب نظريات البنيوية والشكلانية والواقعية الاجتماعية وغيرها، واستطاع صهرها، في داخله مع الالتزام بالخط القومي الواضح. لقد كتب شحروري نقداً لكل أعمالي الشعرية، وأعمال غيري من الشعراء أو الروائيين. فالنقد عنده إبداع، ونص جديد على النص. وهناك نقاد آخرون مهمّون، أذكر منهم على سبيل المثال: د. خليل عودة ود. إبراهيم نمر موسى، ومحمد مدحت أسعد، وإبراهيم مصطفى رجب الذين تناولوا بالنقد الموضوعي مجموعاتي الشعرية. في الداخل الفلسطيني توجد مدارس نقدية، وتعقد الندوات وورشات العمل والأيام الدراسية بمبادرة وزارة الثقافة، والاتحاد العام للأدباء والكُتاب الفلسطينيين، وفي إطارها يجتمع المثقفون والأدباء والنقاد ليناقشوا ديواناً شعرياً، أو مجموعة قصصية أو رواية، أو يبحثوا قضية ثقافية ما، مثل استراتيجية الثقافة الفلسطينية. كما أن مجلة "الشعراء" الصادرة عن بيت الشعر الفلسطيني في رام الله، ومجلة "الكلمة’" الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في رام الله، أيضاً، تضطلعان بدور فعّال في تكوين الوعي الفكري والثقافي والتراثي والنقدي، وتسهمان في إغناء الحركة الأدبية والفكرية داخل فلسطين. * يقال إنّ الشعراء الذين ولدوا بعد العام 1950، غيّروا مجرى القصيدة الفلسطينية، بأي اتّجاه كان هذا التغيير؟ **الظروف السياسية التي خيّمت على الشعب الفلسطيني بعد نكبة عام 1948، وفقدانه لأرضه وممتلكاته، ولجوئه إلى مخيّمات الشتات في العالم العربي، ألقت بظلالها على العملية الإبداعية برمّتها، وعلى مشاعر الناس وأفكارهم وتوجهاتهم. نلحظ ذلك في الشعر والقصة والرواية. |
وبما أن الشعر هو الأقرب إلى التفاعل والأسرع تجاوباً، كان له صدى أبرز على صعيد الثقافة، لأن زمن الرجع فيه أسرع من أي لون أدبي آخر.
بدأ الشعر في استبطان النكبة والمخيم والواقع الجديد بحراكه السياسي والاجتماعي. وقد برز هذا التوجه بشكل حاد وحاسم لدى شعراء المقاومة داخل الأرض المحتلة عام 48، حيث واجهوا السلطة الإسرائيلية المباشرة كسلطة أجنبية، وقد تميزت قصائدهم بالإصرار على عروبة فلسطين والارتباط بالتراث والهوية الوطنية والثقافية. أما الشعراء والأدباء في الجزء المتبقي من فلسطين، والذي لم يخضع للاحتلال الإسرائيلي، آنذاك، أعني الضفة الغربية وقطاع غزة، فقد تميزت قصائدهم وكتاباتهم بالحنين والأمل بالعودة وتحرير الأرض المغتصبة، وقد سيطرت الروح الرومانسية على إبداعاتهم، ولكنهم لم يدخلوا في دائرة الصراع المباشر مع المحتل الأجنبي. كان الشعر الفلسطيني، في ذلك الوقت، ريادياً، ليس لتميّز الفلسطينيين، وإنما لتميّز قضيتهم. وقد شكّل الشعر الفلسطيني إرهاصة لتغيرات اجتماعية وسياسية في العالم العربي. وقد أضفت النكبة مفاهيم جديدة على الأدب والفكر والثقافة، وبداية هذا التغيير ـ التجديد، كانت على أيدي الفلسطينيين، وخصوصاً شعراء الأرض المحتلة. أما جيلي الشعري، فقد واجه الاحتلال الإسرائيلي لبقية فلسطين عام 1967، كما واجهه شعراء الأرض المحتلة. وهذا الواقع الجديد الغريب الذي عشناه تمثل في قصائدنا، من خلال الدعوة لرفض الاحتلال ومقاومته والتصدي لمخططاته، وهكذا انتقلنا بالشعر من دائرة الحنين والبكاء على الأطلال إلى ميدان الفعل الثوري بواسطة مضامين ومصطلحات جديدة لم تكن مطروقة في السابق، فالغنائية المفرطة تحولت إلى واقعية ثورية تعتمد على الشكل والمضمون. والحنين تحوّل إلى إصرار وتعبئة فكرية تمهيداً لخوض معركة الحريّة والاستقلال. والبكاء على الأطلال تحوّل إلى استنهاض الهمم ورص الصفوف استعداداً للثورة وطرد المستعمر عن أرض الوطن. وقد شكّل هذا التغيير في مجرى القصيدة الفلسطينية حاضنة للعمل الفدائي الذي انطلقت شرارته عام 1965بقيادة حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، فقد تبوأ عدد من الشعراء والكُتّاب مراكز قيادية متقدمة في مختلف فصائل العمل الفدائي، ودفع بعضهم حياته ثمناً لإبداعاتهم ومواقفهم الثابتة. وفي الداخل أسهم الشعراء بدور فعّال على صعيد الجبهة الثقافية التي لا تقل أهمية عن الجبهات الأخرى في التصدي لمؤامرات الاحتلال الإسرائيلي وتهويد الأرض والمقدسات وسرقة تراثنا وتشويهه. فقد دفعنا من عمرنا ثمناً باهظاً بسبب قناعاتنا وأهدافنا التي لا يمكن أن نتزحزح عنها قيد أنملة. وأنت تعرف حجم معاناتي التي استمرت لسنوات في سجون ومعتقلات العدو الصهيوني، وكذلك معاناة غيري من المثقفين. * في ديوان محمود درويش "كزهر اللوز أو أبعد" اهتمام بالذاتي بعيداً عن الوطني بالمعنى الحرفي، هل تغيّر نبض القصيدة الفلسطينية. **هناك جنوح واضح نحو الذات في هذا الديوان، وفي الدواوين الخمسة التي سبقته، بمعنى أصح أن التغير الذي طرأ على شعر محمود درويش حدث بعد عودته لأرض الوطن. ودرويش، بالمناسبة، ليس هو القصيدة الفلسطينية ولا يمثل الشعر الفلسطيني، هو امتداد لمن سبقوه وألقوا بظلالهم عليه. وحول هذه الإشكالية، كتب الأديب والناقد صبحي شحروري في مجلة "الشعراء" مجموعة من الدراسات القيمِّة التي لاقت صدى عظيماً في أوساط الكُتّاب والمثقفين الفلسطينيين في الداخل والخارج، خاصة في نقده لـ "الجدارية" ولكن درويش، حتى في فرديته وفي مقاربته للقضايا الذاتية، يبقى فلسطينياً أولاً وأخيراً. * عبد الناصر صالح من الأسماء التي تستوقف الناقد لأهمية ما يكتب من قصيدة متطورة باستمرار. ما هو طموحك؟ **طموحي أن أتجه لدرامية الشعر بالاستفادة من السرد العربي، وأن أكتب قصائد ذات نفس ملحمي تصوّر نضالات الشعب الفلسطيني وتجعل من القضية الفلسطينية قضية إنسانية. أعترف لك أنني أكتب دمي المراق على الطرقات، وفي أزقة المخيّمات، وفي ميادين الشرف. الصدق الفني والنفسي هو ما يميّز أشعاري. هناك تطابق بين ما أقول وما أفعل. لم أعرف التزييف والفهلوة والكذب على الآخرين. لن أنزل عن جبل أُحد لاقتسام "الغنائم". وسأظل متشبّّثاً بأهدافي الوطنية والقومية لآخر يومٍ من عمري. هذا هو قدري، لا أجيد فن اللهاث وراء القصائد، القصيدة هي التي تكتبني، تتسلل إلى جسدي صافية من تأثير الآخرين، دافئة غنية كزيتون طولكرم المليء بالزيت والأغنيات وقسَم الشهداء. وأعترف لك، مرة أخرى، أن تجربتي الشعرية لم تستوعب بالكامل تاريخي النضالي، ولهذا السبب أجدني أطمح إلى تجاوز نضالي الشخصي للتعبير عن نضال الشعب الفلسطيني، بشكل أكبر وأعمق. |
* ما هي القصيدة الأجمل عندك؟ ** من الصعب على الإنسان أن يختار أحد أبنائه ليفضّله على أبنائه الآخرين. ومن الطبيعي أن يحظى جميع الأبناء بنفس القدر من المحبة والاهتمام. وهكذا يجد الشاعر نفسه مضطراً للمساواة بين جميع قصائده ومجموعاته الشعرية. وحتى مع تعاقب الأعوام، يظل للقصيدة رونقها الخاص. شعلة الانبهار، لدى الشاعر فيَّ، لا تخمد، بل تزداد عطاءً وتوهجاً عند الكتابة، وعند الرجوع إلى النصوص القديمة. على أني أرغب، في الأمسيات الشعرية، بقراءة قصيدة لها وقع خاص في قلبي ووجداني، هي قصيدة "مرثية لفارس القصيدة" وقد أهديتها لروح والدي الشاعر والمناضل محمد علي الصالح. استطعت فيها أن أستعيد الوالد وأن أخاطبه، وكأنه يعود إلى سوح النضال من جديد، فالزمان لم يتغير: "هل ألقوّا عليكَ القبضَ بعد مظاهراتِ اليوم؟ هل عانيتَ خلف قتامة القضبانِ حين كشفتَ للطلابِ خبث الانتدابِ وسيّئاتِ الأنظمة". ثم أناجيه قائلاً: "كم مرةً سأموتُ بعدكَ كم سيقتلني رحيلكَ قمْ إليك، وقم إليْ قمْ للقصيدةِ مزّقتْ أوراقها الأولى نهاياتُ الفصول". |
وقد أبرز الأستاذ صبحي شحروري، مسألة تعلق الابن بالأب والتصاقه به، في دراسته النقدية لديوان "المجد ينحني أمامكم"، فقد تطرق لهذه القصيدة محْلّلاً وكاشفاً للعلاقة الحميميّة بين الأب وابنه، فقد مررنا بنفس التجربة الكفاحية، وتعرّضنا لنفس السجن ونفس الاحتلال الذي يأخذ الآن اسماً مستعاراً، فالاحتلال الصهيوني هو ذاته الاحتلال البريطاني، الاسم، فقط، هو الذي تبدّل، لكن المضمون هو نفسه.
وعليه، فإنني، في هذا النص الشعري، استعدت صورة الوالد ـ الذي حمل هموم مرحلته ـ مرحلة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي ـ لأُحمّلها هموم المرحلة الحالية. في هذه القصيدة تداخل وارتباط ما، وكأني أجد نفسي مُعلقاً على كل لوحةٍ فيها. *إذا أردتُ أن أستمع إلى سيرة حياة شاعر هو عبد الناصر صالح، ماذا تقول؟. ** ولدت في طولكرم في 12/10/1957 وتلقيت تعليمي الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارسها. وكما قلت لك في إجابتي على سؤالك الأول، فقد بدأت محاولاتي الأولى عام 1974، متأثراً بوالدي بداية، كنتُ في تلك السنة طالباً في الصف الأول الثانوي. وفي مدرسة طولكرم الثانوية تعرفتُ إلى الزميليْن الطالبيْن: علي مبارك وحلمي الأسمر، اللذين كانا في بداية التأمل الشعري والاكتشاف والاحتفاء بالجمال. كنا نلتقي، ثلاثتنا، بشكل يوميّ، إمّا في بيتي أو في بيت علي مبارك في مخيم طولكرم، نقرأ ما كتبنا من خواطر ثم ننقدها، حسب مفهومنا للنقد، آنذاك، الذي يتكئ على العواطف والأفكار وجزالة اللفظ والمعنى. وعندما انتقلنا للمدرسة الفاضلية الثانوية في طولكرم، العام 1975، كنا قد تمكّنا، إلى حدّ ما، من امتلاك ناصية اللغة وتطوير مخيّلتنا الشعرية. بدأتُ بنشر محاولاتي في صحيفة "القدس"، ثمّ في صحيفتي "الفجر" و"الشعب" اللتين توقفتا عن الصدور في العام 1994. وقد أشرف على رعاية مواهبنا وتشجيعنا وتزويدنا بالكتب الثقافية والأدبية والمجموعات الشعرية، الأستاذ الأديب محمد البطراوي، الذي يعتبر أحد أبرز الوجود الأدبية والثقافية في الضفة والقطاع، فقد شغل، آنذاك، موقع رئيس تحرير صحيفة "الفجر" الصادرة في القدس. وعلى الصعيد الشخصي، أعجبت بهذا الرجل غاية الإعجاب، أعجبت به لسببين: الأول أنه يشبه والدي بدماثة خلقه وطيبة قلبه وتواضعه وحرصه على تنمية قدرات الشباب، والثاني: ثقافته الشمولية التي لا يبخل بها على أحد. كما لا يفوتني أن أشيد بالأديب المبدع الأستاذ صبحي شحروري، صاحب المكتبة التي شكلت مركزاً ثقافياً وحضناً دافئاً لأبناء جيلي من طولكرم، بل من كافة مدن وقرى ومخيّمات الضفة الغربية وقرى المثلث القريبة من طولكرم. كان يحدثنا عن تجربته القصصية في مجلة "الأفق الجديد" التي صدرت في القدس عام 1962 وتوقفت عن الصدور عام 1966. فمن معينه الواسع نهلنا الكثير، عرفنا سلطة النص، ونسق اللغة الشعرية وانزياحها ومستوياتها الدلالية. فالثقافة بالنسبة له هي تراكم خبرات على مستوى الفرد والمجتمع، فالنص لا يمكن أن يتخلّق من فراغ، إذن من الضرورة أن تكون له مرجعية ما كان شحروري يزهو بحديثه عن جيل "الأفق الجديد" الذي ضم نخبة من الأدباء والشعراء الفلسطينيين، أمثال: ماجد أبو شرار وخليل السواحري ونمر سرحان وعبد الرحيم عمر ومحمد القيسي ومحمد البطراوي وصبحي شحروري، ويحثنا على الاستفادة من خبرات وتجارب هؤلاء الكتاب. ظلت علاقتي بالأستاذين شحروري والبطراوي قوية ومتماسكة، فبفضلهما وتوجيهاتهما، ارتقى مستوى التدفق الشعري لديّ، وغنيت ممتلكاتي اللغوية والمعرفية. في العام 1976، صدرت مجلة "البيادر" في القدس، وهي المجلة الثقافية الأولى التي تصدر في الضفة والقطاع منذ العام 1976، وقد فتح رئيس التحرير الأستاذ جاك خزمو صفحات "البيادر" لأقلام الشباب في الأرض المحتلة. فبرز منهم الشعراء وكتاب القصة القصيرة والنقد. وبعد ذلك تم تشكيل "تجمّع كتاب البيادر"، كنت عضواً فاعلاً في هذا التجمّع، أحضر الاجتماعات في القدس، وأقدم الآراء والمداخلات والاقتراحات التي تخدم استمرارية المجلة وحضورها الثقافي الديمقراطي. في العام 1979، تعرفت إلى الشاعر علي الخليلي، كان عائداً من عمله في ليبيا، ليكمل مهمته الثقافية في فلسطين، حيث عمل محرراً أدبياً لصحيفة "الفجر"، ثم أصدر، فيما بعد، مجلة "الفجر الأدبي" التي اعتبرت منبراً ثقافياً وفكرياً هاماً، وإضافة نوعية لمجمل الحركة الأدبية الفلسطينية، احتضنت "الفجر الأدبي" الأدباء والكتاب على اختلاف مشاربهم ومنابعهم الفكرية والسياسية، وعملت على خلق مناخ ديمقراطي تعدّدي في أوساط المثقفين. استمرت هذه المجلة بالصدور حتى العام 1990، حيث توقفت لأسباب مالية. وفي العام 1979، صدرت مجلة "الكاتب" لصاحبها ورئيس تحريرها الشاعر أسعد الأسعد، لقد عنيت هذه المجلة، أيضاً، بالشؤون الثقافية والفكرية والسياسية والدفاع عن القيم الحضارية والإنسانية للشعب الفلسطيني أمام غطرسة وعنصرية الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وتفريط الرجعية العربية، هذه المجلة، بثوبها الماركسي، لعبت دوراً في توحيد الحركة الأدبية والثقافية تحت الاحتلال الإسرائيلي، وتنظيم جهود المبدعين الفلسطينيين. ولكن مصيرها، مع الأسف، كان كمصير سابقتيّها، فقد توقفت "الكاتب" عن الصدور في رام الله العام 1997، لأسباب مالية. |
في العام 1981، تم تشكيل "لجنة كتاب الملتقى الفكري" بمبادرة من عدد من المثقفين، أبرزهم: علي الخليلي وغريب عسقلاني وزكي العيلة وسامي الكيلاني وجميل السلحوت وعادل الأسطة وعبد الناصر صالح. هذا التجمع كان بمثابة نواة "اتحاد الكتّاب الفلسطينيين" فيما بعد. كنا نعقد جلساتنا ـ كأعضاء مؤسسين لهذا التجمّع، في مقر "جمعية الملتقى الفكري" في القدس. كانت النقطة الأولى على جدول أعمالنا هي وضع البرامج والسياسات الثقافية وسبل تنشيط العمل الثقافي الجماهيري والانفتاح على الوطن العربي. وبالفعل، فقد بادر هذا التجمّع إلى عقد "مهرجان الأدب والثقافة الأول" عام 1981، و"مهرجان الأدب والثقافة الثاني" عام 1982 في القدس، لمدة أسبوع حافل بالشعر والندوات والأيام الدراسية المخصصة للنقد الأدبي والفني. من خلال مشاركتي في هذين المهرجانين، توطّدت علاقتي بمعظم شعراء وأدباء فلسطين المحتلة عام 1948: أميل حبيبي وسميح القاسم ومحمد علي طه ومحمد نفاع وجمال قعوار وحسين مهنّا ومحمد حمزة غنايم ونبيه القاسم وفاروق مواسي، وغيرهم، الأمر الذي أتاح لي الفرصة للدخول إلى الوطن المحتل عام 48 والمشاركة في الحياة الثقافية والأدبية هناك. ذكريات زاخرة بالشعر والأصدقاء.. وأنهار العشق، فمن "باقة الغربية" في المثلث الشمالي إلى الناصرة في الجليل، إلى حيفا وعكا على ساحل المتوسط، انهمر الشعر من جديد وتألق الإبداع. صدر ديواني الثاني "داخل اللحظة الحاسمة" عن منشورات اليسار في باقة الغربية، لصاحبها الشاعر والصديق عبد الحكيم سمارة، هذا المناضل القريب من الروح، كان يطبع الكتب على نفقته الخاصة، ويقوم بتوزيعها، شخصياً، على المكتبات والمثقفين في المدن والقرى الفلسطينية في الضفة والقطاع وداخل فلسطين المحتلة عام 48. كنت رفيقاً له في جولاته الأسبوعية، وربما اليومية لتلك المناطق. عشرات الكتب الثقافية أصدرها، أو أعاد طباعتها، وبفضله عرفت الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم ونجيب سرور. كنت أزوره، في بيته صباح كل يوم جمعة، نشرب القهوة ونقرأ صحيفة "الاتحاد"، لسان حال الحزب الشيوعي، ومن ثمّ ننطلق إلى رحاب الوطن. وكثيراً ما تعرضنا للاعتقال والاستجواب في مراكز الشرطة الإسرائيلية بتهمة ترويج كتب ممنوعة وعدم حصول "دار اليسار" على "ترخيص" بالنشر والطباعة من وزارة الداخلية الإسرائيلية. كان عبد الحكيم يرفض الحصول على مثل هذا "الترخيص"، فيتعرض للمضايقة والاعتقال. وأنا أواجه نفس التحدّي في طولكرم، يسألني رجال المخابرات عن سبب علاقتي المتينة بعبد الحكيم؟ فأجيبهم: الشعر فقط.
|
كانوا يعتقدون بوجود علاقة "تنظيمية" بيني وبينه، فيتساءل أحدهم بخبث: أنت عضو في "فتح" وهو عضو في "الحزب الشيوعي ـ راكاح" ما هو الرابط بينكما؟ فأجيبه الإجابة نفسها: الشعر. وأُضيف إنّ الصداقة التي تجمع شاعرين، كما هو الشعر، تتجاوز الأحزاب والتنظيمات. لم أر عبد الحكيم سمارة منذ ست سنوات، منذ بدء انتفاضة الأقصى، فالحواجز العسكرية والترابية وجدار العزل العنصري وظروف منع التجول، تحول دون رؤيته والتمتع بلقائه. في العام 1979، التقيت الشاعر المتوكل طه، للمرة الأولى، في جامعة بير زيت، وقتذاك كان طالباً في كلية الآداب، وفي "مهرجان التراث الشعبي" الذي نظمه مجلس الطلبة في حرم الجامعة، ألقينا القصائد، وتجاذبنا أطراف الحديث عن ضروريّات الفعل الثقافي والوطني.. وتفعيل دور الشعر في الجامعات الفلسطينية، وعلى الفور، باشرنا العمل على تنظيم الأمسيات الشعرية واللقاءات الأدبية في الجامعات والمعاهد، حيث امتدّ نشاطنا إلى جامعات الخليل وبيت لحم وأبو ديس والنجاح، برفقة الشاعرين عبد اللطيف عقل وعلي الخليلي. ومن خلال هذه الأمسيات، كنا نشعر أن الطلبة متعطشون لسماع الشعر الذي يلهب المشاعر والعواطف ويؤجج نار الثورة ضد الاحتلال. فعلى مدار سنوات، كتبنا للقدس والأسرى والشهداء والثورة، وغنينا لفلسطين الحلم والدولة. ومنذ ذلك الوقت، تعززت علاقتي الروحية بالمتوكل طه، فأصبح رفيق العمر والشعر والسجن.في العام 1986، صدر ديواني الثالث "خارطة الفرح" عن منشورات وكالة أبو عرفة في القدس، العديد من النقاد والأصدقاء كتبوا عن هذا الديوان، وظواهر التجديد فيه، من ناحية الأسلوب والإيقاع المعرفي ونسق اللغة. وفي مطلع العام 1987، عملتُ محرراً ثقافياً لصحيفة "الشعب" المقدسية، خلفاً للأستاذ عادل الأسطة الذي غادر إلى ألمانيا للحصول على درجة الدكتوراه في الأدب العربي. عملت، جاهداً، على نشر النصوص الأدبية والشعرية الجادّة وتشجيع الناشئة، وإبداء الملاحظات على ما يرسلونه لي من مواد. وخلال تواجدي في القدس، كنت ألتقي المتوكل طه، بشكل يومي، حيث كان يعمل في المكتب الفلسطيني الذي تصدر، من خلاله، مجلة "العودة" السياسية الثقافية. كنا نلتقي لتدارس الوضع على الساحة الثقافية وأهمية توحيد الكتاب والأدباء الفلسطينيين في إطار نقابي يضم الجميع. وبعد مشاورات طويلة ولقاءات عديدة مع الكتاب والمثقفين في الضفة والقطاع، أُعلن في القدس في 30/7/1987 عن تشكيل "اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين" وانتخب المجتمعون الشاعر المتوكل طه رئيساً للاتحاد، في حين تمّ انتخابي نائباً للرئيس، والأخوة: عزت الغزاوي وجمال سلسع وسامي الكيلاني ومحمد أيوب وعبد الله تايه وجميل الحوساني، أعضاء في الهيئة الإدارية، بالإضافة إلى الأخت حنان عواد. وتم اختيار "القدس" جوهرة المدن مقراً للاتحاد. عملنا، بداية، على ضخ دماء جديدة للاتحاد، عن طريق استقطاب العديد من الكتاب ذوي الموهبة والحيثية الثقافية. كانت الفرحة تغمرني حيال هذه المبادرة العظيمة، فانصرفت أنا وزملائي لترتيب البيت الأدبي الفلسطيني، وإثبات وجودنا على الأرض، وفي غضون أشهر قليلة، تمكّنا من طباعة ونشر عشرات الكتب الموزعة ما بين الشعر والقصة والرواية والدراسة النقدية، وأولينا اهتمامنا خاصاً للنتاج الأدبي القادم من سجون ومعتقلات الاحتلال. كما بادر الاتحاد إلى تفعيل نشاطه في المدن والقرى والمخيمات، الأمر الذي أكسبه سمعة طيبة لدى أبناء شعبنا باختلاف شرائحهم الاجتماعية والسياسية. |
ولم تمض أشهر قليلة حتى اندلعت الانتفاضة الأولى، كان ذلك في 9/12/1987. أمواج بشرية تخرج إلى الشوارع متحدية جبروت الاحتلال. المظاهرات العارمة تعمّ الأرض الفلسطينية. الشباب والرجال والنساء ينصبون المتاريس ليمنعوا قوات الاحتلال من الوصول إليهم، ويرفعون الأعلام على الأشجار وأعمدة الكهرباء وأسوار المدارس والمؤسسات. مناضلون انتظروا طويلاً ليخرجوا من رحم المأساة لاستعادة هويتهم الفلسطينية. وبفضل إيمانهم العميق بالحرية، يفشل المحتلون في التقدم نحو مواقعهم المحصّنة بالغضب والإرادة وعشق الحياة، فينهزمون أمامهم.
الملثمون سادة الموقف، قادة لا يشق لهم غبار، كأنهم خريجو أكاديميات ومعاهد عسكرية عليا. في النهار يناورون كأنهم خبراء في استدراج العدو، وحين يتقدم، يمطرونه بوابل الحجارة والزجاجات الفارغة.. وقنابل المولوتوف. وفي الليل يرسمون الخطط وينفذونها كأنهم أساتذة في فنون الحرب الشعبية. كتبت لهم القصائد، وصغتُ لهم البيانات السياسية. كانوا يقرؤونها بواسطة الميكروفونات اليدوية ومكبرات الصوت في المساجد، ولم تمض ثلاثة أشهر على اندلاع الانتفاضة، حتى أقدمت السلطات الإسرائيلية على اعتقالي. ففي ليلة 17/3/1987م، حاصرت قوة عسكرية برفقة رجال المخابرات بيتنا في الحي الغربي من طولكرم، بدؤوا يطرقون على الباب الرئيسي ببساطيرهم وأعقاب بنادقهم، ثم اقتادوني، معصوب العينين ومكبّل اليدين، إلى معسكر الاعتقال في المدينة. ثلاثة أيام قاسية مضنية أمضيتُها في ذلك المعسكر، لم أعرف خلالها النوم، فأين أنام؟ وكيف يغمض لي جفن وأنا على هذه الحالة. كنت أميّز الأسرى المتواجدين معي، في الركن البارد المكشوف للمطر والريح، من خلال أصواتهم، فلا أستطيع رؤيتهم، ولا يستطيعون رؤيتي. كنّا نأتنس بأصواتنا وأغانينا ذات النبرة الخافتة. بعض الأخوة يغنّون لمرسيل خليفة وأحمد قعبور، فيما كنت أدندن أغنية الشيخ إمام: "اتجمّعوا العشاق في سجن القلعة". وبين الفينة والأخرى، كان جنود وحدة "جفعاتي" يتلذّذون بضربنا والتنكيل بنا وشتمنا بأقذع الألفاظ والشتائم. تعليمات صارمة أصدرها وزير الحرب الإسرائيلي السابق إسحاق رابين بتكسير عظام الفلسطينيين ونفيهم إلى معتقلات بعيدة عن أماكن سكناهم، ظناً منه أنّ هذا الإجراء سيجهض الانتفاضة ويقوّض أركانها. كانت وحدات "جفعاتي" و"جولاني" تنفذ هذه الأوامر بدقة فائقة، ليحصل أفرادها على الترقيات العسكرية المناسبة على حساب أيدي وأرجل ورؤوس الفلسطينيين المكسّرة. ثلاثة أيام من الظلام والجوع والعطش والإهانة. همس لي صديق أمضى في سجون الاحتلال خمسة عشر عاماً، وأفرج عنه في صفقة تبادل الأسرى عام 1985، وهو يرتجف من البرد ويشكو من آلام في المعدة: ـ هذه الأيام الثلاثة تعادل، في مرارتها، تلك السنوات. فأجبته، مهدّئاً من روعه: ـ اشتدي أزمة تنفرجي. |
في اليوم الرابع من الاعتقال، تم نقلنا إلى سجن "عتليت" القريب من حيفا، بواسطة حافلة عسكرية. وفي خيام "عتليت" التقيت مئات الأصدقاء من الأسرى السابقين وحديثي الأسر.
كنت أتأمل "الكرمل" و"عين حوض" و"عين غزال" وأشم رائحة البحر. من قلب الخيمة المشرعة لهواء حيفا، كتبت بياناً لذكرى "معركة الكرامة" و"عيد الأم" وأقمنا حلقات الدبكة وأنشدنا أغاني الثورة الفلسطينية، غير آبهين بتهديدات الجنود ونداءاتهم لنا بالتوقف. قضينا، في سجن عتليت، ثمانية عشر يوماً، فوجئنا بعدها بقرار نقلنا إلى معسكر "كتسيعوت" أو "أنصار 3" في النقب. ومرة أخرى بدؤوا بتعصيب عيوننا وتقييد أيدينا بالسلاسل البلاستيكية التي تحبس الدم في الكفّين، وتترك آثاراً مؤلمة لفترة طويلة من الوقت. وانطلقت الحافلات العسكرية "من عتليت" إلى "النقب" جنوب فلسطين. في الطريق طلب مني الجنود أن أشتم قادة المنظمات الفدائية، واحداً واحداً، فرفضت بالطبع، ثم سألته إذا ما كان هو على استعداد لشتم إسحاق شامير ـ كان رئيساً لوزراء العدو آنذاك ـ فردّ عليَّ بغضب واستغراب: ـ هل تضع شامير في مصافّ قادة إرهابيين؟ فأجبته: ـ ليسوا إرهابيين. إنهم ينادون بحقوق شعبهم المُعترف بها دولياً، والعودة إلى ديارهم. قال لي، مستنكراً، وبصوت صارخ: ـ بل إرهابيون، إرهابيّون، اشتمهم جميعاً وإلاّ حطمتُ رأسك. فرفضتُ، مرة ثانية، بالطبع. بدأ يلكُمني بكلتا يديه على رأسي ووجهي وظهري، حتى شعرتُ أنني أكاد أختنق. وأنّ الدم ينزف من أنفي وفمي. فارتميتُ على الأرض مغشياً عليّ من شدّة الضربات. أمام معتقل "أنصار 3"، عدتُ إلى الحياة مرة أخرى، ولكنني كنتُ منهك القوى، لا أقدر على الاحتمال. وعلمتُ من بعض الأسرى، أن الجنود طلبوا من الأسرى في الحافلات الأخرى ما طلبوه مني، ولما كان ردّهم على الجنود الرفض القاطع، بالطبع، لاقى الكثير منهم ما لاقيته من عنفٍ وهمجية. أفرَغَنا ضباط معسكر "أنصار 3" في الخيام الجاهزة، مسبقاً، للأسرى. الخيمة الواحدة كانت تتسع لثلاثين أسيراً. أمّا المعسكر، بالكامل، فهو مقسم إلى ثلاثة عنابر، هي أ، ب، ج. وكل عنبر منها يحتوي على خمسة أقسام. عنبر أ وعنبر ب، كانا مخصصّين لأسرى الضفة الغربية، أما عنبر ج، فكان مخصصاً لأسرى قطاع غزة. كان القسم الواحد من هذه العنابر الثلاثة يحتوي على ثماني خيام. في خيمة رقم 30 من قسم 5 في عنبر أ، بدأ الشعر متحفزاً من جديد، وخلال الثمانية أشهر التي أمضيتُها في ذلك المعتقل الرهيب، أفرغتُ شحناتي الكهربائية الشعرية على الورق والرمل لتدفئ القلوب من لسع البرد ولسع الرصاص والأفاعي. القصيدة الأولى التي نظمتها في تلك الخيمة المحاطة بالأسلاك الشائكة، كانت قصيدة "في البدء كان الحجر"، تحدثت فيها عن دور الحجر في مقاومة الغزاة، أقول، في مطلعها: "في شهر كانون يجيء لنا الخبر الجوُّ مشحونٌ يبشر بالمطر.. مطرٌ على الطرقات يجرف ما تبقّى من خطر مطرٌ ويحتدم الشّرر.. طفلٌ يعبّئ بالحجارة صدرَهُ وصبية تُرخي ضفيرتها لتهتفَ باسم عاشقها القمر.. حجرٌ وينهار التتر حجرُ وتختلط الأمور على موائدهم وتهتزُّ الفِكَر.. حجرٌ وتُرفع رايةً حجرٌ وتعلو هامة حجرٌ.. وتسقط هيبة الغازينَ في وحل الحُفَر". |
وعلى هذا النموذج ـ الأساس، انتحى شعري منحىً جديداً من الإشارات الواقعية إلى فضاءات مفتوحة. في معسكر "أنصار 3" نظمتُ العديد من القصائد الساطعة بنور الانتفاضة، وألقيتُها أمام الأسرى في الخيام، وعلى مسمع ومرأى جنود الاحتلال في باحات المعسكر. كان الأسرى يحفظون قصائدي ويقرؤونها فيما بينهم. وحين ضبط الجنود إحدى القصائد في حملات التفتيش المتكررة، استدعاني المدعو "أبو رامي"، ضابط المخابرات الإسرائيلي المسؤول عن الأمن في المعسكر، ليقرأ لي إحدى القصائد ويتهمني بتحريض الأسرى، والتخطيط لتنفيذ خطوات نضالية تصعيدية ضد إدارة السجن. أنكرتُ أنني صاحب القصيدة. وبالرغم من نهجه الخبيث معي لكي أعترف "بذنبي"، إلاَّ أنني أمعنتُ في الإنكار، فكون اسمي مذيّل في نهايتها، لا يعني أنها لي. فالخط ليس خطي، وبالتالي أنا معفيٌ من المسؤولية عنها. وفي الحال، بدأ القناع يسقط عن وجهه، كاشفاً عن ملامح صهيونية بحتة: ـ يظهر أنّ المعاملة "الطيبة" لا تنفع مع أمثالك. خرج من الغرفة، وبعد دقائق، عاد مصطحباً سبعة من الجنود، أمرهم بضربي ورشّ الماء على وجهي، واقتيادي إلى الزنزانة. في الطريق إلى الزنزانة المجاورة لقسم 5، والبعيدة لمسافة عشرة أمتار عن خيمتي، ظل ضابط المخابرات يهددني ويتوعدني بتمديد مدة اعتقالي الإداري. أمضيتُ في الزنزانة أسبوعاً تحت وطأة العذاب وسوء المعاملة، سبعة أيام في العتمة معصّباً ومكبلاً لا أرى النور إلاَّ في أوقات تناول الطعام، الفطور والغداء والعشاء. كان طعام الفطور عبارة عن مثلث جبنة صغيرة وملعقة من مربّى المشمش أو التوت وأربع حبات من الزيتون وثلاث قطع صغيرة من الخبز وكأس من الشاي. أما الغداء فهو قطعتان من اللحم المعلب أو المرتديلا وثلاث قطع من الخبز وحبة تفاح أو حبة برتقال واحدة. أمّا العشاء فهو عبارة عن فول مدمّس أو عدس وكأس من الشاي. في جحيم الزنزانة، أخذتُ أرتل مقطعاً من قصيدة جديدة، ذلك أنّ حالتي لا تسمح لي بالكتابة: "من دمي ينبثق الفتح ويعلو الانتصارْ من دمي يخرج مليون نهارْ.. فاقتلوا المرأة في منزلها واخنقوا بالغاز شيخاً طاعناً في السنِّ يا أحفاد هولاكو التتارْ.. وأطلقوا النار على كل الصغارْ لا غضاضَهْ.. إننا ميلاد شعبٍ ردّ للكون بياضَهْ.. إننا ميلاد شعبِ الانتفاضَهْ..". بعد خروجي من الزنزانة، أكملتُ القصيدةَ وأسميتها "الميلاد". في حالة الكتابة الشعرية، كنت أشعر بأني أقدم جزءاً من واجبي تجاه أبناء شعبي الذين يواجهون بصدورهم العارية إلاَّ من الإيمان بالله، الآلة العسكرية الإسرائيلية. فالحجر الفلسطيني هو السلاح الوحيد الذي يمتلكه المقاومون في تلك الحرب غير المتكافئة، ولكنه أكثر مضاءً من السيف. تَتَنزّل الحجارة على رؤوس قوات الاحتلال كأنها طيور الأبابيل، فتتراجع هرباً من "سجيّل" الأبطال الذي لا يخطئ الهدف. أليس هو الحجر الفلسطينيّ المقدّس؟ ألم يتحّول إلى رمز؟ أليس جديراً بأن تكتب عنه القصائد وتُغنّى له الأغنيات؟. كنت أتمثَّل مشَهد المقاومة ـ في ذهني ـ قبل أن أهمّ بالكتابة، فتخرج القصيدة، كأنها صورة حيَّة لما يجري على الأرض |
وحين تغير الشرطة العسكرية الإسرائيلية على أقسام السجن، مثيرةً الفوضى والإزعاج والقلق، كنتُ أحرص على تخبئة أوراقي في الرمل خشية أن يعثروا عليها. كانوا يحرصون على تفتيش الأسرى بشكل دقيق، بعد أن يخرجوهم من الخيام إلى ساحة القسم الرملية، ثم يتجهون إلى الخيام لتفتيش الفرشات والأغطية والحمّامات، فلا يعثرون على شيء. كان الهدف من اقتحام الأقسام هو تذكير الأسرى، بأنّ الشرطة العسكرية غير غافلة عنهم، وأنّ الأسرى في "متناول يد" تلك الشرطة التي ترصد تحركاتهم عن طريق الأبراج العالية المثبتة حول الأقسام. كان الرمل هو المخبأ الوحيد الأكثر أمناً في مثل هذه الأوضاع. أُخبّئ القصائد ثم أضع حجراً فوقها لأحدّد الموقع. هذه العلاقة بيني وبين الرمل تطورت إلى علاقة عاطفية من نوع خاص، فالرمل ملجئي الوحيد وكاتم أسرار قصائدي. ثمّة أشياء أخرى تغصُّ بها الذاكرة. قصص وحكايات ومواقف وأحداث تتقافز أمامي تعيدني إلى أحضان الرمال التي ألفيْتُ فيها عراقة التاريخ وأمجاد الماضي السحيق. عندما قام وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك، إسحاق رابين، بزيارة "تفقديّة" إلى "أنصار 3"، منتصف عام 1988، ليطّلع من خلالها على الأوضاع العامة للأسرى، طلبنا منه تطبيق اتفاقية جنيف التي تنص في بنودها، على إيجاد أماكن اعتقال وسجون قريبة من أماكن سكنى الأسرى، فرفض بشكل قاطع، ذلك أن هذا الإجراء التعسفي يقع في صميم سياسته الرامية إلى إبعاد الأسرى عن أهلهم وأقاربهم وعدم السماح لهم بالزيارة. قلت لرابين: ـ أردتَ نَفْينا إلى الصحراء كعقاب لنا، ولكنك بخطوتك، هذه، عر ّفتنا على جزءٍ عزيز علينا من وطننا، لم نزره أو نتعرف عليه من قبل. فتجّهم وجهه وغادر الخيمة. ستة أشهر مرت علينا دون أن نرى أحداً من الأهل، الأمر الذي كان يؤرقنا ويقضُّ مضاجعنا. ستة أشهر في الصحراء مقطوعون عن العالم الخارجي، فلا صحيفة ولا راديو نعرف بفضلهما أخبار الأهل والوطن. المنفذ الوحيد لنا هم المحامون الذين يأتون لزيارتنا ويزودوننا بالأخبار، وكذلك الأعضاء العرب في الكنيست الإسرائيلي الذين واظبوا على زيارتنا والاطمئنان علينا، مثل المرحوم الشاعر توفيق زيّاد وعبد الوهاب دراوشة وطلب الصانع. كانت قصائدي تصل إلى صحيفة "الاتحاد" ومجلتي "الجديد" و"الغد" في حيفا بواسطة توفيق زيَّاد، فتلقى الرعاية والاهتمام والنشر في أماكن بارزة. ذات زيارة قال لنا زَيّاد: ـ لا أريد أن أمنحكم دفعة معنويّة لتصمدوا وتقاوموا، بل أريد أن أستمدّ منكم قوتي المعنوية. وأضاف: ـ اصمدوا فالفجر قريب. قلت له: ـ أشعارك الثورية تعزّز فينا روح الصمود، وقرأتُ لـه ما أحفظ من قصيدته: "على صدوركم باقون كالجدار". وعدنا إلى الخيام لمواصلة مهامنا. بدأنا بترتيب حياتنا التنظيمية والفكرية والسياسية والأدبية، كل الفصائل الفلسطينية أسهمت في خلق واقع جديد للأسرى، وقامت لجان العمل الثقافي بأخذ دورها في تعليم الأسرى اللغتين الإنجليزية والعبرية، وقواعد اللغة العربية. وقد تخرج في هذه الدورات العديد من الأسرى الذين بدؤوا يتقنون لغات أخرى. العديد من الأخوة والرفاق قاموا بشرح الفكر الصهيوني والماسوني، فيما أنجز آخرون الدراسات في الفكر القومي والماركسي والإسلامي وميثاق منظمة التحرير الفلسطينية. كنت أهتم بالحديث عن ثقافة شعبنا الفلسطيني، قديماً وحديثاً، فهذا الموروث الثقافي الجميل يجب الحفاظ عليه وتطويره، لمواجهة سياسة الاستلاب والتبديد التي تمارسها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بحق ثقافتنا، وإمعانها في سرقة تراثنا وتزييفه. أخوة آخرون أنجزوا دورات في محو الأمية لبعض الأسرى. تحوّل "أنصار 3" إلى جامعة تمنح "الدرجات" العلمية في كافة التخصصات. هذه الثورة الثقافية خلفت علاقات أخوية ونضالية متينة بين الأسرى، وحتى بين الفصائل التي تختلف سياسياً، فيما بينها. قلت لبعض الأخوة في الفصائل: ـ نريد أن يندم الإسرائيليون على اعتقالنا. كان هناك أساتذة جامعات وسياسيون ونقابيون وأدباء وشعراء، اتحدوا، جميعاً، لخلق مجتمع فلسطيني من نوع خاص، يضم كافة شرائح المجتمع، العمال والفلاحين والطلاب والمثقفين الثوريين. فقد عرفت خيام النقب د. عبد الستار قاسم ود. جاد إسحاق ود. محمود أبو الرب ود. سلمان سلمان أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعة، والشعراء والكتاب المتوكل طه وسامي الكيلاني وجمال بنورة ووسيم الكردي وعبد الناصر صالح. |
شهدت خيمة رقم 30، ميلاد "المجد ينحني أمامكم" وهو مجموعة شعرية ترتقي في انسيابيتها إلى مستويات دلالية تتقاطع مع إيقاع الانتفاضة، وقد صدرت عن منشورات "اتحاد الكُتّاب الفلسطينيين" في القدس العام 1989. وأنجز الصديق الشاعر المتوكل طه مطولته الشعرية "فضاء الأغنيات"، حيث نلنا على هذين العملين جائزة الشهيد عبد الرحيم محمود الشعرية عام 1990. وبالإضافة لدوري الثقافي والأدبي في توعية الأسرى وربطهم بماضيهم وتراثهم الشامخ، تم انتخابي عضواً في اللجنة المركزية لحركة فتح في معتقل "أنصار 3" وممثلاً للحركة في اللجنة النضالية العليا التي تضم ممثلين لكافة الفصائل الفلسطينية، هذه اللجنة أصدرت قراراً بالإضراب عن الطعام لأربعة أيام بهدف تحسين "شروط" الاعتقال وظروف السجن، ولعبت دوراً مميزاً في توعية الأسرى وطنياً وتعميق انتمائهم لقضية شعبهم.
جاء هذا التكريم من قبل الأخوة في "فتح" بناء على معطيات كثيرة، منها ما عرفوه عني من صدق وأمانة وحرص على وحدة الحركة، وابتعادي عن الأنانية والانتهازية والمطامح الشخصية. فليس من حق المناضل استغلال الآخرين والمتاجرة بدم الشهداء وأنات الجرحى وعذابات الأسرى، وإن فعل ذلك، فإنه يتخلى عن منظومة القيم والأعراف الاجتماعية والأخلاقية التي يتحلى بها المناضل. وبعد انتهاء مدة اعتقالي الإداري، عدت إلى طولكرم، محمّلاً بالشوق والشعر.. وكنوز الصحراء. محطتي الثانية بعد طولكرم، كانت جامعة النجاح الوطنية في نابلس. عدت للتدريس في كلية النجاح المتوسطة، ومع طلبتها وإدارتها وهيئتها التدريسية عشت أربع سنوات. وعند قدوم السلطة الفلسطينية إلى أرض الوطن، في الضفة والقطاع، عام 1994، وتشكيل وزارة الثقافة، طلب مني الصديق الأستاذ يحيى يخلف، وكيل الوزارة آنذاك، العمل معه في الوزارة، فلم أتردد لرغبة عظيمة في نفسي، مردّها إكمال المشروع الثقافي الذي بدأتُ فيه قبل مجيء السلطة، ومنذ ذلك الحين، لم أنقطع عن مزاولة عملي كمدير عام في وزارة الثقافة لمحافظات شمال الضفة الغربية. وبين السجن والجامعة واتحاد الكتاب والإقامة الجبرية في طولكرم، مياه كثيرة جرت في النهر. بدأ الشعر ينهمر بعد انقطاع طويل، فبعد صدور مطولتي الشعرية "نشيد البحر" عام 1990 عن منشورات دار النورس في القدس، توقفت عن الكتابة لإعادة تقييم تجربتي الشعرية، وبعد قراءة معمقة في الشعر والرواية والمسرح، استوفى الشعر شروطه وإيقاعاته ومعياره الجديد، حيث صدر ديواني "فاكهة الندم" عن منشورات بيت الشعر في رام الله عام 2000 وأُعدُّ الآن، لإصدار مجموعة أخرى، سترى النور خلال فترة قريبة. *ما هي الدراسات التي تحدثت عن شعرك، وماذا استوقفك ولم تكن منتبهاً له في هذه الدراسات؟ ** هناك دراسات كثيرة تناولت أعمالي الشعرية، لكن معظمها لكُتّاب من داخل الوطن؛ فبالإضافة إلى أهمية ما كتبه الأستاذ صبحي شحروري من دراسات تتماهى مع النص الشعري، كتب د. خليل عودة عن صورة البحر في مطولة "نشيد البحر" والظاهرة التموزية في ديوان "فاكهة الندم" والأسلوبية في ديوان "المجد ينحني أمامكم" وقد تطرق من خلال هذه الدراسات إلى هذه الملامح الفنية البارزة في أعمالي، وهو أمر ملفت للنظر إذا ما تمت مقارنته مع دراسات أخرى اتسمت بالسطحية. كما أعدّ الأستاذ إبراهيم رجب رسالة ماجستير عن مجموعاتي بعنوان: "البنية الصوتية ودلالاتها" تمت طباعتها في غزة عام 1995 وهي دراسة تهتم بالنبر الصوتي وتأويله. أما من ناحية النبوءة في أعمالي الشعرية، فقد أصدر الأستاذ محمد مدحت أسعد كتاباً نقدياً بعنوان "نبوءة الكلمات في شعر عبد الناصر صالح" تناول فيه كل ديوان على حده، مبيّناً فيما إذا كانت نبوءة القصائد قد تحققت أم لا من خلال النظرة البنيوية الاجتماعية. ولن أنسى اهتمام وحرص الأستاذ طلعت سقيرق، من دمشق، بالشعر الفلسطيني داخل الوطن المحتل، وكسره للحواجز التي أعاقت وصول شعرنا إلى العالم العربي، وخير دليل على صدق هذا القول مؤلفاته النقدية: "عشرون قمراً للوطن" و"شعر الانتفاضة في داخل الوطن المحتل" و"الشعر الفلسطيني في جيله الثاني". * هل استفدت من مسيرة الشعر العربي.. كيف؟ **كل قصيدة يقرأها الشاعر هي تجربة بحد ذاتها، مثل أي قصيدة يكتبها. والشعر أصلاً، عملية معقدة لدرجة لا نستطيع أن نقول كيف... الشعر امتلاء أكثر منه عملية تركيبية، والامتلاء يتجدد دائماً بتجدد التجربة التي هي استكمال دائم لهذا الامتلاء. إن قراءتي المتكررة لشعر روّاد الحداثة أمثال البياتي والسياب وعبد الصبور، أسهمت في تغذية منابعي الشعرية، ودفع سفينتي لكي تبحر بحثاً عن مياه جديدة حتى لا تغرق في بحر التكرار. الشعر الآن، هو الهواء الذي أتنفسه، ولا أستطيع أن أجد نفسي خارجه، ذلك أن وجودي يعتمد على ضرورة الشعر وتألقه في حياتي. وعلاقتي بالقصيدة هي علاقة زواج بالطريقة الكاثوليكية. * برأيك إلى أين وصل دور الشعر؟ ** سيظل الشعر ديوان العرب، مهما نشهد الآن من تراجعات وإخفاقات شعرية بدعاوى كثيرة. القرن العشرون كان قرناً شعرياً بالكامل. صحيح أن النص الروائي يتقدم على النص الشعري لابتعاد الشعر عن التراث والأصالة. والشعر في رأيي، لا ينمو ولا يأخذ مجده إلاَّ في ظل خط صعود قومي. الآن نحن في مرحلة الهزائم. سنوات الستينيات كانت تزدهر بالشعر بحيث لا نستطيع أن نغفل تأثيره في الوجدان القومي العربي. لقد تطورت الأمة العربية في لغتها ووجدانها وفكرها مرتكزةً على الإبداع الشعري. في الوطن العربي شعراء ولدوا خارج رحم الشعر وقصائد كثيرة حملها فارغ. أعتقد أن الرواية تتسيّد الأجناس الأدبية ولكنها لن تتغلب على الشعر بالضربة القاضية. أعتقد أن الشعر سيأخذ أشكالاً جديدة، كما أن الرواية، نفسها، يمكن أن تتضمن الكثير من روح الشعر أو الحوارات الشعرية. على سبيل المثال، نلحظ أن السيرة الذاتية الروائية قريبة جداً من الشعر، والشعر كذلك يمكن أن يأخذ مناحي متعددة لكن لن يموت، وسيبقى سيد الإبداع الأدبي في كل الأزمان. |
رائع اخي المفتش كرمبو على طرحك عن هذا الشاعر
السجن والجدران شهادة يكتسبها الاسير فيصبح مبدعا راق لي ما ادرجت تحياتي |
|
الساعة الآن 04:05 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |