![]() |
أحداث من كتاب البداية والنهاية - إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
مسألة: الجزء الأول
[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام العالم العلامة أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن كثير رحمه الله تعالى : الحمد لله الأول الآخر ، الباطن الظاهر ، الذي هو بكل شيء عليم ، الأول فليس قبله شيء ، الآخر فليس بعده شيء ، الظاهر فليس فوقه شيء ، الباطن فليس دونه شيء ، الأزلي القديم الذي لم يزل موجودا موصوفا بصفات الكمال ، ولا يزال دائما مستمرا باقيا سرمديا بلا انقضاء ولا انفصال ولا زوال ، يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، وعدد الرمال ، وهو العلي الكبير المتعال ، العلي العظيم الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا ، ورفع السماوات بغير عمد ، وزينها بالكواكب الزاهرات ، وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ، وسوى فوقهن سريرا شرجعا عاليا منيفا متسعا مقببا مستديرا ، هو العرش العظيم له قوائم عظام تحمله الملائكة الكرام ، وتحفه الكروبيون عليهم الصلاة والسلام ولهم زجل بالتقديس والتعظيم وكذا أرجاء السماوات مشحونة بالملائكة ، [ ص: 4 ] ويفد منهم في كل يوم سبعون ألفا إلى البيت المعمور بالسماء السابعة ، لا يعودون إليه آخر ما عليهم في تهليل وتحميد وتكبير وصلاة وتسليم . ووضع الأرض للأنام على تيار الماء ، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ، في أربعة أيام سواء للسائلين قبل خلق السماء ، وأنبت فيها من كل زوجين اثنين دلالة للألباء من جميع ما يحتاج العباد إليه في شتائهم وصيفهم ولكل ما يحتاجون إليه ويملكونه من حيوان بهيم . وبدأ خلق الإنسان من طين ، وجعل نسله من سلالة من ماء مهين في قرار مكين ، فجعله سميعا بصيرا بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ، وشرفه بالعلم والتعليم ، خلق بيده الكريمة آدم أبا البشر وصور جثته ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته وخلق منه زوجه حواء أم البشر ، فآنس بها وحدته وأسكنها جنته وأسبغ عليهما نعمته ، ثم أهبطهما إلى الأرض ; لما سبق في ذلك من حكمة الحكيم ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء وقسمهم بقدره العظيم : ملوكا ورعاة ، وفقراء وأغنياء ، وأحرارا وعبيدا ، وحرائر وإماء ، وأسكنهم أرجاء الأرض طولها والعرض ، وجعلهم خلائف فيها يخلف البعض منهم البعض إلى يوم الحساب والعرض على العليم الحكيم ، وسخر [ ص: 5 ] لهم الأنهار من سائر الأقطار تشق الأقاليم إلى الأمصار ما بين صغار وكبار ، على مقدار الحاجات والأوطار ، وأنبع لهم العيون والآبار ، وأرسل عليهم السحاب بالأمطار; فأنبت لهم سائر صنوف الزروع والثمار وآتاهم من كل ما سألوه بلسان حالهم وقالهم : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [ إبراهيم : 34 ] . فسبحان الكريم الغني العظيم الحليم ، وكان من أعظم نعمه عليهم وإحسانه إليهم بعد أن خلقهم ورزقهم ويسر لهم السبيل وأنطقهم ; أن أرسل رسله إليهم وأنزل كتبه عليهم مبينة حلاله وحرامه وأخباره وأحكامه وتفصيل كل شيء في المبدأ والمعاد إلى يوم القيامة; فالسعيد من قابل الأخبار بالتصديق والتسليم ، والأوامر بالانقياد ، والنواهي بالتعظيم ; ففاز بالنعيم المقيم وزحزح عن مقام المكذبين في الجحيم ذات الزقوم والحميم والعذاب الأليم . أحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه يملأ أرجاء السماوات والأرضين دائما أبد الآبدين ودهر الداهرين إلى يوم الدين ، في كل ساعة وأوان ، ووقت وحين ، كما ينبغي لجلاله العظيم وسلطانه القديم ووجهه الكريم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا ولد له ولا والد له ولا صاحبة له ، ولا نظير له ولا وزير له ولا مشير له ، ولا عديد ولا نديد ولا قسيم ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله المصطفى من خلاصة العرب العرباء من [ ص: 6 ] الصميم ، خاتم الأنبياء ، وصاحب الحوض الأكبر الرواء صاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة ، وحامل اللواء الذي يبعثه الله المقام المحمود الذي يرغب إليه فيه الخلق كلهم حتى الخليل إبراهيم صلى الله عليه وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين وسلم وشرف وكرم أزكى صلاة وتسليم وأعلى تشريف وتكريم ورضي الله عن جميع أصحابه الغر الكرام السادة النجباء الأعلام خلاصة العالم بعد الأنبياء ما اختلط الظلام بالضياء وأعلن الداعي بالنداء وما نسخ النهار ظلام الليل البهيم . أما بعد ، فهذا الكتاب أذكر فيه بعون الله وحسن توفيقه ما يسره الله تعالى بحوله وقوته من ذكر مبدأ المخلوقات : من خلق العرش ، والكرسي ، والسماوات والأرضين وما فيهن وما بينهن من الملائكة والجان والشياطين ، وكيفية خلق آدم عليه السلام وقصص النبيين ، وما جرى مجرى ذلك إلى أيام بني إسرائيل وأيام الجاهلية حتى تنتهي النبوة إلى أيام نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه فنذكر سيرته كما ينبغي فنشفي الصدور والغليل ونزيح الداء عن العليل ، ثم نذكر ما بعد ذلك إلى زماننا ونذكر الفتن والملاحم ، وأشراط الساعة ، ثم البعث والنشور ، وأهوال القيامة ، ثم صفة ذلك وما في ذلك اليوم وما يقع فيه من الأمور الهائلة ، ثم صفة النار ، ثم صفة الجنان وما فيها من الخيرات الحسان وغير ذلك وما يتعلق به وما ورد في ذلك من الكتاب والسنة والآثار والأخبار المنقولة المقبولة عند العلماء وورثة الأنبياء الآخذين من مشكاة النبوة المصطفوية المحمدية على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام . [ ص: 7 ] ولسنا نذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله ، مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب مما فيه بسط لمختصر عندنا ، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا مما لا فائدة في تعيينه لنا فنذكره على سبيل التحلي به لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه . وإنما الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صح نقله أو حسن وما كان فيه ضعف نبينه والله المستعان وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم العلي العظيم فقد قال الله تعالى في كتابه : كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا [ طه : 99 ] . وقد قص الله على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر ما مضى : من خلق المخلوقات ، وذكر الأمم الماضين ، وكيف فعل بأوليائه ، وماذا أحل بأعدائه وبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته بيانا شافيا - كما سنورد عند كل فصل ما وصل إلينا عنه صلوات الله وسلامه عليه من ذلك تلو الآيات الواردات في ذلك - فأخبرنا بما نحتاج إليه من ذلك وترك ما لا فائدة فيه مما قد يتزاحم على علمه ويتراجم في فهمه طوائف من علماء أهل الكتاب مما لا فائدة فيه لكثير من الناس ، وقد يستوعب نقله طائفة من علمائنا أيضا ولسنا نحذو حذوهم ولا ننحو نحوهم ، ولا نذكر منها إلا القليل على سبيل الاختصار ، ونبين ما فيه حق منها ، يوافق ما عندنا ، وما خالفه يقع فيه الإنكار . فأما الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ ص: 8 ] بلغوا عني ولو آية ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار . فهو محمول على الإسرائيليات المسكوت عنها عندنا ، فليس عندنا ما يصدقها ولا ما يكذبها فيجوز روايتها للاعتبار ، وهذا هو الذي نستعمله في كتابنا هذا . فأما ما شهد له شرعنا بالصدق فلا حاجة بنا إليه استغناء بما عندنا ، وما شهد له شرعنا منها بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته إلا على سبيل الإنكار والإبطال ، فإذا كان الله سبحانه وله الحمد قد أغنانا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم عن سائر الشرائع ، وبكتابه عن سائر الكتب ; فلسنا نترامى على ما بأيديهم مما قد وقع فيه خبط وخلط وكذب ووضع وتحريف وتبديل وبعد ذلك كله نسخ وتغيير ، فالمحتاج إليه قد بينه لنا رسولنا وشرحه وأوضحه ، عرفه من عرفه وجهله من جهله كما قال علي بن أبي طالب كتاب الله فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وقال أبو ذر رضي الله عنه لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير بجناحيه إلا أذكرنا منه علما . وقال البخاري في كتاب بدء الخلق وروى عيسى بن موسى غنجار ، عن رقبة ، عن قيس بن [ ص: 9 ] مسلم عن طارق بن شهاب قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم ، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه . قال أبو مسعود الدمشقي في أطرافه هكذا قال البخاري ، وإنما رواه عيسى غنجار عن أبي حمزة عن رقبة وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مسنده : حدثنا أبو عاصم حدثنا عزرة بن ثابت حدثنا علباء بن أحمر اليشكري حدثنا أبو زيد الأنصاري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر ، ثم نزل فصلى الظهر ، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ، ثم نزل فصلى العصر ، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غابت الشمس ، فحدثنا بما كان وما هو كائن ، فأعلمنا أحفظنا . انفرد بإخراجه مسلم فرواه في كتاب الفتن من صحيحه عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، وحجاج بن الشاعر جميعا ، عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد النبيل ، عن عزرة ، عن علباء ، عن أبي زيد عمرو بن أخطب بن رفاعة الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون وعفان قالا : حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا علي بن يزيد ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بعد العصر إلى مغيربان الشمس [ ص: 10 ] حفظها من حفظها ونسيها من نسيها . قال عفان : قال حماد : وأكثر حفظي أنه قال : بما هو كائن إلى يوم القيامة فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإن الدنيا خضرة حلوة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ، ألا فاتقوا الدنيا واتقوا النساء . وذكر تمام الخطبة إلى أن قال : فلما كان عند مغيربان الشمس قال : ألا إن مثل ما بقي من الدنيا فيما مضى منها مثل ما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه . ثم قال الإمام أحمد : ثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ذات يوم نهارا ، ثم قام فخطبنا إلى أن غابت الشمس ، فلم يدع شيئا مما يكون إلى يوم القيامة إلا حدثناه حفظ ذلك من حفظه ونسي ذلك من نسيه فكان مما قال : يا أيها الناس إن الدنيا خضرة حلوة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء . وذكر تمامها إلى أن قال : ثم دنت الشمس أن تغرب ، فقال " وإن ما بقي من الدنيا فيما مضى منها مثل ما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه " . وهذا هو المحفوظ ، والله أعلم . |
سنة ثلاث عشرة من الهجرة .
استهلت هذه السنة والصديق عازم على جمع الجنود ; ليبعثهم إلى الشام ، وذلك بعد مرجعه من الحج ، وذلك عملا بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين [ التوبة : 123 ] . وبقوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية [ التوبة : 29 ] . واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ; فإنه جمع المسلمين لغزو الشام وذلك عام تبوك ، حتى وصلها في حر شديد وجهد ، فرجع عامه ذلك ، ثم بعث قبل مؤتة أسامة بن زيد مولاه ; ليغزو تخوم الشام ، كما تقدم ، ولما فرغ الصديق من أمر جزيرة العرب بسط يمينه إلى العراق ، فبعث إليها خالد بن الوليد ، ثم أراد أن يبعث إلى الشام كما بعث إلى العراق ، فشرع في جمع الأمراء في أماكن متفرقة من جزيرة العرب . وكان قد استعمل عمرو بن العاص على صدقات قضاعة ، معه الوليد بن عقبة فيهم ، فكتب إليه يستنفره إلى الشام : إني كنت قد رددتك على العمل الذي ولاكه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة ، وسماه لك أخرى ، وقد أحببت ، أبا عبد الله ، أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه ، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك . فكتب إليه عمرو بن العاص : إني سهم من سهام الإسلام ، وأنت فعبد الله الرامي بها ، والجامع لها ، فانظر أشدها وأخشاها فارم بي فيها . وكتب إلى الوليد بن عقبة 542 [ ص: 542 ] بمثل ذلك ، ورد عليه مثله ، وأقبلا - بعدما استخلفا في عملهما - إلى المدينة . وقدم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن ، فدخل المدينة وعليه جبة ديباج ، فلما رآها عمر عليه أمر من هناك من الناس بتمزيقها عنه ، فغضب خالد بن سعيد ، وقال لعلي بن أبي طالب : يا أبا الحسن ، أغلبتم يا بني عبد مناف عن الإمرة ؟ فقال له علي : أمغالبة تراها أم خلافة ؟ فقال : لا يغالب على هذا الأمر أولى منكم . فقال له عمر بن الخطاب : اسكت فض الله فاك ، والله لا تزال كاذبا تخوض فيما قلت ، ثم لا تضر إلا نفسك ، وأبلغها عمر أبا بكر ، فلم يتأثر لها أبو بكر ، ولما اجتمع عند الصديق من الجيوش ما أراد ، قام في الناس خطيبا ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم حث الناس على الجهاد فقال : ألا لكل أمر جوامع ، فمن بلغها فهي حسبه ، ومن عمل لله كفاه الله ، عليكم بالجد والقصد ، فإن القصد أبلغ ، ألا إنه لا دين لأحد لا إيمان له ، ولا إيمان لمن لا حسبة له ، ولا عمل لمن لا نية له ، ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به ، هي التجارة التي دل الله عليها ، ونجى بها من الخزي ، وألحق بها الكرامة . ثم شرع الصديق في تولية الأمراء ، وعقد الألوية والرايات ، فيقال : إن أول لواء عقده لخالد بن سعيد بن العاص ، فجاء عمر بن الخطاب فثناه عنه وذكره بما قال ، فلم يتأثر به الصديق كما تأثر به عمر ، بل عزله عن الشام وولاه أرض [ ص: 543 ] تيماء يكون بها فيمن معه من المسلمين حتى يأتيه أمره . ثم عقد لواء يزيد بن أبي سفيان ، ومعه جمهور الناس ، ومعه سهيل بن عمرو وأشباهه من أهل مكة ، وخرج معه ماشيا يوصيه بما اعتمده في حربه ومن معه من المسلمين ، وجعل له دمشق . وبعث أبا عبيدة بن الجراح على جند آخر ، وخرج معه ماشيا يوصيه ، وجعل له نيابة حمص . وبعث عمرو بن العاص ومعه جند آخر ، وجعله على فلسطين . وأمر كل أمير أن يسلك طريقا غير طريق الآخر ; لما لحظ في ذلك من المصالح ، وكان الصديق اقتدى في ذلك بنبي الله يعقوب حين قال لبنيه : يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون [ يوسف : 67 ] . فكان سلوك يزيد بن أبي سفيان على تبوك . قال المدائني بإسناده عن شيوخه ، قالوا : وكان بعث أبي بكر هذه الجيوش في أول سنة ثلاث عشرة . قال محمد بن إسحاق ، عن صالح بن كيسان : خرج أبو بكر ماشيا ويزيد بن أبي سفيان راكبا ، فجعل يوصيه ، فلما فرغ قال : أقرئك السلام وأستودعك الله . ثم انصرف ومضى يزيد فأخذ التبوكية ، ثم تبعه شرحبيل ابن حسنة ، ثم أبو عبيدة مددا لهما ، فسلكوا ذلك الطريق ، وخرج عمرو بن العاص حتى نزل العربات من أرض الشام ويقال : إن يزيد بن أبي سفيان نزل البلقاء أولا ، ونزل شرحبيل بالأردن ، ويقال : ببصرى . ونزل أبو عبيدة بالجابية ، وجعل [ ص: 544 ] الصديق يمدهم بالجيوش ، وأمر كل واحد منهم أن ينضاف إلى من أحب من الأمراء . ويقال : إن أبا عبيدة لما مر بمآب من أرض البلقاء قاتلهم حتى صالحوه ، وكان أول صلح وقع بالشام . ويقال : إن أول حرب وقع بالشام أن الروم اجتمعوا بمكان يقال له : العربة . من أرض فلسطين ، فوجه إليهم يزيد أبا أمامة في سرية فقتلهم وغنم منهم ، وقتل منهم بطريقا عظيما . ثم كانت بعد هذه وقعة مرج الصفر ، استشهد فيها خالد بن سعيد بن العاص وجماعة من المسلمين . ويقال : إن الذي استشهد في مرج الصفر ابن لخالد بن سعيد . وأما هو ففر حتى انحاز إلى أرض الحجاز . فالله أعلم . حكاه ابن جرير . قال ابن جرير : ولما انتهى خالد بن سعيد إلى تيماء اجتمع له جنود من الروم في جمع كثير من نصارى العرب ; من بهراء ، وتنوخ ، وبني كلب ، وسليح ، ولخم ، وجذام ، وغسان ، فتقدم إليهم خالد بن سعيد ، فلما اقترب منهم تفرقوا عنه ودخل كثير منهم في الإسلام ، وبعث إلى الصديق يعلمه بما وقع من الفتح ، فأمره الصديق أن يتقدم ولا يحجم ، وأمده بالوليد بن عقبة وعكرمة بن أبي جهل ، وجماعة ، فسار إلى قريب من آبل ، فالتقى هو وأمير من الروم [ ص: 545 ] يقال له : باهان . فكسره ، ولجأ باهان إلى دمشق ، فلحقه خالد بن سعيد ، وبادر الجيوش إلى نحو دمشق وطلب الحظوة ، فوصلوا إلى مرج الصفر فانطوت عليه مسالح باهان ، وأخذوا عليهم الطريق ، وزحف باهان ، ففر خالد بن سعيد ، فلم يرد إلى ذي المروة ، واستحوذ الروم على جيشهم إلا من فر على الخيل ، وثبت عكرمة بن أبي جهل ، وقد تقهقر عن الشام قريبا ، وبقي ردءا لمن نفر إليه ، وأقبل شرحبيل ابن حسنة من العراق ; من عند خالد بن الوليد إلى الصديق ، فأمره على جيش وبعثه إلى الشام فلما مر بخالد بن سعيد بذي المروة ، أخذ جمهور أصحابه الذين هربوا معه إلى ذي المروة ، ثم اجتمع عند الصديق طائفة من الناس ، فأمر عليهم معاوية بن أبي سفيان ، وأرسله وراء أخيه يزيد بن أبي سفيان ، ولما مر بخالد بن سعيد أخذ من كان بقي معه بذي المروة إلى الشام ، ثم أذن الصديق لخالد بن سعيد في الدخول إلى المدينة وقال : كان عمر أعلم بخالد . |
انتقال إمرة الشام من خالد إلى أبي عبيدة في الدولة العمرية وذلك بعد وقعة اليرموك وصيرورة الإمرة بالشام إلى أبي عبيدة فكان أبو عبيدة أول من سمي أمير الأمراء .
قد تقدم أن البريد قدم بموت الصديق والمسلمون مصافو الروم يوم اليرموك ، وأن خالدا كتم ذلك عن المسلمين ; لئلا يقع وهن ، فلما أصبحوا أجلى لهم الأمر ، وقال ما قال ، ثم شرع أبو عبيدة في جمع الغنيمة وتخميسها ، وبعث بالفتح والخمس مع قباث بن أشيم إلى الحجاز ، ثم نودي بالرحيل إلى دمشق ، فساروا حتى نزلوا مرج الصفر ، وبعث أبو عبيدة بين يديه طليعة أبا أمامة الباهلي ، ومعه رجلان من أصحابه . قال أبو أمامة : فسرت ، فلما كان ببعض الطريق أمرت الواحد ، فكمن هناك ، وسرت أنا والآخر ، فلما كان ببعض الطريق أمرت الآخر فكمن هناك ، ثم سرت أنا وحدي حتى جئت باب البلد وهو مغلق في الليل ، وليس هناك أحد فنزلت وغرزت رمحي بالأرض ، ونزعت لجام فرسي ، وعلقت عليه مخلاته ونمت ، فلما أصبح الصباح قمت فتوضأت وصليت الفجر ، فإذا باب المدينة يقعقع ، [ ص: 571 ] فلما فتح حملت على البواب فطعنته بالرمح فقتلته ، ثم رجعت والطلب ورائي ، فلما انتهينا إلى الرجل الذي في الطريق من أصحابي ظنوا أنه كمين فرجعوا عني ، ثم سرنا حتى أخذنا الآخر ، وجئت إلى أبي عبيدة فأخبرته بما رأيت ، فأقام أبو عبيدة ينتظر كتاب عمر فيما يعتمده من أمر دمشق ، فجاءه الكتاب يأمره بالمسير إليها ، فساروا إليها حتى أحاطوا بها ، واستخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب ، في خيل هناك . وقعة جرت بالعراق بعد مجيء خالد إلى الشام . وذلك أن أهل فارس اجتمعوا بعد مقتل ملكهم وابنه على تمليك شهريار بن أردشير بن شهريار ، واستغنموا غيبة خالد عنهم ، فبعثوا إلى نائبه المثنى بن حارثة جيشا كثيفا نحوا من عشرة آلاف ، عليهم هرمز بن جاذويه ، وكتب شهريار إلى المثنى : إني قد بعثت إليك جندا من وحش أهل فارس ، إنما هم رعاة الدجاج والخنازير ، ولست أقاتلك إلا بهم . فكتب إليه المثنى : من المثنى إلى شهريار ، إنما أنت أحد رجلين ; إما باغ فذلك شر لك وخير لنا ، وإما كاذب فأعظم الكاذبين عقوبة وفضيحة عند الله في الناس الملوك ، وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما اضطررتم إليهم ، فالحمد لله الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج [ ص: 572 ] والخنازير . قال : فجزع أهل فارس من هذا الكتاب ، ولاموا شهريار على كتابه إليه واستهجنوا رأيه ، وسار المثنى من الحرة إلى بابل ، ولما التقى المثنى وجيشهم بمكان عند عدوة الصراة الأولى ، اقتتلوا قتالا شديدا جدا ، وأرسل الفرس فيلا بين صفوف الخيل ليفرق خيول المسلمين ، فحمل عليه أمير المسلمين المثنى بن حارثة فقتله ، وأمر المسلمين فحملوا ، فلم تكن إلا هزيمة الفرس ، فقتلوهم قتلا ذريعا ، وغنموا منهم مالا عظيما ، وفرت الفرس حتى انتهوا إلى المدائن في شر حالة ، ووجدوا الملك قد مات ، فملكوا عليهم ابنة كسرى بوران بنت أبرويز ، فأقامت العدل ، وأحسنت السيرة ، فأقامت سنة وسبعة شهور ، ثم ماتت ، فملكوا عليهم أختها آزرميدخت زنان ، فلم ينتظم لهم أمر ، فملكوا عليهم سابور بن شهريار ، وجعلوا أمره إلى الفرخزاذ بن البندوان ، فزوجه سابور بابنة كسرى آزرميدخت ، فكرهت ذلك وقالت : إنما هذا عبد من عبيدنا . فلما كان ليلة عرسها عليه هموا إليه فقتلوه ، ثم ساروا إلى سابور فقتلوه أيضا ، وملكوا عليهم هذه المرأة ، وهي آزرميدخت ابنة كسرى ، ولعبت فارس بملكها لعبا كثيرا ، وآخر ما استقر أمرهم عليه في هذه السنة أن ملكوا امرأة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة . وفي هذه الوقعة التي ذكرنا يقول عبدة بن الطبيب السعدي ، وكان قد هاجر لمهاجرة حليلة له حتى شهد وقعة بابل هذه ، فلما آيسته رجع إلى البادية وقال : . [ ص: 573 ] هل حبل خولة بعد البين موصول أم أنت عنها بعيد الدار مشغول وللأحبة أيام تذكرها وقد قال الفرزدق في شعره يذكر قتل المثنى ذلك الفيل : وللنوى قبل يوم البين تأويل حلت خويلة في حي عهدتهم دون المدينة فيها الديك والفيل يقارعون رءوس العجم ضاحية منهم فوارس لا عزل ولا ميل وبيت المثنى قاتل الفيل عنوة ببابل إذ في فارس ملك بابل ثم إن المثنى بن حارثة استبطأ أخبار الصديق لتشاغله بأهل الشام ، وما فيه من حرب اليرموك المتقدم ذكره ، فسار المثنى نفسه إلى الصديق ، واستناب على العراق بشير بن الخصاصية ، وعلى المسالح سعيد بن مرة العجلي ، فلما انتهى المثنى إلى المدينة وجد الصديق في آخر مرض الموت ، وقد عهد إلى عمر بن الخطاب ، ولما رأى الصديق المثنى قال لعمر : إذا أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس لحرب أهل العراق مع المثنى ، وإذا فتح الله على أمراءنا بالشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق ، فإنهم أعلم بحربه . فلما مات الصديق ندب عمر المسلمين إلى الجهاد بأرض العراق ; لقلة من بقي فيه من المقاتلة بعد خالد بن الوليد ، فانتدب خلق ، وأمر عليهم أبا عبيد بن مسعود ، وكان شابا شجاعا خبيرا بالحرب والمكيدة . وهذا آخر ما يتعلق بخبر العراق إلى آخر أيام الصديق وأول دولة الفاروق . خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه |
كانت وفاة الصديق ، رضي الله عنه ، في يوم الاثنين عشية . وقيل : بعد المغرب . ودفن من ليلته ، وذلك لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة ، بعد مرض خمسة عشر يوما . وكان عمر بن الخطاب يصلي عنه فيها بالمسلمين ، وفي أثناء هذا المرض عهد بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب ، وكان الذي كتب العهد عثمان بن عفان ، وقرئ على المسلمين فأقروا به وسمعوا له وأطاعوا ، فكانت خلافة الصديق سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام . وقيل : وعشرين يوما . وقيل : سنتين وأربعة أشهر . وكان عمره يوم توفي ثلاثا وستين سنة ، للسن الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد جمع الله بينهما في التربة كما جمع بينهما في الحياة ، فرضي الله عنه وأرضاه .
قال محمد بن سعد ، عن أبي قطن عمرو بن الهيثم ، عن الربيع ، عن حبان الصائغ قال : كان نقش خاتم أبي بكر : نعم القادر الله . وهذا غريب ، وقد ذكرنا ترجمة الصديق ، رضي الله عنه ، وسيرته وأيامه ، وما روى من الأحاديث ، وما روي عنه من الأحكام ، في مجلد ، ولله الحمد والمنة . [ ص: 575 ] فقام بالأمر من بعده أتم القيام الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وهو أول من سمي بأمير المؤمنين ، وكان أول من حياه بها المغيرة بن شعبة ، وقيل : غيره . كما بسطنا ذلك في ترجمة عمر بن الخطاب وسيرته التي أفردناها في مجلد ، ومسنده والآثار المروية ، مرتبا على الأبواب في مجلد آخر ، ولله الحمد . وقد كتب بوفاة الصديق إلى أمراء الشام مع شداد بن أوس ، ومحمية بن جزء ، فوصلا والناس مصافون جيوش الروم يوم اليرموك ، كما قدمنا ، وقد أمر عمر على الجيوش أبا عبيدة ، وعزل خالد بن الوليد . وذكر سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، أن عمر إنما عزل خالدا لكلام بلغه عنه ، ولما كان من أمر مالك بن نويرة ، وما كان يعتمده في حربه ، فلما ولي عمر كان أول ما تكلم به أن عزل خالدا ، وقال : لا يلي لي عملا أبدا . وكتب عمر إلى أبي عبيدة : إن أكذب خالد نفسه فهو أمير على ما كان عليه ، وإن لم يكذب نفسه فهو معزول ، فانزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله نصفين . فلما قال أبو عبيدة ذلك لخالد قال له خالد : أمهلني حتى أستشير أختي ، فذهب إلى أخته فاطمة ، وكانت تحت الحارث بن هشام ، فاستشارها في ذلك فقالت له : إن عمر لا يحبك أبدا ، وإنه سيعزلك وإن أكذبت نفسك . فقال لها : صدقت والله . فقاسمه أبو عبيدة حتى أخذ إحدى نعليه وترك له الآخر ، وخالد يقول : [ ص: 576 ] سمعا وطاعة لأمير المؤمنين . وقد روى ابن جرير ، عن صالح بن كيسان أنه قال : كان أول كتاب كتبه عمر إلى أبي عبيدة حين ولاه وعزل خالدا ، أن قال : وأوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه ، الذي هدانا من الضلالة ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور ، وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد ، فقم بأمرهم الذي يحق عليك ، لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة ، ولا تنزلهم منزلا قبل أن تستريده لهم ، وتعلم كيف مأتاه ، ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس ، وإياك وإلقاء المسلمين في الهلكة ، وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك ، فغض بصرك عن الدنيا ، وأله قلبك عنها ، وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك ، فقد رأيت مصارعهم . وأمرهم بالمسير إلى دمشق ، وذلك بعدما بلغه الخبر بفتح اليرموك وجاءته به البشارة ، وحمل الخمس إليه . وقد ذكر ابن إسحاق أن الصحابة قاتلوا بعد اليرموك بأجنادين ، ثم بفحل من أرض الغور قريبا من بيسان بمكان يقال له : الردغة . سمي بذلك لكثرة ما لقوا من الأوحال فيها ، ثم لما فرت الروم من هذه الوقعة ألجأوهم إلى دمشق ، فقصدوهم فيها فأغلقوها عليهم ، وأحاط بها الصحابة . قال : وحينئذ جاءت الإمارة لأبي عبيدة من جهة عمر ، وعزل خالد . وهذا الذي ذكره ابن إسحاق [ ص: 577 ] من مجيء الإمارة لأبي عبيدة في حصار دمشق هو المشهور . |
فتح البقاع .
ثم إن أبا عبيدة بعث خالد بن الوليد إلى البقاع ففتحه بالسيف ، وبعث سرية فالتقوا مع الروم بعين ميسنون ، وعلى الروم رجل يقال له : سنان . تحدر على المسلمين من عقبة بيروت ، فقتل من المسلمين يومئذ جماعة من [ ص: 588 ] الشهداء ، فكانوا يسمون عين ميسنون عين الشهداء . واستخلف أبو عبيدة على دمشق يزيد بن أبي سفيان ، كما وعده بها الصديق ، وبعث يزيد دحية بن خليفة إلى تدمر في سرية ليمهدوا أمرها ، وبعث أبا الزهراء القشيري إلى البثنية وحوران فصالح أهلها . قال أبو عبيد القاسم بن سلام ، رحمه الله : افتتح خالد دمشق صلحا ، وهكذا سائر مدن الشام كانت صلحا دون أرضها ، فعلى يدي يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل ابن حسنة وأبي عبيدة . وقال الوليد بن مسلم : أخبرني غير واحد من شيوخ دمشق أن المسلمين بينما هم على حصار دمشق إذ أقبلت خيل من عقبة السلمية مخمرة بالحرير ، فثار إليهم المسلمون ، فالتقوا فيما بين بيت لهيا والعقبة التي أقبلوا منها ، فهزموهم وطردوهم إلى أبواب حمص ، فلما رأى أهل حمص ذلك ظنوا أنهم قد فتحوا دمشق ، فقال لهم أهل حمص : إنا نصالحكم على ما صالحتم عليه أهل دمشق . ففعلوا . وقال خليفة بن خياط : حدثني عبد الله بن المغيرة ، عن أبيه قال : افتتح شرحبيل ابن حسنة الأردن كلها عنوة ما خلا طبرية ، فإن أهلها صالحوه . وهكذا قال ابن الكلبي . وقالا : بعث أبو عبيدة خالدا فغلب على أرض البقاع وصالحه أهل بعلبك وكتب لهم كتابا ، وقال ابن المغيرة عن أبيه : وصالحهم على [ ص: 589 ] أنصاف منازلهم وكنائسهم ، ووضع الخراج . وقال ابن إسحاق وغيره : وفي سنة أربع عشرة فتحت حمص وبعلبك صلحا على يدي أبي عبيدة في ذي القعدة . قال خليفة : ويقال في سنة خمس عشرة . وقعة فحل ، بكسر الفاء ، قيل : والحاء . والصحيح تسكينها . وقد ذكرها كثير من علماء السير قبل فتح دمشق ، وإنما ذكرها الإمام أبو جعفر بن جرير بعد فتح دمشق ، وتبع في ذلك سياق سيف بن عمر ، فيما رواه عن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني وأبي حارثة العبشمي قالا : خلف الناس يزيد بن أبي سفيان في خيله في دمشق ، وساروا نحو فحل ، وعلى الناس الذين هم بالغور شرحبيل ابن حسنة ، وسار أبو عبيدة وقد جعل على المقدمة خالد بن الوليد ، وأبو عبيدة على الميمنة ، وعمرو بن العاص على الميسرة ، وعلى الخيل ضرار بن الأزور ، وعلى الرجالة عياض بن غنم ، فوصلوا إلى فحل ، وهي بلدة بالغور ، وقد انحاز الروم إلى بيسان ، وأرسلوا مياه تلك الأراضي على ما هنالك من الأراضي ، فحال بينهم وبين المسلمين ، وأرسل المسلمون إلى عمر يخبرونه بما [ ص: 590 ] هم فيه من مصابرة عدوهم ، وما صنعه الروم من تلك المكيدة ، إلا أن المسلمين في عيش رغيد ومدد كثير ، وهم على أهبة من أمرهم ، وأمير هذا الحرب شرحبيل ابن حسنة ، وهو لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة ، وظن الروم أن المسلمين على غرة ، فركبوا في بعض الليالي ليبيتوهم ، وعلى الروم سقلاب بن مخراق ، فهجموا على المسلمين فنهضوا إليهم نهضة رجل واحد ; لأنهم على أهبة دائما ، فقاتلوهم حتى الصباح وذلك اليوم بكماله إلى الليل ، فلما أظلم الليل فر الروم وقتل أميرهم سقلاب ، وركب المسلمون أكتافهم وأسلمتهم هزيمتهم إلى ذلك الوحل الذي كانوا قد كادوا به المسلمين ، فغرقهم الله فيه ، وقتل منهم المسلمون بأطراف الرماح ما قارب الثمانين ألفا ، لم ينج منهم إلا الشريد ، وغنموا منهم شيئا كثيرا ومالا جزيلا ، وانصرف أبو عبيدة وخالد بمن معهما من الجيوش نحو حمص ، كما أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، واستخلف أبو عبيدة على الأردن شرحبيل ابن حسنة ، فسار شرحبيل ومعه عمرو بن العاص ، فحاصر بيسان ، فخرجوا إليه فقتل منهم مقتلة عظيمة ، ثم صالحوه على مثل ما صالحت عليه دمشق ، وضرب عليهم الجزية ، والخراج على أراضيهم ، وكذلك فعل أبو الأعور السلمي بأهل طبرية سواء . |
ذكر فتح دمشق .
قال سيف بن عمر : لما ارتحل أبو عبيدة من اليرموك فنزل بالجنود على مرج الصفر ، وهو عازم على حصار دمشق إذ أتاه الخبر بقدوم مدد لهم من حمص ، وجاءه الخبر بأنه قد اجتمع طائفة كبيرة من الروم بفحل من أرض فلسطين ، وهو لا يدري بأي الأمرين يبدأ ، فكتب إلى عمر في ذلك ، فجاء الجواب أن ابدأ بدمشق فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم ، فانهد لها واشغلوا عنكم أهل فحل بخيول تكون تلقاءهم ، فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذي نحب ، وإن فتحت دمشق قبلها فسر أنت ومن معك واستخلف على دمشق ، فإذا فتح الله عليكم فحلا فسر أنت وخالد إلى حمص واترك عمرا وشرحبيل على الأردن وفلسطين . قال : فسرح أبو عبيدة إلى فحل عشرة أمراء ، مع كل أمير خمسة أمراء ، وعلى الجميع عمارة بن مخشي ، صحابي ، فساروا من مرج الصفر إلى فحل ، فوجدوا الروم هنالك قريبا من ثمانين ألفا ، وقد أرسلوا المياه حولهم حتى أردغت الأرض ، فسموا ذلك الموضع الردغة ، وفتحها الله على المسلمين ، فكانت أول حصن فتح قبل دمشق ، على ما سيأتي تفصيله ، ولله الحمد . [ ص: 578 ] وبعث أبو عبيدة جيشا يكون بين دمشق وبين فلسطين ، وبعث ذا الكلاع في جيش يكون بين دمشق وبين حمص ; ليرد من يرد إليهم من المدد من جهة هرقل ، ثم سار أبو عبيدة من مرج الصفر قاصدا دمشق ، وقد جعل خالد بن الوليد في القلب ، وركب أبو عبيدة وعمرو بن العاص في المجنبتين ، وعلى الخيل عياض بن غنم ، ، وعلى الرجالة شرحبيل ابن حسنة ، فقدموا دمشق وعليها نسطاس بن نسطورس ، فنزل خالد بن الوليد على الباب الشرقي وإليه باب كيسان أيضا ، ونزل أبو عبيدة على باب الجابية الكبير ، ونزل يزيد بن أبي سفيان على باب الجابية الصغير ، ونزل عمرو بن العاص وشرحبيل ابن حسنة على بقية أبواب البلد ، ونصبوا المجانيق والدبابات وقد أرصد أبو عبيدة أبا الدرداء على جيش ببرزة يكونون ردءا له ، وكذا الذي بينه وبين حمص ، وحاصروها حصارا شديدا سبعين ليلة ، وقيل : أربعة أشهر . وقيل : ستة أشهر . وقيل : أربعة عشر شهرا . فالله أعلم . وأهل دمشق ممتنعون منهم غاية الامتناع ، ويرسلون إلى ملكهم هرقل وهو مقيم بحمص يطلبون منه المدد ، فلا يمكن وصول المدد إليهم من ذي الكلاع الذي قد أرصده أبو عبيدة ، رضي الله عنه بين دمشق وبين حمص - عن دمشق ليلة - فلما أيقن أهل دمشق أنه لا يصل [ ص: 579 ] إليهم مدد أبلسوا وفشلوا وضعفوا ، وقوي المسلمون واشتد حصارهم ، وجاء فصل الشتاء واشتد البرد وعسر الحال وعسر القتال ، فقدر الله الكبير المتعالي ، ذو العزة والجلال ، أن ولد لبطريق دمشق مولود في تلك الليالي ، فصنع لهم طعاما وسقاهم بعده شرابا ، وباتوا عنده في وليمته قد أكلوا وشربوا وتعبوا ، فناموا عن مواقفهم ، واشتغلوا عن أماكنهم ، وفطن لذلك أمير الحرب خالد بن الوليد ، فإنه كان لا ينام ، ولا يترك أحدا ينام ، بل مراصد لهم ليلا ونهارا ، وله عيون وقصاد يرفعون إليه أحوال المقاتلة صباحا ومساء ، فلما رأى خمدة تلك الليلة ، وأنه لا يقاتل على السور أحد ، كان قد أعد سلاليم من حبال ، فجاء هو وأصحابه من الصناديد الأبطال ، مثل القعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي ، وقد أحضر جيشه عند الباب ، وقال لهم : إذا سمعتم تكبيرنا فوق السور فارقوا إلينا . ثم نهد هو وأصحابه فقطعوا الخندق سباحة بقرب في أعناقهم ، ثم نصبوا تلك السلالم وأثبتوا أعاليها بالشرفات ، وأكدوا أسافلها خارج الخندق ، وصعدوا فيها ، فلما استووا على السور رفعوا أصواتهم بالتكبير ، وجاء المسلمون فصعدوا في تلك السلالم وانحدر خالد وأصحابه الشجعان من السور إلى البوابين فقتلوهم ، وقطع خالد وأصحابه أغاليق الباب بالسيوف وفتحوا الباب ، فدخل الجيش الخالدي من الباب الشرقي ، ولما سمع أهل البلد التكبير ثاروا ، وذهب كل فريق إلى أماكنهم من السور ، لا يدرون ما الخبر ، فجعل كلما قدم أحد من أصحاب الباب الشرقي قتله أصحاب خالد ، ودخل خالد البلدة عنوة ، فقتل من [ ص: 580 ] وجده ، وذهب أهل كل باب فسألوا من أميرهم الذي عند الباب من خارج الصلح - وقد كان المسلمون دعوهم إلى المشاطرة فيأبون عليهم - فلما دعوهم إلى ذلك أجابوهم ، ولم يعلم بقية الصحابة ما صنع خالد ، ودخل المسلمون من كل جانب وباب ، فوجدوا خالدا وهو يقتل من وجده ، فقالوا له : إنا قد أمناهم . فقال : إني فتحتها عنوة . والتقت الأمراء في وسط البلد عند كنيسة المقسلاط بالقرب من درب الريحان اليوم . هكذا ذكره سيف بن عمر وغيره ، وهو المشهور أن خالدا فتح الباب قسرا . وقال آخرون : بل الذي فتحها عنوة أبو عبيدة ، وقيل : يزيد بن أبي سفيان ، وخالد صالح أهل البلد . فعكسوا المشهور المعروف . والله أعلم . وقد اختلف الصحابة ، فقال قائلون : هي صلح . يعني على ما صالحهم الأمير في نفس الأمر ، وهو أبو عبيدة . وقال آخرون : بل هي عنوة . لأن خالدا افتتحها بالسيف أولا كما ذكرنا ، فلما أحسوا بذلك ذهبوا إلى بقية الأمراء ، ومنهم أبو عبيدة فصالحوهم ، فاتفقوا فيما بينهم على أن جعلوا نصفها صلحا ونصفها عنوة ، فملك أهلها نصف ما كان بأيديهم وأقروا عليه ، واستقرت يد الصحابة على النصف . ويقوي هذا ما ذكره سيف بن عمر من أن الصحابة كانوا يطلبون إليهم أن يصالحوهم على المشاطرة فيأبون ، فلما أحسوا باليأس أنابوا إلى ما كانت الصحابة دعوهم إليه فبادروا إلى إجابتهم . ولم يعلم الصحابة بما كان من خالد إليهم . والله أعلم . [ ص: 581 ] ولهذا أخذ الصحابة نصف الكنيسة العظمى التي كانت بدمشق ، وتعرف بكنيسة يوحنا ، فاتخذوا الجانب الشرقي منها مسجدا ، وأبقوا لهم النصف الغربي كنيسة ، وقد أبقوا لهم مع ذلك أربع عشرة كنيسة أخرى مع نصف الكنيسة المعروفة بيوحنا ، والتي هي جامع دمشق اليوم ، وقد كتب لهم بذلك خالد بن الوليد كتابا ، وكتب فيه شهادته أبو عبيدة وعمرو بن العاص ويزيد وشرحبيل ; إحداها كنيسة المقسلاط التي اجتمع عندها أمراء الصحابة ، وكانت مبنية على ظهر السوق الكبير ، وهذه القناطر المشاهدة في سوق الصابونيين من بقية القناطر التي كانت تحتها ، ثم بادت فيما بعد ، وأخذت حجارتها في العمارات . الثانية : كنيسة كانت في رأس درب القرشيين ، وكانت صغيرة . قال الحافظ ابن عساكر : وبعضها باق إلى اليوم ، وقد تشعثت . الثالثة : كانت بدار البطيخ العتيقة . قلت : وهي داخل البلد بقرب الكوشك ، وأظنها هي المسجد الذي قبل هذا المكان المذكور ، فإنها خربت من دهر . والله أعلم . الرابعة : كانتبدرب بني نصر بين درب الحبالين ودرب التميمي . قال الحافظ ابن عساكر : وقد أدركت بعض بنيانها ، وقد خرب أكثرها . الخامسة : كنيسة بولص . قال ابن عساكر : وكانت غربي القيسارية الفخرية ، وقد أدركت من بنيانها بعض أساس الحنية . السادسة : كانت في موضع دار الوكالة ، وتعرف اليوم بكنيسة القلانسيين . قلت : والقلانسيين هي الخواصين اليوم . السابعة : التي بدرب السقيل اليوم ، وتعرف بكنيسة حميد بن درة سابقا ; لأن هذا الدرب كان إقطاعا له ، وهو حميد بن عمرو بن مساحق القرشي العامري ، ودرة أمه ، وهي [ ص: 582 ] درة بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة ، فأبوها خال معاوية . وكان قد أقطع هذا الدرب فنسبت هذه الكنيسة إليه ، وكان مسلما ، ولم يبق لهم اليوم سواها ، وقد خرب أكثرها . ولليعقوبية منهم كنيسة داخل باب توما بين رحبة خالد - وهو خالد بن أسيد بن أبي العيص - وبين درب طلحة بن عمرو بن مرة الجهني ، وهي الكنيسة الثامنة ، وكانت لليعقوبيين كنيسة أخرى فيما بين السوسي وسوق علي . قال ابن عساكر : قد بقي من بنائها بعضه ، وقد خربت منذ دهر . وهى الكنيسة التاسعة . وأما العاشرة فهي الكنيسة المصلبة ، قال الحافظ ابن عساكر : وهي باقية إلى اليوم بين الباب الشرقي وباب توما بقرب النيبطن عند السور . والناس اليوم يقولون : النيبطون . قال ابن عساكر : وقد خرب أكثرها . هكذا قال ، وقد خربت هذه الكنيسة وهدمت في أيام صلاح الدين فاتح القدس بعد الثمانين وخمسمائة بعد موت الحافظ ابن عساكر ، رحمه الله . الحادية عشرة : كنيسة مريم داخل الباب الشرقي . قال ابن عساكر : وهى من أكبر ما بقي بأيديهم . قلت : ثم خربت بعد موته بدهر في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري ، على ما سيأتي بيانه . الثانية عشرة : كنيسة اليهود التي بأيديهم اليوم في حارتهم ، ومحلها معروف بالقرب من الحير وتسميه الناس اليوم بستان القط ، وكانت لهم كنيسة في درب البلاغة ، لم تكن داخلة في [ ص: 583 ] العهد ، فهدمت فيما بعد ، وجعل مكانها المسجد المعروف بمسجد ابن الشهرزوري ، والناس اليوم يقولون : درب الشاذوري . قلت : وقد أخربت لهم كنيسة كانوا قد أحدثوها لم يذكرها أحد من علماء التاريخ ، لا ابن عساكر ولا غيره ، وكان إخرابها في حدود سنة سبع عشرة وسبعمائة ، ولم يتعرض الحافظ ابن عساكر لذكر كنيسة السامرة بمرة . ثم قال ابن عساكر : ومما أحدث - يعني النصارى - كنيسة بناها أبو جعفر المنصور لبني قطيطا في الفورنق عند قناة صالح قريبا من دار بهادرآص اليوم ، وقد أخربت فيما بعد ، وجعلت مسجدا يعرف بمسجد الجينيق ، وهو مسجد أبي اليمن . قال : ومما أحدث كنيستا العباد ; إحداهما عند دار ابن الماشكي ، وقد جعلت مسجدا ، والأخرى التي في رأس درب النقاشين ، وقد جعلت مسجدا . انتهى ما ذكره الحافظ ابن عساكر الدمشقي ، رحمه الله . قلت : وظاهر سياق سيف بن عمر يقتضي أن فتح دمشق وقع في سنة ثلاث عشرة ، ولكن نص سيف على ما نص عليه الجمهور من أنها فتحت في نصف رجب سنة أربع عشرة . وكذا حكاه الحافظ ابن عساكر من طريق محمد [ ص: 584 ] بن عائذ القرشي الدمشقي ، عن الوليد بن مسلم ، عن عثمان بن حصن بن علاق ، عن يزيد بن عبيدة ، قال : فتحت دمشق سنة أربع عشرة . ورواه دحيم ، عن الوليد ، قال : سمعت أشياخا يقولون : إن دمشق فتحت سنة أربع عشرة . وهكذا قال سعيد بن عبد العزيز وأبو معشر ومحمد بن إسحاق ومعمر والأموي - وحكاه عن مشايخه - وابن الكلبي وخليفة بن خياط وأبو عبيد القاسم بن سلام ; أن فتح دمشق كان في سنة أربع عشرة . وزاد سعيد بن عبد العزيز وأبو معشر والأموي : وكانت اليرموك بعدها بسنة . وقال بعضهم : بل كان فتحها في شوال سنة أربع عشرة . وقال خليفة : حاصرهم أبو عبيدة في رجب وشعبان ورمضان وشوال ، وتم الصلح في ذي القعدة . وقال الأموي في " مغازيه " : كانت وقعة أجنادين في جمادى الأولى ، ووقعة فحل في ذي القعدة من سنة ثلاث عشرة . يعني : ووقعة دمشق سنة أربع عشرة . وقال دحيم عن الوليد : حدثني الأموي أن وقعة فحل وأجنادين كانت في خلافة أبي بكر ، ثم مضى المسلمون إلى دمشق ، فنزلوا عليها في رجب سنة ثلاث عشرة . يعني ففتحوها في سنة أربع عشرة . وكانت اليرموك سنة خمس عشرة ، وقدم عمر إلى بيت المقدس سنة ست عشرة . |
هل فتحت صلحا أو عنوة .
واختلف العلماء في دمشق ; هل فتحت صلحا أو عنوة ؟ فأكثر العلماء على أنه استقر أمرها على الصلح ; لأنهم شكوا في المتقدم على الآخر ; أفتحت عنوة ثم عدل الروم إلى المصالحة ، أو فتحت صلحا واتفق الاستيلاء من الجانب الآخر قسرا ؟ فلما شكوا في ذلك جعلوها صلحا احتياطا . وقيل : بل جعل نصفها صلحا ونصفها عنوة . وهذا القول قد يظهر من صنع الصحابة في الكنيسة العظمى التي كانت أكبر معابدهم ، حين أخذوا نصفها وتركوا لهم نصفها . والله أعلم . ثم قيل : إن أبا عبيدة هو الذي كتب لهم كتاب الصلح ، وهذا هو الأنسب والأشهر ، فإن خالدا كان قد عزل عن الإمرة . وقيل : بل الذي كتب لهم الصلح خالد بن الوليد ، ولكن أقره على ذلك أبو عبيدة . فالله أعلم . وذكر أبو حذيفة إسحاق بن بشر أن الصديق توفي قبل فتح دمشق ، وأن عمر كتب إلى أبي عبيدة يعزيه والمسلمين في الصديق ، وأنه قد استنابه على من بالشام ، وأمره أن يستشير خالدا في الحرب ، فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة كتمه من خالد حتى فتحت دمشق بنحو من عشرين ليلة ، فقال له خالد : يرحمك الله ، ما منعك أن تعلمني حين جاءك ؟ فقال : إني كرهت أن أكسر عليك حربك ، وما سلطان الدنيا أريد ، ولا للدنيا أعمل ، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع ، وإنما نحن إخوان ، وما يضر الرجل أن يليه أخوه في دينه ولا دنياه . [ ص: 586 ] ومن أعجب ما يذكر ها هنا ما رواه يعقوب بن سفيان الفسوي ، حدثنا هشام بن عمار ، ثنا عبد الملك بن محمد ، ثنا راشد بن داود الصنعاني ، حدثني أبو عثمان الصنعاني شراحيل بن مرثد ، قال : بعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى أهل اليمامة ، وبعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام . فذكر الراوي قتال خالد لأهل اليمامة إلى أن قال : ومات أبو بكر واستخلف عمر ، فبعث أبا عبيدة إلى الشام فقدم دمشق فاستمد أبو عبيدة عمر ، فكتب عمر إلى خالد بن الوليد أن يسير إلى أبي عبيدة بالشام فذكر مسير خالد من العراق إلى الشام كما تقدم . وهذا غريب جدا ، فإن الذي لا يشك فيه أن الصديق هو الذي بعث أبا عبيدة وغيره من الأمراء إلى الشام ، وهو الذي كتب إلى خالد بن الوليد أن يقدم من العراق إلى الشام ليكون مددا لمن به وأميرا عليهم ، ففتح الله تعالى عليه وعلى يديه جميع الشام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى . وقال محمد بن عائذ : قال الوليد بن مسلم : أخبرني صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، أن المسلمين لما افتتحوا مدينة دمشق بعثوا أبا عبيدة بن الجراح وافدا إلى أبي بكر بشيرا بالفتح ، فقدم المدينة فوجد أبا بكر قد توفي ، واستخلف عمر بن الخطاب ، فأعظم أن يتأمر أحد من الصحابة عليه ، فولاه جماعة الناس فقدم عليهم فقالوا : مرحبا بمن بعثناه بريدا فقدم علينا أميرا . وقد روى الليث وابن لهيعة وحيوة بن شريح ومفضل بن فضالة وعمرو بن [ ص: 587 ] الحارث وغير واحد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الله بن الحكم ، عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر ، أنه بعثه أبو عبيدة بريدا بفتح دمشق . قال : فقدمت على عمر يوم الجمعة فقال لي : منذ كم لم تنزع خفيك ؟ فقلت : من يوم الجمعة وهذا يوم الجمعة . فقال : أصبت السنة . قال الليث : وبه نأخذ . يعني أن المسح على الخفين للمسافر لا يتأقت ، بل له أن يمسح عليهما ما شاء ، وإليه ذهب الشافعي في القديم . وقد روى أحمد وأبو داود عن أبي بن عمارة مرفوعا مثل هذا ، والجمهور على ما رواه مسلم عن علي في تأقيت المسح ; للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، وللمقيم يوم وليلة . ومن الناس من فصل بين البريد ومن في معناه وغيره ، فقال في الأول : لا يتأقت . وفيما عداه : يتأقت ; لحديث عقبة وحديث علي . والله أعلم . مسألة: الجزء التاسع التحليل الموضوعي [ ص: 585 ] فَصْلٌ دِمَشْقُ ; هَلْ فُتِحَتْ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي دِمَشْقَ ; هَلْ فُتِحَتْ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً ؟ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ اسْتَقَرَّ أَمْرُهَا عَلَى الصُّلْحِ ; لِأَنَّهُمْ شَكُّوا فِي الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْآخَرِ ; أَفُتِحَتْ عَنْوَةً ثُمَّ عَدَلَ الرُّومُ إِلَى الْمُصَالَحَةِ ، أَوْ فُتِحَتْ صُلْحًا وَاتَّفَقَ الِاسْتِيلَاءُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ قَسْرًا ؟ فَلَمَّا شَكُّوا فِي ذَلِكَ جَعَلُوهَا صُلْحًا احْتِيَاطًا . وَقِيلَ : بَلْ جُعِلَ نِصْفُهَا صُلْحًا وَنِصْفُهَا عَنْوَةً . وَهَذَا الْقَوْلُ قَدْ يَظْهَرُ مِنْ صُنْعِ الصَّحَابَةِ فِي الْكَنِيسَةِ الْعُظْمَى الَّتِي كَانَتْ أَكْبَرَ مَعَابِدِهِمْ ، حِينَ أَخَذُوا نِصْفَهَا وَتَرَكُوا لَهُمْ نَصْفَهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . ثُمَّ قِيلَ : إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ هُوَ الَّذِي كَتَبَ لَهُمْ كِتَابَ الصُّلْحِ ، وَهَذَا هُوَ الْأَنْسَبُ وَالْأَشْهَرُ ، فَإِنَّ خَالِدًا كَانَ قَدْ عُزِلَ عَنِ الْإِمْرَةِ . وَقِيلَ : بَلِ الَّذِي كَتَبَ لَهُمُ الصُّلْحَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَلَكِنْ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ . فَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَذَكَرَ أَبُو حُذَيْفَةَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ أَنَّ الصِّدِّيقَ تُوُفِّيَ قَبْلَ فَتْحِ دِمَشْقَ ، وَأَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ يُعَزِّيهِ وَالْمُسْلِمِينَ فِي الصِّدِّيقِ ، وَأَنَّهُ قَدِ اسْتَنَابَهُ عَلَى مَنْ بِالشَّامِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَشِيرَ خَالِدًا فِي الْحَرْبِ ، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ كَتَمَهُ مِنْ خَالِدٍ حَتَّى فُتِحَتْ دِمَشْقُ بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً ، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْلِمَنِي حِينَ جَاءَكَ ؟ فَقَالَ : إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَلَيْكَ حَرْبَكَ ، وَمَا سُلْطَانُ الدُّنْيَا أُرِيدُ ، وَلَا لِلدُّنْيَا أَعْمَلُ ، وَمَا تَرَى سَيَصِيرُ إِلَى زَوَالٍ وَانْقِطَاعٍ ، وَإِنَّمَا نَحْنُ إِخْوَانٌ ، وَمَا يَضُرُّ الرَّجُلَ أَنْ يَلِيَهُ أَخُوهُ فِي دِينِهِ وَلَا دُنْيَاهُ . [ ص: 586 ] وَمِنْ أَعْجَبِ مَا يُذْكَرُ هَا هُنَا مَا رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ ، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، ثَنَا رَاشِدُ بْنُ دَاوُدَ الصَّنْعَانِيُّ ، حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ الصَّنْعَانِيُّ شَرَاحِيلُ بْنُ مَرْثَدٍ ، قَالَ : بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أَهْلِ الْيَمَامَةِ ، وَبَعَثَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى الشَّامِ . فَذَكَرَ الرَّاوِي قِتَالَ خَالِدٍ لِأَهْلِ الْيَمَامَةِ إِلَى أَنْ قَالَ : وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتَخْلَفَ عُمَرَ ، فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ إِلَى الشَّامِ فَقَدِمَ دِمَشْقَ فَاسْتَمَدَّ أَبُو عُبَيْدَةَ عُمَرَ ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بِالشَّامِ فَذَكَرَ مَسِيرَ خَالِدٍ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا ، فَإِنَّ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ أَنَّ الصِّدِّيقَ هُوَ الَّذِي بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى الشَّامِ ، وَهُوَ الَّذِي كَتَبَ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنْ يَقَدَمَ مِنَ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ لِيَكُونَ مَدَدًا لِمَنْ بِهِ وَأَمِيرًا عَلَيْهِمْ ، فَفَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى يَدَيْهِ جَمِيعَ الشَّامِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ : قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ : أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا افْتَتَحُوا مَدِينَةَ دِمَشْقَ بَعَثُوا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَافِدًا إِلَى أَبِي بَكْرٍ بَشِيرًا بِالْفَتْحِ ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ أَبَا بَكْرٍ قَدْ تُوُفِّيَ ، وَاسْتَخْلَفَ عُمَرَ بْنَ الْخِطَابِ ، فَأَعْظَمَ أَنْ يَتَأَمَّرَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ ، فَوَلَّاهُ جَمَاعَةَ النَّاسِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا : مَرْحَبًا بِمَنْ بَعَثْنَاهُ بَرِيدًا فَقَدِمَ عَلَيْنَا أَمِيرًا . وَقَدْ رَوَى اللَّيْثُ وَابْنُ لَهِيعَةَ وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ وَمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ وَعَمْرُو بْنُ [ ص: 587 ] الْحَارِثِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، أَنَّهُ بَعَثَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بَرِيدًا بِفَتْحِ دِمَشْقَ . قَالَ : فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لِي : مُنْذُ كَمْ لَمْ تَنْزِعْ خُفَّيْكَ ؟ فَقُلْتُ : مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَهَذَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ . فَقَالَ : أَصَبْتَ السُّنَّةَ . قَالَ اللَّيْثُ : وَبِهِ نَأْخُذُ . يَعْنِي أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِلْمُسَافِرِ لَا يَتَأَقَّتْ ، بَلْ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا مَا شَاءَ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ . وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ عُمَارَةَ مَرْفُوعًا مِثْلَ هَذَا ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ فِي تَأْقِيتِ الْمَسْحِ ; لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ . وَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْبَرِيدِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ وَغَيْرِهِ ، فَقَالَ فِي الْأَوَّلِ : لَا يَتَأَقَّتُ . وَفِيمَا عَدَاهُ : يَتَأَقَّتُ ; لِحَدِيثِ عُقْبَةَ وَحَدِيثِ عَلِيٍّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . مسألة: الجزء التاسع التحليل الموضوعي [ ص: 585 ] فصل دمشق ; هل فتحت صلحا أو عنوة . واختلف العلماء في دمشق ; هل فتحت صلحا أو عنوة ؟ فأكثر العلماء على أنه استقر أمرها على الصلح ; لأنهم شكوا في المتقدم على الآخر ; أفتحت عنوة ثم عدل الروم إلى المصالحة ، أو فتحت صلحا واتفق الاستيلاء من الجانب الآخر قسرا ؟ فلما شكوا في ذلك جعلوها صلحا احتياطا . وقيل : بل جعل نصفها صلحا ونصفها عنوة . وهذا القول قد يظهر من صنع الصحابة في الكنيسة العظمى التي كانت أكبر معابدهم ، حين أخذوا نصفها وتركوا لهم نصفها . والله أعلم . ثم قيل : إن أبا عبيدة هو الذي كتب لهم كتاب الصلح ، وهذا هو الأنسب والأشهر ، فإن خالدا كان قد عزل عن الإمرة . وقيل : بل الذي كتب لهم الصلح خالد بن الوليد ، ولكن أقره على ذلك أبو عبيدة . فالله أعلم . وذكر أبو حذيفة إسحاق بن بشر أن الصديق توفي قبل فتح دمشق ، وأن عمر كتب إلى أبي عبيدة يعزيه والمسلمين في الصديق ، وأنه قد استنابه على من بالشام ، وأمره أن يستشير خالدا في الحرب ، فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة كتمه من خالد حتى فتحت دمشق بنحو من عشرين ليلة ، فقال له خالد : يرحمك الله ، ما منعك أن تعلمني حين جاءك ؟ فقال : إني كرهت أن أكسر عليك حربك ، وما سلطان الدنيا أريد ، ولا للدنيا أعمل ، وما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع ، وإنما نحن إخوان ، وما يضر الرجل أن يليه أخوه في دينه ولا دنياه . [ ص: 586 ] ومن أعجب ما يذكر ها هنا ما رواه يعقوب بن سفيان الفسوي ، حدثنا هشام بن عمار ، ثنا عبد الملك بن محمد ، ثنا راشد بن داود الصنعاني ، حدثني أبو عثمان الصنعاني شراحيل بن مرثد ، قال : بعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى أهل اليمامة ، وبعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام . فذكر الراوي قتال خالد لأهل اليمامة إلى أن قال : ومات أبو بكر واستخلف عمر ، فبعث أبا عبيدة إلى الشام فقدم دمشق فاستمد أبو عبيدة عمر ، فكتب عمر إلى خالد بن الوليد أن يسير إلى أبي عبيدة بالشام فذكر مسير خالد من العراق إلى الشام كما تقدم . وهذا غريب جدا ، فإن الذي لا يشك فيه أن الصديق هو الذي بعث أبا عبيدة وغيره من الأمراء إلى الشام ، وهو الذي كتب إلى خالد بن الوليد أن يقدم من العراق إلى الشام ليكون مددا لمن به وأميرا عليهم ، ففتح الله تعالى عليه وعلى يديه جميع الشام على ما سنذكره إن شاء الله تعالى . وقال محمد بن عائذ : قال الوليد بن مسلم : أخبرني صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، أن المسلمين لما افتتحوا مدينة دمشق بعثوا أبا عبيدة بن الجراح وافدا إلى أبي بكر بشيرا بالفتح ، فقدم المدينة فوجد أبا بكر قد توفي ، واستخلف عمر بن الخطاب ، فأعظم أن يتأمر أحد من الصحابة عليه ، فولاه جماعة الناس فقدم عليهم فقالوا : مرحبا بمن بعثناه بريدا فقدم علينا أميرا . وقد روى الليث وابن لهيعة وحيوة بن شريح ومفضل بن فضالة وعمرو بن [ ص: 587 ] الحارث وغير واحد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الله بن الحكم ، عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر ، أنه بعثه أبو عبيدة بريدا بفتح دمشق . قال : فقدمت على عمر يوم الجمعة فقال لي : منذ كم لم تنزع خفيك ؟ فقلت : من يوم الجمعة وهذا يوم الجمعة . فقال : أصبت السنة . قال الليث : وبه نأخذ . يعني أن المسح على الخفين للمسافر لا يتأقت ، بل له أن يمسح عليهما ما شاء ، وإليه ذهب الشافعي في القديم . وقد روى أحمد وأبو داود عن أبي بن عمارة مرفوعا مثل هذا ، والجمهور على ما رواه مسلم عن علي في تأقيت المسح ; للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، وللمقيم يوم وليلة . ومن الناس من فصل بين البريد ومن في معناه وغيره ، فقال في الأول : لا يتأقت . وفيما عداه : يتأقت ; لحديث عقبة وحديث علي . والله أعلم . |
فيما وقع بأرض العراق في هذه المدة من القتال .
قد قدمنا أن المثنى بن حارثة لما سار خالد من العراق بمن صحبه إلى [ ص: 591 ] الشام - وقد قيل : إنه سار بتسعة آلاف . وقيل : بثلاثة آلاف . وقيل : بسبعمائة . وقيل : بأقل . إلا أنهم صناديد جيش العراق - فأقام المثنى بمن بقي ، فاستقل عددهم ، وخاف من سطوة الفرس لولا اشتغالهم بتبديل ملوكهم وملكاتهم ، واستبطأ المثنى خبر الصديق ، فسار إلى المدينة فوجد الصديق في السياق ، فأخبره بأمر العراق ، فأوصى الصديق عمر أن يندب الناس لقتال أهل العراق ، فلما مات الصديق ودفن ليلة الثلاثاء ، أصبح عمر فندب الناس وحثهم على قتال أهل العراق ، وحرضهم ورغبهم في الثواب على ذلك ، فلم يقم أحد ; لأن الناس كانوا يكرهون قتال الفرس ; لقوة سطوتهم ، وشدة قتالهم ، ثم ندبهم في اليوم الثاني والثالث ، فلم يقم أحد وتكلم المثنى بن حارثة فأحسن ، وأخبرهم بما فتح الله تعالى على يدي خالد من معظم أرض العراق ، وما لهم هنالك من الأموال والأملاك والأمتعة والزاد ، فلم يقم أحد في اليوم الثالث ، فلما كان اليوم الرابع كان أول من انتدب من المسلمين أبو عبيدة بن مسعود الثقفي ، ثم تتابع الناس في الإجابة ، وأمر عمر طائفة من أهل المدينة ، وأمر على الجميع أبا عبيد هذا ، ولم يكن صحابيا ، فقيل لعمر : هلا أمرت عليهم رجلا من الصحابة ؟ فقال : إنما أؤمر أول من استجاب ، إنكم إنما سبقتم الناس بنصرة هذا الدين ، وإن هذا هو الذي استجاب قبلكم . ثم دعاه فوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من [ ص: 592 ] المسلمين خيرا ، وأمره أن يستشير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يستشير سليط بن قيس ; فإنه رجل باشر الحروب ، فسار المسلمون إلى أرض العراق ، وهم سبعة آلاف رجل وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرسل من كان بالعراق ممن قدم مع خالد إلى العراق ، فجهز عشرة آلاف ، عليهم هاشم بن عتبة ، وأرسل عمر جرير بن عبد الله البجلي في أربعة آلاف إلى العراق فقدم الكوفة ثم خرج منها فواقع هرقران المدار فقتله وانهزم جيشه ، وغرق أكثرهم في دجلة فلما وصل الناس إلى العراق وجدوا الفرس مضطربين في ملكهم ، وآخر ما استقر عليه أمرهم أن ملكوا عليهم بوران بنت كسرى بعدما قتلوا التي كانت قبلها آزرميدخت ، وفوضت بوران أمر الملك عشر سنين إلى رجل منهم يقال له : رستم بن فرخزاذ . على أن يقوم بأمر الحرب ، ثم يصير الملك إلى آل كسرى ، فقبل ذلك . وكان رستم هذا منجما يعرف النجوم وعلمها جيدا ، فقيل له : ما حملك على هذا ؟ يعنون وأنت تعلم أن هذا الأمر لا يتم لك ، فقال : الطمع وحب الشرف . وقعة النمارق . بعث رستم أميرا يقال له : جابان . وعلى مجنبتيه رجلان يقال لأحدهما : [ ص: 593 ] جشنس ماه . ويقال للآخر : مردان شاه . وهو حصي أمير حاجب الفرس ، فالتقوا مع أبي عبيد بمكان يقال له : النمارق . بين الحيرة والقادسية ، وعلى الخيل المثنى بن حارثة ، وعلى الميسرة عمرو بن الهيثم ، فاقتتلوا هنالك قتالا شديدا ، وهزم الله الفرس ، وأسر جابان ومردان شاه . فأما مردان شاه فإنه قتله الذي أسره ، وأما جابان فإنه خدع الذي أسره حتى أطلقه ، فأمسكه المسلمون وأبوا أن يطلقوه ، وقالوا : إن هذا هو الأمير . وجاءوا به إلى أبي عبيد ، فقالوا : اقتله ، فإنه الأمير . فقال : وإن كان الأمير ، فإني لا أقتله وقد أمنه رجل من المسلمين . ثم ركب أبو عبيد في آثار من انهزم منهم ، وقد لجأوا إلى مدينة كسكر التي لابن خالة كسرى ، واسمه نرسي ، فوازرهم نرسي على قتال أبي عبيد ، فقهرهم أبو عبيد ، وغنم منهم شيئا كثيرا وأطعمات كثيرة جدا ، ولله الحمد . وبعث بخمس ما غنم من المال والطعام إلى عمر بن الخطاب بالمدينة ، وقد قال في ذلك رجل من المسلمين : لعمري وما عمري علي بهين لقد صبحت بالخزي أهل النمارق بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم [ ص: 594 ] فالتقوا بمكان بين كسكر والسقاطية ، وعلى ميمنة نرسي وميسرته ابنا خاله بندويه وتيرويه أولاد بسطام ، وكان رستم قد جهز الجيوش مع الجالنوس ، فلما بلغ أبو عبيد ذلك أعجل نرسي بالقتال قبل وصولهم ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزمت الفرس وهرب نرسي والجالنوس إلى المدائن بعد وقعة جرت من أبي عبيد مع الجالنوس بمكان يقال له : باروسما . فبعث أبو عبيد المثنى بن حارثة وسرايا أخر إلى ما تاخم تلك الناحية كنهر جوبر ونحوها ، ففتحها صلحا وقهرا ، وضربوا الجزية والخراج ، وغنموا الأموال الجزيلة ، ولله الحمد والمنة ، وكسروا الجالنوس الذي جاء لنصرة جابان ، وغنموا جيشه وأمواله ، وكر هاربا إلى قومه حقيرا ذليلا . يجوسونهم ما بين درتا وبارق قتلناهم ما بين مرج مسلح وبين الهوافي من طريق البذارق وقعة جسر أبي عبيد التي قتل فيها أمير المسلمين وخلق كثير منهم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون لما رجع الجالنوس هاربا مما لقي من المسلمين تذامرت الفرس بينهم واجتمعوا إلى رستم ، فأرسل جيشا كثيفا عليهم ذو الحاجب بهمن جاذويه ، وأعطاه [ ص: 595 ] راية أفريدون ، وتسمى درفش كابيان ، وكانت الفرس تتيمن بها ، وحملوا معهم راية كسرى ، وكانت من جلود النمور ، عرضها ثمانية أذرع ، فوصلوا إلى المسلمين وبينهم النهر ، وعليه جسر ، فأرسلوا : إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم . فقال المسلمون لأميرهم أبي عبيد : مرهم فليعبروا هم إلينا . فقال : ما هم بأجرأ على الموت منا . ثم اقتحم إليهم ، فاجتمعوا في مكان ضيق فالتقوا هنالك ، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله ، والمسلمون في نحو من عشرة آلاف ، وقد جاءت الفرس معهم بأفيلة كثيرة ، عليها الجلاجل والنخل قائمة لتذعر خيول المسلمين ، فجعلوا كلما حملوا على المسلمين فرت خيولهم من الفيلة ، ومما تسمع من الجلاجل التي عليها ، ولا يثبت منها إلا القليل على قسر ، وإذا حمل المسلمون عليهم لا تقدم خيولهم على الفيلة ، ورشقتهم الفرس بالنبل ، فنالوا منهم خلقا كثيرا ، وقتل المسلمون منهم مع ذلك ستة آلاف ، وأمر أبو عبيد المسلمين أن يقتلوا الفيلة أولا ، فاحتوشوها فقتلوها عن آخرها ، وقد قدمت الفرس بين أيديهم فيلا عظيما أبيض ، فتقدم إليه أبو عبيد فضربه بالسيف فقطع زلومه ، فحمي الفيل وصاح صيحة هائلة وحمل عليه ، فتخبطه برجله فقتله ووقف فوقه ، فحمل على الفيل خليفة أبي عبيد الذي كان أوصى أن يكون أميرا بعده فقتل ، ثم آخر ، ثم آخر ، حتى قتل سبعة من ثقيف كان قد نص أبو عبيد عليهم واحدا بعد واحد ، ثم صارت إلى المثنى بن حارثة بمقتضى الوصية أيضا ، وقد كانت دومة امرأة أبي عبيد رأت مناما يدل على ما وقع سواء بسواء ، فلما رأى المسلمون ذلك [ ص: 596 ] وهنوا عند ذلك ، ولم يكن بقي إلا الظفر بالفرس ، وضعف أمرهم ، وذهبت ريحهم ، وولوا مدبرين ، وساقت الفرس خلفهم يقتلون بشرا كثيرا ، وانكشف الناس ، فكان أمرا بليغا ، وجاءوا إلى الجسر ، فمر بعض الناس ، ثم انكسر الجسر ، فتحكم فيمن وراءه الفرس ، فقتلوا من المسلمين ، وغرق في الفرات نحو من أربعة آلاف . فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وسار المثنى بن حارثة ، فوقف عند الجسر الذي جاءوا منه ، وكان الناس لما انهزموا جعل بعضهم يلقي بنفسه في الفرات فيغرق ، فنادى المثنى : أيها الناس ، على هينتكم ، فإني واقف على فم الجسر لا أجوزه حتى لا يبقى منكم أحد ها هنا . فلما عدى الناس إلى الناحية الأخرى سار المثنى فنزل بهم أول منزل ، وقام يحرسهم هو وشجعان المسلمين ، وقد جرح أكثرهم وأثخنوا ، ومن الناس من ذهب في البرية لا يدرى أين ذهب ، ومنهم من رجع إلى المدينة النبوية مذعورا ، وذهب بالخبر عبد الله بن زيد بن عاصم المازني إلى عمر بن الخطاب ، فوجده على المنبر ، فقال له عمر : ما وراءك يا عبد الله بن زيد ؟ فقال : أتاك الخبر اليقين يا أمير المؤمنين . ثم صعد إليه المنبر فأخبره الخبر سرا ، ويقال : كان أول من قدم بخبر الناس عبد الله بن يزيد بن الحصين الخطمي . فالله أعلم - قال سيف بن عمر : وكانت هذه الوقعة في شعبان من سنة ثلاث عشرة بعد اليرموك بأربعين يوما . فالله أعلم - وتراجع المسلمون بعضهم إلى بعض ، وكان منهم من فر إلى المدينة ، فلم يؤنب عمر الناس ، بل قال : أنا فئتكم . وأشغل الله المجوس بأمر ملكهم ; وذلك أن أهل المدائن عدوا على رستم فخلعوه ، ثم ولوه ، وأضافوا إليه الفيرزان ، واختلفوا على فرقتين ، [ ص: 597 ] فركب الفرس إلى المدائن ، ولحقهم المثنى بن حارثة في نفر من المسلمين ، فعارضه أميران من أمرائهم في جيشهم ، فأسرهما وأسر معهما بشرا كثيرا ، فضرب أعناقهم ، ثم أرسل المثنى إلى من بالعراق من أمراء المسلمين يستمدهم ، فبعثوا إليه بالأمداد ، وبعث إليه عمر بن الخطاب بمدد كثير ، فيهم جرير بن عبد الله البجلي في قومه بجيلة بكمالها ، وغيره من سادات المسلمين ، حتى كثر جيشه . |
وقعة البويب التي اقتص فيها المسلمون من الفرس
فلما سمع أمراء الفرس بكثرة جيوش المثنى ، بعثوا إليه جيشا آخر مع رجل يقال له : مهران . فتوافوا هم وإياهم بمكان يقال له : البويب . قريب من مكان الكوفة اليوم ، وبينهما الفرات ، فقالوا : إما أن تعبروا إلينا أو نعبر إليكم . فقال المسلمون : بل اعبروا إلينا . فعبرت الفرس إليهم فتواقفوا ، وذلك في شهر رمضان ، فعزم المثنى على المسلمين في الفطر ، فأفطروا عن آخرهم ليكون أقوى لهم ، وعبى الجيش ، وجعل يمر على كل راية من رايات الأمراء على القبائل ويعظهم ويحثهم على الجهاد والصبر والصمت والثبات ، وفي القوم جرير بن عبد الله البجلي في بجيلة ، وجماعة من سادات المسلمين ، وقال المثنى لهم : إني مكبر ثلاث تكبيرات فتهيئوا ، فإذا كبرت الرابعة فاحملوا . فقابلوا قوله بالسمع والطاعة والقبول . فلما كبر أول تكبيرة عاجلتهم الفرس فحملوا حتى [ ص: 598 ] غالقوهم ، واقتتلوا قتالا شديدا ، وركدت الحرب ، ورأى المثنى في بعض صفوفه خللا ، فبعث إليهم رجلا يقول : الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لكم : لا تفضحوا المسلمين اليوم . فاعتدلوا ، فلما رأى ذلك منهم - وهم بنو عجل - أعجبه وضحك ، وبعث إليهم يقول : يا معشر المسلمين ، عاداتكم ، انصروا الله ينصركم . وجعل المثنى والمسلمون يدعون الله بالظفر والنصر ، فلما طالت مدة الحرب جمع المثنى جماعة من أصحابه الأبطال يحمون ظهره ، وحمل على مهران فأزاله عن موضعه حتى دخل الميمنة ، وحمل غلام من بني تغلب نصراني فقتل مهران وركب فرسه . كذا ذكره سيف بن عمر . وقال محمد بن إسحاق : بل حمل عليه المنذر بن حسان بن ضرار الضبي فطعنه ، واحتز رأسه جرير بن عبد الله البجلي ، واختصما في سلبه ، فأخذ جرير السلاح ، وأخذ المنذر منطقته ، وهربت المجوس وركب المسلمون أكتافهم يقصلونهم قصلا ، وسبق المثنى بن حارثة إلى الجسر فوقف عليه ليمنع الفرس من الجواز عليه ليتمكن منهم المسلمون ، فركبوا أكتافهم بقية ذلك اليوم وتلك الليلة ، ومن الغد إلى الليل ، فيقال : إنه قتل منهم يومئذ وغرق قريب من مائة ألف . ولله الحمد والمنة . وغنم المسلمون مالا جزيلا وطعاما كثيرا ، وبعثوا بالبشارة والأخماس إلى عمر ، رضي الله عنه . وقد قتل من سادات المسلمين في [ ص: 599 ] هذا اليوم بشر كثير أيضا ، وذلت لهذه الوقعة رقاب الفرس ، وتمكن الصحابة من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة ، فغنموا شيئا عظيما لا يمكن حصره ، وجرت أمور يطول ذكرها بعد يوم البويب ، وكانت هذه الوقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام . وقد قال الأعور الشني العبدي في ذلك : هاجت لأعور دار الحي أحزانا واستبدلت بعد عبد القيس خفانا وقد أرانا بها والشمل مجتمع إذ بالنخيلة قتلى جند مهرانا إذ كان سار المثنى بالخيول لهم فقتل الزحف من فرس وجيلانا سما لمهران والجيش الذي معه حتى أبادهم مثنى ووحدانا |
بعث عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص على العراق .
ثم بعث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص الزهري أحد العشرة ، في ستة آلاف أميرا على العراق ، وكتب إلى جرير بن عبد الله والمثنى بن حارثة أن يكونا تبعا له ، وأن يسمعا له ويطيعا ، فلما وصل إلى العراق كانا معه ، وكانا قد تنازعا الإمرة ، فالمثنى يقول لجرير : إنما بعثك أمير المؤمنين مددا لي . ويقول جرير : إنما بعثني أميرا عليك . فلما قدم سعد على إمرة العراق انقطع نزاعهما . قال ابن إسحاق : وتوفي المثنى بن حارثة في هذه السنة . كذا قال ابن إسحاق . والصحيح أن بعث عمر سعدا إنما كان في أول سنة أربع عشرة كما سيأتي . ذكر اجتماع الفرس على يزدجرد بعد اختلافهم واضطرابهم ثم اجتمعت كلمتهم . كان شيرين قد جمع آل كسرى في القصر الأبيض ، وأمر بقتل ذكرانهم كلهم ، وكانت أم يزدجرد فيهم ومعها ابنها وهو صغير ، فواعدت أخواله ، فجاءوا فأخذوه منها وذهبوا إلى بلادهم ، فلما وقع ما وقع يوم البويب وقتل من قتل منهم كما ذكرنا ، وركب المسلمون أكتافهم وانتصروا عليهم وعلى أخذ بلدانهم ومحالهم وأقاليمهم ، ثم سمعوا بقدوم سعد بن أبي وقاص من جهة عمر ، اجتمعوا فيما بينهم وأحضروا الأميرين الكبيرين فيهم ، وهما رستم والفيرزان ، فتذامروا فيما بينهم وتواصوا ، وقالوا لهما : لئن لم تقوما بالحرب كما ينبغي لنقتلنكما ونشتفي بكما . ثم رأوا فيما بينهم أن يبعثوا خلف نساء كسرى من كل فج ومن كل بقعة ، فمن كان لها ولد من آل كسرى ملكوه عليهم ، فجعلوا إذا أتوا بالمرأة عاقبوها : هل لها ولد ، وهي تنكر ذلك خوفا على ولدها إن كان لها ولد ، فلم يزالوا حتى دلوا على أم يزدجرد ، فأحضروها وأحضروا ولدها فملكوه عليهم ، وهو ابن إحدى وعشرين سنة ، وهو من ولد شهريار بن كسرى ، وعزلوا بوران ، واستوسقت الممالك له ، واجتمعوا عليه وفرحوا به ، وقاموا بين يديه بالنصر أتم قيام ، واستفحل أمره فيهم ، وقويت شوكتهم به ، وبعثوا إلى الأقاليم والرساتيق ، فخلعوا الطاعة للصحابة ونقضوا عهودهم [ ص: 601 ] وذممهم ، وبعث الصحابة إلى عمر بالخبر ، فأمرهم عمر أن يتبرزوا من بين ظهرانيهم وليكونوا على أطراف البلاد حولهم على المياه ، وأن تكون كل قبيلة تنظر إلى الأخرى بحيث إذا حدث حدث على قبيلة لا يخفى أمرها على جيرانهم . وتفاقم الحال جدا ، وذلك في ذي القعدة من سنة ثلاث عشرة . وقد حج بالناس عمر في هذه السنة . وقيل : بل حج بهم عبد الرحمن بن عوف ولم يحج عمر هذه السنة . والله أعلم . ذكر ما وقع في هذه السنة أعني سنة ثلاث عشرة من الحوادث إجمالا ، ومن توفي فيها من الأعيان . كانت فيها وقائع تقدم تفصيلها ببلاد العراق على يدي خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ; فتحت فيها الحيرة والأنبار وغيرهما من الأمصار ، وفيها سار خالد بن الوليد من العراق إلى الشام ، على المشهور . وفيها كانت وقعة اليرموك في قول سيف بن عمر واختيار ابن جرير ، ، وقتل بها من قتل من الأعيان ممن يطول ذكرهم وتراجمهم ، رضي الله عنهم أجمعين . وفيها توفي أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، وقد أفردنا سيرته في مجلد ، ولله الحمد . [ ص: 602 ] وفيها ولي عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة منها ، فولى قضاء المدينة علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، واستناب على الشام أبا عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري ، وعزل عنها خالد بن الوليد المخزومي ، وأبقاه على شورى الحرب . وفيها فتحت بصرى صلحا ، وهي أول مدينة فتحت من الشام . وفيها فتحت دمشق في قول سيف وغيره ، كما قدمنا . واستنيب فيها يزيد بن أبي سفيان ، فهو أول من وليها من أمراء المسلمين ، رضي الله عنهم . وفيها كانت وقعة فحل من أرض الغور وقتل بها جماعة من الصحابة وغيرهم . وفيها كانت وقعة جسر أبي عبيد ، فقتل فيها أربعة آلاف من المسلمين ; منهم أميرهم أبو عبيد بن مسعود الثقفي ، وهو والد صفية امرأة عبد الله بن عمر ، وكانت امرأة صالحة ، رحمهما الله ، ووالد المختار بن أبي عبيد كذاب ثقيف ، وقد كان نائبا على العراق في بعض وقعات العراق كما سيأتي . وفيها توفي المثنى بن حارثة في قول ابن إسحاق ، وقد كان نائبا على العراق ; استخلفه خالد بن الوليد حين سار إلى الشام ، وقد شهد مواقف مشهورة ، وله أيام مذكورة ، ولا سيما يوم البويب بعد جسر أبي عبيد ، قتل فيه من الفرس وغرق بالفرات قريب من مائة ألف ، والذي عليه الجمهور أنه بقي إلى سنة أربع عشرة ، كما سيأتي بيانه . [ ص: 603 ] وفيها حج بالناس عمر بن الخطاب في قول بعضهم ، وقيل : بل حج عبد الرحمن بن عوف . وفيها استنفر عمر قبائل العرب لغزو العراق والشام ، فأقبلوا من كل النواحي ، فرمى بهم الشام والعراق . وفيها كانت وقعة أجنادين في قول ابن إسحاق يوم السبت لثلاث بقين من جمادى الأولى منها ، وكذا عند الواقدي ، فيما بين الرملة وبيت جبرين ، وعلى الروم القيقلان ، وأمير المسلمين عمرو بن العاص ، وهو في عشرين ألفا في قول ، فقتل القيقلان وانهزمت الروم ، وقتل منهم خلق كثير ، واستشهد من المسلمين أيضا جماعة ; منهم هشام بن العاص والفضل بن العباس ، وأبان بن سعيد وأخواه خالد وعمرو ، ونعيم بن عبد الله بن النحام ، والطفيل بن عمرو وعبد الله بن عمرو الدوسيان ، وضرار بن الأزور ، وعكرمة بن أبي جهل ، وعمه سلمة بن هشام ، وهبار بن سفيان ، وصخر بن نصر ، وتميم وسعيد ابنا الحارث بن قيس ، رضي الله عنهم . وقال محمد بن سعد : قتل يومئذ طليب بن عمير وأمه أروى بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وممن قتل يومئذ عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب ، وكان عمره يومئذ ثلاثين سنة ، فيما ذكره الواقدي ، قال : ولم يكن [ ص: 604 ] له رواية . وكان ممن صبر يوم حنين . قال ابن جرير : وقتل يومئذ عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، والحارث بن أوس بن عتيك ، رضي الله عنهم . وفيها كانت وقعة مرج الصفر في قول خليفة بن خياط ، وذلك لثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى ، وأمير الناس خالد بن سعيد بن العاص ، فقتل يومئذ ، وقيل : إنما قتل أخوه عمرو . وقيل : ابنه . فالله أعلم . قال ابن إسحاق وكان أمير الروم قلقط ، فقتل من الروم مقتلة عظيمة حتى جرت طاحون هناك من دمائهم . والصحيح أن وقعة مرج الصفر في أول سنة أربع عشرة كما سيأتي . |
ذكر المتوفين في هذه السنة مرتبين على الحروف كما ذكرهم شيخنا الحافظ الذهبي في تاريخه :
أبان بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي أبو الوليد المكي ، صحابي [ ص: 605 ] جليل ، وهو الذي أجار عثمان بن عفان يوم الحديبية حتى دخل مكة لأداء رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أسلم بعد مرجع أخويه من الحبشة ; خالد وعمرو ، فدعواه إلى الإسلام فأجابهما ، وساروا فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر ، وقد استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع على البحرين وقتل بأجنادين . أنسة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم : المشهور أنه قتل ببدر فيما ذكره البخاري وغيره . وزعم الواقدي فيما نقله عن أهل العلم أنه شهد أحدا ، وأنه بقي بعد ذلك زمانا قال : وحدثني ابن أبي الزناد عن محمد بن يوسف ، أن أنسة مات في خلافة أبي بكر الصديق ، وكان يكنى أبا مسروح . وقال الزهري : كان يأذن للناس على النبي صلى الله عليه وسلم . تميم بن الحارث بن قيس السهمي وأخوه سعيد ; صحابيان جليلان هاجرا إلى الحبشة ، وقتلا بأجنادين . الحارث بن أوس بن عتيك ، من مهاجرة الحبشة ، قتل بأجنادين . [ ص: 606 ] خالد بن سعيد بن العاص الأموي ، من السابقين الأولين ، ممن هاجر إلى الحبشة ، وأقام بها بضع عشرة سنة ، ويقال : إنه كان على صنعاء من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمره الصديق على بعض الفتوحات كما تقدم ، قتل يوم مرج الصفر في قول ، وقيل : بل هرب فلم يمكنه الصديق من دخول المدينة تعزيرا له ، فأقام شهرا في بعض ظواهرها حتى أذن له . ويقال : إن الذي قتله أسلم ، وقال : رأيت له حين قتلته نورا ساطعا إلى السماء ، رضي الله عنه . سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي حزيمة - ويقال : حارثة بن حرام بن حزيمة - بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج ، الأنصاري الخزرجي سيدهم ، أبو ثابت ويقال : أبو قيس . صحابي جليل ، كان أحد النقباء ليلة العقبة ، وشهد بدرا في قول عروة وموسى بن عقبة والبخاري وابن ماكولا . وروى ابن عساكر من طريق حجاج بن أرطاة ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس أن راية المهاجرين يوم بدر كانت مع علي ، وراية الأنصار كانت مع سعد بن عبادة ، رضي الله عنهما . قلت : والمشهور أن هذا كان يوم الفتح . والله أعلم . [ ص: 607 ] وقال الواقدي : لم يشهدها ; لأنه نهسته حية ، فشغلته عنها بعد أن تجهز لها ، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره ، وشهد أحدا وما بعدها . وكذا قال خليفة بن خياط . وكانت له جفنة تدور مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث دار من بيوت نسائه بلحم وثريد ، أو لبن وخبز ، أو خبز وسمن ، أو بخل وزيت ، وكان ينادي عند أطمه كل ليلة لمن أراد القرى ، وكان يحسن الكتابة بالعربي والرمي والسباحة ، وكان يسمى من أحسن ذلك كاملا ، وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر ما ذكره غير واحد من علماء التاريخ أنه تخلف عن بيعة الصديق حتى خرج إلى الشام . فمات بقرية من حوران سنة ثلاث عشرة في خلافة الصديق . قاله ابن إسحاق والمدائني وخليفة . قال : وقيل : في أول خلافة عمر . وقيل : سنة أربع عشرة . وقيل : سنة خمس عشرة . وقال الفلاس وابن بكير : سنة ست عشرة . قلت : أما بيعة الصديق ، فقد روينا في " مسند الإمام أحمد " أنه سلم للصديق ما قاله من أن الخلفاء من قريش . وأما موته بأرض الشام فمحقق ، والمشهور أنه بحوران . [ ص: 608 ] قال محمد بن عائذ الدمشقي ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن عبد العزيز ، أنه قال : أول مدينة فتحت من الشام بصرى ، وبها توفي سعد بن عبادة . وعند كثير من أهل زماننا أنه دفن بقرية من غوطة دمشق يقال لها : المنيحة . وبها قبر مشهور به . ولم أر الحافظ ابن عساكر تعرض لذكر هذا القبر في ترجمته بالكلية . فالله أعلم . قال ابن عبد البر : ولم يختلفوا أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده ، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول : . قتلنا سيد الخزر ج سعد بن عباده رميناه بسهمين قال ابن جريج : سمعت عطاء يقول : سمعت أن الجن قالوا في سعد بن عبادة هذين البيتين . فلم نخط فؤاده له عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث ، وكان ، رضي الله عنه ، من أشد الناس غيرة ، ما تزوج امرأة إلا بكرا ، ولا طلق امرأة فتجاسر أحد أن يخطبها بعده . وقد روي أنه لما خرج من المدينة قسم ماله بين بنيه ، فلما توفي ولد له ولد ، فجاء أبو بكر وعمر إلى ابنه قيس بن سعد ، فأمراه أن يدخل هذا معهم ، فقال : إني لا أغير ما صنع سعد ، ولكن نصيبي لهذا الولد . [ ص: 609 ] سلمة بن هشام بن المغيرة . أخو أبي جهل بن هشام ، أسلم سلمة قديما وهاجر إلى الحبشة ، فلما رجع منها حبسه أخوه وأجاعه ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت ولجماعة معه من المستضعفين . ثم انسل فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد الخندق ، وكان معه بها ، وقد شهد أجنادين وقتل بها ، رضي الله عنه . ضرار بن الأزور الأسدي ، كان من الفرسان المشهورين ، والأبطال المذكورين ، له مواقف مشهودة ، وأحوال محمودة . ذكر عروة وموسى بن عقبة أنه قتل بأجنادين . له حديث في استحباب إبقاء شيء من اللبن في الضرع عند الحلب . طليب بن عمير بن وهب بن كثير بن عبد بن قصي القرشي العبدي ، أمه أروى بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم ، أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية ، وشهد بدرا . قاله ابن إسحاق والواقدي والزبير بن بكار . ويقال : إنه أول من ضرب مشركا . وذلك أن أبا جهل سب النبي صلى الله عليه وسلم فضربه طليب بلحي جمل فشجه . استشهد طليب بأجنادين وقد شاخ ، رضي الله عنه . عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي ، ابن عم [ ص: 610 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، كان من الأبطال المذكورين والشجعان المشهورين ، قتل يوم أجنادين بعدما قتل عشرة من الروم مبارزة ، كلهم بطارقة أبطال . وله من العمر يومئذ بضع وثلاثون سنة . عبد الله بن عمرو الدوسي ، قتل بأجنادين . وليس هذا الرجل معروفا . عثمان بن طلحة العبدري الحجبي ، قيل : إنه قتل بأجنادين . والصحيح أنه تأخر إلى ما بعد الأربعين . عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية الأموي . أبو عبد الرحمن ، أمير مكة نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استعمله عليها عام الفتح وله من العمر عشرون سنة ، فحج بالناس عامئذ ، واستنابه عليها أبو بكر بعده عليه الصلاة والسلام ، وكانت وفاته بمكة ، قيل : يوم توفي أبو بكر . رضي الله عنهما . له حديث واحد . رواه أهل السنن الأربعة . عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، أبو عثمان القرشي المخزومي ، كان من سادات الجاهلية كأبيه ، ثم أسلم عام الفتح بعدما فر ، ثم رجع إلى الحق ، واستعمله الصديق على عمان حين ارتدوا ، فظفر بهم ، كما تقدم ، ثم قدم الشام وكان أميرا على بعض الكراديس ، [ ص: 611 ] ويقال : إنه لا يعرف له ذنب بعدما أسلم . وكان يقبل المصحف ويبكي ويقول : كلام ربي كلام ربي . احتج بهذا الإمام أحمد على جواز تقبيل المصحف ومشروعيته . وقال الشافعي : كان عكرمة محمود البلاء في الإسلام . قال عروة : قتل بأجنادين . وقال غيره : باليرموك بعدما وجد به بضع وسبعون ما بين ضربة وطعنة . رضي الله عنه . الفضل بن العباس بن عبد المطلب ، قيل : إنه توفي في هذه السنة . والصحيح أنه تأخر إلى سنة ثماني عشرة . نعيم بن عبد الله النحام ، أحد بني عدي ، أسلم قديما قبل عمر ، ولم يتهيأ له هجرة إلى ما بعد الحديبية ; وذلك لأنه كان فيه بر بأقاربه ، فقالت له قريش : أقم عندنا على أي دين شئت ، فوالله لا يتعرضك أحد إلا ذهبت أنفسنا دونك . استشهد يوم أجنادين ، وقيل : يوم اليرموك . رضي الله عنه . هبار بن الأسود بن أسد . أبو الأسود القرشي الأسدي ، هذا الرجل كان قد طعن راحلة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم يوم خرجت من مكة حتى أسقطت ، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه ، وقتل بأجنادين ، رضي الله عنه . [ ص: 612 ] هبار بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي . ابن أخي أبي سلمة . أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة ، واستشهد يوم أجنادين على الصحيح ، وقيل : قتل يوم مؤتة . والله أعلم . هشام بن العاص بن وائل السهمي ، أخو عمرو بن العاص ، روى الترمذي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ابنا العاص مؤمنان . وقد أسلم هشام قبل عمرو . ، وهاجر إلى الحبشة ، فلما رجع منها احتبس بمكة ، ثم هاجر بعد الخندق ، وقد أرسله الصديق إلى ملك الروم ، وكان من الفرسان . وقتل بأجنادين ، وقيل : باليرموك . والأول أصح . والله أعلم . أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، تقدم ، وله ترجمة مفردة ، ولله الحمد . |
ثم دخلت سنة ثماني عشرة
المشهور الذي عليه الجمهور أن طاعون عمواس كان بها ، وقد تبعنا قول سيف بن عمر ، و ابن جرير في إيراده ذلك في السنة التي قبلها ، لكنا نذكر وفاة من مات في الطاعون في هذه السنة ، إن شاء الله تعالى . قال ابن إسحاق ، وأبو معشر : كان في هذه السنة طاعون عمواس وعام الرمادة ، فتفانى فيها الناس . قلت : كان في عام الرمادة جدب عم أرض الحجاز ، وجاع الناس جوعا شديدا ، وقد بسطنا القول في ذلك في " سيرة عمر " . وسميت عام الرمادة لأن الأرض اسودت من قلة المطر ، حتى عاد لونها شبيها بالرماد . وقيل : لأنها كانت تسفي الريح ترابا كالرماد . ويمكن أن تكون سميت لكل منهما ، والله أعلم . وقد أجدب الناس في هذه السنة بأرض الحجاز ، وجفلت الأحياء إلى المدينة ولم يبق عند أحد منهم زاد ، فلجئوا إلى أمير المؤمنين فأنفق فيهم من حواصل بيت المال مما فيه من الأطعمة والأموال حتى أنفده ، وألزم نفسه أن لا يأكل سمنا ولا [ ص: 69 ] سمينا حتى يكشف ما بالناس ، فكان في زمن الخصب يبس له الخبز باللبن والسمن ، ثم كان عام الرمادة يبس له بالزيت والخل ، وكان يستمرئ الزيت ، وكان لا يشبع مع ذلك ، فاسود لون عمر ، رضي الله عنه ، وتغير جسمه حتى كاد يخشى عليه من الضعف . واستمر هذا الحال في الناس تسعة أشهر ، ثم تحول الحال إلى الخصب والدعة ، وانشمر الناس عن المدينة إلى أماكنهم . قال الشافعي : بلغني أن رجلا من العرب قال لعمر حين ترحل الأحياء عن المدينة : لقد انجلت عنك وإنك لابن حرة . أي : واسيت الناس وأنصفتهم وأحسنت إليهم . وقد روينا أن عمر عس المدينة ذات ليلة في عام الرمادة فلم يجد أحدا يضحك ، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة ، ولم يجد سائلا يسأل ، فسأل عن سبب ذلك ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ، إن السؤال سألوا فلم يعطوا فقطعوا السؤال ، والناس في هم وضيق ، فهم لا يتحدثون ولا يضحكون . فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة : أن يا غوثاه لأمة محمد . وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر : أن يا غوثاه لأمة محمد . فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البر وسائر الأطعمات ، ووصلت ميرة عمرو في البحر إلى جدة ومن جدة إلى مكة . وهذا الأثر جيد الإسناد ، لكن ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة مشكل ؛ فإن مصر لم تكن فتحت في سنة ثماني عشرة ، فإما أن يكون عام الرمادة بعد سنة ثماني عشرة ، أو يكون ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة وهما ، والله أعلم . [ ص: 70 ] وذكر سيف عن شيوخه ، أن أبا عبيدة قدم المدينة ومعه أربعة آلاف راحلة تحمل طعاما ، فأمره عمر بتفرقتها في الأحياء حول المدينة فلما فرغ من ذلك أمر له عمر بأربعة آلاف درهم ، فأبى أن يقبلها ، فألح عليه عمر حتى قبلها . وذكر ابن جرير في هذه السنة من طريق سيف بن عمر ، عن أبي المجالد ، والربيع ، وأبي عثمان وأبي حارثة ، وعن عبد الله بن شبرمة ، عن الشعبي ، قالوا : كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب : إن نفرا من المسلمين أصابوا الشراب - منهم ضرار وأبو جندل بن سهيل - فسألناهم فقالوا : خيرنا فاخترنا ؛ قال : فهل أنتم منتهون [ المائدة : 91 ] . ولم يعزم علينا . فجمع عمر الناس فأجمعوا على خلافهم ، وأن المعنى في قوله : فهل أنتم منتهون أي : انتهوا . وأجمعوا على جلدهم ثمانين ثمانين ، وأن من تأول هذا التأويل وأصر عليه يقتل . فكتب عمر إلى أبي عبيدة ؛ أن ادعهم فسلهم عن الخمر ؛ فإن قالوا : هي حلال . فاقتلهم ، وإن قالوا : هي حرام . فاجلدهم . فاعترف القوم بتحريمها ، فجلدوا الحد وندموا على ما كان منهم من اللجاجة فيما تأولوه ، حتى وسوس أبو جندل في نفسه ، فكتب أبو عبيدة إلى عمر في [ ص: 71 ] ذلك ، وسأله أن يكتب إلى أبي جندل ويذكره ، فكتب إليه عمر بن الخطاب في ذلك : من عمر إلى أبي جندل ، إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 48 ] . فتب وارفع رأسك وابرز ولا تقنط ، فإن الله تعالى يقول قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم [ الزمر : 53 ] . وكتب عمر إلى الناس أن عليكم أنفسكم ، ومن غير فغيروا عليه ، ولا تعيروا أحدا فيفشو فيكم البلاء . وقد قال أبو الزهراء القشيري في ذلك : ألم تر أن الدهر يعثر بالفتى وليس على صرف المنون بقادر صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي قال سيف بن عمرو ، عن سهل بن يوسف السلمي ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، قال : كان عام الرمادة في آخر سنة سبع عشرة ، وأول سنة ثماني عشرة ، أصاب أهل المدينة وما حولها جوع فهلك كثير من الناس ، حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس . فكان الناس كذلك وعمر كالمحصور عن [ ص: 72 ] أهل الأمصار ، حتى أقبل بلال بن الحارث المزني فاستأذن على عمر ، فقال : أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك ، يقول لك رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، : " لقد عهدتك كيسا ، وما زلت على ذلك ، فما شأنك ؟ " . قال : متى رأيت هذا ؟ قال : البارحة . فخرج فنادى في الناس : الصلاة جامعة . فصلى بهم ركعتين ، ثم قام فقال : أيها الناس أنشدكم الله هل تعلمون مني أمرا غيره خيرا منه ؟ قالوا : اللهم لا . فقال : إن بلال بن الحارث يزعم ذيت وذيت . فقالوا : صدق بلال ، فاستغث بالله ثم بالمسلمين . فبعث إليهم - وكان عمر عن ذلك محصورا - فقال عمر : الله أكبر ، بلغ البلاء مدته فانكشف ، ما أذن لقوم في الطلب إلا وقد رفع عنهم البلاء . وكتب إلى أمراء الأمصار أن أعينوا أهل المدينة ومن حولها ، فإنه قد بلغ جهدهم . وأخرج الناس إلى الاستسقاء ، فخرج وخرج معه العباس بن عبد المطلب ماشيا ، فخطب وأوجز وصلى ، ثم جثى لركبتيه وقال : اللهم إياك نعبد وإياك نستعين ، اللهم اغفر لنا وارحمنا وارض عنا . ثم انصرف فما بلغوا المنازل راجعين حتى خاضوا الغدران . ولست عن الصهباء يوما بصابر رماها أمير المؤمنين بحتفها فخلانها يبكون حول المعاصر ثم روى سيف ، عن مبشر بن الفضيل ، عن جبير بن صخر ، عن [ ص: 73 ] عاصم بن عمر بن الخطاب ، أن رجلا من مزينة عام الرمادة سأله أهله أن يذبح لهم شاة ، فقال : ليس فيهن شيء . فألحوا عليه فذبح شاة ، فإذا عظامها حمر ، فقال : يا محمداه . فلما أمسى أري في المنام أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول له : " أبشر بالحيا ، ائت عمر فأقرئه مني السلام وقل له : إن عهدي بك وفي العهد ، شديد العقد ، فالكيس الكيس يا عمر " . فجاء حتى أتى باب عمر فقال لغلامه : استأذن لرسول رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، . فأتى عمر فأخبره ففزع ، ثم صعد عمر المنبر فقال للناس : أنشدكم بالذي هداكم للإسلام ، هل رأيتم مني شيئا تكرهونه ؟ فقالوا : اللهم لا ، وعم ذاك ؟ فأخبرهم بقول المزني - وهو بلال بن الحارث - ففطنوا ولم يفطن . فقالوا : إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا . فنادى في الناس ، فخطب فأوجز ، ثم صلى ركعتين فأوجز ، ثم قال : اللهم عجزت عنا أنصارنا ، وعجز عنا حولنا وقوتنا ، وعجزت عنا أنفسنا ، ولا حول ولا قوة إلا بك ، اللهم فاسقنا وأحي العباد والبلاد . وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو نصر بن قتادة وأبو بكر الفارسي قالا : حدثنا أبو عمرو بن مطر ، حدثنا إبراهيم بن علي الذهلي ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن مالك قال : أصاب الناس قحط في زمان عمر بن الخطاب ، فجاء رجل إلى قبر النبي [ ص: 74 ] ، صلى الله عليه وسلم ، ، فقال : يا رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا . فأتاه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في المنام ، فقال : " ائت عمر فأقرئه مني السلام وأخبره أنكم مسقون ، وقل له عليك الكيس الكيس " . فأتى الرجل فأخبر عمر فقال : يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه . وهذا إسناد صحيح . وقال الطبراني : حدثنا أبو مسلم الكشي ، ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، ثنا أبي ، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس ، عن أنس أن عمر ، رضي الله عنه ، خرج يستسقي وخرج بالعباس معه يستسقي ، فيقول : اللهم إنا كنا إذا قحطنا على عهد نبينا توسلنا إليك بنبينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا ، صلى الله عليه وسلم ، . وقد رواه البخاري ، عن الحسن بن محمد ، عن محمد بن عبد الله الأنصاري ، به ، ولفظه : عن أنس ، أن عمر كان إذا قحطوا يستسقي بالعباس بن عبد المطلب ، فيقول : اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا . قال : فيسقون . وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في " كتاب المطر " ، وفي كتاب " مجابي الدعوة " : حدثنا أبو بكر الشيباني ، ثنا عطاء بن [ ص: 75 ] مسلم عن العمري ، عن خوات بن جبير ، قال : خرج عمر يستسقي بهم فصلى ركعتين ، فقال : اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك . فما برح من مكانه حتى مطروا ، فقدم أعراب فقالوا : يا أمير المؤمنين بينا نحن بوادينا في ساعة كذا إذ أظلتنا غمامة فسمعنا منها صوتا : أتاك الغوث أبا حفص ، أتاك الغوث أبا حفص . وقال ابن أبي الدنيا ثنا إسحاق بن إسماعيل ، ثنا سفيان ، عن مطرف بن طريف ، عن الشعبي قال : خرج عمر يستسقي بالناس فما زاد على الاستغفار حتى رجع ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، ما نراك استسقيت . فقال : لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر ، ثم قرأ : استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ثم قرأ : وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه [ هود : 3 ] . قال الواقدي ، وغيره : وفي هذه السنة في ذي الحجة منها حول عمر المقام ، وكان ملصقا بجدار الكعبة ، فأخره إلى حيث هو الآن ؛ لئلا يشوش المصلون عنده على الطائفين . قلت : وقد ذكرت أسانيد ذلك في " سيرة عمر " . ولله الحمد والمنة . قال : وفيها استقضى عمر شريحا على الكوفة وكعب بن [ ص: 76 ] سور على البصرة . قال : وفيها حج عمر بالناس ، وكانت نوابه فيها الذين تقدم ذكرهم في السنة الماضية . قال : وفيها فتحت الرقة والرها وحران على يدي عياض بن غنم قال : وفتحت رأس عين الوردة على يدي عمر بن سعد بن أبي وقاص وقال غيره خلاف ذلك . وقال شيخنا الحافظ الذهبي في تاريخه : وفيها - يعني هذه السنة - افتتح أبو موسى الأشعري الرها وسميساط عنوة ، وفي أوائلها وجه أبو عبيدة عياض بن غنم إلى الجزيرة فوافق أبا موسى ، فافتتحا حران ونصيبين وطائفة من الجزيرة عنوة ، وقيل : صلحا . وفيها سار عياض إلى الموصل فافتتحها وما حولها عنوة . وفيها بنى سعد جامع الكوفة . وقال الواقدي : وفيها كان طاعون عمواس فمات فيه خمسة وعشرون ألفا . قلت : هذا الطاعون منسوب إلى بليدة صغيرة يقال لها : عمواس . وهي بين القدس والرملة ، لأنها كان أول ما نجم هذا الداء بها ، ثم انتشر في الشام منها فنسب إليها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . قال الواقدي : توفي في عام طاعون عمواس من المسلمين بالشام خمسة وعشرون ألفا . وقال غيره : ثلاثون ألفا . |
وهذا ذكر طائفة من أعيانهم ، رضي الله عنهم أجمعين .
الحارث بن هشام ، أخو أبي جهل ، أسلم يوم الفتح ، وكان سيدا شريفا في الإسلام كما كان في الجاهلية ، استشهد بالشام في هذه السنة ، في قول ، وتزوج عمر بعده بامرأته فاطمة . شرحبيل ابن حسنة ، أحد أمراء الأرباع ، وهو أمير فلسطين ، وهو شرحبيل بن عبد الله بن المطاع بن قطن الكندي ، حليف بني زهرة . وحسنة أمه ، نسب إليها وغلب عليه ذلك . أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة ، وجهزه الصديق إلى الشام فكان أميرا على ربع الجيش ، وكذلك في الدولة العمرية ، وطعن هو وأبو عبيدة ، وأبو مالك الأشعري في يوم واحد سنة ثماني عشرة . له حديثان ؛ روى له ابن ماجه أحدهما في الوضوء ، وغيره . عامر بن عبد الله بن الجراح ابن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر القرشي ، أبو عبيدة بن الجراح ، الفهري ، أمين هذه الأمة ، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وأحد [ ص: 78 ] الخمسة الذين أسلموا في يوم واحد ، وهم ; عثمان بن مظعون ، وعبيدة بن الحارث ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو سلمة بن عبد الأسد ، وأبو عبيدة بن الجراح . أسلموا على يدي الصديق . ولما هاجروا آخى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بينه وبين سعد بن معاذ ، وقيل : بين محمد بن مسلمة . وقد شهد بدرا وما بعدها ، وقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، : إن لكل أمة أمينا ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ثبت ذلك في " الصحيحين " . وثبت في " الصحيحين " أيضا أن الصديق قال يوم السقيفة : وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوه . يعني عمر بن الخطاب وأبا عبيدة . وبعثه الصديق أميرا على ربع الجيش إلى الشام ، ثم لما انتدب خالدا من العراق كان أميرا على أبي عبيدة وغيره ، لعلمه بالحروب . فلما انتهت الخلافة إلى عمر عزل خالدا وولى أبا عبيدة بن الجراح ، وأمره أن يستشير خالدا ، فجمع للأمة بين أمانة أبي عبيدة وشجاعة خالد . قال ابن عساكر : وهو أول من سمي أمير الأمراء بالشام . قالوا : وكان أبو عبيدة طوالا نحيفا ، أجنأ معروق الوجه ، خفيف اللحية ، أهتم ؛ وذلك لأنه لما انتزع الحلقتين من وجنتي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يوم أحد خاف أن يؤلم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ، فتحامل على ثنيتيه فسقطتا ، فما رئي أحسن هتما منه . [ ص: 79 ] توفي بالطاعون عام عمواس ، كما تقدم سياقه في سنة سبع عشرة ، عن سيف بن عمر - والصحيح أن عمواس كانت في هذه السنة سنة ثماني عشرة - بقرية فحل . وقيل : بالجابية . وقد اشتهر في هذه الأعصار قبر بالقرب من عقبة عمياء بالغور ينسب إليه . والله أعلم . وعمره يوم مات ثمان وخمسون سنة . الفضل بن عباس بن عبد المطلب ، كان حسنا وسيما جميلا ، أردفه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وراءه يوم النحر من حجة الوداع ، وهو شاب حسن . وقد شهد فتح الشام واستشهد بطاعون عمواس في قول محمد بن سعد ، والزبير بن بكار ، وأبي حاتم ، وابن البرقي ، وهو الصحيح . وقيل : يوم مرج الصفر . وقيل : بأجنادين . ويقال : باليرموك . ويقال : سنة ثمان وعشرين [ ص: 80 ] معاذ بن جبل ابن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدي بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج الأنصاري الخزرجي ، أبو عبد الرحمن المدني ، صحابي جليل كبير القدر . قال الواقدي : كان طوالا حسن الشعر والثغر براق الثنايا ، لم يولد له . وقال غيره : بل ولد له ولد ، وهو عبد الرحمن . شهد معه اليرموك . وقد شهد معاذ العقبة . ولما هاجر الناس آخى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بينه وبين ابن مسعود ، وحكى الواقدي الإجماع على ذلك . وقد قال محمد بن إسحاق : آخى بينه وبين جعفر بن أبي طالب . وشهد بدرا وما بعدها . وكان أحد الأربعة من الخزرج ، الذين جمعوا القرآن في حياة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وهم : أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل ، وأبو زيد عم أنس بن مالك وصح في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي ، من حديث حيوة بن [ ص: 81 ] شريح عن عقبة بن مسلم ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن الصنابحي ، عن معاذ ، أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قال له : يا معاذ والله إني لأحبك ، فلا تدعن أن تقول في دبر كل صلاة : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وفي المسند والنسائي ، وابن ماجه ، من طريق أبي قلابة ، عن أنس مرفوعا : " وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل " . وقد بعثه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إلى اليمن ، وقال له : " بم تحكم ؟ " . فقال : بكتاب الله . الحديث . وكذلك أقره الصديق على ذلك يعلم الناس الخير باليمن . ثم هاجر إلى الشام فكان بها حتى مات بعد ما استخلفه أبو عبيدة حين طعن ، ثم طعن بعده في هذه السنة . وقد قال عمر بن الخطاب : إن معاذا يبعث أمام العلماء بربوة . ورواه محمد بن كعب ، مرسلا . وقال ابن مسعود : كنا نشبهه بإبراهيم الخليل . وقال ابن مسعود : إن معاذا كان [ ص: 82 ] أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين . وكانت وفاته شرقي غور بيسان سنة ثماني عشرة . وقيل : سنة تسع عشرة . وقيل : سبع عشرة ، عن ثمان وثلاثين ، على المشهور . وقيل غير ذلك . والله أعلم . يزيد بن أبي سفيان ، أبو خالد ، صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي ، أخو معاوية ، وكان يزيد أكبر وأفضل . وكان يقال له : يزيد الخير . أسلم عام الفتح ، وحضر حنينا ، وأعطاه رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، مائة من الإبل وأربعين أوقية ، واستعمله الصديق على ربع الجيش إلى الشام وهو أول أمير وصل إليها ، ومشى الصديق في ركابه يوصيه ، وبعث معه أبا عبيدة ، وعمرو بن العاص ، وشرحبيل بن حسنة ؛ فهؤلاء أمراء الأرباع . ولما افتتحوا دمشق دخل هو من باب الجابية الصغير عنوة كخالد في دخوله من الباب الشرقي عنوة ، وكان الصديق قد وعده بإمرتها ، فوليها عن أمر عمر وأنفذ له ما وعده الصديق ، وكان أول من وليها من المسلمين . المشهور أنه مات في طاعون عمواس كما تقدم . وزعم الوليد بن مسلم ، أنه توفي سنة تسع عشرة بعدما فتح قيسارية . ولما مات كان قد استخلف أخاه معاوية [ ص: 83 ] على دمشق فأمضى عمر بن الخطاب له ذلك ، رضي الله عنهم . وليس في الكتب شيء ، وقد روى عنه أبو عبد الله الأشعري أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قال : مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه ولا سجوده ، مثل الجائع الذي لا يأكل إلا التمرة والتمرتين ، لا يغنيان عنه شيئا أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، وقيل : اسمه العاص . أسلم قديما ، وقد جاء يوم صلح الحديبية مسلما يرسف في قيوده ؛ لأنه كان قد استضعف فرده أبوه ، وأبى أن يصالح حتى يرد ، ثم لحق أبو جندل بأبي بصير إلى سيف البحر ، ثم هاجر إلى المدينة وشهد فتح الشام . وقد تقدم أنه تأول آية الخمر ثم رجع . ومات بطاعون عمواس . رحمه الله ورضي عنه . أبو عبيدة بن الجراح ، هو عامر بن عبد الله تقدم . [ ص: 84 ] أبو مالك الأشعري ، قيل : اسمه كعب بن عاصم . قدم مهاجرا سنة خيبر مع أصحاب السفينة ، وشهد ما بعدها . واستشهد بالطاعون عام عمواس هو وأبو عبيدة ومعاذ في يوم واحد ، رضي الله عنهم أجمعين . |
ثم دخلت سنة تسع عشرة
قال الواقدي وغيره : كان فتح المدائن وجلولاء فيها . والمشهور خلاف ما قال ، كما تقدم . وقال محمد بن إسحاق : كان فتح الجزيرة والرها وحران ورأس العين ونصيبين في هذه السنة . وقد خالفه غيره . وقال أبو معشر ، وخليفة ، وابن الكلبي : كان فتح قيسارية في هذه السنة وأميرها معاوية . وقال غيره : يزيد بن أبي سفيان وقد تقدم أن معاوية افتتحها قبل هذا بسنين . وقال محمد بن إسحاق : كان فتح قيسارية من فلسطين ، وهرب هرقل وفتح مصر في سنة عشرين . وقال سيف بن عمر : كان فتح قيسارية وفتح مصر في سنة ست عشرة . قال ابن جرير فأما فتح قيسارية فقد تقدم ، وأما فتح مصر فإني سأذكره في سنة عشرين ، إن شاء الله تعالى . قال الواقدي : وفي هذه السنة ظهرت نار من حرة ليلى ، فأراد عمر أن [ ص: 86 ] يخرج بالرجال إليها ، ثم أمر المسلمين بالصدقة فطفئت . ولله الحمد . ويقال : كان فيها وقعة أرمينية ، وأميرها عثمان بن أبي العاص ، وقد أصيب فيها صفوان بن المعطل بن رحضة السلمي ثم الذكواني ، وكان أحد الأمراء يومئذ . وقد قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : ما علمت عليه إلا خيرا . وهو الذي ذكره المنافقون في قصة الإفك فبرأ الله ساحته ، وجناب أم المؤمنين زوجة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، مما قالوا . وقد كان إلى حين قالوا لم يتزوج . ولهذا قال : والله ما كشفت كنف أنثى قط . ثم تزوج بعد ذلك ، وكان كثير النوم ، ربما غلب عليه عن صلاة الصبح في وقتها ، كما جاء في " سنن أبي داود " ، وغيره . وكان شاعرا ثم حصلت له شهادة في سبيل الله . قيل : بهذا البلد . وقيل : [ ص: 87 ] بالجزيرة . وقيل : بسميساط . وقد تقدم بعض هذا فيما سلف . وفيها فتحت تكريت في قول ، والصحيح قبل ذلك . وفيها فيما ذكرنا أسرت الروم عبد الله بن حذافة . وفيها في ذي الحجة منها كانت وقعة بأرض العراق قتل فيها أمير المجوس شهرك ، وكان أمير المسلمين يومئذ الحكم بن أبي العاص ، رضي الله عنه . قال ابن جرير وفيها حج بالناس عمر ، ونوابه على البلاد وقضاته هم المذكورون قبلها . والله أعلم . |
http://t.farok.2.googlepages.com/Tarek_logo1.gif طرحت فابدعت ,, دمت ودام هذا العطاء ودائما بأنتظار جديدك الشيّق خالص ودي وأعذب التحايا لكـ http://t.farok.2.googlepages.com/Tarek_logo1.gif احترامي |
ما شاء الله .. بارك الله فيك وعليك وجزاك الله خير الجزاء, بوركت ورفع الله شأنك.. أسال الله العظيم رب العرش الكريم لك الجنه والخير وان يبارك فيك وعليك وان يجعل الجنه آخر مستقرك وان يجعلك من اهل الحق والايمان وان ينير الله دروبك. وفقك الله على هذا الطرح. |
مشكورة ارب على الموضوع المتميز
لي عووووده |
|
الساعة الآن 03:15 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |