![]() |
من قصص السلف
الرشيد والرجل الأموي من غريب ما يحكى، ما حكاه القاضي أبو الحسن التنوخي في كتاب الفرج بعد الشدة: أن منارة وكان صاحب شرطة الرشيد قال رفع إلى هارون الرشيد أن رجلاً بدمشق من بقايا بني أمية عظيم المال كثير الجاه، مطاعاً في البلد، له جماعة وأولاد ومماليك يركبون الخيل ويحملون السلاح ويغزون الروم، وأنه سَمْحٌ جوادٌ كثير البذل والضيافة، وأنه لا يؤمَن منه، فعظم ذلك على الرشيد. قال منارة: وكان وقوف الرشيد على هذا، وهو بالكوفة في بعض حججه، في سنة ست وثمانين ومائة، وقد عاد من الموسم، وقد بايع للأمين والمأمون والمعتصم أولاده، فدعاني، وهو خالٍ، وقال: إني دعوتك لأمر يهمني، وقد منعني النوم، فانظر كيف يكون? ثم قص علي خبر الأموي. وقال: اخرج الساعة فقد أعددت لك الخيول وأزحت علتك في الزاد والنفقة والآلة، وتضم إليك مائة غلام واسلك البرية، وهذا كتابي إلى نائب دمشق، وهذه قيود فابدأ بالرجل، فإن سمع وأجاع فقيده وجئني به، وإن عصى فتوكل عليه أنت ومن معك لئلا يهرب، وانفذ الكتاب إلى أمير دمشق ليكون مساعداً لك، واقبضا عليه وجئني به، وأجلت لذهابك ستاً ولإيابك ستاً ويوماً لمقامك، وهذا محمل تجعله في شقة منه، إذا قيدته، وتقعد أنت في الشقة الأخرى، ولا تكل حفظه إلى غيرك، حتى تأتيني به في اليوم الثالث عشر من خروجك. فإذا دخلت داره فتفقدها وجميع ما فيها من أهله وولده وحاشيته وغلمانه، وقدر نعمته والحال والمحل واحفظ ما يقوله الرجل حرفاً بحرف من ألفاطه منذ يقع طرفك عليه حتى تأتيني به، وإياك أن يشكل عليك شيء من أمره. انطلق. قال منارة: فودعته وانطلقت وخرجت فركبت الإبل وسرت أطوي المنازل أسير الليل والنهار ولا أنزل إلا للجمع بين الصلاتين والبول وتنفيس النفس قليلاً إلى أن وصلت إلى دمشق في أول الليلة السابعة، وأبواب البلد مغلقة فكرهت طروقها ليلاً فبت بظاهر البلد إلى أن فتح بابها من غد، فدخلت حتى أتيت باب الرجل، وعليها صف عظيم وحاشية كثير، فلم أستأذن ودخلت بغير إذن، فلما رأى القوم ذلك سألوا بعض من معي عني. قال: هذا منارة رسول أمير المؤمنين إلى صاحبكم. قال: فلما صرت في صحن الدار نزلت ودخلت مجلساً رأيت فيه قوماً جلوساً فظننت أن الرجل فيهم فقاموا ورحبوا بين فقلت: أفيكم فلان? قالوا: نحن أولاده وهو في الحمام. فقلت: استعجلوه. فمضى بعضهم يستعجله وأنا أتفقد الدار والأحوال والحاشية فوجدتها ماجت بأهلها موجاً كبيراً فلم أزل كذلك حتى خرج الرجل بعد أن طال مكثه واستربت منه واشتد قلقي وخوفي من أن يتوارى إلى أن رأيت شخصاً بزي الحمام يمشي في صحن الدار وحواليه جماعة كهول وأحداث وصبيان، وهم أولاده وغلمانه، فقلت: إنه الرجل، فجاء وجلس وسلم علي سلاماً خفيفاً وسألني عن أمير المؤمنين واستقامة أمر حضرته، فأخبرته بما وجب وما قضى كلامه حتى جاءوا بأطباق فاكهة فقال: تقدم يا منارة وكل معنا. فقلت: ما لي إلى ذلك من سبيل. فلم يعاودني فأكل هو ومن معه ثم غسل يديه ودعا بالطعام، فجاءوا إليه بمائدة حسنة لم أر مثلها إلا للخليفة، فقال: يا منارة ساعدنا على الأكل. لا يزيد على أن يدعوني باسمي كما يدعوني الخليفة، فامتنعت عليه، فما عادوني فأكل هو ومن معه، وكانوا تسعة من أولاده، فتأملت أكله في نفسه فوجدته يأكل أكل الملوك ووجدت ذلك الاضطراب الذي كان في داره قد سكن ووجدتهم لا يرفعون شيئاً من بين يديه قد وضع على المائدة لا تهيأ غيره حالاً أعظم وأحسن منه. وقد كان غلمانه أخذوا لما نزلت إلى الدار مالي وغلماني وعدلوا بهم إلى دار أخرى فما أطاقوا ممانعتهم، وبقيت وحدي وليس بين يدي إلا خمس أو ست غلمان وقوف على رأسي فقلت في نفسي: هذا جبار عنيد. فإن امتنع من الشخوص لم أطق إشخاصه بنفسي ولا بمن معي ولا حفظ إلى أن يلحقني أمير البلد، وجزعت جزعاً شديداً ورابني منه استخفافه وتهاونه بأمري، يدعوني باسمي ولا يفكر في امتناعي من الأكل ولا يسأل عما جئت به ويأكل مطمئناً، وأنا مفكر في ذلك، فلما فرغ من أكله وغسل يديه دعا بالبخور فتبخر وقام إلى الصلاة وصلى الظهر، وأكثر من الدعاء والبتهال، ورأيت صلاته حسنة. فلما انتقل من المحراب أقبل علي وقال: ما أقدمك يا منارة? فأخرجت كتاب أمير المؤمنين ودفعته إليه، ففضه وقرأه، فلما استتم قراءته دعا أولاده وحاشيته فاجتمع منهم خلق كثير فلم أشك أنه يريد أن يوقع بي فلما تكاملوا ابتدأ فحلف إيماناً غليظة فيها الطلاق والعتاق والحج والصدقة والوقف أن لا يجتمع اثنان في موضع واحد. وأمرهم أن ينصرفوا ويدخلوا منازلهم، ولا يظهروا إلى أن ينكشف لهم أمر يعتمدون عليه. وقال: هذا كتاب أمير المؤمنين بالمضي إليه، ولست أقيم بعد نظري فيه ساعة واحدة، فاستوصوا بمن ورائي من الحريم خيراً وما لي حاجة أن يصحبني أحد منكم هات قيودك يا منارة. فدعوت بها وكانت في سفط ومد يده فقيدته وأمرت غلماني بحمله حتى صار في المحمل وركبت في الشق الآخر، وسرت من وقتي ولم ألاق أمير البلد ولا غيره، وسرت بالرجل وليس معه أحد إلى أن صرنا بظاهر دمشق فابتدأ يحدثني بانبساط حتى انتهينا إلى بستان حسن في الغوطة، فقال لي: أترى هذا? قلت: نعم. قال: إنه لي، وقال: إن فيه من غرائب الأشجار كيت وكيت. ثم انتهى إلى آخر، فقال مثل ذلك. ثم انتهى إلى مزارع حسان وقرى، فقال مثل ذلك! هذا لي، فاشتد غيظي منه، وقلت: ألست تعلم أن أمير المؤمنين أهمه أمرك حتى أرسل إليك من انتزعك من بين أهلك ومالك وولدك وأخرجك فريداً مقيداً مغلولاً ما تدري إلى ما تصير إليه أمرك ولا كيف يكون،وأنت فارغ القلب من هذا حتى تصف ضياعك وبساتينك بعد أن جئتك؛ وأنت لا تفكر فيما جئت به، وأنت ساكن القلب قليل التفكر. لقد كنت عندي شيخاً فاضلاً. فقال لي مجيباً: إنا لله وإنا إليه راجعون. أخطأت فراستي فيك. لقد ظننت أنك رجل كامل العقل وأنك ما حللت من الخلفاء هذا المحل إلا لما عرفوك، فإذا عقلك وكلامك يشبه كلام العوام، والله المستعان. أما قولك في أمير المؤمنين وإزعاجه وإخراجه إياي إلى بابه على صورتي هذه، فإني على ثقة من الله عز وجل الذي بيده ناصية أمير المؤمنين، ولا يملك أمير المؤمنين لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله عز وجل، ولا ذنب لي عند أمير المؤمنين أخافه، وبعد فإذا عرف أمير المؤمنين أمري وعرف سلامتي وصلاح ناصيتي سرحني مكرماً، فإن الحسدة والأعداء رموني عنده بما ليس في وتقولوا علي الأقاويل، فإما أن يستحل دمي أو يخرج من إيذائي وإزعاجي ويردني مكرماً، أو يقيمني ببلاده معظماً مبجلاً? وإن كان قد سبق في علم الله عز وجل أن هذا يبدو لي منه سوء وقد اقترب أجلي وكان سفك دمي على يده، فلو اجتهدت الملائكة والأنبياء وأهل الأرض والسماء على صرف ذلك عني ما استطاعوا، فلم أتعجل الفكرة فيما فرغ الله منه، وإني أحسن الظن بالله الذي خلق ورزق وأحيا وأمات، وإن الصبر والرضا والتسليم إلى من يملك الدنيا والآخرة أولى، وقد كنت أحسب أنك تعرف هذا فإذن قد عرفت مبلغ فهمك، فإني لا أكلمك بكلمة واحدة حتى يفرق بيننا أمير المؤمنين إن شاء الله تعالى. ثم أعرض عني فما سمعت منه لفظة غير القرآن والتسبيح أو طلب ماء أو حاجة حتى شارفنا الكوفة في اليوم الثلاث عشرة بعد الظهر، والنجب قد استقبلتني قبل ستة فراسخ من الكوفة يتجسسون خبري، فحين رأوني رجعوا عني متقدمين بالخبر إلى أمير المؤمنين، فانتهيت إلى الباب في آخر النهار فحططت رحلي، ودخلت على الرشيد وقبلت الأرض بين يديه ووقفت، فقال: هات ما عندك يا منارة وإياك أن تغفل منه عن لفظة واحدة. فسقت الحديث من أوله إلى آخره حتى انتهيت إلى ذكر الفاكهة والطعام والغسل والبخور وما حدثني به نفسي من امتناعه، والغضب يظهر في وجه أمير المؤمنين ويتزايد حتى انتهيت إلى فراغ الأمور من الصلاة والتفاته إلي وسؤاله عن سبب قدومي ودفعي الكتاب إليه ومبادرته إلى إحضار ولده وأهله وأصحابه، وحلفه عليهم أن لا يتبعه أحد وصرفه إياهم ومد رجليه، فقيدته فما زال وجه الرشيد يسفر، فلما انتهيت إلى ما خاطبني به عند توبيخي له لما ركبنا في المحمل، فقال: صدق والله ما هذا إلا رجل محسود على النعمة، مكذوب عليه، ولعمري، لقد أزعجناه وأذيناه ورعنا أهله فبادر بنزع قيوده وائتني به. قال: فخرجت فنزعت قيوده وأدخلته إلى الرشيد فما هو إلا أن رآه حتى رأيت ماء الحياء يجول في وجه الرشيد فدنا الأموي وسلم بالخلافة ووقف فرد عليه الرشيد رداً جميلاً وأمره بالجلوس فجلس، وأقبل عليه الرشيد فسأله عن حاله، ثم قال له: بلغنا عنك فضل هيئة وأمور أحببنا معها أن نراك ونسمع كلامك ونحسن إليك، فاذكر حاجتك? فأجاب الأموي جواباً جميلاً وشكر ودعا، ثم قال: ليس لي عند أمير المؤمنين إلا حاجة واحدة. فقال: مقضية، فما هي? قال: يا أمير المؤمنين، تردني إلى بلدي وأهلي وولدي. قال: نفعل ذلك، ولكن سل ما تحتاج إليه من مصالح جاهك ومعاشك فإن مثلك لا يخرج إلا ويحتاج إلى شيء من هذا. فقال: يا أمير المؤمنين، عمالك منصفون وقد استغنيت بعدلهم عن مسألتي فأموري مستقيمة وكذلك أهل بلدي بالعدل الشامل في ظل أمير المؤمنين. فقال الرشيد: انصرف محفوظاً إلى بلدك واكتب إلينا بأمر إن عرض لك. فودعه الأموي، فلما ولى خارجاً قال الرشيد: يا منارة، احمله من وقتك وسر به راجعاً كما سيرته حتى إذا وصلت إلى مجلسه الذي أخذته منه فودعه وانصرف. قال منارة: فما زلت معه حتى انتهى إلى محله، ففرح به أهله وأعطاني عطاء جزيلاً وانصرفت، والله أعلم، وهذه الحكاية على سبيل الاختصار. |
أعرابي يزاحم الرشيد
يروى أنه لما دخل هارون الرشيد إلى مكة، شرفها الله تعالى، وابتدأ بالطواف ومنع الخاص والعام من ذلك لينفرد بالطواف. فسبقه أعرابي، فشق ذلك على الرشيد فالتفت إلى حاجبه منكراً عليه، فقال الحاجب للأعرابي: تخل عن الطواف حتى يطوف أمير المؤمنين. فقال الأعرابي: إن الله قد ساوى بين الإمام والرعية في هذا المقام، فقال عز وجل: "سواء العاكف فيه والباد ونم يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم". فلما سمع الرشيد من الأعرابي ذلك راعه أمره فأمر حاجبه بالكف عنه، ثم جاء الرشيد إلى الحجر الأسود ليستلمه فسبقه الأعرابي فاستلمه، ثم أتى الرشيد إلى المقام للمصلي فسبقه الأعرابي فصلى فيه، فلما فرغ الرشيد من صلاته قال: لحاجبه: ائتني بهذا الأعرابي، فأتاه الحاجب فقال: أجب أمير المؤمنين. فقال: ما لي إليه من حاجة إن كان له حاجة فهو أحق بالقيام إلي والسعي. فقام الرشيد حتى وقف بإزاء الأعرابي وسلم عليه، فرد عليه السلام، فقال له الرشيد: يا أخا العرب أجلس هنا بأمرك. فقال الأعرابي: ليس البيت بيتي ولا الحرم حرمي وكلنا فيه سواء. فإن شئت تجلس، وإن شئت تنصرف. قال الراوي: فعظم ذلك على الرشيد وسمع ما لم يكن في ذهنه، وما ظن أنه يواجهه أحد بمثل هذا الكلام. فجلس الرشيد وقال: يا أعرابي، أريد أن أسألك عن فرضك، فإن أنت قمت به فأنت بغيره أقوم، وإن أنت عجزت عنه فأنت عن غيره أعجز. فقال الأعرابي: سؤالك هذا سؤال تعلم أم سؤال تعنت? فتعجب الرشيد من سرعة جوابه وقال: بل سؤال تَعَلُم. فقال له الأعرابي: قم فاجلس مقام السائل من المسئول. قال: فقام الرشيد وجثا على ركبتيه بين يدي الأعرابي، فقال: جلست فاسأل عما بدا لك. فقال له: أخبرني عما افترض الله عليك? فقال له: تسألني عن أي فرض عن فرض واحد، أم عن خمسة، أن عن سبعة عشر، أم عن أربعة وثلاثين، أم عن خمسة وثمانين، أم عن واحدة في طول العمر، أم عن واحدة في أربعين، أم عن خمسة من مائتين. قال: فضحك الرشيد حتى استلقى على قفاه استهزاء به، ثم قال: له: سألتك عن فرضك فأتيتني بحساب الدهر? قال: يا هارون لولا أن الدين بالحساب لما أخذ الله الخلائق بالحساب يوم القيامة، فقال تعالى: "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين". قال: فظهر الغضب في وجه الرشيد واحمرت عيناه حين قال: يا هارون، ولم يقل له: يا أمير المؤمنين، وبلغ مبلغاً شديداً غير أن الله تعالى عصمه منه وحال بينه وبينه لما علم أنه هو الذي أنطق الأعرابي بذلك، فقال له الرشيد: يا أعرابي، إن فسرت ما قلت نجوت وإلا أمرت بضرب عنقك بين الصفا والمروة. فقال له الحاجب: يا أمير المؤمنين اعف عنه وهبه لله تعالى ولهذا المقام الشريف? قال: فضحك الأعرابي من قولهما حتى استلقى على قفاه، فقال: مم تضحك? قال: عجباً منكما إذ لا أدري أيكما أجهل الذي يستوهب أجلاً قد حضر أم من يستعجل أجلاً لم يحضر? قال: هال الرشيد ما سمعه منه وهانت نفسه عليه، ثم قال الأعرابي: أما سؤالك عما افترض الله علي، فقد افترض علي فرائض كثيرة، فقولي لك عن فرض واحد: فهو دين الإسلام، وأما قولي لك عن خمسة: فهي الصلوات؛ وأما قولي لك عن سبعة عشرة: فهي سبعة عشرة ركعة؛ وأما قولي لك عن أربعة وثلاثين: فهي السجدات؛ وما قولي لك عن خمسة وثمانين: فهي التكبيرات؛ وأما قولي لك عن واحدة في طول العمر: فهي حجة الإسلام واحدة في طول العمر كله، وأما قولي لك واحدة في أربعين: فهي زكاة الشياه، شاة من أربعين، وأما قولي لك خمس من مائتين: فهي زكاة الورق. قال: فامتلأ الرشيد فرحاً وسروراً من تفسير هذه المسائل، ومن حسن كلام الأعرابي وعظم الأعرابي في عينه وتبدل بغضه محبة، ثم قال: الأعرابي: سألتني فأجبتك وأنا أريد أن أسألك فأجبني. قال: قل. فقال الأعرابي: ما تقول في رجل نظر إلى امرأة في وقت صلاة الفجر فكانت عليه محرمة، فلما كان وقت الظهر حلت له، فلما كان في وقت العصر حرمت عليه، فلما كان وقت المغرب حلت له، فلما كان وقت العشاء حرمت عليه، فلما كان وقت الصبح حلت له، فلما كان وقت الظهر حرمت عليه، فلا كان وقت العصر حلت له، فلما كان وقت المغرب حرمت عليه، فلما كان وقت العشاء حلت له. فقال: والله يا أخا العرب لقد أوقعتني في بحر لا يخلصني منه غيرك. فقال له: أنت خليفة ليس فوقك شيء ولا ينبغي أن تعجز عن مسألة فكيف عجزت عن مسألتي وأنا رجل بدوي لا قدرة لي? فقال الرشيد: قد عظم قدرك العلم ورفع ذكرك فأشتهي إكراماً لي، ولهذا المقام تفسير ذلك. فقال: حباً وكرامة ولكن على شرط أن تجبر الكسير وترحم الفقير ولا تزدري الحقير. فقال: حباً وكرامة، ثم قال: إن قولي لك عن رجل نظر إلى امرأة وقت صلاة الفجر فكانت عليه حراماً فهو رجل نظر إلى أمة غيره وقت الفجر فهي حرام عليه، فلما كان وقت الظهر اشتراها فحلت له، فلما كان وقت العصر أعتقها، فحرمت عليه، فلما كان وقت المغرب تزوجها فحلت له، فلما كان وقت العشاء طلقها فحرمت عليه، فلما كان وقت الفجر رجعها فحلت له، فلما كان وقت الظهر ظاهر منها فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر أعتق عنها، فحلت له، فلما كان وقت المغرب ارتد عن الإسلام فحرمت عليه. فلما كان وقت العشاء تاب ورجع إلى الإسلام فحلت له. قال: فاغتبط الرشيد وفرح به واشتد إعجابه، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، فلما حضرت قال: لا حاجة لي بها ردها إلى أصحابها. فقال له: أريد أن أجري لك جراية تكفيك مدة حياتك? قال: الذي أجرى عليك يجري علي. قال: فإن كان عليك دين قضيناه عنك? قال: لا، ولم يقبل منه شيئاً، ثم أنشد يقول: هب الدنيا توافينا سنينا فتكدر ساعةً وتلذ حينا فما أبغي لشيء ليس يبقى وأتركه غداً للوارثينا كأني بالتراب عليه يحثى وبالإخوان حولي نادبينا ويوم تزفر النيران فيه وتقسم جهرة للسامعينا وعزة خالقي وجلال ربي لأنتقمن منهم أجمعينا وقد شاب الصغير بغير ذنب فكيف يكون حال المجرمينا فلما فرغ من إنشاده تأوه الرشيد وسأله عن أهله وبلاده، فأخبره أنه موسى الرضي بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وكان يتزيا بزي أعرابي زهداً في الدنيا وتباعداً عنها، فقام إليه الرشيد وقبل ما بين عينيه، ثم قرأ "الله أعلم حيث يجعل رسالته"، وانصرف رحمة الله عليهم أجمعين. |
الرجل الثبت الجنان
الرجل الثبت الجنان
وحدث أحمد بن موسى قال: ما رأيت رجلاً أثبت جناناً ولا أحسن معرفة ولا أظهر حجة من رجل رفع فيه عند المنصور بأن عنده أموالاً لبني أمية، فأمر المنصور حاجبه الربيع أن يحضره، فلما حضر بين يديه. قال المنصور: رفع إلينا أن عندك ودائع وأموالاً وسلاحاً لبني أمية فأخرجها لنا لنجمع ذلك إلى بيت المال. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، أنت وارث لبني أمية? قال: لا. قال: فلم تسأل إذن عما في يدي من أموال بني أمية ولست بوارث لهم ولا وصي. فأطرق المنصور ساعة، ثم قال: إن بني أمية ظلموا الناس وغصبوا أموال المسلمين. فقال الرجل: يحتاج أمير المؤمنين إلى بينة يقبلها الحاكم تشهد أن المال الذي لبني أمية هو الذي في يدي وأنه هو الذي غصبوه من الناس. وأن أمير المؤمنين يعلم أن بني أمية كانت لهم أموال لأنفسهم غير أموال المسلمين التي اغتصبوها على ما يتهم أمير المؤمنين? قال: فسكت المنصور ساعة، ثم قال: يا ربيع، صدق الرجل ما يجب لنا على الرجل شيء، ثم قال للرجل: ألك حاجة? قال: نعم. قال: ما هي? قال: أن تجمع بيني وبين من سعى في إليك فوالله يا أمير المؤمنين ما لبني أمية عندي مال ولا سلاح. وإنما أحضرت بين يديك وعلمت ما أنت فيه من العدل والإنصاف واتباع الحق واجتناب المظالم، فأيقنت أن الكلام الذي صدر مني هو أنجح وأصلح لما سألتني عنه. فقال المنصور: يا ربيع، اجمع بينه وبين الذي سعى به فجمع بينهما. فقال: يا أمير المؤمنين، هذا أخذ لي خمسمائة دينار وهرب، ولي عليه مسطور شرعي. فسأل المنصور الرجل فأقر بالمال. قال: فما حملك على السعي كاذباً? قال: أردت قتله ليخلص لي المال. فقال الرجل: قد وهبتها له يا أمير المؤمنين، لأجل وقوفي بين يديك وحضوري مجلسك ووهبته خمسمائة دينار أخرى لكلامك لي. فاستحسن المنصور فعله وأكرمه ورده إلى بلده مكرماً. وكان المنصور كل وقت يقول: ما رأيت مثل هذا الشيخ قط، ولا أثبت من جنانه ولا من حجني مثله ولا رأيت مثل حمله ومروءته. |
القاضي ابن أبي ليلى والمنصور وحدث عبد الله البلتاجي، قال: دخل ابن أبي ليلى على أبي جعفر المنصور، وكان ابن أبي ليلى قاضياً فقال أبو جعفر: إن القاضي يرد عليه. من ظرائف الناس ونوادرهم أمور، فإن كان ورد عليك شيء فحدثنيه، فقد طال علي يومي. قال: والله يا أمير المؤمنين، قد ورد علي منذ ثلاثة أيام أمر ما ورد علي مثله. أتتني عجوز تكاد تنال الأرض بوجهها أو تسقط من انحنائها فقالت: أنا بالله وبالقاضي أن يأخذ لي بحقي وأن يعينني على خصمي. قلت: ومن خصمك? قالت: إبنة أخ لي. فدعوت بها فجاءت امرأة ضخمة ممتلئة شحماً فجلست منبهرة. فذهبت العجوز تتظلم، فقالت الشابة: أصلح الله القاضي، مرها فلتسكت حتى أتكلم بحجتي وحجتها فإن لحنت بشيء فلترد علي، فإن أذنت لي أسفرت. فقالت العجوز: إن أسفرت قضيت لها. فقلت لها: أسفري، فأسفرت عن وجه والله ما ظننت أنه يكون مثله إلا في الجنة. فقالت: أصلح الله القاضي، هذه عمتي مات والدي وتركني يتيمة في حجرها فربتني فأحسنت التربية، حتى إذا بلغت مبلغ النساء قالت لي: يا بنت أخي، هل لك في التزويج? قلت: ما أكره ذلك يا عمة. قالت العجوز: نعم. قالت: فخطبني وجوه أهل الكوفة فلم ترض إلا رجلاً صيرفياً، فتزوجني، فكنا كأننا ريحانتان ما أظن أن الله خلق غيره يغدو إلى سوقه ويروح علي بما رزقه الله تعالى. فلما رأت العمة موقعه مني وموقعي منه حسدتنا على ذلك، وكانت لها ابنةً فشوفتها وهيأتها لدخول زوجي، فوقعت عينه عليها، فقال: يا عمة هل لك أن تزوجيني ابنتك? قالت: نعم بشرط. فقال لها: وما الشرط.? قالت: تصير أمر ابنة أخي إلي. قال: قد صيرت أمرها إليك. قالت: فإن قد طلقتها ثلاثاً بتةً. وزوجت ابنتها زوجي، فكان يغدو عليها ويروح، فقلت لها : يا عمتي أتأذنين لي أن أنتقل عنك? قالت: نعم. فانتقلت عنها وكان لعمتي زوج غائب فقدم فلما توسط منزلها قال: ما لي لا أرى ربيبتنا? قالت: طلقها زوجها فانتقلت عنا. فقال: إن لها من الحق علينا أن نعزيها بمصيبتها. فلما بلغني مجيئه إلي تهيأت له وتشوفت. فلما دخل علي عزاني بمصيبتي، ثم قال: إن فيك بقيةً من الشباب؛ فهل لك أن أتزوج بك? قلت: ما أكره ذلك ولكن على شرط. قال لي: وما الشرط? قلت: تصير أمر عمتي بيدي. قال: فإني قد فعلت وصيرت أمرها بيدك. قلت: فإني قد طلقتها ثلاثاً بتة. قالت: فقدم علي بثقله من الغد ومعه ستة آلاف درهم فأقام عندي ما أقام، ثم إنه اعتل وتوفي فلما انقضت عدتي جاء زوجي الأول الصيرفي يعزيني بمصيبتي فلما بلغني مجيئه تهيأت وتشوفت له، فلما دخل علي قال لي: يا فلانة إنك تعلمين أنك كنت أعز الناس علي وأحبهم إلي، وقد حلت المراجعة، فهل لك في ذلك? قلت: ما أكره ذلك، ولكن اجعل أمر ابنة عمتي بيدي. قال: فإني قد فعلت. قلت: فإني قد طلقتها ثلاثاً بتةً، أصلح الله القاضي، فرجعت إلى زوجي فما اعتدائي عليها. فقالت العجوز: أنا فعلت مرة، وفعلت مرة بعد أخرى. فقلت: إن الله لم يوقت في هذا وقتاً، وقد قال تعالى: "ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله". فواحدة بواحدة والبادي أظلم. فقال القاضي: إن زوج العمة لم يكن له أن يتزوج ابنة أخيها وهي في عدته؛ فأرادت العجوز أن تتولى التفريق بينه وبينها استيفاء لها ومجازاة لها على فعلها، فقلت لها: قد فرقت بينكما، قومي إلى منزلك. |
أبو جعفر المنصور و الأصمعي
قيل: إنه كان يحفظ الشعر من مرة، وله مملوك يحفظه من مرتين، وكان له جارية تحفظه من ثلاث مرات، وكان بخيلاً جداً حتى إنه كان يلقب بالدوانيقي لأنه كان يحاسب على الدوانيق، فكان إذا جاء شاعر بقصيدة قال له: إن كانت مطوقة بأن يكون أحد يحفظها أو أحد أنشأها: أي بأن كان أتى بها أحد قبلك، فلا نعطيك لها جائزة، وإن لم يكن أحد يحفظها نعطيك زنة ما هي مكتوبة فيه، فيقرأ الشاعر القصيدة فيحفظها الخليفة من أول مرة، ولو كانت ألف بيت، ويقول للشاعر اسمعها مني وينشدها بكمالها، ثم يقول له: هذا المملوك يحفظها، وقد سمعها المملوك مرتين، مرة من الشاعر ومرة من الخليفة فيقرؤها، ثم يقول الخليفة: وهذه الجارية التي خلف الستارة تحفظها أيضاً وقد سمعتها الجارية ثلاث مرات فتقرؤها بحروفها فيذهب الشاعر بغير شيء. قال الراوي: وكان الأصمعي من جلسائه وندمائه فنظم أبياتاً صعبة وكتبها على قطعة عمود من رخام ولفها في عباءة وجعلها على ظهر بعير وغير حليته في صفة أعرابي غريب وضرب له لثاماً ولم يبين منه غير عينيه، وجاء إلى الخليفة وقال: إني امتدحت أمير المؤمنين بقصيدة. فقال: يا أخا العرب إن كانت لغيرك لا نعطيك عليها جائزة وإلا نعطيك زنة ما هي مكتوبة عليه. فأنشد الأصمعي هذه القصيدة: صوت صفير البلبـل ** هيـج قلبـي الثمـل الماء والزهر معا ** مع زهـر لخـط المقـل وأنـت يـا سيـد لـي ** وسيـدي و موللـي فكـم فـكـم تيمـنـي ** غـزيـل عقيـقـل قطفته من وجنـة ** مـن لثـم ورد الخجـل فقـال لا لا لا لا ** و قـد غــدا مـهـرول والخود مالت طربا ** من فعـل هـذا الرجـل فولولت وولولـت ** ولـي ولـي يـا ويللـي فقالـت لا تولولـي ** وبيـنـي اللؤلـؤلـي قالت له حين كـذا ** أنهـض وجـد بالمقـل وفتـيـة سقونـنـي ** قهـيـوة كالعسلـلـي شممتهـا بأنفـي ** أزكـى مـن القرنـفـل في وسط بستان حلي ** بالزهر والسرور لـي والعود دندندن لي ** والطبل طبطـب طبلـي طبطـب طبطـب ** طبطـب طبطـب لـي والرقص قد طاب لي ** والسقف سقسق سق لي شوا شـوا وشاهـش ** علـى ورق سفرجـل وغرد القمـري يصيـح ** ملـل فـي مللـي ولو ترانـي راكبـا ** علـى حمـار أهـزل يمشـي علـى ثلاثـة ** كمشيـة العرنـجـل والناس ترجم جملي ** في السـوق بالقلقللـي والكل كعكع كعكـع ** خلفـي ومـن حويللـي لكن مشيـت هاربـا ** مـن خشيـة العقنقـل إلـى لـقـاء مـلـك ** معـظـم مبـجـل يأمر لـي بِخِلعَـةٍ ** حمـراء كالـدم دم لـي أجـر فيهـا ماشـيـا ** مبـغـددا للـذيـل أنا الأديب الألمعي ** من حي أرض الموصـل نظمت قطعا زخرفت ** يعجز عنهـا الأدبـل أقول في مطلعهـا ** صـوت صفيـر البلبـل قال الراوي: فلم يحفظها الملك لصعوبتها، ونظر إلى المملوك وإلى الجارية فلم يحفظها أحد منهما فقال: يا أخا العرب هات الذي هي مكتوبة فيه نعطك زنته. فقال: يا مولاي إني لم أجد ورقاً أكتب فيه وكان عندي قطعة عمود رخام من عهد أبي، وهي ملقاةٌ ليس لي بها حاجة، فنقشتها فيها. فلم يسع الخليفة إلا أنه أعطاه وزنها ذهباً فنفد ما في خزينته من المال، فأخذه وانصرف، فلما ولى قال الخليفة: يغلب على ظني أن هذا الأصمعي، فأحضره وكشف عن وجهه. فإذا هو الأصمعي فتعجب منه ومن صنيعه وأجازه على عادته، قال: يا أمير المؤمنين، إن الشعراء فقراء وأصحاب عيال وأنت تمنعهم العطاء بشدة حفظك وحفظ هذا المملوك وهذه الجارية. فإذا أعطيتهم ما تيسر ليستعينوا به على عيالهم لم يضرك. |
مفاخرة اليمن ومضر
وعن الهيثم بن عدي. قال كان أبو العباس السفاح تعجبه المسامرة ومنازعة الرجال فحضرت ذات ليلة في مسامرة إبراهيم بن مخرمة الكندي وناس من بني الحارث بن كعب وهم أخواله وخالد بن صفوان بن إبراهيم التميمي. فخاضوا في الحديث وتذاكروا مضر واليمن فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، إن اليمن هم العرب الذين دانت لهم الدنيا وكانت لهم القرى ولم يزالوا ملوكاً أرباباً وورثوا ذلك كابراً عن كابر أولاً عن آخر منهم النعمانيات والمنذريات والقابوسيات والتبابعة، ومنهم من مدحته الزبر، ومنهم غسيل الملائكة، ومنهم من اهتز لموته العرش، ومنهم من كلمه الذئب، ومنهم الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً. وليس شيء له خطر إلا وإليهم ينسب من فرس رائع أو سيف قاطع أو درع حصينة أو حلة مصونة أو درة مكنونة، إن سئلوا أعطوا وإن سيموا أبوا، وإن نزل بهم ضيف قروا لا يبلغهم مكابر، ولا ينالهم مفاخر، هم العرب العرباء، وغيرهم المتعربة. قال أبو العباس السفاح: ما أظن التميمي يرضى بقولك. ثم قال: ما تقول يا خالد? قال: إن أذنت في الكلام تكلمت. قال: أذنت لك في الكلام فتكلم ولا تهب أحد. فقال: أخطأ يا أمير المؤمنين المقتحم بغير علم والناطق بغير صواب، فكيف يكون ما قال، وإن القوم ليست لهم ألسن فصيحة ولا حجة رجيحة. نزل به كتاب ولا جاءت به ا سنة، وهم منا على منزلتين: إن حادوا عن قصدنا أكلوا، وإن جازوا حكمنا قتلوا، يفخرون علينا بالنعمانيات والمنذريات وغير ذلك مما سنأتي عليه، ونفخر عليهم بخير الأنام وأكرم الكرام سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، ولله المنة علينا وعليهم لقد كانوا أتباعه فبه غزوا وله أكرموا، فمنا النبي صلى الله عليه وسلم ومنا الخليفة المرتضى، ولنا البيت المعمور والمسعى وزمزم والمقام والمنبر والركن والحطيم والمشاعر والحجابة والبطحاء مع ما لا يخفى من المآثر ولا يدرك من المفاخر. فليس يعدل بنا عادل ولا يبلغ فضلنا قول قائل ومنا الصديق والفاروق والوصي وأسد الله وسيد الشهداء ذو الجناحين وسيف الله، عرفوا الله وأتاهم اليقين، فمن زاحمنا زاحمناه ومن عادانا اصطلمناه. ثم التفت إلى إبراهيم فقال: أعالم أنت بلغة قومك? قال: نعم. قال: فما اسم العين? قال: الجمجمة. قال: فما اسم السن? قال: الميذن. قال: فما اسم الأذن? قال: الصنارة. قال: فما اسم الأصابع? قال: الشناتر. قال: فما اسم اللحية? قال: الذئب. قال: فما اسم الذئب? قال: الكنع. قال: أفمؤمن أنت بكتاب الله? قال: نعم. قال: فإن الله تعالى يقول: "إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون"، وقال تعالى: "بلسانٍ عربي مبين"، وقال: "وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومهِ". فنحن العرب والقرآن بلساننا نزل، ألم تر أن الله تعالى قال: العين بالعين، ولم يقل: الجمجمة بالجمجمة؛ وقال: السن بالسن، ولم يقل الميذن بالميذن؛ وقال: الأذن بالأذن، ولم يقل الصنارة بالصنارة، وقال: "يجعلون أصابعهم في آذانهم"، ولم يقل شناترهم. وقال: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، ولم يقل بذنبي. وقال تعالى: فأكله الذئب، ولم يقل فأكله الكنع. ثم قال أسألك عن أربع إن أقررت بهن قهرت وإن جحدتهن كفرت. قال: وما هن? قال: الرسول منا أو منكم? قال: منكم. قال: فالقرآن نزل علينا أو عليكم? قال: عليكم. قال: فالبيت الحرام لنا أو لكم? قال: لكم. قال: فالخلافة فينا أو فيكم? قال: فيكم. قال خالد: فما كان بعد هذه الأربع فهو لكم. |
راعي الذمم
وروي عن الحسن بن الحصين. قال: لما أفضت الخلافة إلى بني العباس كان من جملة من اختفى إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك فلم يزل مختفياً إلى أن أضناه وأضجره الاختفاء، فأخذ له أمان من السفاح، فقال له: لقد مكثت زماناً طويلاً مختفياً فحدثني بأعجب ما رأيت في اختفائك، فإنها كانت أيام تكدير. فقال: يا أمير المؤمنين، وهل سمع بأعجب من حديثي? لقد كنت مختفياً في منزل أنظر منه إلى البطحاء فبينما أنا على مثل ذلك، وإذا بأعلام سود قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة فوقع في ذهني أنها خرجت تطلبني، فخرجت متنكراً حتى أتيت الكوفة من غير الطريق، وأنا والله متحير، ولا أعرف بها أحداً، وإذا أنا بباب كبير في رحبة منيعة. فدخلت في تلك الرحبة فوقفت قريباً من الدار، وإذا برجل حسن الهيئة، وهو راكب فرساً ومعه جماعة من أصحابه وغلمانه، فدخل الحربة فرآني واقفاً مرتاباً فقال لي: ألك حاجة? قلت: غريب خائف من القتل. قال: ادخل قد خلت إلى حجرة في داره، فقال: هذه لك، وهيأ لي ما أحتاج إليه من فرش وآنية ولباس وطعام وشراب، وأقمت عنده ووالله ما سألني قط من أنا، ولا ممن أخاف? وهو في أثناء ذلك يركب في كل يوم ويعود تعباً متأسفاً كأنه يطلب شيئاً فاته ولم يجده، فقلت له يوماً: أراك تركب في كل يوم وتعون تعباً متأسفاً كأنك تطلب شيئاً فاتك? فقال لي: إن إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك قتل أبي وقد بلغني أنه مختف من السفاح، وأنا أطلبه لعلي أجده وآخذ بثأري منه. فتعجبت والله يا أمير المؤمنين من هربي وشؤم بختي الذي ساقني إلى منزل رجل يريد قتلي ويطلب ثأره مني. فكرهت الحياة واستعجلت الموت لما نالني من الشدة، فسألت الرجل عن اسم أبيه وعن سبب قتله، فعرفني الخبر فوجدته صحيحاً، فقلت: يا هذا قد وجب علي حقك، وأن من حقك أن أدلك على قاتل أبيك وقرب إليك الخطوة وأسهل عليك ما بعد. فقال: أتعلم أين هو? قلت: نعم. فقال: أين هو? فقلت: والله هو أنا فخذ بثأرك مني. فقال لي: أظن أن الاختفاء أضناك فكرهت الحياة. قلت: نعم والله أنا قتلته يوم كذا وكذا. فلما علم صدقي تغير لونه واحمرت عيناه وأطرق رأسه ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال لي: أما أبي فسيلقاك غداً يوم القيامة فيحاكمك عند من لا تخفى عليه خافية، وأما أنا فلست مخفراً ذمتي ولا مضيعاً نزيلي، أخرج عني فإني لا آمن من نفسي عليك بعد هذا اليوم. ثم وثب يا أمير المؤمنين إلى صندوق فأخرج منه صرة فيها خمسمائة دينار وقال: خذ هذه واستعن بها على اختفائك. فكرهت أخذها وخرجت من عنده وهو أكرم رجل رأيت. فبقي السفاح يهتز طرباً ويتعجب. |
أبو دلامة والسفاح
وروي أن أبو دلامة الشاعر كان واقفاً بين يدي السفاح في بعض الأيام فقال: سلني حاجتك? فقال له أبو دلامة: أريد كلب صيد. فقال: أعطوه إياه. فقال: ودابة أتصيد عليها. فقال: أعطوه دابة. فقال: وغلاماً يقود الكلب والصيد. فقال: أعطوه غلاماً. فقال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه. فقال: أعطوه جارية. فقال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عيال ولا بد لهم من دار يسكنونها. فقال: أعطوه داراً تجمعهم. ثم قال: وإن تكن لهم الدار فمن أين يعيشون? قال: قد أقطعتك عشرة ضياع عامرة وعشرة غامرة من فيافي بني إسرائيل. قال: وما معنى الغامرة يا أمير المؤمنين? قال: ما لا نبات فيها. قال: قد أقطعتك يا أمير المؤمنين مائة ضيعة غامرة من فيافي بني سعد. فضحك منه وقال: أعطوه كلها عامرة. قال الحافظ: فانظر إلى حذقه بالمسالة ولطفه فيها كيف ابتدأ بكلب صيد فصهل القضية وجعل يأتي بمسألة مسألة على ترتيب وفكاهة حتى نال ما سأله. ولو سأل ذلك بديهة لما وصل إليها. |
عمر بن عبد العزيزرضي الله عنه
أمه أم عصام بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو تابعي جليل. قال الإمام أحمد بن حنبل: ليس أحد من التابعين قوله حجة إلا عمر بن عبد العزيز. كان، رضي الله عنه عفيفاً زاهداً ناسكاً عابداً مؤمناً تقياً صادقاً، أزال ما كانت بنو أمية تذكر به علياً رضي الله عنه، على المنابر وجعل مكان ذلك قوله تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" الآية، ولما ولي الخلافة رضي الله عنه. عمر بن عبد العزيز والشعراء وفد الشعراء إليه وأقاموا ببابه أياماً لا يؤذن لهم فبينما هم كذلك إذ مر بهم رجاء بن حيوة وكان جليس عمر فلما رآه جرير داخلاً قام إليه وأنشد يقول أبياتاً منها: يا أيها الرجل المرخي عمامته ......... هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا فدخل ولم يذكر شيئاً من أمرهم ثم مر بهم عدي بن أرطاة فقال جرير أبياتاً آخرها قوله: لا تنس حاجتنا لقيت مغفرة ..... قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني قال: فدخل عدي على عمر، وقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة. فقال: ويحك يا عدي ما لي وللشعراء? قال: أعز الله أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح وأعطي ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة. قال: كيف.? قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه. قال: أو تروي من قوله. قال: نعم، وأنشد: رأيتك يا خير البركة كلها................ نشرت كتاباً جاء بالحق مَعْلما شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا ..... عن الحق لما أصبح الحق مظلما ونورت بالبرهان أمراً مدنساً...............وأطفأت بالإسلام ناراً تضرما فمن مُبلغ عني النبي محمدا............ وكل امرئ يُجزى بما كان قدما أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه ............وقد كان قدماً ركنه قد تهدما فقال: ويلك يا عدي، من بالباب منهم? قال: عمر بن أبي ربيعة. قال: أوليس هو الذي يقول: ثم نبهتها فمدت كِعاباً...........طفلةً ما تبين رجع الكلامِ ساعة، ثم أنها لي قالت....ويلتي قد عجلت يا ابن الكرامِ فلو كان عدو الله إذ فَجَر كتم على نفسه لكان أستر له: لا يدخل علي والله أبداً، فمن بالباب سواه? قال: الفرزدق. قال: أوليس هو الذي يقول: هما دلتا في من ثمانين قامةً.......... كما انقض بازٌ أقتَم الريشِ كاسره فما استوت رجلاي في الأرض قالتا:........أحيٌ فيُرجى أم قتيل نحاذره؟ لا يدخل علي والله أبداً، فمن سواه منهم. قال: الأخطل. قال: يا عدي، أوليس هو الذي قال: ولست بصائمٍ رمضان يوماً...... ولستُ بآكلٍ لحمَ الأضاحي ولست بزاجرٍ عنساً بكوراً..........الى بطحاء مكة للنجاح ولست بقائمٍ كالعير أدعو.....قبيل الصبح حي على الفلاح ولكني سأشربها شمولاً...... وأسجد عند منبلج الصباح والله لا يدخل علي أبداً وهو كافر، فمن بالباب سوى من ذكرت? قال: الأحوص. قال: أوليس هو الذي يقول: الله بيني وبين سيدها......... يفر مني بها وأتبعه فمن بالباب دون من ذكرت أيضاً? قال: جميل بن معمر. قال: أوليس هو الذي يقول: فيا ليتنا نحيا جميعا، وإن أمُت....يوافق موتي موتها وضريحها فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بعد صالحاً لكان أصلح. والله لا يدخل علي بداً، فهل أحد سوى من ذكرت? قال: جرير. قال: أوليس هو الذي يقول: طرقتك صائدة القلوب وليس ذا....وقت الزيارة، فارجعي بسلام فإن كان ولا بد فهو الذي يدخل. فلما مثل بين يديه قال: يا جرير اتق الله ولا تقل إلا حقاً. فأنشد قصيدته الرائية المشهورة التي منها: إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ............... من الخليفة ما نرجو من المطرِ جاء الخلافة، أو كانت له قدراً ................... كما أتى موسى على قدرِ هذي الأراملُ قد قضيت حاجتها.............. فمن لحاجة هذا الأرمل الذكرِ الخيرُ ما دُمت حيا لا يفارقنا............. بوركت يا عُمر الخيرات من عُمرِ فقال: يا جرير لا أرى لك فيما ههنا حقاً. قال: بلى يا أمير المؤمنين! أنا ابن سبيل منقطع. فأعطاه من طيب ماله مائة درهم وقال: ويحك، يا جرير، لقد ولينا هذا الأمر ولم نملك إلا ثلاثمائة درهم، فمائة أخذها عبد الله، ومائة أخذتها أم عبد الله، يا غلام: أعطه المائة الأخرى. فأخذها جرير وقال: والله لهي أحب مال اكتسبته في عمري. ثم خرج فقال له الشعراء: ما وراءك يا جرير? فقال: ما يسوءكم. خرجت من عند خليفة يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض وأنشد يقول: رأيت رقي الشيطان لا تستفزه ..... وقد كان شيطاني من الجن راقيا |
هشام والغلام الفصيح
مما يحكى أن هشام بن عبد الملك كان ذات يوم في صيده وقنصه إذ نظر إلى ظبي تتبعه الكلاب فتبعته وأحالته إلى خباء أعرابي يرعى غنماً، فقال هشام: يا صبي دونك هذا الظبي فأتني به. فرفع الصبي رأسه إليه وقال له: يا جاهل بقدر الأخيار لقد نظرت إلي باستصغار وكلمتني باحتقار فكلامك كلام جبار وفعلك فعل حمار. فقال هشام: يا صبي، ويلك ما تعرفني? فقال: قد عرفني بك سوء أدبك إذ بدأتني بكلامك قبل سلامك. فقال: ويلك أنا هشام بن عبد الملك. فقال له الأعرابي: لا قرب دارك ولا حيي مزارك، ما أكثر كلامك وأقل إكرامك. فما استتم حتى أحدقت به الجيوش من كل جانب، كل منهم يقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال هشام: أقصروا الكلام واحفظوا الغلام. فقبضوا عليه ورجع هشام إلى قصره وجلس في مجلسه وقال: علي بالغلام البدوي، فأتي به. فلما رأى الغلام كثرة الغلمان والحجاب والوزراء والكتاب وأبناء الدولة وأرباب الصولة لم يكترث بهم ولم يسأل عنهم بل جعل ذقنه على صدره وجعل ينظر حيث تقع قدماه إلى أن وصل إلى هشام فوقف بين يديه، ونكس رأسه إلى الأرض، وسكت وامتنع من الكلام. فقال بعض الخدام: يا كلب العرب! ما منعك أن تسلم على أمير المؤمنين? فالتفت إليه مغضباً وقال: يا برذعة الحمار، منعني من ذلك طول الطريق ونهز الدرجة والتعويق. فقال هشام وقد تزايد به الغضب: يا صبي قد حضرت في يوم حضر فيه أجلك وخاب فيه أملك وانصرم فيه عمرك. فقال له الصبي: والله يا هشام لئن كان في المدة تأخير ما ضرني من كلامك لا قليل ولا كثير.. فقال له الحاجب: بلغ من أمرك ومحلك يا أخس العرب أن تتخاطب أمير المؤمنين كلمة بكلمة. فقال له مسرعاً: لقيك الخذل ولامك الويل والهبل: ما سمعت ما قال الله تعالى: "يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها". فإذا كان الله يجادل جدالاً فمن هشام حتى لا يخاطب خطاباً? فعند ذلك قام هشام واغتاظ غيظاً شديداً، وقال: يا سياف علي برأس هذا الغلام فقد أكثر الكلام فيما لا يخطر على الأوهام. فقام السياف وأخذ الغلام وأبركه في نطع الدم. سل سيف النقمة على رأسه. وقال: يا أمير المؤمنين، عبدك المدل بنفسه المتقلب في رمسه، أأضرب عنقه، وأنا بريء من دمه? قال: نعم. فاستأذنه ثانية فأذن له ثم استأذنه ثالثة فهم أن يأذن له فضحك الصبي حتى بدت نواجذه، فازداد منه تعجباً وقال: يا صبي أظنك معتوهاً. ترى أنك مفارق الدنيا ومزايل الحياة وأنت تضحك هزأ بنفسك? فقال: يا أمير المؤمنين لئن كان في المدة تأخير ولم يكن في الأجل تقصير ما ضرني منك قليل ولا كثير، ولكن أبيات حضرت الساعة فاسمعها، فقتلي لا يفوت فكثر الصموت. فقال هشام: هت وأوجز، فهذا أول أوقاتك من الآخرة وآخر أوقاتك من الدنيا. فأنشد يقول: نُبئتُ أن الباز علق مرة عُصفور بساقه المقدور فتعلق العصفور في أظفاره والباز منهمكٌ عليه يطير فأتى لسان الحال يخبر قائلاً: ها قد ظفرت وإنني مسرور مثلي فما يغني لمثلك جوعةً ولئن أُكلْتُ فإنني محقور فتبسم البازُ المُدل بنفسه طرباً وأطلق ذلك العصفور قال: فتبسم هشام وقال: وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو تلفظ بهذا من أول وقت من أوقاته وطلب ما دون الخلافة، لأعطيته، يا خادم: احش فاهه دُراً وجوهراً وأحسن جائزته ودعه يمضي الى حال سبيله. |
جابر عثرات الكرام
قيل: كان في أيام سليمان رجل يقال له خزيمة بن بشر من بني أسد، كان له مروءة ظاهرة ونعمة حسنة وفضل وبر بالإخوان، فلم يزل على تلك الحالة حتى قعد به الدهر فاحتاج إلى إخوانه الذين كان يتفضل عليهم وكان يؤاسيهم، فواسوه ثم ملوه، فلما لاح له تغيرهم أتى امرأته وكانت ابنة عمه، فقال لها: يا ابنة عمي، قد رأيت من إخواني تغيراً، وقد عزمت على أن ألزم بيتي إلى أن يأتيني الموت، فأغلق بابه وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد وبقي حائراً وكان يعرفه عكرمة الفياض الربعي متولي الجزيرة، وإنما سمي بذلك لأجل كرمه، فبينما هو في مجلسه إذ ذكر خزيمة بن بشر فقال عكرمة الفياض: ما حاله? فقالوا: قد صار إلى أمر لا يوصف وإنه أغلق بابه ولزم بيته. قال: أفما وجد خزيمة بن بشر مواسياً ولا مكافئاً? فقالوا: لا. فأمسك عن الكلام ثم لما كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس واحد ثم أمر بإسراج دابته وخرج سراً من أهله. فركب ومعه غلام من غلمانه يحمل المال. ثم سار حتى وقف بباب خزيمة فأخذ الكيس من الغلام، ثم أبعده عنه وتقدم إلى الباب فدفعه بنفسه فخرج إليه خزيمة فناوله الكيس، وقال: أصلح بهذا شأنك، فتناوله فرآه ثقيلاً فوضعه عن يده ثم أمسك بلجام الدابة، وقال له: من أنت? جعلت فداك. فقال له عكرمة: يا هذا ما جئتك في هذا الوقت والساعة أريد أن تعفني? قال: فما أقبله إلا أن عرفتني من أنت? فقال: أنا جابر عثرات الكرام. قال: زدني. قال: لا. ثم مضى ودخل خزيمة بالكيس إلى ابنة عمه، فقال لها: أبشري فقد أتى الله بالفرج والخير ولو كانت فلوساً فهي كثيرة. قومي فاسرجي. قالت: لا سبيل إلى السراج. فبات يلمسها بيده فيجد خشونة الدنانير ولا يصدق، وأما عكرمة فإنه رجع إلى منزله فوجد امرأته قد فقدته وسألت عنه فأخبرت بركوبه فأنكرت ذلك وارتابت. وقالت له: والي الجزيرة يخرج بعد هدو من الليل منفرداً من غلمانه في سر من أهله إلا إلى زوجة أو سرية. فقال: اعلمي أني ما خرجت في واحدة منها. قالت: فخبرني فيما خرجت? قال: يا هذه ما خرجت في هذا الوقت وأنا أريد أن يعلم بي أحد. قالت: لا بد أن تخبرني? قال: تكتمينه إذاً. قالت: فإني أفعل. فأخبرها بالقصة على وجهها وما كان من قوله ورده عليه. ثم قال أتحبين أن أحلف لك أيضاً? قالت: لا فإن قلبي قد سكن وركن إلى ما ذكرت. وأما خزيمة فلما أصبح صالح الغرماء وأصلح ما كان من حاله ثم إنه تجهز يريد سليمان بن عبد الملك، وكان نازلاً يومئذ بفلسطين، فلما وقف ببابه واستأذن دخل الحاجب فأخبره بمكانه، وكان مشهوراً بمروءته وكرمه. وكان سليمان عارفاً به فأذن له، فلما دخل سلم عليه بالخلافة فقال له سليمان بن عبد الملك: يا خزيمة، ما أبطأك عنا? قال: سوء الحال. قال: فما منعك من النهضة إلينا? قال: ضعفي يا أمير المؤمنين. قال: فبم نهضت إلينا الآن? قال: لم أعلم يا أمير المؤمنين إلا أني بعد هدو من الليل لم أشعر إلا ورجل يطرق الباب وكان من أمره كيت وكيت، وأخبره بقصته من أولها إلى آخره. فقال سليمان: هل تعرف هذا الرجل? فقال: خزيمة: ما عرفته يا أمير المؤمنين لأنه كان متنكراً وما سمعت من لفظه إلا إني جابر عثرات الكرام. قال: فتلهب وتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته وقال: لو عرفناه لكافأناه على مروءته، ثم قال: علي بقناة. فأتى بها فعقد لخزيمة بن بشر المذكور على الجزيرة عاملاً عوضاً عن عكرمة الفياض. فخرج خزيمة طالباً الجزيرة، فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلد للقائه، فسلما على بعضهما ثم سارا جميعاً إلى أن دخلا البلد. فنزل خزيمة في دار الإمارة وأمر أن يؤخذ لعكرمة كفيل وأن يحاسب، فحوسب فوجد عليه فضول أموالٍ كثيرة فطالبه بأدائها قال: ما لي إلى شيء من ذلك سبيل. قال: لا بد منها. قال: لست عندي فاصنع ما أنت صانع. فأمر به إلى الحبس ثم أنفذ إليه من يطالبه فأرسل يقول: إني لست ممن يصون ماله بعرضه فاصنع ما شئت. فأمر أن يكبل بالحديد فأقام شهراً كذلك أو أكثر فأضناه ذلك وأضر به، وبلغ ابنة عمه خبره فجذعت واغتمت لذلك ثم دعت مولاة لها، وكانت ذات عقل ومعرفة، وقالت لها: امض الساعة إلى باب هذا الأمير خزيمة بن بشر وقولي: عندي نصيحة، فإذا طلبت منك فقولي: لا أقولها إلا للأمير خزيمة بن بشر، فإذا دخلت عليه فسليه أن يخليك، فإذا فعل ذلك فقولي: ما كان هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك. كافأته بالحبس والضيق والحديد. ففعلت الجارية ذلك. فلما سمع خزيمة كلامها نادى برفيع صوته وا سوأتاه، وإنه لهو? قالت: نعم، فأمر لوقته بدابته فأسرجت وبعث إلى وجوه أهل البلد فجمعهم إليه وأتى بهم إلى باب الحبس ففتح ودخل خزيمة ومن معه فرآه قاعداً في قاعة الحبس متغيراً أضناه الضر والألم وثقل القيود فلما نظر إليه عكرمة والى الناس أحشمه ذلك فنكس رأسه فأقبل خزيمة حتى أكب على رأسه فقبله فرفع عكرمة إليه رأسه وقال: ما أعقب هذا منك? قال: كريم فعالك وسوء مكافأتي. قال: يغفر الله لنا ولك. ثم أتي بالحداد ففك القيود عنه وأمر خزيمة أن توضع القيود في رجل نفسه. فقال عكرمة: ماذا تريد.? فقال: أريد أن ينالني من الضر مثل ما نالك. فقال: أقسم عليك بالله لا تفعل. فخرجا جميعاً حتى وصلا إلى دار خزيمة فودعه عكرمة وأراد الانصراف عنه. فقال: ما أنت ببارح. قال: وما تريد? قال: أغير حالك وإن حيائي من بنت عمك أشد من حيائي منك. ثم أمر بالحمام فأهلي ودخلاه معاً فقام خزيمة وتولى أمره وخدمه بنفسه ثم خرجا فخلع عليه وحمله وحمل معه مالاً كثيراً ثم سار معه إلى داره واستأذنه في الاعتذار إلى ابنة عمه، فاعتذر إليها وتذمم من ذلك. قال: ثم سأله بعد ذلك أن يسير معه إلى سليمان بن عبد الملك، وهو يومئذ مقيم بالرملة، فأنعم له بذلك وسارا جميعاً حتى قدما على سليمان بن عبد الملك فدخل الحاجب فأعلمه بقدوم خزيمة بن بشر فراعه ذلك وقال: والي الجزيرة يقدم بغير أمرنا? ما هذا إلا لحادث عظيم! فلما دخل قال له قبل أن يسلم: ما وراءك يا خزيمة? قال: الخير يا أمير المؤمنين. قال: فما الذي أقدمك? قال: ظفرت بجابر عثرات الكرام، فأحببت أن أسرك به لما رأيت من تلهفك وتشوقك إلى رؤيته. قال: ومن هو? قال: عكرمة الفياض? قال: فأذن له بالدخول. فدخل وسلم عليه بالخلافة فرحب به وأدناه من مجلسه وقال: يا عكرمة ما كان خيرك له إلا وبالاً لعيك. ثم قال سليمان: اكتب حوائجك كلها وما تحتاج إليه في رقعة. ففعل ذلك، فأمر بقضائها منه ساعته، وأمر له بعشرة آلاف دينار وسفطين ثياباً، ثم دعا بقناة وعقد له على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان وقال له: أمر خزيمة إليك إن شئت أبقيته وإن شئت عزلته. قال بل اردده إلى عمله يا أمير المؤمنين، ثم انصرفا من عنده جميعاً ولم يزالا عاملين لسليمان مدة خلافته، والله أعلم |
كيف ولد الحجاج
وفي مروج الذهب للمسعودي وشرح السيرة وغيرهما. أن أم الحجاج ابن يوسف وهي الفارعة بنت همام. ولدته مشوهاً لا دبر له فثقب دبره، وأبى أن يقبل ثدي أمه وغيرها فأعياهم أمره، فيقال: إن الشيطان تصور لهم في صورة الحرث بن كلدة، فقال: ما خبركم? فقالوا: ولد ليوسف الثقفي من الفارعة ولد وقد أبى أن يقبل ثدي أمه فقال: اذبحوا له تيساً أسود والعقوه دمه ثم اذبحوا له أسود سالخاً، وأولغوه من دمه واطلوا به وجهه ثلاثة أيام ففعلوا فقبل الثدي في اليوم الرابع فكان لا يصبر عن سفك الدم وارتكاب أمور لا يقدر عليها غيره. تولية عبد الملك للحجاج على العراق روي أنه لما ولي الحجاج الحرمين الشريفين حظي عنده إبراهيم بن محمد بن طلحة فلما أراد الحجاج الرجوع إلى الشام إلى عبد الملك بن مروان، وفد معه إبراهيم بن محمد بن طلحة وقال: أتيتك برجل الحجاز في الشرف والأبوة والفضل والمروءة يا أمير المؤمنين، مع ما هو عليه من حسن الطاعة وجميل المناصحة، والله لم يكن في الحجاز له نظير، فبالله عليك يا أمير المؤمنين، إلا فعلت معه من الخير ما هو مستحقه? فقال عبد الملك: من هو يا أبا محمد? قال له: إبراهيم بن محمد بن طلحة. قال: يا أبا محمد لقد ذكرتنا بحق واجب ائذن له في الدخول. فلما دخل على عبد الملك أمر بجلوسه في صدر المجلس ثم قال: إن أبا محمد الحجاج ذكر لنا ما نعرفه من كمال مروءتك وحسن نصيحتك، فلا تدع في صدرك حاجة إلا أعلمتنا بها حتى نقضيها لك ولا نضيع شكر أبي محمد الحجاج فيك. قال إبراهيم: إن الحاجة التي نبغي بها وجه الله تعالى والتقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في القيامة نصيحة أمير المؤمنين. قال: قل! قال: لا أقولها وبيني وبينك ثالث. قال: ولا صديقك الحجاج? قال: لا. قال: قم. فقام خجلاً وهو لا يعرف أين تطأ رجله، فلما مضى قال له: هات نصيحتك. فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، وليت الحجاج الحرمين الشريفين وفيهما من تعرف من أولاد المهاجرين والأنصار وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما تعلمه من ظلمه وفسقه وجوره وبعده من الحق وقربه إلى الباطل، يسومهم الخسف ويطؤهم بالعسف، فليت شعري أي جواب أعددته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سألك الله في عرصات القيامة عن ذلك? فبالله عليك يا أمير المؤمنين، إلا عزلته وادخرتها قربة إلى الله تعالى. فقال عبد الملك: لقد ظن الحجاج الخير بغير أهله، ثم قال: يا إبراهيم! قم. فقمت على أنحس حال وخرجت من المجلس، وقد اسودت الدنيا في وجهي فتبعني حاجبه وقبض على زندي وجلس بي في الدهليز، ثم دعا عبد الملك بالحجاج. فدخل فمكث طويلاً فما شككت إلا أنهما يتشاوران في قتلي. ثم دعاني فقمت ودخلت فوافاني الحجاج خارجاً فعانقني، وقال: جزاك الله عني خيراً في هذه النصيحة، أما والله لئن عشت لأرفعن قدرك. وتركني وخرج ودخلت وأنا أقول: يهزأ بي، وهو معذور، فدخلت على عبد الملك فأجلسني مجلسي الأول ثم قال لي: قد علمت صدقك وقد عزلته عن الحرمين ووليته العراق وأعلمته أنك استقللت له الحجاز واستدعيت له العراق، وأنك تطلب له الزيادة في الأعمال وهو يظن أنك السبب في توليته العراق، وقد تهلل وجهه فرحاً لذلك، فسر معه أينما توجه يولك خيراً، ولا تقطع نصيحتك عنا والله أعلم. الحجاج والمرأة الحرورية قال الرواي: ولما ولي الحجاج العراق قال: علي بالمرأة الحرورية. فلما حضرت قال لها: كنت بالأمس في وقعة ابن الزبير تحرضين الناس على قتل رجالي ونهب أموالي? قالت: نعم. قد كان ذلك يا حجاج. فالتفت الحجاج إلى وزرائه وقال: ما ترون في أمرها? فقالوا: عجل بقتلها. فضحكت المرأة فاغتاظ الحجاج وقال: ما أضحكك? قالت: وزراء أخيك فرعون خير من وزرائك هؤلاء. قال: وكيف ذلك? قالت: لأنه استشارهم في موسى فقالوا: "أرجه وأخاه"، أي أنظره إلى وقت آخر، وهؤلاء يسألونك تعجيل قتلي. فضحك الحجاج وأمر لها بعطاء وأطلقها. |
العاشق ذو المروءة
حكي عن الأصمعي أنه قال: دخلت البصرة أريد بادية بني سعد، وكان على البصرة يومئذ خالد بن عبد الله القسري (والي العراق في عهد هشام بن عبد الملك بن مروان)، فدخلت عليه يوماً فوجد قوماً متعلقين بشاب ذي جمال وكمال وأدب ظاهر، بوجه زاهر حسن الصورة طيب الرائحة جميل البزة، عليه سكينة ووقار، فقدموه إلى خالد فسألهم عن قصته فقالوا: هذا لص أصبناه البارحة في منازلنا. فنظر إليه فأعجبه حسن هيئته ونظافته، فقال: خلوا عنه. ثم أدناه منه وسأله عن قصته، فقال: إن القول ما قالوه والأمر على ما ذكروه. فقال له: ما حملك على ذلك وأنت في هيئة جميلة وصورة حسنة? قال: حملني الشره في الدنيا. وبذا قضى الله سبحانه وتعالى. فقال له خالد: ثكلتك أمك، أما كان لك في جمال وجهك وكمال عقلك وحسن أدبك زاجر لك عن السرقة. قال: دع عنك هذا أيها الأمير، وانفذ ما أمرك الله تعالى به. فذلك بما كسبت يداي. وما الله بظلام للعبيد. فسكت خالد ساعة يفكر في أمر الفتى ثم أدناه منه وقال له: إن اعترافك على رؤوس الأشهاد قد رابني وأنا ما أظنك سارقاً. وإن لك قصة غير السرقة فأخبرني بها. فقال: أيها الأمير، لا يقع في نفسك سوى ما اعترفت به عندك، وليس لي قصة أشرحها لك إلا أني دخلت دار هؤلاء فسرقت منها مالاً فأدركوني وأخذوه مني وحملوني إليك. فأمر خالد بحبسه وأمر منادياً ينادي في البصرة: ألا من أحب أن ينظر إلى عقوبة فلان اللص وقطع يده فليحضر من الغد. فلما استقر الفتى في الحبس ووضع في رجليه الحديد تنفس الصعداء، ثم أنشأ يقول: هددني خالد بقطع يدي إن لم أبح عنده بقصتها فقلت هيهات أن أبوح بما تضمن القلب من محبتها قطع يدي بالذي اعترفت به أهون للقلب من فضيحتها فسمعه الموكلون به فأتوا خالداً وأخبروه بذلك، فلما جن الليل أمر بإحضاره عنده، فلما حضر استنطقه فرآه أديباً عاقلاً لبيباً ظريفاً فأعجب به فأمر له بطعام فأكلا وتحادثا ساعة. ثم قال له خالد: قد علمت أن لك قصة غير السرقة، فإذا كان غداً وحضر الناس والقضاة وسألتك عن السرقة فأنكرها واذكر فيها شبهاتٍ تدرأ عنك القطع. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات". ثم أمر به إلى السجن، فلما أصبح الناس لم يبق بالبصرة رجل ولا امرأة إلا حضر ليرى عقوبة ذلك الفتى، وركب خالد ومعه وجوه أهل البصرة وغيرهم، ثم دعا بالقضاة وأمر بإحضار الفتى، فأقبل يحجل في قيوده، ولم يبق أحد من النساء إلا بكى عليه وارتفعت أصوات النساء بالبكاء والنحيب، فأمر بتسكيت الناس، ثم قال له خالد: إن هؤلاء القوم يزعمون أنك دخلت دارهم وسرقت مالهم فما تقول? قال: صدقوا أيها الأمير، دخلت دارهم وسرقت مالهم. قال خالد: لعلك سرقت دون النصاب. قال: بل سرقت نصاباً كاملاً. قال: فلعلك سرقته من غير حرز مثله.? قال: بل من حرز مثله. قال: فلعلك شريك القوم في شيء منه? قال: بل هو جميعه لهم لا حق لي فيه. فغضب خالد وقام إليه بنفسه وضربه على وجهه بالسوط. وقال متمثلاً بهذا البيت: يريد المرء أن يُعطى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا ثم دعا بالجلاد ليقطع يده. فحضر وأخرج السكين، ومد يده ووضع عليها السكين، فبرزت جارية من صف النساء عليها آثار وسخ، فصرخت ورمت بنفسها عليه، ثم أسفرت عن وجه كأنه البدر وارتفع للناس ضجة عظيمة كاد أن تقع منه فتنة، ثم نادت بأعلى صوتها: إليه رقعة ففضها خالد فإذا هي مكتوب فيها: أخالد هذا مُستهام متيمٌ رمته لِحاظي من قسي الحمالق فأصماه سهم اللحظ مني فقلبه حليف الجوى من دائه غير فائق أَقَرَ بما لم يقترفه لأنه رأى ذلك خيراً من هتيكة عاشق فهلا على الصب الكئيب لأنه كريم السجايا في الهوى غير سارق فلما قرأ الأبيات تنحى وانعزل عن الناس وأحضر المرأة، ثم سألها عن القصة، فأخبرته أن هذا الفتى عاشق لها وهي له كذلك، وأنه أراد زيارتها وأن يعلمها بمكانه، فرمى بحجر إلى الدار، فسمع أبوها واخوتها صوت الحجر، فصعدوا إليه، فلما أحس بهم جمع قماش البيت كله وجعله صرة، فأخذوه وقالوا: هذا سارق وأتوا به إليك فاعترف بالسرقة وأصر على ذلك حتى لا يفضحني بي اخوتي، وهان عليه قطع يده لكي يستر علي ولا يفضحني. كل ذلك لغزارة مروءته وكرم نفسه. فقال خالد: إنه خليق بذلك. ثم استدعى الفتى إليه وقبل ما بين عينيه وأمر بإحضار أبي الجارية وقال له: يا شيخ إنا كنا عزمنا على إنفاذ الحكم في هذا الفتى بالقطع، وإن الله عصمه من ذلك، وقد أمرت له بعشرة آلاف درهم لبذله يده وحفظه لعرضك وعرض ابنتك وصيانته لكما من العار. وقد أمرت لابنتك بعشرة آلاف درهم، وأنا أسألك أن تأذن لي في تزويجها منه. فقال الشيخ: قد أذنت أيها الأمير بذلك. قال: فحمد الله وأثنى عليه وخطب خطبة حسنة وقال للفتى: قد وقدره عشرة آلاف درهم. فقال الفتى: قبلت منك هذا التزويج. وأمر بحمل المال إلى دار الفتى مزفوفاً في الصواني، وانصرف الناس مسرورين ولم يبق أحد في سوق البصرة إلا نثر عليهما اللوز والسكر حتى دخلا منزلهما مسرورين مزفوفين. قال الأصمعي: فما رأيت يوماً أعجب منه أوله بكاء وترح وآخره سرور وفرح. |
معاوية والطرماح بن الحكم
قيل: إن معاوية رضي الله عنه جلس يوماً بين أصحابه، إذ أقبلت قافلتان من البرية، فقال لبعض من كان بين يديه: انظروا هؤلاء القوم وائتوني بأخبارهم. فمضوا وعادوا وقالوا: يا أمير المؤمنين، إحداهما من اليمن والأخرى من قريش. فقال: ارجعوا إليهم وادعوا قريشاً يأتونا، وأما أهل اليمن فينزلون في أماكنهم إلى أن نأذن لهم في الدخول. فلما دخلت قريش سلم عليهم وقربهم وقال: أتدرون يا أهل قريش لم أخرت أهل اليمن وقربتكم? قالوا: لا والله يا أمير المؤمنين. قال: لأنهم لم يزالوا يتطاولون علينا بالفخار ويقولون ما ليس فيهم، وإني أريد إذا دخلوا غداً وأخذوا أماكنهم من الجلوس أن أقوم فيهم نذيرا وألقي عليهم من المسائل ما أقل به إكرامهم وأرخص به مقامهم، فإذا دخلوا وأخذوا أماكنهم من الجلوس وسألوا عن شيء فلا يجبهم أحد غيري. قال الراوي: وكان المقدم عليهم رجلاً يقال له الطرماح بن الحكم الباهلي، فأقبل على أصحابه، وقال: أتدرون يا أهل اليمن لم أخركم ابن هند وقدم قريشاً? قالوا: لا قال: لأنه في غداة غد يقوم فيكم نذيراً ويلقي عليكم من المسائل ما يقل به إكرامكم ويرخص به مقامكم، فإذا دخلتم عليه وأخذتم أماكنكم من الجلوس وسألكم عن شيء فلا يجبه أحد غيري. فلما كان من الغد دخلوا عليه وأخذوا أماكنهم فنهض معاوية قائماً على قدميه، وقال: أيها الناس من تكلم قبل العرب، وعلى من أنزلت العربية? فقام الطرماح وقال: نحن يا معاوية، ولم يقل يا أمير المؤمنين. فقال: لماذا? فقال: لأنه لما نزلت العرب ببابل وكانت العبرانية لسان الناس كافة أرسل الله تعالى العربية على لسان يعرب بن قحطان الباهلي، وهو جدنا فقرأ العربية وتداولها قومه من بعده إلى يومنا هذا، فنحن يا معاوية عرب بالجنس وأنتم عرب بالتعليم. فسكت معاوية زماناً ثم رفع رأسه وقال: أيها الناس، من أقوى العرب إيماناً ومن شهد له بذلك? فقال الطرماح: نحن يا معاوية. قال: ولم? قال: لأن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم فكذبتموه وسفهتموه وجعلتموه مجنوناً، فآويناه ونصرناه فأنزل الله: "والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً". وكان النبي صلى الله عليه وسلم، محسناً لنا متجاوزاً عن سيئاتنا فلم لم تفعل أنت كذلك? كأنك خالفت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فسكت زماناً ثم رفع رأسه وقال: أيها الناس، من أفصح العرب لساناً ومن شهد له بذلك? قال الطرماح: نحن يا معاوية. قال: ولم ذلك? قال: لأن امرأ القيس بن حجر الكندي منا قال في بعض قصائده: يطعمون الناس غَباً في السنين الممحلاتِ في جِفانٍ كالخوابي وقدورٍ راسياتِ وقد تكلم بألفاظ جاء مثلها في القرآن، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. قال: فسكت معاوية زماناً وقال: أيها الناس، من أقوى العرب شجاعة وذكراً ومن شهد له بذلك? قال الطرماح: نحن يا معاوية. قال: ولم ذلك? قال: لأن منا عمرو بن معد يكرب الزبيدي، كان فارساً في الجاهلية وفارساً في الإسلام وشهد له بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له معاوية: وأين أنت وقد أتي به مصفداً بالحديد? فقال له الطرماح: ومن أتى به? قال معاوية: أتى به علي. قال الطرماح: والله لو عرفت مقداره لسلمت إليه الخلافة ولا طمعت فيها أبداً. فقال له معاوية: أتحجني يا عجوز اليمن? قال: نعم أحجك يا عجوز مضر لأن عجوز اليمن بلقيس آمنت بالله، وتزوجت بنبيه سليمان بن داود، عليهما السلام، وعجوز مضر جدتك التي قال الله في حقها: "وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد". قال: فسكت معاوية زماناً ثم رفع رأسه وقال: جزاك الله خيراً من صاحب ووفر عقلك ورحم سلفك وأعطاه وأحسن إليه. |
القوي الفاجر
وقيل: إنه قدم أهل الكوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكون سعد بن أبي وقاص. فقال: من يعذرني من أهل الكوفة? إن وليتهم التقي ضعفوه، وإن وليتهم القوي فجروه. فقال له المغيرة بن شعبة: يا أمير المؤمنين، إن التقي الضعيف له تقاه ولك ضعفه، وإن القوي الفاجر لك قوته وعليه فجوره. قال: صدقت أنت القوي الفاجر فاخرج إليهم. فلم يزل عليهم أيام عمر وعثمان رضي الله عنهما وأيام معاوية حتى مات المغيرة أجبن وأحيل وأشجع من لقي وقيل: دخل عمر بن معد يكرب الزبيدي على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه فقال عمر: أخبرني عن أجبن من لقيت وأحيل من لقيت وأشجع من لقيت. قال: نعم يا أمير المؤمنين. خرجت مرة أريد الغارة، فبينما أنا سائر إذا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا رجل جالس كأعظم ما يكون من الرجال خلقاً، وهو محتب بحمائل سيفه، فقلت له: خذ حذرك فإني قاتلك. فقال: ومن أنت? قلت: أنا عمرو بن معد يكرب الزبيدي، فشهق شهقة فمات. فهذا يا أمير المؤمنين أجبن من رأيت. وخرجت مرة حتى انتهيت إلى حي فإذا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا صاحبه في وهدة يقضي حاجته، فقلت: خذ حذرك فإني قاتلك. فقال: ومن أنت? فأعلمته بي، فقال: يا أبا ثور ما أنصفتني أنت على ظهر فرسك وأنا على الأرض، فأعطني عهداً أنك لا تقتلني حتى أركب فرسي. فأعطيته عهداً فخرج من الموضع الذي كان فيه واحتبى بحمائل سيفه، وجلس. فقلت: ما هذا? فقال: ما أنا براكب فرسي ولا بمقاتلك فإن نكثت عهدك فأنت أعلم بناكث العهد. فتركته ومضيت. فهذا يا أمير المؤمنين أحيل من رأيت. وخرجت مرة حتى انتهيت إلى موضع كنت أقطع فيه الطريق فلم أر أحداً، فأجريت فرسي يميناً وشمالاً وإذا أنا بفارس، فلما دنا مني، فإذا هو غلام حسن نبت عذاره من أجمل من رأيت من الفتيان، وأحسنهم. وإذا هو قد أقبل من نحو اليمامة، فلما قرب مني سلم علي ورددت عليه السلام وقلت: من الفتى? قال: الحرث بن سعد فارس الشهباء. فقلت له: خذ حذرك فإني قاتلك! فقال: الويل لك، فمن أنت? قلت: عمرو بن معد يكرب الزبيدي. قال: الذليل الحقير، والله ما يمنعني من قاتلك إلا استصغارك. فتصاغرت نفسي، يا أمير المؤمنين، وعظم عندي ما استقبلني به. فقلت له: دع هذا وخذ حذرك فإني قتلك، والله لا ينصرف إلا أحدنا. فقال: اذهب، ثكلتك أمك، فأنا من أهل بيت ما أثكلنا فارس قط. قلت: هو الذي تسمعه. قال: اختر لنفسك فإما أن تطرد لي، وإما أن أطرد لك. فاغتنمتها منه فقلت له: أطرد لي. فأطرد وحملت عليه فظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه فإذا هو صار حزاماً لفرسه ثم عطف علي فقنع بالقناة رأسي وقال: يا عمرو خذها إليك واحدةً، ولولا أني أكره قتل مثلك لقتلتك. قال: فتصاغرت نفسي عندي، وكان الموت، يا أمير المؤمنين أحب إلي مما رأيت، فقلت له: والله لا ينصرف إلا أحدنا. فعرض علي مقالته الأولى فقلت له: أطرد لي، فأطرد فظننت أني تمكنت منه فاتبعته حتى ظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه. فإذا هو صار لبباً لفرسه، ثم عطف علي فقنع بالقناة رأسي وقال: خذها إليك يا عمرو ثانية. فتصاغرت علي نفسي جداً، وقلت: والله لا ينصرف إلا أحدنا فاطرد لي، فاطرد حتى ظننت أني وضعت الرمح بين كتفيه فوثب عن فرسه، فإذا هو على الأرض فأخطأته فاستوى على فرسه واتبعني حتى قنع بالقناة رأسي! وقال: خذها إليك يا عمرو ثالثة، ولولا كراهتي لقتل مثلك لقتلتك. فقلت: اقتلني أحب إلي ولا تسمع فرسان العرب بهذا. فقال: يا عمرو، إنما العفو عن ثلاث، وإذا استمكنت منك في الرابعة قتلتك وأنشد يقول: وكِدت إغلاظاً من الإيمان إن عدت يا عمرو الى الطعان لتجدن لهب السنان أولاً فلست من بني شيبان فهبته هيبة شديدة، وقلت له: إن لي إليك حاجة. قال: وما هي? قلت: أكون صاحباً لك. قال: لست من أصحابي. فكان ذلك أشد علي وأعظم مما صنع، فلم أزل أطلب صحبته حتى قال: ويحك أتدري أين أريد? قلت: لا والله. قال: أريد الموت الأحمر عياناً. قلت: أريد الموت معك. قال: امض بنا. فسرنا يومنا أجمع حتى أتانا الليل ومضى شطره. فوردنا على حي من أحياء العرب، فقال لي: يا عمرو في هذا الحي الموت الأحمر فإما أن تمسك علي فرسي فأنزل وآتي بحاجتي، وإما أن تنزل وأمسك فرسك فتأتيني بحاجتي. فقلت: بل أنزلت أنت. فأنت أخبر بحاجتك مني. فرمى إلي بعنان فرسه ورضيت والله يا أمير المؤمنين بأن أكون له سائساً، ثم مضى إلى قبة فأخرج منها جارية لم تر عيناي أحسن منها حسناً وجمالاً، فحملها على ناقة ثم قال: يا عمرو، فقلت: لبيك! قال: إما أن تحميني وأقود الناقة أو أحميك وتقودها أنت? قلت: لا بل أقودها وتحميني أنت. فرمى إلي بزمام الناقة ثم سرنا حتى أصبحنا. قال: يا عمرو قلت: ما تشاء? قال: التفت فانظر هل ترى أحداً? فالتفت فرأيت رجالاً فقلت: اغذذ السير. ثم قال: يا عمرو انظر إن كانوا قليلاً فالجلد والقوة وهو الموت الأحمر. وإن كانوا كثيراً فليسوا بشيء. فالتفت وقلت: وهم أربعة أو خمسة. قال: اغذذ السير. ففعلت. ووقف وسمع وقع حوافر الخيل عن قرب فقال: يا عمرو. كن عن يمين الطريق وقف وحول وجه دوابنا إلى الطريق. ففعلت ووقفت عن يمين الراحلة ووقف عن يسارها ودنا القوم منا وإذا هم ثلاثة أنفار: شابان وشيخ كبير، وهو أبو الجارية والشابان أخواها. فسلموا فرددنا السلام. فقال الشيخ: خل عن الجارية يا ابن أخي. فقال: ما كنت لأخليها ولا لهذا أخذتها. فقال لأحد ابنيه: اخرج إليه، فخرج وهو يجر رمحه فحمل عليه الحرث وهو يقول: من دون ما ترجوه خضب الذابل من فارس ملثمٍ مقاتل ينمي الى شيبان خير وائلٍ ما كان يسري نحوها بباطل ثم شد على ابن الشيخ بطعنة قد منها صلبه، فسقط ميتاً، فقال الشيخ لابنه الآخر: اخرج إليه فلا خير في الحياة على الذل، فأقبل الحرث وهو يقول: لقد رأيت كيف كانت طعنتي والطعن للقرم الشديد الهمةِ والموت خيرٌ من فراق خلتي فقتلتي اليوم ولا مذلتي ثم شد على ابن الشيخ بطعنة سقط منها ميتاً، فقال له الشيخ: خل عن الظعينة يا ابن أخي، فإني لست كمن رأيت، فقال: ما كنت لأخليها، ولا لهذا قصدت. فقال الشيخ: يا ابن أخي اختر لنفسك فإن شئت نازلتك وإن شئت طاردتك فاغتنمها الفتى ونزل فنزل الشيخ وهو يقول: ما أرتجي عند فناء عمري سأجعل التسعين مثل شهر تخافني الشجعان طول دهري إن استباح البيض قصم ظهري فأقبل الحرث وهو ينشد ويقول: بعد ارتحالي ومطال سفري وقد ظفرت وشفيت صدري فالموت خير من لباس الغدر والعار أهديه لحي بكر ثم دنا فقال له الشيخ: يا ابن أخي إن شئت ضربتك، فإن أبقيت فيك بقية فيَّ فاضربني، وإن شئت فاضربني. فإن أبقيت بقية ضربتك. فاغتنمها الفتى وقال: أنا أبدأ. فقال الشيخ: هات. فرفع الحرث يده بالسيف فلما نظر الشيخ أنه قد أهوى به إلى رأسه ضرب بطنه بطعنة قد منها أمعاءه ووقعت ضربة الفتى على رأس الشيخ فسقطا ميتين. فأخذت يا أمير المؤمنين أربعة أفراس وأربعة أسياف ثم أقبلت إلى الناقة فقالت الجارية: يا عمرو: إلى أين ولست بصاحبتك ولست لي بصاحب ولست كمن رأيت؟ فقلت: اسكتي. قالت: إن كنت لي صاحباً فأعطني سيفاً أو رمحاً فإن غلبتني فأنا لك وإن غلبتك قتلتك. فقلت: ما أنا بمعط ذلك. وقد عرفت أهلك وجراءة قومك وشجاعتهم. فرمت نفسها عن البعير ثم أقبلت تقول: أبَعْد شيخي ثم بعد أخوتي يطيب عيشي بعدهم ولذتي وأصحبن من لم يكن ذا همةٍ هلا تكون قبل ذا منيتي ثم أهوت إلى الرمح وكادت تنزعه من يدي. فلما رأيت ذلك منها خفت إن ظفرت بي قتلتني. فقتلتها. فهذا يا أمير المؤمنين أشجع من رأيت. |
عمر والهرمزان
وأحضر الهرمزان بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه مأسوراً فدعاه إلى الإسلام، فأبى، فأمر بضرب عنقه. فقال: يا أمير المؤمنين، قبل أن تقتلني اسقني شربة من الماء، ولا تقتلني ظمآن. فأمر له عمر بقدح مملوء ماء، فلما صار القدح في يد الهرمزان، قال: أنا آمن حتى أشربه? قال: نعم لك الأمان. فألقى الهرمزان الإناء من يده فأراقه، ثم قال: الوفاء يا أمير المؤمنين. فقال عمر رضي الله عنه: دعوه حتى أنظر في أمره. فلما رفع السيف عنه، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال عمر، رضي الله عنه: لقد أسلمت خير الإسلام فما أخرك? قال: خشيت أن يقال إني أسلمت خوفاً من السيف. فقال عمر: إنك لفارس حكيم، استحققت ما كنت فيه من الملك. ثم إن عمر رضي الله عنه، بعد ذلك كان يشاوره في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه. عمر والشاب القاتل وأبو ذَرّ قال شرف الدين حسين بن ريان: أغرب ما سمعته من الأخبار، وأعجب ما نقلته عن الأخيار، ممن كان يحضر مجلس عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه، ويسمع كلامه قال: بينما الإمام جالس في بعض الأيام، وعنده أكابر الصحابة، وأهل الرأي والإصابة، وهو يقول في القضايا، ويحكم بين الرعايا، إذ أقبل شاب نظيف الأثواب، يكتنفه شابان من أحسن الشبان، نظيفا الثياب، قد جذباه وسحباه وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين، ولبباه. فلما وقفوا بين يديه، نظر إليهما وإليه، فأمرهما بالكف عنه. فأدنياه منه وقالا: يا أمير المؤمنين، نحن أخوان شقيقان، جديران باتباع الحق حقيقان. كان لنا أب شيخ كبير، حسن التدبير، معظم في قبائله، منزه عن الرذائل، معروف بفضائله، ربانا صغاراً، وأعزنا كباراً، وأولانا نعماً غزاراً، كما قيل: لنا والدٌ لو كان للناس مثله أبٌ آخرٌ أغناهم بالمناقبِ خرج اليوم إلى حديقة له يتنزه في أشجارها، ويقطف يانع ثمارها، فقتله هذا الشاب، وعدل عن طريق الصواب. ونسألك القصاص بما جناه، والحكم فيه بما أراك الله. قال الراوي: فنظر عمر إلى الشاب وقال له: قد سمعت، فما الجواب? والغلام مع ذلك ثابت الجأش، خال من الاستيحاش، قد خلع ثياب الهلع، ونزع جلباب الجزع، فتبسم عن مثل الجمان، وتكلم بأفصح لسان، وحياه بكلمات حسان ثم قال: يا أمير المؤمنين، والله لقد وعيا ما ادعيا، وصدقا فيما نطقا وخبرا بما جرى، وعبرا بما ترى، وسأنهي قصتي بين يديك والأمر فيها إليك: اعلم، يا أمير المؤمنين، أني من العرب العرباء، أبيت في منزل البادية، وأصيح على أسود السنين العادية، فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد، فأفضت بي بعض طرائقها، إلى المسير بين حدائقها، بنياق حبيبات إلي، عزيزات علي، بينهن فحل كريم الأصل، كثير النسل، مليح الشكل، حسن النتاج، يمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج. فدنت بعض النوق إلى حديقة قد ظهر من الحائط شجرها، فتناولته بمشفرها، فطردتها من تلك الحديقة. فإذا شيخ قد زمجر، وزفر، وتسور الحائط، وظهر وفي يده اليمنى حجر، يتهادى كالليث إذا خطر، فضرب الفحل بذلك الحجر، فقتله وأصاب مقتله. فلما رأيت الفحل قد سقط لجنبه وانقلب، توقدت في جمرات الغضب، فتناولت ذلك الحجر بعينه، فضربته به، فكان سبب حينه، ولقي سوء منقلبه، والمرء مقتول بما قتل به بعد أن صاح صيحة عظيمة، وصرخ صرخة أليمة فأسرعت من مكاني فلم يكن بأسرع من هذين الشابين، فأمسكاني وأحضراني كما تراني. فقال عمر: قد اعترفت بما اقترفت، وتعذر الخلاص، ووجب القصاص، ولات حين مناص. فقال الشاب: سمعاً لما حكم به الإمام، ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام، لكن لي أخ صغير، كان له أب كبير، خصه قبل وفاته بمالٍ جزيل، وذهب جليل، وأحضره بين يدي، وأسلم أمره إلي، وأشهد الله علي، وقال: هذا لأخيك عندك، فاحفظه جهدك، فاتخذت لذلك مدفناً، ووضعته فيه، ولا يعلم به إلا أنا، فإن حكمت الآن بقتلي، ذهب الذهب، وكنت أنت السبب، وطالبك الصغير بحقه، يوم يقضي الله بين خلقه، وإن أنظرتني ثلاثة أيام، أقمت من يتولى أمر الغلام، وعدت وافياً بالذمام، ولي من يضمنني على هذا الكلام. فأطرق عمر، ثم نظر إلى من حضر، وقال: من يقوم على ضمانه والعود إلى مكانه? قال: فنظر الغلام إلى وجوه أهل المجلس الناظرين، وأشار إلى أبي ذَرّ دون الحاضرين، وقال: هذا يكفلني ويضمنني. قال عمر: يا أبا ذر، تضمنه على هذا الكلام? قال: نعم، أضمنه إلى ثلاثة أيام. فرضي الشابان بضمانة أبي ذرّ وأنظراه ذلك القدر. فلما انقضت مدة الإمهال وكاد وقتها يزول أو قد زال، حضر الشابان إلى مجلس عمر والصحابة حوله كالنجوم حول القمر، وأبو ذرّ قد حضر والخصم ينتظر. فقالا: أين الغريم يا أبا ذرّ? كيف يرجع من فر، لا تبرح من مكاننا حتى تفي بضماننا. فقال أبو ذَرّ: وحق الملك العلام، إن انقضى تمام الأيام، ولم يحضر الغلام، وفيت بالضمان وأسلمت نفسي، وبالله المستعان. فقال عمر: والله، إن تأخر الغلام، لأمضين في أبي ذرّ، ما اقتضته شريعة الإسلام. فهمت عبرات الناظرين إليه، وعلت زفرات الحاضرين عليه، وعظم الضجيج وتزايد النشيج، فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذ الدية واغتنام الأثنية، فأصرا على عدم القبول، وأبيا إلا الأخذ بثأر المقتول. فبينما الناس يموجون تلهفاً لما مر، ويضجون تأسفاً على أبي ذرّ إذ أقبل الغلام ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه أتم السلام ووجهه يتهلل مشرقاً ويتكلل عرقاً وقال: قد أسلمت الصبي إلى أخواله، وعرفتهم بخفي أمواله وأطلعتهم على مكان ماله. ثم اقتحمت هاجرات الحر، ووفيت وفاء الحر. فعجب الناس من صدقه ووفائه، وإقدامه على الموت واجترائه.. فقال: من غدر لم يعف عنه من قدر، ومن وفى، رحمه الطالب وعفا، وتحققت أن الموت إذا حضر، لم ينج منه احتراس، كيلا يقال: ذهب الوفاء من الناس. فقال أبو ذَرّ: والله، يا أمير المؤمنين، لقد ضمنت هذا الغلام، ولم أعرفه من أي قوم، ولا رأيته قبل ذلك اليوم. ولكن نظر إلي دون من حضر فقصدني وقال: هذا يضمنني، فلم أستحسن رده، وأبت المروءة أن تخيب قصده، إذ ليس في إجابة القاصد من بأس، كيلا يقال: ذهب الفضل من الناس. فقال الشابان عند ذلك: يا أمير المؤمنين، قد وهبنا هذا الغلام دم أبينا، فبدل وحشته بإيناس، كيلا يقال: ذهب المعروف من الناس. فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وصدقه ووفائه، واستفزر مروءة أبي ذرّ دون جلسائه، واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف، وأثنى عليهما أحسن ثنائه. وتمثل بهذا البيت: من يصنع المعروف لم يعدم جوائزه لا يذهب العرف بين الله والناس ثم عرض عليهما أن يصرف من بيت المال دية أبيهما. فقالا: إنما عفونا ابتغاء وجه ربنا الكريم، ومن نيته هكذا لا يتبع إحسانه مناً ولا أذى. قال الراوي: فأثبتها في ديوان الغرائب، وسطرتها في عنوان العجائب. |
عمر والعجوز المدنية
لما رجع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، من الشام إلى المدينة، انفرد عن الناس ليتعرف أخبار رعيته، فمر بعجوز في خباء لها فقصدها. فقالت: ما فعل عمر رضي الله عنه? قال: قد أقبل من الشام سالماً. فقالت: يا هذا! لا جزاه الله خيراً عني! قال: ولمَ? قالت: لأنه ما أنالني من عطائه منذ ولي أمر المسلمين ديناراً ولا درهماً. فقال: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع? فقالت: سبحان الله ! والله ما ظننت أن أحداً يلي على الناس، ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها. فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: وا عمراه، كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر. ثم قال لها: يا أمة الله! بكم تبيعيني ظلامتك من عمر، فإني أرحمه من النار? فقالت: لا تهزأ بنا، يرحمك الله. فقال عمر: لست أهزأ بك. ولم يزل حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين ديناراً. فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فوضعت العجوز يدها على رأسها وقالت: وا سوأتاه! شتمت أمير المؤمنين في وجهه? فقال لها عمر رضي الله عنه: لا بأس عليك، يرحمك الله، ثم طلب قطعة جلد يكتب فيها فلم يجد، فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي الخلافة إلى يوم كذا، بخمسة وعشرين ديناراً. فما تدعي عليه عند وقوفه في المحشر بين يدي الله تعالى فعمر بريء منه، شهد على ذلك علي وابن مسعود. ثم دفعها إلى ولده وقال له: إذا أنا مت فاجعلها في كفني ألقى بها ربي. |
مع الشافعي
كان الامام الشافعي ماشياً فاذا برجل يسبقه يناجي ربه ويقول: يارب هل انت راض عني؟ فقال الشافعي: يا رجل وهل انت راض عن الله حتى يرضى عنك؟ قال الرجل: كيف أرضى عن ربي وأنا أتمنى رضاه؟ قال:إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله. عندما يغلق الله من دونك بابا تطلبه .فلا تجزع و لاتعترض .. فلربما الخيرة في غلقه .. لكن ثق أن بابا آخر سيفتح لك ينسيك هم الأول ..وقتها ستدرك معنى قوله تعالى .."يدبر الأمر". |
ابن المقفع والخليل
كان ابن المقفع والخليل يحبان أن يجتمعا، فاتفق التقاؤهما، فاجتمعا ثلاثة أيام يتحاوران، فقيل لابن المقفع: كيف رأيته؟ فقال: وجدت رجلاً عقله زائد على علمه. وسئل الخليل عنه فقال: وجدت رجلاً علمه فوق عقله؛ قال بعض العلماء: صدقاً فإن الخليل مات حتف أنفه في خص وهو أزهد خلق الله، وتعاطى ابن المقفع ما كان مستغنياً عنه حتى قتل أسوأ قتلة. |
أراك كلما تكلمت خالفتني
عن عبد الله بن صالح العجلي قال: أخبرني أبو زيد النحوي قال : قال رجل للحسن : ما تقول في رجل ترك أبيه وأخيه ، فقال الحسن : ترك أباه وأخاه ، فقال الرجل: فما لأباه وأخاه ، فقال الحسن : فما لأبيه وأخيه ، فقال الرجل للحسن : أراني كلما كلمتك خالفتني |
لولا بلاغتهم لضُربت أعناقهم
لما تولى الحجاج شؤون العراق، أمر العسس أن يطوفوا بالليل، فمن وجدوه ضربوا عنقه. فطاف العسس ذات ليلة فوجد ثلاثة صبيان، فقبض عليهم وسألهم: من أنتم حتى خالفتم أمر الأمير؟! فقال الأول: أنا ابن من تخضع الرقابُ له ما بين مخزومِها وهاشمِها تأتيه بالذل وهي صاغرةٌ يأخذ من مالِها ومن دمِها فأمسك عن قتله وقال: لعله من أقارب الأمير. , وقال الثاني: أنا ابن الذي لا ينزل الدهرَ قدرُه وإن نزلت يوماً فسوف تعودُ ترى الناسَ أفواجاً إلى ضوء نارِه فمنهم قيامٌ حولها وقعودُ فتأخر عن قتله وقال: لعله من أشراف العرب. , وقال الثالث: انا ابن الذي خاض الصفوف بعزمه وقوَّمَها بالسيف حتى استقامتِ ركاباه لا تنفك رجلاه عنهما إذا الخيل في يوم الكريهة ولّتِ فترك قتله وقال: لعله من شجعان العرب. فلما أصبح رفع أمرهم إلى الحجاج، فأحضرهم وكشف عن حالهم.. فإذا بالأول ابن حجام؛ والثاني ابن فوال؛ والثالث ابن حائك . فتعجب الحجاج من فصاحتهم وقال لجلسائه: "عَلِّمُوا أَولَادَكُم الأَدَبَ، فَلَولَا فَصَاحَتُهُمْ لَضُرِبَتْ أَعْنَاْقُـهُم" ثم أمر بإطلاقهم . |
ليس بلبيبٍ من لم يصف ما به لطبيبٍ
قال أنو شروان لبزرجمهر متى يكون العييُّ بليغاً فقال إذا وصف هوًى أو حبيباً وقيل لبعض أهل هذا العصر متى يكون البليغ عييّاً فقال إذا سأل عمَّا يتمنَّاه أو شكا ما به إلى من يهواه وقال: ما يعلمُ الله أنِّي مذْ هويتكمُ ... أطيقُ إظهارَ ما ألقاهُ باللَّفظِ كمْ قدْ تحفَّظتهُ حتَّى إذا نظرتْ ... عينِي إليكِ أزالتْ هَيْبتي حِفظِي وقال بعض الأدباء في مثل ذلك: أُفكِّرُ ما أقولُ إذا الْتقينا ... وأُحكمُ دائباً حُججَ المقالِ فترتعدُ الفرائصُ حينَ تبدُو ... وأنطقُ حينَ أنطقُ بالمحالِ وقال آخر: أتيتُ معَ الحدَّاثِ ليلَى فلمْ أقلْ ... وأخليتُ فاستعجمتُ عندَ خلائِي وجئتُ فلمْ أنطقْ وعدتُ فلمْ أحِرْ ... جواباً كلاَ اليومينِ يومُ عنائِي فيا عجباً ما أشبهَ اليأْسَ بالغِنَى ... وإنْ لمْ يكونا عندنا بسواءِ وهذا المعنى الَّذي ذكره ليس بمستنكر قد تمنع المحبّ هيبة المحبوب من النيل الَّذي هو اللُّطف من الشَّكوى محلاً في القلوب ألم تسمع الَّذي يقول: محبٌّ قالَ مُكتتماً مُناهُ ... وأسعدهُ الحبيبُ علَى هواهُ أضاعَ الخوفُ أنفسَ ما يُعانِي ... وما عذرَ المُضيعَ لما عَناهُ فأصبحَ لا يلومُ بما جناهُ ... منَ التَّفريطِ إنساناً سواهُ أسرَّ ندامةَ الكُسَعيِّ لمَّا ... رأتْ عيناهُ ما صنعتْ يداهُ وأنشد أبو العباس أحمد بن يحيى: وإنِّي لأخشَى أنْ أموتَ فُجاءةً ... وفي النَّفسِ حاجاتٌ إليكِ كمَا هيَا وإنِّي ليُنْسيني لقاؤكِ كلَّما ... لقيتكِ يوماً أنِي أبثَّكِ ما بيَا وقالُوا بهِ داءٌ عياءٌ أصابهُ ... وقدْ علمتْ نفسِي مكانَ دوائيَا فهذا يخبرُ أنَّ لقاءها هو الَّذي يمنعهُ من شكوى ما يجده إلاَّ أنَّه يشفق من ضرره على نفسه ولا يُبقي بكتمانه على غيره على أنَّه قد قصَّر عنه كثير من أهل هذا العلم في قوله: إنَّ لقاءها يحدث في قلبه حالاً لم تكن قبل ذلك ظاهرة من نفسه إذ لو كان الهوَى قد استوفى منه حقَّه وتناهى به إلى غاية بعده لما كان اللقاء يزيد شيئاً ولا ينقصه. كما قال يزيد بن الطثرية: ولمَّا تناهَى الحبُّ في القلبِ وارداً ... أقامَ وسُدَّتْ بعدُ عنهُ مصادرهْ فأيُّ طبيبٍ يُبرئُ الحبَّ بعدَما ... يسرُّ بهِ بطنُ الفؤادِ وظاهرهْ وكما قال ذو الرمة: ومَا زلتُ أطوي الشَّوقَ عنْ أمِّ خالدٍ ... وجاراتِها حتَّى كأنْ لا أُريدُها فما زالَ يَنمِي حبُّ ميَّة عندنا ... ويزدادُ حتَّى لمْ نجدْ ما نزيدُها ولقد أحسن حبيب بن أوس الطائي حيث يقول: إذا أزهدَتْني في الهوَى خِيفةُ الرَّدى ... جلتْ ليَ عنْ وجهٍ يُزهِّدُ في الزُّهدِ فلا دمعَ ما لمْ يبدُ في إثرهِ دمٌ ... ولا وجدَ ما لمْ تعيَ عنْ صفةِ الوجدِ وأحسن علي بن محمد العلوي الكوفي حيث يقول: قالتْ عَييتَ عنِ الشَّكوى فقلتُ لها ... جهدُ الشَّكايةِ أنْ أعيَا عنِ الكلمِ أشكُو إلى اللهِ قلباً لو كَحلتُ بهِ ... عينيكِ لاختضبتْ منْ حرِّهِ بدمِ لا تُبرِمي فاقدَ الدُّنيا وبهجتَها ... وما يسرُّ بهِ منها بلا ولَمِ على أنَّه من طلب لآدميٍّ مثله بما لم يطالب الله عباده فأخلق بأن يكون ظالماً وقد مدح الله تبارك وتعالى قوماً فقال: )الذين إذا ذُكر اللهُ وجلتْ قلوبهمْ وإذا تُليتْ عليهمْ آياتهُ زادتهمْ إيماناً( فلم يعبهم تعالى بأن كان ذكره بحضرتهم وظهراً عليهم ما لم يمكن قبل موجوداً منهم ومن أحسن ما قيل و من الشِّعر في هذا المعنى: تفديكِ نفسِي لستُ أدرِي أيُّما ... أيَّامكمْ مِن أيِّها أشجاهَا في حبِّكمْ شغلٌ لقلبِي شاغلٌ ... عن كلِّ نائبةٍ يخافَ رَداها ومن جيد ما قيل في نحو الفصل الأول: جعلتُكَ دنيائِي فإنْ أنتَ لم تجُدْ ... عليَّ بوصلٍ فالسَّلامُ علَى الدُّنيا كتمتُكَ ما ألقَى لأنَّكَ مُهجتي ... أخافُ عليها أنْ تذوبَ منَ الشَّكوَى ولبعض أهل هذا الزَّمان في هذا المعنى: بحُرمةِ هذا الشَّهرِ لما نعَّشتَني ... بعفوكَ إنِّي قدْ عجزتُ عنِ العذرِ فلوْ كنتَ تدرِي ما أُلاقِي منَ الهوَى ... لساءَكَ ما ألقَى فليتكَ لا تدرِي لأشقَى بما ألقَى وتبقَى منعَّماً ... خليّاً ونارُ الشَّوقِ تُسعرُ في صدرِي وأنشد أبو العباس أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار عن ثابت بن الزبير عن أبي العتاهية: مَنْ لعبدٍ أذلَّهُ مولاهُ ... ما لهُ شافعٍ إليهِ سواهُ يشتكي ما بهِ إليهِ ويخشَا ... هُ ويرجوهُ مثلَ ما يخشاهُ وهذه حال منقوضة لأنَّ من منعه من شكوى ما يلقاه إشفاقه من موجدة من يهواه فإنما أبقى على نفسه ومن امتنع من ذلك إشفاقاً على قلب صاحبه فقد اعترض على وجده التَّصنُّع إذ فعل ما يقدر على تركه. وقال آخر: الجسمُ ينقصُ والسَّقامُ يزيدُ ... والدَّارُ دانيةٌ وأنتَ بعيدُ أشكوكَ أمْ أشكُو إليكَ فإنَّهُ ... لا يستطيعُ سواهُما المجهودُ وقال الحسن بن هانئ: لا والَّذي لا إلهَ إلاَّ هوَ ... ما خانَ أحبابُنا وما تاهُوا ما علمُوا بالَّذي يجنُّ لهمْ ... منْ طولِ شوقٍ ولا درَوْا ما هوَ وللفتح بن خاقان: قدرتُ علَى نفسِي فأزمعتَ قتلَها ... علَى غيرِ جدٍّ منكَ والنَّفسُ تذهبُ كعصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يسومُها ... ورودَ حياضِ الموتِ والطِّفلُ يلعبُ وقال الحسين بن الضحاك: أيَا مَنْ طرفهُ سحرُ ويَا مَن ريقهُ خمرُ ... تجاسرتُ فكاشفتُكَ لمَّا غلبَ الصَّبرُ وما أحسنَ في مثلكَ إنْ ينهتكَ السِّترُ ... فإنْ عنَّفنِي النَّاسُ ففي وجهكَ لي عُذرُ وقال أيضاً: إنَّ منْ أطولِ ليلٍ أمداً ... ليلَ مشتاقٍ تَصابَى فكتمْ ربَّ فظِّ القلبِ لا لِينَ لهُ ... لوْ رأَى ما بكَ منهُ لرحمْ وقال أيضاً: أُكاتمُ وجدِي وما ينكتمْ ... فمنْ لوْ شُكيتُ إليهِ رحِمْ وإنِّي علَى حسنِ ظنِّي بهِ ... لأحذرُ إنْ بُحتُ أنْ يحتشمْ وقدْ علمَ النَّاسُ أنِّي لهُ ... محبٌّ وأحسبهُ قدْ علمْ ولِي عندَ رؤيتهِ نظرةٌ ... تُحقِّقُ ما ظنَّهُ المتَّهمْ وقال المجنون: فأنتَ الَّذي إنْ شئتَ أشقيتَ عيشِي ... وإنْ شئتَ بعدَ اللهِ أنعمتَ لياليَا وأنتَ الَّذي ما مِنْ صديقٍ ولا عِدا ... رأَى نِضوَ ما أبقيتَ إلاَّ رثَا ليَا وقال أبو نواس: قالتْ ظَلومُ سَميَّةُ الظُّلمِ ... ما لِي رأيتكَ ناحلَ الجسمِ يا مَنْ رمَى قلبِي فأقصدَهُ ... أنتَ الخبيرُ بموقعِ السَّهمِ وقال أبو تمام: واللهِ لوْ تلقَى الَّذي ألقَى ... لحرجتَ أنْ تتجاوزَ الحقَّا بي فوقَ ما تلقَى بواحِدِها ... أمٌّ تراهُ لجنبهِ مُلقَى وقال أبو صخر الهذلي: بيدِ الَّذي شغفَ الفؤادَ بكمْ ... تفريجُ ما ألقَى منَ الهمِّ ما في الحياةِ إذا هيبت لنا ... خيرٌ ولا للعيشِ مِن طعمِ ولمَا بقيتِ لَتُبقينَّ جوًى ... بينَ الجوانحِ مُضرِعاً جسمي فتيقَّنِي أنْ قدْ كلفتُ بكمْ ... ثمَّ اصنَعِي ما شئتِ عن علمِ وقال خليفة بن روح الأسدي: قِفي يا أُميمَ القلبِ نقرأ تحيَّةً ... ونشكو الهوَى ثمَّ اصنعي ما بدَا لكِ فلوْ قلتِ طَأْ في النَّارِ أعلمُ أنَّه ... هوًى لكِ أو مُدنٍ لنا مِن وصالكِ لقدَّمتُ رِجلي نحوَها فوطئْتُها ... هُدًى منكِ لي أو هفوةً مِن ضلالكِ فلا تجْعَلِيني كامرئٍ إنْ وصلتهِ ... أشاعَ وإنْ صرَّمتهِ لمْ يُبالكِ وأنشد ابن أبي طاهر: قالتْ لقيتَ الَّذي لمْ يلقهُ أحدٌ ... قلتُ الدَّليلُ علَى ذاكَ الَّذي أجدُ أودَعْتِني سقماً لا أستقلُّ بهِ ... فليسَ ينفدُ حتَّى ينفدَ الأبدُ وقال مضرس بن بطر الهلالي: وكادتْ بلادُ اللهِ يا أمَّ مالكٍ ... بما رحُبتْ يوماً عليَّ تضيقُ أذودُ سوادَ الطَّرفِ عنكِ وما لهُ ... إلى أحدٍ إلاَّ إليكِ طريقُ ولوْ تعلَمينَ العلمَ أيقنتِ أنَّني ... وربِّ الهدايا المُشعَراتِ صديقُ سلِي هلْ قلانِي مِن عشيرٍ صحِبتهُ ... وهلْ ذمَّ رَحْلي في الرِّفاقِ رفيقُ وأنشد آخر: أمسيتُ لَعَّاباً وأمسَى الهوَى ... يلعبُ في رُوحي وجثمانِي أُشفقُ إنْ بُحنا وإنْ لمْ أبحْ ... فالموتُ في سرِّي وإعلانِي وأنشدني أبو الضياء لنفسه: أُنظرْ إلى ناظرٍ قدْ شفَّهُ السّهدُ ... واعطفْ علَى مهجةٍ أودَى بها الكمدُ لا ذقتَ ما ذاقهُ مَن أنتَ مالكهُ ... ولا وجدتَ بهِ مثلَ الَّذي يجدُ أخفَى هواكَ فنمَّتهُ مدامعهُ ... والعينُ تُعربُ عمَّا ضمَّتِ الكبدُ فإنْ جحدتَ الَّذي قاساهُ بينهما ... فشاهداهُ عليكَ الخدُّ والجسدُ وقال أبو المنهال الأشجعي: يا أُمَّ عمروٍ وخيرُ القولِ أصدقهُ ... أوْفي وأنتِ منَ المُوفينَ بالذِّممِ أوْفِي وفاءَ كريمٍ ذِي محافظةٍ ... وإنْ أبَيتِ تقاضيْنَا إلى حكمِ عدلٍ منَ النَّاسِ يُرضِي حينَ يبلغهُ ... أنْ كانَ حبلكِ أمسَى واهيَ الرِّممِ فأعرَضَتْ ثمَّ قالتْ وهيَ لاهيةٌ ... بعدَ التَّغضُّبِ قولَ المؤسفِ الأطِمِ إنْ تدعُ لي حكَماً عدلاً أُحكِّمهُ ... أنطِقْ لديهِ بلا عيٍّ ولا بكَمِ منِّي بأرضكِ شجوٌ لستُ ناسيهِ ... لوْ بالحجازِ هوَى أيَّامكِ القدُمِ وكتب عبد الله بن الدمينة إلى أمامة: وأنتِ الَّتي كلَّفتِني دلَجَ السُّرَى ... وجونُ القطَا بالجَلْهتينِ جثومُ وأنتِ الَّتي قطَّعتِ قلبِي حزازةً ... وفرَّقتِ قرحَ القلبِ فهوَ كليمُ وأنتِ الَّتي أحفظتِ قومِي فكلُّهمْ ... بعيدُ الرِّضا دانِي الصُّدودِ كتومُ وكتبت إليه: وأنتَ الَّذي أخلفْتَني ما وعدْتَنِي ... وأشمتَّ بِي مَن كانَ فيكَ يلومُ وأبرزْتَنِي للنَّاسِ ثمَّ تركْتَنِي ... لهمْ غرَضاً أُرمَى وأنتَ سليمُ فلوْ أنَّ قولاً يكلِمُ الجسمَ قدْ بدا ... بجسميَ مِنْ قولِ الوُشاةِ كلومُ وكتب بعض أهل الأدب إلى أخ له من أهل هذا العصر: سيِّدي أنتَ قدْ أسأْتَ بقولِي ... سيِّدي أنتَ فارضَ عبدَكَ عبْدا لا تلقَّى الدُّعاءَ منِّي بنكرٍ ... فتُرى قاتلاً لنفسيَ عمدَا فأجابه: أنا بالرِّقِّ في الهوَى منكَ أولَى ... وأرَى ذاكَ يشهدُ اللهُ مجدَا علمَ اللهُ أنَّني منكَ راضٍ ... أنْ ترانِي لعيدِ عبدِكَ عبدَا وقال آخر: يا مُوقدَ النَّارِ إلهاباً علَى كبدِي ... إليكَ أشكُو الَّذي بِي لا إلى أحدِ إليكَ أشكُو الَّذي بِي مِن هواكَ فقدْ ... طلبتُ غيركَ للشَّكوَى فلم أجِدِ وقال بعض الأعراب: إذا لمتَها قالتْ عديمٌ وإنَّما ... صمتَّ فما جرَّبتَ جُوداً ولا بخلا بلَى قلتُ هلْ ثمَّ انصرفتْ ولمْ تعدْ ... فتستنكِرَ الإعراضَ أوْ تعرفَ البذْلا |
من أين تصيح إذاً
سأل رجل (عمر بن قيس ) عن الحصاة من حصى المسجد يجدها الانسان في ثوبه او خفه او جبهته فقال له :ارم بها فقال الرجل : زعموا انها تصيح حتى ترد الى المسجد قال : دعها تصيح حتى ينشق حلقها قال الرجل : اولها حلق قال عمر: فمن اين تصيح اذا |
من تداوى بدائه لم يصل لشفائه !
إن أصل الهوَى يتولَّد من النَّظر والسَّماع ثمَّ ينمي حالاً بعد حالٍ وفي مثل ذلك يقول حبيب بن أوس الطائي: بَعثْنَ الهوَى في قلبِ من ليسَ هائماً ... فقلْ في فؤادٍ رُعنهُ وهو هائمُ وقال غيلان بن عقبة في نحو ذلك: خليليَّ لمَّا خفتُ أنْ تستفزَّني ... أحاديثُ نفسي بالهوى واهتمامُها تداويتُ من ميٍّ بتكليمةٍ لها ... فما زاد إلاَّ ضعفَ شوقي كلامُها وقال أيضاً: وكنتُ أرى من وجهِ ميَّةَ لمحةً ... فأبرقُ مغشياً عليَّ مكانيا وأسمعُ منها لفظةً فكأنَّما ... يُصيبُ بها سهمٌ طريقَ فُؤاديا تُطيلينَ ليَّاني وأنتِ مليَّةٌ ... وأُحسنُ يا ذاتَ الوشاحِ التَّقاضيا هيَ السِّحرُ إلاَّ أنَّ للسِّحرِ رُقيةً ... وأنِّيَ لا ألقى منَ الحبِّ راقيا وقال أيضاً: تحنُّ إلى ميٍّ وقدْ شطَّتِ النَّوى ... وما كلُّ هذا الحبِّ غيرُ غرامِ لياليَ ميٌّ موتةٌ ثمَّ نشرةٌ ... لما ألمحتْ من نظرةٍ وكلامِ وقال آخر: يقولون ليلى بالعراقِ مريضةٌ ... فأقبلتُ من مصرٍ إليها أعودُها فوالله ما أدري إذا أنا جئتُها ... أَأُبرئُها من دائها أمْ أزيدها ولقد أحسن الطائي حيث يقول: أمْتعتُ طرفي يومَ ذاكَ بنظرةٍ ... لا تُمتعُ الأرواحَ بالأجسادِ وأنشد أبو طاهر الدمشقي: دوائيَ مكروهي ودائي محبَّتي ... فقدْ عيلَ صبري كيفَ بي أتقلَّبُ فلا كمدٌ يبلى ولا لكِ رحمةٌ ... ولا عنكِ إقصارٌ ولا عنكِ مذهبُ وقال علي بن محمد العلوي: كمْ نظرةٍ منها شجيتُ لها ... قامتْ مقامَ الفقدِ للنَّظرِ ولَّى بأوطاري ولستُ أرى ... عيشاً يُهشُّ لهُ بلا وطرِ وأنشد أحمد بن أبي طاهر: نازعني من طرفهِ الوَحْيا ... وهَمَّ أن ينطقَ فاستحْيا جرَّدَ لي سيفيْنِ من لحظهِ ... أماتَ عن ذا وبِذا أحيى وقال الحسين بن الضحاك المعروف بالخليع: وأتاني مُفحمٌ بغرَّتهِ ... قلتُ لهُ إذ خلوْتُ مُحتشما تحبُّ بالله من يخصُّكَ بالحبِّ ... فما قالَ لا ولا نعما ثمَّ تولَّى بمُقلتيْ خجلٍ ... أراد ردَّ الجوابِ فاحتشما فكنتُ كالمُبتغي بحيلتهِ بُرءاً ... من السُّقمِ فابتدا سقما وقال آخر: تأمَّلتُها مُغترَّةً فكأنَّما ... رأيتُ بها من سُنَّةِ البدرِ مَطلعا إذا ما ملأتُ العينَ منها ملأتُها ... من الدَّمعِ حتَّى أنزفَ الدَّمعَ أجمعا وقال آخر: تمنَّيتُ من أهوى فلمَّا لقيتُهُ ... بَهتُّ فلمْ أُعملْ لِساناً ولا طرفا فأغضيتُ إجلالاً لهُ ومهابةً ... وحاولتُ أن يخفى الَّذي بي فلمْ يخفى وأنشد أحمد بن أبي طاهر لعلي بن الجهم لنفسه: ولمَّا بدتْ بينَ الوُشاةِ كأنَّها ... عناقُ وداعٍ يُشتهى وهو يقتلُ أيِسْتُ من الدُّنيا فقلتُ لصاحبي ... لئنْ عجلتْ للموتِ أوحى وأعجلُ وقال آخر: أيُّها النَّائمون حولي هنيئاً ... هكذا كنتُ حينَ كنتُ خليّاً منْ رآني فلا يُديمنَّ لحظاً ... وليكنْ من جليسه سامريّاً وقال مسلم بن الوليد: أديرا عليَّ الكأسَ لا تشربا قبلي ... ولا تطلُبا من عندِ قاتلي ذحْلي فما حزَني أنِّي أموتُ صبابةً ... ولكن علَى من لا يحلُّ لها قتلي أُحبُّ الَّتي صدَّتْ وقالتْ لِترْبها ... دعيهِ الثُّريَّا منهُ أقربُ من وصلي أماتتْ وأحيتْ مُهجتي فهيَ عندها ... مُعلَّقةٌ بينَ المواعيدِ والمطْلِ وما نلتُ منها طائلاً غيرَ أنَّني ... بشجوِ المُعنَّيْنَ الأولى سلفوا قبلي بلى ربَّما وكَّلتُ عيني بنظرةٍ ... إليها تزيدُ القلبَ خبلاً علَى خبْلِ وقال أيضاً: عرفتُ بها الأشجانَ وهيَ خليَّةٌ ... من الحبِّ لا وصلٌ لديها ولا هجرُ أراها فأطوي للنَّصيحِ عداوةً ... وأحمدُ عُقبى ما جنى النَّظرُ الشَّزْرُ فلا سيَّما العُذَّالَ فيها ملامهُمْ ... ألستُ إذا لاموا أبيتُ ولي عذرُ شكوتُ فقالوا ضقتَ ذَرعاً بحبِّها ... متى تُملكُ الشَّكوى إذا غُلبَ الصَّبرُ ألمَّتْ بنا في العائداتِ من أهلها ... فأذْكتْ غليلاً ما لديها بهِ خُبرُ ولبعض أهل هذا العصر: إذا كان اللِّقاءُ يزيدُ شوقاً ... وكان فراقُ من أهوى يشوقُ فليسَ إلى السُّلوِّ وإنْ تمادى ... عتابُكَ في الهوَى أبداً طريقُ ومنْ يكُ ذا سقامٍ إنْ تداوى ... تزايدَ سُقمهُ فمتى يُفيقُ وله أيضاً: إذا زارَ الحبيبُ أثارَ شوقاً ... تفتَّتُ من حرارتهِ العِظامُ وروَّاني بعينيهِ مُداماً ... تدينُ بسُكرِ شاربها المُدامُ فوصلٌ يُكسبُ المُشتاقَ سُقماً ... ونأيٌ لا يقومُ لهُ قِوامُ فهلْ يصلُ السَّقيمُ إلى شفاءٍ ... إذا كانَ الدَّواءُ هوَ السَّقامُ وله أيضاً: أغريْتَني بحياتي إذ غريتَ بها ... فصارَ طولُ بقائي بعضَ أعدائي فكيفَ يُنعشُ من أرداهُ ناعشهُ ... ومن يرى جسمهُ رأيَ الأطبَّاءِ أمْ كيفَ يبرأُ قلبي من صبابتهِ ... بطبِّكمْ ودوائي عندكمْ دائي وله أيضاً: متى يا شفاءَ السُّقمِ سُقميَ مُنقضي ... إذا ما دواءٌ كانَ للدَّاءِ مُمرضي فهيهاتَ ما هذا علَى ذا يقلع ... أجلْ لا ولكن مدَّةُ العمرِ تنقضي وقال آخر: ومُختلسٍ باللَّحظِ ما لا ينالهُ ... قريبٍ بحالِ النَّازحِ المُتباعدِ وفي نظرِ الصَّادي إلى الماء حسرةٌ ... إذا كانَ ممنوعاً سبيلَ المواردِ وقال آخر: خليليَّ أضحتْ حاجةٌ لأخيكُما ... بتوضحَ والحاجاتُ يُرجى بعيدُها فكيفَ طِلابي حاجةً لا ينالُها ... بريدي ولا يجري إليَّ بريدُها فهل ينفعُ الحرَّانةَ الكبدِ أن ترى ... حياضَ القِرى من دونها من يذودها وهلْ ينفعُ العينَ الشَّقيَّةَ بالبُكا ... ذُرى طامسِ الأعلامِ لا بلْ يزيدها وقال مجنون بني عامر: تداويتُ من ليلى بليلى من الهوَى ... كما يتداوى شاربُ الخمرِ بالخمرِ ألا زعمَتْ ليلى بأنْ لا أُحبُّها ... بلى واللَّيالي العشرِ والشَّفعِ والوترِ إذا ذُكرتْ يرتاحُ قلبي لِذكرها ... كما انتفضَ العُصفورُ من بللِ القطرِ وقال البحتري: سقى الله أخلاقاً من الدَّهر رطبةً ... سقتْنا الجوى إذ أبرقُ الحزنِ أبرقُ ليالٍ سرقناها من اللَّهوِ بعدما ... أضاءَ بإصباحٍ من الشَّيبِ مفرقُ تداويتُ من ليلى بليلى فما اشتفى ... بماءِ الرُّبى من باتَ بالماءِ يشرَقُ وقال جميل: فيا حُسنها إذ يغسلُ الدَّمعُ كُحلها ... وإذ هيَ تُذري الدَّمعَ منها الأناملُ عشيَّةَ قالتْ في العتابِ قتلْتني ... وقتلي بما قالت هناكَ تُحاولُ فقلتُ لها جودي فقالتْ مُجيبةً ... ألِلْجدِّ هذا منكَ أمْ أنتَ هازلُ لقدْ جعلُ اللَّيلُ القصيرُ لنا بكمْ ... عليَّ لِروعاتِ الهوَى يتطاولُ والأصل في هذا كله هو لامرئ القيس: وما ذرفتْ عيناكِ إلاَّ لتضْربي ... بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مُقتَّل وقال بشار بن برد: مريضةُ ما بينَ الجوانحِ بالضَّنى ... وفيها دواءٌ للعُيونِ وداءُ عتابُ الفتَى في كلِّ يومٍ وليلةٍ ... وتقويمُ أضغانِ النِّساءِ عناءُ وقال عبيد بني حسحاس: تجمَّعنَ من شتَّى ثلاثاً وأربعا ... وواحدةً حتَّى كمُلنَ ثمانيا يعُدنَ مريضاً هنَّ هيَّجنَ داءهُ ... ألا إنَّما بعضُ العوائدِ دائيا وقال آخر: كما تيقَّنتَ أنَّ الحيَّ قدْ رقدوا ... خطاكَ فوقَ رُقابِ النَّاسِ ما تجدُ فلا بلغتَ الَّذي تشفي الغليلَ بهِ ... ولا ظفرتَ ولا نالتْ يديكَ يدُ وقال آخر: إنَّ الذينَ بخيرٍ كنتَ تذكُرهمْ ... همْ أهلَكوكَ وعنهمْ كنتُ أنهاكا لا تطلُبنَّ حياةً عند غيرهم ... فليسَ يُحييكَ إلاَّ من توفَّاكا فهذا البائس مع من قدَّمنا ذِكره مع نُظرائه قد صبر على مضاضة دائه مع علمه بأنه زائد في دائه ولم ير أن ينعطف إلى سواه ولا طلب الراحة إلاَّ من عند من ابتلاه وهذا ضدُّ الَّذي يقول: ولمَّا أبى إلاَّ جِماحاً فُؤادهُ ... ولم يسلُ عن ليلى بمالٍ ولا أهل تسلَّى بأخرى غيرها فإذا الَّتي ... تسلَّى بها تُغري بليلى ولا تُسلي وضد الَّذي يقول: تسلَّيتُ عن ذكرِ الحبيبِ بغيرهِ ... ومِلتُ إليهِ بالمودَّةِ والذِّكرِ فما زادني إلاَّ اشتياقاً وحُرقةً ... إليهِ ولم أملكْ سُلوِّي ولا صبري وما الحبُّ إلاَّ فرحةٌ إن نكلْتها ... بأخرى قرنتَ الضُّرَّ منكَ إلى الضُّرِّ فلا تُطفِ نارَ الحبِّ بالحبِّ طالباً ... سُلوّاً فإنَّ الجمرَ يُسعرُ بالجمرِ وهذا وإن كان مخالفاً لذلك في أنَّه جرب الأدوية على نفسه والتمس الراحة في إلفٍ غير إلفه فإنه موافق للذي يقدمه في التماسه من نحو الجهة الَّتي حدث عنها الدَّاء في رجوع نفسه إلى وطنها وإقبالها بعد الانحراف على سكنها. وقال عبيد الراعي: بني ولو نسى قدْ سئمنا جواركمْ ... وما جمعتنا نيَّةٌ قبلها معا خليلانِ منْ شعبينِ شتَّى تجاورا ... قليلاً وكُنَّا بالتَّفرُّقِ أمتعا أرى آلَ هندٍ لا يُبالي أميرهمْ ... علَى كبدِ المحزونِ أنْ تقطَّعا وقال علي بن الجهم: عيونُ المها بينَ الرّصافةِ والجسرِ ... جلبنَ الهوَى من حيثُ أدري ولا أدري أعدْنَ لي الشَّوقَ القديمَ ولم أكنْ ... سلوتُ ولكن زِدْنَ جمراً علَى جمرِ وقُلنَ لنا نحنُ الأهلَّةُ إنَّما ... تُضيءُ لمنْ يسري بليلٍ ولا تقري فلا نيلَ إلاَّ ما تزوَّدَ ناظرٌ ... ولا وصلَ إلاَّ بالخيالِ الَّذي يسري وقال آخر: وقالُوا لها هذا حبيبكِ مُعرضاً ... فقالتْ ألا إعراضهُ أيسرُ الخطبِ فما هوَ إلاَّ نظرةٌ بتبسمٍ ... فتصطكُّ رِجلاهُ ويسقطَ للجنبِ وقال أبو صخر الهذلي: وإنِّي لآتيها وفي النَّفسِ هجرُها ... بَياتاً لأُخرَى الدَّهرَ ما طلعَ الفجرُ فما هو إلاَّ أنْ أراها فُجاءةً ... فأبهتَ لا عُرفٌ لديَّ ولا نُكرُ وأنسَى الَّذي قدْ جئتُ كيْما أقولهُ ... كما قدْ تُنسِّي لبَّ شاربِها الخمرُ وقال آخر: وكيفَ يحبُّ القلبُ منْ لا يحبُّهُ ... بلَى قدْ تُريدُ النَّفسُ مَنْ لا يُريدُها وكنتُ إذا ما زرتُ ليلَى بأرضِها ... أرى الأرضَ تُطوَى لي ويدنُو بعيدُها تحلَّلُ أحقادِي إذا ما لقيتُها ... وتنْمِي بلا جرمٍ عليَّ حقودُها أما قول تحلَّل أحقادي إذا ما لقيتها فهو كلام صحيح ولو أبدل اسم الحقد بغيرها كان أحسن لأنَّ الحقد لا يتولَّد إلاَّ عن موجدة فتخفى في النفس ويظهر غيرها ويرصد صاحبها بالمكافأة عنها وهذا كلُّه محال بين المتحابين بين باب الجد والهزل جميعاً وقد ذكر الله تعالى جلَّ ثناؤه في باب محبَّته للمؤمنين دليلاً على ما قلناه وذلك قوله عزَّ وجل: )وقالتِ اليهودُ والنَّصارى نحنُ أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤهُ قلْ فلمَ يعذِّبكمْ بذنوبكمْ بلْ أنتمْ بشرٌ ممَّن خلقَ يغفرُ لمنْ يشاء ويعذِّبُ مَنْ يشاء( فجعل جلَّ ثناؤه مكافأتهم بالمعاقبة على ذنوبهم دليلاً على تكذيب دعواهم ونحو ذلك قوله تعالى: )قلْ إنْ كنتمْ تحبُّونَ اللهَ فاتَّبعوني يُجيبُكمُ اللهُ ويغفرْ لكمْ ذنوبكمْ( فضمَّ جلَّ وعزَّ الذُّنوب إلى المحبَّة غير أن من أحسن في بيتين وقصَّر في بيت كان محسناً معفيّاً على إساءته وأما قوله وتنمي بلا جرمٍ عليَّ حقودها فتعتورُه معانٍ أحدها أن يكون ضنُّه بودِّها دعاه إلى سوء الظنّ بها فنسبها أنَّها تضمر له حقداً ويمكن أن يكون عرف من خلائقها ما هو مغيَّب عنَّا. |
نبيذ
حكى الأصمعي أنَّ عجوزًا من الأعراب جلست في طريق مكة إلى فتيان يشربون نبيذًا فسقوها قدحًا فطابت نفسها فتبسّمت، فسقوها قدحًا آخر، فاحمرَّ وجهها وضحكت، فسقوها ثالثًا فقالت: خبروني عن نسائكم بالعراق أيشربون النبيذ؟ قالوا : نعم . قالت : زَنَيْنَ ورب الكعبة، والله إن صدقتُم ما فيكم من يعرف أباه. |
بلاغة الأجوبة المسكتة
من قديم والعرب يرون بلاغتهم في الإيجاز وروعة تعبيرهم في الكلام القليل العدد العامر بالمعاني والدلالات، وهي نظرة ترى في الإطناب - أي كثرة الكلام والإطالة فيه من غير أن يتطلب المعنى ذلك - عجزا عن الإبداع في القول والإتيان فيه بكل ما يستوقف النظر المتأمل، من عبارة موجزة، لكنها - على قصرها - تجمع في ثناياها فيضا من الفكر والحكمة والبصر بالحياة والناس ومن هنا كان قولهم المعروف: خير الكلام ما قل ودل. ويتجلى جمال العربية أروع ما يتجلى من خلال ردودهم البليغة المسكتة وهي مسكتة لأن سامعها يرمى بها فلا يحير جوابا ولا يملك نطقا لأن إحكامها وصياغتها وطريقة صكها بهرته فأخرسته ولأنها عادة تجئ على غير توقع من متقبلها فكأنه أصيب في مقتل فابتلع دهشته وصمت. ولعلنا لو اقتربنا من بعض نماذج هذه الردود المسكتة أو المفحمة كما يحلو للبعض أن يسميها - وكأنما وضع قائلها في فم من يسمعها فحما فلم يستطع النطق - لعلنا لو اقتربنا منها لتعرفنا على فن من فنون العرب البليغة في القول والمبارزة اللسانية، ولأدركنا كيف كانت صياغة العبارة العربية كصياغة الذهب، معيارا بمعيار، قيمة وجمالا وروعة أداء. من أجمل هذه الأجوبة والردود المسكتة ما يروى عن الرسول الكريم، وقد سألته السيدة عائشة: متى يعرف الإنسان ربه؟ فأجابها الرسول الكريم: إذا عرف نفسه! وقال له رجل: يا رسوله الله إني أكره الموت. فقال الرسول الكريم: ألك مال؟ قال الرجل: نعم. فقال الرسول الكريم: قدم مالك، فإن قلب كل امرئ عند ماله. ومعنى قوله: "قدم مالك" أنفقه في سبيل الخير وعمل الصالحات حتى إذا لم يبق لك إلا القليل لم تحرص علي الحياة. ويروون أن الأحنف بن قيس- أحد حكماء العرب وحلمائهم في الجاهلية - سئل ذات يوم: ممن تعلمت الحلم؟ فقال: تعلمته من قيس بن عاصم المنقري، حضرته يوما وهو محتب - أي جالس على مؤخرته وقد ضم فخذيه وساقيه إلى بطنه بذراعه ليتكئ - يحدثنا إذ جاءوا بابن له قتيل وابن عم له كتيف - أي مقيد - فقالوا: هذا قتل ابنك هذا، فلم ينقطع قيس عن حديثه، ولا حل حبوته - أي فك جلسته - حتى فرغ من الحديث، فالتفت إليهم وقال : أرعبتم الفتى - أي أخفتموه. ثم أقبل عليه فقال: يا بني، نقصت عددك، وأوهنت ركنك، وفتت في عضدك، وأشمت عدوك، وأسأت إلى قومك. ثم التفت إلى قومه وقال: أين ابني فلان؟ فوقف بين يديه، فقال له: يا بني، قم إلى ابن عمك فأطلقه، وإلى أخيك فادفنه، وإلى أم القتيل فأعطها مائة ناقة لأنها غريبة فلعلها تسلو عنه. ويروون أن يحيى بن خال قال لشريك: علمنا مما علمك الله يا أبا عبدالله. فقال له شريك: إذا عملتم بما تعلمون، علمناكم ما تجهلون. وقالت زوجة يحيى بن طلحة لزوجها: ما رأيت ألأم من أصحابك إذا استغنيت لزموك، وإذا أعسرت تركوك. فقال: هذا من كرم أخلاقهم، يأتوننا في حال القوة منا عليهم، ويفارقوننا في حال الضعف منا عنهم. ويروون أنه قيل لابن السماك الأسدي - أيام معاوية -: كيف تركت الناس؟ قال: تركتهم بين مظلوم لا ينتصف له، وظالم لا ينتهي. ولقي الإمام الحسين بن علي الشاعر الفرزدق وهو في مسيرة إلى العراق، فسأله الحسين عن الناس، فقال الفرزدق: القلوب معك، والسيوف عليك والنصر في السماء. وقيل للخليل بن أحمد - واضع علم العروض والقوافي-: مالك تروي الشعر ولا تقوله؟ فقال: لأني كالمسن، أشحذ ولا أقطع. وسئل مثل هذا السؤال مرة أخرى فقال: يأباني جيده وأبي رديئه. ويروون أن الخليفة العباسى المنصور كتب إلى عبدالله جعفر الصادق يقول له: لم لا تغشانا كما يغشانا الناس؟ فقال له عبدالله: ليس لنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنئك بها ولا نعدها نقمة فنعزيك لها. فأجابه المنصور: يا عبدالله، تصحبنا لتنصحنا، فقال عبد الله: من يطلب الدنيا لا ينصحك، ومن يطلب الآخرة لا يصحبك. ويروون أن رجلا استمع إلى الشاعر العباسي أبي تمام وهو ينشد قوله: لا تسقني ماء الملام، فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي. فأعد له كأسا وهو يقول - على سبيل التهكم والسخرية-: ابعث إلي في هذه الكأس بقليل من ماء الملام، فأجابه أبو تمام من فوره: لا أبعث إليك حتى تبعث إلي بريشة من جناح الذل أكتب بها - وأبوتمام يشير إلى قوله تعالى: واخفض لهما جناح الذل من الرحمة. |
العقل عند الهوى أسير
وفي ذلك يقول محمد الوراق: تعصِي الإلهَ وأنتَ تُظهرُ حبَّهُ ... هذا محالٌ في القياسِ بديعُ لو كانَ حبُّكَ صادقاً لأَطعتَهُ ... إنَّ المحبَّ لمنْ أحبَّ مُطيعُ ثمَّ تقوى المحبَّة فتصير خُلَّة والخلَّة بين الآدميين أن تكون محبَّة أحدهما قد تمكَّنت من صاحبه حتَّى أسقطت السرائر بينه وبينه فصار متخلِّلاً لسرائره ومطَّلعاً على ضمائره. وفي هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر: فلا تهجرْ أخاكَ بغيرِ ذنبٍ ... فإنَّ الهجرَ مفتاحُ السُّلوِّ إذا كتمَ الخليلُ أخاهُ سرّاً ... فما فضلُ الصَّديقِ علَى العدوِّ ويقال إنَّ الخلَّة بين الآدميين مأخوذة من تخلُّل المودَّة بين اللَّحم والعظم واختلاطهما بالمخ والدم وهذا المعنى غير مخالف للأول بل هو أوضح سبب له لأن من حلَّ من النفس هذا المحل لم يستبدَّ عنه بأمر ولم يستظهر عليه بسرّ. وقد أنشد بيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في هذا النحو: تغلغلَ حبُّ عَثمةَ في فؤادِي ... فباديهِ معَ الخافِي يسيرُ تغلغلَ حيثُ لمْ يبلغْ شرابٌ ... ولا حزنٌ ولمْ يبلغْ سرورُ ثمَّ تقوى الخلَّة فتوجب الهوَى والهوَى اسم لانحطاط المحب في مَحابِّ المحبوب وفي التوصُّل إليه بغير تمالك ولا ترتيب. أنشد أبو العباس أحمد بن يحيى: وإنَّ امرءاً يهوِي إليكِ ودونهُ ... منَ الأرضِ مَوْماةٌ وبيداءُ خَيْفقُ لمحقوقةٌ أنْ تستجيبي لصوتهِ ... وإنْ تعلَمِي إنَّ المعينَ موفَّقُ ثمَّ تقوى الحال فيصير عشقاً والعاشق يمنعه من سرعة الانحطاط في هوى معشوقه إشفاقه عليه وضنُّه به حتَّى أنَّ إبقاءه عليه ليدعوه إلى مخالفته وترك الإقبال عليه فمن النَّاس من يتوهَّم لهذه العلَّة أنَّ الهوَى أتمُّ من العشق وليس الأمر كذلك ثمَّ يزداد العشق فيصير تتْيِيماً وهو أن تصير حال المعشوق مستوفية للعاشق فلا يكون فيه معها فضل لغيرها ولا يزيد بقياسه شيئاً إلاَّ وجدته متكاملاً فيها. وفي مثل هذا المعنى يقول أبو الشيص: وقفَ الهوَى بِي حيثُ أنتِ فليسَ لِي ... مُتأخَّرٌ عنهُ ولا مُتقدَّمُ أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً ... حبّاً لذكركِ فليلُمْنِي اللُّوَّمُ أشبهتِ أعدائِي فصرتُ أُحبُّهمْ ... إذ كانَ حظِّي منكِ حظِّي منهمُ وأَهنتِنِي فأهنتُ نفسِي جاهداً ... ما مَنْ يهونُ عليكِ ممَّنْ أُكرمُ ولو لم يقل أبو الشيص في عمره بل لو لم يقل أحد من أهل عصره غير هذه الأربعةِ الأبيات لكانوا مقصرين وإذا كانت كل خواطر العشَّاق فيما يتمنَّاه واقعة ممَّن يهواه على الأمر الَّذي يرضاه فهذه في المشاكلة الطبيعية الَّتي لا يفنيها مرُّ الزَّمان ولا تزول إلاَّ بزوال الإنسان وإذا صحَّ هذا المذهب لم يعجب من أن يميل الإنسان إلى الإنسان بخلَّة أوْ خلَّتين فإذا زالت العلَّة زال الهوَى فلا يزال المرابط متنقِّلاً إلى أن يصادف من يجتمع فيه هواه فحينئذ يرضاه فلا ينعطف عنه إلى أحد سواه. ولبعض أهل هذا العصر في هذا المعنى: أيا زاعماً أنِّي لهُ غيرُ خالصِ ... وأنِّي موقوفٌ علَى كلِّ قانصِ كمَا أنتَ فانظرْ في وفائكَ خالصاً ... تراهُ لمنْ يهواكَ أمْ غيرَ خالصِ فحينئذٍ فارجعْ بما تستحقُّهُ ... عليَّ وطالبني إذاً بالنَّقائصِ سأعرضُ نفسِي يمنةً وشآمةٌ ... علَى كلِّ ثاوٍ في البلادِ شاخصِ إلى أن أرَى شكلاً يصونُ مودَّتِي ... فحينئذٍ أغلُو علَى كلِّ غائصِ أمثلِي يخونُ العهدَ عنْ غيرِ حادثٍ ... رمانِي إذاً ربي بحتفٍ مُغافصِ ثمَّ يزداد التَّتييم فيصير ولهاً والوله هو الخروج عن حدود الترتيب والتَّعطُّل عن أحوال التَّمييز حتَّى تراه يطلب ما لا يرضاه ويتمنَّى ما لا يهواه ثمَّ لا يحتذي مع ذلك مثالاً ولا يستوطن حالاً. وقد قال حبيب بن أوس الطائي في نحو هذا: ولَّهَتهُ العُلى فليسَ يعدُّ ال ... بؤسَ بؤساً ولا النَّعيمَ نعيماً والشَّوق تابع لكلِّ واحدة من هذه الأحوال والمستحسن يشتاق إلى ما يستحسنه على قدر محلِّه من نفسه ثمَّ كلَّما قويت الحال قوي معها الاشتياق فالحبّ وما أشبهه يتهيَّأ كتمانه فإذا بلغت الاشتياق بطل الكتمان. وفي مثل ذلك يقول يزيد بن الطثرية: أعِيبُ الَّذي أهوَى وأُطرِي جوارياً ... يرينَ لها فضلاً عليهنَّ بيِّنا برغمِي أُطيلُ الصَّدَّ عنها إذا بدتْ ... أُحاذرُ أسماعاً عليها وأعيُنا فدْ غضبتْ أنْ قلتُ أنْ ليس حاجتِي ... إليها وقالتْ لمْ يُردْ أنْ يحبَّنا وهلْ كنتُ إلاَّ مُعمَداً قانطَ الهوَى ... أسرَّ فلمَّا قادهُ الشَّوقُ أعلَنا أتانِي هواها قبلَ أنْ أعرفَ الهوَى ... فصادفَ قلبِي خالياً فتمكَّنا ولعمري إنَّ هذا لمن نفيس الكلام غير أنَّ في البيت ضعفاً وذلك أنَّه جعل سبب تمكُّن الهوَى من قلبه أنَّه صادفه خالياً لم يسبقه إليه غيره وليست هذه من أحوال أهل التَّمام إذ كلُّ من صادف محلا لا يدافع عنه لم يتعذر عليه طريق التَّمكُّن منه. وقد قال بعض أهل هذا العصر: وقدْ كانَ يسبِي القلبَ في كلِّ ليلةٍ ... ثمانونَ بلْ تسعونَ نفساً وأرجحُ يهيمُ بهذا ثمَّ يعشقُ غيرهُ ... ويسلاهمُ مِنْ فورهِ حينَ يصبحُ وكانَ فؤادِي صاحياً قبلَ حبِّكمُ ... وكانَ بحبِّ الخلقِ يلهُو ويمزحُ فلمَّا دعَا قلبِي هواكَ أجابهُ ... فلستُ أراهُ عنْ ودادكَ يبرحُ رُميتُ بهجرٍ منكَ إنْ كنتُ كاذباً ... وإنْ كنتُ في الدُّنيا بغيركَ أفرحُ وإنْ كانَ شيءٌ في البلادِ بأسرِها ... إذا غبتَ عنْ عينيَّ عندِي يملحُ فإنْ شئتَ واصِلْنِي وإنْ شئتَ لمْ تصلْ ... فلستُ أرَى قلبِي لغيركَ يصلحُ فالمحبَّة ما دامت لهواً ونظراً فهي عذبة المبتدأ سريعة الانقضاء فإذا وقعت مرتَّبة على التَّمام في المصافاة تعذَّرت قدرة القلب على هواه فحينئذ تضلُّ أفهام المتميزين وتبطل حيل المتفلسفين. وفي نحو ذلك يقول بعض الظرفاء: طوَى شَجَنا في الصَّدرِ فالدَّمعُ ناشرُهْ ... فإنْ أنتَ لمْ تعذرهُ فالشَّوقُ عاذرُهْ هوًى عذبتْ منهُ مواردُ بدرهِ ... فلمَّا نمَى أعيتْ عليهِ مصادرُهْ وأنشد أبو العباس أحمد بن يحيى لامرأة من قيس: وما كيِّسٌ في النَّاسِ يُحمدُ رأيهُ ... فيوجدُ إلاَّ وهوَ في الحبِّ أحمقُ وما مِنْ فتًى ما ذاقَ بؤسَ معيشةٍ ... فيعشقُ إلاَّ ذاقَها حينَ يعشقُ وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير: ورمَى الهوَى منَّا القلوبَ بأسهمٍ ... رميَ الكُماةِ مَقاتلَ الأعداءِ ومنَ العجائبِ قتلهُ لكرامِنَا ... وشِدادِنا بمكائدِ الضُّعفاءِ وقال أبو دلف: الحربُ تضحكُ عنْ كرِّي وإقدامِي ... والخيلُ تعرفُ آثارِي وأقدامِي سيفِي مدامِي ورَيْحانِي مُثقفةٌ ... وهمَّتي مِقَةُ التَّقصيمِ للهامِ وقدْ تجرَّدَ لي بالحسنِ مُنفرداً ... أمضَى وأشجعُ منِّي يومَ إقدامِي سلَّتْ لواحظهُ سيفَ السَّقامِ علَى ... جسمِي فأصبحَ جسمِي رَبعَ أسقامِ وقال آخر: ألا قاتلَ اللهُ الهوَى كيفَ يقتلُ ... وكيفَ بأكبادِ المحبِّينَ يفعلُ فلا تعذُلنِّي في هوايَ فإنَّني ... أرَى سَورةَ الأبطالِ في الحبِّ تبطلُ وقال آخر: الحبُّ يتركُ مَنْ أحبَّ مدَلَّهاً ... حيرانَ أوْ يقضِي عليهِ فيسرعُ الحبُّ أهونهُ شديدٌ فادحٌ ... يهنُ القويَّ منَ الرِّجالِ فيصرعُ مَنْ كانَ ذا حزمٍ وعزمٍ في الهوَى ... وشجاعةٍ فالحبُّ منهُ أشجعُ وقال النابغة الذبياني: لوْ أنَّها عرضتْ لأشمطَ راهبٍ ... يدعُو الإلهَ صرورةٍ مُتعبِّدِ لرَنَا لبهجتِها وحسنِ حديثِها ... ولخالَهُ رشَداً وإنْ لمْ يرشدِ أسعُ البلادَ إذا أتيتكِ زائراً ... وإذا هجرتكِ ضاقَ عنِّي مَقعدِي وأنشدت أعرابية بالبادية: تبصَّرْ خليلِي هلْ ترَى بينَ وائشٍ ... وبينَ أحَيٍّ مِنْ ظعائنَ كالأثْلِ ظعائنُ يَسلبنَ الفتَى الغرَّ عقلهُ ... وذا الأهلِ حتَّى لا يُبالِيَ بالأهلِ وقال آخر: أروحُ ولمْ أُحدثْ لليلى زيارةً ... لبئسَ إذاً راعِي المودَّةِ والوصلِ ترابٌ لأهلِي لا ولا نعمةٌ لهمْ ... لشدَّ إذنْ ما قدْ تعبَّدنِي أهلِي وقال ماني: مُكتئبٌ ذُو كبدٍ حرَّى ... تبكِي عليهِ مقلةٌ عبرَى يرفعُ يمناهُ إلى ربِّهِ ... يدعُو وفوقَ الكبدِ اليسرَى يبقَى إذا كلَّمتهُ باهتاً ... ونفسهُ ممَّا بهِ سكرَى تحسبهُ مُستمعاً ناصتاً ... وقلبهُ في أُمَّةٍ أُخرَى وقال غيره وهو مجنون بني عامر: وشُغلتُ عنْ فهمِ الحديثِ سوَى ... ما كانَ فيكِ وحبُّكمْ شُغلِي وأديمُ نحوَ مُحدِّثي نظَرِي ... أنْ قدْ فهمتُ وعندكمْ عقلِي وقال آخر: مَنْ كانَ لمْ يدرِ ما حبٌّ وصفتُ لهُ ... إنْ كانَ في غفلةٍ أوْ كانَ لمْ يجدِ الحبُّ أوَّلهُ روعٌ وآخرهُ ... مثلُ الحرارةِ بينَ القلبِ والكبدِ وقال الحسين بن مطير الأسدي وهو من جيد ما قيل في معناه: قضَى اللهُ يا أسماءُ أنْ لستُ زائلاً ... أُحبُّكِ حتَّى يغمضَ العينَ مُغمضُ فحبُّكِ بلوَى غيرَ أنْ لا يسرُّني ... وإنْ كانَ بلوَى أنَّني لكِ مُبغضُ إذا ما صرفتُ القلبَ في حبِّ غيرِها ... إذاً حبُّها مِنْ دونهِ يتعرَّضُ فيا ليتَني أقرضتُ جَلداً صبابَتي ... وأقرَضَني صبراً علَى الشَّوقِ مُقرضُ أما قوله فحبُّك بلوَى فكلام قبيح المعنى وذلك أنَّه كان صادقاً في هواها مختاراً لها على ما سواها فقد أتى على نفسه إذ جعل اختياره مضرّاً بقلبه وإن كان لم يدخل في الهوَى مختاراً وإنَّما وقع به اضطراراً فقد أخطأ إذ سمَّى ما هو موجودٌ في طبعه مفارقٌ لنفسه باسم البلوى الَّتي تعرض له وتنصرف عنه وأمَّا إخباره بأنَّه لا يسرُّ بأن يكون مبغضاً لها فكلامٌ لو سكت عنه كان أولى أو أن يكفّه أنَّه مُبتلًى عند نفسه بهواها حتَّى يريد مع ذلك أن يكون مبغضاً مائلاً إلى سواها غير أنِّي أرجع إلى من ملكه الإشفاق وغلب على قلبه الاشتياق عذراً بأن يُظهر ما يضمر سواه ويتمنَّى لنفسه غير ما يهواه ألم يسمع الَّذي يقول: مِنْ حبِّها أتمنَّى أنْ يُلاقينِي ... مِنْ نحوِ بلدتِها ناعٍ فينْعَاها كيْما أقولَ فراقٌ لا التقاءَ لهُ ... وتُضمرُ النَّفسُ يأساً ثمَّ تسلاها وهذا لعمري سرفٌ شديد وطريق الاعتذار لقائله بعيد وأقرب منه قول أبي الوليد بن عبيد الطائي: مُقيمٌ بأكنافِ المصلَّى تصيدُني ... لأهلِ المصلَّى ظبيةٌ لا أصيدُها أُريدُ لنفسِي غيرَها حينَ لا أرَى ... مُقاربةً منها ونفسي تريدُها وهذا الكلام أيضاً حسن الظَّاهر قبيح الباطن وذلك أنَّه يعبِّر عن صاحبته أنَّه إنَّما يريدها ما دامت تواصله فإذا هجرته انصرف عنها قلبه إلاَّ أنَّه وإن كان مقصِّراً في هذا البيت فما قصَّر في قوله: يهواكَ لا أنَّ الغرامَ أطاعهُ ... حتماً ولا أنَّ السُّلوَّ عصاهُ مُتخيِّرٌ ألفاكَ خيرةَ نفسهِ ... ممَّن نآهُ الودُّ أوْ أدناهُ وهذا ضد قول أبي علي البصير: لوْ تخيَّرتُ ما عشقتُ ولوْ مُلِّ ... كتُ أمرِي عرفتُ وجهَ الصَّوابِ وأقبح من هذا القول الَّذي يقول: إنَّ الَّذي بعذابِي ظلَّ مُفتخراً ... هلْ كنتَ إلاَّ مليكاً جارَ إذ قدرَا لولا الهوَى لتَحَاربْنا علَى قدرٍ ... وإن أُفقْ يوماً ما فسوفَ ترَى هذا يتوعد محبوبه بالعقاب وهو أسير في يده يجري عليه حكمه وينفذ فيه فكيف لو قد ملك نفسه وقدر على الإنصاف من خصمه هذه حالٌ لا يُخبر بها عن نفسه إلاَّ من قد غُلب على عقله أو تحيَّر في أمره وقد قال جميل في قريبٍ من هذا المعنى قولاً مليحاً وإن لم يكن معناه عندنا صحيحاً وهو: فيا ربِّ حبَّبْني إليها وأعطِنِي المو ... دَّةَ منها أنتَ تُعطي وتمنعُ وإلاّ فصبِّرني وإنْ كنتُ كارهاً ... فإنِّي بها يا ذا المعارجِ مولعُ وللمجنون ما هو أقبح منه: فيا ربِّ سوِّ الحبَّ بيني وبينها ... كَفافاً فلا يرجحْ لليلَى ولا ليَا وإلاّ فبغِّضْها إليَّ وأهلَها ... تكنْ نعمةً ذا العرشِ أهديتَها ليَا وأنشد أبو العباس محمد بن يزيد النحوي ليزيد بن الطثرية في ضد هذا المعنى: يقولونَ صبراً يا زيدُ إذا نأتْ ... ويا ربِّ لا ترزقْ علَى حبِّها صبرَا فهذا يختار لنفسه البلاء ضنّاً بمحلِّها من الهوَى ولعمري إنَّ هذه لحالٌ وكيدةٌ وإنَّها لو فارقته حتَّى يرى نفسه بعين الحريَّة من ملكها لانتقل عن رأيه وندم على وفائه وقد حدَّثت مريم الأسدية قالت سمعت امرأة عقيليَّة تقول وهي على بعير لها تسير: سُقينا سُلوةً فَسَلا كِلانا ... أراكَ اللهُ نعمةَ مَنْ سقانا قالت مريم فسألتها عن خَبالها فقالت كنت أهوى ابن عمٍ لي ففطن بي بعض أهلي فسقوني وإيَّاه شيئاً فسلا كل واحد منا عن صاحبه وهذه حالٌ قلَّ ما يقع مثلها وهي ألطف محلاًّ من كل ما ذكرناه وما نذكره بعدها لأنّا إنَّما نصف من آثر المقام مع من يهواه على السلوّ عنه والرَّاحة من أذاه وهو بعد مقيمٌ في هواه وصاحبة هذا البيت قد سلت عن محبوبها وإنَّما تأسَّى على العشق لا على المعشوق وفي مثل هذا المعنى يقول بعض الهذليين: إذا ما سألتُكَ وعْداً تُريحُ ... بهِ مُهجتي فأنا المُستريحُ فلا تُعطني الوعدَ خوفَ السُّلوِّ ... فإنِّي علَى حسراتي شحيحُ أحَبُّ إليَّ من الصَّبرِ عنكَ ... فُؤادٌ قريحٌ وقلبٌ جريحُ ولقد أحسن الوليد بن عبيد حيث يقول: ويُعجبني فَقري إليكَ ولمْ يكنْ ... لِيُعجبني لولا محبَّتكَ الفَقرُ وما ليَ عذرٌ في جُحودكَ نعمةً ... ولو كان لي عذرٌ لما حسُنَ العذرُ وأحسن الَّذي يقول: وما سرَّني أنِّي خليٌّ مِنَ الهوَى ... علَى أنَّ لي ما بينَ شرقٍ إلى غربِ فإنْ كانَ هذا الحبُّ ذنبي إليكُمُ ... فلا غفرَ الرَّحمانُ ذلكَ من ذنبِ وأحسن أيضاً الَّذي يقول: أحببتُ قلبي لمَّا أحبَّكمُ ... وصارَ رأيي لِرأيهِ تبعا ورُبَّ قلبٍ يقولُ صاحبهُ ... تَعْساً لقلبي فبئسَ ما صنعا وأنشد أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار لجميل بن معمر: خليليَّ فيما عِشتما هلْ رأيتُما ... قتيلاً بكى من حبِّ قاتلهِ قبلي فلوْ تركتْ عقلي معي ما تبعتُها ... ولكنْ طِلابيها لما فاتَ من عقلي وهذا المعنى الَّذي في البيت الثاني داخل فيما عينَّاه من أنَّ من أقبل على من يهواه ما دام مفتقراً إليه فليست له في ذلك منَّةٌ عليه وحدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النَّحويّ عن أبي سعيد عن القرويّ قال حدثني أخي عمران بن موسى قال أخبرني بعض أصحابنا أنَّ المجنون لما تغوَّل كان لا يؤخذ منه الشعر إلاَّ أن يجلس الرجل قريباً منه فينشد النَّسيب فيرتاح إليه فإذا سمع ذلك أنشد قال فجلس إلى جنبه رجلٌ فأنشده بيتاً من النَّسيب فقال ما أحسن هذا ثمَّ أنشده: عجبتُ لِذاكَ عُروةَ كيفَ أضحى ... أحاديثاً لقومٍ بعدَ قومِ وعروةُ ماتَ موتاً مُستريحاً ... وها أنذا أموَّتُ كُلَّ يومِ وأنشد بعض الأدباء للمجنون أيضاً: أراني إذا صلَّيتُ يمَّمْتُ نحوها ... أمامي وإنْ كانَ المصلَّى ورائيا وما بيَ إشراكٌ ولكنَّ حبَّها ... مكانَ الشَّجى أعْيا الطَّبيبَ المُداويا أُصلِّي فما أدري إذا ما ذكرتها ... أثنْتَيْنِ صلَّيتُ الضُّحى أمْ ثمانيا وما جئْتها أبغي شفائي بنظرةٍ ... فأبصرتُها إلاَّ انصرفتُ بدائيا وأنشد بعض الكتاب لنفسه: ولي فؤادٌ إذا طالَ السَّقامُ بهِ ... هامَ اشتياقاً إلى لُقيا مُعذِّبهِ يفديكَ بالنَّفس صبٌّ لو يكونُ لهُ ... أعزُّ من نفسهِ شيءٌ فداكَ بهِ |
من كثرت لحظاته دامت حسراته
قال بعض الحكماء ربَّ حربٍ جُنيت من لفظة وربَّ عشق غُرس من لحظة وقال العتبي أبو الغصن الأعرابي قال: خرجت حاجّاً فلما مررت بقباء تداعى النَّاس ألماً وقالوا قد أقبلت الصقيل فنظرت وإذا جارية كأن وجهها سيف صقيل فلما رميناها بالحدق ألقت البرقع على وجهها فقلت يرحمكِ الله إنا سفرٌ وفينا أجرٌ فأمتعينا بوجهكِ فانصاعت وأنا أرى الضحك في عينيها وهي تقول: وكنتَ متى أرسلتَ طرفكَ رائداً ... لقلبكَ يوماً أتبعتكَ المناظرُ رأيتَ الذي لا تأكلهُ أنتَ قادرٌ ... عليه ولا عنْ بعضهِ أنتَ صابرُ وأنشد أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي لامرأةٍ من الأعراب: أرَى الحرَّ لا يفنَى ولمْ يفنهِ الأُلى ... أُحينوا وقدْ كانوا علَى سالفِ الدَّهرِ وكلهمُ قدْ خالهُ في فؤادهِ ... بأجمعهِ يحكونَ ذلكَ في الشِّعرِ وما الحبُّ إلاَّ سمعُ أُذنٍ ونظرةٌ ... ووجبةُ قلبٍ عن حديثٍ وعنْ ذكرِ ولوْ كانَ شيءٌ غيرهُ فنيَ الهوَى ... وأبلاهُ مَن يهوى ولوْ كانَ مِن صخرِ وقال آخر: تعرَّضنَ مرمى الصَّيدِ ثمَّ رَمينا ... منَ النَّبلِ لا بالطَّائشاتِ الخواطفِ ضعائفٌ يقتلنَ الرِّجالَ بلا دمٍ ... فيا عجباً للقاتلاتِ الضَّعائفِ وللعينِ ملهًى في التلادِ ولمْ يقدْ ... هوَى النَّفس شيئاً كاقتيادِ الطَّرائفِ وقال آخر: وكمْ منْ فتًى جَلدٍ يقادُ لحينهِ ... بطرفٍ مريضِ النَّاظرَينِ كحيلِ إذا ما الهوى منهُ تعزَّزَ جانبٌ ... فما شئتَ مِن مقتولةٍ وقتيلِ وقال جرير بن عطية: إنَّ العيونَ التي في طرفِها مرضٌ ... قتلننا ثمَّ لمْ يحيينَ قتلانا يصرعنَ ذا اللُّبِّ حتَّى لا حراكَ بهِ ... وهنَّ أضعفُ خلقِ اللهِ أركانا وقال جميل بن معمر العذري: رمى اللهُ في عينيْ بثينةَ بالقذَى ... وفي الغرّ مِن أنيابِها بالقوادحِ رمتْني بسهمٍ ريشهُ الكحلُ لمْ يضرْ ... ظواهرَ جلدي فهوَ في القلبِ جارِحي أما معنى البيت الأول فقبيح أن يجعل في الغزل إن كان قصد في باطنه ما يتبين في ظاهره وقد زعم بعض أهل الأدب أن قوله رمى الله في عيني بثينة بالقذى إنَّما عنى به الرَّفيبَ وقوله. وفي الغرّ من أنيابها إنَّما عنى به سروات قومها والقوادح الحجارة وقد عرضتُ هذا القول على أبي العباس أحمد بن يحيى فأنكره وقال لم يعن ولم يرَ به بأساً العرب تقول قاتله الله فما أشجعه ولا تريد بذلك سوءاً. وقال العديل بن الفرج العجلي: يأخذنَ زينتهنَّ أحسنَ ما ترَى ... فإذا عطِلنَ فهنَّ غيرُ عواطلِ وإذا جلينَ خدودهنَّ أرَيْننا ... حدقَ المها وأخذنَ نبلَ القاتلِ فرَمَيْنا لا يستترنَ بجُنَّةٍ ... إلاَّ الصِّبى وعلمنَ أينَ مَقاتلي يلبسنَ أرديةَ الوقارِ لأهلِها ... ويجرُّ باطلهنَّ حبلَ الباطلِ وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي: سَمْعي وطرفي حليفَا أعلَى جسدي ... فكيفَ أصبرُ عنْ سمعي وعنْ بصري لوْ طاوَعاني علَى أنْ لا أُطاوعَها ... إذاً لقضَّيتُ مِن أوطارِها وطَري وقال يزيد بن سويد الضبعي: بيضٌ أوانسُ يلتاطُ العبيرُ بها ... كفَّ الفواحشَ عنها الأُنسُ والخفرُ ميلُ السَّوالفِ غيدٌ لا يزالُ لها ... منَ القلوبِ إذا لاقينَها جزرُ وأنشد بعض الكلابيين: يا مَن بدائعُ حسنِ صورتهِ ... تَثني إليهِ أعنَّةَ الحدقِ لي منكَ ما للنَّاسِ كلّهمِ ... نظرٌ وتسليمٌ علَى الطُّرقِ لكنَّهمْ سعدُوا بأمنهمِ ... وشقيتُ حينَ أراكَ بالفرقِ وقال آخر: دعا قلبهُ يوماً هوًى فأجابهُ ... فؤادٌ إذا يلقَى المِراضَ مريضُ بمُستأنِساتٍ بالحديثِ كأنَّها ... تهلُّلُ مزنٍ برقهنَّ وميضُ وأنشدني أحمد بن أبي طاهر: طربتُ إلى حوراءَ آلفةِ الخِدرِ ... هيَ البدرُ أوْ إنْ قلتَ أكملُ مِنْ بدرِ تُراسلُني باللَّحظِ عندَ لقائها ... فتخلسُ قلبي عندَ ذلكَ مِنْ صدري وقال عمرو بن الأيهم: ويومَ ارتحالِ الحيِّ راعتكَ روعةً ... فلمْ تنسَها مِنْ ذاكَ إلاَّ علَى ذكرِ رمتكَ بعينيْ فرقدٍ ظلَّ يتَّقي ... شآبيبَ قطرٍ بينَ غُصنينِ مِنْ سدرِ وقال آخر: قلبي إلى ما ضرَّني داعِي ... يُكثرُ أسقامي وأوْجاعي لقلَّ ما أبقَى علَى ما أَرى ... أُشكُ أنْ ينعانِيَ النَّاعِي كيفَ احْتراسِي من عدوِّي إذا ... كانَ عدوِّي بينَ أضلاعِي ما أقتلَ اليأْسَ لأهلِ الهوَى ... لا سيَّما مِنْ بعدِ إطماعِ وقال الطرماح: فلمَّا ادَّركناهنَّ أبدينَ للهوَى ... محاسنَ واسْتولينَ دونَ محاسنِ ظعائنُ يستحدثنَ في كلِّ بلدةٍ ... رَهيناً ولا يُحسنَّ فكَّ الرَّهائنِ وقال العجيف العقيلي: خليليَّ ما صبرِي علَى الزَّفراتِ ... وما طاقَتي بالشَّوقِ والعبراتِ تقطَّعُ نفسِي كلَّ يومٍ وليلةٍ ... علَى إثرِ مَنْ قدْ فاتَها حسراتِ سقَى ورعَى اللهُ الأوانسَ كالدُّمى ... إذا قمنَ جنحَ اللَّيلِ مُنبهراتِ دعونَ بحبَّاتِ القلوبِ فأقبلتْ ... إليهنَّ بالأهواءِ مُبتدراتِ وأنشد أحمد بن يحيى الشيباني أبو العباس النحوي: إذا هنَّ ساقطنَ الأحاديثَ للفتَى ... سقوطَ حصَى المرجانِ مِنْ سلكِ ناظمِ رمينَ فأنفذنَ القلوبَ ولا ترَى ... دماً مائراً إلاَّ جوًى في الحيازمِ وخبَّركِ الواشونَ ألاّ أُحبّكمْ ... بلَى وستورِ البيتِ ذاتِ المحارمِ أصدُّ وما الصَّدُّ الذي تعلمينهُ ... بنا وبكمْ إلاَّ جزع العلاقمِ حياءً وبُقيا أنْ تشيعَ نميمةٌ ... بنا وبكمْ أُفٍّ لأهلِ النَّمائمِ أمَا إنَّه لوْ كانَ غيركِ أرقلتْ ... صعادُ القنا بالرَّاعفاتِ اللَّهاذمِ ولكنْ وبيتِ اللهِ ما طلَّ مسلماً ... كغرِّ الثَّنايا واضحاتِ الملاغمِ وإنَّ دماً لوْ تعلمينَ جنيتهِ ... علَى الحيِّ جانِي مثلهِ غيرُ نائمِ وقال عمر بن أبي ربيعة: فلمَّا تواقَفْنا وسلَّمتُ أقبلتْ ... وجوهٌ زهاها الحسنُ أنْ تتقنَّعا تبالَهْنَ بالعرفانِ لمَّا عرفنني ... وقلنَ امرؤٌ باغٍ أضلَّ وأوضعا وقرَّبنَ أسبابَ الهوَى لمتيَّمٍ ... يقيسُ ذراعاً كلَّما قسنَ إصبعا فقلتُ لمُطريهنَّ بالحسنِ إنَّما ... ضررتَ فهلْ تسطيعُ نفعاً فتنفعَا وقال أيضاً: وكمْ مِنْ قتيلٍ ما يُباءُ بهِ دمٌ ... ومِنْ غلقٍ رهناً إذا لفَّهُ مِنَى ومن مالئٍ عينيهِ مِنْ شيءِ غيرهِ ... إذا راحَ نحوَ الجمرةِ البيضُ كالدُّمى أوانسُ يسلبنَ الحليمَ فؤادهُ ... فيا طولَ ما شوقٍ ويا حسنَ مُجتلَى مع اللَّيلِ قصراً قدْ أضرَّ بكفِّها ... ثلاثَ أسابيعٍ تعدُّ منَ الحصَى فلمْ أرَى كالتَّجميرِ منظرَ ناظرٍ ... ولا كليالِي الحجِّ أفتنَّ ذا هوَى وقال آخر: بوارحُ رحنَ من برحٍ إلينا ... بأفئدةِ الرِّجالِ مبرِّحاتِ رمينَ حصَى الجمارِ بخاضباتٍ ... وأفئدةَ الرِّجالِ بصائباتِ وقال ذو الرمة: فما ظبيةٌ ترعَى مساقطَ رملةٍ ... كسَا الواكفُ الغادي لها ورقاً خُضرا بأحسنَ مِنْ ميٍّ عشيَّةَ حاولتْ ... لتجعلَ صدعاً في فؤادكَ أوْ عَقرا بوجهٍ كقرنِ الشَّمسِ حرٍّ كأنَّما ... تهيجُ بهذا القلبِ لمحتهُ وقْرا وعينٍ كأنَّ البابليَّيْنِ لبَّسا ... بقلبكَ منها يومَ لاقيتَها سِحرا وقال كثير بن عبد الرحمن: أصابكَ نبلُ الحاجبيَّةِ إنَّها ... إذا ما رمتْ لا يستبلُّ كليمُها لقدْ غادرتْ في القلبِ منِّي أمانةً ... وللعينِ عبراتٌ سريعٌ سجومُها فذُوقي بما أجنيتِ عيناً مشومةً ... عليَّ وقدْ يأتِي علَى العينِ شومُها وقال آخر: وتنالُ إذا نظرتْ إليكَ بطرفِها ... ما لا ينالُ بحدِّهِ النَّصلُ وإذا نظرتَ إلى محاسنِ وجهِها ... فلكلِّ موضعِ نظرةٍ قتلُ ولقلبِها حلمٌ تصدُّ بهِ ... عنْ ذي الهوَى ولطرفِها جهلُ وقال حبيب بن أوس الطائي: يا جفوناً سواهِداً أعدمتْها ... لذَّةَ النَّومِ والرُّقادِ جفونُ إنَّ للهِ في العبادِ منايَا ... سلَّطتْها علَى القلوبِ عيونُ وأنشدت أم حمادة الهمدانية: دارَ الهوَى بعبادِ اللهِ كلّهمِ ... حتَّى إذا مرَّ بي مِنْ بينهمْ وقفَا إنِّي لأعجبُ مِنْ قلبٍ يكلِّفكمْ ... ومَا يرَى منكمُ برّاً ولا لَطَفا لولا شقاوةُ جدِّي ما عرفتكمُ ... إنَّ الشَّقيَّ الذي يشقَى بمنْ عرَفا وأنشد أبو طاهر أحمد بن بشر الدمشقي: رمتْني وسِترُ اللهِ بيني وبينها ... عشيَّةَ أحجارِ الكَنَاسِ رميمُ رميمُ الَّتي قالتْ لجاراتِ بيتها ... ضمنتُ لكمْ أنْ لا يزالَ يهيمُ ألا ربَّ يومٍ لوْ رمتْني رَمَيْتها ... ولكنَّ عهدي بالنِّضالِ قديمُ وبلغ أنَّ بثينة وعزَّة كانتا خاليتين تتحدثان إذ أقبل كثيِّر فقالت بثينة لعزَّة أتحبين أن أُبين لك إن كان كثيِّر فيما يظهره لك من المحبة غير صادق قالت نعم قالت: أدخلي الخباء فتوارت عزَّة ودنا كثيِّر حتَّى وقف على بثينة فسلم عليها فقالت له ما تركت فيك عزَّة مستمتَعاً لأحدٍ فقال كثيِّر والله لو أن عزَّة أمَة لوهبتها لكِ قالت له بثينة إن كنت صادقاً فاصنع في ذلك شعراً فأنشأ يقول: رمتْني علَى فوتِ بثينةُ بعدَ ما ... تولَّى شبابِي وارْجحنَّ شبابُها بعينينِ نجلاوينِ لوْ رقرقتْهُما ... لنوءِ الثُّريَّا لاستهلَّ سحابُها فبادرت عزَّة فكشفت الحجاب وقالت يا فاسق قد سمعت البيتين قال لها فاسمعي الثالث قالت وما هو فأنشأ يقول: ولكنَّما ترمينَ نفساً شقيَّةً ... لعزَّةَ منها صفوُها ولبابُها وهذا الشعر وإن كان قبيحاً لمناسبته الخيانة والغدر فهو حسن من ثبات حدَّة الخاطر وسرعة الفكر. وقال أبو عبادة البحتري: نظرتْ قادرةً أنْ ينكفِي ... كلُّ قلبٍ في هواهَا بعلَقْ قالَ بُطلاً وأفالَ الرَّأيَ مَنْ ... لمْ يقلْ إنَّ المنايا في الحدَقْ كانَ يكفِي ميِّتاً مِنْ ظمإٍ ... فضلُ ما أوبقَ ميْتاً مِنْ غرَقْ إنْ تكنْ محتسباً مَنْ قدْ ثوَى ... لحمامٍ فاحتسبْ مَنْ قدْ عشِقْ وقال القطامي وهو أحسن ما قيل في معناه: وفي الخدورِ غماماتٌ برقنَ لنا ... حتَّى تصيَّدننَا مِنْ كلِّ مُصطادِ يقتُلْننا بحديثٍ ليسَ يعلمهُ ... مَنْ يتَّقينَ ولا مكتومهُ بادِ فهنَّ يُبدينَ مِنْ قولٍ يُصبنَ بهِ ... مواقعَ الماءِ من ذِي الغلَّةِ الصَّادي قد ذكرنا من أقاويل الشعراء في الهوَى أنَّه يقع ابتداؤه من النظر والسَّماع ما في بعضه بلاغٌ ثمَّ نحن إن شاء الله ذاكرون ما في ذلك الأمر الَّذي أوقعه السماع والنظر ولمَ وقع وكيف وقع إذ قد صحَّ كونه عند العامَّة وخفيَ سببه على الخاصَّة أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق الصاغاني قال حدثنا ابن أبي مريم قال أخبرنا يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنَّه قال: الأرواح جنود مجنَّدة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. وفي مثل ذلك يقول طرفة بن العبد: تعارفُ أرواحُ الرِّجالِ إذا التقَوْا ... فمنهمْ عدوٌّ يُتَّقى وخليلُ وإنَّ امرءاً لمْ يعفُ يوماً فكاهةً ... لمنْ لمْ يردْ سوءاً بها لجهولُ وزعم بعضُ المتفلسفين أن الله جلَّ ثناؤه خلقَ كلَّ روحٍ مدوَّرة الشكل على هيئة الكرة ثمَّ قطعها أيضاً فجعل في كل جسد نصفاً وكل جسد لقي الجسد الَّذي فيه النصف الَّذي قطع من النصف الَّذي معه كان بينهما عشقٌ للمناسبة القديمة وتتفاوت أحوال النَّاس في ذلك على حسب رقَّة طبائعهم. وقد قال جميل في ذلك: تعلَّقُ رُوحي روحَها قبلَ خلقِنا ... ومِنْ بعدِ ما كنَّا نِطافاً وفي المهدِ فزادَ كمَا زِدنا فأصبحَ نامِياً ... وليسَ إذا مُتنا بمُنتقضِ العهدِ ولكنَّهُ باقٍ علَى كلِّ حالةٍ ... وزائرُنا في ظُلمةِ القبرِ واللَّحدِ وفي نحوه يقول بعض أهل هذا العصر: مَنْ كانَ يشجَى بحبٍّ ما لهُ سببٌ ... فإنَّ عندي لِما أشجَى بهِ سببُ حُبِّيهِ طبعٌ لنفسِي لا يغيِّرهُ ... كرُّ اللَّيالِي ولا تُودي بهِ الحقبُ إن كانَ لا بدَّ للعشَّاقِ من عطبٍ ... ففي هوَى مثلهِ يُستغنمُ العطبُ وكتب بعض الظرفاء إلى أخ له إنِّي صادقت منك جوهر نفسي فأنا غير محمود على الانقياد إليك بغير زمام لأن النفس يتبع بعضها بعضاً وحُكي عن أفلاطون أنَّه قال ما أدري ما الهوَى غير أنِّي أعلم أنَّه جنون إلاهي لا محمود ولا مذموم. وقد قال بعض الشعراء في مثله: إنَّ المحبَّةَ أمرُها عجبٌ ... تُلقَى عليكَ وما لها سببُ ولقد أحسن الحسين بن مطير في قوله: قضَى اللهُ يا سمراءُ منِّي لكِ الهوَى ... بعزمٍ فلمْ أمنعْ ولمْ أُعطِهِ عمدا وكلُّ أسيرٍ غيرُ مَنْ قدْ ملكتهِ ... مُرجًّى لقتلٍ أوْ لنعماءُ أوْ مُفدَى |
كيف الحجاج
انفرد الحجاج يوما ً عن عسكره فلقي أعرابيا ً فقال : ياوجه العرب كيف الحجاج ؟ فقال : الظالم الغاشم فقال : فهل شكوته لي عبد الملك فقال : لعنه الله أظلم منه وأغشم , وأحاط به العسكر فقال أركبوا البدوي فسأل عنه فقالوا : هو الحجاج فركض من الفرس خلفه وقال ياحجاج قال : مالك ! قال : السر الذي بيني وبينك لايطلع عليه أحد فضحك وخلاه |
ميراث
يحكى أن امرأة جاءت إلى أحد الفقهاء، فقالت له: لقد مات أخي، وترك ستمائة درهم، ولما قسموا المال لم يعطوني إلا درهما واحدا! فكر الفقيه لحظات، ثم قال لها: ربما كان لأخيك زوجة وأم وابنتان واثنا عشر أخا. فتعجبت المرأة، وقالت: نعم، هو كذلك. فقال: إن هذا الدرهم حقك، وهم لم يظلموك: فلزوجته ثمن ما ترك، وهو يساوي (75 درهما)، ولابنتيه الثلثين، وهو يساوى (400 درهم)، ولأمه سدس المبلغ، وهو يساوي (100 درهم)، ويتبقى (25 درهما) توزع على إخوته الإثنى عشر وعلى أخته، ويأخذ الرجل ضعف ما تأخذه المرأة، فلكل أخ درهمان، ويتبقى للأخت- التي هي أنت- درهم واحد |
سقطت عليه الدار
خرج أعرابي قد ولاه الحجاج بعض النواحي فأقام بها مدة طويلة فلما كان في بعض الأيام ورد عليه أعرابي من حيّه فقدم إليه الطعام, وكان إذ ذاك جائعا00 فسأله عن أهله وقال ما حال ابني عمير قال على ما تحب قد ملآ الأرض والحي رجالا ونساء قال فما فعلت أم عمير قال صالحة أيضا. قال فما حال الدار قال عمرة بأهلها قال وكلبنا إيقاع قال ملأ الحي نباحا قال فما حال جملي زريق قال على ما يسرك. فالتفت إلى خادمه وقال ارفع عنه الطعام فرفعه ولم يشبع الأعرابي 00 ثم أقبل عليه يسأله أعد علي ما ذكرت. قال سل عما بدا لك 000 قال فما حال كلبي إيقاع قال مات قال وما الذي أماته قال: أختنق بعظمة من عظام جملك زريق فمات قال أو مات جملي زريق قال نعم قال وما الذي أماته قال كثرة نقل الماء إلى قبر أم عمير قال أو ماتت أم عمير قال نعم قال وما الذي آماتها قال كثرة بكائها على عمير قال أو مات عمير قال نعم قال ما الذي أماته قال سقطت عليه الدار |
أحسن من فيها أنا
دخل (ابو نخيلة) اليمن فلم يرى بها احدا حسنا وراى نفسه احسن من فيها وكان قبيحا جدا فقال لم ار غيري حسنا ... منذ دخلت اليمنا فيا شقاء بلدة ... احسن من فيها انا غزو قيل لاعرابي : مايمنعك ان تغزو قال : اني لأبغض الموت على فراشي فكيف امضي اليه ركضا هجانا ومدحنا وسمع أعرابيٌّ قارئًا يقرأ القرآن حتى أتى على قوله :{ الأعرابُ أشدُ كفرًا ونفاقًا } فقال : لقد هَجَانا، ثمَّ بعد ذلك سمعه يقرأ من نفس السورة ( التوبة ) { ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر } فقال: لابأس هجا ومدحَ وهذا كما قال الشاعر : هجـوتُ زهيـرًا ثُمَّ أنّـي مدحتُهُ وما زالتِ الأشرافُ تُهجَى وتُمدَحُ. |
مع أبي الأسود الدؤلي
كان لأبي الأسود الدؤلي جاراً متطفلاً لا يأتيه إلا على وقت طعام فيأكل ما بين يديه ولا يترك له شيئاً وكان من طبيعة هذا المتطفل أن يشد أبا الأسود لكلامه وهو ينشغل بالأكل فصمم أبو الأسود على نبذه، فأتاه مرة وأبو الأسود يتغدى في السوق، فجلس المتطفل بجانبه وسلم فرد عليه السلام؛ ثم قال جاره: إني مررت بأهلك قال أبو الأسود: كذلك كان طريقك قال: وامرأتك حبلى! قال: كذلك كان عهدي بها قال:فقد ولدت! قال: كان لابد لها أن تلد قال: ولدت غلامين! قال: كذلك كانت أمها قال: مات أحدهما ! قال: ما كانت تقوى على إرضاع الإثنين قال: ثم مات الآخر ! قال: ما كان ليقوى على البقاء بعد موت أخيه قال: وماتت الأم ! قال: ماتت حزناً على ولديها قال: ما أطيب طعامك ! قال: لذلك أكلته وحدي؛ ووالله لا ذقته يا متطفل |
هكذا كانوا يفهمون اللغة العربية
قال الأصمعي: كنت أقرأ: (( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) وكان بجانبي أعرابي فقال: كلام مَن هذا ؟؟ فقلت: كلام الله قال: أعِد فأعدت؛ فقال: ليس هذا كلام الله فانتبهتُ فقرأت: (( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) فقال: أصبت فقلت: أتقرأ القرآن ؟؟ قال: لا قلت: فمن أين علمت ؟؟ فقال: يا هذا، عزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع |
حكمة قاضٍ
قالت امرأةٌ لقاضٍ : (ماتَ زوجي وتركَ والديهِ وولداً وامرأةً، فاقسمِ الورثة بيننا). فقال: (لأبويهِ الثٌّكلُ، ولولدِهِ اليتْمُ، ولامرأتِهِ الخَلَفُ، ولأهله القِلَّة والذِّلَّةُ، والمالُ يُحملُ إلينا لئلاَّ تقعَ فيهِ بينكمُ الخصومةُ). أدب ابن المقفّع سُئلَ ابن المقفع من أدَّبكَ؟ فقال: نفسي إذا رأيْتُ من غيري حسناً آتيهِ، وإنْ رأيْتُ قبيحاً أبيْتُهُ. جناح الذل قال رجلٌ للشاعر أبي تمام الطائي المشهور بفن الصنعة البديعية : أرني ماءَ المَلام في قولك : لا تسقني ماء الملامِ فإنني صَبّ قد استعذْبتُ ماءَ بكائي فقال أبو تمام ـ وقد علم أنّ الرجل ينتقده: ( لا أُريك ماءَ الملام حتى تريني جناح الذّل في قوله تعالى: { واخفضْ لهما جناحَ الذّلِّ من الرَّحمةِ} ، فسكت الرجل. مع خادم الجاحظ حضر قومٌ إلى الجاحظ (وكان دميمَ الخلقة) ورأوا خادمه فسألوه عن سيده فأجابهم: إنه في الدار ، فقالوا: وماذا يصنع ؟ فقال: إنه يكذب على ربه ! فقالوا: وكيف ذلك ؟ فقال: إنه نظر في المرآة مليّاً ثم قال :أحمدك ربي لأنك صوَّرتنِي جميلاً ! احتياطاً روى مصطفى صادق الرافعي في كتابه (تحت راية القرآن) أن عالماً من علماء المدينة قصد الأرياف للوعظ ، فلما جنَّ عليه الليل لم يجد غير إمام جامع القرية لينام عنده ، وبينما كانا في بعض الحديث قال شيخ القرية : (عندي مسائل كنت أودُّ أن ألقى بها العلماء ، وقد أتى بك الله إلينا) قال العالم :هات . قال الشيخ لقد غمضت علي مواضع في القرآن الكريم ، منها قوله تعالى: " إياك نعبد وإياك"تسعين أم سبعين "؟. فأنا أقرؤها تسعين أخذا بالاحتياط ). |
شكوى عجيبة وحل أعجب
عن محمد بن معين الغفاري قال أتت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت يا أمير المؤمنين إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل وهو يعمل بطاعة الله فقال لها نعم الزوج زوجك فجعلت تكرر عليه القول وهو يقرر عليها الجواب فقال له كعب الأسدي يا أمير المؤمنين هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه فقال له عمر كما فهمت كلامها فاقض بينهما فقال كعب عليّ بزوجها فأتى به فقال أن امرأتك هذه تشكوك قال أفي طعام أو شرب قال لا فقالت المرأة: يا أيها القاضي الحكيم أرشده ...... ألهى خليلي عن فراشي مسجده زهده في مضجعي تعبده ......... نهاره وليله ما يرقده ولست في أمر النساء أحمده فقال زوجها: زهدتُ في فراشها وفي الحجل ... إني امرؤ أذهلني ما قد نزل في سورة النمل وفي السبع الطول ... وفي كتاب الله تخويف جلل فقال كعب: إن لها حقاً عليك يا رجل ... تصيبها في أربع لمن عقل فأعطها ذاك ودع عنك العلل ثم قال إن الله عز وجل قد أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع فذلك ثلاثة أيام ولياليهن تعبد فيهن ربك ولها يوم وليلة فقال عمر والله ما أدري من أي أمريك أعجب أفمن فهمك أمرها أم من حكمك بينهما اذهب فقد وليتك قضاء البصرة. |
أي الناس أنعم
. قال الأصمعي : قال زياد لجلسائه: أي الناس أنعم ؟ قالوا: معاوية. قال: فأين ما يلقى من الناس ؟! قالوا: فأنت. قال: فأين ما ألقى من الثغور والخراج ؟! قالوا : فمن ؟ قال: شاب له سداد من عيش، وامرأة قد رضيها ورضيته، لايعرفنا ولانعرفه فإن عرفنا وعرفناه أفسدنا عليه دينه ودنياه. |
النساء يطلّقن الرجال في الجاهليّة
قال ابن الأعرابي كان حاتم الطائي من شعراء الجاهلية وكان جوادا يشبه جوده شعره ويصدق قوله فعله وكان حيثما نزل عرف منزله وكان مظفرا إذا قاتل غلب وإذا سئل وهب وإذا سابق سبق وإذا أسر أطلق وكان إذا أهل رجب الذي كانت تعظمه مضر في الجاهلية نحر كل يوم عشرا من الابل وأطعم الناس واجتمعوا اليه وكان قد تزوج ماوية بنت عفير وكانت تلومه على إتلاف المال فلا يلتفت لقولها وكان لها ابن عم يقال له مالك فقال لها يوما ما تصنعين بحاتم فوالله لئن وجد مالا ليتلفنه وإن لم يجد ليتكلفن ولئن مات ليتركن أولادا عالة على قومك فقالت ماوية صدقت إنه كذلك وكانت النساء يطلقن الرجال في الجاهلية وكان طلاقهن أن يكن في بيوت من شعر فإن كان باب البيت من قبل المشرق حولته إلى المغرب وإن كان من قبل المغرب حولته إلى المشرق وإن كان من قبل اليمن حولته إلى الشام وإن كان من قبل الشام حولته إلى اليمن فإذا رأى الرجل ذلك علم إنها طلقته فلم يأتها ثم قال لها ابن عمها طلقي حاتما وأنا أتزوجك وأنا خير لك منه وأكثر مالا وأنا أمسك عليك وعلى ولدك فلم يزل بها حتى طلقته فأتاها حاتم وقد حولت باب الخباء فقال حاتم لولده يا عدي ما ترى ما فعلت أمك فقال قد رأيت ذلك قال فأخذ ابنه وهبط بطن واد فنزل فيه فجاءه قوم فنزلوا على باب الخباء كما كانوا ينزلون وكان عدتهم خمسين فارسا فضاقت بهم ماوية ذرعا وقالت لجاريتها اذهبى إلى ابن عمي مالك وقولي له إن أضيافا لحاتم قد نزلوا بنا وهم خمسون رجلا فأرسل إلينا بشيء نقربهم ولبن نسقيهم وقالت لها انظرى إلى جبينه وفمه فإن شافهك بالمعروف فاقبلى منه وإن ضرب بلحيته على زوره ولطم رأسه فاقبلي ودعيه فلما أتته وجدته متوسدا وطبا من لبن فأيقظته وأبلغته الرسالة وقالت له إنما هي الليلة حتى يعلم الناس مكان حاتم فلطم رأسه بيده وضرب بلحيته وقال أقرئيها السلام وقولي لها هذا الذي أمرتك أن تطلقي حاتما لأجله وما عندى لبن يكفي أضياف حاتم فرجعت الجارية فأخبرتها بما رأت وبما قال لها فقالت لها اذهبي إلى حاتم وقولي له إن أضيافك قد نزلوا بنا الليلة ولم يعلموا مكانك فارسل إلينا بناقة نقريهم ولبن نسقيهم فأتت الجارية حاتما فصاحت به فقالت لبيك قريبا دعوت فأخبرته بما جاءت بسببه فقال لها حبا وكرامة ثم قام إلى الإبل فأطلق اثنتين من عقالهما وصاح بهما حتى أتيا الخباء ثم ضرب عراقيبهما فطفقت ماوية تصيح هذا الذي طلقتك بسببه نترك أولادنا وليس لهم شيء فقال لها ويحك يا ماوية الذي خلقهم وخلق الخلق متكفل بأرزاقهم وكان إذا اشتد البرد وغلب الشتاء أمر غلمانه بنار فيوقدونها في بقاع الأرض لينظر إليها من ضل عن الطريق ليلا فيقصدها ولم يكن حاتم يمسك شيئا ما عدا فرسه وسلاحه فانه كان لا يجود بهما ثم جاد بفرسه في سنة مجدبة . |
زوّجه الشعر
روى محمد بن الخطاب الكلابي أن فتى من الأعراب خطب ابنة عم له وكان معسراً، وأبى عمه أن يزوّجه فكتب إلى ابنة عمه هذه الأبيات : يا هذه كم يكون اللوم والفند ... لا تعذلي رجلا أثوابُه قـدد إن يمس منفردا فالبدر منفرد ... و الليث منفرد والسيف منفـرد أو كنت أنكرت طمريه وقد خلقا ...فالبحر من فوقه الأقذار والزبَد إنْ كان صرف الليالي رث بزته ... فبين ثوبيه منها ضيغــم لبد قال: فدخلت بالأبيات على أبيها فقال لها : ما أُريد لك صداقاً غيرها فدعاه فزوَّجه إيَّاها. |
أغرب زواج في تاريخ العرب
كانت لأعرابي امرأتان فولدت إحداهما غلاما والأخرى جارية فجعلت أم الغلام ترقصه وتقول مضارة لضرتها : الحمد لله الحميد العالي*** أنقذني العام من الجوال من كل شرهاء كشن بالي***لا تدفع الضيم عن العيال فسمعتها الأخرى فأقبلت ترقص بنتها وتقول : وما علي أن تكــون جارية *** تغسل رأسي وتكون الفالية وترفع الساقط من خماريه*** حتى إذا ما بلغت ثمانية أرسلتها بنقبة يمانية *** أنكحها مروان أو معاوية أصهار صدق ومهور غالية فسمع بكلامها مروان بن الحكم فتزوجها على مئة ألف وقال : إن أمها لحقيقة ألا تكذب ظنها ولا تخاس بعهدها وقال معاوية : لولا أن مروان سبقنا إليها لأضعفنا لها المهر و لكنها لا تحرم الصلة فبعث اليها بمئتي ألف درهم . |
الساعة الآن 10:05 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |