منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   فلسفة وعلم نفس
علم ما وراء الطبيعه والقوى الخارقه
(http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=75)
-   -   فلاسفة أوربيون محدثون - مع مختارات من كتاباتهم (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8541)

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:46 PM

فلاسفة أوربيون محدثون - مع مختارات من كتاباتهم
 
فلاسفة أوربيون محدثون - مع مختارات من كتاباتهم

- نيقولا مكيافيلي
ولد نيقولا مكيافيلي (Machiavelli) من عائلة عريقة عام 1469 في مدينة فلورنسا الإيطالية. وخلال نشأته في هذه المدينة قُدر لمكيافيلي أن يشهد تحولات أساسية في تركيبة النظام السياسي في فلورنسا. فقد انتقلت السلطة من عائلة مديتشي إلى سافونارولا[1]، رجل الدين المستبد الذي حكم فلورنسا لمدة ثلاث سنوات سقط على إثرها فاسحا المجال أمام قيام نظام جمهوري دام من عام 1498 حتى عام 1512 حيث عادت أسرة مديتشي للحكم.

تثقف مكيافيلي ثقافة عصره وكانت له صداقات واسعة في أوساط الكتاب والمفكرين، مما سمح له الحصول على ثقافة واسعة في القانون والسياسة والتاريخ والفلسفة. وهذا ما أتاح له الحصول على منصب المستشار العام للدولة في فلورنسا الجمهورية عام 1498 حيث بقي فيه لمدة أربعة عشر عاما أي حتى سقوط العهد الجمهوري فيها عام 1512. لقد كان هذا المنصب مهما في حياة مكيافيلي، إذ سُمح له أن يكون على صلة مباشرة بشؤون الدولة السياسية، الداخلية منها والخارجية. إذ كثيراً ما قام مكيافيلي بمهمات دبلوماسية خارج فلورنسا: منها أربع مهمات قام بها عند ملك فرنسا، وواحدة عند إمبراطور ألمانيا واثنتان عند الباب العالي، وغيرها عند القيصر بورجيا[2] الذي كان مكيافيلي معجباً به.

هكذا كان مكيافيلي في مركز يؤهله لفهم خفايا سياسات الدول والتعبير عنها في مؤلفاته التي وضعها في التوسكاني بعد نفيه من خدمة آل مديتشي بعد اتهامه بالاشتراك بمؤامرة جمهورية للإطاحة بالأسرة الحاكمة. فاعتُقل مع المتآمرين، ونُزعت منه المسؤوليات، وأبعد عن وظيفته ليعيش في عزلة قسرية في دار للعائلة لمدة اثني عشر عاما قضاها وهو يأمل العفو عنه والعودة إلى وظيفته ولكن دون جدوى.

وتوفي عام 1527 تاركا وراءه إرثا فكريا قيما ما زال يعتبر من أهم ما وُضع في تلك الفترة من الزمن.

من أهم المؤلفات التي تركها مكيافيلي كتاب "الأمير" الذي وضع في العام 1513، وتلاه كتاب "المطارحات" (1517)، والخطب أي "أحاديث عن كتب تيتوس ليفيوس[3] العشر الأولى" و "فن الحرب" اللذان وضعهما في العام 1521، وأخيرا مؤلفه "تاريخ فلورنسا" الذي تم نشره في عام 1525.




مكيافيلي: مختارات من كتاب "المطارحات"


عن أنواع الحكومات ومن أي نوع كانت حكومة روما
أرى أن لا أتحدث عن المدن التي كانت منذ مستهل عهدها خاضعة لسلطة مدن أخرى، وان احصر حديثي في المدن التي كانت منذ بداية نشوئها في منجاة من أية عبودية خارجية، وكانت تُحكم طبقاً لرغباتها وحدها، سواء أكانت من الجمهوريات أو من الإمارات. ولما كانت هذه المدن تختلف في منشئها، فقد اختلفت أيضاً في قوانينها ومؤسساتها. فلقد أتيح لبعضها منذ مستهل عهدها، أو بعد قيامها بأمد قصير، شخص يظهر في وقت من الأوقات يشرع لها قوانينها، كما حدث بالنسبة لإسبارطة، التي سن لها ليكرجوس[4] شرائعها، بينما حصل البعض الآخر، عرضاً على هذه القوانين في أوقات متفاوتة، بتفاوت الظروف، وهذا ما حدث بالنسبة إلى روما مثلاً.

ولا ريب انها حكومة سعيدة تلك الحكومة الشعبية، التي تُخرج رجلاً حكيماً، يستطيع الناس الحياة بأمن ودعة في ظل القوانين التي يضعها لها والتي لا يضطرون إلى تقويمها. ولقد ظلت إسبارطة مثلاً، تحترم قوانينها اكثر من ثمانمائة عام، دون إفسادها، ودون أن تحس بإزعاج يهددها. اما المدينة التي لم يتح لها الحظ منظماً عاقلاً ينظم لها شؤونها، والتي تضطر هي بنفسها إلى القيام بهذا التنظيم، فتكون تعيسة الحظ شقية. ولعل أتعس منها حظاً تلك التي تكون بعيدة عن النظام، أشقى من هذه كلها، تلك التي أخطأت منظماتها طريق الصواب الذي يقودها إلى مصيرها الصحيح والحق. إذ يستحيل حتماً، ان تعاد مثل هذه الدول إلى الطريق الصحيح ثانية، وقد تتحول إلى مرتبة الكمال الحكومة التي تبدأ بداية طيبة وتستطيع تحسين أحوالها، على الرغم من عدم صحة نظامها، إذا أتاحت لها الفرص ذلك. ولكن يجب ان يلاحظ على أي حال، ان إدخال النظام إليها ينطوي على بعض الخطر، إذ ان قلة من الناس، هي تلك التي ترحب بالقوانين الجديدة التي تعرض النظام الجديد في الدولة. الا إذا شعر الجميع بضرورة هذه القوانين بشكل واضح. ولما كانت مثل هذه الضرورة لا تنشأ عادة الا مصحوبة بالأخطار، فان الدولة قد تتعرض إلى الخراب، قبل ان تصل القوانين الجديدة إلى مرحلة التمام. ولعل فلورنسا هي خير مثل على ما أقول، فقد أعيد تنظيمها بعدما حدث في اريزو، ولكن دستورها تعرض للدمار بعد ما حدث في براتو.

ولما كان هدفي الحديث عن منظمات مدينة روما، وعن الأحداث التي أدت إلى كمالها، فإنني أود القول بأن الذين كتبوا عن الدول، يقولون انها (أي هذه الدول) لا بد وان تكون منطوية على أحد أشكال الحكم الثلاثة، وهي الإمارة، وحكم النبلاء، وحكم الشعب، وان على من يقيمون حكومة في أية دولة معينة، ان يتبنوا أحد هذه الأشكال الثلاثة، طبقاً لما يتفق وأهدافهم.

وهناك آخرون يقولون، ويعتقد البعض ان حكمهم اكثر صواباً، ان ثمة ستة أشكال من الحكومات، ثلاثة منها سيئة للغاية، وثلاثة حسنة في طبيعتها ولكن من السهل إفسادها، ولذا فمن الواجب اعتبارها من النوع السيئ أيضاً. أما الأنواع الحسنة الثلاثة فهي التي سبق لي ذكرها قبل قليل. وتكون الأشكال السيئة الثلاثة تابعة الثلاثة السابقة، وتتشابه مع تلك التي ترتبط إليها إلى حد يجعل من السهل جداً على أية دولة التحول من شكل منها إلى آخر. فمن اليسير التحول من الإمارة إلى حكم الطغيان ومن حكومة النبلاء (الأرستقراطية) إلى حكم القلة (الأوليغاركي) ومن حكومة الشعب (الديموقراطية) إلى الفوضى. وهكذا يكون من يقوم على تشكيل حكومة ويختار لها أحد الأشكال الثلاثة الأولى، قد اختار لها في الواقع حكماً مؤقتاً، إذ ليس ثمة من سبيل للحيلولة دون تحوله إلى نقيضه، وذلك بسبب ما يقوم بين الفضيلة والرذيلة في مثل هذه الأحوال من تشابه.

وترجع هذه الاختلافات في الحكومات بين الناس إلى مجرد الحظ. فلقد كانوا يعيشون في الحياة في العالم، وعندما كان عددهم قليلاً أشتاتاً متفرقين كالحيوانات. ومع تكاثر ذريتهم، بدأ الناس يقتربون من بعضهم البعض، وحرصاً منهم على تحسين وسائل الدفاع عن أنفسهم، شرعوا يتطلعون إلى رجل منهم، يكون اكبر قوة وأكثر شجاعة من غيره فينصبونه رئيساً عليهم ويدينون له بالطاعة.

وهكذا بدأ الناس يتعلمون التمييز بين النبيل والطيب من ناحية، وبين السيئ والشرير من الناحية الأخرى، وذلك لأن مرأى من يسيء إلى صاحب الفضل عليه، يستفز لديهم الكراهية للمسيء والعطف على المساء إليه، وأخذوا يوجهون اللوم إلى ناكر الجميل، وينظرون بعين الاحترام إلى كل من يقدر المعروف لأهله، ذاكرين ان عين الإساءات قد توجه إلى كل واحد منهم. وهكذا أخذوا، رغبة منهم في منع شرور من هذا القبيل، يشرعون القوانين ويفرضون العقوبات على كل من يخالفها. وظهرت فكرة العدالة إلى حيز الوجود.

وحدث، على هذا النحو، أن الناس، عندما أخذوا يبحثون عن أمير لاختياره، شرعوا لا يختارون أشجعهم، كما كان الوضع في السابق، بل أكثرهم حكمة وعدالة.

وعندما بدأوا في قبول الأمراء بالوراثة بدلاً من انتخابهم، وذلك في المرحلة التي تلت، اخذ هؤلاء الورثاء في التدهور بالنسبة إلى أسلافهم، وشرعوا يهجرون أعمال الفضيلة، ويعتبرون ان على الأمراء ان لا يعملوا شيئاً سوى التفوق على الآخرين في الإنفاق، والإقبال على الشهوات والمباذل على اختلاف أنواعها. وهذا أدى إلى تركيز الكراهية على الأمراء، الذين يلجأون إلى الخوف متى أحسوا بكراهية الناس لهم مما يؤدي بهم إلى أعمال العنف التي تنتج حكم الطغيان، وبسرعة متناهية.

ويكون حكم الطغيان في وقت قصير مصدراً لسقوط الأمراء، إذ انه يولد المؤامرات والدسائس ضد أشخاصهم ويقوم على تنظيمها أناس ليسوا بالجبناء ولا بالضعفاء، وإنما من المعروفين بميولهم التحررية، وعظمتهم وثرائهم وكفايتهم، وذلك لأن مثل هؤلاء لا يستطيعون الرضى بالحياة التي يعيشها الأمراء. وتحمل الجماهير السلاح بتحريض من هؤلاء القادة الأقوياء ضد الأمراء، وعندما تنتهي من تصفية أمرهم، تخضع لسلطان أولئك الذين تنظر إليهم على انهم محرروها. وهكذا يقوم هؤلاء، الذين ينطبق عليهم تعبير "الرئيس الفرد"، بتأليف الحكومات، فيستهلون عهودهم نظراً لتذكرهم ما عانوه في ظل الطغيان، بالحكم طبقاً للقوانين التي يشرعونها، ويخضعون مصالحهم للخير العام ويحكمون ويحافظون على النظام في الشؤون الخاصة والعامة على حد سواء، بمنتهى الدقة والضبط.

ولكن عندما كانت إدارة الحكم تنتقل إلى أفراد ذريتهم الذين لا خبرة لهم بتقلبات الحظ، والذين لم يمروا بفترات عصيبة، ولم يكونوا يشاءون القناعة بالعدالة المدنية السائدة، فأنهم كانوا يلجأون إلى الطمع والطموح، واغتصاب الناس نساءهم، مما يحيل حكومات النبلاء إلى حكومات القلة (الأوليغاركية)، التي تُهمَل فيها الحقوق المدنية تمام الإهمال، فيقع لهم ما وقع للطاغية من قبل، لأن الجماهير تملّ حكمهم، وتضحي على استعداد لعون كل من يضع خطة لمهاجمتهم، وسرعان ما يبرز إنسان يستطيع بمساعدة الجماهير ومساندتها القضاء عليهم، وتصفية أمرهم.

ولما كانت ذكريات الأمير ما تزال مائلة في عقول هذه الجماهير، ولما كانت معايبه ومخازية، لا تزال حديثة العهد في واعياتهم، ولما كانوا قد تخلصوا من حكم القلة، فأنهم، يظهرون ميلاً واضحاً إلى عدم العودة إلى حكم الأمراء، فيتجهون إلى نظام حكم الشعب (الديموقراطي)، وينظمونه بشكل يضمن عدم تركيز السلطة لا في قلة من الرجال الأقوياء، ولا في أمير من الأمراء.

ولما كانت جميع أنواع الحكومات تحظى بالاحترام في مستهل عهدها إلى حد ما، يحافظ هذا الطراز الديموقراطي من الحكم على نفسه أمداً ما، ولكن هذا الأمد لا يطول، ولا سيما عندما يكون الجيل الذي قام على تنظيمه قد قضى نحبه ومضى. وسرعان ما تسود الفوضى، ولا يظل ثمة احترام لا للفرد ولا للموظف الرسمي، ولما كان كل إنسان يعمل ما يشاء في ظل عهد كهذا، فسرعان ما تُرتكب جميع أنواع الشرور والمخالفات، وتحل النتيجة المحتومة، فتعود الإمارة إلى الحكم، اما تلبية لنصيحة إنسان طيب عاقل، أو رغبة في الخلاص من هذه الفوضى على أي سبيل. وتعود الحلقة من جديد، مرحلة، على النحو الذي فصلت، حتى تصل إلى الفوضى ثانية.

هذه هي الحلقة التي تمر بها جميع الحكومات، سواء أكانت مستقلة تحكم نفسها بنفسها، أو تابعة لحكم أجنبي. ولكن يندر ان تعود نفس الحكومة إلى نفس الشكل من الحكم في المرة الثانية. وذلك لسبب واحد، وهو ندرة تمتع الحكومات بتلك الحيوية التي تضمن لها الصمود أمام جميع هذه التقلبات، والبقاء بعدها في حيز الوجود. وما يحدث عادة هو ان هذه الحكومات، وهي تفتقر في هذه الحالة التي يسودها الهرج والمرج، إلى المشورة الصادقة والقوة، تغدو تابعة إلى دولة مجاورة لها، أحسن منها تنظيماً. ولولا ذلك، لظلت الحكومات تسير في تلك الحلقة المفرغة من التحول إلى ابد الآبدين.

وعلى ضوء ما ذكرت، أرى ان جميع أشكال الحكم التي شرحتها سابقاً ليست من النوع المرضي أبداً، وذلك لأن عمر الحكومات الطيبة قصير، ولان حياة الحكومات السيئة مليئة بالشرور والآثام. وهذا هو السبب الذي يحمل المشرعين العاقلين الذين يعرفون معايبها على الامتناع عن تبني أي من أشكال الحكم هذه، واختيار بديل عنها، يتمثل في شكل من أشكال الحكم يشترك فيه الجميع، وذلك لأنهم يرون ان هذا الشكل اكثر قوة وثباتاً، إذ لو وجد حكم الأمراء والنبلاء في دولة واحدة، لاحتفظ كل من هذه الفئات لنفسها بحق مراقبة الآخرين.

وكان ليكرجوس أحد الذين استحقوا الثناء العاطر على إقامة حكومة من هذا الطراز. فلقد عهد الدستور الذي سنه لمدينة إسبارطة إلى كل من الملوك والنبلاء وجمهرة الشعب، بمهام خاصة بها. وهكذا ادخل شكلا من أشكال الحكم، قدر له البقاء أكثر من ثمانمائة عام، مما حقق له الثناء ولمدينته الهدوء والاستقرار.

ولم تكن هذه هي حالة صولون[5]، الذي وضع لأثينا شرائعها، فقد أقام فيها شكلاً ديموقراطياً من أشكال الحكم، لم يقدر له ان يعمر طويلاً، وقضي عليه ان يشهد قبل موته ولادة حكم طاغ في ظل بيزيستراتوس[6]. وعلى الرغم من ان المدينة قد طردت ورثة هذا الطاغية، قبل انقضاء أقل من أربعين عاماً، وعلى الرغم من عودتها إلى ظلال الحرية بعد ان تنبت من جديد شكلاً ديموقراطياً من أشكال الحكم، لشرائع صولون، الا ان هذه الحرية لم تعش طويلاً، ولم يتجاوز عمرها هذه المرة المائة عام. وعلى الرغم من الحقيقة الواقعة وهي ان عدداً من الدساتير قد سن للحد من غطرسة الطبقة العالية، وتطرف طبقة العامة، الذي لم يضع له صولون حدوداً أو قيوداً. الا ان حياة أثينا لم تكن طويلة إذا ما قيست بحياة إسبارطة، وذلك لا، نظام صولون الديموقراطي لم يمتزج بسلطان الأمراء أو النبلاء.

وننتقل الآن إلى روما، فعلى الرغم من الحقيقة الواقعة وهي ان القدر لم يشأ لها أن تحبى بشخص كليكرجوس، يمنحها منذ استهلال عهدها، دستوراً من النوع الذي يضمن لها حياة طويلة من الحرية، الا ان الاحتكاك بين مجلسي العامة والشيوخ، قد أدى إلى وقوع أمور كثيرة لعب فيها الحظ الدور الذي يقدر للشارع ان يلعبه أو يؤديه. وهكذا إذا لم تكن روما قد حصلت من الحظ على عطيّته الأولى، فإنها قد حصلت حتماً على عطيّته الثانية. وذلك لأن تنظيماتها المبكرة، على الرغم مما كان فيها من عيوب، لم تسر سيراً خاطئاً، وإنما مهدت السبيل نحو الكمال، ولان روملوس[7] وغيره من الملوك، استنوا عدداً من القوانين التي تتلاءم مع الحرية وتتوافق معها. ولكن لما كان هدفهم إقامة مملكة لا جمهورية، بعد ان حققت المدينة حريتها، فان هذه المملكة كانت تفتقر إلى العديد من التنظيمات اللازمة للحفاظ على الحرية، وهي تنظيمات كان من اللازم وجودها، بالنظر إلى عدم ضمان الملوك لها. وهكذا فعندما فقد ملوكها سيادتهم، لأسباب، وبطريقة سبق لي أن شرحتها في مستهل هذه المطارحة، فان أولئك الذين طرودهم من الحكم، لجأوا فوراً إلى اختيار قنصلين، يقومان بأعباء الملك، مما أدى إلى ان ما وقع عليه الطرد بالفعل، لم يتعد لقب الملك نفسه، لا السلطان الملكي. وهكذا وجد، في ظل الجمهورية الآن، وفي هذه المرحلة، القنصلان، ومجلس الشيوخ، مما عنى ان الشكل الجديد للحكم فيها قد ضم عنصرين فقط من العناصر الثلاثة التي سبق لي تعدادها، وهما الإمارة، والنبلاء. ولم يبق هناك الا العثور على مكان للعنصر الثالث وهو الديموقراطية. وقد تم هذا عندما غدا النبلاء الرومانيون من النوع الذي لا يطاق، ... مما حمل الشعب على الثورة عليهم، ومما دفعهم هم، خوفاً من إضاعة كل شيء إلى منح الشعب حصة في الحكم، مع احتفاظ مجلس الشيوخ والقنصلية، على أي حال، بالسلطة الكافية للحفاظ على مركز النبلاء في الدولة.

وهكذا بدأ الشعب يعين ممثليه (التربيون-Tribune). وأدى تعيينهم إلى إيجاد الكثير من الاستقرار في شكل الحكم في الدولة، إذا ان العناصر اللازمة الثلاثة قد تمثلت فيه. ونستنتج من هذا ان روما كانت سعيدة الطالع للغاية، لأن الانتقال من الملكية إلى حكم النبلاء، ومن الأخير إلى الديمقراطية، قد جرى في نفس المراحل، ولعين الاسباب التي حددتها في مستهل هذه الاطروحة، دون أن يؤدي انتقال السلطة للنبلاء الى إلغاء النظام الملكي ودون ان يؤدى إشراك الشعب في الحكم إلى انتزاع السلطة كلية من النبلاء، ولقد أدى امتزاج العناصر الثلاثة على النقيض من ذلك، إلى قيام دولة مثالية كاملة. ولما كان الاحتكاك بين العامة والشيوخ، هو الذي حقق هذا الكمال، فقد رأيت ان اعرض في الفصلين التاليين عرضاً وافياً الطريقة التي تحقق فيها ذلك.

هل كان في الإمكان إقامة حكم في روما يقضي على الشحناء بين الشعب والنبلاء؟
كنا نتحدث قبل قليل عن النتائج الناجمة عن أوجه الخلاف بين الشعب ومجلس الشيوخ. ولما كانت هذه الخلافات قد استمرت حتى عهد "الغراتشيين"[8] الذين تشبهوا بالملوك، إذ تحولت آنذاك إلى الأسباب التي أدت إلى القضاء على الحرية، فقد يتبادر إلى ذهن أي إنسان ان يتساءل، هل كان في استطاعة روما ان تحقق الأشياء المجيدة التي حققتها، لو لم توجد هذه الخلافات. وهنا يبدو لي ان من الجدير ان نبحث فيما إذا كان في الإمكان إقامة نظام للحكم في روما، من شأنه تبديد هذه الخلافات، وإزالتها لو قدر له ان يقوم. وللبحث في هذا الموضوع، أرى لزاماً علينا ان ندرس أوضاع الجمهوريات التي كانت في نجوة من العداوات والفتن، والتي تمكنت مع ذلك من التمتع بحياة طويلة من الحرية، وان تتحدى أشكال حكوماتها، لنرى هل كان في الإمكان تطبيقها في روما.

وقد سبق لي ان أشرت ان إسبارطة تقوم بين الدول القديمة نموذجاً على هذه الجمهوريات، كما تقوم البندقية بين الدول الحديثة طرازاً لها. فقد أقامت إسبارطة لها ملكاً يحكمها وإلى جانبه في الحكم مجلس صغير للشيوخ. أما البندقية فلم تميز بين مختلف الأسماء بالنسبة إلى المشتركين من أصحابها في الحكومة، بل صنفت جميع اللائقين بالمناصب الإدارية في مصنف واحد أطلقت عليه اسم النبلاء أو السادة. وكان الفضل في هذا الأسلوب للحظ وحده لا لحكمة مشرعيها، فأن الكثيرين من الناس الذين تجمعوا حول هذه الشطآن الرملية التي تقوم عليها المدينة الآن، والذين اختاروها مقراً لهم بالنسبة إلى الأسباب التي سبق لي شرحها، أخذوا يزدادون عدداً، إلى أن بلغوا حداً تطلب وضع الشرائع اللازمة لتنظيم حياتهم إذا أرادوا الاستمرار فيها، وهكذا ابتكروا شكلاً جديداً لحكومتهم. وكانوا قد ألفوا الاجتماع إلى بعضهم البعض للتحدث في شؤون مدينتهم، وهكذا قرروا عندما بدا لهم ان عدد سكان المدينة اصبح كافياً لتشكيل كيان سياسي، عدم إشراك جميع من يفد حديثاً إلى المدينة للعيش فيها، في شؤون الحكومة. وعندما وجدوا مع مضي الزمن ان هناك عدداً كبيراً من السكان في المدينة قد حيل بينهم وبين الحكم، ورغبة منهم في إضفاء صفة الاحترام على الحاكمين، أطلقوا عليهم اسم السادة النبلاء، وعلى الباقين اسم العامة.

...

[وعلى ضوء ما تقدم كله] أجد نفسي واثقا كل الثقة ان إقامة جمهورية يقصد لها البقاء طويلا، يتطلب وضعها على غرار ما كانت عليه إسبارطة والبندقية، على ان يُشرع في تقوية مركزها وجعله منيعا بحيث تصبح صعبة المراس على كل من يحلم في الاستيلاء عليها عن طريق هجوم مباغت يقوم به عليها، وعلى ان لا توسع من الناحية الأخرى، إلى الحد الذي يظهرها بمظهر من يبعث الرهبة والفزع عند جيرانه. ولا ريب انها ستتمكن بهذه الطريقة من التمتع بشكل الحكومة الذي اختارته لنفسها أمداً طويلاً. ولا تشن الحروب في العادة على الدول الا لسببين أولهما، الرغبة في إخضاعها، وثانيهما الخشية منها. وإذا ما اتبعت الاحتياطات السابقة، انعدم هذان السببان، وذلك لأن تحصين الدولة وجعلها منيعة بحيث يتعذر الاستيلاء عليها عن طريق الهجوم، يبعد فكرة المحاولة نفسها. عن كل طامع في السيطرة عليها. وإذا كانت في الوقت نفسها راضية عما تملكه، واتضح عن طريق الاختبار، ان لا مطامح لها، فلن يدور في خلد أحد شن الحرب عليها ليدرأ عن نفسه خطر هجومها عليه، وهو خطر يخشاه ويفزع منه، ولا سيما إذا نص دستورها ونصت شرائعها على تحريم التوسع. وليس لدي أدنى شك في ان الحفاظ على مثل هذا التوازن يؤدي إلى وجود حياة سياسية أصيلة، وإلى سيادة الهدوء والطمأنينة في مثل هذه المدينة.

ولما كانت جميع القضايا الإنسانية من الناحية الأخرى، في حالة مستمرة من الحركة والتمدد، ولا يمكن لها ان تقف جامدة راكدة، فان هذه القضايا تكون معرضة دائماً، اما إلى التحسن أو إلى التدهور والانهيار، وقد تدفعك الضرورة إلى القيام بأعمال كثيرة، قد لا يقف التعقل والمنطق إلى جانبها. وهكذا فإذا أقيمت إحدى الدول على أساس الحفاظ على الوضع الراهن دون أي تطلع إلى توسع أو تمدد. ثم دفعت بها الضرورة إلى التوسع فان مبادئها الأساسية تنقلب رأساً على عقب، وسرعان ما تصبح معرضة للخراب. أما إذا آثرت السماء من الناحية الأخرى، ان تكون كريمة معها وان تجنبها أخطار الحروب، فان الكسل والتراخي سرعان ما يعرضانها إما إلى التخنث، أو إلى تعدد الشيع والأحزاب، وكلا الأمرين يؤدي بصورة فردية أو مجتمعة إلى انهيارها.

ولما كان من المستحيل في رأيي، الإبقاء على التوازن قائماً بشكل رائع يضمن استمرار سير الأمور في هذا الطريق الوسط المعتدل، فأن من واجب كل من يقيم جمهورية، ان يدرس احتمال قيامها بدور أكثر كرماً وشرفاً، بان يجعل منها، في حالة اضطرارها إلى التوسع بدافع الضرورة، دولة قوية تستطيع الحفاظ على ما امتلكته. وهكذا إذا عدنا إلى النقطة الأولى التي بدأنا منها، والتي أثرناها، فأنا مقتنع بضرورة تبني الطراز الروماني للدستور، لا أي طراز آخر، وذلك لأن العثور على طريق وسط، بين النقيضين المتباعدين، أمر متعذر وغير ممكن.

أما المشاحنات بين العامة والشيوخ، فيجب النظر اليها، على انها إزعاج لا بد منه، لتحقيق العظمة التي وصلت اليها روما. وبالإضافة إلى الأسباب التي سبق لنا تعدادها، لإظهار ما لسلطة المدافعين عن الشعب (التربيون) من ضرورة لحماية الحرية. فمن السهل علينا ان نرى الفوائد التي يمكن للجمهورية ان تجنيها عندما تكون هناك سلطة، تستطيع توجيه الاتهامات في المحاكم، وهي سلطة كانت ضمن الصلاحيات التي خولها المدافعون عن الشعب ...

أهمية المقاضاة العلنية في الحفاظ على الحرية في الجمهورية :
ليست هناك سلطة اكثر نفعاً، واشد ضرورة للعناية بالحريات في الدولة، من تلك التي تمنح إلى أولئك الذين يندبون للعناية بهذه الحريات والتي تخولهم مقاضاة بعض المواطنين الذين يرتكبون الجنح والجرائم المؤذية لحرية الدولة أمام جماهير الشعب، أو أمام بعض القضاة في المحاكم. ولمثل هذا التنظيم فائدتان نافعتان كل النفع في حياة الجمهوريات. اما الفائدة الأولى، فهي ان هذا التنظيم يحمل المواطنين، خوفاً من القضاء والاتهام، على تجنب القيام بأي عمل يضر بمصلحة الدولة، لأنهم ان حاولوا ذلك، تعرضوا للعقوبة، مهما كانت منازلهم، ومهما علت مراتبهم. واما الفائدة الثانية، فهي ان يؤمن المتنفس للمشاعر السيئة التي قد يحس بها الأهلون في بعض المدن تجاه مواطن معين، لسبب أو لآخر، وقد تنمو مع الزمن، وإذا تعذر وجود هذا المتنفس، تفاقمت المشاعر إلى الحد الذي يدفعها إلى القيام بأعمال غير طبيعية، وبأساليب شاذة قد تُطيح بالجمهورية كلها في مهاوي التهلكة، والكارثة. فليس ثمة من وسيلة افضل لدعم الجمهورية، وتقوية مركزها، من مثل هذه التنظيمات، التي تؤمن عن طريق القانون المتنفس الصالح للمشاعر المتقلبة التي تفسد على الجمهورية أمنها وهدوءها.

ويمكن التدليل على هذه الحقيقية بعدد من الشواهد والأمثلة، لعل في مقدمتها ما أورده تيتوس ليفي عن كوريولانوس (Coriolanus)[9]. ويحدثنا ليفي بأنه عندما اشتد برم النبلاء بالعامة، لاعتقادهم بتوسع سلطانهم عن طريق تعيين حماة الشعب (التربيون)، وعندما حلت بمدينة روما المجاعة من جراء ندرة المؤن فيها، مما أرغم مجلس الشيوخ على طلب القمح من صقلية، اقترح كوريولانوس، وكان خصماً للعامة، ان الوقت قد حان لإيقاع العقوبة بهم، وحرمانهم من السلطات التي حصلوا عليها على حساب النبلاء. وهكذا أشار كوريولانوس بالإبقاء على العامة جياعا، ونصح بعدم توزيع الحنطة المستوردة عليهم. وعندما وصلت نصيحته إلى أسماع الشعب، ثارت ثائرته، واشتد سخطه على الرجل، وبلغ هذا السخط حداً كاد يعرضه للقتل، عندما كان يغادر مجلس الشيوخ، لو لم يسرع حماة الشعب (التربيون) إلى الدفاع عنه. ولا ريب في ان المرء يرى في هذا الحادث، صحة ما سبق لي قوله، وهو ما في لجوء الجمهوريات إلى خلق متنفس مشروع لغضب الجماهير، من ضرورة وجدوى، ولا سيما بالنسبة إلى مواطن معين، وذلك لأن انعدام الطرق الطبيعية يدفع الجماهير إلى طرق وأساليب غير عادية، تؤدي حتماً إلى نتائج اكثر سوءاً من الطرق العادية.

والسبب في هذا، انه على الرغم من احتمال ارتكاب الخطأ عند إيقاع العقاب بمواطن بالطريقة العادية، الا ان من النادر، أو من المستحيل ان يقع أي اضطراب في الجمهورية، إذ لا يكون هناك عند تنفيذ الحكم مجال لاستئنافه إلى قوات خاصة أو أجنبية، ومثل هذه الحالات هي التي تؤدي إلى انهيار الحريات المدنية. وعلى النقيض من ذلك، فأن القوة التي تستخدم تكون صادرة عن سلطة عامة تعمل ضمن حدود معينة، ولا تحاول هذه القوة تخطي هذه الحدود للقيام بأعمال قد تؤدي إلى دمار الجمهورية.

ولا أرى بي حاجة إلى دعم هذا الرأي بإيراد أمثلة أخرى من العصور القديمة، بالإضافة إلى المثل الذي أوردته عن كوريولانوس. إذ يجب في هذا الصدد على الجميع، في أي حال من الأحوال، إمعان النظر في الويلات التي كان من المحتوم ان تتعرض لها الجمهورية الرومانية، لو تمكنت الجماهير من قتله على ذلك النحو الفوضوي، إذ ان هذا القتل سيكون عملاً من أعمال الانتقام الشخصي الذي يستثير الخوف، مما يؤدي إلى القيام بعمل دفاعي لدرء الخطر، وهذا يقود بدوره إلى حشد الأنصار، الذي يعني في حد ذاته تأليف الأحزاب في المدينة. وهو ما كان يقضي، حتما، بسقوطها أو انهيارها. أما وقد سويت القضية على أي حال، على أيدي أشخاص مزودين بالسلطة اللازمة، فلم يعد ثمة منفذ لوقوع الشرور التي كانت ستنجم حتماً، لو سويت القضية عن طريق السلطة الفردية.

ولقد رأينا في عصرنا الحاضر ابتكارات أدخلت في جمهورية فلورنسا بسبب عجز الجماهير عن إيجاد المنفذ الطبيعي للأهواء التي استثارها أحد المواطنين من أبنائها في نفوسهم. وقد وقع هذا في الوقت الذي غدا فيه مركز فرانسيسكو فالوري في المدينة مشابهاً لمركز أي أمير في مدينة أخرى. وقد اعتبره الكثيرون رجلاً طموحاً ينتظر منه ان يلجأ بسبب جرأته، وشدة نشاطه إلى أساليب غير دستورية. ولما لم يكن هناك سبيل آخر لمقاومته الا عن طريق تشكيل حزب منافس، فقد نتج عن ذلك،انه شرع في جمع الأعوان لحماية نفسه، وذلك لأنه لم يكن يخشى شيئاً الا إذا اتخذت خطوات غير استثنائية. ولما لم تكن هناك من الناحية الأخرى لدى خصومه وسائل عادية متوافرة للقضاء عليه، فقد حزموا أمرهم على استخدام وسائل أخرى، وهكذا قرروا حمل السلاح ضده. ولو تمكنوا في مثل هذه الحالة من معارضة فالوري بالوسائل الدستورية، لتحقق وضع حد لسلطته دون الإضرار بأي شخص آخر عداه، أما وقد دعت الحاجة إلى إتباع الأساليب غير الدستورية، فان الضرر لم يلحق به وحده، بل لحق بالكثيرين من المواطنين النبلاء أيضاً.

وفي وسع الإنسان ان يقدم تأييداً للنتيجة التي توصلنا إليها قبل قليل، حادثة أخرى وقعت فعلاً في فلورنسا بعد هذه الحادثة بقليل. وهي تتعلق ببيرو سوديريني[10]، وهي عائدة إلى افتقار هذه الجمهورية إلى أية وسيلة تستطيع بواسطتها اتخاذ إجراء قانوني ضد الطموح الذي قد يبديه بعض المواطنين الأقوياء. فالحكم على مواطن قوي يستلزم ان يصدر عن اكثر من ثمانية قضاة. ومن الواجب ان يكون عدد القضاة كبيراً، لأن قلة عددهم تجعلهم يعملون طبقاً لما ينتظر من القلة ان تعمله. ولو كانت هذه هي الحالة لتمكن المواطنون اما من اتهامه إذا أساء السلوك، وفي مثل هذه الطريقة يجدون متنفساً لما يشعرون به من غيظ وعداء، دون ان يضطروا إلى طلب تدخل الجيش الأسباني، أو لما جرؤوا إذا لم يكن سلوكه سيئاً، على القيام بأي إجراء ضده، خشية ان يعرضوا أنفسهم لخطر الاتهام. وهكذا كان من المحتم ان تتوقف الشهوة التي ولدت الفضيحة عن العمل في كلتا الحالتين.

وهكذا نصل إلى الاستنتاج القائل بإنه عندما تستدعي فئة من الناس تقيم في مدينة من المدن القوى الأجنبية لمساندتها، فان من المسلم به ان هذا الاستدعاء ناجم عن النقص الموجود في دستور تلك المدينة، من حيث عدم توفيره المنظمة التي تؤمن المتنفس لأحاسيس الشر التي يتعرض لها جميع الناس، والذي يغنيهم عن اللجوء إلى الأعمال غير الدستورية. وتقوم الطريقة المثلى لسد هذا العجز في توفير العدد الكافي من القضاة الذين يمكن توجيه الاتهامات أمامهم، وفي النظر إلى القضاء على انه مهمة نبيلة وشريفة.

وقد وفرت روما جميع هذه الأمور بشكل ضمن في جميع المنازعات الكبرى، التي نشبت بين مجلس الشيوخ والعامة، عدم تفكير أي من الفريقين، أو أي مواطن فرد، باستدعاء القوى الأجنبية إلى المدينة، إذ ان توافر العلاج في الداخل قد أبعد الحاجة إلى البحث عنه في الخارج. وعلى الرغم من ان الأدلة التي أوردتها حتى الآن كافية لدعم نظريتي، وما أراه، فإنني عازم على الإتيان بدليل جديد آخر، استقيته من تاريخ تيتوس ليفي. فهو يروي انه حدث في مدينة كلوسيوم، التي كانت تعتبر اعظم مدن توسكانيا في ذلك الحين، إن اعتدى شخص يدعى كولومون على عفاف شقيقة شخص آخر يدعى آردنز، ولما وجد هذا نفسه عاجزاً عن الوصول إلى العدالة، بسبب ما يتمتع به خصمه من قوة ونفوذ، مضى إلى الغاليين الذين كانوا يسيطرون آنذاك على المقاطعة التي نطلق عليها الآن اسم "لومبارديا"، وناشدهم المجيء بقواتهم المسلحة إلى كلوسيوم، مشيراً إليهم ان من مصلحتهم الثأر له من الحيف الذي لحق به. ولو تمكن آردنز من إحقاق حقه، عن طريق قوانين المدينة، لما استثار قوات البرابرة على مدينته...

***

عن نوع الشعوب التي تحتم على الرومان قتالها ومدى الإصرار الذي أظهرته هذه الشعوب في الدفاع عن حريتها
... وذا كان هناك من يسأل نفسه، كيف يحدث مثلاً ان تكون الشعوب القديمة اكثر تعشقاً للحرية من شعوب اليوم، فإنني اعتقد بأن الرد على هذا السؤال يقوم في ان هذا الوضع ناجم عن نفس السبب الذي يجعل الناس اليوم أقل جرأة مما كانوا عليه في الماضي، وهو سبب يقوم كما أظن في الخلاف الموجود بين تعليمنا وبين التعليم في الأيام الغابرة وذلك نتيجة للبون الموجود بين ديانتنا اليوم وديانة تلك الأيام. فديانتنا التي علمتنا الحقيقة والطريقة الصحيحة في الحياة، تقودنا إلى التقليل مما نوليه من تقدير للتكريم الدنيوي. وهذا هو السبب الذي يدعو "السادة" الذين كانوا يجلون هذا التكريم الدنيوي اكثر من إجلالنا له، والذين كانوا ينظرون إليه كخير ما يأتيهم من خير، وهي نظرة تتمثل في أعمالهم التي انطبعت بطابع التفوق في العنف على ما يطبع أعمالنا منه. ويتضح هذا في الكثير من أنظمتهم. ولنبدأ أولاً بالمقارنة بين عظمة قرابينهم والتواضع الذي يميز قرابيننا. فطقوس تقديمنا للقرابين رقيقة وناعمة، بدل ان تكون آمرة وقوية، وليس فيها من عرض للشجاعة أو للشراسة. أما طقوسهم، فلم تكن تفتقر إلى الفخفخة ولا إلى الروعة، وكانت هناك بالإضافة إليها مراسيم قربانية يكثر فيها سفك الدماء، وتتميز بالقوة والشراسة، إذ تذبح فيها أعداد كبيرة من الحيوانات. وكانت هذه المناظر بالنسبة، إلى فظاعتها، تحمل الناس على اكتساب صفة الفظاعة أيضاً. يضاف إلى هذا ان الديانة القديمة لم تكن تضفي الأمجاد السماوية على الرجال الا إذا كانوا مفعمين بالأمجاد الأرضية، كقادة الجيوش مثلاً، وحكام الجمهوريات. وقد مجدت ديانتنا المتواضعين من الرجال والميالين إلى التأمل بدلاً من تمجيد رجال العمل، وقد وضعت للرجل مثله العليا في الخير والتواضع وإنكار الذات واحتقار الأشياء الدنيوية، بينما وضعت الديانة الأخرى للرجل مثله العليا في العظمة والقوة البدنية، وكل ما يدعو إلى بعث الجرأة في قلوب الناس. وإذا كانت ديانتنا تطلب من الرجل ان يكون قوياً، فأن القوة التي تطلبها فيه هي ما يمكنه على احتمال الآلام لا على القيام بالأمور التي تتطلب الجرأة.

ويبدو ان هذه الصورة من صور الحياة قد أدت إلى إضعاف العالم، وإلى تقديمه فريسة سائغة للشريرين الغلاظ القلوب، الذين يقومون على إدارته بنجاح وأمان، طالما انهم يعرفون ان عامة الرجال الذين اتخذوا من الفردوس غاية لهم، يدرسون الطريقة المثلى للاحتمال، لا الطريقة المثلى للثأر لما أصابهم من أضرار. ولكن على الرغم مما يبدو على العالم من ضعف وتخنث وعلى الرغم مما يبدو على السماء من عجز، فأن هذا الوضع ناجم ولا ريب عن إحجام أولئك الذين فسروا ديننا في حدود "دعه يعمل" لا في حدود الشجاعة وتعابيرها. إذ لو فكر هؤلاء بأن الدين يسمح لنا بأن نمجد وطننا وان ندافع عنه، لرأوا انه يريد منا أيضاً ان نحبه ونجله، وان ندرب أنفسنا على النحو الذي يمكننا من الدفاع عنه.

ولا ريب في ان هذا الشكل من أشكال التربية، وهذه التفاسير السيئة والخطيرة، هي التي تدعو إلى الحقيقة الماثلة، وهي اننا نرى في العالم عددا أقل من الجمهوريات مما كان عليه في الأيام السالفة، واننا لا نجد تبعاً لذلك لدى الشعوب نَفسَ تعشّق الحرية الذي كان قائماً لديها في الماضي.

...

على أي حال، ومهما كان الوضع، واجه الرومان في جميع أنحاء العالم، مهما كانت صغيرة، التحاماً يضم عدداً من الجمهوريات الحسنة التسلح، والعنيدة عناداً متطرفاً في الدفاع عن حريتها، مما يظهر انه لو لم تكن فضيلة الرومان [شجاعتهم]، من طراز نادر ورفيع للغاية لما تمكنوا أبداً من التغلب عليها. وأني لأكتفي بسرد مثال واحد، يقيم الدليل على صحة ما أقول، وهو مثال السمنيين. فمن الأمور البارزة كما يعترف ليفي، ان يكونوا على هذا النحو من القوة وان تكون أسلحتهم على هذه الدرجة من المضاء، بحيث استطاعوا ان يصمدوا أمام الرومان حتى أيام بابيريوس كيرسور، القنصل، وابن بابيربوس الأول، أي ان يصمدوا أمامهم مدة ست وأربعين سنة على الرغم من الهزائم المفجعة التي منوا بها، وعلى الرغم مما لحق بمدنهم من خراب، وبسكان بلادهم من تقتيل وذبح، وهي مذابح بلغت من ضخامتها إلى الحد الذي غدت فيه هذه البلاد التي كانت مأهولة في الماضي بعدد كبير من المدن والسكان، خالية مهجورة، بعد ان كانت ذات يوم حسنة النظام قوية، وكان في مكنتها ان لا تقهر لو لم تواجه فضيلة كفضيلة الرومان.


ترجمة: خيري حمّاد


يتبع

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:47 PM

مكيافيلي: مختارات من كتاب "الأمير"




... علينا أن نرى الآن الطرق والقواعد التي يجب على الأمير أن يسير فيها بالنسبة إلى رعاياه وأصدقائه. ولما كان الكثيرون قد أسهبوا في الكتابة عن هذا الموضوع، فإني أخشى أن تبدو كتابتي عنه غرورا مني لا سيما وإنني اختلفت، في هذا الموضوع خاصة، عن رأي الآخرين. ولكن لما كان من قصدي أن أكتب شيئا يستفيد منه مَن يفهمون، فإني أرى أن من الأفضل أن أمضي إلى حقائق الموضوع بدلا من تناول خيالاته، لاسيما وأن الكثيرين قد تخيلوا جمهوريات وإمارات لم يكن لها وجود في عالم الحقيقة، وأن الطريقة التي نحيا فيها تختلف كثيرا عن الطريقة التي يجب أن نعيش فيها، وأن الذي يتنكر لما يقع سعيا منه وراء ما يجب أن يقع، إنما يتعلم ما يؤدي إلى دماره بدلا مما يؤدي إلى الحفاظ عليه. ولا ريب في أن الإنسان الذي يريد امتهان الطيبة والخير في كل شيء، يصاب بالحزن والأسى عندما يرى نفسه محاطا بهذا العدد الكبير من الناس الذين لا خير فيهم. ولذا فمن الضروري لكل أمير يرغب في الحفاظ على نفسه أن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير، وأن يستخدم هذه المعرفة أو لا يستخدمها، وفقا لضرورات الحالات التي يواجهها...


10: كيف تقاس قوة جميع الدول :

عند البحث في طبيعة هذه الإمارات، أرى من الضروري، أن نهتم بنقطة أخرى وهي: هل يتمتع الأمير بذلك المركز الذي يمكنه، في حالة الحاجة، من المحافظة على نفسه؟ أو هل هو في حاجة دائمة إلى مساعدة الآخرين؟ وخير وسيلة لإيضاح ذلك أقول أنني أعتبر الذين يستطيعون المحافظة على مراكزهم، [هم] أولئك الذين يملكون الكثير من الرجال والمال، ويستطيعون حشد جيش كاف، ويصمدون في الميدان بوجه كل من يهاجمهم. وأعتبر من يحتاجون إلى الآخرين، [هم] أولئك الذين لا يستطيعون خوض المعارك ضد أعدائهم، فيضطرون إلى اللجوء إلى قلاع أسوارهم، واتخاذ موقف الدفاع... أما الحالة الثانية، فليس هناك ما يقال سوى تشجيع مثل هذا الأمير على تزويد مدينته بالمؤن، وتقوية وسائلها الدفاعية، وأن لا يزعج نفسه بأحوال الريف المحيط بها. ولا ريب أن الآخرين سيترددون دائما في مهاجمة الأمير الذي كان يجيد تحصين مدينته، ويحسن إدارة حكومة رعاياه،... ذلك لأن الناس يكرهون دائما المغامرات التي يتوقعون فيها لقاء المصاعب، ولا يبدو قط من السهل الهجوم على رجل أجاد الدفاع عن مدينته، وقابله رعاياه بالحب.


14: واجبات الأمير تجاه المتطوعة :

على الأمير أن لا يستهدف شيئا غير الحرب وتنظيمها وطرقها، وأن لا يفكر أو يدرس شيئا سواها، إذ أن الحرب هي الفن الوحيد الذي يحتاج إليه كل من يتولى القيادة. ولا تقتصر هذه الفضيلة القائمة فيها على المحافظة على أولئك الذين يولدون أمراء، بل تتعداها إلى مساعدة الآخرين، من أبناء الشعب، على الوصول إلى تلك المرتبة. وكثيرا ما يرى الإنسان أن الأمير الذي يفكر بالترف أو الرخاء، أكثر من تفكيره بالسلاح، كثيرا ما يفقد إمارته. ولا ريب في أن ازدراء فن الحرب هو السبب الرئيسي في ضياع الدول وفقدانها، وأن التمرس فيه وإتقانه هو السبيل إلى الحصول على الدول والإمارات.

...

فعلى الأمير، تبعا لذلك، أن لا يسمح لأفكاره بأن تذهب بعيدا عن مراس الحرب، وعليه في أيام السلم أن يكون أكثر اهتماما بها من أيام الحرب، وهذا ما يستطيعه بواسطة أحد سبيلين هما العمل والدراسة. فمن ناحية العمل يتوجب عليه بالإضافة إلى الإبقاء على جنوده في حالة من التدريب والنظام أن يشغل وقته باستمرار في الصيد، وأن يعود جسمه على المشاق، وأن يدرس في غضون ذلك طبيعة البلاد، كارتفاع الجبال، وعمق الوديان، وامتداد السهول وطبيعية الأنهار والمستنقعات. أجل عليه أن يعنى بجميع هذه الأمور بالغ العناية، فمعرفته هذه مجدية بطريقتين: أولهما، أن يعرف الإنسان كل شيء عن بلاده وأن يقرر أحسن السبل للدفاع عنها. وثانيهما، أن معرفته وتجاربه في منطقة واحدة تحمله على تفهم المناطق الأخرى التي يضطر إلى مراقبتها بسهولة. ذلك لأن الجبال والوهاد والسهول والأنهار في تسكانيا، مثلا، تشبه إلى حد ما نظائرها في الإمارات الأخرى. وهكذا يستطيع المرء عن طريق معرفته بإحدى المناطق، أن يعرف أحوال المناطق الأخرى. والأمير الذي يفتقر إلى هذه الموهبة، تنعدم فيه أولى الجوهريات التي يجب أن تتوفر في القائد، إذ أنها هي التي تعلمه كيف يجد عدوه، وأين يقيم معسكره، وكيف يقود جيوشه، ويخطط لمعاركه، ويفرض الحصار على المدن، آخذا الفوائد إلى جانبه.

وقد كال الكتاب والمؤرخون المديح على فيلوبومين، أمير الآخيين، لأنه في أوقات السلم كان لا يفكر بشيء آخر سوى الحرب وأساليبها، وكان، عندما يذهب إلى الريف مع أصدقائه، كثيرا ما يقف ليسألهم: إذا كان العدو على ذلك التل، ورأينا أنفسنا هنا مع جيشنا، فلمن تكون ميزة الموقع؟ وكيف نستطيع أن نتقدم لنصل إليه بسلام، محتفظين بنظام قواتنا؟ وإذا رغبنا في الانسحاب فماذا يتحتم علينا أن نفعل؟ وإذا انسحب العدو، فكيف يتوجب علينا أن نلحق به؟ وكان يضع أمامهم، في الطريق، جميع الاحتمالات التي قد تحدث لأي جيش ويستمع إلى آرائهم، ويعطي رأيه ساندا إياه بالحجج والبراهين. وبفضل هذه الأفكار الدائمة كان يجد نفسه دائما مستعدا لمواجهة أي حادث وهو على رأس جيوشه.

أما بالنسبة إلى العقل، فعلى الأمير أن يقرأ التاريخ وأن يدرس أعمال الرجال البارزين، فيرى أسلوبهم في الحروب، ويتفحص أسباب انتصاراتهم وهزائمهم، ليقلدهم في هذه الانتصارات، ويتجنب الوقوع في الأخطاء التي أدت إلى الهزائم، وأن يفعل كما فعل غيره من الرجال في الماضي، ومن تقليد لشخص انهال عليه المديح والتمجيد وترك مآثره وأعماله مكشوفة للجميع، وهو ما يقال أن الاسكندر الكبير قد فعله في تقليد أخيل، وقيصر في تقليد الاسكندر، وشيبيو في تقليد كورش. ولا ريب في أن كل من يقرأ حياة كورش كما كتبها اكزونوفون، سيرى في سيرة شيبيو نجاحه في تقليد سلفه، وكيف تقيد تماما بصفات كورش التي عددها اكزونوفون، والتي تنطوي على الرأفة والعطف والإنسانية والتحرر الفكري.

وعلى الأمير العاقل أن يتبع أساليب مماثلة، وأن لا يظل عاطلا عن العمل في أوقات السلام، بل يستخدمها بجد وجهد، حتى إذا ما دارت عجلة الحظ وجدته متأهبا لمواجهة ضرباتها، وقادرا على التغلب على كل صعوبة.


15: الأمور التي يستحق عليها الرجال ولا سيما الأمراء، المديح أو اللوم :

... إن جميع الرجال ولا سيما الأمراء الذين يوضعون في مناصب رفيعة، يشتهرون بمزايا معينة، قد تكون سببا في إضفاء المديح أو اللوم عليهم. وهكذا قد يُعتبر أحد الأمراء كريما متحررا بينما يُعتبر الآخر بخيلا شحيحا (وقد آثرت استخدام هذا الاصطلاح التوسكاني)، وقد يُعتبر أحدهم ذا أريحية والآخر ذا شُح وطمع، أو قاسيا فظيعا، والثاني رحيما. وقد يُعتبر الأول ناكثا لوعده والثاني وافيا به، أو ****ا حائر العزيمة والآخر عنيفا قوي الشكيمة، أو ودودا إنسانيا والآخر متكبرا متعجرفا، أو داعرا فاسقا والآخر نقيا طاهرا، أو صريحا والآخر ماكرا، أو قاسيا والآخر لينا أو جادا والآخر هازلا أو متدينا ورعا والآخر كافرا ملحدا، وهكذا دواليك... وإني لأعرف أن كل إنسان يقر ويعترف أن من الصفات المحمودة في الأمير أن يتصف بجميع ما ذكرت من صفات ترمز إلى الخير، ولكن لما كان من المستحيل أن يمتلكها الإنسان جميعا وأن يتبعها، لأن الأوضاع الإنسانية لا تسمح بذلك، فإن من الضروري أن يكون من الحصافة والفطنة بحيث يتجنب الفضائح المترتبة على تلك المثالب التي قد تؤدي به الى ضياع دولته، وأن يقي نفسه، إن أمكن، من تلك التي قد لا تؤدي إلى مثل هذا الضياع، على أن يمارسها دون أي تشهير، إذا لم يتمكن من التخلي عنها. وعليه أن لا يكترث بوقوع التشهير بالنسبة إلى بعض المثالب إذا رأى أن لا سبيل له إلى الاحتفاظ بالدولة بدونها، إذ أن التعمق في درس الأمور يؤدي إلى العثور على أن بعض الأشياء التي تبدو فضائل تؤدي إذا اتبعت إلى دمار الإنسان. بينما هناك أشياء أخرى تبدو كرذائل ولكنها تؤدي إلى زيادة ما يشعر به الإنسان من طمأنينة وسعادة.


16: السخاء والبخل :

إذا ما عدنا الآن إلى أولى الصفات التي عددناها في السابق، تبين لي أن من واجبي القول ان من الخير أن يعتبر الإنسان كريما سخيا، ومع ذلك فإن السخاء على النحو الذي يفهمه العالم قد يؤدي إلى إيذائك. إذ أن ممارسته على شكل فضيلة، وبالطريقة الصحيحة، لا تؤدي إلى معرفة الناس به، وتجعله عرضة بالتالي لأن تتهم بالمثلبة المعاكسة. ولكن على الإنسان الذي يرغب في اشتهار أمره بالسخاء بين الناس أن لا يتغافل عن أي نوع من أنواع العرض الذي ينطوي على التفخيم إلى أقصى الحدود، حتى إن الأمير الذي تكون طبيعته من هذا النوع، سيستنزف عن طريق هذه الوسائل جميع إمكانياته، وسيجد نفسه مضطرا في النهاية، إذا أراد الاحتفاظ بشهرته في السخاء، إلى فرض ضرائب ثقيلة على شعبه، وأن يصبح مبتزا، وأن يقدم على كل عمل يؤدي إلى كسب المال. وإذا ما انحدر إلى مثل هذه الحالة، بدأ شعبه يكرهه، وانفض عن احترامه نظرا لفقره، ويكون بسخائه قد أضر بالكثيرين في سبيل نفع الأقلية، وسيشعر بأول اضطراب مهما ضؤل شأنه، ويتعرض للخطر بعد كل مجازفة. وإذا ما أدرك الأمير ذلك، ورغب في تغيير نظام معاملته، تعرض فورا لتهمة الشح أو البخل.

وعلى الأمير، تبعا لذلك، إذا كان يعجز عن ممارسة فضيلة الكرم دون المجازفة باشتهار أمره، أن لا يتعرض، إذا كان حكيما عاقلا، على تسميته بالبخل. وسيرى الناس مع مضي الزمن إنه أكثر سخاء مما كانوا يظنون، وذلك عندما يرون إنه عن طريق تقتيره أصبح يكتفي بدخله، ويؤمن وسائل الدفاع اللازمة ضد كل مَن يفكر بإشهار الحرب عليه، ويقوم بمشاريع كثيرة دون أن يرهق شعبه، ويكون بذلك كريما حقا مع جميع أولئك الذين لا يأخذ منهم أموالهم، وهم كثر للغاية، وشحيحا مع أولئك الذين لا يهبهم المال، وهم قلة ضئيلة. وقد رأينا في عصرنا الأعمال العظيمة التي يحققها أولئك الذين يُوصَمون بالبخل. أما الآخرون فمصيرهم إلى الدمار. وعلى الرغم من أن البابا يوليوس الثاني قد اشتهر بالكرم واستعمل شهرته هذه في سبيل ارتقائه سدة البابوية، إلا أنه لم يحاول الاحتفاظ بالكرم بعد ذلك، ليؤمن الوسائل اللازمة لتمكينه من شن الحروب. وقد قام ملك فرنسا الحالي بشن عدد من الحروب دون أن يفرض على شعبه أية ضرائب استثنائية، لأنه غطى بتقتيره الماضي جميع النفقات الطارئة التي تعرض لها. ولو كان ملك أسبانيا الحالي كريما سخيا، لما تمكن من إقحام نفسه في هذا العدد الكبير من المشاريع التي تكللت جميعها بالنجاح.

ولهذه الأسباب كلها، على الأمير أن لا يكترث كثيرا باشتهاره بالبخل، هذا إذا رغب في تجنب سرقة شعبه، وفي أن يكون قادرا على الدفاع عن نفسه، وتجنب الفقر وما يرافقه من مهانة، وأن لا يجبر نفسه مرغما على سلب الناس أموالهم، فالُشح هو إحدى الرذائل التي تمكنه من أن يحكم... وليس هناك ما هو أشد ضررا على نفسك من الجود والكرم. إذ باستعمالك له تفقد قدرتك على استخدامه، وتصبح إما فقيرا وإما حقيرا، أو إذا رغبت النجاة من الفقر تضحي نهابا سلابا، يكرهك رعاياك. وعلى الأمير أن يتجنب، قبل كل شيء، أن يوصم بالحقارة، أو يتعرض للكراهية، ولا ريب في أن الكرم سيقوده إلى إحدى هاتين النتيجتين. ولذا فمن الأفضل أن تكون بخيلا، فهذا يعرضك للتحقير دون الكراهية، على أن تكون مرغما بدافع الحاجة إلى أن تصبح لصا سلابا، مما يعرضك للتحقير والكراهية معا.


17: الرأفة والقسوة وهل من الخير أن تكون محبوبا أو مهابا :

إذا ما استطردنا في حديثنا إلى الصفات الأخرى التي ذكرناها سابقا، فإني أرى أن على كل أمير أن يرغب في أن يعتبره رعاياه رحيما لا قاسيا فظيعا. ولكن عليه مع ذلك أن لا يسيء استعمال هذه الرحمة... ولذا على الأمير أن لا يكترث بوصمه بتهمة القسوة، إذا كان في ذلك ما يؤدي إلى وحدة رعاياه وولائهم... ويستحيل على الأمير الجديد، من دون الأمراء جميعا، أن ينجو من سمعة القسوة والصرامة، ذلك لأن الدول الجديدة تتعرض دائما للأخطار الكثيرة. ولقد قال فرجيل على لسان ديدو:

"على كل أمير أن يواجه الحالات الحرجة ومقتضيات المُلك الجديدة باتخاذ التدابير المناسبة وحماية المُلك بإقامة حراس على مسافات بعيدة".

ومع ذلك، عليه أن يكون حذرا في تصديق ما يقال له. وفي العمل أيضا، وأن لا يخشى من ظله الخاص به. وأن يسيطر بطريقة معتدلة، يلفها حُسن التبصر والإنسانية، حتى لا تؤدي به ثقته المفرطة إلى الإهمال، وعدم الاهتمام، ويطوح به حياؤه إلى التعصب وعدم التسامح.

وهنا يقوم السؤال عما إذا كان من الأفضل أن تكون محبوبا أكثر من أن تكون مهابا، أو أن يخافك الناس أكثر من أن يحبوك. ويتلخص الرد على هذا السؤال، في أن من الواجب أن يخافك الناس وأن يحبوك، ولكن لما كان من العسير أن تجمع بين الأمرين فإن من الأفضل أن يخافوك على أن يحبوك، هذا إذا توجب عليك الاختيار بينهما. وقد يقال عن الناس بصورة عامة، أنهم ناكرون للجميل، متقلبون، مراءون ميالون إلى تجنب الأخطار، وشديدو الطمع. وهم إلى جانبك طالما إنك تفيدهم، فيبذلون لك دماءهم، وحياتهم، وأطفالهم، وكل ما يملكون، كما سبق لي أن قلت، طالما إن الحاجة بعيدة نائية، ولكنها عندما تدنو يثورون. ومصير الأمير (الذي يركن إلى وعودهم دون اتخاذ أية استعدادات أخرى) إلى الدمار والخراب. إذ أن الصداقة التي تقوم على أساس الشراء، لا على أساس نبل الروح وعظمتها، هي صداقة زائفة تُشرى بالمال ولا تكون أمينة موثوقة، وهي عرضة لأن لا تجدها في خدمتك في أول مناسبة. ولا يتردد الناس في الإساءة إلى ذلك الذي يجعل نفسه محبوبا، بقدر ترددهم في الإساءة إلى من يخافونه، إذ أن الحب يرتبط بسلسلة من الالتزام، التي قد تتحطم، بالنظر إلى أنانية الناس، عندما يخدم تحطيمها مصالحهم، بينما يرتكز الخوف على الخشية من العقاب وهي خشية قلما تُمنى بالفشل.

ومع ذلك، على الأمير أن يفرض الخوف منه، بطريقة يتجنب بواسطتها الكراهية إذا لم يضمن الحب، إذ أن الخوف وعدم وجود الكراهية قد يسيران معا جنبا إلى جنب. وفي وسع الأمير الذي يمتنع عن التدخل في ممتلكات مواطنيه ورعاياه، وفي نسائهم، أن يحصل عليهما. وعندما يضطر الأمير إلى سلب إنسان حياته، عليه أن يتوخى المبرر الصالح والسبب الواضح لذلك، ولكن عليه قبل كل شيء أن يمتنع عن سلب الآخرين ممتلكاتهم، إذ أن من الأسهل على الإنسان أن ينسى وفاة والده، من أن ينسى ضياع إرثه وممتلكاته. ويضاف إلى هذا أن المبررات لمصادرة الممتلكات متوفرة دائما. وكل من يبدأ في الحياة على النهب والسلب، يجد مبررا لسلب الآخرين ما يملكون، بينما أسباب القضاء على حياتهم أكثر ندرة وأسرع زوالا.

ولكن عندما يكون الأمير مع جيشه، وتحت تصرفه عدد كبير من الجنود، فمن اللازم أن لا يكترث كثيرا فيما إذا أطلق الناس عليه لقب الصارم، إذ بدون مثل هذه الشهرة يستحيل عليه الإبقاء على جيشه موحدا، خاضعا للنظام والواجب. وكانت هذه الصفة من الصفات البارزة في هانيبال، إذ على الرغم من قيادته لجيش يتألف من رجال من مختلف الجنسيات، ويقاتل في بلاد أجنبية، لم يقع أي نزاع بينهم، أو يظهر أي عصيان للأمير، لا في أوقات سعده ولا في فترات نحسه. ومثل هذا الوضع لا يمكن أن يعزى إلا لصرامته التي تنبو على حدود الإنسانية، وهذا إذا ما أضيفت إلى فضائله الأخرى التي لا حصر لها، فقد جعلت منه دائما إنسانا مهابا ومخيفا في عيون جنوده، ولو لم تكن فيه، لما كانت فضائله الأخرى كافية لإحداث ذلك التأثير. ويميل الكتاب، الذين يفتقرون إلى التفكير، إلى تمجيد أعماله من ناحية، وإلى توجيه اللوم إلى العامل الرئيسي الذي كان السبب في هذه الأعمال.

ولا ريب في أن هذه الحقيقة التي ذكرت، من أن الفضائل الأخرى قد لا تكون كافية. وقد تبدو في قضية شيبيو (المشهور لا بالنسبة إلى عصره، بل إلى جميع العصور التي تعيش فيها ذكراه)، فقد ثارت عليه جيوشه في أسبانيا، ولم تقم ثورتها إلا بسبب إغراقه في اللين واللطف، مما أدى إلى السماح للجنود بأشياء لا تتفق مع النظام العسكري. وقد وجه إليه فابيوس مكسيموس اللوم في ندوة مجلس الشيوخ على ذلك، متهما إياه بإفساد المتطوعة الرومان. وكان أحد ضباط شيبيو قد أنزل الدمار بلوكري، فلم يثأر هذا منه، كما لم يعاقب شيبيو ضابطه على حماقته لإفراطه في اللين. ومع ذلك، فقد رغب الكثيرون في تبرير أعماله في مجلس الشيوخ، وقالوا ان ثمة كثيرين يعرفون كيف لا يخطئون، أكثر من معرفتهم كيف يصلحون أخطاء الآخرين. ومثل هذا الموقف كان كافيا لتشويه سمعة شيبيو لو عاش في ظل الإمبراطورية ولكنه لما كان يعيش في ظل مجلس الشيوخ، فإن هذه الصفة المؤذية، لم يُقدر لها الاختفاء فحسب، بل قُدر لها أن تكون مصدرا لمجده.

وإنني لأنهي القول تبعا لذلك عن موضوع الحب والخوف قائلا إن الناس يحبون تبعا لأهوائهم وإرادتهم الخاصة، ولكنهم يخافون وفقا لأهواء الأمير وإرادته. والأمير العاقل هو الذي يعتمد على ما يقع تحت سلطانه لا تحت سلطان الآخرين، وعليه فقط أن يتجنب الكراهية لشخصه كما سبق لي أن أوضحت.


18: كيف يتوجب على الأمير أن يحافظ على عهوده

لا ريب في أن كل إنسان يدرك أن من الصفات المحمودة للأمير أن يكون صادقا في وعوده وأن يعيش في شرف ونبل لا في مكر ودهاء. لكن تجارب عصرنا أثبتت أن الأمراء الذين قاموا بجلائل الأعمال لم يكونوا كثيري الاهتمام بعهودهم والوفاء بها، وتمكنوا، بالمكر والدهاء، من الضحك على عقول الناس وإرباكها، وتغلبوا أخيرا على أقرانهم من الذين جعلوا الإخلاص والوفاء رائدهم.

وعليك أن تدرك أن ثمة سبيلين للقتال: أحدهما بواسطة القانون والآخر عن طريق القوة. ويلجأ البشر إلى السبيل الأول، أما الحيوانات فتلجأ إلى السبيل الثاني. ولكن لما كانت الطريقة الأولى غير كافية لتحقيق الأهداف عادة، فإن على الإنسان أن يلجأ تبعا لذلك إلى الطريقة الثانية. ومن الضروري للأمير أن يعرف استخدام الطريقتين معا، أي طريقة الإنسان وطريقة الحيوان. وهذا ما نصح به قدماء الكتاب الحكام في الماضي، مستشهدين بأخيل وغيره من الأمراء الأقدمين الذين عهد بهم إلى شيرون القنطور الخرافي (حيوان) لتربيتهم وتعليمهم على نظامه. وهذا الرمز الخرافي، نصف الإنسان ونصف الحيوان، قُصد منه أن يشير إلى أن الأمير يجب أن يتعلم الطبيعتين الإنسانية والحيوانية وإن إحداهما لا يمكن أن تعيش بدون الأخرى.

وعلى الأمير الذي يجد نفسه مرغما على تعلم طريقة عمل الحيوان أن يقلد الثعلب والأسد معا، إذ أن الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الشراك، والثعلب لا يتمكن من الدفاع عن نفسه أمام الذئاب. ولذا يتحتم عليه أن يكون ثعلبا ليميز الفخاخ وأسدا ليرهب الذئاب. وكل من يرغب في أن يكون مجرد أسد ليس إلا، لا يفهم هذا. وعلى الحاكم الذكي المتبصر أن لا يحافظ على وعوده عندما يرى أن هذه المحافظة تؤدي إلى الإضرار بمصالحه، وأن الأسباب التي حملته على إعطاء هذا الوعد لم تَعُد قائمة. ولو كان جميع الناس طيبين، فإن هذا الرأي لا يكون طيبا، ولكن بالنظر إلى أنهم سيئون، وهم بدورهم لن يحافظوا على عهودهم لك، فإنك لست ملزما بالمحافظة على عهودك لهم. ولن يعدم الأمير الذي يرغب في إظهار مبررات متلونة للتنكر لوعوده، ذريعة مشروعة لتحقيق هذه الغاية. وفي وسع الإنسان أن يورد عددا لا يحصى من الأمثلة العصرية على هذه الحقيقة، وأن يظهر كم من المرات تنكر الأمراء لمواثيق السلام، فنقضوا معاهداتهم، وكم من المرات أضحت عهودهم لا قيمة لها من جراء تنكرهم لها، وأن يبرهن على ان أولئك الذين تمكنوا من تقليد الثعلب تقليدا طيبا قد نجحوا أكثر من غيرهم. ولكن الضرورة تحتم على الأمير،الذي يتصف بهذه الصفة، أن يجيد إخفاءها عن الناس، وأن يكون مداهنا كبيرا، ومرائيا عظيما. ومن طبيعة الناس أنْ يكونوا من البساطة والسهولة بحيث يطيعون الاحتياجات الراهنة، ولذا فإن مَن يتقن الخداع، يجد دائما أولئك الذين هم على استعداد لأن تنطلي عليهم خديعته.

وسأكتفي بسرد مَثل عصري واحد. فالبابا الكساندر السادس لم يقم بأي عمل سوى خداع الآخرين، ولم يفكر بأي شيء سوى ذلك، وكان يجد دائما الفرصة للنجاح في خداعه. ولم يكن ثمة من يفوقه مهارة في تقديم الوعود، وإغداق التأكيدات، داعما إياها بالأيمان المغلظة، في الوقت الذي لم يكن هناك من هو أقل تمسكا بها. ومع ذلك فقد نجح دائما في خداعهم، إذ أنه كان يتقن هذه الطريقة في معالجة الأمور.

وليس من الضروري تبعا لذلك، بالنسبة للأمير، أن يتصف بجميع ما أوردته من صفات، ولكن من الضروري أن يتظاهر على الأقل بوجودها فيه. وقد أجرؤ فأقول إن حيازة هذه الصفات وتطبيقها دائما قد يؤديان إلى تعرضه للأخطار. أما التظاهر بحيازتها فكثيرا ما يكون أمرا مجديا. وهكذا فمن الخير أن تتظاهر بالرحمة وحفظ الوعد والشعور الإنساني النبيل والإخلاص والتدين، وأن تكون فعلا متصفا بها، ولكن عليك أن تعد نفسك، عندما تقتضي الضرورة، لتكون متصفا بعكسها. ويجب أن يُفهم، أن الأمير ولا سيما الأمير الجديد، لا يستطيع أن يتمسك بجميع هذه الأمور التي تبدو خيرة في الناس، إذ أنه سيجد نفسه مضطرا، للحفاظ على دولته، لأن يعمل خلافا للإخلاص للعهود، وللرأفة والإنسانية والدين. ولذا فإن من واجبه أن يجعل عقله مستعدا للتكيف مع الرياح، ووفقا لما تمليه اختلافات الجدود والحظوظ، وأن لا يتنكر لِما هو خير، كما قلت، إذا أمكنه ذلك، شريطة أن ينزل الإساءة والشر إذا ما اضطر إلى ذلك وضويِقَ.

وعلى الأمير أن يكون حريصا على أن لا يفضح نفسه بأقواله، مما يتناقض مع هذه الصفات الخمس التي أشرت إليها. وعليه أن يجعل الناس يرون فيه، ويسمعون منه الرحمة مجسدة، والوفاء للعهود، والنبل والإنسانية والتدين. ولعل هذه الصفة الأخيرة هي أكثرها لزوما وضرورة، لأن الناس عموما يحكون بعيونهم أكثر من أيديهم، ولأن في وسع كل إنسان أن يرى، بينما لا يشعر إلا القليلون. فجميع الناس يرون ما تعمل، وكيف تبدو لهم، أما القلة فيحسون حقيقتك، وستتردد هذه القلة في معارضة رأي المجموع، الذين يعتمدون على جلال الدولة في الدفاع عنهم وفي أعمال جميع الناس، ولا سيما الأمراء، وهي حقيقة لا استثناء فيها، تبرر الغاية الواسطة. وإذا استهدف الأمير مثلا أن يحتل، عليه أن يحافظ على الدولة التي احتلها، فإن جميع الناس سيرون عمله، ويعتبرونه مثالا للشرف، إذ أن من عادة الدهماء أن تغرهم المظاهر ونتائج الأحداث. ويتألف العالَم من الدهماء، أما القلة الذين لا يُعتبرون من الدهماء، فهم معزولون عن الناس عندما يقرر المجموع شيئا يرونه في أميرهم. وهناك أمير معين، يعيش في عصرنا، يحسن بنا أن نغفل ذكر اسمه، جعل همه الدعوة إلى السلام والوفاء للمواثيق، بينما هو في الحقيقة عدو لدود لهما، ولو قدّر له أن يرعى أحدهما، لأضاع دولته وسمعته في كثير من المناسبات التي تعرض لها.


21: كيف يعمل الأمير لاكتساب الشهرة؟

لا شيء يوصل الأمير إلى منزلة التقدير والإجلال أكثر من إقدامه على المشاريع العظيمة، وتقديمه الدليل على قوته. ولنأخذ مثلا معاصرا، فرديناند ملك الأراغون، والملك الحالي لأسبانيا. وقد يصح أن نطلق عليه لقب الحاكم الجديد، لأنه قد ارتقى من منزلة ملك صغير إلى ذروة المجد والشهرة، ليصبح ملك المسيحية الأول. وإذا ما درست أعماله تبينت فيها العظمة البارزة، فكلها جليل، وكلها فائق للعادة. وقد بدأ عهده بمهاجمة غرناطة، فكانت مغامرته هذه، الحجر الأساسي في مملكته. وكان يعمل في البداية، في أوقات فراغه ووفقا لأهوائه، دون أن يخشى تدخلا من أحد، فأشعل بذلك عقول نبلاء قشتالة في مشروعه، حتى أنهم من جراء حصر تفكيرهم في الحرب، لم يتوفر لديهم الوقت للتفكير بأي ابتكار أو ابتداع. وهكذا حقق لنفسه الشهرة التي أرادها، والسلطان عليهم دون أن يشعروا بذلك في بادئ الأمر. وتمكن، بالأموال التي أخذها من الكنيسة وجمعها من الشعب، من المحافظة على جيوشه، ومن خوض تلك الحرب الطويلة، التي وضعت أسس قوته العسكرية، والتي أتاحت له فرصة الشهرة وذيوع الصيت فيما بعد. يضاف إلى هذا، أنه رغبة منه في القيام بمشاريع أضخم وأكبر، وتحت ستار الدفاع عن الدين، عمد إلى الاضطهاد الديني، فطرد العرب من مملكته، وسلبهم كل ما يملكون، وليس هناك من مثل أتعس ولا أكثر شذوذا من هذا. وقام بمهاجمة إفريقيا محتجاً بنفس الذريعة، وقام بمغامرته الإيطالية، وشرع أخيرا في الهجوم على فرنسا. وهكذا فقد كان دائما يبتدع المشاريع العظيمة، مما جبر عقول رعاياه وأذهانهم، وجعلهم مشغولين دائما بالتطلع إلى النتائج. وكانت هذه الأعمال متعاقبة، حتى إن الواحد منها ليتلو الآخر، مما لم يترك مجالا لأي إنسان ليحس بالاستقرار، ويبدأ أي عمل ضده.

ومن المجدي للأمير أيضا أن يقدم بعض الأمثلة البارزة على عظمته في الإدارة الداخلية، كما سبق وسردت من أعمال قام بها السيد برنابو في ميلان. وعندما يحدث ويقوم أحد الناس بعمل خارق، سواء في خيره أو في شره، في الحياة المدنية، فعلى الأمير أن يجد الوسائل اللازمة لمكافأة هذا الإنسان أو معاقبته، بحيث يتحدث الناس عن ذلك أمدا طويلا. وعلى كل أمير، فوق هذا كله، أن يحاول في جميع ما يعمله الحصول على اشتهار أمره بالعظمة والتفوق.

ويلقى الأمير أيضا بالغ الاحترام إذا برهن على أنه إما أن يكون صديقا مخلصا أو عدوا لدودا. وهذا يعني أن يعلن، بلا تحفظ، عطفه على إنسان ما، وعداءه لإنسان آخر. ولا ريب في أن هذه السياسة أفضل دائما من البقاء على الحياد. فإذا اشتبكت دولتان مجاورتان لك في حرب، فعليك أن تقف منهما ذلك الموقف الذي يؤدي إما إلى خوفك من الدولة المنتصرة، أو عدم الخوف منها. وفي كلتا هاتين الحالتين يخلق بك أن تعلن عن موقفك بصراحة، وأن تخوض الحرب. إذ أن عدم خوضك إياها في الحالة الأولى يجعلك فريسة سهلة للمنتصر، مما يبعث في نفس المهزوم الرضى والبهجة. ولن تجد سببا أو مبررا للدفاع عن موقفك، كما لن تلقى أحدا يرحب بك. إذ أن المنتصر، أيا كان، لا يرغب في اتخاذ أصدقاء لا يطمئن إليهم، ولا يسارعون إلى مساعدته في وقت شدته. أما المهزوم فلن يرحب بك بدوره، لأنك لم تخض المعركة إلى جانبه دفاعا عن قضيته.

...

ويحدث دائما، أن مَن لا يكون صديقا لك يريد منك دائما أن تظل على الحياد، أما صديقك فيريد منك أن تعلن عن موقفك بحملك السلاح إلى جانبه. ويلجأ الأمراء المترددون عادة، رغبة منهم في تجنب الأخطار الآتية، إلى إتباع طريق الحياد، الذي يؤدي حتما إلى دمارهم وضياعهم. ولكن عندما يعلن الأمير بصراحة وقوفه إلى أحد الجانبين، ويقدر لهذا الجانب أن ينتصر، فإنه يشعر على الرغم من قوته، ومن بقاء الأمير تحت رحمته، بنوع من الالتزام تجاهه، إذ أن صداقة متينة قد أقيمت، وليس من شيمة الناس عادة، أن يتنكروا للشرف، وأن يضطهدوا من ساعدهم، متنكرين لجميله على هذا الشكل. يضاف إلى هذا أن الانتصارات لا تكون عادة على ذلك النوع من النجاح الذي يُنسي المنتصر ضميره، ولا سيما بالنسبة إلى قضايا العدالة. أما إذا هُزم حليفك فستجد المأوى لديه، وسيهب لمساعدتك ما أمكنه، وتصبح بذلك، رفيقا لطالع، قد يشرق ثانية ويرتفع. أما بالنسبة إلى الحالة الثالثة، عندما يكون المتحاربان من الضعف، بحيث لا تخشى شيئا من المنتصر، وأن الخطر عليك أكثر، أن تتخذ موقفك إلى جانب أحد الفريقين، إذ أنك تمضي إلى دمار أحدهما بمساعدة الآخر، الذي تحسم عليه الضرورة، لو كان عاقلا أن ينقذه. أما إذا انتصر حليفك، فسيظل تحت رحمتك، إذ يستحيل عليه أن لا يحتل بمساعدتك وعونك.

ويجب أن أبين هنا أن على الأمير أن يتجنب الارتباط في قضية مشتركة مع أمير آخر أقوى منه، لإلحاق الضرر بأمير ثالث، إلا إذا أجبرته الضرورة على ذلك، كما سبق وأسلفت. إذ أن انتصاره يعني وقوعك تحت رحمته. وعلى الأمراء أن يتجنبوا، بقدر طاقتهم، الوقوع تحت رحمة غيرهم وإرادتهم وأهوائهم. ... وعلى كل دولة، أن لا تبالغ في الاطمئنان إلى سياستها، بل عليها أن تضع الشكوك دائما نصب أعينها. فمن طبيعة الأمور مثلا أن لا يحاول إنسان تجنب إحدى المصاعب، إلا ويقع في صعوبة ثانية، ولكن الفطانة تحتم عليك أن تستطيع تمييز طبيعة الصعاب، وأن تقحم نفسك في أقلها ضررا وأذى.

وعلى الأمير أن يظهر نفسه دائما ميالا إلى ذوي الكفاءة والجدارة وأن يفضل المقتدرين، ويكرم النابغين في كل فن، وعليه أن يشجع، بالإضافة إلى ذلك، مواطنيه على المضي في أعمالهم، سواء في حقول التجارة، أو الزراعة، أو أية مهنة أخرى يمتهنها الناس. وبهذه الطريقة لا يتوانى الفرد على تحسين ما يملك مخافة أن يفقده. ولا يتقاعد آخر عن البدء بتجارة خشية الضرائب. وعليه أن يقدم المكافآت لكل منَ يعمل في هذه الحقول، ولكل من يسعى بمختلف السبل لتحسين مدينته أو دولته. وبالإضافة إلى كل ذلك عليه، في الفصول المناسبة من السنة، أن يشغل الشعب بالأعياد، ومختلف العروض المسرحية وغيرها. ولما كانت المدينة مجزأة إما إلى نقابات (guilds) أو طبقات، فعليه أن يهتم بجميع هذه المجموعات وأن يختلط بأفرادها من وقت إلى آخر، وأن يقدم لهم مثلا على إنسانية وجوده، محتفظا دائما بجلال منصبه ووقار مكانته، وهما ما يجب أن لا يسمح قط بتأثرهما أو زوالهما مهما كانت الأسباب.


23: كيفية الإعراض عن المنافقين

لن أتجاهل موضوعا مهما، وذكر خطيئة لا يستطيع الأمراء تجنبها إلا ببالغ الصعوبة، إذا لم يكونوا من العقلاء والحكماء، أو إذا لم يكونوا يحسنون الاختيار. وهذا الموضوع الذي أعنيه يتعلق بالمنافقين المداهنين الذين تغص بهم بلاطات الملوك والأمراء. فمن عادة الناس أن يُسروا ويتعزوا بما يملكون، وأن يخدعوا أنفسهم بذلك، وهذا يجعل من المتعذر عليهم وقاية أنفسهم من هذا الوباء، حتى أنهم إذا حاولوا هذه الوقاية تعرضوا لخطر الزراية. وليست هناك من طريقة أفضل في وقاية نفسك من النفاق، من أن تجعل الجميع يدركون أنهم لن يسيئوا إليك، إذا ما جابهوك بالحقيقة. ولكن عندما يجرؤ كل إنسان على مجابهتك بالحقيقة فإنك تفقد احترامهم. والأمير العاقل هو من يتبع سبيلا ثالثا، فيختار لمجلسه حكماء الرجال، ويسمح لهؤلاء وحدهم بالحرية في الحديث إليه ومجابهته بالحقائق، على ان تقتصر هذه الحرية على المواضيع التي يسألهم عنها، ولا تتعداها. ولكن عليه أن يسألهم عن كل شيء وان يستمع لآرائهم في كل شيء، وأن يفكر في الموضوع بعد ذلك بطريقته الخاصة. وعليه أن يتصرف في هذه المجالس، ومع كل من مستشاريه، بشكل يجعله واثقا من أنه كلما تكلم بصراحة وإخلاص، كلما كان الأمير راضيا عنه. وعليه بعد ذلك أن لا يستمع إلى أي إنسان، بل يدرس الموضوع بنفسه على ضوء آراء مستشاريه، ويتخذ قراراته التي لا يتراجع عنها. أما الأمير الذي يسير على طريقة مغايرة، فيتهور متأثرا بآراء المداهنين والمنافقين، أو يبدل قراراته وفقا للآراء المتعددة التي تُطرح عليه، فإنه يفقد الاحترام والتقدير.

...

ولهذا على الأمير أن يقبل النصيحة دائما، ولكن عندما يريد هو، لا عندما يريد الآخرون، بل عليه أن لا يشجع مطلقا المحاولات لإسداء النصيحة إليه، إلا إذا طلبها. ولكن عليه أن يكثر من سؤالها وأن يحسن الإصغاء إلى الحقائق التي تُسرد عليه عندما يسأل عنها. وعليه في الحقيقة أن يغضب إذا رأى أحد مستشاريه يتردد في قول الحقيقة له. ولما كان من رأي بعض الناس أن الأمير الذي يشتهر أمره بالتبصر والحكمة لا تعزى شهرته إلى طبيعته، بل إلى خبرة المستشارين الذين يلتفون حوله، فإنني أقول أن الرأي خاطئ تماما. فالقاعدة العامة، التي لا شواذ لها، أن الأمير الذي لا يتصف بالحكمة لا يمكن أن يشار عليه بطريقة صالحة، إلا إذا ترك نفسه عرضا، وبصورة كلية، بين يدي شخص واحد يتحكم فيه تحكما كليا، وكان هذا الشخص عاقلا متبصرا. وفي هذه الحالة قد يحكم الأمير حكما صالحا، ولكن هذا الأمر لن يدوم طويلا إذ أن الحاكم بأمره سرعان ما ينتزع منه سلطانه ودولته. أما إذا استشار هذا الأمير البعيد عن الحكمة الكثيرين، فلن تتوفر له المشورة الجماعية المتحدة، ولن يكون في مكنته أن يوحد بين الآراء التي تُشار عليه، لتكتسب صفة الإجماع. وسيلجأ المستشارون إلى التفكير بمصالحهم، بينما يعجز هو عن ردهم إلى السبيل السوي، أو حتى عن فهمهم. وليس هناك من مناص مما ذكرت، إذ أن من شيمة الناس أن يخادعوك، إلا إذا أُرغموا بطريق الحاجة الماسة على أن يكونوا صادقين. ولهذا فإن النتيجة التي أصل إليها هي أن المشورة الحكيمة، حيثما جاءت، يجب أن تكون خاضعة لحكمة الأمير وتبصره، وأن لا يخضع تبصر الأمير للمشورات التي تقدم إليه، مهما كانت صادقة.


25: أثر القدر في الشؤون الإنسانية وطرق مقاومته

لا أجهل أن كثيرين كانوا، ومازالوا، يعتقدون بأن الأحداث الدنيوية يسيطر عليها القضاء والقدر، ويتحكم فيها الله، وأن ليس في وسع البشر عن طريق الحكمة والتبصر تغييرها أو تبديلها، وأن لا علاج لذلك مطلقا. ولذا فإن من الجهد غير المجدي أن يعمل الإنسان شيئاً لرد ما حكم به القضاء، وأن عليه أن يدع الأمور تجري في أعنّتها وفقا لمشيئة الحظ. وقد كثر القائلون بهذا الرأي في أيامنا بسبب التبدلات العظيمة التي رأيناها، والتي ما زلنا نراها في كل يوم والتي تفوق كل تصور بشري. وعندما أفكر في هذه التبديلات أميل أحيانا إلى مشاركة أولئك الناس رأيهم، ولكني مع ذلك أعتقد أن ليس في وسعنا تجاهل إرادتنا تمام التجاهل. وفي رأيي، أن من الحق أن يعزو الإنسان إلى القدر التحكم في نصف أعمالنا، وأنه ترك النصف الآخر، أو ما يقرب منه، لنا لنتحكم فيه بأنفسنا. وأود أن أشبه القدر بالنهر العنيف المندفع الذي يغرق، عند هيجانه واضطرابه، السهول ويقتلع الأشجار والأبنية، ويجتث الأرض من هذه الناحية ليقذف بها إلى تلك، فيفر الناس من أمامه ويذعن كل شيء لثورته العارمة دون أن يتمكن أحد من مقاومته. ولكنه على الرغم من هذه الطبيعة تكون له طبيعة أخرى يعود فيها إلى الهدوء. وفي وسع الناس آنذاك أن يتخذوا الاحتياطات اللازمة بإقامة السدود والحواجز والأرصفة، حتى إذا ما ارتفع ثانية انسابت مياهه إلى أحد الأقنية، أو كان اندفاعه لا ينطوي على تلك الخطورة وذلك الجنون. وهذه هي الحالة مع القدر الذي يبسط قوته عندما تنعدم الإجراءات لمقاومته، ويوجه ثورته إلى حيث لا توجد حواجز ولا سدود أقيمت في طريقه لكبح جماحه. وإذا ما تطلعتَ إلى إيطاليا التي كانت مسرحا لهذه التبدلات العظيمة، والتي دفعت الناس إلى الإيمان بذلك الرأي، وجدت أنها بلاد لا تضم شيئا من الحواجز والسدود مهما كان نوعها. ولو قدرت لها الحماية بالوسائل الصحيحة كألمانيا وأسبانيا وفرنسا، فإن هذا الفيضان ما كان ليُحدِث تلك التبدلات العظيمة التي أحدثها، أو لما وقع الفيضان على الإطلاق.

وأعتقد أن في ما قلته الكفاية عن طُرق مقاومة القدر بصورة عامة، أما إذا أردتُ تقييد نفسي في قضايا معينة ففي وسعي أن أشير إلى أننا نرى اليوم أميرا معينا يكلل السعد هامته، ثم نراه غدا وقد تحطم دون أن نرى فيه تبدلا في طبيعته أو في أي شيء آخر. إنني لأعتقد جازما أن هذا التبدل نجم من الناحية الأولى من الأسباب التي سبق لي شرحها بإسهاب وتفصيل، أو بكلمة أخرى، لأن هذا الأمير قد أركن كلية إلى القدر، فحطمه القدر عندما دارت عجلته. وإني لأعتقد أيضا بسعادة ذلك الإنسان الذي تتفق طريقة إجراءاته مع مقتضيات الزمن، وبتعاسة مَن يعارض في إجراءاته تلك المقتضيات. وإننا لنرى الناس يختلفون في الطرق التي يتبعونها للوصول إلى ما يستهدفونه دائما من مجد وثراء. فمنهم من يلجأ إلى الحذر ومنهم من يختار التهور ومنهم من يتبع العنف، وآخرون يتبعون الحيلة والمكر ومنهم من يصبر ويصابر، وآخرون يتسرعون، ولكنهم جميعا قد يصلون إلى أهدافهم. وقد نرى شخصين حذرين ينجح أحدهما في مشاريعه، بينما يفشل الآخر. وقد نجد من ناحية أخرى شخصين يصلان إلى هدف واحد، بطريقين مختلفين، أحدهما ينطوي على الحذر والأناة، والآخر على التسرع والمجازفة. وكل هذا ينجم عن اختلاف طبيعة الزمن التي قد تتفق أو لا تتفق مع طريقة الإجراء. وينتج عن هذا، كما قلت، أن رجلين يعملان بطريقتين متباينتين،يصلان إلى نفس النتيجة، بينما هناك رجلان آخران، يعملان بنفس الأسلوب فينجح الأول من حيث يفشل الثاني. وعلى هذا تتوقف أيضا التبدلات في النجاح والازدهار، فقد يحدث أن تكون عوامل الزمن والظروف ملائمة لرجل يعمل بحذر وحسن تبصر، فيلقى النجاح، ثم لا تلبث أن تختلف عوامل الزمن والظروف، فيتحطم لأنه لم يغير طريقته في العمل. ولم يحدث قط أن وجد إنسان على هذا القدر من التعقل والروية، بحيث يكيف نفسه لجميع هذه العوامل، إما لأنه لا يستطيع الانصراف عما تميل إليه طبيعته، أو لأنه، وقد ألف النجاح في السير على طريق واحدة، لا يستطيع إقناع نفسه، بأن من الخير له أن يتركها. ولذا فإن الرجل المتعود على الأناة يرى نفسه عاجزا عن تكييف أعمال عندما تقتضي الضرورة السرعة، فيلحق به الخراب والدمار. وإذا كان باستطاعة الإنسان أن يغير طبيعته وفقا لتغير الأزمنة والظروف، فإن القدر لا يتغير أبدا.

وكان البابا يوليوس الثاني متهوراً في كل ما عمله، وقد رأى الأوقات والأوضاع متفقة مع طريقته في العمل، بحيث تمكن دائما من الحصول على نتائج مثمرة.

ولندرس الآن الحرب الأولى التي شنـها على بولونا عندما كان السيد جيوفاني بنتفوغلي لا يزال على قيد الحياة، ولم يكن البنادقة راضين عن هذه الحرب، وكذلك ملك أسبانيا. وكانت فرنسا لا تزال تتشاور معه حول هذا المشروع، ومع ذلك، فنتيجة لميوله العنيفة والمتهورة، أقدم شخصيا على حملته. وقد أدت حركته إلى أن يقف البنادقة وأسبانيا موقف المتردد، وذلك بسبب خوف البنادقة من ناحية، ورغبة أسبانيا في استعادة مملكة نابولي بكاملها. وتمكن من الناحية الثانية من أن يجر إلى جانبه ملك فرنسا، إذ أن هذا، وقد رآه يقدم على حركته، ورغبة منه في صداقته ليخضع عن طريقها البنادقة، قرر أن ليس باستطاعته أن يضن عليه بإرسال قوات لمساعدته دون أن يسبب له رفضه إساءة بالغة. وهكذا تمكن يوليوس، عن طريق تهوره، من تحقيق ما عجز غيره من الباباوات عن تحقيقه عن طريق التحكم والعقل، ولو تمهل حتى يتم اتخاذ الترتيبات، وتمهيد كل شيء قبل أن يغادر روما في طريقه لتحقيق مشروعه، وهو ما كان يعمله حتما أي بابا آخر، لما نجح في الحصول على هدفه. إذ أن ملك فرنسا، كان سيجد حتما ألف مبرر لإقناعه بالتريث، وكان الآخرون سيوحون إليه بألوف المخاوف التي تساورهم. ولن أتحدث عن أعماله الأخرى، التي كانت جميعا من هذا النوع، والتي انتهت كلها إلى النجاح. ولا ريب في أن قصر حياته هو الذي وفر عليه تجربة الفشل، إذ لو طالت حياته وجاءت الأوقات التي تتطلب منه أن يعمل بحذر وتعقل، فإن مصيره كان الدمار حتماً، إذ أنه أعجز من أن يتحول عن تلك الأساليب التي تميل إليها طبيعته.

وإني لأختتم حديثي قائلا بإن الحظ يتبدل، أما الناس فيبقون ثابتين على أساليبهم، وهم ينجحون طالما أن أساليبهم تتوافق مع الظروف، أما عندما تتعارض فإن الفشل سيكون من نصيبهم. وإنني لأعتقد أن التهور خير من الحذر، ذلك لأن الحظ كالمرأة، فإن أردت السيطرة عليها، فعليك بالقوة ان تفوز بها. وسترى حينها انها بدورها تسمح بامتلاكها للرجل الشجاع، لا لذلك الذي يسير ببرود. والحظ، شأنه في ذلك شأن المرأة، يميل دائما إلى الشباب، لأنهم أقل حذرا وأكثر ضراوة، ويقبلون عليها بقحة وجرأة.



ترجمة: خيري حماد






--------------------------------------------------------------------------------

[1] جيرولامو سافونارولا (1452-1498): مصلح إيطالي وواعظ، اتهم بالهرطقة وحرمه البابا. أصبح حاكما في فلورنسا، ثم أودع السجن وشنق وأُحرق. يعتبر من أوائل دعاة الإصلاح الديني.

[2] بورجيا (Borgia): أمير ورجل دين إيطالي، من ابرز شخصيات عصر النهضة الإيطالية دخل سلك الكهنوت رغم كرهه للحياة الكنسية. عُرف بالمغامرة والذكاء الخارق، وبأنه الجندي الأقوى والدبلوماسي الماهر، إلى جانب استخفافه بالقيم الخلقية وكثرة رذائله مما دفع بمكيافيلي ان يتخذه نموذجا لكتابه "الأمير".

[3] تيتوس ليفي (أو ليفيوس) (Titus Levy) (59 ق.م.-17م.): مؤرخ روماني مشهور. عُرف بميوله الجمهورية أثناء الحرب الأهلية.

[4] ليكرجوس (Lukourgos): من مشرعي إسبارطة الأسطوريين، وقد وضع نظم الدولة بعد قيامه بعدة رحلات للاستطلاع.

[5] صولون (Solon): مشرع أثينا العظيم، انتخب في عام 594 ق.م. قاضيا لقضاة أثينا لوضع حد للخلافات بين أحزابها الثلاثة وهي النبلاء والتجار والفقراء، فوضع شرائعه التي تضمنت التنظيم الدستوري والقضائي والسياسي والاقتصادي وقد افلح في وضع عدد من الإصلاحات السياسية والاقتصادية في المدينة.

[6] بيزيستراتوس (Pisistratus): سياسي أثيني بارز (612-527 ق.م.). حكم أثينا حكما طغيانيا ثلاث مرات. كان صديقا لصولون.

[7] روملوس (Rumulus): مؤسس روما الأسطوري وأول ملوكها (753-715 ق.م.)، غذته ذئبة بحليبها وهو طفل مع أخيه التوأم واحتضنه أحد الرعاة، ونشأ بطلا. استعان بصعاليك القوم في القبض على زمام الأمور.

[8] الغراتشيين (Grachi): اسم يطلق على أخوين أولهما تايبيريوس سمبرونيوس غراشيوس (167-133 ق.م.)، والثاني غايوس سمبرونيوس (158-121 ق.م.). وقد أصبح الأول حاميا للشعب عام 133، ووضع قانون الإصلاح الزراعي، بينما غدا الثاني حاميا عام 124 ق.م.، وقد لعبا دورا في إضعاف مجلس الشيوخ.

[9] غايوس كوريولانوس هو بطل أسطورة رومانية قديمة, فقد نفاه العامة من روما في عام 491 ق. م. وفر إلى بلاد الفولسكي، حيث عينه ملكها قائدا لجيشه. وسرعان ما زحف على روما، ولم يثنه عن عزمه على احتلالها إلا مجيء أمه وزوجته وأطفاله. وتقول الأسطورة ان أهل الفولسكي قتلوه عند عودته دون احتلال روما. وقد جعل شيكسبير من أسطورته موضوعا لإحدى مسرحياته.

[10] الشخص الذي تولى رئاسة الحكم الجمهوري في فلورنسا بعد طرد آل مديتشي، ولكنه أُخرج منها عام 1512 وكان مكيافيلي من رجاله ووزرائه

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:48 PM

- فرنسيس بيكون - رائد الفلسفة التجريبية الحديثة


انحدر فرنسيس بيكون (Francis Bacon) من عائلة رفيعة عملت في قصور ملوك إنجلترا وشغلت مناصب مختلفة. درس في جامعة كمبردج منذ سن مبكر (13 سنة)، وتقلب بعد ذلك في مناصب عديدة في الدولة. وكان القانون أهم مجال عمل به طيلة سنين عديدة. حصل بيكون على أحد ألقاب النبالة (Viscount) وأتهم بالرشوة وجُرد من ألقابه وحقوقه بعد إثبات صحتها وسجن لبضع سنوات، وأصدر الملك عفواً عاما، ولكنً حقوقه لم تعد إليه سوى في أيام شارل الأول.

كان بيكون مفكراً متعدد المواهب. فقد خلف آثاراً في مجالات متنوعة: القانون والتاريخ والفلسفة. لكن أهم آثاره الفكرية كانت في حقل الفلسفة وتركت أثراً عميقاً في الفكر اللاحق، خاصة في فكر العديد من المفكرين في إنجلترا وفرنسا. ونخص بالذكر جون لوك ورجال الإنسكلوبيديا (دار المعارف) فيما بعد.

يعتبر مشروع بيكون لكتابة "التأسيس[1] العظيم للعلوم" (The Great Instauration of Sciences) أهم مشروع علمي في حياته. ويعكس المشروع تصور بيكون لما أطلق عليه مفهوم "العلم". رأى بيكون أن "العلم" ينقسم إلى ثلاثة مجالات رئيسية: الفلسفة، والشعر، والتاريخ. وهذه يمكن بدورها تجزئتها إلى ستة حقول. واستطاع بيكون كتابة جزء فقط من هذا المشروع الكبير، وعلل هذا الشكل من التصنيف إلى صلته بالطبيعة الإنسانية: فالفلسفة تعبر عن العقل، الشعر عن قوة التخيل، والتاريخ عن ملكة التذكر (الذاكرة).

ورأى بيكون أن الفلسفة تتألف من ثلاثة مجالات رئيسية منفصلة: معرفة الله والطبيعة والإنسان. وذهب بيكون إلى أن البحث في الطبيعة يتفرع إلى نوعين: المعرفة النظرية والمعرفة العملية. وتشمل المعرفة النظرية للطبيعة معرفة أصل الأشياء والحركات والخواص والأنواع؛ أما المعرفة العملية فتشمل الميكانيكا وأسرارها. وتحتم المعرفة النظرية دراسة الرياضيات، إذ بدون ذلك يستحيل فهم الطبيعة.

ويشير بيكون إلى إحدى غايات معرفة الطبيعة الجوهرية: استخدامها للمنفعة الإنسانية، أو السيطرة على الطبيعة.

وللوصول إلى هذه الغاية الكبرى يحتاج الدارس إلى منهج علمي واضح. وفي هذا المجال وجه بيكون نقداً شديداً لفلسفة العصور الوسطى ولأتباع منهج أرسطو في دراسة الطبيعة. ولم يسلم بعض الاستقرائيين من نقده، رغم أن بيكون دعا إلى منهج استقرائي في البحث، لكنه منهج استقرائي مغاير. ورأى أن عمل الباحث يجب أن يتركز على مراقبة عملية سلسلة الإستقراءات المتواصلة خطوة خطوة.

وللتدليل على ذلك أشار، مثلا، أن (جـ - د) في سلسلة (أ - ب - ج - د) لا يعود سببها بالضرورة إلى (أ - ب) رغم التسلسل الظاهري إلاً بعد سوق جميع الحالات والأمثلة التي تؤكد عدم وجود استثناء، ولو لواحد. كما ويمكن التأكد وإثبات (جـ - د) في (أ - ب) في حال اختفائها عند اختفاء (جـ - د) فقط.

وأرجع بيكون الأخطاء الشائعة في العلوم إلى ما اعتبره ونعته بالأصنام (Idols)، أو الأشباح. كما شك في قدرة البديهة (intuition) على الوصول إلى معارف يقينية. بذلك أرسى بيكون قواعد الاستقراء كمنهج في الوصول إلى المعرفة اليقينية. وترك هذا المنهج أثراً عميقاً في الفلسفة بشكل عام وفي الفلسفة الإنجليزية بشكل خاص.



مختارات من كتاب "التأسيس العظيم"


لو تصفح المرء بعناية كافة أنواع الكتب في الآداب والعلوم، لوجد تكراراً لا نهائَيٍ لنفس الشيء. هناك اختلاف في طريقة المعالجة، لكن لا جديد في المضمون، إلى درجة أن هذا المخزون من الكتب، على كثرته لأول وهلة، تتبين شحته بعد الفحص. أما من حيث قيمته وفائدته، فيجب الإقرار بصراحة بأن الحكمة المستمَدة أساساً من الإغريق هي بمثابة صبا المعرفة ليس إلا، وأنها تتسم بالصفة الرئيسية للصبية: تستطيع الكلام، لكنها عاجزة عن الخلق، وذلك لأنها مثمرة في مجال الخلاف، لكنها عقيمة في مجال الإنتاج. وحالة المعرفة كما هي عليه الآن يمكن أن نرمز لها بالأسطورة القديمة عن سيلا (Seylla) التي لها وجه ورأس عذراء بينما رحمها محاط بالوحوش النابحة التي يتعذر الإفلات منها. وبالمقارنة، فإن العلوم التي تعودناها مواقف عامة تتحلى بحسن المظهر والمداهنة، ولكنها حين تعرض للجزئيات، حيث يتوجب عليها أن تنتج الثمر والأعمال، تَبرز الخلافات والمناظرات الصاخبة، والتي هي نهاية الأمر، وكل القضية الناتجة [عن هذه المواقف العامة].

نصيحتي الأولى (وهي أيضاً دعائي) أن يحصر الناس الحاسة[2] في حدود الواجب فيما يتعلق بالأمور الدينية. فالحاسة مثل الشمس التي تكشف وجه الأرض وتحجب وجه السماء. ونصيحتي الثانية، أن يحرص الناس، إذا تجنبوا هذا الشر، على عدم الوقوع في الشر المضاد، وهم بالتأكيد واقعون فيه إذا ظنوا أن بحث الطبيعة ممنوع أو حرام. لم تكن معرفةُ الطبيعة الخالصة وغير الفاسدة والتي مكنت آدم من منح الأسماء للمخلوقات وفق سلوكها القويم، سببَ السقوط. إن الرغبة الطموحة والمغرورة في الحصول على المعرفة الأخلاقية للحكم في مجال الخير والشر، والتي قد تؤدي بالإنسان إلى معصية الرب وأخذ القوانين بيده، هي التي اتخذت شكل وطريقة الإغواء. أما بصدد علوم الطبيعة فقد أعلن الفيلسوف المقدس أنه "من عظمة الله أن يخفي شيئاً ولكن من عظمة الملك أن يكتشف شيئاً". وكأن الذات الإلهية قد استمتعت برياضة الأطفال، على براءتها ولطفها، وهم يلعبون "الإستغماية"، فتكرمت بالسماح للروح الإنسانية أن تكون شريكتها في هذه اللعبة. وأخيراً، أود أن أوجه نصيحة عامة إلى الجميع: فكروا بالأهداف الحقيقية للمعرفة، اسعوا نحوها ليس من أجل متعة الذهن، أو الخصام، أو التفوق على الآخرين أو الربح، أو الشهرة، أو السلطة، أو أيٍ من هذه الأشياء الدنيئة، وإنما من أجل المنفعة والاستعمال في الحياة، واسعوا إلى إتمامها والسيطرة عليها بالبر والإحسان. لقد سقطت الملائكة من شهوة السلطة، ومن شهوة المعرفة سقط الإنسان. أما في مجال البر فلا مكان للإفراط، وما تعرض ملاك أو إنسان للخطر.



ترجمة: د. سعيد زيداني



بيكون: مختارات من الأورغانون الجديد "أقوال حول تفسير الطبيعة وملكوت الإنسان"
1
يستطيع الإنسان، وهو خادم الطبيعة ومفسرها[3]، أن يعمل وأن يفهم، فــقط بقدر ما لاحظه في الواقع (in fact) أو فــــي التفكــــير (in thought) عن مسار الطبيعة. أما خارج حدود ذلك فهو لا يعرف شيئاً ولا يستطيع أن يفعل شيئاً.

2
لا تستطيع اليد المجردة ولا يستطيع الفهم المجرد [لوحده] إنجاز الكثير. فبواسطة الأدوات يتم إنجاز العمل. تلك الأدوات التي يحتاجها الفهم بنفس القدر الذي تحتاجها به اليد. وكما أن أدوات اليد إما تمنحها الحركة أو توجهها، فإن أدوات العقل تزود الفهم بالاقتراحات أو بالمحاذير.

3
المعرفة البشرية والقوة البشرية تلتقيان، فإذا ظل السبب مجهولاً تعذر الإتيان بالنتيجة. لكي تُؤمَر الطبيعة يجب أن تُطاع، وذلك الذي بمثابة السبب في التأمل هو بمثابة القاعدة في مجال العمل.



4
في سعيه لإنجاز الأعمال، كل ما يستطيع الإنسان عمله هو الجمع بين الأجسام الطبيعية أو فصلها عن بعضها البعض. وما تبقى تقوم به الطبيعة الفاعلة من الداخل.

6
إنه لَضَربٌ من ضروب الخيال السقيم والتناقض أن يتوقع أحد أنه يمكن إنجاز الأشياء التي لم يتم إنجازها بعد، إلا بوسائلَ لم يتم اختبارها بعد.

8
فضلاً عن ذلك، إن ما نعرفه الآن قد جاء بفضل الصدفة والتجربة المخبرية وليس بفضل العلوم. فالعلوم التي بحوزتنا هي أنساق لترتيب الأشياء التي تم اكتشافها، وليست مناهج للابتكار أو الإرشاد لأعمال جديدة.

11
وكما أن العلوم التي بحوزتنا الآن لا تساعدنا في اكتشاف أعمال جديدة، كذلك فإن علم المنطق الذي بحوزتنا لا يساعدنا في اكتشاف علوم جديدة.

12
إن علم المنطق المستخدم الآن يعمل على تثبيت وترسيخ الأخطاء، التي تجد أساسها في الأفكار الشائعة، بدلاً من أن يساعد في البحث عن الحقيقة، ولهذا فإن الضرر منه أكثر من خيره.

18
إن الاكتشافات التي تم تحقيقها في العلوم حتى الآن ليست أعمق بكثير من الأفكار المبتذَلة، بالكاد تحت السطح. ولكي نسبر غَور الطبيعة وننفذ إلى أعماقها، من الضروري أن نستخلص (نستمد) الأفكار والبديهيات[4] (axioms) من الأشياء بطريقة أكثر وثوقاً واحتراساً، ومن الضروري أيضا إدخال منهج عمل فكري أفضل وأكثر دقة.

19
هناك طريقتان فقط للبحث عن الحقيقة واكتشافها: الأولى، تفر هاربة من الحواس والجزئيات إلى أكثر البديهيات عمومية ومن هذه المبادئ، التي تُعتبر حقيقتها ثابتة وراسخة، يتم الانتقال إلى الحكم وإلى اكتشاف المبادئ الوسطية. هذه الطريقة هي الدارجة حالياً. أما الطريقة الأخرى، فتستمد البديهيات من الحواس والجزئيات، مرتفعة في صعود متصل وتدريجي حتى تنتهي بأكثر البديهيات عمومية. هذه هي الطريقة الصحيحة، إلا أنها لم تُجرب بَعد.

22
كِلتا الطريقتين تنطلقان من الحواس والجزئيات وتنتهيان بأعلى درجة تعميم، لكن الفرق بينهما هائل جداً. الأولى تلقي نظرة عابرة على التجربة المخبرية والجزئيات، أما الثانية فتقيم بينهم بصورة منتظمة كما يستوجب الأمر. الأولى تبدأ حالاً بإثبات صحة عموميات مجردة وغير مجدية، الأخرى تصعد بخطوات تدريجية نحو الأسبق والذي نعرفه اكثر من غيره في نظام الطبيعة.

23
هناك فرق كبير بين أصنام[5] العقل البشري وبين الأفكار عن المقدس. بكلمات أخرى، بين عقائد فارغة وبين البصمات الحقيقية التي وُضعت على أعمال الخلق، والتي نعثر عليها في الطبيعة.

31
من العبث أن نتوقع تقدماً هائلاً في العلم عن طريق الإضافة وتطعيم الأشياء القديمة بأشياء جديدة. علينا ان نبدأ من جديد ومن الأسس، هذا إلا إذا أردنا أن ندور في حلقة من التقدم الوضيع والمزري.

36
هناك منهج وحيد للخلاص ظل أمامنا، وهو ببساطة التالي: علينا ان نقود الناس إلى الجزئيات نفسها، إلى تسلسلها وترتيبها، وعلى الناس أن يطرحوا أفكارهم جانباً وأن يبدأوا بالتعرف على الوقائع (facts).

39
هناك أربعة أصناف من الأصنام التي تؤرق عقول الناس. وقد سميتها بهدف التمييز بينها: فسميت الصنف الأول أصنام القبيلة (idols of the tribe)، الثاني أصنام الكهف (idols of the cave)، الثالث أصنام السوق (idols of the market)، والرابع أصنام المسرح (idols of the theater).



40
إن تكوين الأفكار والبديهيات بواسطة الاستقراء الصحيح هو دون شك العلاج المناسب للابتعاد عن، والتخلص من الأصنام. إن الإشارة إليهم ذات فائدة كبيرة وذلك لأن نظرية الأصنام بالنسبة لتفسير الطبيعة هي كنظرية تفنيد المغالطات بالنسبة للمنطق العام.

41
تجد أصنام القبيلة أساساً لها في الطبيعة البشرية ذاتها أو في قبيلة أو في عنصر البشر. يُخطئ من يقول جازماً بأن حاسة الإنسان هي مقياس الأشياء. على العكس تماما، فإن جميع الإدراكات، الحسية منها والعقلية، هي وِفق مقياس الفرد وليس وِفق مقياس الكون. والفهم البشري مثل مرآة كاذبة، والتي باستقبالها الأشعة بصورة غير عادية تشوه وتحول لون الأشياء، تخلط طبيعتها هي بطبيعة تلك الأشياء.

42
أصنام الكهف هي أصنام الإنسان الفرد. لكل فرد (بالإضافة إلى الأخطاء المشتركة للطبيعة البشرية بعامة) كهفه أو جحره الخاص به، والذي يحول لون الضوء الطبيعي، ويعدو ذلك إما لطبيعة الفرد الخاصة أو لتعليمه ومخالطته الآخرين، أو لقراءة الكتب وسلطة أولئك الذين ينظر إليهم بالإجلال والإعجاب، أو لتباين الانطباعات، وفقاً لوجودها في عقل مستحَوذ وذي ميول مسبقة أو في عقل محايد ومستقر، وما شابه ذلك. وإذن فإن روح الإنسان (كما هي موزعة على الأفراد المختلفين) قابلة للتغير ومليئة بالاضطراب، وكأن الصدفة تتحكم بها. فقد صدق هرقليطس[6] (Heraclitus) حين لاحظ أن الناس يبحثون عن العلوم في عوالمهم الخاصة الضيقة، وليس في العالم الكبير أو المشترك.

43
هناك أيضا أصنام تتكون خلال التعامل والمخالطة بين الناس، وهذه الأصنام أدعوها أصنام السوق، وذلك نظراً لعلاقات التبادل والمشاركة بين الناس هناك [أي، في السوق]. بواسطة الكلام يتفاعل الناس مع بعضهم البعض، ويتم فرض الكلمات حسب فهم العامة لها. ونتيجة لذلك فإن سوء اختيار الكلمات يشكل حجر عثرة في طريق الفهم. ولا تساعد التعريفات والتفسيرات التي دأب المتعلمون على الدفاع عن أنفسهم بها في بعض الأمور، في أي حال من الأحوال، على تقويم ما اعوجّ من الأمور. ومن الواضح أن الكلمات تكره الفهم وتتغلب عليه، وتخلق البلبلة لدى الجميع، وتؤدي بالناس إلى جدالات عقيمة لا حصر لها وإلى خيالات عابثة.

44
وأخيراً، هنالك أصنام هاجرت إلى عقول الناس من العقائد المختلفة في الفلسفة، ومن قوانين البراهين الخاطئة. هذه الأصنام أدعوها أصنام المسرح، فكل النظريات الشائعة ليست، في رأي، إلا مسرحيات تمثل عوالم خلقتها هي بصورة غير واقعية وشكلية. لا أتحدث هنا فقط عن النظريات الدارجة الآن، أو عن الفَرق والفلسفات القديمة: فقد تؤلف الكثير من المسرحيات من هذا النوع ويتم إخراجها بنفس الطريقة الاصطناعية [التي أُلفت بها]. لقد رأيتُ أن للأخطاء، مهما كان الاختلاف بينها كبيراً، أسبابا متشابهة في معظم الأحيان. مرة أخرى، لا أعني ذلك فقط بالنسبة لنظريات بكاملها، وإنما أيضا بالنسبة لمبادئ وبديهيات عامة في العلم، والتي تم تَقبلها عن طريق التقاليد أو بسبب الإهمال وسرعة الإيقان.

سوف أتحدث عن هذه الأنواع العديدة من الأصنام بمزيد من الإسهاب والدقة، عسى أن يأخذ الفهم ما يلزم من الحذر منها.

45
ينزع الفهم البشري بطبيعته إلى افتراض وجود قدر أكبر من الترتيب والنظام في الكون مما هو قائم بالفعل. وبالرغم من وجود العديد من الأشياء الفريدة في نوعها في الطبيعة، إلا أن الفهم يختلق لها النظائر والقرائن والأقارب. ومن هنا جاءت البدعة بأن جميع الأجرام السماوية تدور في دوائر تامة، كما وتم رفض وجود... اللوالب (إلا بالاسم فقط). ولهذا السبب أيضا أضيف عنصر النار ودائرتها إلى العناصر الثلاثة الأخرى التي تدركها الحواس (للحصول على المربع). ولهذا أيضا تمددت بصورة عشوائية نسبة كثافة ما يسمى بالعناصر بنسبة عشرة إلى واحد. وهكذا بالنسبة لبقية الأحلام الأخرى. إن هذه الأوهام لا تمس العقائد فقط وإنما الأفكار البسيطة أيضاً.

46
عندما يتبنى الفهم البشري رأياً (لكونه شائعاً أو لأنه يروق للفهم نفسه)، فإنه يجر جميع الأشياء الأخرى لدعم هذا الرأي والاتفاق معه. وبالرغم من وجود أمثلة أكثر عدداً ووزناً في الجانب الآخر، إلا أنه يهملها ويزدريها أو يقوم برفضها وطرحها جانباً باللجوء إلى تمييز معين. وبواسطة هذا التحديد المسَبق والمدمر قد تظل سلطة الاستنتاجات السابقة غير قابلة للانتهاك... هذا هو سبيل المعتقدات الخرافية في التنجيم، الأحلام، الفأل، الأحكام السماوية، أو ما شابه ذلك، حيث يقوم الناس (فرحين بغرورهم) بتسجيل الأحداث إذا تحققت، وإذا لم تتحقق (وهذا ما يحصل في أغلب الحالات) يهملونها ويمرون مر الكرام عليها. وبقدر أكبر من الدهاء اندسّ هذا الشر في العلوم والفلسفة، حيث تَصبغ الاستنتاجات الأولى تلك التي تليها بطابعها الخاص وتجعلها متفقة معها، هذا بالرغم من أن الاستنتاجات التالية أكثر صحة. علاوة على ذلك، وبشكل مستقل عن الفرح والغرور الذي وصفته، فإنه من الأخطاء الدائمة والمميّزة للعقل البشري أنه أكثر تأثراً بحالات الإثبات منه بحالات النفي، مع أن عليه اتخاذ موقف غير منحاز في كلتا الحالتين. فإنه في عملية إثبات صحة أي بديهية فإن المثل النافي[7] (negative instance) هو أكثرهما تأثيراً.

47
يتأثر الفهم البشري، أكثر ما يتأثر، بتلك الأشياء التي تدخل العقل معا وبصورة فجائية، فتملأ الخيال. ثم يَفترض أن جميع الأشياء الأخرى (مع أنه لا يعرف كيف) تشبه تلك الأشياء القليلة المحيطة به. أما فيما يتعلق بالسعي المضني وراء الأمثلة البعيدة وغير المتجانسة، تلك التي تُفحص بواسطتها صحة البديهيات، فإن العقل بطيء وغير مؤهل؛ هذا إلا إذا لم ترغمه قوانين صارمة وسلطة غلابة.

49
الفهم البشري ليس ضوءا جافاً، فهو يستقبل الإشراب (infusion) من الإرادة والعواطف، حيث تنتج علوم يمكن تسميتها "علوم كما تهوى". فالإنسان متهيئ لتصديق ما يُفضل أن يكون صحيحاً. ونتيجة لذلك فهو يرفض الأشياء الصعبة نظراً لفراغ صبره من البحث، يرفض الأشياء الجدية لأنها تضيق فسحة الأمل، يرفض الأشياء الأكثر عمقاً في الطبيعة بسبب معتقداته الخرافية ويرفض الأشياء غير الشائع تصديقها مراعاة لرأي العامة. وباختصار، لا حصر للطرق، وأحيانا عسير إدراكها، التي بها تُلون العواطفُ الفهمَ وتلوثه.

50
غير أن أكبر عائق أمام العقل البشري هو عدم حدّة وعدم أهلية وخداع الحواس. فكفّة الأشياء التي تؤثر على الحواس ترجع كفة الأشياء التي لا تؤثر على الحواس بصورة مباشرة (وإن كانت أكثر أهمية). ولهذا السبب يتوقف التأمل عادة عند الحدود التي يتوقف عندها البصر، وإلى درجة انعدام ملاحظة الأشياء التي لا يمكن رؤيتها. وهكذا يظل عمل قوة الحياة داخل الأجسام المحسوسة خافياً ولا يلاحظه الناس. وينطبق هذا على التغيرات الدقيقة التي تطرأ على شكل أجزاء الأشياء المادية (والتي يسمونها عادة "التغيرات" مع أنها في حقيقة الأمر حركة موضعية في فراغات صغيرة جداً) والتي لا تلاحظ أيضا. وإذا لم تتم الدراسة الوافية لهاتين القضيتين المذكورتين، فلن يتم إنجاز شيء عظيم في الطبيعة من حيث إنتاج الأعمال. كما أن الطبيعة الجوهرية للهواء الذي نتنفسه جميعاً، وجميع الأجسام الأقل كثافة (وهي كثيرة) ما زالت مجهولة. الحاسَة لوحدها شيء ضعيف وقابل الخطأ، ولا تساعد كثيراً الأدوات التي تشحذ الحواس وتكبرها: إن نوع التفسير الأصح للطبيعة يمكن إنجازه بالأمثلة والتجارب المخبرية الملائمة، حيث تقرر الحاسة بشأن التجربة المخبرية فقط، والتجربة المخبرية تقرر بشأن الأمر في الطبيعة وبشأن الشيء ذاته.

51
ينزع الفهم البشري في طبيعته إلى المجردات ويعطي محتوى ووجودًا للأشياء الزائلة. ولكن أن نحلل الطبيعة إلى مجردات هو أقل خدمة لهدفنا من تشريح الطبقة إلى أجزاء، كما فعلت مدرسة ديموقريطس[8] الذي تعمق في أمور الطبيعة أكثر من غيره. المادة وليس الشكل (form) يجب ان تكون موضوع اهتمامنا، المادة وتشكلاتها وتغير تشكلها، والفعل البسيط، وقانون الفعل أو الحركة. فالأشكال هي من اختلاق العقل البشري، هذا إذا لم تسمى قوانين الفعل أشكالاً.


52
هذه هي إذا الأصنام التي أدعوها أصنام القبيلة، والتي تنشأ من تجانس مادة الروح البشرية، أو من انهماكها، أو من ضيق أفقها، أو من حركتها الدائمة، أو من إشراب العواطف، أو من عدم أهلية الحواس، أو من طريقة التأثر.

53
تنشأ أصنام الكهف من التكوين المتميز، البدني والذهني، لكل فرد، وتنشأ أيضاً عن التربية، العادة، والصدفة. هناك عدد كبير من هذا النوع، ولكنني سأسوق تلك الأمثلة التي تتضمن الإشارة إليها التحذير الأكثر أهمية، والتي لها التأثير الأكبر في تعكير نقاء الفهم.

54
يتعلق الناس بعلوم وبمواضيع نظرية معينة إما لأنهم يتخيلون أنفسهم مؤلفيها أو مخترعيها، أو لأنهم تحملوا المشاق في سبيلها وتعودوا عليها كثيراً. إن أناساً من هذا النوع، إذا انكبوا على الفلسفة والتأملات العامة، يشوهونها ويصبغونها بلون خيالاتهم السابقة. ويُلاحَظ هذا بشكل خاص عند أرسطو[9] (Aristotle)، الذي جعل من فلسفة الطبيعة عنده مجرد عبد لعلم المنطق، وبذلك أصبحت خلافية وعديمة الجدوى. كما وأنشأت طائفة الكيماويين، بناء على تجارب قليلة في الِمصهر، فلسفة خيالية تم تفصيلها بالإشارة إلى أشياء قليلة. ونفس الشيء ينطبق على جلبرت[10] (Gilbert) الذي، بعد أن أجهد نفسه في دراسة وملاحظة المغناطيس، انتقل على الفور إلى إنشاء نظرية كاملة وِفقَ موضوعه المفضل.

56
هناك بعض العقول المكرسة للإعجاب الشديد بالقديم، وعقول أخرى مكرسة لحب الجديد والرغبة الجامحة فيه. قليلة هي العقول التي تشق طريقها في الوسط، بحيث لا تطعن في الجيد مما قدمه القدماء، ولا تزدري الجيد الذي يقدمه المحدثون. وهذا يَلحق ضرراً كبيراً بالفلسفة والعلوم، لأن هذه المودة للقديم والحديث هي أهواء المتحزبين وليست أحكاماً. ثم إنه يتوجب البحث عن الحقيقة ليس من أجل سعادة هذا العصر أو ذاك (وهذا شيء غير ثابت)، وإنما في ضوء الطبيعة والتجربة (وهذا شيء أبدي). ولذلك يجب نبذ الفئات الشقاقية، والاحتراس من عدم تسرع العقل في الموافقة تحت تأثيرها.

58
ليكن ما يلي حيلتنا وحكمتنا التأملية لإبعاد وإزالة أصنام الكهف، والتي تنشأ في الغالب عن هيمنة موضوع مفضل، أو عن نزعة مفرطة للمقارنة والتمييز، أو عن التحيز لعصور معينة، أو عن كِبر أو صغر الأشياء التي يتم تأملها. وليأخذ كل دارس للطبيعة ما يلي كقاعدة: أن ما يستولي على عقلك وتعكف عليه برضى خاص، عليك أن تكون كثير الظن به، وأن عليك أن تحرص كثيراً في معالجة تلك المسائل على إبقاء الفهم نقياً وسوياً.

59
ولكن أصنام السوق هي الأكثر إثارة للمتاعب: وهي الأصنام التي زحفت إلى الفهم من تحالف الكلمات، الأسماء. يظن الناس أن العقل يسيطر على الكلمات، إلا أنه صحيح أيضا أن الكلمات تقاوم الفهم، وهذا ما أفقد الفلسفة والعلوم الفاعلية وجعلها ذات طابع سفسطائي. الكلمات، التي تصاغ وتستعمل وفق القدرة العقلية للعامة، تتّبع خطوط التقسيم الأكثر وضوحا لفهم العامة. وعندما يحاول الفهم الأكثر حدة وأكثر دأبا على الملاحظة تغيير هذه الخطوط لتلائم التقسيم في الطبيعة، تقف الكلمات حجر عثرة في الطريق وتقاوم التغيير. ومن هذا يحدث أن النقاشات الرسمية وذات المستوى الرفيع لأهل العلم كثيرا ما تنتهي بخلافات حول الكلمات والأسماء التي بها (حسب استعمال وحيطة الرياضيين) من الأجدر أن نبدأ، وأن ننظمها بواسطة التعريفات. ولكن التعريفات لا تستطيع الشفاء من هذا الشر أثناء التعامل مع الأشياء المادية والطبيعية، فالتعريفات نفسها تتكون من كلمات، كلمات تولد بدورها كلمات أخرى. ولذا من الضروري الرجوع إلى الحالات الفردية، وتلك التي يسودها التسلسل والترتيب، وهذا ما سوف أتحدث عنه الآن عندما أتطرق لمنهج وخطة تكوين الأفكار والبديهيات.

61
غير أن أصنام المسرح ليست فطرية، ولا تتسلل إلى الفهم خلسة، ولكنها تنطبع في الذهن عن طريق الكتب المسرحية لنظريات الفلسفة وقواعد البراهين الخاطئة. إن محاولة التفنيد في هذه الحالة قد يناقض ما قلته سابقا: فطالما أننا لا نتفق على المبادئ أو البراهين فلا مجال للنقاش. هذا جيد طالما أنه لا يمس شرف القدماء. فليس من الحكمة أن نقدح فيهم، فالخلاف بيني وبينهم هو حول الطريقة فقط. وكما يقول المثل: إن الأعرج الذي يسلك الطريق الصحيح أسبق من العداء الذي يسلك الطريق الخطأ. وأكثر من ذلك، من الواضح أنه عندما يسلك المرء الطريق الخطأ، فكلما كان أنشط وأسرع كلما حاد عن الطريق الصحيح أكثر.

بيد أن المسار الذي أقترحه لاكتشاف العلوم يترك مجالاً ضيقا لحدة وشدة الذكاء (أو الفطنة)، لأنه يضع العقول والفطن كلها في نفس المستوى تقريبا. فكما في رسم خط مستقيم أو دائرة، فإن الكثير يعتمد على مراس اليد إذا تم عمل ذلك باليد المجردة. أما إذا تم عمل ذلك بمساعدة المسطرة والفرجار، فالقليل يعتمد على مراس اليد. وهكذا بالنسبة لخطتي. فبالرغم من عدم جدوى التنفيذات المحددة، فإنني سوف أقول شيئا عن التقسيمات العامة لهذه النظريات، وشيئا آخر عن العلامات الخارجية التي تُظهر عدم صحتها، وفي النهاية سأقول شيئا عن أسباب هذا البؤس الكبير وهذا الاتفاق العام والدائم على الخطأ، عسى أن يصبح الوصول إلى الحقيقة أقل صعوبة، وعسى أن يصبح الفهم أكثر رغبة في تطهير نفسه وطرد أصنامه.

62
إن أصنام المسرح، أو أصنام النظريات، كثيرة وقد يزيد عددها. فلولا انشغال عقول الناس على مدى عصور بالدين واللاهوت، ولولا نفور الحكومات المدنية، وخاصة الملكيات منها، من مثل هذه الأشياء الجديدة، حتى وان كانت في المجال النظري، مما كان يعرض أملاك العاملين فيها للخطر والضرر، ليس فقط بدون مردود وإنما أيضا عرضة للسخرية والحسد، لولا كل ذلك، لنشأت فِرَق فلسفية أخرى كثيرة، مثل تلك الأنواع التي ازدهرت عند الإغريق، وكما يمكن وضع الفرضيات الكثيرة عن ظواهر السماء، يمكن أيضا، وبقدر أكبر، وضع العقائد العديدة عن ظواهر الفلسفة. وفي تمثيليات هذا المسرح الفلسفي يمكنك أن تلاحظ نفس الشيء الذي تجده في مسرح الشعراء: قصص تُخَتَرعُ لخشبة المسرح، قصص مكثفة وظريفة (أكثر مما يود المرء أن تكون)، ولكنها غير حقيقية وليست مستمدة من التاريخ.

وعلى العموم، فإن ما يعتبر مادة الفلسفة هو إما الكثير من أشياء قليلة، أو القليل من أشياء كثيرة. وفي الحالتين فإن الفلسفة مبنية على قاعدة صغيرة جدا من التجربة والتاريخ الطبيعي، وتُصدر أحكامها بناء على حالات قليلة جدا. فمدرسة الفلاسفة العقليين تختطف عددا من الأمثلة الشائعة من التجربة دون أن تتثبت من صحتها، ودون أن تخضعها للفحص والقياس الدقيق، وتترك الباقي للتأمل وتقلبات العقل.

وهناك طائفة أخرى من الفلاسفة، الذين بَعدَ بذلهم جهدا كبيرا على تجارب قليلة، يُقِدمون على استنباط وبناء النظريات، ومن ثم يصارعون بقية الوقائع (وبطريقة غريبة) كي تلائم نظرياتهم.

وهناك أيضا طائفة ثالثة تتألف من الفلاسفة الذين بدافع الإيمان خلطوا فلسفتهم باللاهوت والتقاليد، وقد وصل الغرور بالبعض منهم إلى حد البحث عن أصل العلم بين الجن والأرواح. وعليه فإن هذا المخزون من الأخطاء (هذه الفلسفة الزائفة) هو من ثلاثة أنواع: الفلسفة السفسطائية، التجريبية، والخرافية.

[وفي الفقرات الثلاث التالية، 63 - 65، يحاول بيكون تبيان مثالب كل من هذه الفلسفات]

68
إلى هنا عن الأنواع العديدة من الأصنام وعن عدتها، تلك الأصنام التي يجب نبذها بتصميم ثابت، وتحرير الفهم وتطهيره كليا منها، فالدخول إلى مملكة الإنسان، مبنيٌ على العلوم، ليس مثل الدخول إلى مملكة السماء، التي لا يدخلها أحدا إلا إذا كان ولدا صغيرا.

95
أولئك الذين انشغلوا بالعلوم كانوا إما رجال تجارب أو رجال مذاهب، رجال التجارب يشبهون النملة، يجمعون ويستهلكون فقط. أما رجال العقل فيشبهون العناكب التي تنسج بيوتها من خيوطها. ولكن النحلة تأخذ طريقا وسطا: تجمع موادها من زهور الحديقة والحقل ثم تحولها وتهضمها بقواها الذاتية. لا يختلف العمل الفلسفي الحقيقي كثيرا عن ذلك: فهو لا يعتمد بصورة رئيسية أو كلية على قوة العقل، ولا يأخذ المادة التي يجمعها من التاريخ الطبيعي والتجارب الميكانيكية ويخزنها في الذاكرة كما هي، وإنما يخزنها في الفهم بعد تحويلها وهضمها. ولذلك ينعقد الكثير من الأمل على تحالف وثيق ونقي بين هاتين المقدرتين (ومثل هذا التحالف لم يحصل حتى الآن).

126
وقد يُظن أيضا أنني، بمنع الناس من وضع المبادئ إلا إذا توصلوا إلى أعلى درجة العموميات من خلال المرور بالخطوات الوسطية، أدعو إلى إرجاء الحكم، وإلى ما يسميه الإغريق "إنكار قدرة العقل على فهم الحقيقةــــ،" غير أن ما أطرحه، في الواقع، ليس إنكار القدرة على الفهم، وإنما وضع الشروط للفهم بصورة صحيحة. ذلك أنني لا أنتزع السلطة من الحواس، وإنما أزودها بالمساعدة، لا أستخف بالفهم، وإنما أسيطر عليه. وبالتأكيد، فإنه من الأفضل أن نعرف كل ما نحتاج معرفته، مع العلم بأن معرفتنا غير كاملة، من أن نظن ان معرفتنا كاملة، ومع ذلك لا نعرف شيئا مما نحتاج معرفته.

129
... ليس خطأ أن نميز بين الأنواع الثلاثة (وهي بمثابة درجات) من الطموح البشري. النوع الأول هو طموح أولئك الذين يرغبون في بسط نفوذهم في وطنهم، هذا النوع مبتذل ومنحط. النوع الثاني هو طموح أولئك الذين يعملون على بسط نفوذ بلادهم وهيمنتها على الناس. لهذا النوع، بالتأكيد، قدر أكبر من الوقار، إلا أنه ليس أقل جشعا. ولكن إذا حاول المرء بسط نفوذ وهيمنة الجنس البشري على الكون. فإن طموحه (إذا جازت تسميته بالطموح)، دون شك، أنبل وصحي أكثر من النوعين الآخرين. إن مملكة الإنسان على الأشياء تعتمد كلياً على العلوم والفنون (arts). لأننا لا نستطيع أن نحكم الطبيعة إلا بإطاعتها.

وإذا ثمن الناس اكتشافا واحدا معينا إلى درجة اعتبار مكتشفه أكثر من مجرد إنسان استطاع أن يجعل الجنس البشري كله مدينا له، فما أنبل اكتشاف ذلك الشيء الذي بواسطته يتم اكتشاف جميع الأشياء الأخرى بسهولة! وكما أن استعمالات الضوء غير محدودة، فهو يمكننا من السير، من مزاولة الِحَرف، من القراءة، ومن التعرف على بعضنا البعض، ومع ذلك فإن مجرد مشاهدة الضوء نفسه هي شيء أكثر روعة وجمالا من جميع استعمالاته، كذلك فمن المؤكد أن مجرد تأمل الأشياء كما هي، بدون أفكار مسبقة، أو تدجيل، أو خطأ، أو التباس، هو نفسه أكثر قيمة من كل ثمار الاختراعات.

وأخيرا، إذا كان الحط من قدر العلوم وتسخيرها لأغراض الفسق والترف وما شابه ذلك أساسا للاعتراض، فلا داع للانفعال، لأن نفس الشيء يمكن أن يقال عن جميع خيرات الأرض من فطنة، وشجاعة، وقوة، وجمال، وغنى، وضوء، وغيرها. ليستعيد الجنس البشري حقه على الطبيعة، ذلك الحق الذي ملكه بالوصية الإلهية، وليُعطَ السلطة، والتي تكون ممارستها محكومة بالعقل السليم وبالدين الحنيف.


ترجمة: د. سعيد زيداني




--------------------------------------------------------------------------------

[1] مصطلح (instauration) يترجم بـ "التأسيس" أو "الترميم" أو "إعادة إحياء".

[2] الحاسة أو الحس (sense) يشير بها بيكون إلى البصر والسمع ..الخ.

[3] يقوم بيكون في الفقرة (26) بشرح مفهوم "تفسير الطبيعة" على أنه التفسير المستنبط من الحقائق بطريقة مضبوطة ومنهجية.

[4] البديهيات (axioms) مصطلح يستخدمه بيكون هنا بمعنى المبادئ العامة المستخدمة كأساسات في النظريات العلمية.

[5] الأصنام (أو الأشباح) -Idols- مصطلح استخدمه بيكون للدلالة على أوهام ليست مرتبطة بالعبادة (الدينية) وهو استخدام دارج لهذا المصطلح منذ عهد اليونانيين القدامى.

[6] فيلسوف يوناني (أواخر القرن السادس - أوائل القرن الخامس ق.م.).

[7] المثل النافي هو الحالة التي تثبت عدم صحة القاعدة.

[8] ديموقريطس -Democritus- (640-370 ق.م.): فيلسوف يوناني اعتبر ان الطبيعة تتألف من فراغ ومن جزيئات مادية في حكة دائمة. وتنصهر هذه الجزيئات لتنتج أجسام متنوعة. واشتهر الفيلسوف بمقولته "لا شيء يولد من لا شيء".

[9] أرسطو (384-322 ق.م.): فيلسوف يوناني. تتلمذ على أفلاطون، له مؤلفات عديدة في الطبيعة وفي الأحياء والأخلاق والسياسة. اشتهر بنزعته الواقعية، وسمي بـ "المعلم الأول".

[10] وليم جلبرت (1544-1603): طبيب إنجليزي يعرف بأبي المغناطيسية. كان من أتباع كوبيرنيكوس. اكتشف القواني البسيطة للتجاذب والتنافر، وألف أول كتاب في المغناطيسية.

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:49 PM

3- ديكارت - أبو الفلسفة الحديثة

ولد ديكارت (René Descartes) سنة 1596 في بلدة "لاهى" من بلدان مقاطعة "الثورين" قرب نهر "الكروز" بفرنسا. وينتسب ديكارت إلى أسرة من صغار الأشراف الفرنسيين، كان أبوه مستشارا ببرلمان "بريتاني"، أما أمه فماتت بعد مولده بثلاثة عشر شهرا.

تلقى ديكارت علومه الأولى في مدرسة "لافليش" إحدى مدارس اليسوعيين، فبقي يتعلم بها ثماني سنوات، تعلم فيها العلوم والفلسفة، وقضى السنوات الخمس الأولى في دراسة اللغات القديمة، والثلاثة الأخيرة في دراسة المنطق والأخلاق والرياضيات والطبيعيات والميتافيزيقيا.

قصد ديكارت هولندا ليتعلم صنعة الحرب على يد اشهر جندي في أوروبا موريس دوناسو وكان قد سبق ديكارت إلى البلاد الهولندية كثيرون من أشراف الفرنسيين، أرادوا مثله ان يخدموا تحت إمرة ذلك الجندي العظيم الذي حقق الكثير من الانتصارات. توجه ديكارت بعد ذلك إلى "بريدا" في هولندا فلقي هناك طبيبا مثقفا ذا علم واسع بالرياضة والطبيعة اسمه اسحق بيكمان فصادقه.

وفي ليلة 10 نوفمبر سنة 1619 تم الاكتشاف الديكارتي العظيم والذي يذهب الفيلسوف فيه إلى ان مجموع العلوم واحدة مؤتلفة في الحكمة، أي في المعرفة التي نستقيها من أنفسنا.

غادر ديكارت بلدة نويبرج على نهر الدانوب حيث تم هذا الاكتشاف وقضى السنوات التسع التالية متنقلا في البلاد، متفرجا على مسرح الدنيا. وفي سنة 1628/ 1629 كتب رسالة صغيرة في الميتافيزيقيا موضوعها "وجود الله ووجود الروح" والقصد منها ان تبسط شيئا من قواعد الطبيعيات الديكارتية. وهذا يدلنا على ان ديكارت كان يشتغل منذ سنة 1629 بتحرير كتاب "التأملات الفلسفية" الذي لم يظهر إلا في عام 1641. نشر في عام 1637 ثلاث رسائل هي "البصريات" "والآثار العلوية" و"الهندسة" وصدرها جميعها بمقدمة هي "المقال في المنهج"، حاول ان يبين فيه انه استعمل منهجا آخر غير المنهج الشائع وان هذا المنهج ليس أسوأها ولا أقبحها. ونشر ديكارت في سنة 1641 كتاب "تأملات في الفلسفة الأولى" باللغة اللاتينية وفيه يبرهن على وجود الله وخلود الروح. ولقد كانت آخر مؤلفات الفيلسوف "رسالة في أهواء النفس" نشرت عام 1649.

سافر إلى السويد بدعوة من الملكة كرستين ليلقنها بنفسه فلسفته ولم يكن الجو هناك يلائم صحته. وكانت الملكة هناك قد حددت الساعة الخامسة صباحا وقتا للتحدث معه في الفلسفة وكانت تلك الساعة المبكرة شاقة جدا على الفيلسوف، فأصيب بالتهاب رئوي وتوفي صباح 11 شباط من عام 1650.


مختارات من مقالة في المنهج

القسم الأول: ملاحظات متعلقة بالعلوم
العقل[1] أعدل الأشياء توزعاً بين الناس، لأن كل فرد يعتقد أنه قد أوتي منه الكفاية، ولأن الذين يصعب إرضاؤهم بأي شيء آخر ليس من عادتهم ان يرغبوا في أكثر مما أصابوا منه[2]. وليس براجح أن يخطئ الجميع في ذلك، وإنما الراجح ان يكون هذا شاهداً على أن قوة الإصابة في الحكم، وتمييز الحق من الباطل، وهي القوة التي يطلق عليها في الحقيقة اسم العقل، أو النطق، واحدة بالفطرة عند جميع الناس. وهكذا، فان اختلاف آرائنا لا ينشأ عن كون بعضنا اعقل من بعض، بل ينشأ عن كوننا نوجّه أفكارنا في طرق مختلفة ولا نطالع الأشياء ذاتها. إذ لا يكفي ان يكون الفكر جيداً وإنما المهم ان يطبق تطبيقاً حسناً[3]. ان اكبر النفوس مستعدة لأكبر الرذائل، كما هي مستعدة لأعظم الفضائل. وأولئك الذين لا يسيرون الا ببطء شديد، يستطيعون، إذا سلكوا الطريق المستقيم، أن يحرزوا تقدماً أكثر من الذين يركضون ولكنهم يبتعدون عنه[4].

أما أنا فإني لم أتوهم قطّ أن لي ذهناً أكمل من أذهان عامة الناس، بل كثيراً ما تمنيت ان يكون لي ما لبعض الناس من سرعة الفكر، أو وضوح التخيّل وتميّزه، أو سعة الذاكرة وحضورها. ولست اعرف مزايا غير هذه تعين على كمال النفس، لأني أميل إلى الاعتقاد أن العقل أو الحس، ما دام هو الشيء الوحيد الذي يجعلنا بشراً، ويميزنا عن الحيوانات[5]، موجود بتمامه في كل واحد منا، متبعاً في ذلك الرأي الذائع بين الفلاسفة[6]، الذين يقولون انه لا زيادة ولا نقصان الا في الأعراض[7]، لا في صور[8] أفراد النوع الواحد، أو طبائعهم...

القسم الثاني: قواعد الطريقة :

... لقد درست قليلاً، وأنا في سني الحداثة[9]، من بين أقسام الفلسفة المنطق، ومن بين أقسام الرياضيات التحليل الهندسي والجبر، وهي ثلاثة فنون أو علوم خيّل إليَّ انها ستمدني بشيء من العون للوصول إلى مطلبي. ولكنني عندما اختبرتها تبيّن لي، فيما يتعلق بالمنطق، أن أقيسته وأكثر تعاليمه[10] الأخرى لا تنفعنا في تعلّم الأمور بقدر ما تعيننا على ان نشرح لغيرنا من الناس ما نعرفه منها، أو هي كصناعة لول[11] تعيننا على الكلام دون تفكير عن الأشياء التي نجهلها. ومع ان هذا العلم يشتمل في الحقيقية على كثير من القواعد الصحيحة والمفيدة[12]، فان فيه أيضاً قواعد أخرى كثيرة ضارة وزائدة. وهي مختلطة بالأولى، بحيث يصعب فصلها عنها، كما يصعب استخراج تمثال ديانا أو مينيرفا من قطعة من المرمر لم تنحت بعد. ثم انه فيما يختص بتحليل بالقدماء[13]، وبعلم الجبر عند المحدثين[14]، ففضلاً عن انهما لا يشتملان الا على أمور مجردة جداً، وليس لها كما يبدو أي استعمال، فان الأول مقصور دائماً على ملاحظة الأشكال، لا يستطيع ان يمرن الذهن دون ان يتعب الخيال. اما الثاني فانه مقيد بقواعد وأرقام جعلت منه فناً مبهماً وغامضاً يشوش العقل، بدلاً من ان يكون علماً يثقفه. هذا ما حملني على التفكير في وجوب البحث عن طريقة أخرى تجمع بين مزايا هذه العلوم الثلاثة، وتكون خالية من عيوبها. وكما ان كثرة القوانين تهيئ في الأغلب سُبُل الرذيلة، بحيث تكون الدولة أحسن نظاماً عندما تكون قوانينها أقلّ عدداً، ويكون الناس أكثر مراعاة لها، فكذلك رأيت أنه، بدلاً من هذا العدد الكبير من القواعد التي يتألف منها المنطق، يمكنني أن أكتفي بالقواعد الأربع الآتية، شريطة أن اعزم عزماً صادقاً[15] وثابتاً على ان لا أخل مرةً واحدةً بمراعاتها.


الأولى[16]: ان لا أتلقى على الإطلاق شيئاً على انه حق ما لم أتبين بالبداهة أنه كذلك، أي أن أُعْنى بتجنب التعجل والتشبث بالأحكام السابقة[17]، وأن لا ادخل في أحكامي الا ما يتمثل لعقلي في وضوح وتميز[18] لا يكون لديّ معهما أي مجال لوضعه موضع الشكّ.

والثانية[19]: أن أقسم كل واحدة من المعضلات التي ابحثها إلى عدد من الأجزاء الممكنة واللازمة لحلها على أحسن وجه.

والثالثة[20]: ان أرتب أفكاري، فأبدأ بأبسط الأمور وأيسرها معرفة[21]، وأتدرج في الصعود شيئاً فشيئاً حتى أصل إلى معرفة اكثر الأمور تركيباً[22]، بل أن أفرض ترتيباً بين الأمور التي لا يسبق بعضها بعضاً بالطبع.

والأخيرة: ان أقوم في جميع الأحوال بإحصاءات كاملة ومراجعات عامة تجعلني على ثقة من أنني لم أغفل شيئاً[23].

ان هذه السلاسل الطويلة من الحجج البسيطةأفأأأ والسهلة، التي تعود علماء الهندسة استعمالها للوصول إلى أصعب براهينهم، أتاحت لي ان أتخيل ان جميع الأشياء، التي يمكن ان تقع في متناول المعرفة الإنسانية، تتعاقب على صورة واحدة، وانه إذا تحامى المرء ان يتلقى ما ليس منها بحق على أنه حق، وحافظ دائماً على الترتيب اللازم لاستنتاجها بعضها من بعض، فانه لا يجد بين تلك الأشياء بعيداً لا يمكن إدراكه ولا خفياً لا يستطاع كشفه[24]. ولم أجد كبير عناء في البحث عن الأمور التي يجب الابتداء بها، لأنني كنت اعرف من قبل ان الابتداء يكون بأبسط الأمور وأسهلها معرفة[25]. ولما رأيت ان بين الذين بحثوا من قبل عن الحقيقية في العلوم لم يستطيع أحد غير الرياضيين ان يهتدي إلى بعض البراهين، أي إلى بعض الحجج اليقينية والبديهية، لم اشك أبداً في ان ذلك لم يتيسر لهم الا بطريق الأمور التي عالجوها، ولم أؤمل منها أي فائدة أخرى سوى تعويد عقلي مؤالفة الحقائق البديهية[26]، ونبذ الحجج الباطلة. ولكن مطلوبي لم يكن قط من اجل ذلك ان أتعلم جميع العلوم الخاصة التي يطلق عليها عامة اسم الرياضيات[27]. لأني لما رأيت أنها، بالرغم من اختلاف موضوعاتها، متفقة جميعها في الاقتصار على البحث في النسب أو العلاقات الموجودة بينها، أدركت أنه من الخير لي أن اقتصر على النظر في هذه العلاقات[28] عامة، دون افتراض وجودها الا في الموضوعات التي تعين على تسهيل معرفتي بها، ودون تقييدي بها البتة، حتى تزداد قدرتي فيما بعد على تطبيقها في جميع الموضوعات الأخرى التي توافقها. ثم إني لما تنبهت لتلك العلاقات، وتبين لي ان معرفتها تحتاج تارة إلى النظر في كل واحدة منها على حدة[29]، وتحتاج تارة أخرى إلى الجمع بينها[30] أو إلى النظر في كثير منها معاً، رأيت انه لإجادة النظر في كل واحدة منها على حدة يجب فرضها خطوطاً، لأن الخطوط ابسط الأشياء[31]، وليس فيما يتصوره خيالي، وتدركه حواسي ما هو اكثر تميزاً منها، ولكن للجمع بينها أو للنظر في كثير منها معاص يجب التعبير عنها برموز هي في أقصى درجات الإيجاز[32]. وبهذه الوسيلة أمكنني ان اقتبس من الجبر والتحليل الهندسي خير ما فيهما، وان أصحح عيوب كل منهما بالآخر[33].


وإني لأجرؤ في الحقيقة على القول ان المراعاة الدقيقة لهذا العدد القليل من القواعد التي اخترتها سهلت عليَّ كثيراّ حلّ جميع المسائل التي يتناولها هذان العلمان بالبحث. حتى انني خلال شهرين أو ثلاثة[34] قضيتها في امتحانها، مبتدئاَ بأبسط الأمور فأعمها، ومستعيناً بكل حقيقية وجدتها على كشف غيرها من الحقائق، لم انته إلى حلّ كثير من المسائل التي كنت احسبها من قبل صعبة فحسب، بل بدا لي أيضاً في النهاية انني أستطيع ان أعين بأي وسيلة وإلى أي حد يمكنني حلّ المسائل التي كنت أجهلها. وقد يظهر لكم اني غير عابث إذا لاحظتم انه ليس للشيء الواحد الا حقيقة واحدة، وان من يجدها يعلم عنها كل ما يستطاع علمه، وانه إذا تعلم طفل علم الحساب مثلاً وجمع بعض الأعداد بحسب قواعده، فانه يستطيع ان يثق بأنه وجد، فيما يختص بالمجموع الذي هو بصدده، كل ما يستطيع العقل البشري أن يجده. لان الطريقة التي تعلم المرء إتباع الترتيب الصحيح، والإحصاء الدقيق، لجميع ظروف الشيء المبحوث عنه، تشتمل على كل ما يهب اليقين لقواعد علم الحساب.

ولكن اعظم ما أرضاني من هذه الطريقة هو ثقتي معها باستعمال عقلي في كل شيء، ان لم يكن على الوجه الأكمل، فعلى احسن ما في استطاعتي على الأقل[35]. دع انني كنت أشعر وأنا أمارس هذه الطريقة بأن عقلي كان يتعود شيئاً فشيئاً تصور موضوعاته، تصوراً أشدّ وضوحاً، وأقوى تميزاً. ولما كنت لم اقصر هذه الطريقة على مادة خاصة، عللت نفسي بتطبيقها تطبيقاً مفيداً أيضاً في معضلات العلوم الأخرى[36]، كما طبقتها في مسائل الجبر. ولست اعني بذلك انني أقدمت أولاً على امتحان كل ما يعرض لي من مسائل العلوم، لأن هذا نفسه مخالف للنظام الذي توجبه الطريقة[37]، ولكنني لما لاحظت ان مبادئ هذه العلوم يجب ان تكون كلها مستمدة من الفلسفة التي لم اهتد فيها بعد إلى أي مبدأ يقيني، رأيت أنه يجب علي أولاً ان أحاول تقرير أصول يقينية في الفلسفة. ولما كان هذا الأمر أهم شيء في العالم، وكان التعجل والتشبث بالأحكام السابقة اعظم ما يجب ان يخشاه المرء، رأيت انه يجب علي ان لا أمضي فيه إلى نهايته ما لم أبلغ من العمر سناً انضج من الثالثة والعشرين التي بلغتها وقتئذ[38]، وما لم أنفق أولاً كثيراً من الوقت في إعداد نفسي له، سواء أكان ذلك بأن أنزع من عقلي جميع الآراء الفاسدة التي تلقيتها من قبل، أم بأن أجمع تجارب كثيرة اجعلها فيما بعد مادة استدلالاتي، وأن أتمرن دائماً على الطريقة التي رسمتها لنفسي لها[39]، حتى يزداد رسوخي فيها.


القسم الرابع: أسس علم ما بعد الطبيعة :

لست أدري هل يجب علي ان أحدثكم عن التأملات الأولى التي تيسرت لي هناك[40]، لأن في هذه التأملات من كثرة التجريد[41] والبعد عن المألوف ما يجعلها غير موافقة لذوق جميع الناس. ومع ذلك فإني أجد نفسي بوجه ما مضطراً إلى التحدث عنها، حتى يُستطاع الحكم على الأسس التي اخترتها. هل هي ذات متانة كافية؟ لقد لاحظت منذ زمن ان المرء محتاج في بعض الأحيان، فيما يختص بالأخلاق، إلى الأخذ بآراء يعلم انها غير يقينية، ولكنه يتبعها مع ذلك كما لو كانت يقينية، وقد سبق القول في ذلك. ولكن لما كنت إذ ذاك راغباً في التفرغ للبحث عن الحقيقة، رأيت أنه يجب علي ان افعل ضد ذلك تماماً، وان اعتبر كل ما أستطيع ان أتوهم فيه اقل شك باطلاً على الإطلاق، وذلك لأرى ان كان يبقى لديَّ بعد ذلك شيء خالص من الشك تماماً. وهكذا فإني، لما رأيت ان حواسنا تخدعنا أحياناً، فرضت ان لا شيء هو في الواقع على الوجه الذي تُصورّه لنا الحواسّ. وكذلك لما وجدت أنَّ هناك رجالاً يخطئون في استدلالاتهم، حتى في أبسط مسائل الهندسة، ويأتون فيها بالمغالطات، واني كنت عرضة للزلل في ذلك كغيري من الناس، اعتبرت باطلاً كل استدلال كنت احسبه من قبل برهاناً صادقاً. وأخيراً، لما لاحظت ان جميع الأفكار، التي تعرض لنا في اليقظة، قد تتردد علينا في النوم، من دون ان يكون واحد منها صحيحاً، عزمت على ان أتظاهر[42] بأن جميع الأمور التي دخلت عقلي لم تكن اصدق من ضلالات أحلامي. ولكني سرعان ما لاحظت، وأنا أحاول على هذا المنوال ان اعتقد بطلان كل شيء، انه يلزمني ضرورةً، أنا صاحب هذا الاعتقاد، أن أكون شيئاً من الأشياء. ولما رأيت ان هذه الحقيقة: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، هي من الرسوخ بحيث لا تزعزعها فروض الريبيين[43]، مهما يكن فيها من شطط، حكمت بأنني أستطيع مطمئناً ان اتخذها مبدأ أولاً[44] للفلسفة التي كنت أبحث عنها.

ثم اني أنعمت النظر بانتباه في ما كنت عليه[45]، فرأيت أنني أستطيع ان أفرض انه ليس لي أي جسم، وأنه ليس هناك أي عالم، ولا أي حيز أشغله، ولكنني لا أستطيع من اجل ذلك ان افرض انني غير موجود، لأن شكي في حقيقة الأشياء الأخرى يلزم عنه بضد ذلك، لزوماً بالغ البداهة واليقين، ان أكون موجودا، في حين أنني، لو وقفت عن التفكير، وكانت جيمع متخيلاتي الباقية حقاً، لما كان لي أي مسوغ للاعتقاد انني موجود[46]. فعرفت من ذلك انني جوهر[47] كل ماهيته أو طبيعته لا تقوم الا على الفكر، ولا يحتاج في وجوده إلى أي مكان، ولا يتعلق بأي شيء مادي، بمعنى ان "الأنا" أي النفس التي أنا بها ما أنا، متميزة تمام التميز عن الجسم[48]، لا بل ان معرفتنا بها أسهل، ولو بطل وجود الجسم على الإطلاق لظلت النفس موجودةً بتمامها.

ثم إني نظرت بعد ذلك بوجه عام فيما تطلبه القضية من شروط لتكون صحيحة ويقينية. ولما كنت قد وجدت قضية علمت انها موصوفة بهذه الصفة، رأيت انه يجب علي أيضاً أن أعلم على أي شيء يقوم هذا اليقين. فلاحظت انه لا شيء في قولي: أنا أفكر، إذن أنا موجود، يضمن لي انني أقول الحقيقة، الا كوني أرى بكثير من الوضوح ان الوجود واجب للتفكير. فحكمت بأنني أستطيع أن اتخذ لنفسي قاعدةً عامة، وهي ان الأشياء التي نتصورها تصوراً بالغ الوضوح والتميَّز هي كلّها صحيحة، إلا ان هناك صعوبة في بيان ما هي الأشياء التي نتصورها متميزة.

ثم اني فكرت بعد ذلك في شكوكي، فتبين لي منها ان وجودي ليس تام الكمال، لأنني كنت اعلم بوضوح أن المعرفة أكثر كمالاً من الشك، فلاح لي ان ابحث من أين تأتى لي أن أفكر في شيء اكمل مني، فعرفت بالبداهة ان ذلك يرجع إلى وجود طبيعة هي في الحقيقة أكمل[49]. أما أفكاري الدالة على الأشياء الخارجية، مثل السماء، الأرض، والضوء، والحرارة، وألف شيء آخر، فاني لم أجد كبير عناء في معرفة من أين كانت تجيئني؛ لأني، لما لاحظت ان لا شيء فيها يجعلها أسمى مرتبة مني، استطعت ان اعتقد أنها إذا كانت حقيقية، فهي من لواحق طبيعتي، من حيث أن هذه الطبيعة تشتمل على شيء من الكمال[50]، وأنها إن لم تكن حقيقية، كانت مستمدة من العدم، أي حاصلة لي من جهة ما في طبيعتي من نقص[51]. ولكن الأمر لا يمكن ان يكون على هذا النحو فيما يختص بفكرة موجود أكمل من وجودي، لأن استمداد هذه الفكرة من العدم أمر ظاهر الاستحالة، ولأن قولنا: ان الأكمل لاحق وتابع لما هو أدنى كمالاً، ليس اقل شناعة[52] من قولنا: ان الشيء يحدث من لا شيء. وإذن أنا لا أستطيع أبدا أن أستمد هذه الفكرة من نفسي[53]، فبقي أنها ألقيت إلي من طبيعة هي في الحقيقة أكمل مني، لا بل من طبيعة لها بذاتها جميع الكمالات التي أستطيع ان أتصورها. وإذا أردت الإبانة عن رأيي بكلمة واحدة قلت: إن المراد بهذه الطبيعة هو الله. ثم أضفت إلى ذلك: لما رأيت ان هناك كمالات ليس لي منها شيء عَلِمْتُ انني لست الكائن الوحيد الذي في الوجود (واسمحوا لي هنا ان استعمل ألفاظ الفلسفة المدرسية[54])، وإنما يجب بالضرورة ان يكون هناك موجود أكثر مني كمالاً، أنا تابع له، وجميع الكمالات التي فيّ مستمدة منه، لأنني لو كنت وحيداً ومستقلاً عن كل كائن آخر، وكان هذا القليل من الكمال الذي أشارك فيه الموجود الكامل مستمداً من نفسي وحدها، لكنت أستطيع ان أحصل من نفسي، وللسبب ذاته، على جميع الكمالات التي أعرف انها تنقصني، ولكنت اجعل نفسي كذلك لا متناهياً، أزلياً، أبدياً، ثابتاً، عالماً بكل شيء، حاصلاً في النهاية على جميع الكمالات التي أستطيع ان أتصور وجودها في الله[55]. وينتج من هذه الاستدلالات التي أوردتها انه، لمعرفة طبيعة الله على قدر ما تستطيعه طبيعتي، لم يكن علي الا ان أتأمل جميع الأشياء التي وجدت صورها في نفسي، هل في امتلاكها كمال أم لا. ولقد كنت متيقناً ان أية فكرة من الفكر المشتملة على النقص لا وجود لها في الله، ولكن جميع الفكر الأخرى ثابتة له[56]. وكذلك رأيت أن الشك، والتقلب، والحزن، وما شابه ذلك من الأمور لا يمكن ان تنسب إليه، لأنني كنت أنا نفسي أرتاح إلى سلامتي منها. ثم انه كان في نفسي، عدا ذلك، صور لكثير من الأشياء الحسية والجسمية. لأنني، وان فرضت انني كنت حالماً، وان ما أراه أتخيله كان باطلاً، إلا انني لا أستطيع ان أنكر مع ذلك ان صور ما أراه وأتخيله موجود في ذهني. ولكن لما كنت قد عرفت سابقاً معرفة واضحة ان الطبيعة العاقلة فيّ متميزة عن الطبيعة الجسمية، وان كل تركيب يدل على تعلق الشيء بالشيء، وان التعلق[57] نفسه نقص ظاهر، استنتجت من ذلك انه ليس من الكمال ان يكون الله مؤلفاً من هاتين الطبيعتين، وأنه لا يمكن بالتالي ان يكون الله مركباً. وإذا كان في العالم أجسام[58]، أو عقول[59]، أو طبائع أخرى[60] غير تامة الكمال، فان وجودها يجب ان يكون متعلقاً بقدرته، بحيث لا تستطيع البقاء دونه لحظة واحدة[61].

ثم اني أردت بعد ذلك[62] ان ابحث عن حقائق أخرى، فاخترت الموضوع الذي يبحث فيه علماء الهندسة. وهو، كما أتصوره، جسم متصل، أو مكان لا حدّ[63] لامتداده في الطول، والعرض، والارتفاع، أو العمق يقبل الانقسام إلى أجزاء مختلفة، ذات أشكال وحجوم مختلفة، وتُحرَّك أو تُبَّدل[64]على جميع الوجوه، (لأن علماء الهندسة يفرضون ذلك كله في موضوع علمهم). وتصفحت بعض براهينهم البسيطة، ففطنت إلى ان هذا اليقين العظيم الذي يعزوه الناس إليها إنما هو مبني على كون تصورها بديهياً تبعاً للقاعدة التي ذكرتها سابقاً، ثم فطنتُ أيضاً إلى انه لا شيء في هذه البراهين يجعلني على يقين بوجود موضوعاتها خارج الذهن[65]. مثال ذلك: كنت أرى جيدا انني إذا فرضت مثلثاً لزم من ذلك أن تكون زواياه الثلاث مساوية لزاويتين قائمتين، ولكني لم أجد في ذلك ما يجعلني على يقين بأن في العالم مثلثاً ما؛ في حين انني إذا رجعت إلى امتحان معنى الموجود الكامل الذي أتصوره، وجدت انه يتضمن الوجود على نحو ما يتضمن معنى المثلث ان زواياه الثلاث مساوية لزاويتين قائمتين، أو كما يدخل في معنى الكرة ان جميع أقسام سطحها متساوية البعد عن مركزها، بل هو أكثر من هذين الأمرين بداهة[66]. ويلزم عن ذلك ان وجود الله، الذي هو ذلك الكائن الكامل، لا يقل يقيناً عن أي برهان من براهين الهندسة.

ولكن السبب في اعتقاد الكثيرين أن هناك صعوبة في معرفة الله بل في معرفة ما هي النفس أيضاً، يرجع إلى انهم لا يرفعون عقولهم أبدا إلى ما وراء الأشياء الحسية، وانهم تعودوا الا يفكروا في شيء الا إذا تخيلوه (وهذه طريقة تفكير خاصة بالأشياء المادية) حتى ان كل ما لا يمكن تخيله يبدو لهم غير معقول[67] . وهذا ظاهر في اتخاذ الفلاسفة قاعدة لهم في المدارس: ان لا شيء في العقل لم يكن أولاً في الحس[68]. وانه لمن المتيقن مع ذلك ان معنى الإله ومعنى النفس لم يكونا قط في الحس. ويبدو لي ان الذين يريدون ان يستعينوا بخيالهم على تفهّم هذين المعنيين[69] يفعلون كما لو أنهم أرادوا الاستعانة بعيونهم على سماع الأصوات، أو شم الروائح. الا ان هناك فرقاً بين الأمرين، وهو ان توكيد حاسة البصر لحقيقة مدركاتها لا يقل عن فعل حاسة الشم أو السمع، في حين ان قوتنا المتخيلة وحواسنا لا تستطيع أن تؤكد لنا شيئاً الا إذا تدخل عقلنا فيه.

وأخيراً، إذا كان هناك أناس لم يقتنعوا بعد اقتناعاً كافياً بوجود الله، ووجود النفس، بالحجج التي أوردتها، فاني أريد ان يعلموا جيداً ان جميع الأشياء، التي يظنون انهم اكثر وثوقاً بها، مثل ان لهم جسماً، وان هناك كواكباً وأرضاً، وما شابه ذلك، إنما هي اقل ثبوتاً. ومع انه قد يكون للمرء ثقة عملية[70] بهذه الأشياء يبدو معها انه لا يمكنه الشك فيها الا إذا شطّ في حكمه، وابتعد عن المألوف، فانه، فيما يتعلق باليقين الفلسفي[71]، لا يستطيع، اللهم الا إذا حرم العقل، ان ينكر انه يكفي لنفي اليقين التام ان يلاحظ الإنسان انه يستطيع بالطريقة نفسها أن يتخيل، وهو نائم، ان له جسماً آخر، وانه يبصر كواكباً وأرضاً أخرى، دون وجود شيء من ذلك هناك. لأنه من أين للمرء ان يعلم ان الأفكار التي ترد عليه في النوم اقرب إلى الكذب من غيرها، ما دامت لا تقل عن غيرها قوة ووضوحاً[72]. ولو ان أفضل العقول بحثت في ذلك ما شاءت، لما استطاعت، فيما اعتقد، ان تأتي بأية حجة لرفع هذا الشك، ما لم تقدم على ذلك فرض وجود الله. أولاً، لأن الأمر الذي اتخذته من قبل قاعدة، وهو ان الأشياء التي نتصورها تصوراً بالغ الوضوح والتميز صحيحة كلها، لم أتيقنه هذا اليقين[73] إلا لأن الله كائن أو موجود، وانه موجود كامل، وان كل ما فينا يصدر عنه[74]. ينتج من ذلك أن أفكارنا وتصوراتنا، لما كانت أشياء حقيقية صادرة عن الله، فهي، بما هي واضحة ومميزة، لا يمكن أن تكون صحيحة، بحيث انه إذا كان لدينا في الغالب أفكار كاذبة، فان هذا الكذب لا يكون الا فيما كان منها محتوياً على غموض والتباس، لأنها في ذلك تشارك العدم، أعني انها ليست على هذا النحو من الغموض الا لأن كمالنا ليس تماماً. وبديهي ان الشناعة[75] في قولنا ان الباطل أو الناقص من حيث هو كذلك يصدر عن الله، ليس اقل من الشناعة في قولنا: ان الحق أو الكمال يصدر عن العدم، ولكننا إذا كنا لا نعلم أبداً ان كل ما فينا من وجود وحق إنما يأتي من موجود كامل وغير متناه، فمهما تكن أفكارنا واضحة ومميزة فانه لا يمكن ان يكون لدينا أي دليل يثبت لنا انها يمكن ان تتصف بكمال الحقيقة.

وعلى ذلك فانه من السهل علينا جداً، بعد ان جعلتنا معرفة الله والنفس على يقين من هذه القاعدة، ان نعرف ان الأحلام التي نتخيلها في النوم لا تحملنا أبدا على الشك في صدق الأفكار التي تحصل لنا في اليقظة. لأنه إذا اتفق للمرء، حتى في النوم، ان يتصور فكرة جد متميزة، كأن يكشف أحد علماء الهندسة برهاناً جديداً، فان نومه لا يمنع هذا البرهان من ان يكون صحيحاً. اما الخطأ العادي في أحلامنا، وهو يقوم على ان الأحلام تصور لنا أموراً مختلفة على النحو الذي تفعله حواسنا الظاهرة، فليس مهماً ان يكون هذا الخطأ باعثاً على الارتياب في صدق مثل هذه الأفكار، لأنها تستطيع أيضاً ان تخدعنا في كثير من الأحيان من دون ان نكون نياماً، كمثل المصابين بمرض اليرقان، فهم يرون كل شيء أصفر اللون، أو كمثل الكواكب والأجسام البعيدة جداً، فهي تظهر لنا أصغر بكثير مما هي عليه[76]. وأخيراً سواء أكنا أيقاظاً أم نياماً، فانه ينبغي لنا أن لا نقتنع الا ببداهة عقولنا. وليلاحظ انني أقول هنا عقولنا لا خيالنا وحواسنا. ومن قبيل هذا أيضا يجب علينا، إذا رأينا الشمس في وضوح تام، ان لا نحكم من اجل ذلك بأن حجمها ليس الا بالمقدار الذي نراها فيه. ويمكننا ان نتخيل في تميز تام رأس أسد مركباً على جسم عنزة من دون ان يلزمنا ان نستنتج من اجل ذلك ان في العالم وحشاً وهمياً كهذا. لأن العقل لا يملي علينا ان يكون ما نراه أو نتخيله على هذا الوجه حقيقياً، ولكنه يملي علينا أن أفكارنا وتصوراتنا يجب ان يكون لها أساس من الحقيقة، ولولا ذلك لما كان من الممكن أن يضع الله فينا هذه الأفكار والتصورات، وهو كمال كله، حق كله، ولما كانت استدلالاتنا في النوم ليست بديهية وتامة كما هي عليه في اليقظة، وكان لتخيلاتنا من القوة أو الوضوح في النوم ما لها في اليقظة أو اكثر، فان العقل ليملي علينا أيضا ان أفكارنا ما دامت لا تستطيع ان تكون كلها صحيحة، لعدم اتصافنا بالكمال، فان ما فيها من حق يجب ان يوجد حتماً في التي تحصل لنا في اليقظة لا في الأحلام[77].

- يتبع -



جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:50 PM

ديكارت: مختارات من "تأملات في الفلسفة الاولى"

التأمل الأول: في الأشياء التي يمكن ان توضع موضع الشك :

1. ينبغي لنا، كي نقيم العلوم على قواعد ثابتة، ان نرفض كل آرائنا القديمة، مرة في حياتنا.
تبين لي، منذ حين، انني تلقيت، إذ كنت ناعم الأظفار، طائفة من الآراء الخاطئة ظننتها صحيحة. ثم وضح لي ان ما نبنيه بعد ذلك على مبادئ، تلك حالها من الاضطراب، لا يمكن ان يكون الا أمراً يشك فيه، كثيراً ويرتاب منه. لهذا قررت ان أحرر نفسي، جدياً، مرة في حياتي، من جميع الآراء التي آمنت بها قبلاً، وان ابتدئ الأشياء من أسس جديدة، إذا كنت أريد ان أقيم في العلوم قواعد وطيدة، ثابتة مستقرة. غير ان المشروع بدا لي ضخماً للغاية، فتريثت حتى أدرك سناً لا سن أخرى، بعدها، آمل ان أكون فيها اصلح نضجاً لتنفيذه. من اجل هذا أرجأته مدة طويلة. اما اليوم فقد غدوت اعتقد انني أخطئ إذا ترددت أيضاً، دون ان اعمل في ما بقي لي من العمل.

2. لا داعي لامتحان كل الآراء القديمة بالتفصيل. يكفي ان نعالج أهمها.
الآن، وقد تخلصت من كل شاغل، وظفرت براحة مضمونة في عزلة مطمئنة، فانني أجدني حراً في تقويض جميع آرائي القديمة، وليس بواجب، كي أدرك هذه الغاية، ان أبين زيفها كلها فقد لا انتهي منه أبداً. وإنما يكفي، لرفضها كلها، ان أجد لها سبباً للشك فيها. إذ ان العقل يريني انه ينبغي لي الا أكون اقل رفضاً للأمور التي لم تبلغ مرتبة اليقين التام، مني للأمور الفاسدة حقاً.

3. في ان هذه المبادئ هي الحواس، التي لا يمكن ان يوثق بها، لأنها خدّاعة.
كل ما تلقيته، حتى الآن، على انه اصدق الأمور وأوثقها، قد اكتسبته بالحواس، أو عن طريق الحواس. غير اني وجدت الحواس خدّاعة في بعض الأوقات، ومن الحكمة الا نطمئن أبدا كل الاطمئنان إلى من يخدعنا، ولو مرة واحدة.

4. يبدو لنا انه يستحيل على حواسنا ان تخدعنا في بعض الأمور.
ولئن كانت الحواس تخدعنا، بعض الأحيان، في أشياء صغيرة جداً وبعيدة عن متناولنا، فهناك أشياء كثيرة أخرى لا يُعقل ان نشك فيها، وان كنا نعرفها بطريق الحواس. مثال ذلك، ان ألبس عباءة المنزل، فاجلس هنا قرب النار، وقد مسكت بين يدي تلك الورقة، وأشياء أخرى من هذا القبيل. كيف أستطيع ان أنكر هاتين اليدين وهما يداي، وذلك الجسم وهو جسمي، اللهم الا إذا أصبحت كبعض المخبولين، الذين اختلت أذهانهم، وغُشى عليها بالأبخرة السود الصاعدة من الصفراء. هؤلاء لا ينفكون يؤكدون انهم ملوك، في حين انهم فقراء جداً. ولا ينفكون يؤكدون انهم يلبسون ثياباً موشاة بالذهب والأرجوان، في حين انهم عراة جداً. ولا ينفكون يتخيلون انهم جرار، أو ان لهم أجساماً من زجاج. هؤلاء مجانين. ولن أكون اقل شططاً منهم إذا نسجت على منوالهم.

5. الا اننا قليلو الثقة بها، مما يجعلنا غير قادرين على التمييز، حتى بين اليقظة والحلم.
لكن يترتب علي، في هذا المكان، ان آخذ بعين الاعتبار انني إنسان، من عادتي ان أنام، وان أرى في أحلامي الأشياء ذاتها، التي يراها هؤلاء المخبولون في يقظتهم، أو أشياء هي ابعد منها عن الواقع. فكم مرة حلمت اني جالس قرب النار ههنا، وقد لبست ثيابي، مع اني في سريري متجرد من كل ثوب. وهكذا لا يبدو لي، في الحلم، اني لا انظر إلى هذه الورقة، بعينين نائمتين، ولا ان هذا الرأس الذي أهز هو رأس ناعس. بالعكس، يبدو لي انني ابسط يدي واشعر بها عن قصد وتصميم. ان ما يقع في الحلم هو أيضاً ليس بالواضح المتميز. إذ كثيراً ما أتذكر، وقد أطلت النظر في الأمر، اني انخدعت في الحلم بمثل هذه الرؤى. لذا أرى بغاية الجلاء، حين أقف عند هذه الفكرة، انه لا يوجد علامات قاطعة، ولا إمارات يقينية كفاية، نستطيع بها ان نميز بين اليقظة والحلم، تمييزاً دقيقاً. وعليه فذهولي عظيم حتى يكاد يقنعني باني نائم.

6. ان الأمور التي نتمثلها في الحلم ليست متخيلة كل التخيل.
لنفرض الآن، إذن، اننا نائمون، وأن جميع هذه الخصائص، من فتح العينين، وهز الرأس، وبسط اليدين، وما شابه، ان هي الا رؤى كاذبة. ولنفرض ان أيدينا، وجسمنا كله، قد لا يكون على نحو ما نراه. ولكن ينبغي التسليم، على الأقل، بان الأشياء التي نتمثلها في الحلم هي بمثابة لوحات وصور، لا يُستطاع تكوينها الا على غرار شيء واقعي حقيقي. وهكذا، على الأقل، لا تكون هذه الأشياء العامة (كالعينين، والرأس، واليدين، وكل باقي الجسم) أشياء متخيلة، لكنها أشياء واقعية موجودة. إذ المصورون، وان بذلوا ما أوتوا من قدرة على تمثيل بنات البحر والتيوس الآدمية في أشكال غريبة جداً، وبعيدة عن المألوف، لا يستطيعون رغم ذلك ان يضفوا عليها أشكالاً وطبائع جديدة كل الجدة. وإنما الذي يصنعونه هو مزيج وتأليف من أعضاء مختلف الحيوانات. وإذا جمح الخيال عندهم، فابتدعوا شيئاً يبلغ مرتبة من الجدة، لا يرى أحد قط له مثيلاً، فان عملهم يكون شيئاً مختلقاً بالأساس، وزائفاً كل الزيف. يبقى، على الأقل، ان الألوان التي يؤلفونها منها، لا بد لها من ان تكون حقيقية.

7. يبدو ان صورته عن الأشياء تتركب من الأفكار التي لدينا عن أشياء أخرى ابسط، هي موجودة حقاً.
ومع ان هذه الأشياء العامة (اعني الجسم، والعينين، والرأس، واليدين، وما شابه) هي أشياء خيالية، فمن الواجب ان نعترف رغم ذلك، قياساً على ما تقدم، بوجود أشياء أخرى ابسط منها واشمل، هي موجودة حقاً. من امتزاجها، على نحو ما، تخرج بعض الألوان الحقيقية، فيتكون كل ما يقوم لدى فكرنا من صور الأشياء، سواء كانت هذه الصور حقيقية واقعية، أو مختلقة وهمية. من هذه الأشياء المتمددة وكمها أو مقدارها، وعددها. وكذا الحيز الذي هي فيه، والزمان الذي تدوم به، وما شابه.

8. ان العلوم، التي تدور على هذه الأشياء، تضم حقائق يظهر انه لا يمكن الشك فيها.
لعلنا غير مخطئين، إذن، في الاستنتاج ان علوم الطبيعة، والفلك، والطب، وسائر العلوم الأخرى، التي تدور على الأشياء المركبة، هي عرضة لشك قوي. ان الثقة بها قليلة. اما الحساب، والهندسة، وما شاكلهما من العلوم، التي لا تنظر الا في أمور بسيطة جداً، وعامة جداً، دون اهتمام كثير بمبلغ تحقيق هذه الأمور في الخارج، أو عدم تحقيقها، فهي تحتوي على شيء يقيني، لا سبيل إلى الشك فيه. فسواء كنت يقظاً أو نائماً، هنالك حقيقة ثابتة، وهي ان مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائماً، وان المربع لن يزيد على أربعة أضلاع أبداً. ان حقائق قد بلغت هذه المرتبة من الوضوح، لا يمكن ان تكون موضع خطأ، أو عدم يقين.

9. في الأسباب التي تدفعنا رغم هذا إلى الريبة من حقيقة تلك الأشياء.
مع ذلك فقد رسخ في ذهني، منذ زمن طويل، معتقد فحواه ان هنالك إلهاً قادراً على كل شيء، هو الذي خلقني وصنعني على نحو ما أنا موجود. فما يدريني؟ لعله قضى ان لا يكون هناك ارض، ولا سماء، ولا جسم ممتد، ولا شكل، ولا مقدار، ولا حيز، ودبر مع ذلك ان أحس بهذه الأشياء، جميعاً، فتبدو لي كائنة على غرار ما أراها؟ ثم لما كنت أرى، أحياناً، كيف ان الآخرين يغلطون في الأمور، التي يحسبون انهم اعلم الناس بها فما يدريني، لعله قدر لي ان اغلط، أنا أيضاً، كلما جمعت اثنين وثلاثة، أو أحصيت أضلاع مربع ما، أو أطلقت حكماً على شيء اسهل من ذلك، ان كان ثمة شيء اسهل؟ لكن اما قيل عن الله انه كريم رحيم؟ لعله لم يرد تضليلي على هذا النحو؟ فإذا كان مما يتنزه عنه الله ان يكون قد خلقني عرضة للخطأ، دائماً، فمما لا يليق بمقامه ان يأذن بوقوعي في الخطأ أحياناً. واني على يقين ان هذا لا يقع بإذنه.

10. إذن لا يوجد شيء غير ممكن ان نشك فيه إلى حد ما.
قد نعثر على أناس يميلون إلى إنكار وجود اله ذي قدرة كهذه القدرة، اكثر مما يميلون إلى الاعتقاد بان كل الأشياء الباقية هي عارية من اليقين. لا نريد الآن ان نعارض هذا الرأي. لنقف بجانبهم مسلّمين معهم ان الذي قيل هنا عن اله ما هو الا حديث خرافة. ولكن، مهما تكن الوجوه التي يعتمدون عليها، لتفسير ما وصلتُ إليه من حال وكيان (سواء أعادوهما إلى القضاء والقدر، أو عزوهما إلى المصادفة، أو أرجعوهما إلى سلسلة من العلل والمعلولات، أو إلى أي سبب آخر) فان قدرة الصانع، الذي يجعلونه علة لوجودي تنقص، ما دام الخطأ والضلال نوعاً من أنواع النقص، بقدر ما انقص أنا فأتعرض للضلال دائماً. ليس عندي ما أجيب عن حججهم. الا انه لا مناص لي من الاعتراف بان كل الآراء التي حسبتها من قبل حقاً، أستطيع ان أشك فيها بطريقة ما. يمكنني الآن، ان ارتاب من أي رأي، لا بطيش ورعونة، وإنما بفضل أدلة ناضجة قوية جداً. لذا ينبغي لي، إذا أردت الاهتداء إلى أمر ثابت أكيد في العلوم، ان امتنع عن تصديق ما يمكن الشك فيه، امتناعي عن تصديق ما يتضح فيه الخطأ اتضاحاً شديداً.

11. في انه لا يكفي ان نبدي هذه الملاحظات، وإنما يجب حفرها في أعماق أذهاننا.
ذلك لان الفائدة لا تأتي فقط من اعتبار آرائنا القديمة قابلة للشك، بل أيضاً من افتراضها خاطئة. لا خطر ولا ضلال في إتباع هذا المسلك.

ولكن لا يكفي ان ابدي هذه الملاحظات، بل ينبغي لي أيضاً ان أوطدها في ذاكرتي، لأن الآراء القديمة، المألوفة، تعاودني بين الفينة والفنية. ان طول ألفها لي جعلها تشغل ذهني قسراً، وتتحكم تقريباً بمعتقدي. الا انني سأحترمها ... ما دمت أراها في واقعها، اعني في انها مدعاة للشك، من بعض الوجوه، كما ابنته الآن. مع ذلك هي محتملة كثيراً، مما يجعل التصديق بها أصوب من إنكارها. لذا أكون حكيماً إذا تعمدت موقفاً معاكساً، فاكذب نفسي، إذ افترض إلى حين ان جميع الآراء باطلة خيالية، ريثما يتيسر لي ان أوازن بين القديمة والجديدة. وهكذا لا يميل رأي إلى جانب دون جانب، ولا تسيطر التقاليد الخاطئة على حكمي، فيشتط عن الطريق المستقيم، الذي يقدر ان يرشدني إلى معرفة الحقيقية. أنا واثق انه لا خطر في إتباع هذا المسلك، ولا ضلال. مهما أبالغ في الحذر فلن أكون مسرفاً، لأن مطلبي الآن ليس العمل وإنما التأمل والمعرفة.

12. ما هي الافتراضات، التي يجب ان نفترضها، وكيف ينبغي لنا ان نستخدمها.
سأفترض إذن ان لا إلهاً حقاً (الذي هو مصدر الحقيقة الأعلى) بل ان شيطاناً سيئاً، لا يقل خبثه ومكره عن بأسه، قد استعمل كل ما أوتي من حنكة لتضليلي. وسأفترض ان السماء، والهواء، والأرض، والألوان، والأشكال، والأصوات، وسائر الأشياء الخارجية التي نرى، ليست الا أوهاماً وخيالات، يلجأ إليها الشيطان كي يقنعني. وسأفترض اني خلو من العينين واليدين واللحم والدم والحواس، التي أتوهم خطأ اني املكها جميعاً. وسأتشبث بهذه الافتراضات التي، ان لم أتمكن بها من الوصول إلى معرفة أي حقيقة، تدفعني على الأقل ان أتوقف عن الحكم. لذا سأحذر كثيراً من التسليم بما هو باطل. سأواجه كل الحيل التي يعمد إليها ذلك المخادع الكبير، حتى لا يتمكن (مهما يكن بأسه ومكره) ان ينيخني[78] لشيء أبداً.

13. في ان تحقيق هذا المطلب صعب للغاية.
لكن هذا المطلب شاق كثير العناء. وشيء من الكسل يجرفني، دون شعور مني، في سياق حياتي العادية. مثلي هنا مثل عبد يتلذذ في المنام بحرية موهومة. وإذ فطن إلى ان حريته ليست غير أضغاث أحلام، خاف ان يصحو من نومه، فطاب له ان يمالئ هذه الأوهام اللذيذة، ليطول أمد انخداعه بها. كذلك حالي: انجرف من تلقاء ذاتي، ودون وعي مني، في تيار آرائي القديمة، ولا أريد ان أصحو من غفوتي هذه، خشية ان أجد، بعد الراحة الهادئة، اليقظة الشاقة التي، بدل ان تجلب لي قليلاً من الوضوح والنور في معرفتي للحقيقة، تبان عاجزة عن تبديد كل ظلمات المصاعب الناشئة.

التأمل الثاني: في عناصر الأشياء المادية

1. يجب أن نعيد فحص الأشياء التي يخامرنا أدنى شك فيها، إلى ان نعثر على شيء ثابت.
غمرني تأمل البارحة بفيض من الشكوك، لم يعد باستطاعتي ان أمحوها من نفسي، ولا ان أجد مع ذلك سبيلاً إلى حلها. كأني سقطت فجأة في ماء عميق للغاية، فهالني الأمر هولاً شديداً، حتى أنني لم اقدر على تثبيت قدمي في القاع، ولا على العوم لتمكين جسمي فوق سطح الماء. رغم هذا سأبذل طاقتي للمضي أيضاً في الطريق التي سلكتها البارحة، مبتعداً عن كل ما قد يكون لدي أدنى شك فيه، كما لو كنت على يقين من انه باطل جداً. سأتابع السير في هذه الطريق حتى اهتدي إلى شيء ثابت. فإذا لم يتيسر لي ذلك، علمت علماً أكيداً، على الأقل، انه لا يوجد في العالم شيء ثابت.

2. وانه لفوز كبير إذا استطعنا ان نعثر على شيء واحد.
وهل كان أرخميدس يطلب غير نقطة ثابتة، لا تتحرك، لينقل الكرة الأرضية من مكانها إلى مكان آخر؟ كذلك أنا فانه يحق لي ان أعلل النفس بأكثر الآمال، إذا أسعدني الحظ وعثرت على شيء ثابت، لا شك فيه.

3. إذن ينبغي لنا ان نعتبر باطلاً كل ما عرفناه عن طريق الحواس.
سأفترض، إذن، ان جميع الأشياء التي أرى، باطلة. وسأميل إلى الاعتقاد ان شيئاً لم يكن، قط، من كل ما تمثله لي ذاكرتي، المليئة بالأغاليط. سأحسب اني خلو من الحواس. سأحسب ان الجسم، والشكل، والامتداد، والحركة، والمكان، ان هي الا أوهام نفسي. إذن أي شيء يمكن أن يكون صحيحاً؟ لعل شيئاً واحداً، لا غير، هو انه لا يوجد في العالم شيء ثابت.

4. لا نستطيع، ونحن على هذا الشك في كل شيء، أن نشك في أننا موجودون. ان هذه الجملة "أنا موجود" هي حقة جبراً.
لكن، ما يدريني، لعل هناك شيئاً آخر لا نستطيع الشك فيه، وهو يختلف عن الأشياء، التي حكمت منذ قليل أنها غير ثابتة؟ الا يوجد إله ما، أو قوة أخرى توحي إلى نفسي هذه الخواطر؟ هذا الاعتقاد ليس واجباً. فقد أحدثت تلك الخواطر من تلقاء نفسي. إذن ألست أنا شيئاً على الأقل؟ لكنني أنكرت، فيما تقدم، ان يكون لي حس... ان يكون لي جسم. مع ذلك أنا متردد. إذ ماذا ينتج عن كل هذا؟ هل يبلغ ارتباطي بالجسم، والحواس، مبلغاً لم يعد بإمكاني ان أكون موجوداً، الا بالجسم والحواس؟ الا انني كنت قد اقتنعت، قبلاً، انه لا يوجد في العالم شيء، على الإطلاق، لا سماء، ولا أرض، ولا نفس، ولا أجسام، وبالتالي قد اقتنعت انني لست موجوداً كذلك؟ كلا. أنا موجود بلا ريب، لأنني اقتنعت، أو لأنني فكرت بشيء، ولكن، لا أدري، قد يكون هناك مُضِلٌّ شديد القوة، والمكر، يبذل كل مهاراته لتضليلي دائماً. إذن، ليس من شك في اني موجود، إذا أضلني. فليضلني ما يشاء. أنه عاجز، أبداً، عن ان يجعلني لا شيء، ما دمت أفكر انني شيء. من هنا ينبغي لي ان اخلص، وقد رويّت الفكر، وأمعنت النظر في جميع الأشياء، إلى ان هذه القضية "أنا كائن، أنا موجود" هي قضية صحيحة جبراً، في كل مرة انطق بها، أو وأتذهنها.

5. ما دمنا واثقين اننا موجودون، يترتب علينا ان نبحث أي شيء نحن.
الا انني لا أعرف، بوضوح كاف، أي شيء أنا، الذي ثبت عندي اني كائن. من اجل هذا يجب، منذ الآن، ان انتبه جيداً كي لا يشتبه الأمر علي، فآخذ شيئاً على انه أنا، وأضِلُ هكذا عن الصواب، حتى في تلك المعرفة التي أرى انها اكثر يقيناً، وبداهة، من كل معارفي السابقة.

6. لذلك يحسن بنا ان نعيد النظر في ما كنا نعتقد به سابقاً.
لذلك سأعيد النظر الآن، من جديد، في ما كنت اعتقد به، قبل ان تخالجني هذه الخواطر الأخيرة. سأستبعد من آرائي القديمة، كل ما يمكن ان تزعزعه أسباب الشك، التي ذكرتها آنفاً، كي لا يبقى الا ما يقينه تام. فماذا كنت اعتقد؟ كنت اعتقد، صراحة، انني إنسان. ولكن ما هو الإنسان؟ هل أقول انه حيوان عاقل؟ كلا. إذ يضطرني هذا إلى ان ابحث، بعد ذلك، في ما هو الحيوان وما هو العاقل، فأنزلق هكذا من سؤال واحد إلى الخوض، بلا وعي، في أسئلة أخرى اشد صعوبة وتعقيداً. وأنا غير قادر على مضيعة ما لي من وقت وفراغ في محاولة الكشف عن مثل هذه الصعوبات. أؤثر ان انظر ههنا في الخواطر، التي ولدها ذهني، والتي استمدها من طبيعتي وحدها، حين عكفت على البحث في كياني. حسبت، أولاً، ان لي وجهاً، ويدين، وذراعين، وكل ذلك الجهاز المؤلف من لحم، وعظم، على نحو ما يبدو في جسم الإنسان، وهو الذي كنت أدل عليه باسم البدن. حسبت أيضاً انني أتغذى، وامشي، وأحس، وأفكر، ناسباً للنفس جميع هذه الأفعال.

وسواء بحثت مطولاً في ماهية النفس، أو لم ابحث، فقد كنت أتصورها شيئاً نادراً، ولطيفاً جداً، كريح، أو شعلة، أو نسيم رقيق للغاية، وقد اندس، وانتشر في اخشن أعضائي. أما الجسم فما شككت يوماً في طبيعته، بل كنت أظن اني اعرفه معرفة متميزة. ولو أردت شرحه، وفق المعاني التي كانت في ذهني، لشرحته على النحو التالي: الجسم هو كل ما يمكن ان يحده شكل. هو كل ما يمكن ان يتحيز فيحتويه مكان، مقصياً هكذا عنه مطلق جسم آخر. هو كل ما يمكن ان يحس، اما باللمس، أو البصر، أو السمع، أو الذوق. هو كل ما يحركه، في اتجاهات عديدة، شيء خارجي، يمسه، ثم يترك أثراً فيه. ذلك لأنني لن اعتقد يوما، ان القدرة على التحرك من الذات، وعلى الإحساس والتفكير من الذات، أمور تعود إلى طبيعة الجسم. بالعكس، لقد كان يدهشني ان أرى مثل هذه القوى حادثة في بعض الأجسام.

7. في اننا لسنا، من كل ما اعتقدناه قبلاً، سوى بالضبط شيء يفكر.
لكن أنا من أكون أنا، وقد افترضت الآن وجود من يبذل كل ما أوتي من قوة، ومهارة في سبيل تضليلي، وهو شديد السطوة، والمكر، والدهاء؟ هل أستطيع التأكيد انني أملك صفة واحدة، من جميع الصفات، التي نسبتها قبلاً لطبيعة الجسم؟ لقد فكرت ملياً في الأمر، أجلت ذهني حول هذه الصفات، مثنى، وثلاث، فلم أجد منها شيئاً، يصح القول بأنه من خصائص نفسي. إذن لا حاجة إلى تعدادها. ولننتقل إلى صفات النفس. ولنتساءل عما إذا كنت املك إحداها. أول ما أوردنا من هذه الصفات، هو التغذي والمشي. لكن، إذا صح ان لا جسم لي، صح ان لا تغذِ لي ولا مشي. ثم أوردنا صفة ثانية من صفات النفس، هي الإحساس. لكن، لا إحساس بدون جسم، وان اعتقدت فيما سلف انني أحسست، نائماً، بأشياء كثيرة. ألم يتبين لي، بعد اليقظة، انني لم أحس بها؟ ثم أوردنا صفة ثالثة، من صفات النفس، هي الفكر. هنا أجد ان الفكر صفة تخصني. هي وحدها لصيقة بي. أنا موجود. هذا أمر ثابت. لكن كم من الوقت؟ ما دمت أفكر. إذا انقطعت عن التفكير، انقطعت ربما عن الوجود، انقطاعاً خالصاً. اسلم الآن جبراً بشيء صحيح. أنا شيء يفكر... أي أنا روح، أو إدراك، أو عقل. وهي ألفاظ كنت اجهل معناها من قبل. فأنا، والحالة هذه، شيء صحيح وموجود حقاً. لكن أي شيء أنا هو؟ لقد قلته. انني شيء يفكر. وماذا بعد؟ هنا استحث خيالي، أيضاً، علني اعثر على ما هو اكثر من كائن يفكر. جلي اني لست تلك المجموعة من الأعضاء، التي سميت بدنا. ولست هواء رقيقاً، لطيفاً، منتشراً في جميع تلك الأعضاء. ولست ريحاً، ولا نسمة، ولا بخاراً ولا شيئاً من كل ما أستطيع ان أتخيل، وأتصور. ألم افترض أن كل ذلك ليس موجوداً؟ رغم صحة هذا الافتراض، ما زلت موقناً انني موجود.

8. في ان كل ما ندركه بواسطة الخيال لا يخص تلك المعرفة التي لدينا عن ذاتنا.
لكن، ما يدريني، فقد تكون هذه الأشياء عينها (وأنا افترض انها غير موجودة لأنني أجهلها) غير مختلفة حقاً عن نفسي التي اعرف. لست ادري. ولا أجادل الآن في هذا. حسبي ان لا احكم الا على الأشياء التي اعرف. ولقد عرفت اني موجود. يبقى ان ابحث في الوجود، الذي هو وجودي، أنا العارف اني موجود. ومن الثابت ان معرفتي لذاتي، بمعناها ذلك، لا تعتمد على الأشياء التي لم أعرف وجودها بعد، ولا على أي شيء من الأشياء التي أستطيع ان تصورها بالمخيلة. ان في لفظتي التصور والتخيل، ما ينبهني إلى خطأي، لأنني أتوهم بالواقع حين أتخيل اني شيء، إذ التخيل تأمل في صورة، وان تلك الصور (وكل ما يتعلق عموماً بطبيعة الجسم) قد يكون أحلاماً وتخيلات. وهكذا يتبين لي، عندما أقول " سأستحث خيالي لأعرف ماهيّتي معرفة أوضح" انني لست اكثر صواباً مني عندما أقول "أنا الآن مستيقظ. واني أدرك بالبصر شيئاً واقعياً حقيقياً. ولما كنت لا أراه بعد، بوضوح كاف، فسأنام قصداً لتمثله لي أحلامي بمزيد من الوضوح والبداهة". إذن لا شيء من كل ما تستطيع مخيلتي ان تحيطني به، اعرفه كتلك المعرفة التي لدي عن نفسي. علينا، والحالة هذه، ان ننشط الذهن بصرفه عن هذا التصور، ليتمكن من ان يعرف طبيعته معرفة متميزة كل التميز.

9. في ما هو الشيء الذي يفكر.
إذن أي شيء أنا؟ أنا شيء يفكر. وما هو الشيء الذي يفكر؟ هو شيء يشك، ويتذهن، ويثبت، وينفي، ويريد، ويرفض، ويتخيل أيضاً، ويحس. حقاً ليس بالأمر القليل ان تكون كل هذه الأشياء من خصائص طبيعتي. ولكن لم لا تكون من خصائصها؟ الست أنا ذلك الشخص عينه، الذي يشك الآن في كل شيء، على وجه التقريب؟ وهو، مع هذا، يدرك بعض الأشياء، ويتذهنها، ويؤكد انها الصحيحة وحدها، وينكر سائر ما عداها، ويريد، ويرغب في ان يعرف غيرها، ويأبى ان يخدع، ويتخيل أشياء وأشياء، رغم إرادته أحياناً، ويتحسس الكثير منها أيضاً، بواسطة أعضاء الجسم؟ هل يوجد بين كل هذا ما يعادل في صحته اليقين بأني كائن موجود، على الدوام، حتى وان كنت نائماً، وكان الذي منحني الوجود يبذل وسع مهارته في سبيل تضليلي؟ وهل توجد صفة، من هذه الصفات، يمكن تمييزها من فكري، أو القول انها منفصلة عني؟ بديهي انني أنا هو الكائن الذي يشك وأنا هو الكائن الذي يدرك. وأنا هو الكائن الذي يرغب. لا حاجة إلى شيء آخر من اجل إيضاحه. لدي قدرة أيضاً على التخيل. هذه القدرة (وان كنت قد افترضت، سابقاً، ان كل الأشياء التي أتخيلها ليست حقيقية) لا تعرى عن الوجود في، كجزء دائم من فكري. وأخيراً، أنا هو الشخص عينه الذي يحس، أي الذي يدرك أشياء معينة بواسطة الحواس، ما دمت بالواقع أرى ضوءاً، واسمع دوياً، وأحس بحرارة. إذا قيل ان هذه المظاهر زائفة، وانني أنام، أجبت بأنه ثابت (على الأقل عندي) اني أرى ضوءاً، واسمع دوياً، وأحس بحرارة. هذا لا يمكن ان يخرج عن كونه تفكيراً. من هنا بدأت اعرف أي شيء أنا، بقدر من الوضوح والتمييز، يزيد قليلاُ عما كنت اعرف من قبل.

10. ما الذي يحدونا على الاعتقاد اننا نعرف الأشياء الجسمية اكثر مما نعرف هذا الشيء المفكر.
لكن لا بد لي أيضاَ من القول انني اعرف، معرفة متميزة، الأشياء الجسمية التي تتكون صورها بالفكر، وتقع تحت الحواس، اكثر مما اعرف ذلك الجزء من نفسي، الذي ادري ما هو، والذي لا يقع تحت الخيال. اجل، من الغرابة جداً ان اشك في وجود أشياء، هي ليست واضحة عندي ولا مختصة بي، ثم أقول اني اعرفها وافهمها، بشكل أوضح واسهل، مما أعرف وافهم الأشياء الحقيقية الثابتة، التي هي معروفة لدي ومختصة بي. الا ان الأمر قد انجلى في نظري. النفس يحلو لها ان تضل السبيل، لأنها تنفر من الانضباط في حدود الحقيقة. لنطلق لها العنان، إذن، مرة أخرى. ولنترك لها كل الحرية. ولنفسح لها مجال الإمعان في الأشياء الخارجية.

11. لننظر في معرفتنا الأشياء الحسية على ضوء مثل قطعة من الشمع.
لنبدأ الآن بالنظر في الأشياء العادية، التي تتراءى لنا معرفتها انها ايسر من غيرها، اعني الأجسام الملموسة المنظورة. ولا اقصد كل الأجسام. هذه المفاهيم العامة كثيراً ما تستبهم علينا. لنقتصر منها على جسم معين ننظر فيه. لنأخذ، مثلاً، هذه القطعة من الشمع، ولم يمض على استخراجها من القفير غير زمن قصير. هذه القطعة لم تفقد بعد حلاوة العسل الذي تحتويه. ولم تفقد كل أريج الزهور التي اقتطفت منها. فلونها، وحجمها، وشكلها، أشياء ظاهرة للعين. هي جامدة، باردة تتناول باليد. إذا نقرت عليها خرج منها صوت. وهكذا نجد فيها، جملة، جميع الأشياء التي تجعلنا نعرف بها الجسم معرفة متميزة.

12. في ان كل ما نعتقد اننا نعرفه بتمييز في هذه القطعة من الشمع لا يقع تحت الحواس.
لكن، بينما أنا أتكلم، إذا بها توضع قرب النار، فيتطاير ما بقي من طمعها، وتتلاشى رائحتها، ويتغير لونها، ويذهب شكلها، ويزيد حجمها، إذ تصير من السوائل، وتسخن حتى يكاد لمسها يصعب، فلا ينبعث منها صوت، مهما تنقر عليها. أتزال الشمعة هي ذاتها بعد هذا التغيير؟ الحق انها باقية. ولا أحد يستطيع ان ينكر ذلك أو يحكم حكماً مخالفاً. إذن ما هو الشيء، الذي كنا نعرفه، في قطعة الشمع، معرفة متميزة؟ لا شيء، يقيناً، من كل ما لاحظته فيها، عن طريق الحواس، ما دام الذي وقع منها تحت حواس الذوق، أو الشم، أو البصر، أو اللمس، أو السمع، قد تغير كله، في حين ان الشمعة ذاتها باقية. قد يكون الأمر كما أراها الآن. اعني ان هذه الشمعة ليست تلك الحلاوة التي في العسل، ولا ذلك الأريج الزكي الذي يفوح من الأزهار، ولا ذلك البياض، ولا ذلك الشكل، ولا ذلك الصوت. وإنما هي جسم كان يلوح لي، منذ قليل، محسوساً به في هذه الصور، وهو الآن محسوس به في صور أخرى. ولكن ما هو، بالتدقيق، الشيء الذي أتخيله، حين اتذهن الشمعة على هذا النحو؟ فلننظر في الأمر بإمعان، ولنستبعد كل ما ليس من خواص الشمعة، كي نرى ما يتبقى بعد ذلك. الذي يتبقى منها حقاً هو شيء ممتد لين متحرك. ولكن ما معنى اللين والمتحرك؟ أليس معناه انني أتخيل قطعة الشمع المستديرة، قابلة لأن تصير مربعة أو مثلثة؟ الأمر ليس كذلك بته: لأن الشمعة قابلة لعدد لا يحصى من هذه التغييرات، التي لن أدركها بخيالي. وهو دليل إلى ان تذهني لها ليس ثمرة المخيلة.

13. في اننا نعرف، بالإدراك وحده إذن، ما هي هذه القطعة من الشمع.
فما هو ذلك الامتداد إذن؟ ألا أجهله أيضاً؟ انه يزيد فاكثر عندما ترتفع حرارتها. فأنا لا اتذهن، تذهناً واضحاً ومطابقاَ للحقيقة، ماهية الشمعة، إذا كنت لا افترض انها تأخذ، وفقاً للامتداد، أنحاء شتى لم تخطر قط بخيالي. إذن لا بد من القول بان خيالي عاجز عن ان يعرف ماهية هذه القطعة من الشمع. الذي يعرفها هو إدراكي وحده. أتحدث خاصة عن هذه القطعة من الشمع، إذ ان أمر الشمع بصورة عامة هو أيضاً اكثر بداهة. ولكن ما هي قطعة الشمع تلك، التي لا يمكن تذهنها الا بالإدراك أو بالروح؟ يقيناً انها ذاتها التي أراها، وألمسها، وأتخيلها، هي ذاتها التي عرفتها منذ البداية. غير ان ما يجب إيضاحه هو ان إدراكي إياها لم يعد إبصاراً، أو تلمساً، أو تخيلاً. هو ليس شيئاً من ذلك، مطلقاً، وان كان قد بدا انه كذلك من قبل. وإنما هو لمعة من لمعات الروح، قد تكون ناقصة ومبهمة كما بدت سابقاً، أو واضحة متميزة كما هي الآن، وفقاً لدرجة انتباهي إلى العناصر، التي تشتمل عليها الشمعة والتي تتألف منها.

14. لِمَ يصعب الإجماع على هذه الحقيقة؟
لا اعجب كثيراً حين ألاحظ ما في إدراكي من ضعف، وميل، يجعلانه عرضاً للخطأ، عن غير وعي. ذلك لأن الألفاظ تصدني، وان كنت أجيل هذا كله في ذهني، دون ان أتكلم. العبارات الجارية تكاد تخدعني. فنحن نقول بأننا "نرى" الشمعة ذاتها حين تكون أمامنا، ولا نقول بأن "نحكم" عليها هي عينها، لأن لها لون الشمعة ذاته وشكلها ذاته. لذا نكاد نستنتج اننا نعرف الشمعة بالعينين، لا بمعرفة الروح وحدها. لو نظرت مصادفة من النافذة، وشاهدت رجالاً يسيرون في الشارع، لقلت عند رؤيتي لهم اني أرى رجالاً بعينهم، كما أقول اني أرى شمعة بعينها. ولكن هل أرى بالواقع من النافذة قبعات، ومعاطف، قد تكون أغطية لآلات صناعية تحركها لوالب؟ مع ذلك احكم انهم ناس. إذن أنا أدرك، بمحض ما في ذهني من قوة الحكم، ما كنت احسب اني أراه بعيني.

15. ... التي تثبت ان لنا روحاً؟
ينبغي لمن يحاول الارتفاع إلى معرفة، تجاوز مرتبة العامة، ان لا يلتمس في صيغ الكلام، التي ابتدعتها تلك العامة، الا مواطن شك. ولكن أؤثر ان اضرب صفحاً عن ذلك. الأفضل ان انظر هل كان تذهني لماهية الشمعة (حين أدركتها بالحس، وظننت اني اعرفها بطريق الحواس الخارجية، أو على الأقل بالحس المشترك، كما يقولون، أي بالمخيلة) هل كان تذهني اكثر بداهة وكمالاً من تذهني لها، الآن، بعد ان بذلت عناية اشد في البحث عن ماهيتها، وعن السبيل إلى معرفتها؟ من السخف،حقاً ان نضع هذا الأمر موضع الشك. إذ ماذا كان في إحساسي الأول من تمييز؟ ماذا كان فيه ما لا نستطيع ان نجده في حس اقل الحيوانات؟ لكن حين أميز الشمعة من صورها الخارجية، وأتأملها عارية، كما لو كنت قد جردت عنها ثيابها، فمن المحقق اني لا أتمكن، وان وقع بعض الخطأ في حكمي، ان اتذهنها على هذا النحو دون الاستناد إلى روح إنسانية.

16. في اننا نعرف هذه الروح اكثر مما نعرف أي شيء آخر.
لكن ما عساي أقول أخيراً عن هذا الذهن، أي عن ذاتي، ما دمت لا اسلم حتى الآن ان فيها شيئاً آخر غير الروح؟ اجل، ماذا تكون الأنا، التي تتذهن قطعة الشمع، بمثل هذا الوضوح والتمييز؟ إذا كنت احكم بأن الشمعة كائنة أو موجودة، لأنني أراها؟ قد لا يكون شمعاً هذا الذي أراه. وقد لا يكون بي عينان ابصر بهما شيئاً. لكن لا يمكنني، أنا الذي أفكر، ان لا أكون شيئاً، حين أرى أو أظن اني أرى (لا فرق). كذلك إذا حكمت بوجودها، عن طريق خيالي، أو أية علة أخرى، كائنة ما كانت، فأنا استنتج دائماً انني موجود. والذي أقوله عن الشمعة، الآن، يجري حكمه على كل الأشياء الخارجية، الواقعة خارج نفسي.

17. في ان الأشياء التي تتعلق بالجسم، أي الحسية جداً، لا تستحق ان يقام لها وزن.
فإذا كان مفهوم الشمعة، أو إحساسي بها، قد وضح اكثر من قبل، وانجلى، ليس فقط بفضل النظر، واللمس، وإنما بفضل أسباب عديدة أخرى، نقحت هذا المفهوم لدي، فكم ينبغي القول بالأحرى، انني اعرف ذاتي الآن معرفة اشد بداهة، ووضوحاً، وتميزاً، ما دامت كل الأسباب (التي تساعد على ان نعرف، ونتذهن، طبيعة الشمعة أو مطلق جسم آخر) تثبت لي اكثر أيضاً طبيعة روحي. وفي الذهن أشياء عديدة أخرى تسهم في إيضاح طبيعة الروح، عدا الأسباب المتعلقة بالجسم، كتلك التي أشرت إليها، والتي لا تستحق الذكر حتى.

18. إذن ليس أهون من ان نعرف ذواتنا.
وأخيراً هاأنذا أعود، من حيث لا اشعر، إلى ما كنت أريد. لقد تبين لي، الآن، ان الأجسام ذاتها لا تُعرف حقاً بالحواس، أو بالقوة المخيلة، وإنما بالإدراك وحده. هي لا تُعرف لأنها تُرى، وتُلمس، بل لأنها تُفهم، أو تُدرك بالذهن. وهكذا اتضح لي انه ما من شيء هو عندي أيسر وأجلى معرفة من نفسي. لكن ليس هيناً ان نتخلص، بمثل هذه السرعة، من رأي ألفناه طويلاً. لذا يجدر بي ان اقف وقفة قصيرة حول ذلك الموضوع، حتى أتمكن بالتأمل الممعن ان ارسخ، في ذاكرتي، هذه المعرفة الجديدة.

من التأمل الثالث: في العالم المرئي
17. في ان الفكر، الذي هو جوهر الذهن، يتميز حقاً من الجسم.
أولاً، لما كنت اعرف ان جميع الأشياء، التي اتذهنها بوضوح، وتمييز، يمكن لله ان يوجدها على نحو ما اتذهنها، فيكفي ان اتذهن شيئاً بدون شيء آخر، حتى أتأكد أن الشيئين متميزان أو متغايران. إذ من الممكن ان يوجدا منفصلين على الأقل بقدرة الله الواسعة. ولا أهمية لمعرفتي بأية قوة يحصل هذا الانفصال كي اضطر إلى الحكم عليهما بانهما متغايران. وإذا انطلقت من تأكيد معرفتي اني موجود، وان شيئاً آخر لا يخص طبيعتي، أو جوهري، سوى اني شيء يفكر، جبراً، استطعت القول بان جوهري محصور في اني شيء يفكر، أو اني جوهر كل ماهيته أو طبيعته ان يفكر، ليس إلا. وعلى الرغم من انه قد يكون، بل يجب، كما سأبينه، ان يكون لي جسم اتصلت به اتصالاً وثيقاً، فلدي فكرة واضحة متميزة عن نفسي، باعتبار اني لست إلا شيئاً مفكراً لا شيئا ممتداً، ولدي أيضا فكرة متميزة عن الجسم، باعتبار انه ليس الا شيئا ممتدا لا شيئاً مفكراً. لذا ثبت عندي ان هذه الأنا، أعني نفسي التي بها أكون أنا من أنا، تتميز عن جسمي تمييزاً تاماً حقيقياً. هي قادرة على ان تكون أو ان توجد بدونه.

18. كيف ان ملكتي الحس والتخيل تخصان الذهن.
فضلاً عن ذلك، أجد فيّ ملكتين من ملكات الفكر، خاصتين جداً، متميزتين عني، هما ملكة التخيل والحس، اللتان أستطيع بدونهما ان اتذهن نفسي، بتمامها، تذهناً واضحاً متميزاً، ولكني لا أستطيع ان اتذهنهما موجودتين بدوني، أي بدون جوهر عاقل يرتبطان به. لان المعنى، الذي لدينا عن هاتين الملكتين، أو (إذا جاز التعبير كما اصطلح المدرسيون) لأن مفهومهما الصوري يحتوي على شيء من التعقل. لذا اتذهنهما متميزتين عني، على غرار الأشكال، والحركات، وباقي الأحوال، والأعراض في الأجسام، متميزتين عن الأجسام ذاتها، والتي هي سند لها.

19. ان ملكة التنقل من مكان إلى مكان، وملكة اتخاذ أوضاع متنوعة، وملكات أخرى، تخص الجسم لا الذهن. وانه يوجد، خارج أنفسنا جوهر قادر على ان يولد فينا الأفكار عن الأشياء الحسية.
واجد فيّ أيضاً ملكات أخرى، كملكة التنقل من مكان إلى مكان، وملكة اتخاذ أوضاع كثيرة، وما شابه ذلك من ملكات لا يمكن تذهنها، ولا تذهن الملكتين السابقتين، بدون جوهر ترتبطان به، أو تتواجدان بمعزل عنه. الا ان هذه الملكات، إذا صح كونها موجودة، ينبغي ارتباطها بجوهر جسماني، أو ممتد، لا بجوهر متذهَّن. لأن مفهومها الواضح المتميز ينطوي على نوع من الامتداد لا على تذهن. يضاف إلى ذلك ما في من ملكة حس منفعلة، أي من ملكة وظيفتها ان تتلقى، وتعي الأفكار عن الأشياء الحسية.





ترجمة: د. كمال الحاج

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:51 PM

هوامش ديكارت :
الهوامش :

[1] في الأصل: (Le bon sens)، أو العقل، وهو القوة اللازمة لإجادة الحكم، أي لتمييز الحق من الباطل.

[2] الإنسان يشتكي من ضعف ذاكرته ولا يشتكي من ضعف عقله، لأن كل إنسان بعقله معجب.

[3] إن عنوان مقالة الطريقة يشير إلى ذلك، لأن الغرض منها حسن قيادة العقل، فإذا سلك الناس جميعاً هذه الطريقة، وأحكم كل إنسان توجيه عقله، تناقص الفرق بين الأذهان.

[4] وهم كلما طالعوا كتب أرسطو، وتوهموا أنهم علماء، ازدادوا بعداً عن العلم الحقيقي.

[5] العقل هو الفصل الذي يميز نوع الإنسان من الأنواع الأخرى المندرجة تحت جنس الحيوان، والإنسان هو الحيوان الناطق، فالحيوان جنسه والناطق فصله.

[6] يعني فلاسفة القرون الوسطى.

[7] الأعراض (accidents): جمع عرض، وهو ما لا يقوم بذاته، أي ما يعرض في الجوهر من الصفات، مثال ذلك أن الكتابة عرض لأن الإنسان يبقى إنساناً بعد ارتفاع هذه الصفة عنه.

[8] الجوهر مؤلف من صورة ومادة، وصورة الإنسان هي نفسه، ومادته جسده.

[9] أي في مدرسة لافليش.

[10] مثال ذلك: قواعد الجدل، وقواعد الخطابة، وغيرها.

[11]ريمون لول (Raymond Lulle) راهب فرنسيسكاني (1235-1315)، وهو مؤلف كتاب "الصناعة" المشتمل على حقيقة المسيحية، والرد على منكريها، وقد بالغ تلاميذ لول في هذه الصناعة حتى قلبوها إلى آلة يبرهنون بها على كل شيء. ومما هو جدير بالذكر ان ديكارت اجتمع بأحد هؤلاء التلاميذ عام 1619 في نزل ب‍ "دوريخت" (Dordecht) فوجد لسانه أعلم من دماغه، لأنه كان يفتخر بأنه يستطيع أن يتكلم ساعة كاملة في كل موضوع، وانه يستطيع أن يجيئك في الساعة الثانية بكلام مضاد للأول في الموضوع نفسه، وهكذا دواليك.

[12] من هذه القواعد: قواعد القياس، وقاعدة الانتقال من المعلوم إلى المجهول، وقاعدة تقسيم المعضلات الخ..

[13] المقصود بتحليل القدماء الطريقة التي سلكها علماء اليونان لحل المسائل الهندسية، وهي مذكورة في الترجمة اللاتينية للمجموعات الرياضية التي ألفها بابوس. تقوم هذه الطريقة على فرض المسألة محلولة، وعلى البحث عن الشروط السابقة التي تجعل هذا الحل ممكناً، ولا تزال تنتقل من شرط سابق إلى شرط اسبق، حتى تنتهي إلى حقيقية برهانية، أو إلى مبدأ أول، فهي إذن ضد طريقة التركيب التي تنقل الفكر من المبادئ إلى النتائج.

[14] هو جبر كلافيوس (Clavius) الذي درسه ديكارت في مدرسة لافليش.

[15] الحكم تابع للإرادة، وما أوهامنا إلا عادات سيئة متأصلة في إرادتنا، فإذا أردنا أن نتحرر منها وجب علينا أن نريد ذلك، ونعزم عليه عزماً صادقاً، لا أن نتعلم قواعد الطريقة لا غير، لأن معرفة تطبيق الطريق لا تعصم من الإخلال بقواعدها الا إذا انضمت إليها الإرادة.

[16] تسمى القاعدة الأولى بقاعدة البداهة، والبديهي هو الأمر الذي تظهر حقيقته للعقل مباشرة، وهو مضاد: 1) للباطل، 2) للمحتمل القريب من الحقيقة. فقاعدة البداهة تخرج إذن من ميدان الفلسفة كل ما هو باطل ومحتمل. وتقتصر على الحقائق الضرورية.

[17] التعجل (precipitation): هو الحكم على الشيء قبل ان يصل العقل فيه إلى البداهة واليقين. والتشبث بالأحكام السابقة (prevention) هو أن يكون للمرء في بعض المسائل أحكام يتشبث بها قبل النظر فيها. وهذه الأحكام اما ان ترجع إلى زمن الطفولة، واما ان نأخذها عن غيرنا بالتقليد. ويسمى الرأي المبني على التشبث وهماً.

[18] وضوح الفكرة (clarity): هو الأثر الذي يحدثه إدراك تلك الفكرة إدراكاً مباشراً عندما تكون حاضرة في الذهن، وضده الغموض. وهو تذكر إدراكنا السابق لمضمون الفكرة، وكلما كان التذكر اكذب كان الغموض اشد.

اما تميز الفكرة distinction) ) فهو اشتمالها على جميع العناصر الخاصة بها، وعدم اشتمالها على أي عنصر لا يخصها. يقول ديكارت: "أعني بالمتميزة (distinct) الفكرة التي بلغ وضوحها واختلافها عن كل ما عداها انها لا تحوي في ذاتها الا ما يبدو بجلاء لمن ينظر فيها كما ينبغي" (مبادئ الفلسفة). وضد التميز الالتباس(confusion)، ويكون في الفكرة التباس بقدر ما يكون الإدراك الواضح لمضمونها مختلطاً بأفكار أخرى لم تدرك الا بغموض، وإذن لا يمكن ان تكون الفكرة متميزة من دون ان تكون واضحة، بل الفكرة التي لا تشتمل الا على عناصر واضحة لا تكون الا متميزة. ولكن الفكرة الواضحة قد تختلط بعناصر غير واضحة فتكون إذن واضحة من دون ان تكون متميزة.

[19] تسمى هذه القاعدة بفاعل التحليل (analysis).

[20] تسمى هذه القاعدة بقاعدة التركيب (synthesis).

[21] تكون الفكرة ايسر معرفة من غيرها عندما تكون متقدمة على غيرها في سلسلة الاستدلال. والفكرة الأيسر معرفة تكون في الوقت نفسه اكثر بداهة، فإذا كانت الفكرة (ب) متقدمة على الفكرة (ج) في سلسلة الاستدلال، كانت الأولى ايسر معرفة من الثانية، وأكثر منها بداهة ويقيناً، وأقرب منها إلى المبادئ الأولى.

[22] للفكر في سلاسل الاستنتاج مراتب، فالفكرة المتقدمة ابسط من المتأخرة، والمتأخرة أكثر تركيباً من المتقدمة، وبعض الفكر كفكرة الإله، والنفس، والجسم، التي لا يمكن إرجاعها إلى فكر أبسط منها تسمى بالطبائع البسيطة (natures simples). والقاعدة الثالثة من قواعد ديكارت توجب الابتداء بالطبائع البسيطة، والتدرج في الصعود شيئاً فشيئاً إلى الطبائع المركبة.

[23] تسمى هذه القاعدة بقاعدة الاستقراء أو الإحصاء، وهي تدعونا إلى ان نستوثق من اننا لم نغفل أي جزء من أجزاء المشكلة التي نريد حلها، وأن نستعرض جميع استدلالاتنا بحركة متصلة. يقول ديكارت: إذا كان لدي سلسلة من الروابط، فأنا لا أتستطيع ان أحيط بها كلها الا إذا تصفحتها مرات بحركة متصلة من حركات الفكر، بحيث إذا تصورت واحدة منها بالحدس انتقلت إلى أخرى، وإذا كان الانتقال سريعاً انقلب الاستنتاج إلى حدس.

[24] المعرفة الرياضية هي المثل الأعلى للمعرفة، ووحدة العلوم عند ديكارت لا تنفصل زمانياً ولا منطقياً عن شمول الطريقة الرياضية لجميع المعارف البشرية.

[25] عملاً بأحكام القاعدة الثالثة.

[26] ان المسائل الرياضية البسيطة تكفي لتعويد العقل مؤالفة الحقائق البديهية، شريطة ان يتمرن الذهن على حلها.

[27] كانوا يقسمون الرياضيات إلى رياضيات محضة (كعلم الحساب، والهندسة)، ورياضيات مختلطة (كعلم الفلك والموسيقى، والضوء الهندسي، والميكانيك)، ولكن ديكارت يرى ان هذه العلوم واحدة في نظر العقل وان اختلفت بحسب موضوعاتها.

[28] تقع النسبة بين الحدين عندما تستطيع ان تقول ان أحدهما مساوٍ للآخر أو أعظم منه أو أصغر.

[29] يتم هذا النظر بإدراك العلاقات البسيطة إدراكاً حدسياً مباشراً.

[30] يتم هذا الجمع بواسطة الذاكرة كما في حالة الإحصاء أو الاستقصاء.

[31] الخطوط ابسط من الأعداد، لأنك تستطيع ان تعبر بها عن جميع المقادير، اما الأعداد فانك لا تستطيع ان تعبر بها الا عن المقادير المشتركة للقياس، أضف إلى ذلك ان العلاقة الموجودة بين خطين لا تنحصر في هذين الخطين وحدهما، لأنها قد توجد بين سطحين، أو بين حجمين أيضاً.

[32] يعني برموز جبرية موجزة. وقد استعمل ديكارت حروف الهجاء للدلالة على الكميات المعلومة، واستعمل الحرفين (y,x) للدلالة على الكميات المجهولة، اما الإشارات الجذرية أو الشيئية التي كانوا يستعملونها إلى ذلك العهد للدلالة على القوة فقد استبدل بها ديكارت أرقاما كتبها فوق الحدود.

[33] ان الهندسة التحليلية التي اخترعها ديكارت بفضل طريقته تجمع بين مزايا الهندسة ومزايا الجبر.

[34] خلال شهر كانون الأول عام 1619، وشهري كانون الثاني وشباط عام 1620.

[35] يرى ديكارت، مع الرواقيين، ان السعادة تقوم على إرضاء الرغبات، وعلى الاعتقاد ان رغباتنا التي لا سبيل إلى إرضائها مخالفة للعقل. ومن المزايا التي انفرد بها قوله ان السلوك العملي، والمنهج العقلي، شيء واحد، وان اكتساب الحقيقة شرط أساسي للسعادة، ويكفي ان يفرق المرء بين ما يستطيع إدراكه وما لا يستطيع إدراكه من الحقائق، وان يسعى لامتلاك ما هو داخل منها في نطاق إدراكه، حتى يدرك الخير الحقيقي.

[36] وخصوصاً علم الطبيعيات.

[37] يعني البدء بأبسط الأمور، وترتيب الأفكار.

[38] ولد ديكارت في 31 آذار عام 1596 وكان عمره يوم أنهى تأملاته في الغرفة الدافئة بألمانيا (أي قبل نهاية شتاء 1619 -1620) أربعة وعشرين عاماً.

[39] هذا التمرين ضروري، لان الطريقة إنما تكتسب بالعمل لا بالنظر.

[40]يشتمل هذا القسم على خلاصة التأملات الفلسفية، التي بدأ ديكارت بوضع أصولها خلال الأشهر التسعة التي أعقبت عودته إلى هولندا (تشرين الثاني 1628 - تموز 1629).

[41] اقتبس ديكارت هذه الحجج من الريبيين، واتخذها أساساً لهدم كل معرفة حسية. اما المعرفة العقلية، كمعرفتنا بذاتنا المفكرة، فان هذه الحجج لا تنال منها شيئاً.

[42]يعني بذلك: أفرض. وهذا التعبير يدل على ان شك ديكارت إنما هو شك مقصود اصطنعه لنفسه بحرية في سبيل الوصول إلى اليقين.

[43]قال ديكارت في مبادئ الفلسفة: "من التناقض ان نفرض ان المفكر لا يوجد في الوقت الذي هو فيه يفكر"، وقال أيضاً: "اننا لا نستطيع ان نفترض اننا غير موجودين حين نشك في جميع الأشياء". وتسمى قاعدة ديكارت هذه "أنا أفكر، إذن أنا موجود" (cogito ergo sum) بالكوجيتو، وهي في نظره حقيقة بديهية. ولكي تكون الحقيقة بديهية، يجب ان تكون في معزل عن الشك، والكوجيتو هو، على حد تعبير ديكارت، "أوثق الحقائق والمبادئ التي تعرض لمن يقود أفكاره بترتيب" (مبادئ الفلسفة)، بل الشك فيه برهان عليه، لأن الشك يستلزم التفكير، والتفكير يقتضي الوجود. وهذا الكوجيتو الديكارتي لا يخلو من موافقة لبعض أقوال القديس اوغسطين الذي قال في رده على الريبيين: إذا أراد المرتاب أن يفكر، فيلزمه، وإن اخطأ، أن يكون موجوداً، ان يعرف انه موجود: "إذا أخطأت فأنا موجود" (اوغسطين، مدينة الله). ولكن ديكارت استخدم الكوجيتو في غير ما استخدمه فيه القديس اوغسطين. ان بداهة الكوجيتو عنده ترجع إلى القول ان تجمع أسباب الشك لدي لا تزيدني الا وثوقاً بصحة وجودي، لأنني لا أستطيع ان اشك الا إذا كنت موجوداً: إذا شككت فأنا موجود.

[44] ان الكوجيتو مبدأ أول، لأن التصديق به لا يحتاج إلى أي مبدأ آخر، في حين ان التصديق بجميع المبادئ الأخرى يستلزم أولاً التصديق بالكوجيتو. ولقد أخطأ غسندي في زعمه ان الكوجيتو قياس منطقي حذفت مقدمته الكبرى، وهي "كل من فكر فهو موجود"، فكان الكوجيتو قياس على الوجه الآتي: كل من فكر فهو موجود، وأنا أفكر، إذن أنا موجود، وهذا خطأ، لأن لفظ "إذن" لا يقتصر في الكوجيتو على ربط النتيجة بالمقدمة، بل يشير هنا إلى ما بين الفكر والوجود من صلة وثيقة، ونحن ندرك هذه الصلة بالحدس لا بالقياس. فالأصل في الكوجيتو ليس إذن هذه القضية العامة: "كل من فكر فهو موجود"، وانما هو الإدراك المباشر للصلة الوثيقة التي بين الفكر والوجود.

[45] ان اليقين الأول الذي استخرجه ديكارت من الكوجيتو هو وجود النفس، واستقلالها عن البدن.

[46]وبعبارة أخرى: إذا كنت أفكر فأنا موجود، حتى لو كان العالم الخارجي غير موجود. ... إن الذي يقود فكره بترتيب يعلم إذن ان وجود الفكر مستقل عن وجود الجسم.

[47] ان في نفوسنا ظواهر نفسية كثيرة، فنحن نشك، وننفي، ونريد، ونحس، ونتخيل، وجميع هذه الظواهر نشترك جميعاً في نسبتها إلى الجوهر المفكر. والجوهر المفكر هو النفس، أما الجوهر الممتد فهو الجسم.

[48]ان القاعدة الأولى من قواعد ديكارت توجب علينا ان لا نصف الأشياء الا بما نجده فيها واضحاً ومتميزاً، ونحن نعلم ان الجوهر الذي ندركه بقولنا: نحن نفكر، لا يحتاج في تحديده إلى الجسم، فالفكر متميز إذن عن الجسم تماماً. وهكذا كان تطبيق الطريقة الرياضية في علم ما بعد الطبيعة مؤدياً إلى القول بالمطابقة بين الماهية والوجود.

[49] ان النفس التي تشك تدرك ذاتها بطريق الشك، وهذا الشك يشعرها بأنها ناقصة، ولكن فكرة النقص هذه تفرض فكرة الكمال الذي يعوز النفس، فإدراك النفس لذاتها بالحدس يتضمن إذن فكرة الكمال، وهي الأصل الذي يستند إليه ديكارت في برهانه الأول على وجود الله.

[50] ليست الأشياء الخارجية الا جواهر ممتدة ذات أشكال وأوضاع وحركات، وإذا كنت أنا نفسي جوهراً، فان لدي إذن ما أستطيع ان أؤلف منه معنى الجوهر وأحواله (modes) وبذلك تكون الأجسام الخارجية من لواحق طبيعتي.

[51] هذا مبدأ ديكارتي: الحق هو الوجود، والباطل هو العدم، وكل موجود فله علة، وعلى ذلك فإذا كانت الفكرة حقاً فلها بالضرورة علة.

[52] أي ليس اقل تناقضاً.

[53] إذا قلت: ان في المعلول شيئاً اكثر مما في العلة، كان هذا الشيء الزائد لا علة له، وإذا قلت أن الأكمل يحدث عن الأقل كمالاً، رجع قولك هذا إلى ان الشيء يحدث من لا شيء، وهذا خلف.

[54] أي اصطلاحات فلاسفة القرون الوسطى.

[55] هذا القسم من قوله: "لما رأيت ان هناك كمالات"، إلى قوله: "أتصور وجودها في الله" هو شرح ثان للدليل على وجود الله. وخلاصة هذا الدليل ان الإرادة تنزع حتماً إلى ما تظنه خيراً أعظم. انني ارغب في الكمال لأن لدي فكرة واضحة عن الكائن الكامل. ولكن لماذا لا أستطيع الحصول على جميع الكمالات التي أتصورها؟ ذلك لأنني لست خالقاً لوجودي، بل أنا أتابع لعلة هي اكمل مني، مشتملة على جميع الكمالات التي أتصورها، وهذه العلة هي الله.

[56] ان البرهان على وجود الله بالاستناد إلى فكرة الموجود الكامل ليس برهاناً على وجود الله فحسب، وانما هو الوسيلة الوحيدة التي تعين لنا في الوقت نفسه صفاته. فالله هو الموجود الكامل، الواحد، الأزلي، الدائم، المستقل بذاته، المحيط علمه بالأشياء، والمتصف بجميع الكمالات. وفكرة "الكامل" هي المعيار الذي تتوازن به سائر الصفات الأخرى.

[57] ذلك لان أجزاء المركب تابعة بعضها لبعض بالضرورة، ولأن الكل نفسه تابع بدوره للأجزاء التي يتألف منها.

[58] ان وجود الله هو الذي يضمن وجود العالم الخارجي، والله صادق لا يكذب، ولا يضلل، وصدقه هو العماد الوحيد لوجود الأشياء الخارجية.

[59] أي الملائكة بالمعنى المدرسي (أو السكولائي).

[60]كطبيعة الإنسان المؤلفة من اتحاد النفس بالجسم.

[61] يشير هنا إلى مبدأ الخلق المستمر (continuous creation).

[62] أي انه بعد أن برهن على وجود الله، وجود النفس وتميزها عن الجسم، سبر نمو فكره فاختار من محتوياته فكرة الامتداد الهندسي، وتناولها بالبحث.

[63] لانك لا تستطيع ان تتصور المكان الا محدوداً بمكان آخر.

[64] أي يوضع بعضها في محل بعض.

[65] لقد خلق الماهيات الهندسية كغيرها من الماهيات، وهو قادر على ان يبطلها ويخلق غيرها، اما طبيعته الكاملة فهي أثبت من جميع الحقائق، ويستحيل عليه ان ينفي عن نفسه الوجود، أو أن يجعل الخليقة مستقلة عنه.

[66] يقارن ديكارت هنا بين المفاهيم الهندسية ومفهوم الكائن الكامل، فيجد في هذه المقارنة دليلاً على وجود الله، وهو اننا نستطيع ان نتصور شكلاً هندسياً من دون أن نتصور وجود موضوعه خارج الذهن، في حين اننا لا نستطيع ان نتصور الكائن الكامل، أي الإله، من دون ان نتصوره موجوداً، لان الوجود كمال من الكمالات، ومن التناقض ان نفرض ان الكائن الكامل ينقصه كمال ما كالوجود. وقد سمي هذا الدليل بالدليل الانطولوجي (ontological argument)، أو الوجودي، لانه يستنتج الوجود من فكرة الكمال.

[67] ان الذين يألفون الإدراك الحسي يعجزون عن تمييز النفس من الجسد، وعن إدراك ضرورة وجود الله، فيبدو لهم أن النفس جسم دقيق، وأن وجود الله شبيه بوجود الأشياء المادية، مع أن الله انفرد بميزة لا يشاركه فيها شيء، وهي ان وجوده لازم عن ذاته. لا بل ان فكرته تجعلنا على يقين بوجود موضوعها خارج الذهن.

[68] هذه حكمة سكولائية: Nihil est in intellectu, quod non prius fuerit in sensu

[69] هذا نقد لفلسفة القديس توما الاكويبي الذي كان يقول ان عقولنا لا تدرك من حقيقة الإله والنفس اكثر مما تستطيع ان تصل إليه بطريق المعرفة الحسية.

[70] في الأصل (morale) أي ثقة خلقية، وأدبية، وهي الثقة الضرورية للنهوض بحاجات الحياة العملية، كثقتنا مثلاً بقواعد الأخلاق المؤقتة.

[71] في الأصل (metaphysique) نسبة إلى علم ما بعد الطبيعة، وهو اليقين الذي لا يقارنه إمكان الشك.

[72] قارن هذا القول بقول الغزالي في المنقذ من الضلال: "فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً، وأيدت أشكالها بالمنام، وقالت: اما تراك تعتقد في النوم أموراً، وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً، ولا تشك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم انه لم يكن لجميع تخيلاتك ومعتقداتك اصل وطائل... الخ"

[73] يفرق ديكارت بين نوعين من اليقين: الأول يسمى أدبياً، أي كافياً لتدبير أخلاقنا. وهو مساو في القوة ليقيننا بالأشياء التي ليس من عادتنا ان نشك فيها لتعلقها بسلوكنا في الحياة، مع اننا نعرف انها يمكن ان تكون باطلة: إن الذين لم يذهبوا البتة إلى روما لا يشكون في انها مدينة في إيطاليا... اما اليقين الثاني فهو اليقين الذي ندركه عندما نرى ان الشيء لا يمكن ان يكون على غير ما نحكم به عليه، وهذا اليقين يشمل جميع الحقائق المبرهن عليها في الرياضيات.

[74] ان هذا الكلام أثار المشكلة المشهورة في تاريخ الفلسفة باسم الدور الديكارتي ويلخص هذا الدور كما يلي: اننا أقمنا الدليل على وجود الله بالاعتماد على مبدأ البداهة، وهو أن كل ما نتصوره بوضوح وتميز حق. بعد ان تم لنا ذلك الدليل، عدنا إلى تصوراتنا، وقلنا ان ما نتصوره بوضوح وتميز لا يكون حقاً الا لأن الله موجود. فنحن قد استندنا إذن إلى سلطان البداهة في إثبات وجود الله، ثم استندنا إلى وجود الله في تأييد سلطان البداهة، وهذا دور.

[75] في الأصل (repugnance)، أي الاشمئزاز أو النفور.

[76] قارن هذا القول بقول الغزالي في المنقذ من الضلال: "وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على انه اكبر من الأرض في المقدار".

[77] ان هذا الاستدلال ليس منتجاً لانه قد يتأتى للمرء ان يكشف بعض الحقائق العلمية في النوم، وقد اعترف ديكارت نفسه بذلك.

[78] أي يفرض عليّ

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:52 PM

4- جون لوك - رائد الليبرالية الحديثة

جون لوك (John Lock) هو فيلسوف تجريبي ومفكر سياسي إنجليزي. ولد في عام 1632 في رنجتون (Wringiton) في إقليم (Somerset) وتعلم في مدرسة وستمنستر، ثم في كلية كنيسة المسيح في اكسفورد، حيث انتخب طالبا مدى الحياة، لكن هذا اللقب سحب منه في عام 1684 بأمر من الملك. وبسبب كراهيته لعدم التسامح البيورتياني عند اللاهوتيين في هذه الكلية، لم ينخرط في سلك رجال الدين. وبدلاً من ذلك اخذ في دراسة الطب ومارس التجريب العلمي، حتى عرف باسم (دكتور لوك).

وفي عام 1667 اصبح طبيباً خاصاً لأسرة انتوني آشلي كوبر (1621-1683) الذي صار فيما بعد الإيرل الأول لشافتسبري، ووزيراً للعدل، ولعب دوراً خطيراً في الأحداث السياسية العظيمة التي وقعت في إنجلترا ما بين ســنة 1660 وسنة 1680. لعبت علاقة لوك باللورد آشلي دوراً كبيراً في نظرياته السياسية الليبرالية. وكان اللورد آشلي يتمتع بنفوذ كبير في إنجلترا إذ كان يمثل المصالح السياسية لرؤوس الأموال التجارية في لندن، وتحت تأثير اللورد آشلي كتب لوك في عام 1667 مقالاً خاصاً بالتسامح (On Toleration) راجع فيه أفكاره القديمة الخاصة بإمكانية تنظيم الدولة لكل شؤون الكنيسة.

اعتقد الكثيرون لمدة طويلة ان لوك كتب اشهر مقالتين سياسيتين نشرتا في عام 1690 بعنوان "مقالتان عن الحكومة" (Two Treatises on Government) تأييداً لثورة 1688 الكبرى. وهناك وجهة نظر تقول إن المقالتين موجهتان ضد فيلمر (Filmer) وليس ضد هوبس كما كان يفكر البعض. وهاجر لوك إلى هولندا عام 1683 بسبب ملاحقة البوليس له، وذلك لاتصالاته الوثيقة باللورد آشلي، الذي كان معارضاً للقصر وبقي هناك حتى عام 1689، وفي هولندا كتب لوك عدة مقالات منها:

مقال خاص بالفهم البشري (Essay Concerning Human Understanding) وبعض الأفكار عن التربية وأخرى عن التسامح. وعندما جاءت الثورة الكبرى، استطاع لوك العودة إلى إنجلترا. وقد رفضت الجامعات القديمة فلسفته الحسية وآراءَه الليبرالية. ومع ذلك فقد عاصر شهرته الكبرى التي انتشرت في أنحاء العالم. وتوفي عام 1704.



لوك: مختارات من "مطارحتان في الحكم المدني"


من "المطارحة الثانية"
الفصل الأول
لا أظنني أحيد عن التسلسل الصحيح إذا تناولت بالبحث موضوع السلطة السياسية، عسى أن يتم تمييز سلطة الحاكم المدني على الرعية عن سلطة الأب على أبنائه، السيد على خدامه، الزوج على زوجته، والمالك على عبده. جميع هذه السلطات المميزة قد تلتقي في نفس الشخص أحيانا، هذا إذا نظرنا إليه من وجهة نظر هذه العلاقات المتباينة. قد يساعدنا أن نميز هذه السلطات عن بعضها البعض، وأن نبين الفرق بين حاكم الدولة، رب العائلة، وربان السفينة.

السلطة السياسية، في نظري، هي حق سن القوانين بشأن عقوبة الموت، وبالتالي، جميع العقوبات الأدنى منها، وذلك من أجل تنظيم وحماية الملكية، وهي أيضا حق استعمال قوة المجتمع في تنفيذ مثل هذه القوانين، وفي الدفاع عن الدولة من العدوان الخارجي. كل هذا سبيل الخير العام فقط.


الفصل الثاني
عن الحالة الطبيعية
لكي نفهم السلطة السياسية على الوجه الصحيح، ولكي نستمدها من مصادرها، لا بد من النظر إلى الحالة التي يعيشها الناس طبيعيا، وهي حالة من الحرية التامة في اختيار أعمالهم والتصرف بأشخاصهم وممتلكاتهم كما يرتأون، ضمن حدود قانون الطبيعة، وذلك دون استئذان، ودون الاعتماد على مشيئة أي شخص آخر.

وهي أيضا حالة تسودها المساواة، حيث تكون جميع السلطة والولاية متبادلة، ليس لأحد أكثر من الآخر. انه لغاية في الوضوح والجلاء ان نفس الجنس والمرتبة، والذين ولدوا دون تمييز للتمتع بخيرات الطبيعة ولاستعمال نفس الملكات، يجب أن يكونوا متساوين ودونما تبعية أو إخضاع. هذا الا إذا ولى رب العالمين (وبإعلان واضح عن مشيئته) أحدهم على الآخر، ومنحه (وبتعيين واضح وجلي) حقا غير مشكوك فيه للسيطرة والسيادة...

ومع أنها حالة من الحرية الا انها ليست حالة من الإباحية. فمع أن للإنسان في هذه الحالة حرية للتصرف بشخصه وممتلكاته، غير أنه ليس حرا في تدمير نفسه أو تدمير أي مخلوق بحوزته، الا إذا تطلب ذلك هدفا (أو استعمالا) أسمى من مجرد البقاء. ويحكم الحالة الطبيعية قانون طبيعي يلزم كل فرد. والعقل، وهو ذلك القانون، يعلّم البشر إذا أصغوا إليه، انه لكونهم جميعا متساوين ومستقلين، فلا يجوز لأحدهم أن يؤذي الآخر في حياته، صحته، حريته أو ممتلكاته: بما ان الناس جميعا من صنع خالق قدير وحكيم، وبما أنهم جميعا خدام سيد حاكم واحد، أرسلوا إلى الدنيا بأمر منه، فهم لذلك ملكه الخاص، وما صنعه من المفروض أن يدوم وفقا لمشيئته، وليس وفقا لمشيئة أي إنسان آخر. وبما أنهم مزودون بنفس المكان والقدرات ويتقاسمون كل شيء في مجتمع طبيعي واحد، فلا يمكن افتراض أية تبعية بينهم تجيز لهم تدمير بعضهم البعض، كما خلقت مخلوقات المرتبات الدنيا لاستعمالهم. وكما أن على الواحد أن يحافظ على نفسه، والا يتنازل طواعية عن موقعه، كذلك عليه قدر المستطاع (وعندما لا يتعارض ذلك مع بقائه) ان يحافظ على بقية الناس. كما وعليه ان يمتنع، الا إذا كان ذلك من أجل معاقبة الجاني، عن القضاء على أو تشويه حياة الآخرين، حريتهم، صحتهم، أعضاءهم أو أملاكهم الخاصة.

وعلى الناس جميعا أن يمتنعوا عن الاعتداء على حقوق الآخرين، وعن إلحاق الضرر بهم، وأن يعملوا على مراعاة قانون الطبيعة الذي يأمر بالسلام وبالحفاظ على الجنس البشري. وتنفيذ قانون الطبيعة، في هذا الوضع، هو من مهمة كل فرد، حيث لكل واحد الحق في معاقبة من يخرق هذا القانون والى الحد الذي يمنع من انتهاكه. فقانون الطبيعة، كباقي القوانين التي تعنى بشؤون الناس في هذه الدنيا، يكون غير مُجدً إذا لم تتوفر لأحد في الحالة الطبيعية سلطة تنفيذ القانون، لحماية البريء وردع المذنب. وإذا جاز للواحد في الحالة الطبيعية معاقبة الآخر على أي ذنب مقتَرف، فلكل واحد الحق في عمل ذلك. ففي هذا الوضع من المساواة التامة، حيث لا سلطة أو أفضلية لأحد على الآخر، ما يجوز للواحد فعله لتطبيق هذا القانون، يحق لكل واحد أن يقوم بذلك.

وهكذا، فإنه في حالة الطبيعة يحصل الواحد على سلطة على الآخرين، ولكنها ليست سلطة اعتباطية أو مطلقة، في التصرف بالمجرم، إذا تم القبض عليه، حسب العواطف الشديدة أو الرغبات الجامحة، وإنما فقط من أجل العقاب والى الحد الذي يمليه الضمير والعقل المتزن والى الحد الذي يتناسب مع الجرم المرتكب ويفي بغرضي الإصلاح والردع. هذان هما المبرران لإلحاق الضرر قانونيا، وهو ما نسميه عقابا. وبانتهاكه قانون الطبيعة، يكون الجاني قد أعلن انه يعيش حسب قانون غير قانون العقل والإنصاف، وهو المعيار الذي وضعه الله لأعمال الناس من أجل أمنهم المتبادل، وبهذا يصبح خطرا على الناس لأنه يسخف بالعلاقة التي تحميهم من الأذى والعنف. ولكون ذلك عدوانا على جميع أفراد الجنس البشري، سلامتهم، وأمنهم الذي وفره قانون الطبيعة، فلكل إنسان، بناء على ذلك، وبناء على حقه في الحفاظ على البشرية بعامة، أن يمنع، وان كان ضروريا ان يقضي على الأشياء الضارة بهم، وأن يلحق الأذى بمن يخالف القانون والى الحد الذي يجعله يتوب عن فعلته، وبهذا يردعه ويردع الآخرين من خلاله. وفي هذه الحالة، وعلى هذا الأساس، فإن "لكل إنسان الحق في عقاب الجاني وفي تنفيذ قانون الطبيعة".



الفصل الثالث
عن حالة الحرب
حالة الحرب هي حالة من العداء والدمار: فإذا أعلن أحد، قولا أو فعلا، عن تصميم راسخ ومتأن، وليس بانفعال أو تسرع، في القضاء على حياة شخص آخر، فإن هذا يجعله في حالة حرب مع من أعلن أنه ينوي القضاء عليه. وبذلك يعّرض (الأول) نفسه لسلطة الآخر، أو سلطة من ينضم إليه للدفاع عنه ومساعدته في صراعه. من المعقول ومن العدل، ان يكون لي الحق في تدمير من يهددني بالدمار. فحسب القانون الأساسي للطبيعة، يتوجب علي ان أحافظ، ما استطعت، على بقاء الإنسان. ولكن عندما يتعذر الحفاظ على بقاء الجميع، يجب أن تفضل سلامة الأبرياء ويجوز للواحد تدمير من يقوم بالحرب أو يناصب العداء، تماما كما يجوز له أن يقتل الذئب أو الأسد. مثل هؤلاء لا يربطهم قانون العقل، ولا يحكمهم مبدأ سوى مبدأ القوة والعنف، وتجوز معاملتهم كما تعامل الحيوانات المفترسة، تلك المخلوقات الخطرة والقاتلة التي تدمر من يكون في قبضتها.

ومن هنا فإن من يحاول أن يضع شخصا آخر تحت سلطته المطلقة يجعل نفسه بذلك في حالة حرب معه، ويجوز فهم عمله كإعلان عن قصده في الاعتداء على حياة الآخر. وهنالك ما يبرز الاعتقاد بأن من يحاول التسلط علي دون موافقتي فإنه يتصرف تجاهي كما يشاء، وقد يدمرني عندما يروق له ذلك. فلا يرغب أحد أن أكون تحت سلطته المطلقة الا إذا كان يود أن يرغمني بالعنف على قبول ما يتناقض مع حقي في الحرية، أي تحويلي إلى عبد. ان التحرر من هذه القوة هو الضمان الوحيد لبقائي، والعقل يبين لي أن عدو بقائي هو كل من يحاول ان يسلبني حربي، والتي هي سياج هذا البقاء. ان من يحاول أن يستعبدني يجعل نفسه نتيجة لذلك في حالة حرب معي. ففي الحالة الطبيعية، من يريد أن يسلب حرية إنسان آخر في هذه الحالة، فمن المفروض وبالضرورة ان لديه النية في سلب كل شيء آخر. فالحرية هي أساس كل شيء آخر. تماما كما في المجتمع المدني، فإن من يحاول سلب حرية أولئك الذين ينتمون إلى هذا المجتمع أو الدولة، فمن المفروض وبالضرورة ان لديه النية في سلب كل شيء آخر يخصهم، ولذلك يجب اعتباره في حالة حرب معهم.

وهذا ما يجعل قتل اللص عملا قانونيا، ذلك اللص الذي لم يؤذ الرجل الذي سرق منه، ولم يعتد على حياته، وإنما فقط استعمل العنف للتسلط عليه من أجل أخذ نقوده أو ما يريده منه. فإذا استعمل العنف بدون حق، فلا أساس للاعتقاد بأن من يحاول أن يسلبني حريتي لا يسلبني، عندما يتسلط علي، كل شيء آخر. ولذا، فقانوني ان اعتبره في حالة حرب معي، أي ان اقتله إذا استطعت. فمن يبدأ حالة الحرب ويكون طرفا معتديا بها، يعرض نفسه وبحق لذاك الخطر.

وهنا يكمن الفرق الواضح بين حالة الطبيعة وحالة الحرب، وهما، وان خلط الناس بينهما، حالتان متباينتان تباين حالة السلم، حسن النية، التعايش والدعم المتبادل، عن حالة العداء، الحقد، العنف والدمار المتبادل. أناس يعيشون معا وفق العقل دون أن يكون لهم رئيس مشترك في الدنيا له سلطة القضاء بينهم، هذه هي حالة الطبيعة حقا. لكن العنف، أو النية المعلنة في استعمال العنف، ضد شخص آخر، دون وجود رئيس مشترك في الدنيا يلجأون إليه من أجل العون، هذه هي حالة الحرب. وعدم إمكانية اللجوء إلى القضاء هو الذي يعطي الفرد حق الحرب ضد المعتدي، حتى وان كان (أي المعتدي) مثله مواطنا أو من أفراد المجتمع.


الفصل الرابع

عن العبودية :

الحرية الطبيعية هي أن يكون الفرد حرا من أية سلطة عليا على وجه الأرض، والا يكون خاضعا لإرادة أحد أو لسلطته الشرعية، وإنما يكون محكوما بقانون الطبيعة فقط. اما الحرية في المجتمع فهي الا يكون الفرد خاضعا لأية سلطة تشريعية سوى تلك التي نشأت بالاتفاق، والا يكون خاضعا لإرادة أحد أو لتقييد أي قانون سوى الصادر عن تلك السلطة التشريعية، وحسب الثقة التي منحتها. الحرية إذن ليست ما يقول روبرت فيلمر" انها وضع يكون الإنسان فيه حر التصرف كما يشاء، والعيش كما يرغب، غير خاضع لأي قانون". حرية الناس في ظل الحكم هي أن يعيشوا وفق قانون ثابت ومشترك لجميع أفراد المجتمع، قانون من صنع السلطة التشريعية التي تأسست فيه. وهي الحرية في أن أفعل ما أشاء في شتى الأمور التي لا ينص عليها القانون، والا أكون خاضعا للإرادة الاعتباطية، المتقلبة، غير المعروفة وغير الثابتة، لأي إنسان آخر. تماما مثل حرية الطبيعة التي لا تخضع لأي قيد سوى قانون الطبيعية.

هذه الحرية من السلطة المطلقة والاعتباطية ضرورية ووثيقة الصلة ببقاء الفرد، والى درجة أنه لا يستطيع التخلي عنها دون أن يسقط حقه في البقاء والحياة معا.


الفصل الخامس

عن الملكية:

ان الله الذي أعطى العالم للبشر بصورة مشتركة، أعطى الناس أيضا العقل كي يستخدمونه من أجل منفعة الحياة ورفاهها. ان الأرض، وما عليها، أعطيت للناس من اجل العيش وراحة الوجود. ومع ان كل الثمار التي تنتجها الأرض، والحيوانات التي تغذيها، مشتركة لأبناء البشر، طالما تنتجها يد الطبيعة بصورة عفوية وليس لأحد في الأصل سيطرة تستثني باقي البشر، على أي جزء منها وهي في حالتها الطبيعية، ولكن بما أنها أعطيت لاستعمال الناس، من الضروري أن تكون هناك وسيلة لتحويلها إلى ملكية وذلك قبل أن يتمكن الفرد من استخدامها والاستفادة منها. ان الثمر أو لحم الغزال الذي يتغذى به الهندي (الغربي) المتوحش، الذي لا يعرف أن يسيّج الأرض بعد ... يجب أن يكون ملكا له، وجزءاً منه بحيث لا يستطيع إنسان آخر ان يحصل على حق ملكيته، قبل أن يكون له عونا في معيشته.

ومع أن الأرض، وجميع المخلوقات الدنيا، مشتركة لجميع الناس، الا أن لكل واحد الملكية على شخصه، وله وحده الحق على شخصه. ان عمل جسده وعمل يديه هو ملكه حقا. وكل ما يخرجه من الحالة التي وفرتها عليه الطبيعة، فانه بذلك يمزج عمله به ويضيف إليه شيئا من ذاته، وبهذه الطريقة يجعله ملكا له. فبواسطته تم إخراج هذا الجزء من حالة المشاع التي وضعته بها الطبيعة. فقد أضيف إليه شيء بهذا العمل، شيء يلغي الحق المشترك للناس الآخرين. فبما أن هذا العمل دون شك ملك العامل، فهو وحده صاحب الحق على كل ما أضاف من عمله إليه، على الأقل حين يترك مشاعا للآخرين قدرا كافيا ومماثلا من حيث الجودة.

ومن يجد غذاءه من البلوط الذي يلتقطه من تحت شجرة البلوط أو التفاح الذي يجمعه من أشجار الغابة فقد حصل بالتأكيد على ملكيته. لا أحد يستطيع أن ينكر أن هذا الغذاء ملك له. وهنا أسأل: متى يصبح له؟ عندما يهضمه؟ عندما يأكله؟ عندما يطبخه؟ عندما يحضره إلى البيت؟ عندما يجمعه؟ من الواضح أنه إذا لم يعطه الجني الأول الملكية، فإن شيء آخر يعطيه إياها. ان العمل هو الذي يفصل بين ما له وبين المشاع: انه أضاف إلى الأشياء شيئا فوق ما سبق وصنعت الطبيعة، أم الجميع. وبهذا تصبح الأشياء حقه الخاص. وهل يستطيع أحد ان يدعي انه لا يملك حقا على هذا البلوط أو التفاح الذي يجمعه بهذه الطريقة لأنه لم يحصل على موافقة كل البشر؟ وهل قام بنهب ما أخذه لنفسه من الملك المشترك للجميع؟ إذا كانت مثل هذه الموافقة ضرورية لمات الإنسان جوعا على الرغم من الوفرة التي أنعم الله عليه بها. وفيما يختص بالمشاعات التي ظلت هكذا بالموافقة، فاننا نرى ان الملكية تبدأ بأخذ جزء منها وإخراجه من الحالة التي وضعته الطبيعة بها. وبدون ذلك فلا فائدة ترجى من هذا المشاع. وأخذ هذا الجزء أو ذاك لا يعتمد على الموافقة الصريحة لأصحاب الحيازة المشتركة. ولذا فان العشب الذي أكله حصاني أو الذي قصه خادمي، والتراب الذي حفرته (حيث لي حق مشترك في هذه الأشياء) يصبح ملكي الخاص دون مصادقة أو موافقة أي إنسان آخر. عملي هو الذي اخرج هذا الجزء من الوضع المشترك وثبت ملكيتي عليه.

وقد يعترض أحد قائلا: إذا كان جمع البلوط أو الثمار الأخرى هو الذي يعطي الحق عليها، إذن يستطيع كل فرد أن يستحوذ على ما يشاء. والرد على هذا الاعتراض هو: إن قانون الطبيعية الذي يعطينا الملكية بهذه الطريقة هو نفسه الذي يحدد هذه الملكية. "أعطانا الله جميع الأشياء بوفرة". هو صوت العقل والذي أكد عليه الوحي. ولكن إلى أي حد أعطيت لنا الأشياء للتمتع بها؟ إلى الحد الذي يستطيع الفرد أن يستعملها من أجل منفعة حياته قبل أن يفسد، يستطيع بعمله أن يثبت حيازته له. ما يتجاوز ذلك هو أكثر من حصته، وهو ملك الآخرين. لم يخلق الله شيئا كي يفسده الإنسان أو يدمره. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الوفرة الطبيعية الموجودة منذ زمن بعيد، وقلة عدد المستهلكين، وصغر ذلك الجزء الذي يستطيع اجتهاد الإنسان ان يمتد إليه، وان يستحوذه ملحقا بذلك ضررا بالآخرين، وخاصة إذا راعى الحدود التي وضعها العقل بالنسبة لما يخدم استعماله، عندها يبقى مكان ضيق للشجار والنزاع على الملكية التي تم الحصول عليها بهذه الطريقة.

ولكن القضية الرئيسية هذه الأيام ليست ملكية ثمار الأرض، والحيوانات التي تعيش عليها، بقدر ما هي ملكية الأرض نفسها، وذلك لارتباط بقية الأشياء بها. وأعتقد أنه واضح أن الحصول على ملكية الأرض يتم بنفس الطريقة السالفة الذكر. ان هذا القدر من الأرض التي يحرثها الفرد، يزرعها، يحسنها ويفلحها ويستطيع استعمال ثمارها هو ملكيته. وكأنه بعمله يسيّجها ويخرجها من المشاع. ولا يبطل حقه الزعم بأن لكل فرد آخر حقا متساويا في حيازتها، ولذا فانه لا يستطيع أن يسيّج دون موافقة جميع شركائه، جميع أبناء البشر. عندما أعطى الله العالم للبشر بصورة مشتركة، فإنه أمر الإنسان أيضا بالعمل، كما وأرغمت الفاقة الإنسان على العمل. لقد أمر الله والعقل الإنسان بأن يخضع الأرض، أي أن يحسنها من أجل منفعة الحياة، وبهذا يكون قد وضع فيها شيئا كان ملكه هو، وهو عمله. فمن أطاع أمر الله وأخضع، حرث وزرع قطعة من الأرض يكون بذلك قد أضاف إليها شيئا كان ملكه، شيئا ليس للآخر حق فيه ولا يستطيع أن يأخذه منه دون أن يؤذيه.

وليس غريبا، كما يبدو الأمر لأول وهلة، أن ملكية العمل ترجح في وزنها المشاركة في ملكية الأرض. ان العمل هو الذي يحدد الفارق في القيمة بالنسبة لكل شيء. ان من ينظر إلى الفارق في القيمة بين فدان من الأرض المزروعة بالتبغ أو قصب السكر، بالقمح أو الشعير، وبين فدان من نفس الأرض المشتركة ترك بورا، يجد القسط الأكبر من القيمة راجعا إلى تحسين العمل. انه من قبيل التقدير المتواضع أن أقول ان تسعة أعشار منتجات الأرض المفيدة لحياة الإنسان هي من نتاج العمل. ولو أصبنا في تقدير الأشياء التي نستعملها، وحسبنا المصاريف المختلفة المتعلقة بها، ذلك الجزء الذي أعطته الطبيعة وذلك الجزء الناتج عن العمل، لوجدنا أنه بالنسبة لمعظم الأشياء فإن تسعة وتسعين في المائة يجيء بفضل العمل.

وهكذا فقد أعطى العمل في البدء حقا في الملكية أينما أراد الفرد أن يبذله في الأرض المشتركة، والتي بقيت لمدة طويلة الجزء الأكبر، وما زالت حتى الآن أكبر من الجزء الذي يستعمله الإنسان. في البداية رضي الناس، على الغالب، بما قدمته الطبيعة ذاتها لسد حاجاته، وبعد ذلك، وفي بعض أجزاء العالم (حيث زاد عدد الناس وزادت مواردهم، وبدءوا في استعمال المال، فأصبحت الأرض نادرة وذات قيمة) حددت المجتمعات المختلفة حدود أراضيها المميزة، وسنت القوانين لتنظيم الملكيات الخاصة لأفراد المجتمع. وهكذا بالاتفاقات والمعاهدات تم البت في أمر الملكية التي بدأت بالعمل والاجتهاد. والمعاهدات التي وقعت بين الدول والمملكات المختلفة شملت تنازلات، ضمنية أو صريحة، عن الحق في الأرض التي وقعت في حيازة دولة أخرى. بالاتفاق المتبادل تم التنازل عن الحق الطبيعي المشترك (الذي كان لهم أصلا بالنسبة لتلك الدولة). وهكذا، بالاتفاق الوضعي قرروا بشأن الملكية في مناطق العالم المختلفة. ومع هذا ما زالت توجد مساحات شاسعة من الأرض التي ظلت بوراً لأن القاطنين فيها لم ينضموا إلى الاتفاق مع باقي أبناء البشر بالنسبة لاستعمال النقود. وهذه المساحات تفوق ما يستعمله أو يستطيع استعماله أولئك المقيمون عليها، ولذلك ظلت مشتركة. ولكن قلما يحدث هذا عند ذلك الجزء من البشر الذي وافق على استعمال المال.

ان القسط الكبير من الأشياء المفيدة لحياة الإنسان الأشياء التي حرص أوائل أصحاب الملكية المشتركة في العالم على الحصول عليها نظرا لحاجتهم لها من أجل البقاء، كما يفعل الأمريكيون الآن، هي على العموم أشياء تدوم لوقت قصير، بحيث أن لم تستهلك تتعفن وتتلف من ذاتها. أما الذهب والفضة والماس فهي أشياء وضع فيها الخيال والاتفاق قيمة تفوق الاستعمال الحقيقي وحاجة الحياة لها. أما بالنسبة للأشياء المفيدة التي وفرتها الطبيعة بصورة مشتركة. فلكل واحد (كما قلت) الحق في الحيازة إلى الحد الذي يستطيع أن يستعمل، وله الحق في ملكية كل ما يستطيع أن ينجز بعمله. وكل ما يستطيع بجهده أن يخرج الشيء من الحالة التي أوجدته بها الطبيعة. فمَنْ جَمَعَ مائة صاع من البلوط أو التفاح أصبحت ملكا له، أصبحت بضاعته حالما لمها. وعليه ان يحرص فقط على استعمالها قبل أن تفسد، والا يكون قد حصل على أكثر من حصته ونهب بذلك الآخرين. انه من قبيل الغباء والغش حقا ان يكدس الفرد أكثر مما يقدر على استهلاكه. فإذا أعطى جزءا منها إلى شخص آخر بحيث لا تتلف وهي في حوزته يكون بذلك قد استفاد منها. وإذا قايض خوخا فقد يتعفن خلال أسبوع بجوز يمكنه استعماله في الطعام خلال سنة كاملة، فلا يكون قد الحق ضررا. ولا يكون قد بذر المخزون المشترك، أو دمر جزءا من حصة الغير طالما ان شيئا لم يتلف بين يديه. وإذا قايض جوزة بقطعة معدنية أعجب بلونها، أو أغنامه بصدف، أو صوفه بحجر لامع أو ماس، وحافظ على جميع هذه الأشياء طيلة حياته، لا يكون بذلك قد اعتدى على حقوق الآخرين. يمكنه تكديس ما شاء من هذه الأشياء التي تدوم. ان تجاوز حد ملكيته لا يكمن في كبر حيازته، وإنما بتلف أي جزء منها دون استعمال.

في البداية كان كل العالم أمريكا، وأكثر مما هي عليه أمريكا هذه الأيام. فالمال لم يكن معروفا للناس. فإذا اكتشف الإنسان شيئا له استعمال وقيمة المال بين جيرانه، فانه يبدأ حالا في توسيع رقعة حيازته.

وبما أن للذهب والفضة فائدة قليلة لحياة الإنسان بالمقارنة مع الطعام، الملبس، ووسائل النقل، وان قيمتها مستمدة من اتفاق الناس (حيث لا يزال العمل فيه يشكل المقياس الرئيسي)، فمن الواضح أن التفاوت وعدم التساوي في حيازة الأرض ناشئ عن الاتفاق. والقوانين في الحكومات تنظّم ذلك. فقد وجد الناس، بالاتفاق، طريقة تتيح لكل منهم ان يملك، بحق وبدون إلحاق الضرر بالآخرين، حيازة تفوق قدرته على الاستهلاك وذلك بقبول الذهب والفضة، اللذين يدومان طويلا دون تلف، مقابل الفائض، واتفقوا على أن تكون لهذه المعادن قيمة.


الفصل السادس :

عن المجتمع المدني أو السياسي :
حين يتحد عدد من الناس في مجتمع واحد بحيث يتنازل كل واحد عن سلطته في تنفيذ قانون الطبيعة ويسلمها للجمهور، عندها فقط ينشأ مجتمع سياسي أو مدني. ويحصل هذا عندما يدخل عدد من الناس في الحالة الطبيعية إلى المجتمع لإنشاء شعب واحد أو جسم سياسي واحد يكون خاضعا لحكومة عليا واحدة، وأيضا عندما ينضم الفرد إلى حكومة سبق وتم إنشاؤها. فهو بهذا يخول المجتمع، أو السلطة التشريعية فيه، بسن القوانين التي تتطلبها المصلحة العامة للمجتمع، والتي عليه أن يعمل ويساعد على تنفيذها وكأنها قوانين سنها لنفسه. وبهذه الطريقة ينتقل الناس من حالة الطبيعة إلى حالة الدولة، وذلك عندما يتم تعيين حاكم (قاضي) له سلطة البت في جميع الخلاقات وإصلاح أي ضرر سببه أي فرد في الدولة. وهذا القاضي هو السلطة التشريعية أو الضباط المعنيين من قبلها. وحين لا يكون لعدد من الناس، وان اتحدوا، سلطة حاسمة يستطيعون اللجوء إليها، فهم لا يزالون في حالة الطبيعة.

ومن هنا فان من الواضح أن الملكية المطلقة، والتي يعتبرها البعض نظام الحكم الوحيد في العالم، لا تنسجم في حقيقة الأمر مع المجتمع المدني، ولا يمكنها أن تكون شكلا من أشكال الحكم المدني بتاتا. وذلك لان هدف المجتمع المدني هو تجنب وإصلاح متاعب الحالة الطبيعية والناشئة بالضرورة من كون كل فرد حاكم نفسه وذلك بواسطة تأسيس سلطة معروفة يستطيع كل فرد اللجوء إليها إذا حصل له ضرر، أو إذا نشب خلاف، وعلى كل فرد واجب طاعتها. وبناء على ذلك، ففي غياب مثل هذه السلطة التي تبت في الخلافات بين الناس، فان هؤلاء الناس لا يزالون في حالة الطبيعة. وهكذا بالنسبة للأمير ذي السلطة المطلقة في علاقته مع الخاضعين لحكمه.

فبما أنه (أي الأمير) من المفروض أن يجمع كل السلطة بيديه، التنفيذية منها والتشريعية، فلا مكان لوجود قاض، ولا مكان لوجود ملجأ يتوجه إليه الناس لكي يحكم بينهم بنزاهة ودون تحيز، وتكون له سلطة اتخاذ القرار، ويتوقع من قراره أن يساعد وان يصلح الضرر الذي يلحقه الأمير أو ينتج عن أوامره: ان شخصا كهذا، كان لقبه قيصرا أو سلطانا أو ما شئتم، ما زال في حالة الطبيعة في علاقته مع الذين يحكمهم، تماما كما هو كذلك مع بقية البشر.

ومن يعتقد بأن السلطة المطلقة تطهر دماء الناس، وتصلح دناءة الطبيعة البشرية، فما عليه الا أن يقرأ تاريخ هذا العصر، أو أي عصر آخر، كي يقتنع بعكس ذلك.


الفصل السابع :
عن بداية المجتمعات السياسية :

جميع الناس، كما ذكرنا، أحرار، متساوون ومستقلون بطبيعتهم، ولا يجوز إخراج أي منهم من هذه الحالة وإخضاعه للسلطة السياسية للآخرين دون الحصول على موافقته. ان الطريقة الوحيدة التي يجرد الفرد بها نفسه من حريته الطبيعية، ويقبل بقيود المجتمع المدني هي باتفاقه مع الآخرين على الاتحاد في مجتمع واحد من أجل العيش المشترك، المريح والآمن، ومن أجل التمتع الآمن بالممتلكات وبالأمن الأكبر من الغرباء. يستطيع أي عدد من الناس أن يقوموا بذلك، لأنه لا يلحق الضرر بالآخرين الذين يُترَكون كما هم، يتمتعون بحريتهم الطبيعية. حين يكوّن عدد من الناس، وباتفاق كل فرد منهم، مجتمعا، فانهم بذلك المجتمع جسم واحد، له سلطة العمل كجسم واحد بإرادة وقرار الأغلبية ... وبما أن أي جسم واحد يجب أن يتحرك باتجاه واحد، فمن الضروري أن يتحرك ذلك الجسم بالاتجاه الذي تدفعه إليه القوة الأكبر، وهي موافقة الأغلبية. وبدون ذلك لا يستطيع ان يعمل أو ان يبقى جسما واحدا، مجتمعا واحدا. لقد وافق جميع المتحدين به على ان يكون كذلك، ذلك الاتفاق الذي يلزم كلا منهم بقبول قرار الأغلبية. ونتيجة لذلك فاننا نرى انه في حالة الجمعيات (البرلمانات) المخولة بالعمل حسب قوانين وضعية، حيث لا ذكر في تلك القوانين للعدد، فإن قرار الأغلبية يعتبر قرار الجمعية كلها، وهو بالطبع ملزم. وكأن لها، حسب قانون الطبيعة والعقل، سلطة الكل.

وهكذا، فمن يتفق مع الآخرين على تكوين جسم سياسي واحد، له حكومة واحدة، يأخذ على عاتقه تجاه كل فرد من أفراد هذا المجتمع أن يلتزم بقرار الأغلبية، وان يعتبر نفسه مشمولا به. وبدون هذا فإن الاتفاق الأصلي، والذي بموجبه اتحد مع الآخرين في مجتمع واحد، يكون عديم المعنى، وهو يفقد صيغة الاتفاق إذا ترك الفرد حرا، غير خاضع لقيود سوى قيود حالة الطبيعة.



الفصل الثامن
عن أهداف المجتمع السياسي وأهداف الحكم :

إذا كان الإنسان في الحالة الطبيعية حرا، كما أوردنا، وإذا كان سيدا مطلقا على نفسه وعلى ممتلكاته، مساويا لأعظم الناس وغير خاضع لأحد، فلماذا يتنازل عن حريته؟ ولماذا يتنازل عن ملكوته، ويخضع نفسه لهيمنة وسيطرة سلطة أخرى؟ والإجابة على هذا واضحة: مع أن له مثل هذا الحق في حالة الطبيعة، الا ان ممارسته لهذا الحق غير مضمونة، ومعرضة دائما لاعتداء الآخرين. لأن كل فرد سيد مثله، ولأن الجميع متساوون، وبما أن معظم الناس لا يراعون متطلبات الإنصاف والعدالة، فإن التمتع بالملكية في هذه الحالة غير مأمون وغير مؤكد. وهذا ما يبرر رغبة الفرد في الانضمام إلى مجتمع مع آخرين سبق واتحدوا أو فكروا بالاتحاد من أجل الحفاظ على حياتهم، حرياتهم وممتلكاتهم، والتي أطلق عليها الاسم العام "ملكية".

ان الهدف الرئيسي من اتحاد الناس في دول، ووضع أنفسهم تحت سلطة حكومات، هو الحفاظ على الملكية. في حالة الطبيعة هناك نقص لأشياء كثيرة في هذا المجال.

أولا ينقصها قانون دائم ومعروف للجميع، مقبول ومعترف به بالاتفاق العام، كمقياس للحق والباطل، وكمعيار مشترك للبت في الخلافات بين الناس. فمع أن قانون الطبيعة واضح ومفهوم لجميع المخلوقات العاقلة، فلكون الناس منحازين إلى مصالحهم وجاهلين لعدم دأبهم على دراسته فانهم غير مستعدين لقبوله قانونا ملزما في انطباقه على حالاتهم الخاصة.

ثانيا، لا يوجد في الحالة الطبيعية قاض معروف ومحايد، له سلطة البت في الخلافات حسب القانون الدائم. فبما أن كل فرد في هذه الحالة هو القاضي وهو المنفذ لقانون الطبيعة، وبما أن الناس ينحازون إلى أنفسهم، فإن العاطفة وحب الانتقام قد يؤديان بهم إلى تجاوز الحدود في الحالات التي تخصهم، بينما قد يدفعهم الإهمال وعدم الاكتراث إلى التهاون في الحالات التي تخص غيرهم من الناس.

وثالثا، تفتقر حالة الطبيعة أحيانا إلى القوة اللازمة لمساندة الحكم العادل وتنفيذه بشكل سليم. فالذين يقترفون الجنايات يحاولون دائما، وقدر المستطاع، الدفاع بالقوة عن ظلمهم. وهذه المقاومة كثيرا ما تجعل فرض العقاب شيئا خطرا، وأحيانا مدمرا على الذين يحاولون فرضه.

وهكذا فإن البشر، وبالرغم من جميع امتيازات حالة الطبيعة (وهم في وضع سقيم طالما انها فيها )، يسرعون إلى حياة المجتمع. وقلما نجد عددا من الناس يعيشون معا في هذه الحالة.

ان المتاعب التي يتعرضون لها هناك، نظرا للاستعمال غير المنظم وغير المأمون لكل فرد لسلطته لمعاقبة المعتدين، تدفعهم إلى اللجوء إلى قوانين الحكم الدائمة، وذلك بغية الحفاظ على ملكيتهم. ان هذا هو الذي يجعل كلا منهم راغبا في التنازل عن سلطته المنفردة في فرض العقاب، وأن تستعمل هذه السلطة فقط من قبل أولئك الذين تم تعيينهم لهذا الغرض، وحسب القواعد التي يتفق عليها أفراد المجتمع أو المفوضون من قبلهم. وهنا يكمن الحق الأصلي للسلطتين التشريعية والتنفيذية، وللحكومات والمجتمعات ذاتها.


الفصل العاشر
عن مرتبات سلطات الدولة :
في المجتمع القائم، والذي يرتكز على قاعدته الخاصة، ويعمل حسب طبيعته الخاصة، أي يعمل من أجل الحفاظ على بقاء أبناء المجتمع، لا يمكن أن تكون أكثر من سلطة عليا واحدة، هي السلطة التشريعية، والتي تخضع ويجب أن تخضع، لها باقي السلطات. ومع هذا، ولكون السلطة التشريعية سلطة ائتمانية مرهونة بالعمل لتحقيق أهداف معينة، تبقى لدى الناس سلطة عليا لعزل أو تغيير السلطة التشريعية إذا وجدوا أنها تتصرف بشكل يناقض الثقة التي وضعت بها. كل سلطة معطاة كأمانة من أجل تحقيق هدف معين، ومحدودة بهذا الهدف. وعندما يهمل هذا الهدف أو يعارض بصورة جلية، تسحب الأمانة وتنتقل السلطة إلى أيدي اللذين أعطوها، والذين لهم حق وضعها مجددا في الموضع الذي يعتقدون انه الأفضل من أجل سلامتهم وأمنهم. وهكذا يحتفظ أبناء المجتمع دائما بالسلطة العليا في إنقاذ أنفسهم من نوايا أي شخص، وحتى المشرعين، عندما يكونون على قدر من الغباء والشر بحيث يحبكون المؤامرات ضد حريات وممتلكات الرعية. فلا يملك أحد، أو مجتمع من الناس، السلطة في تسليم الحفاظ على هذا الوضع العبودي، فان لهم دائما الحق في الحفاظ على ما ليس لهم السلطة في التنازل عنه، وان يتخلصوا من أولئك الذين يعتدون على هذا القانون للحفاظ على النفس، هذا القانون الأساسي، المقدس وغير القابل للتغيير، والذي من أجله أقاموا المجتمع. ولهذا يمكن القول أن أبناء المجتمع فيما يتعلق بذلك هم دائما السلطة العليا.


الفصل الحادي عشر
عن حل الحكم :
ان سبب دخول الناس في المجتمع هو الحفاظ على ملكيتهم. والهدف الذي من أجله اختاروا وفرضوا السلطة التشريعية هو لسن القوانين ووضع المبادئ لحراسة وحماية ملكية جميع أفراد المجتمع، والحد من سلطة أو نفوذ أي فرد من أفراده. وبما أنه لا يحق الافتراض بأن إرادة المجتمع تسمح بقيام سلطة تشريعية لها السلطة في تدمير ما يهدف الفرد إلى حمايته عن طريق إقامة المجتمع (والذي من أجله خضع الناس لمشرعين قاموا هم باختيارهم)، فإذا حاول المشرعون القضاء على ملكية الناس، أو استعبادهم، أو فرض سلطة اعتباطية عليهم، فانهم بذلك يجعلون أنفسهم في حالة حرب مع الناس، الذين يتحررون عندها من واجب الطاعة، ويلجأون إلى الملاذ المشترك الذي زودهم الله به ضد العنف والقوة. حين يعتدي المشرعون على هذا المبدأ الأساسي للمجتمع، ويحاولون (بدافع الطموح، الخوف، الغباء، أو الفساد) تركيز سلطة مطلقة في أيديهم (أو وضعها في أيدي أي شخص آخر) على حياة، حريات وممتلكات الناس، فانهم بهذا الخرق يفقدون حقهم في السلطة التي وضعت في أيديهم من أجل أهداف مناقضة لذلك، وتنتقل [السلطة] إلى الناس الذين لهم الحق في استعادة حريتهم الأصلية، وإقامة سلطة تشريعية جديدة (وكما يرون مناسبا) لتأمين سلامتهم، وهي الهدف الذي من أجله أقاموا المجتمع. ما أقوله هنا عن السلطة التشريعية بعامة ينطبق أيضا على المنفّذ الأعلى، والذي وضعت في عنقه أمانة مضاعفة، وهي أن يكون جزءا من السلطة التشريعية والمنفذ الأعلى للقانون. وهو يعمل ضد اثنتيهما إذا حاول فرض إرادته الاعتباطية كقانون للمجتمع. وهو يتصرف بصورة تناقض الثقة أيضا، إذا استخدم قوة المجتمع، ثروته وخدماته من أجل إفساد الممثلين وشرائعهم لخدمة أهدافه، أو عندما يحاول صراحة رشوة الناخبين والإيعاز إليهم باختيار أولئك المرشحين الذين، بالإغراء والتهديد والوعود والطرق الأخرى، كسبهم إلى جانبه، والذين يستخدمهم من اجل اختيار أولئك الذين وعدوا مسبقا كيف يقترعون وما هي القوانين التي يسنونها. ان من ينظم المجتمع بهذه الصورة يقطع الحكم من جذوره ويسمم منابع الأمن العام.

وقد يقال بأن هذه الفرضية تعمل على التحريض على العصيان لأوقات متقاربة. وعلى هذا الزعم أجيب:

أولا: ليس أكثر من أية فرضية أخرى: حين يشعر الناس بالبؤس ويجدون أنفسهم عرضة لسوء استخدام السلطة الاعتباطية، فلو أعلنت صارخا بأن حكامهم من أبناء الآلهة، أو قديسون، أو نازلون أو مفوضون من السماء، أو أغدقت عليهم ما شئت من الأوصاف، فان نفس الشيء سوف يحدث. عندما تُساء معاملة الناس، ويعاملون بما يناقض حقوقهم، فانهم على استعداد، وحين تسنح الفرصة، لإزالة عبء يثقل كاهلهم. سوف ينتظرون ويبحثون عن الفرصة التي قلما تتأخر بسبب التغيير، الضعف وعوارض الأمور الإنسانية. قصير العمر مَن لم ير أمثلة على ذلك في عصره، وقليل القراءة من لا يستطيع ان يسوق أمثلة على ذلك من مختلف الحكومات في العالم.

ثانيا: أجيب بأن مثل هذه الثورات لا تحدث نتيجة للأخطاء الطفيفة والقليلة في إدارة الشؤون العامة. يتحمل الناس دون تأفف أو تمرد أخطاء كبيرة قد ترتكبها الفئة الحاكمة، وكثيرا من القوانين المتعبة والجائرة، وكل زلات الضعف الإنساني. ولكن سلسلة طويلة من الفساد، المراوغة والمكائد، كلها تصب في نفس الاتجاه، وتبرز المؤامرة للناس الذين لا يسعهم الا ان يدركوا ما ينتظرهم وان يروا إلى أين هم سائرون، فلا داع للغرابة إذا استيقظوا عندها وحاولوا وضع الحكم في أيدي من يؤّمن لهم الأهداف التي من أجل تحقيقها أقيم الحكم أصلا، والتي بدونها لا تكون الأسماء القديمة والصور الخادعة أفضل، بل أسوأ من حالة الطبيعة، أو الفوضى التامة. فالمصائب كبيرة وقريبة بينما العلاج أبعد وأكثر صعوبة.

ثالثا: أجيب بأن هذه النظرية عن سلطة الناس في توفير الأمن لأنفسهم مجددا، وإقامة سلطة تشريعية جديدة، إذا تصرف المشرعون بصورة مناقضة للثقة التي وضعت بهم، وذلك إذا اعتدوا على ملكية الناس، هي السياج الأفضل ضد العصيان وأكثر الوسائل الناجحة لمنعه. وبما أن التمرد ليس معارضة للأشخاص، بل للسلطة المبنية على قوانين ودساتير الحكم فقط، فان من يخرقها، أو يبرر خرقها بالعنف فهو المتمرد بكل معنى الكلمة. حين أقام الناس المجتمع والحكم المدني فقد استثنوا العنف، ووضعوا القوانين من أجل الحفاظ على الملكية، على السلام وعلى الوحدة بينهم. ومن يقاوم القوانين بالعنف يقوم بما يمكن تسميته (rebellare)، أي إعادة حالة الحرب، وهو حقا المتمرد، وأولئك الذين في السلطة (وبسبب الحق المزعوم بالحكم، وإغراء القوة التي في متناول اليد، وتملق الذين من حولهم) هم الأكثر عرضة لعمل ذلك. ان الطريق الصحيح لمنع هذا الشر هو تبيان الخطر والظلم في ذلك لكل من هو عرضة للوقوع تحت إغرائه الكبير.

في كلتا الحالتين المذكورتين أعلاه، أي عند تغيّر السلطة التشريعية أو حين يتصرف المشرعون بشكل يناقض الهدف الذي من أجله عُيّنوا، فان الجرم هو العصيان. فمن يقضي بالعنف على السلطة التشريعية القائمة في أي مجتمع، وعلى القوانين التي سنتها تلك السلطة بموجب الثقة التي وضعت بها، فإنه بذلك يلغي سلطة المحكم الذي وافق عليها الجميع للبت سلميا في الخلافات، وكحاجز في وجه حالة الحرب، بينهم. فمن يغير أو يعزل المشرعين يكون قد سلبهم سلطة البت، والتي لا يستطيع أحد الحصول عليها الا بتعيين من الناس وبموافقتهم. فمن يدمر السلطة التي أقامها الناس، ولا يستطيع إقامتها سوى الناس، ويجيء بسلطة غير مفوضة من قبل الناس، فهو بهذا يبدأ فعلا حالة الحرب، وهي العنف بدون سلطة الحكم. وهكذا فمن يعزل السلطة التشريعية التي أقامها المجتمع (والتي قبل الناس بكل قراراتها وكأنما قرارات صادرة عن إرادتهم الخاصة)، فإنه يحل الروابط ويعرض الناس مجددا لحالة الحرب تلك. وبما أن الذي يلغي بالعنف السلطة التشريعية هو المتمرد، فإن المشرعين أنفسهم، كما بيّنا، يجب اعتبارهم متمردين إذا اعتدوا على، وحاولوا سلب، حريات الناس وممتلكاتهم، والتي من أجل حمايتها والحفاظ عليها تم تعيينهم. فعندما يجعلون أنفسهم في حالة حرب مع الذين جعلوهم حماة وحراس سلامتهم يصبحون حقا، وبأكبر قدر من الضرر، متمردين (rebellantes).

إذا كان على الرجل الأمين والبريء، ومن أجل السلام، أن يتنازل بهدوء عما يملك لمن يستعمل العنف للاغتصاب، فعلينا أن نتساءل أي نوع من السلام سيكون في العالم، إذا كان يقوم على العنف والألم، والذي يصان فقط من اجل منفعة اللصوص والطغاة. كل من يستعمل العنف بدون حق، مثله مثل الذي يستعمل العنف بدون قانون في حال المجتمع، يجعل نفسه في حالة حرب مع الذين استعمله ضدهم. وفي هذه الحالة، تكون كافة الروابط السابقة لاغية، وتكون لاغية أيضا كافة الحقوق الأخرى، ولكل فرد الحق في الدفاع عن نفسه، وفي مقاومة المعتدي.


ترجمة د. سعيد زيداني

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:56 PM

- توماس هوبس ( هوبز ) :

كان للعوامل والظروف السياسية والدينية التي رافقت حياة توماس هوبس (Thomas Hobes) منذ ولادته حتى أواخر أيامه، أثر كبير في تحديد طبيعته وتكوينه الفكري. فالقرن السابع عشر الذي عايشه توماس هوبس كان يتميّز بعصر الثورات والحروب. فبعد حرب الثلاثين سنة (1618 - 1648) نشبت الحرب الفرنسية الأسبانية والتي استمرت حتى عام 1659. في هذا الوقت بالذات كانت بريطانيا تشهد حروبها وثوراتها الأهلية الخاصة بين الفئات الدينية والسياسية المختلفة. وفي ظلّ هذه الأحوال والظروف التي عاشتها أوروبا بشكل عام وبريطانيا بشكل خاص، عاش هوبس ليستوحي أفكاره حول الإنسان والمجتمع والسلطة.

ولد هوبس عام 1588 وقبل موعده. وسبب ذلك الخوف الذي أثارته استعدادات ملك أسبانيا الكاثوليكي لإرسال أسطوله إلى الشواطئ الإنجليزية لإخضاع ملكتها اليزابيث الأولى البروتستانتية. وبالرغم من أنّ إنجلترا استطاعت أن تردّ الأسبان وأسطولهم على أعقابهم فإنّ الجو الحربي المرعب أثار الخوف في قلب والدة هوبس فوضعته قبل أوانه. ولهذا نراه يقول في وصف نفسه "أنا والخوف توأمان".

إضافة إلى ظروف ولادته وإلى الأجواء السياسية السائدة كان هوبس خلال متابعته الدراسة في جامعة أكسفورد يستمع بامتعاض وبكراهية للمناقشات السياسية والدينية حول السلطة الملكية وحول قضية تفسير الكتاب المقدس والحقوق الفردية. لقد كان يرى أنّ هذه المناقشات لا يمكن أن تساهم إلا بتوسيع الهوّة بين المواطنين، وزعزعة أركان السلطة، والتمهيد للحروب الأهلية في إنجلترا.

وبعد أن نشر كتابه الأول "الهيئة السياسية" الذي وضعه أثناء انعقاد البرلمان الإنجليزي ليبرهن ضرورة الحاجة إلى السيادة غير المنقسمة، تبيّن له في عام 1640 أنّ الحرب الأهلية أصبحت وشيكة الوقوع في إنجلترا فتملّكه الخوف من عواقب كتابه، وهرب إلى فرنسا حيث بقي فيها أحد عشر عاما، التقى خلالها ديكارت، كما أعطى دروسا في الرياضيات لشارلز الثاني الذي كان منفيّا في فرنسا. وفي باريس نشر أعظم أعماله الفلسفية "اللفياثان" -Leviathan- (1651) والذي أثارت الآراء الواردة فيه انتقادات شديدة من جانب الملك شارلز الثاني والكنيسة الكاثوليكية. أمضى هوبس بقية حياته في لندن بعد أن تعّهد بعدم الاشتغال بالسياسة وتوفي في عام 1679.



هوبس: مختارات من كتاب "التنين"


مــــن المقدمة :

يحاكي فن الإنسان الطبيعة، وهي ذلك الفن الذي بموجبه خلق الله الكون ولا يزال يحكمه، في أمور كثيرة من ضمنها أنه قادر على صنع حيوان اصطناعي. فبما أن الحياة ليست الا حركة الأعضاء، حيث تكون بدايتها في عضو داخلي رئيسي، ألا يجوز القول إن لجميع الماكينات (تلك المحركات التي تحرك نفسها بمساعدة النوابض والعجلات، كما هي الحال في ساعة اليد) حياة اصطناعية؟ فما هو القلب ان لم يكن نابضا، والأعصاب ان لم تكن أوتارا، والمفاصل ان لم تكن عجلات تعطي الحركة للجسم كله حسب قصد الفنان (أو الصانع)؟ ولكن الفن يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يحاكي ذلك الكائن العاقل والرائع الذي صنعته الطبيعة، ألا وهو الإنسان. فبالفن يتم خلق ذلك "التنين" الذي يسمى "الدولة" أو "المجتمع" (وباللاتينية civitas). والذي لا يعدو كونه إنسانا اصطناعيا، وان كان أكبر قوة وأعظم شأنا من الإنسان الطبيعي، الذي يهدف إلى حمايته والدفاع عنه. في هذا الكائن، السلطة السيادية هي الروح الاصطناعية التي تعطي الحياة والحركة لكل الجسم، الحكام وبقية موظفي القضاء والتنفيذ هم المفاصل الاصطناعية، العقاب والثواب (اللذان يربطان كل مفصل وعضو بمقعد السلطة السيادية ويحركانه لأداء مهمته) هما الأعصاب، التي تقوم بنفس المهمة في الجسد الطبيعي، الثروة والغنى لجميع الأعضاء هما قوته، أمن الناس هو عمله، المستشارون الذين يزودونه بكل ما يحتاج معرفته هم الذاكرة، العدل والقانون هما العقل والإرادة الاصطناعيان، الوئام هو الصحة، الفتنة هي المرض، والحرب الأهلية هي الموت. وأخيرا، فان العهود والمواثيق، والتي بواسطتها تم في البدء صنع أجزاء هذا الجسم السياسي فانها مجتمعة تشبه ذلك الأمر الإلهي "ليكن هناك إنسان" الذي صدر عن الله عند خلق الكون.

ولوصف طبيعة هذا الإنسان الاصطناعي، يتوجب النظر إلى:

أولا، مادته وصانعه، وكلاهما الإنسان.

ثانيا، كيف، وحسب أي مواثيق، يصنع، وما هي الحقوق وما هي السلطة أو الصلاحية العادلة التي يتمتع بها صاحب السيادة، وما الذي يحافظ عليه أو يؤدي إلى انحلاله.

ثالثا، ما هو المجتمع المسيحي.

وأخيرا، ما هي مملكة الظلام.

الجزء الأول: عن الإنسان
ما يشتهيه الناس نقول أيضا إنهم يحبونه، وما ينفر منه الناس، نقول أيضا انهم يكرهونه، ولذا فإن الشهوة (desire) والحب هما شيء واحد، سوى أن الشهوة تدل على غياب الموضوع، بينما يدل الحب عادة على وجوده، وكذا بالنسبة للنفور (aversion) الذي يدل على غياب الموضوع خلافا للكراهية التي تدل على حضوره.

...

ولأن جسم الإنسان في تغير دائم، فمن المحال أن تثير نفس الأشياء دائما نفس مشاعر الشهوة والنفور في الإنسان. ومن المحال أيضا أن يتفق جميع الناس على شهوة نفس الموضوع.

...

ولكن مهما يكن موضوع الشهوة أو الرغبة عند الإنسان، فان هذا الشيء المشتهى يسمى "الخير" بينما يسمى موضوع النفور أو الكراهية "الشر"، وموضوع الاحتقار يسمى "الحقير" أو " التافه". وهذه الكلمات (الخير، الشر، الحقير) تكون دائما نسبية إلى الشخص الذي يستعملها، إذ لا يوجد شيء كهذا ببساطة وبصورة مطلقة. كما لا يوجد مقياس مشترك للخير والشر يمكن أن يستمد من طبيعة الأشياء ذاتها. مثل هذا المقياس يمكن أن يستمد فقط من شخص الإنسان (في حالة غياب المجتمع أو الدولة)، أو من الشخص الذي يمثل المجتمع أو الدولة، أو من المحكم أو القاضي الذي يتفق الناس على تعيينه، والذين يحصلون من حكمه قاعدة ومقياسا.

( من الفصل 6)
لا أعني بعبارة "الآداب العامة" (manners) هنا آداب السلوك مثل كيف يتوجب على المرء أن يحيِّي الآخر، أو كيف يتوجب عليه أن يغسل فمه أو ينقب أسنانه أمام الجماعة، أو غيرها من صغائر التصرف اللائق. ولكنني أعني تلك الصفات الإنسانية التي تعنى بعيش الناس سوية في وحدة وسلام. ولهذا الغرض، علينا أن نلفت النظر إلى أن السعادة في هذه الحياة لا تكمن في راحة النفس التي ارتوت. فليس هنالك هدف نهائي (finis ultimus) أو خير أعلى (summum bonum) كما جاء في كتب فلاسفة الأخلاق القدماء، فلا حياة لمن أتت شهواته إلى نهايتها، مثلما لا حياة لمن توقفت حواسه وخياله عن العمل. السعادة هي التقدم الدائم للشهوة من موضوع إلى آخر، حيث يكون الحصول على الأول محطة للوصول إلى التالي. والسبب في ذلك هو أن هدف الشهوة عند الإنسان ليس التمتع مرة واحدة وللحظة واحدة فقط، وإنما التأمين الدائم لطريق الشهوة المستقبلية. ومن هنا فان الميول والأعمال الإدارية لجميع الناس لا تهدف فقط إلى الحصول على، وإنما أيضا إلى تأمين حياة راضية. السبل فقط تختلف، وذلك مرده، جزئيا، إلى اختلاف عواطف الناس، وجزئيا إلى التفاوت في المعرفة وفي الآراء حول السبب الذي يؤدي إلى النتيجة المرغوبة.

وبادئ ذي بدء، فإنني أعتقد بوجود نزعة عامة لدى جميع الناس: شهوة مستمرة لا تهدأ من أجل الحصول على القوة والمزيد من القوة، شهوة لا تتوقف الا في حالة الموت. والسبب في ذلك ليس دائما لأن الإنسان يطمع في لذة أشد قوة مما حصل عليه من قبل، أو لأنه لا يكتفي بالقوة التي في حوزته، ولكن لأنه لا يستطيع تأمين القوة والوسيلة المتوفرتين للعيش الكريم بدون الحصول على قوة إضافية. ولهذا السبب، فإن أكثر الملوك قوة لا يكفون عن بذل الجهود الكبيرة من أجل تأمين القوة داخليا بواسطة القوانين، وخارجيا بواسطة الحروب، ومتى أنجزوا ذلك، تثور شهوة جديدة لديهم، لدى البعض من أجل الشهرة الناجمة عن انتصار (أو احتلال) جديد، أو من أجل الراحة والملذات الحسية، ولدى البعض الآخر، من أجل الحصول على الإعجاب والإطراء وعلى التميز في أحد الفنون أو إحدى القدرات الذهنية.

التنافس على الثروة، الشرف، السيطرة، أو على قوة أخرى، يثير النزعة نحو الخصام والعداء والحرب، وذلك لأن الواحد يحصل على مبتغاه عن طريق قتل أو إخضاع أو قمع أو صد الآخر. وعلى وجه الخصوص، فان التنافس على المديح يثير النزعة نحو احترام القدماء. وذلك لأن الناس يتخاصمون مع الأحياء، وليس مع الأموات الذين يغدق عليهم أكثر مما يستحقون مما يمكن من التعتيم على مجد الأحياء.

الرغبة في الراحة وفي ملذات الحواس تثير في الناس النزعة للانصياع إلى قوة (سلطة) مشتركة. وبسبب هذه الرغبات يتنازل الإنسان عن الحماية التي يأمل في الحصول عليها بجهده وسعيه الذاتيين. الخوف من الموت ومن الإصابات يثير نفس النزعة، وللسبب ذاته. وعلى نقيض ذلك، فان المحتاجين الجسورين الذين لا يقبلون بوضعهم الحالي، وكذلك جميع الناس الذين يطمحون إلى السيطرة العسكرية، ينزعون إلى استدامة أسباب الحرب وإثارة المتاعب والفتن. وذلك لأن الإنسان لا يحصل على الشرف العسكري الا بالحرب ولا أمل له في تحسين حظه في اللعبة الا إذا أعاد خلط الأوراق وتوزيعها.

الرغبة في المعرفة وفي فنون أيام السلم تثير في الناس نزعة الانصياع إلى سلطة مشتركة. وذلك لأن مثل هذه الرغبة تنطوي على رغبة في وقت الفراغ، وتبعا لذلك، على رغبة في الحماية من قِبل قوة غير القوة الذاتية.



(من الفصل 11)
لقد جعلت الطبيعة الناس متساوين في قدراتهم الجسدية والعقلية. وإذا ظهر واضحا للعيان أحيانا أن فلانا أقوى جسدا أو أسرع خاطرا من علان، فإننا إذا عملنا الحساب الإجمالي، نجد أن ليس هناك فرق كبير بين الإنسان والإنسان، فرق كبير يبرر للواحد المطالبة لنفسه بمنافع لا يمكن للآخر أن يطالب بها. وفيما يتعلق بقوة الجسد، فلأضعف الناس قوة تكفي لقتل أقواهم، إما بالحيلة والمكيدة، واما بالتحالف مع الآخرين الواقعين تحت نفس المخاطر.

وأما بشأن القدرات العقلية... فإنني أجد قدرا أكبر من المساواة بين الناس من المساواة في قوة الجسد. فما التعقل (prudence) سوى التجربة التي يكسبها الوقت المتساوي المعطى لجميع الناس بالتساوي في تلك الأمور التي يعطيها الناس قدرا متساويا من الجهد. ان ما قد يجعل مثل هذه المساواة غير قابلة للتصديق هو أن كل واحد تقريبا يميل إلى الغرور الفارغ بحكمته، معتقدا أنها تفوق حكمة الناس العاديين، أي جميع الناس باستثنائه هو وباستثناء القلة التي حظيت بالشهرة أو أولئك الذين تلاقت آراؤهم مع آرائه. فهذه هي طبيعة الإنسان: فكلما اعترف أن الكثيرين يفوقونه من حيث الفصاحة أو التعلم أو البراعة اللفظية، كلما وجد صعوبة في الاعتراف بأن الكثيرين ذوو حكمة مثله. وذلك لأنه يلاحظ عقله عن قرب، بينما عقول الناس الآخرين يلاحظها عن بعد. ولكن هذا يدل على أن الناس متساوون في هذه النقطة، أكثر مما يدل على عدم المساواة، وليست هناك عادة علامة أبرز على التوزيع المتساوي لأي شيء من كون كل شخص راضيا بنصيبه.

من هذه المساواة في القدرة تنشأ مساواة في الأمل في تحقيق الأهداف. ونتيجة لذلك، فإذا رغب شخصان بنفس الشيء ولم يكن بالإمكان أن يتمتع كلاهما به، فانهما يصبحان عدوين. وفي سعيهما من أجل الهدف، والذي هو أساساً الحفاظ على البقاء، وأحيانا البهجة فقط، فان الواحد منهما يحاول تدمير أو إخضاع الآخر. ومن هنا فإذا لم يخشَ الغازي سوى القوة الفردية للآخر، وإذا كان هذا الآخر يزرع ويغرس ويبني ويملك بيتا مناسبا، فمن المتوقع أن يجيء الآخرون موحدي القوة لتجريده من أملاكه وحرمانه ليس فقط من ثمار عمله، وإنما من حياته أو حريته أيضا. وللغازي يكمن خطر مماثل من قبل الآخرين.

...

وفي طبيعة الإنسان نجد ثلاثة أسباب رئيسية للخصام. الأول: التنافس؛ الثاني: عدم الثقة بالنفس؛ الثالث: المجد.

السبب الأول يجعل الناس يغزون من أجل الكسب؛ الثاني من أجل الأمن؛ والثالث من أجل السمعة الحسنة. في الحالة الأولى يلجأون إلى العنف كي يصبحوا أسيادا على أشخاص الآخرين، زوجاتهم، أولادهم، وقطعانهم. في الحالة الثانية، لكي يدافعوا عنهم. وفي الحالة الثالثة من أجل أمور تافهة مثل كلمة أو ابتسامة أو رأي مختلف أو أي علامة تقليل من قيمة، مباشرة تجاه أشخاصهم أو غير مباشرة تجاه أقربائهم، أصدقائهم، شعوبهم، مهنهم، أو أسمائهم.

ومن هنا يظهر جليا ان طالما يعيش الناس بدون قوة مشتركة ترهبهم جميعا، فانهم يظلون في حالة تسمى حالة الحرب. ومثل هذه الحرب هي حرب كل شخص ضد كل شخص. فالحرب ليست أساسا معركة أو قتالا فقط، وإنما في فترة زمنية تكون خلالها إرادة الناس للقتال معروفة بما فيه الكفاية. ولذلك فان مفهوم الزمن يجب النظر إليه على أنه غير منفصل عن جوهر الحرب، تماما كما أنه غير منفصل عن جوهر الطقس. فكما أن الطقس العاصف لا يكمن في وابل واحد أو وابلين من المطر، وإنما في الميل لهذا لعدة أيام متتالية، كذلك فان حالة الحرب لا تكمن في القتال الفعلي، وإنما في النزعة المعروفة لذلك خلال الوقت الذي لا يوجد فيه ضمان لعكس ذلك، وكل وقت آخر هو سلام.

ونتيجة لذلك، فان كل ما ينتج عن زمن الحرب، حيث يكون كل شخص عدوا لكل شخص، ينتج أيضا عن الزمن الذي يعيش خلاله الناس بدون أمن سوى ذلك الذي تؤمنه وتزوده قواهم ومكائدهــم. وفي وضــع كهــذا، لا مكان للكـــد والاجتهاد لأن ثــــماره غير أكيدة: ونتيجة لذلك، لا فلاحة ولا ملاحة ولا استعمالا للبضائع التي تجلب عن طريق البحر، ولا بنايات مريحة، ولا وسائط لنقل تلك الأشياء التي تحتاج إلى قوة كبيرة، ولا معرفة بسطح الأرض، ولا حساب للزمن، ولا فنون، ولا آداب، ولا مجتمع، والأسوأ من كل هذا، خوف دائم وخطر من الموت العنيف، وحياة الإنسان: وحيدة، فقيرة، قذرة، حيوانية، وقصيرة.

... وقد يظن أنه لم يكن هنالك وقت كهذا أو حالة حرب كهذه، وأنا بدوري اعتقد أنه لم يكن على العموم وضع كهذا في العالم بأسره. ولكن هناك أماكن كثيرة حيث يعيش الناس هكذا هذه الأيام. فلا توجد حكومة على الإطلاق لأولئك المتوحشين في أماكن كثيرة في أمريكا (سوى حكم العائلات الصغيرة حيث يعتمد الوئام على الشهوة الطبيعية). وهم يعيشون الآن حسب الطريقة الحيوانية التي تحدثت عنها سابقا. وبالرغم عن ذلك، يمكن ان يتصور المرء كيف يمكن أن يكون شكل الحياة في غياب قوة مشتركة يهابها الناس، إذا نظرنا إلى شكل الحياة التي ينحدر إليها الناس في حالة الحرب الأهلية وذلك بعد أن عاشوا سابقا في ظل حكومة سلمية.

...وهناك نتيجة أخرى لهذه الحرب، حرب الكل ضد الكل: لا شيء يمكن أن يكون جائرا. ومفاهيم الصواب والخطأ، العدل والجور، ليس لها مكان هنا. فحيث لا توجد قوة مشتركة لا يوجد قانون، وحيث لا يوجد قانون لا يوجد جور (أو ظلم). العنف والاحتيال في الحرب هما الفضيلتان الرئيسيتان. العدل والجور ليسا من ملكات الجسد أو ملكات الروح. ولو كانا كذلك، لوجدا في الإنسان الواحد والوحيد في العالم، تماما كحواسه وعواطفه. انهما صفتان للإنسان داخل المجتمع، وليس للإنسان المنعزل. ومن نتائج هذا الوضع أيضا عدم وجود ملكية أو تمييز بين ما هو لي وما هو لك، وإنما لكل إنسان ما يستطيع الحصول عليه، وللمدة التي يستطيع المحافظة عليه. إلى هذا الحد من الوضع البائس للإنسان، ذلك الوضع التي أوجدته فيه الطبيعة فعلا، رغم إمكانية الخروج منه، إمكانية تكمن جزئيا بعواطفه، وجزئيا بعقله.

ان العواطف التي تجعل الناس يجنحون نحو السلم هي الخوف من الموت، الرغبة في تلك الأشياء الضرورية للعيش المريح، والأمل في الحصول عليها بالكد والاجتهاد. والعقل يقترح أسسا مناسبة للسلام يمكن ان يتفق الناس عليها. من هذه الأسس، والتي تسمى أيضا قوانين الطبيعة، سوف أتحدث بمزيد من التفصيل في الفصلين التاليين.


(من الفصل 13)
الحق الطبيعي، والذي يسميه الكتّاب باللاتينية (Jus Naturale)، هو حرية كل شخص في استعمال قوته حسب ما يريد لحماية طبيعته، أي حياته الخاصة، وتبعا لذلك، في عمل أي شيء يكون حسب حكمه وتفكيره وسيلة مناسبة لذلك.

الحرية، حسب الدلالة الصحيحة لهذه الكلمة، هي غياب العوائق الخارجية: تلك العوائق التي تعطل أحيانا جزءا من قوة الإنسان لعمل ما يريد، ولكنها لا تستطيع منعه من استعمال القوة المتبقية في حوزته حسب ما يمليه عليه حكمه وعقله.

قانون الطبيعة (Lex Naturalis) هو أمر، قاعدة سلوك عامة، أوجدها العقل لمنع الإنسان من عمل أي شيء يدمر حياته أو يجرده من الوسائل لحمايتها أو يحذف ما يعتقد أنه الأفضل لحمايتها. ولأن المهتمين بالموضوع خلطوا ما بين Jus و Lex، بين الحق والقانون، فمن الضروري التمييز بينهما. الحق هو الحرية في العمل أو الإحجام عن العمل، بينما القانون يلزم الإنسان بواحد منهما. ولهذا فان الحق والقانون يختلفان تماما كاختلاف الواجب والحرية، ويتعارضان في علاقتهما بنفس القضية.

وبما أن حالة الإنسان (كما أعلنا في الفصل السابق) هي حالة حرب الكل ضد الكل، وبما أن كل شخص يتصرف وفق إملاء عقله ويمكنه اللجوء لأي شيء يساعده في الحفاظ على حياته ضد أعدائه، ينتج عن ذلك أن لكل شخص في هذا الوضع حقا في كل شيء، فلا ضمان لأحد (مهما كان قويا أو حكيما) في استنفاذ ذلك القسط من الحياة التي تسمح به الطبيعة عادة لبني البشر. ولذلك، فمن أوامر العقل أو قواعده العامة: "أن على كل شخص أن يسعى نحو السلم طالما ان هناك أملا في ذلك، وإذا تعسر الحصول عليه، يجوز له أن يبحث عن وان يستغل جميع منافع الحرب". الجزء الأول من هذه القاعدة يشتمل على قانون الطبيعة الأول والأساسي وهو: إسْعَ نحو السلم وابحث عنه. أما الجزء الثاني، وهو اختصار الحق الطبيعي، فهو: الدفاع عن النفس بكل الوسائل المتاحة.

من هذا القانون الطبيعي الأساسي، والذي يأمر الناس بالسعي نحو السلم، يستمد القانون الثاني: "إن على الإنسان أن يكون مستعدا، إذا كان الآخرون كذلك، والى الحد الذي يعتقد أنه ضروري من أجل السلام ومن أجل الدفاع عن النفس، للتنازل عن هذا الحق في كل شيء، وان يرضى بذلك القدر من الحرية تجاه الآخرين الذي يسمح لهم به تجاهه". إذ طالما يتمتع كل شخص بهذا الحق في عمل أي شيء يريد، يبقى جميع الناس في حالة حرب. وإذا لم يتنازل الناس الآخرون عن حقهم، كما يتنازل هو، فلا مبرر لأحد بأن يجرد نفسه من حقه، لأنه بهذا يجعل نفسه فريسة (وهو ما لا يجب عمله) بدلا من أن يعد نفسه للسلام. وهذا القانون هو نفسه قانون العهد الجديد: "ما تطلب ان يعمله الناس لك، عليك أن تعمله لهم".

...عندما يتنازل المرء عن حقه أو يتخلى عنه، يكون ذلك إما بسبب حق عكسي تم التنازل عنه لصالحه، أو بسبب نفع يأمل تحقيقه بواسطة ذلك. لأن ذلك (أي التنازل) عمل إرادي. والأفعال الإرادية للإنسان تهدف إلى تحقيق النفع له. ومن هنا فان هناك حقوقا لا يجوز فهم الإنسان سواء بالكلام أو بالعلامات الأخرى، على أنه تنازل عنها أو تجرد منها. أولا، لا يستطيع المرء أن يتخلى عن حقه في مقاومة من يعتدي عليه بالعنف كي يسلبه حياته، إذ لا يعقل أن يرجو المرء بهذا نفعا لنفسه. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الجروح والقيود والسجن. ليس فقط لأن تحملا كهذا ليس مفيدا له (كالصبر على الألم إذا أصيب أو إذا سجن له صديق) وإنما أيضا لأنه لا يستطيع أن يعرف إذا كان المعتدون يقصدون موته أم لا. وأخيرا، فإن الدافع أو الهدف الذي من أجله تم التنازل أو التخلي عن هذا الحق ليس سوى الأمن على شخص الإنسان في حياته، وفي الوسائل للحفاظ عليها لئلا يضجر منها. ولذلك إذا تظاهر المرء، بالكلمات أو العلامات الأخرى، أنه يسلب نفسه ذلك الهدف الذي من أجله وجدت هذه العلامات، يجب أن يفهم لا على أنه يقصد أو يريد ذلك، وإنما على انه يجهل كيف يمكن أن تفسر تلك الكلمات والأعمال.

والتنازل المتبادل عن الحق هو الذي يسميه الناس "تعاقدا".


(من الفصل 14)
...من ذلك القانون الطبيعي الذي يوجب علينا التنازل عن الحقوق للآخرين، والتي لو تمسكنا بها لوقفنا في طريق سلام الجنس البشري، يتبع قانون طبيعي ثالث هو: "من يوقع عقدا وجب عليه أن يحافظ عليه". وبدون ذلك تكون العقود عبثا وكلاما فارغا ولأن حق كل شخص في كل شيء يبقى قائما، فاننا لا نزال في حالة حرب.

وقانون الطبيعة هذا هو منبع وأصل كل عدل. فحيث لا توجد اتفاقيات سابقة لا يتم التنازل عن أي حق ولكل إنسان الحق في كل شيء، ولا يعتبر أي عمل عندها جائرا أو ظالما. ولكن إذا عقد اتفاق، فان خرقه يعتبر عملا جائرا. وتعريف الجور (injustice) هو عدم المحافظة على العهود. وكل ما ليس جورا هو عدل.

... وقوانين الطبيعة ثابتة وأبدية. وذلك لأن الظلم، نكران الجميل، الغرور، الكبرياء، الإثم، والإيثار، الخ لا يمكنها أن تكون قانونية. لأن الحرب لا تحافظ على الحياة إطلاقا، ولأن السلام لا يكون مدمرها.

ولان هذه القوانين تستلزم الرغبة والجهد فقط، أقصد الجهد الصادق، فمن المتيسر مراعاتها. ولأنها لا تتطلب سوى الجهد، فمن يحاول جادا المحافظة عليها يمكنه القيام بذلك. ومن يحافظ على القانون يكون عادلا.


(من: الفصل 15)
يصبح جمهور من الناس شخصا واحدا (One Person) حين يمثلهم فرد واحد أو شخصية واحدة، بالموافقة الفردية لكل واحد منهم. وذلك لأن وحدة الممثِّل وليس وحدة الممثَّل هي التي تجعل الشخصية واحدة. والممثِّل هو الذي يحمل شخصية، الشخصية الواحدة فقط. ولا معنى للوحدة بالنسبة للجمهور دون ذلك. ولأن الجمهور ليس بطبيعته فردا واحدا وإنما كثرة من الناس، فمن المحال اعتبارهم أصحاب عمل واحد، وإنما هم أصحاب أفعال كثيرة، فيما يتعلق بكل شيء يقوله أو يعمله الممثل بالنيابة عنهم. فكل واحد يمنح الممثل المشترك تخويلا فرديا عن نفسه فقط، وهو نفسه صاحب كل الأفعال التي يقوم بها الممثل، هذا إذا أعطي تخويلا غير مقيد.

[ملاحظة: يعدد هوبس 19 قانونا طبيعيا في هذا الفصل.]

... أما إذا حددوا بأي الأمور والى أي حد يمثلهم، فلا يعتبر أحدهم صاحب عمل أكثر مما فوض على عمله.

وإذا كان الممثل يتألف من عدد من الناس، فان صوت العدد الأكبر يجب اعتباره صوتهم جميعا. فإذا صوت العدد الصغير، مثلا، بالإيجاب، بينما صوت العدد الأكبر بالنفي، فهناك عدد كاف من أصوات النفي لنقض عدد أصوات الإيجاب. ولذا فان فائض أصوات النفي التي لا تناقض، هي الصوت الوحيد الذي يملكه الممثل.



(من: الفصل 16)
الجزء الثاني: عن المجتمع (Common - Wealth)
إذا كان الناس بطبيعتهم يحبون الحرية والسيطرة على الآخرين، فما هو السبب النهائي أو الغاية أو الهدف من وراء إدخال تلك القيود على أنفسهم (تلك القيود التي يعيشون وفقها في المجتمع أو الدولة)؟ الهدف هو الحفاظ على البقاء وعلى حياة أكثر رضى. هذا يعني إخراج أنفسهم من وضع الحر البائس ذاك، والذي هو النتيجة الضرورية (كما ذكرنا) للعواطف الطبيعية، في غياب قوة مرئية ترهبهم وتفرض عليهم بالخوف من العقاب، المحافظة على العقود ومراعاة تلك القوانين الطبيعية التي تحدثنا عنها في الفصلين الـ 14 و الــ 15.

ولأن قوانين الطبيعة (مثل العدل، الإنصاف، التواضع، الرحمة، وباختصار ان نعمل للناس ما نحب ان يعملوه لنا) بحد ذاتها، وبدون الخوف من قوة تفرض مراعاتها، مناقضة لعواطفنا الطبيعية التي تحملنا على التحيز، الكبرياء، الانتقام، وهكذا. والعقود بدون السيف مجرد كلام فارغ. وليس بمقدورها توفير الأمن للإنسان بتاتا. وبغض النظر عن القوانين الطبيعية (والتي يحافظ عليها من يريد المحافظة عليها فقط إذا تسنى له عمل ذلك في أمان)، فإذا لم تقم قوة كبيرة تكفي من أجل أمننا، فكل شخص يعتمد، وبحق على قوته وحيلته للحذر من كل الناس الآخرين...

... ان الطريقة الوحيدة لإقامة قوة مشتركة كهذه، قوة يمكنها الدفاع عن الناس من الغزو الخارجي ومن الأذى الذي يسببه أحدهم للآخر، وتوفير الأمن الذي يمكنهم من العيش المريح من كدهم ومن ثمار الأرض، الطريقة هي، أن يمنحوا كل قوتهم لشخص واحد أو لمجلس من النواب يكون بإمكانه اختزال إرادتهم، عن طريق التصويت بالأغلبية، إلى إرادة واحدة. هذا يعني، تعيين شخص واحد أو مجلس نواب واحد يحمل شخصيتهم، ويعترف كل منهم انه نفسه صاحب كل تلك الأفعال التي يقوم بها أو يتسبب في عملها حامل الشخصية، في تلك الشؤون ذات العلاقة بالسلام والأمن العامين. وبهذا يلغي جميع الناس إرادتهم أمام إرادته وأحكامهم أمام حكمه. وهذا يعتبر أكثر من الاتفاق والوئام، انه وحدتهم الحقيقية في شخص واحد. وحدة نتجت عن اتفاق كل شخص مع كل شخص آخر، وبالشكل الذي يمكن الواحد أن يقول للآخر: أخول هذا الشخص أو ذاك المجلس، وأتنازل له عن حقي في حكم نفسي، وذلك شريطة أن تتنازل عن حقك له وأن تصادق على أعماله مثلي. عندما يتم ذلك، فان الجمهور الذي اتحد في شخص واحد يسمى المجتمع أو الدولة (باللاتينية Civitas). وهذا يخلق "التنين" (Leviathan) الكبير أو، إذا تحدثنا بمزيد من الاحترام، هذا "الإله الفاني" والذي نحن مدينون له، وأمام الإله الخالد، على سلامنا وأمننا. وبناء على هذا التفويض الذي يعطى له من قبل كل شخص في المجتمع، فان عليه استعمال تلك القوة الكبيرة التي منح إياها، والتي يمكنه التلويح بها من صياغة إرادتهم جميعا من اجل السلام في الداخل ومن أجل الدعم المتبادل ضد الأعداء من الخارج. وبه يكمن جوهر الدولة، والتي يمكن تعريفها كالتالي: شخصية واحدة، والتي بناء على الاتفاقيات المتبادلة صادق كل فرد من الجمهور على أعمالها، لكي يتسنى لها استخدام قوتهم ووسائلهم جميعا، وكما تجد ذلك مناسبا من اجل السلام والأمن العامين.

حامل تلك الشخصية يسمى "العاهل" (Sovereign) وهو صاحب السلطة السيادة (Sovereign Power)، وكل فرد آخر غيره "رعية" (Subject).

الحصول على السلطة السيادية يتم بإحدى طريقتين: الأولى، بالقوة الطبيعية، وهذا يحصل عندما يضع شخص أولاده وأحفاده تحت سلطته، وفي حالة رفضهم ذلك يدمرهم، أو عندما يستعبد أعداءه في الحرب مقابل ان يبقي عليهم أحياء. أما الطريقة الثانية: عندما يتفق الناس فيما بينهم، وبإرادتهم الحرة، على الخضوع. الثاني يمكن تسميته المجتمع السياسي أو "المجتمع بالتأسيس"، بينما يسمى الأول مجتمع بالاكتساب (Common-Wealth by Aquisition). سوف أتحدث، في البدء، عن المجتمع بالتأسيس (Common-Wealth by Institution).

(من: الفصل 17)
يقال عن مجتمع أنه تأسس عندما يتفق جمهور من الناس ويتعاهدون، كل واحد مع كل واحد آخر، على التالي: بغض النظر عن الشخص أو المجلس الذي يمنح من قبل الجزء الأكبر من الناس حق تمثيل شخصيتهم جميعا (أي أن يكون مثلهم)، فعلى كل واحد منهم، سواء صوت مع أو ضد ذلك، أن يصادق على جميع أفعال وأحكام هذا الشخص أو المجلس، وكأنها أعماله وأحكامه وذلك لكي يعيش المتعاقدون بسلام فيما بينهم وفي حماية من الناس الآخرين.

من هذا التأسيس للمجتمع تستمد جميع الحقوق والصلاحيات الممنوحة لصاحب أو أصحاب السيادة حسب الاتفاق بين المجتمعين.

أولا، بما أنهم يوقعون عقدا، فمن الواجب أن يكون واضحا أنهم غير ملزمين بأي عقد سابق يناقضه. ونتيجة لذلك، إذا أسسوا مجتمعا والتزموا تعاقديا أن يعتبروا أنفسهم أصحاب تلك الأعمال والأحكام التي تصدر عن شخص واحد. فلا يستطيعون قانونيا أن يوقعوا عقدا جديدا فيما بينهم على إطاعة شخص آخر دون إذن منه. ومن هنا، فان رعايا الملك (أو الحاكم الفرد) لا يستطيعون، دون الحصول على إذنه، إلغاء الملكية والعودة إلى فوضى الجمهور الممزق، كما لا يستطيعون تحويل شخصيتهم من ذلك الذي يحملها إلى شخص أو مجلس آخر، وذلك لأنهم ملزمون كل تجاه الآخر، أن يكونوا أصحاب تلك الأعمال التي يقوم بها، أو يرى عملها مناسبا، صاحب السيادة. فإذا عارض أحد، يتوجب على جميع الباقين خرق العقد الذي وقعوه معه، وهذا ظلم (injustice). وبما أن كل واحد قد أعطى السيادة لذلك الفرد الذي يحمل شخصيتهم، فإذا عزلوه، فانهم بهذا يأخذون منه ما هو له، وهذا ظلم أيضا. إضافة إلى ذلك، من يحاول عزل العاهل، وقُتِلَ أو عوقب من قبله على تلك المحاولة، يكون نفسه صاحب ذلك العقاب، لأنه، وبناء على تأسيس المجتمع، يكون صاحب كل ما يعمله العاهل. وبما أنه من الظلم أن يقوم إنسان بأي عمل يعرضه للعقاب بتفويض من نفسه فإنه من هذه الناحية ظالم (unjust). وإذا علل بعض الناس عصيانهم للعاهل بذريعة عقد جديد وقعوه مع الله، وليس مع الناس الآخرين، فان هذا ظلم أيضا، فلا عقد مع الله الا بواسطة إنسان يمثل شخص الله. ولا ممثل لله سوى من يقوم مقامه وله السيادة في الأرض. وهذا الزعم بالتعاقد مع الله هو كذبة مكشوفة (حتى في ضمائر الزاعمين أنفسهم)، وهو ليس عملا ظالما فقط، وإنما أيضا عملا جبانا وحقيرا.

ثانيا، بما أن حق حمل شخصيتهم جميعا قد أعطي لمن جعلوه عاهلا بموجب عقد متبادل بين الناس، وليس بموجب عقد بين العاهل وبين أي منهم، فلا مجال لخرق العقد من جانب العاهل. ولذا فلا يستطيع أحد من رعاياه، وبحجة فقدان السيادة، أن يحرر نفسه من الخضوع. من نصب عاهلا لا يوقع عقدا مسبقا مع رعاياه - وهذا أمر غاية في الوضوح، لأن عليه عندها اما أن يوقع عقدا مع كل الجمهور كطرف واحد أو أن يوقع عقدا منفصلا مع كل شخص. عقد مع الجميع كطرف واحد هو أمر مستحيل، وذلك لأن الناس ليسوا شخصا واحدا بعد، وإذا وقع عقودا منفصلة مع كل واحد من الناس، تكون هذه العقود لاغية بعد أن يصبح عاهلا. وذلك لأن أي عمل يزعم أحدهم أن فيه خرقا، هو عمله وعمل البقية، نظرا لصدوره عن شخص، وبناء على حق كل منهم... إن الرأي القائل بأن أي ملك (أو حاكم فرد) يحصل على سلطته بواسطة العقد، أي بناء على شروط، مصدره سوء فهم لحقيقة بسيطة وهي: ان العقود مجرد كلمات ليست لها قوة إلزام أو كبح أو تقييد أو حماية أي إنسان، سوى تلك القوة المستمدة من السياق العام، أي من الأيدي غير المقيدة لذلك الشخص أو المجلس الذي له السيادة والمعترف بأفعاله من قبل الجميع، تلك الأفعال التي تنفذ بقوة الجميع متحدة بشخصه...

ثالثا: بما أن الأغلبية، بأصواتها الموافقة، أعلنت عن قيام العاهل، فعلى من كان معارضا من قبل أن يوافق الآن مع البقية، أي أن يعترف بجميع أعمال العاهل، والا استحق التدمير من قبل الآخرين. فإذا انضم شخص إلى جمع محتشد من الناس، فانه بهذا يعلن بما فيه الكفاية عن رغبته، وكأنه عقد اتفاقا ضمنيا، في الموافقة على ما تقرره الأغلبية. وإذا رفض الموافقة على ذلك أو احتج على أحد قرارات الأغلبية، فإن عمله هذا يكون مناقضا للعقد الذي وقعه، ويكون بالتالي عملا ظالما. سواء كان حاضرا في الحشد المجتمع أم لم يكن، وسواء طلبت موافقته أم لم تطلب، فان عليه الخضوع لقراراتهم، والا بقي في حالة الحرب التي كان فيها سابقا، حيث يجوز لأي شخص القضاء عليه دون أن يكون ظالما بحقه.

رابعا، بما أن كل رعية حسب هذا التأسيس (للمجتمع) يُعْتَبَرُ صاحب كل أعمال وأحكام العاهل، ينتج عن هذا أن أيا من أعمال العاهل لا ينطوي على إلحاق أي ضرر بأي من رعاياه، ولا يجوز لأي منهم اتهامه بالظلم. وذلك لأن من يقوم بعمل شيء بناء على تفويض من الآخر لا يلحق الضرر بمن عمل حسب تفويض منه. وبناء على هذا التأسيس للمجتمع، فان كل فرد يصادق على كل أفعال العاهل. وإذا كان الأمر كذلك، فإن من يتذمر من أي ضرر يسببه العاهل هو كمن يتذمر من عمل هو بمثابة صاحبه. ولكن لا يجوز أن يتهم نفسه بالضرر، لأنه من غير الممكن أن يضر الواحد نفسه. صحيح أن من يملك السلطة السيادية قد يرتكب بعض الشرور، ولكنه لا يسبب ظلما أو ضررا بالمعنى الدقيق.

خامسا، وبناء على ما قيل أخيرا، فلا يمكن عدلا إعدام صاحب السلطة السيادية على يد أي من رعاياه أو معاقبته بأي شكل من الأشكال. فبما أن كل رعية هو صاحب كل أعمال العاهل، فان من يعاقبه هو كمن يعاقب غيره على أعمال قام بها هو نفسه.

وبما أن الغاية من هذا التأسيس (للمجتمع) هو السلام والأمن للناس جميعا، وبما أن من له الحق في الغاية له أيضا الحق في الوسائل لتحقيقها، فمن حق صاحب السيادة، فردا كان أم مجلسا، أن يحكم بشأن الوسائل اللازمة للسلام والأمن وكذلك بشأن العوائق والعراقيل في وجههما، وان يعمل ما يعتقده ضروريا من أجل الحفاظ على السلام والأمن بواسطة منع الصراعات الداخلية والاعتداءات الخارجية، وكذلك من أجل إعادة السلام والأمن عند فقدانهما.

سادسا، فمن الصلاحيات الملحقة بالعاهل أن يكون قاضيا بشأن الآراء والمذاهب المعادية للسلم وتلك التي تؤدي إليه، وتبعا لذلك، بشأن مَن من الناس يمكن الوثوق به للتحدث إلى الجماهير، وفي أي المناسبات والى أي حد، وكذلك بشأن من يقوم بفحص المذاهب (والنظريات) في جميع الكتب قبل نشرها. وذلك لأن أعمال الناس تصدر عن أفكارهم، وفي حسن حكم الأفكار يكمن حسن حكم أعمال الناس من أجل السلام والوئام. ومع انه فيما يختص بالأفكار والعقائد يجب مراعاة الحقيقة فقط، الا أن ذلك لا يتعارض مع كون الحقيقة موجهة نحو السلام. فالنظرية المعارضة للسلام لا يمكنها أن تكون صحيحة، تماما كما لا يمكن للسلام والوئام ان يتعارضا مع قانون الطبيعة... ومن هنا فمن مصلحة العاهل أن يكون قاضيا، أو ان يعين القضاة، للبت في الأفكار والعقائد، لضرورة ذلك من أجل السلام ومنع الخصام والحرب الأهلية.

سابعا، ومن الصلاحيات الملازمة للسيادة الصلاحية الكاملة في تحديد الأحكام التي على أساسها يستطيع كل فرد أن يعرف ما هي الأشياء التي يمكنه التمتع بها وما هي الأعمال التي يمكنه القيام بها دون مضايقة من قبل بقية الرعايا. وهذا ما يسميه الناس "ملكية". فقبل تأسيس السلطة السيادية (وكما بينا سابقا) كان لجميع الناس الحق في كل شيء، مما يؤدي ضرورة إلى الحرب. وبما أن هذه الملكية ضرورية للسلام، وبما أنها تعتمد على سلطة سيادية، فإنها من أعمال تلك السلطة السيادية من أجل السلام العام...

ثامنا، ومن الحقوق الملازمة للسيادة الحق في القضاء، هذا يعني في الاستماع إلى والبت في الخلافات التي قد تنشأ حول القانون، المدني منه أو الطبيعي، أو حول الوقائع فبدون البت في الخلافات لا حماية للناس من الضرر الذي يلحقه الواحد بالآخر، وتكون القوانين المتعلقة بما هو لي وما هو لك فارغة...

تاسعا، ومن الحقوق الملازمة للسيادة الحق في صنع السلام أو الحرب مع الأمم والمجتمعات الأخرى. هذا يعني، الحكم متى يكون الأمر في مصلحة الجمهور، وما هو حجم القوة اللازم تجميعها وتسليحها ودفع أجرها من أجل ذاك الهدف، وفرض الضرائب على الرعايا لتغطية النفقات التي يتطلبها ذلك...

عاشرا، ومن الصلاحيات الملازمة للسيادة اختيار المستشارين، الوزراء، القضاة والضباط، في زمن الحرب كما في زمن السلم. فبما أن من مهمة العاهل الحرص على الهدف، وهو السلام والأمن العامين، فمن الواضح أن له صلاحية استخدام تلك الوسائل التي يعتقد أنها مناسبة للقيام بواجبه.

...وقد يقول قائل هنا بإن حالة الناس بائسة جدا لأنها عرضة للشهوات والانفعالات الاعتباطية لذلك الشخص أو أولئك الأشخاص الذين بأيديهم سلطة غير محدودة بهذا الشكل. وعلى العموم، فمن يعيش تحت حكم ملكي يظن أن هذا من نقائض الملكية (أو حكم الفرد)، ومن يخضع لنظام حكم ديمقراطي، أو لمجلس نواب سيادي، ينسب جميع المتاعب إلى هذا الشكل من المجتمع. ولكن الحكم، على جميع أشكاله، إذا كانت بدرجة من الكمال تكفي لحماية الناس، هو نفس الشيء. ويجب ألا ننسى أن حالة الناس لا يمكنها أن تكون بدون إزعاج من هذا النوع أو ذاك، وان أكبر المضايقات التي تحدث للناس عموما تحت أي من أشكال الحكم تكاد تكون غير محسوسة بالمقارنة مع الآلام والكوارث الهائلة التي ترافق الحرب الأهلية، أو حتى بالمقارنة مع الوضع الفاجر بدون حاكم، بدون الخضوع للقوانين وبدون سلطة الإرغام التي تقيد الناس وتمنعهم من السلب والانتقام. وكذلك يجب ألا ننسى أن معظم الضغط الذي يمارس على الناس من قبل حكامهم السياديين لا ينبع عن لذة أو منفعة يتوقعها الحكام من إلحاق الضرر بالرعايا أو إضعافهم (فقوة الناس هي أساس قوة ومجد الحكام)، وإنما من تهاون الناس في الإسهام في الدفاع عن أنفسهم، مما يضطر الحكام أن يأخذوا منهم ما أمكن في أيام السلم لتوفير الوسائل لمقاومة الأعداء وإخضاعهم في الحالات الاستثنائية ووقت الحاجة الطارئة.

(من الفصل 18)
المجتمع بالاكتساب (Common-Wealth by Aquisition) هو ذلك المجتمع الذي يتم فيه الحصول على السلطة في حالة بالعنف. ويتم الحصول عليها بالعنف حين يصادق الناس، فرادى أو جماعات، بأغلبية الأصوات، وبسبب الخوف من الموت أو الأغلال، على جميع أفعال ذلك الشخص أو المجلس الذي بين يديه حياتهم وحرياتهم.

السيطرة أو السيادة من هذا النوع تختلف عن السيادة بالتأسيس (Sovereignty by institution) في شيء واحد فقط: الناس الذين يختارون عاهلهم، يفعلون ذلك لأنهم يخافون من بعضهم البعض، وليس لأنهم يخافون من ذلك الشخص الذي ينصبونه عاهلا. ولكن في هذه الحالة فانهم يخضعون أنفسهم لذلك الشخص الذي يخافونه. وفي كلتا الحالتين، يفعل الناس ذلك بسبب الخوف، ولهذا الأمر يجب أن ينتبه أولئك الذين يعتقدون أن عقدا مصدره الخوف من الموت أو العنف يعتبر باطلا، فلو كان هذا صحيحا، لما أمكن إلزام أي شخص، في أي نوع من المجتمعات، بالطاعة...

ولكن الحقوق ونتائج السيادة هي ذاتها في الحالتين: بدون موافقة العاهل، لا يجوز نقل سلطته إلى غيره، ولا يمكنه فقدانها. ولا يستطيع أي من رعاياه أن يتهمه بإلحاق الضرر. ولا تجوز معاقبته من قبل الناس. وهو الحاكم بشأن ما هو ضروري من أجل السلام. وهو الذي يحكم بشأن العقائد والنظريات. وهو المشرع الوحيد، وهو القضاة، المستشارون، القادة العسكريون، الوزراء، وبقية الضباط والموظفون، وله الحق في تحديد العقاب والثواب وكل المراتب ودرجات الشرف. الأسباب لهذا هي نفسها المذكورة في الفصل السابق بشأن حقوق ونتائج السيادة بالتأسيس.

يبدو واضحا إذن، بموجب العقل أو الكتاب المقدس، ان السلطة السيادية، سواء كانت في يد شخص واحد كما في الملكية، أو في يد مجلس واحد كما في المجتمع الشعبي أو الأرستقراطي، هي من العظمة بقدر ما يستطيع المرء ان يتصور. وإذا كان يتهيأ للناس أن سلطة غير محدودة بهذا الشكل تؤدي إلى نتائج شريرة، الا ان نتائج غياب سلطة كهذه، والذي يعني حربا دائمة بين الإنسان وجاره، أسوأ من ذلك بكثير. ان حالة الناس في هذه الدنيا لن تكون بدون متاعب، ولكن أكبر المتاعب في أي مجتمع تنشأ عن عصيان الرعايا وخرقهم لتلك العقود التي تكمن في صميم المجتمع. وكل من يظن أن السلطة السيادية أوسع مما يجب، ويسعى إلى الحد منها، يكون عليه الخضوع لسلطة تستطيع تقييدها، أي لسلطة أوسع منها.

(من: الفصل 20)
القوانين المدنية (Civil Laws) هي تلك القوانين التي يتوجب على الناس مراعاتها لأنهم أعضاء، ليس بهذا المجتمع أو ذاك، وإنما في أي مجتمع كان. وذلك لأن معرفة القوانين الخاصة هي من اختصاص أولئك المنهمكين في دراسة قوانين بلادهم المختلفة. ولكن معرفة القانون المدني بشكل عام هي من شأن كل إنسان. القانون الروماني القديم يسمى "القانون المدني" (Lex Civilis)، مشتق من كلمة (Civilas) والتي تعني المجتمع. وتلك البلدان التي كانت خاضعة للإمبراطورية الرومانية والتي كانت تحكم حسب ذلك القانون، ما زالت تحتفظ بذلك الجزء منه الذي تعتبره مناسبا. تلك البلدان تسمي ذلك الجزء "القانون المدني" للتمييز بينه وبين بقية القوانين المدنية الأخرى...

ومن الواضح أولا ان القانون عموما ليس مشورة وإنما أمر، ليس أمرا يصدره أي شخص لأي شخص آخر، وإنما أمر يصدر عن الشخص الذي يوجهه إلى شخص آخر سبق والتزم بإطاعته اما حسب القانون المدني فيضاف اسم الآمر فقط والذي هو (persona civitatis) شخصية المجتمع.

وبناء على ما قيل أعلاه، فإنني أعرّف القانون المدني على النحو التالي: بالنسبة للرعية هو تلك القواعد والأحكام (Rules) التي يأمره المجتمع، شفاهة أو كتابة أو بأية علامة أخرى تدل على الإدارة، باستعمالها للتمييز بين ما هو مناف وغير مناف للقاعدة أو الحكم.

لا شيء في هذا التعريف يشوبه أي غموض. فكل شخص يعرف أن بعض القوانين موجهة إلى جميع الرعايا بعامة، بعضها الآخر إلى أقاليم معينة، بعضها إلى مهن معينة، وبعضها إلى جماعات معينة من الناس. ولذا فهي قوانين لمن هي موجهة إليهم، وليس لأي شخص آخر. وأيضا: القوانين هي الأحكام التي تحدد العادل والظالم. فلا شيء يعتبر ظالما إذا لم يكن منافيا لقانون معين.

ولا أحد يستطيع سَن القوانين غير المجتمع، وذلك لأننا خاضعون كرعايا للمجتمع فقط. كما أنه يجب الإعلان عن الأوامر بعلامات كافية والا فلا يعرف المرء كيف يطيعها. وتبعا لذلك، فان كل ما يمكن استنتاجه بالضرورة من هذا التعريف يجب الإقرار على أنه حقيقة. والآن استنتج منه ما يلي:

أ) ان المشرع في أي مجتمع هو العاهل فقط، سواء كان شخصا واحدا كما في الملكية أو مجلسا كما في الديمقراطية والأرستقراطية. المشرع هو الذي يسن القانون، والمجتمع هو الذي يأمر بمراعاة تلك الأحكام التي نسميها قانونا. ومن هنا فإن المجتمع هو المشرع. ولكن المجتمع ليس شخصا وليس في وسعه عمل أي شيء الا من خلال ممثله (أي العاهل). ولذلك فالعاهل هو المشرع الوحيد. وللسبب ذاته، فلا يستطيع أحد إلغاء قانون سوى العاهل. فلا يلغي القانون الا قانون آخر يحرم تنفيذه.

ب) العاهل في المجتمع، شخصا واحدا كان أم مجلسا، غير خاضع للقوانين المدنية، فبما أن لديه صلاحية سن القوانين وإلغائها، فانه يستطيع إذا أراد التحرر من الخضوع بواسطة إلغاء تلك القوانين التي تزعجه وسن قوانين جديدة. ولذلك، فهو متحرر من قبل. والحر هو من يستطيع أن يكون حرا متى شاء. كما أنه من المحال أن يكون الشخص ملزما تجاه نفسه، لأن ذلك الذي يلزم يمكنه أن يحرر من الالتزام. ولذا فان الملتزم تجاه نفسه فقط، لا يعتبر ملزما على الإطلاق.

ج) القانون الطبيعي والقانون المدني يشمل أحدهما على الآخر، ولهما نطاق متساو. فقوانين الطبيعة، والتي هي في أساسها الإنصاف والعدل والعرفان بالجميل وبقـــية الفضائل الأخلاقية التي تعتمد عـــليها في الحالة الطبيعية (كما قـــــلت في نهاية الفصل 15) ليست قوانين بالمعنى الدقيق، وإنما صفات تهيئ الناس للسلام والطاعة. حين يتأسس المجتمع فقط، وليس قبل ذلك، تصبح قوانين فعلية، حيث تصبح عندها أوامر المجتمع، وتبعا لذلك قوانين مدنية أيضا. وذلك لأن السلطة السيادية هي التي تلزم الناس بإطاعتها... القانون المدني والقانون الطبيعي ليسا نوعين مختلفين وإنما جزءان مختلفان للقانون: جزء مكتوب يسمى "مدني" وجزء غير مكتوب يسمى "طبيعي". ولكن الحق الطبيعي، أي الحرية الطبيعية للإنسان، قد تكون مقيدة ومختصرة من قبل القانون المدني. ان الهدف من سن القوانين ليس سوى تلك القيود التي بدونها لا يمكن للسلام أن يسود. ولم يجلب القانون إلى العالم الا لتقييد الحرية الطبيعية للأفراد، وبالشكل الذي يضمن عدم إيذاء بعضهم البعض، والمساعدة المتبادلة والاتحاد ضد عدو مشترك.

(من الفصل 26)
رأي رابع مناقض لطبيعة المجتمع يقول: "صاحب السلطة السيادية خاضع للقوانين المدنية". صحيح أن كل عاهل خاضع لقوانين الطبيعة لكون تلك القوانين مقدسة (إلهية) ولا يجوز إلغاؤها من قبل أي شخص أو أي مجتمع. ولكن القوانين التي يسنها العاهل نفسه، أي تلك التي يسنها المجتمع، فهو غير خاضع لها. فالخضوع للقوانين معناه الخضوع للمجتمع، أي لممثله السيادي، أي لذاته. وهذا ليس خضوعا وإنما حرية من القوانين. ان هذا الخطأ، ولأنه يصنع القوانين فوق العاهل، يصنع قاضيا فوقه أيضا، وسلطة لمعاقبته، وهذا يعني عاهلا جديدا، ولنفس السبب، عاهلا ثالثا لمعاقبة الثاني، وهكذا إلى ما لا نهاية، الأمر الذي يؤدي إلى الفوضى والى انحلال المجتمع.


ترجمة د. سعيد زيداني

جمال جرار 20 - 7 - 2010 06:59 PM

6- جان جاك روسو

ولد جان جاك روسو (Jean Jacques Rousseau) من عائلة فرنسية الأصل في مدينة جنيف في سويسرا عام 1712. تميزت حياة روسو ومنذ ولادته بالشقاء والتشرد والتعاسة، فبعد ولادته بأسبوع توفيت والدته لتتركه يتلقى العناية من الآخرين. وفي وصف شخصيته التعسة نراه يتذكر في كتاب "الاعترافات": "لقد ولدت ضعيفاً ومريضاً، وقد دفعت والدتي حياتها ثمن ولادتي، هذه الولادة التي كانت أول مصائبي".

لم يبلغ السادسة من عمره الا وكان أبوه يحمله على قراءة القصص الروائية والكتب الفلسفية مثل خطاب عن التاريخ العام من تأليف بوسويه (Bossuet) ومحاورات الموتى لفونتينيل (Fontenelle) وبعض مؤلفات فولتير (Voltaire) وبلوتارك (Ploutarkhos).

بعد دخول والده في مشاجرة عنيفة واعتدائه بالضرب على الغير واضطراره للهرب من جنيف خوفاً من ملاحقة العدالة له، بدأت حياة الشقاء والتشرد تلاحق روسو لتبني شخصيته المعقدة. فقد أدخل في مدرسة بقي فيها سنتين اضطر لتركها بعد ان أخضع ظلماً لعقاب صارم. وبعد المدرسة وضع ليتعلم على أيدي أحد النقاشين حرفة النقش ولكن ظلم معلمه وجوره اضطراه للهرب من جنيف ليقيم عند سيدة محسنة في مدينة آنسي الفرنسية، والتي بدورها دفعته للتخلي عن المذهب البروتستانتي واعتناق المذهب الكاثوليكي وهو في السادسة عشرة من عمره. وبعد ذلك وبسبب حاجته للمال أخذ روسو ينتقل من عمل لآخر دون ان يجد ما يرضيه أو يوفر له الاستقرار، فمن سكرتير عند سيدة عجوز وحاجب عند آخر إلى مؤلف ومدرس موسيقى ومن ثم إلى منصب سكرتير لسفير فرنسا في البندقية والذي سرعان ما قدم استقالته منه ليعود إلى باريس ليعمل سكرتيراً ومن ثم في التنقيح الموسيقي.

خلال إقامته في باريس وبعد ان وثق علاقته بنخبة المجتمع الباريسي اشترك روسو بمسابقة علمية أقامتها أكاديمية ديجو (Dijon) حول دور النهضة العلمية والفنية في إفساد الأخلاق أو إصلاحها. فما كان من مقالته التي اشترك فيها في المسابقة وهي "خطاب في العلوم والفنون" إلا ان نالت الجائزة لعام 1750 وهذا ما جلب لروسو الشهرة الواسعة مما شجعه على المضي في الكتابة، فاشترك بمسابقة علمية حول أصل التفاوت بين الناس، فوضع مقالة بعنوان "خطاب في التفاوت بين الناس" عام 1755. وفي عام 1756 بدأ إكمال مؤلفه هيلويز (Heloiise) وبدأ بكتابة مؤلفيه الشهيرين "العقد الاجتماعي" و "إميل" اللذين نشرهما عام 1762، ثم نشر قاموس الموسيقى في عام 1767.

بالرغم من ان مؤلفات روسو لاقت الشهرة الواسعة والإقبال الشديد على قراءتها عبر الأرجاء الأوروبية، فإن كتابيه "العقد الاجتماعي" و"إميل" قد جلبا له الانتقاد والسخط وغضب المؤمنين والملحدين، المسيحيين والفلاسفة. فقد حكم برلمان باريس، وبعد عشرين يوماً فقط، بحرق الكتابين وسجن مؤلفهما مما اضطره إلى الهرب إلى سويسرا والتي بدورها كانت قد أصدرت حكماً مماثلاً على الكتابين. فلجأ روسو إلى إنجلترا حيث تعرف هناك على دافيد هيوم ونزل ضيفاً عليه ولكنه ما لبث ان تخاصم مع هيوم وعاد إلى فرنسا ليعمل كناسخ نوتات حتى وفاته في عام 1778.




روسو: مختارات من كتاب "العقد الاجتماعي"

الكتاب الأول

الفصل الأول: موضوع هذا الكتاب الأول
ولد الإنسان حرا إلا أنه مكبل في كل مكان بالأغلال. على ذلك النحو يتصور نفسه سيد الآخرين الذي لا يعدو ان يكون أكثرهم عبودية. فكيف جرى هذا التغيير؟ أجهل ذلك. وما الذي يمكنه ان يجعله شرعيا؟ أعتقد أنني أستطيع حل هذه المسألة.

ولو كنت لا أولي اعتباراً إلا للقوة لقلت: ما دام أي شعب يُكرَه على الطاعة وأنه يطيع، فانه يحسن صنعا، وما ان يستطيع خلع نير الطاعة ثم يخلعه فعلا، فانه يحسن صنعا أكثر: إذ يكون قد استعاد حريته بنفس الحق الذي سلبت منه به، أو أنه يكون موطد العزم على استردادها، أو أنه لم يكن ثمة من يستطيع ان ينتزعها منه. على النظام الاجتماعي حق مقدس، بمثابة أساس لجميع الحقوق الأخرى، ومع ذلك فان هذا الحق لا يصدر قط عن الطبيعة، انه إذن مبني على تعاقدات. إلا انني قبل الاستطراد بالبحث إلى ذلك يجب علي ان أثبت ما قدمت.

الفصل الثالث: في حق الأقوى
إن الأقوى لا يبقى أبدا على جانب كاف من القوة ليكون دائما هو السيد ان لم يحول قوته إلى حق، والطاعة إلى واجب. وما كان حق الأقوى، وهو حق أُخذ على محمل السخرية في الظاهر وفي حقيقة الأمر، أُقر كمبدأ. ولكن أفلا ينبغي ان يفسر لنا أحدهم هذه الكلمة. ان القوة هي قدرة مادية لست أرى أية أخلاقية يمكن ان تنتج عن آثارها. فالخضوع للقوة هو فعل من أفعال الضرورة، لا من أفعال الإرادة، إنه على الأكثر فعل يمليه الحرص. فبأي معنى يمكنه ان يكون واجبا؟

لنفترض لحظة وجود هذا الحق المزعوم. فانني أقول بأنه لا ينجم عن هذا الافتراض الا هراء لا يمكن تفسيره. إذ ما ان تكون القوة هي التي تصنع الحق حتى يتغير المعلول مع تغير العلة. فكل قوة جديدة تتغلب على الأولى ترث حقها. وما ان نتمكن من خلع الطاعة بلا عقاب حتى يصبح في مكنتنا فعل ذلك شرعيا. وما دام الأقوى على حق دائما تصبح بغية المرء ان يعمل بحيث يكون هو الأقوى. فما قيمة حق يتلاشى بتلاشي القوة؟ فإذا وجبت الطاعة بالقوة فلا حاجة للطاعة بالواجب، وإذا لم يقسر المرء على الطاعة فانه لا يكون ملتزما بها. وهكذا نرى إذن ان كلمة حق هذه لا تضيف شيئا إلى القوة، فهي هنا لا تعني شيئا البتة.

أطيعوا السلطات. فإذا كان هذا يعني الخضوع للقوة يكن التعليم جيدا، إلا أنه لا حاجة له وجوابي أنه سوف لا تنتهك حرمته أبدا. وأنا أعترف بأن كل قوة تأتي من الله، لكن كل مرض يأتي منه كذلك. فهل يعني ذلك ان يكون ممنوعا اللجوء إلى الطبيب؟ لئن فاجأني قاطع طريق في ركن من غابة: فلا يجب إعطاؤه نقودي بالقوة فحسب، ولكن هل أكون مجبرا، بصراحة، عندما يمكنني إخفاؤها عنه، على تسليمها إليه؟ ذلك ان المسدس الذي يمسك به هو بالتالي قوة كذلك.

لنعترف إذن بأن القوة لا تصنع حقا وإننا لسنا ملزمين بالطاعة إلا للسلطات الشرعية. وهكذا نعود دائما إلى طرح سؤالي الأولي.

الفصل الرابع: في العبودية
حيث إنه ليس لإنسان سلطة طبيعية على أقرانه وان القوة لا تنتج أي حق، فإن الاتفاقات تبقى إذن هي الأساس لكل سلطة شرعية بين البشر.

...

هكذا فان حق الاستعباد، من أية زاوية نظرنا إلى الأمور، حق باطل، ليس فحسب لأنه غير شرعي وإنما لأنه محال ولا يعني شيئا. ان هذين اللفظين: "استعباد" و "حق" لفظان متناقضان، أحدهما ينفي الآخر. وسواء أكان الأمر من إنسان لإنسان أم من فرد لشعب، فانه لمن البلاهة دائما ان نقول: "انني اعقد معك اتفاقا كله على حسابك وكله في صالحي وسأنفذه طالما يروق لي وانك ستنفذه طالما يروق لي".

الفصل الخامس: في أنه يجب الرجوع دائما إلى اتفاق أول
حتى لو أنني سلمت بكل ما فندته حتى الآن لما كان أنصار الحكم الاستبدادي في مركز أفضل. فسيكون ثمة فارق كبير دائما بين إخضاع جمهور غفير وإدارة مجتمع. ولئن أُخضع أشخاص مشتتون، تباعا لسيطرة فرد واحد، أيا كان عددهم فإنني لا أرى في ذلك قط إلا سيدا وعبيدا، لا أرى قط شعبا وزعيمه، انها جمهرة، إذا شئنا لا اتحاد. إذ ليس في ذلك لا خيرا عاما ولا هيئة سياسية. فهذا الرجل، حتى وإن استعبد نصف العالم لا يكون أبدا إلا فردا، ولا تكون مصلحته، المنفصلة عن مصلحة الآخرين إلا مصلحة خاصة على الدوام. وإذا حدث ان هلك هذا الرجل نفسه لظلت مملكته من بعده مبعثرة وبلا رابطة كما تسقط سنديانة كبيرة في كتلة من الرماد بعد ان تستهلكها النيران.

يقول غروتيوس[1]: "قد يهب شعب نفسه إلى ملك". فالشعب يكون شعبا إذن في رأي غروتيوس قبل ان يهب نفسه إلى ملك. إلا ان هذه الهبة نفسها هي فعل مدني يستلزم مداولة عامة. فقبل ان نتناول إذن بالبحث الفعل الذي ينتخب به شعب ملكا له يكون من المستحسن ان نبحث بالفعل الذي يكون به الشعب شعبا. ذلك ان هذا الفعل، نظرا لأنه سابق بالضرورة للفعل الآخر، هو الأساس الحقيقي للمجتمع.

وبالفعل، إذا لم يكن هناك اتفاق سابق قط فأين يكون، ان لم يكن الانتخاب بالإجماع، الإلزام بالنسبة للعدد الصغير على الخضوع لاختيار العدد الأكبر، ومن أين مصدر الحق لمائة شخص يريدون سيدا، في التصويت نيابة عن عشرة لا يريدون سيدا قط؟ فهل يكون قانون أغلبية الأصوات هو نفسه إنشاء للتعاقد ويفترض الاجتماع مرة على الأقل؟

الفصل السادس: في الميثاق الاجتماعي
إنني أفترض ان الناس وقد وصلوا إلى ذلك الحد الذي تغلبت فيه العقبات التي تضر ببقائهم في حالة الطبيعة، بمقاومتها، على القوى التي يستطيع كل فرد استعمالها من اجل استمراره في تلك الحالة. عندئذ لم يعد في مكنة تلك الحالة البدائية ان تدوم، وكان الجنس البشري سيهلك لو لم يغير طريقة وجوده.

ولما كان البشر لا يستطيعون خلق قوى جديدة وإنما توحيد وتوجيه قواهم الموجودة فحسب، فانه لم يبق لديهم من وسيلة أخرى للبقاء إلا تشكيل جملة من القوى بالدمج، يمكنها التغلب على المقاومة وحشدها للعمل بدافع واحد وجعلها تتصرف بتناسق.

هذا المجموع من القوى لا يمكن ان ينشأ إلا بمؤازرة عديدين: ولكن بالنظر إلى ان الأدوات الأولى في المحافظة على بقاء كل إنسان هي قوته وحريته فكيف يقيدهما دون الإضرار بنفسه ودون التهاون في أمر العنايات الواجبة عليه نحو نفسه؟ هذه الصعوبة يمكن وضعها، في حدود اتصالها بموضوعي، في العبارات التالية:

"إيجاد شكل من الاتحاد يدافع ويحمي كل القوة المشتركة، شخصُ كل مشارك وأمواله، ومع ان كل فرد يتحد مع الجميع إلا أنه لا يطيع إلا نفسه ويبقى حرا كما كان من قبل." هذه هي المشكلة الأساسية التي يقدم العقد الاجتماعي حلا لها.

ان شروط هذا العقد محددة بطبيعة الفعل إلى درجة ان أدنى تعديل يجعلها باطلة ولا أثر لها، بحيث انها، وان كانت ربما لم تذكر صراحة أبدا، تكون هي نفسها في كل مكان، وهي في كل مكان مقَرة ضمنا ومعترف بها، إلى ان يعود كل فرد، بعد ان تنتهك حرمة الميثاق الاجتماعي، إلى حقوقه الأولى عندئذ ويسترد حريته الطبيعية بفقده الحرية التعاقدية التي تخلى لأجلها عن حريته الأولى.

هذه الشروط يمكن اختصارها جميعها بالطبع في شرط واحد، ألا وهو التنازل الكامل من جانب كل مشارك عن جميع حقوقه للجماعة كلها. إذ بما ان كل شخص، بدءا، قد قدم نفسه بأكملها، وان الحالة متساوية بالنسبة للجميع، وبالنظر إلى تساوي الحالة بالنسبة للجميع، فلا مصلحة لأحد بأن يجعلها مكلفة للآخرين.

أما وقد تم التنازل بلا تحفظ فان الاتحاد فضلا عن ذلك، يكون أكمل ما يمكن ان يكون ولا يبقى لأحد شيء يطالب به. إذ لو بقيت للأفراد بعض الحقوق، ولعدم كون أي مرجع أعلى مشتركا يمكن الفصل بينهم وبين الجمهور، وبالنظر إلى ان كل واحد في أية نقطة سرعان ما قد يدعي أنه الحكم الخاص لنفسه في جميع المسائل، إذن لكانت حالة الطبيعة قد دامت ولأصبح الاتحاد بالضرورة استبداديا أو عقيما.

وأخيرا فان كل واحد إذ يهب نفسه للجميع، لا يهب نفسه لأحد. ولما لم يكن ثمة من مشارك لا نحصل منه على الحق نفسه الذي نتخلى عنه من أنفسنا، فإننا نكسب ما يعادل كل ما فقدناه وأكثر من ذلك قوة للمحافظة على ما لدينا.

إذا استبعدنا من الميثاق الاجتماعي ما ليس من جوهره سنجد أنه يتقلص إلى العبارات التالية: "يسهم كل منا في المجتمع بشخصه وبكل قدرته تحت إدارة الإرادة العامة العليا، ونلتقي على شكل هيئة كل عضو كجزء لا يتجزأ من الكل."

...

الفصل السابع: في العاهل صاحب السيادة
يتضح لنا من صيغة هذا العقد الاتحادي أنها تنطوي على التزام متبادل من الشعب والأفراد، وان كل فرد، وكأنه يتعاقد مع نفسه إذا صح القول، يجد نفسه مرتبطا بالتزام مزدوج: وذلك كعضو لدى العاهل تجاه الأفراد وبوصفه عضوا في الدولة قبل العاهل. لكننا هنا لا نستطيع تطبيق القانون الأساسي في الحق المدني الذي لا يترتب بمقتضاه على أي كان الوفاء بالتزام التعاقد مع نفسه، ذلك ان ثمة فارق واضح بين ان يكون المرء ملزما نحو ذاته أو قبل مجموع، هو جزء منه.

ولا بد من الإشارة أيضا إلى ان المداولة العامة التي يكون في وسعها إلزام جميع الرعايا نحو صاحب السيادة، بسبب العلاقتين المختلفتين اللتين ينظر لكل فرد منهم من زاويتيهما، لا يمكنها، بالحجة المضادة، إلزام صاحب السيادة تجاه نفسه. وانه لما يترتب عليه، بالنتيجة، ان يكون فرض صاحب السيادة لقانون لا يستطيع خرقه، ضد طبيعة الهيئة السياسية. إذ لما كان لا يستطيع اعتبار نفسه إلا من وجهة واحدة فقط فانه عندئذ يكون في حالة فرد يتعاقد مع نفسه: من حيث نرى أنه لا يوجد ولا يمكن ان يوجد أي نوع من القانون الأساسي يعتبر ملزما لهيئة الشعب حتى ولا العقد الاجتماعي. وهذا لا يعني ان هذه الهيئة لا يكون في مقدورها تماما الالتزام تجاه الغير فيما لا ينقض هذا العقد قط، إذ أنه قبل الأجنبي يصبح كائنا بسيطا، فردا.

ولكن لما كانت الهيئة السياسية أو صاحب السيادة لا يستمد كيانه إلا من قدسية العقد فانه لا يمكنه إلزام نفسه، حتى قبل الغير، بشيء يخل بهذا العقد الأصلي، كأن يتنازل عن جزء من نفسه أو ان يخضع لصاحب سيادة آخر. ذلك ان انتهاكه لحرمة العقد الذي يوجد بمقتضاه يعني تدمير نفسه، ومن لا يكون شيئا لا ينتج شيئا.

وما دامت هذه الجماعة قد اتحدت على هذا النحو فإنه لا تمكن الإساءة إلى أحد أعضائها دون الهجوم على الهيئة، بل وأقل من هذا لا يمكن المساس بالهيئة دون ان يشعر جميع الأعضاء بذلك. وهكذا يلزم الواجب والمصلحة على حد سواء الطرفين المتعاقدين على تبادل المساعدة باتفاقهما، وينبغي على الناس أنفسهم السعي إلى توحيد جميع المزايا المتعلقة بهذه العلاقة المزدوجة.

وبالنظر إلى ان صاحب السيادة لا يتكون إلا من أفراد يؤلفونه، فليس له ولا يمكن ان تكون له مصلحة معاكسة لمصلحتهم، وبالتالي فان القوة صاحبة السيادة لا حاجة لها البتة إلى ضمان تجاه رعاياها، حيث أنه من المستحيل ان تبتغي الهيئة الإضرار بجميع أعضائها. وسنرى فيما بعد من هذا البحث أنها لا تستطيع الإضرار بأي واحد بمفرده. فصاحب السيادة بما هو كائن به وحده، يكون دائما كل ما يجب ان يكون.

لكن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالرعايا تجاه صاحب السيادة الذي ليس هناك ما يكفل الوفاء بالتزاماتهم قبله، على الرغم من المصلحة المشتركة، إذا لم يكن يجد وسائل لتأمين إخلاصهم.

وبالفعل يمكن ان تكون لكل فرد، كإنسان، إرادة خاصة مخالفة للإرادة العامة التي له كمواطن أو متناقضة معها. فمصلحته الخاصة يمكن ان تملي عليه من التصرف ما يخالف المصلحة المشتركة تمام المخالفة، ووجوده المطلق والمستقل بصورة طبيعية يمكن ان يسول له النظر إلى ما يجب ان يؤديه للقضية المشتركة على انه مساهمة بلا مقابل، يكون فقدانها أقل ضررا بالآخرين من كلفة الدفع بالنسبة له. وإذ ينظر إلى الشخص المعنوي الذي يكون الدولة ككائن عاقل لأنه ليس إنسانا، فانه قد يتمتع بحقوق المواطن دون الرغبة في القيام بواجبات كرعية، وهذا ظلم قد يسبب تزايده خراب الهيئة السياسية.

ولكي لا يصبح الميثاق الاجتماعي إذن صيغة باطلة، فإنه يشتمل، ضمنيا، على هذا الالتزام الذي يستطيع وحده إعطاء القوة للآخرين: ألا وهو ان كل من يرفض إطاعة الإرادة العامة سوف يرغم عليها من قبل الهيئة بأكملها. وهذا لا يعني شيئا آخر غير أنه يجبر على ان يكون حرا؛ حيث ان ذلك هو الشرط الذي، وهو يقوّم كل مواطن للوطن، يحميه من أي خضوع شخصي؛ هو الشرط الذي يصنع براعة ولعبة الآلة السياسية والتي وحدها تجعل الالتزامات المدنية شرعية، والتي بدورها قد تكون، لولا ذلك، محالا واستبدادية وعرضة لأعظم إساءات الاستعمال.

الفصل الثامن: في الحالة المدنية
هذا الانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية يُحدث في الإنسان تغييرا بارزا جدا باستبداله الغريزة في مسلكه بالعدالة، وبإضفائه على أفعاله الأخلاقية التي كانت تنقصها فيما مضى. فان الإنسان، الذي لم يكن حتى ذلك الحين يراعي إلا نفسه، قد وجد أنه، بعد ان خلف فيه صوت الواجب النزوة البدنية وحل الحق محل الجشع، مجبر على العمل بمبادئ أخرى وعلى ان يستهدي بعقله قبل الانصياع لنوازعه...

ان ما يفقده الإنسان بالعقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية وحقا لا محدودا في كل ما يغريه وما يستطيع بلوغه، أما ما يكسبه فهو الحرية المدنية وملكية كل ما هو في حيازته. وحتى لا نخطئ في هذه التعويضات يجب ان نميز الحرية الطبيعية التي ليس لها من حدود سوى قوى الفرد، عن الحرية المدنية التي تكون محدودة بالإرادة العامة، وأن نفرق بين الحيازة التي ليست سوى نتيجة للقوة أو حق المستولي الأول وبين الملكية التي لا يمكن ان تبنى إلا على سند إيجابي.

يمكننا ان نضيف إلى ما تقدم، على المكتسب في الحالة المدنية، الحرية المعنوية التي وحدها تجعل من الإنسان سيد نفسه حقيقة، إذ ان ثروة الشهوة وحدها هي عبودية وإطاعة القانون الذي نسنه لأنفسنا هي حرية. لكنني قد أفضت كثيرا في الكلام عن هذا الأمر مع ان المعنى الفلسفي لكلمة حرية ليس هنا مما يدخل في موضوعي.

الفصل التاسع: في الملكية الواقعية
كل عضو من المجتمع يهب نفسه له بمجرد ان يتشكل، بالحال التي يوجد عليها عندئذ، هو وجميع قواه التي تعتبر الأموال التي في حيازته جزءاً منها. ولا ينبغي بمقتضى هذا التصرف ان تتغير طبيعة الحيازة بتغير المالكين وتصبح ملكية من ممتلكات صاحب السيادة. ولكن، لما كانت قوى المدينة السياسية مما لا يقارن من حيث العظم بقوى الفرد فان الحيازة العامة تكون كذلك في الواقع، أقوى وأكثر أحكاماً، دون ان تكون أكثر شرعية، على الأقل بالنسبة للأجانب. إذ ان الدولة، في مواجهة أعضائها، هي سيدة جميع ممتلكاتهم بمقتضى العقد الاجتماعي الذي يستخدم أساساً لجميع الحقوق، إلا أنها ليست كذلك في مواجهة الدول الأخرى إلا بمقتضى حق المحتل الأول الذي يعود إليها من الأفراد.

ان حق الاستيلاء الأول، وإن كان أكثر واقعية من حق الأقوى، لا يصير حقاً حقيقياً إلا بعد تقرير حق الملكية. ولكل إنسان بصورة طبيعية حق بكل ما يكون ضرورياً له؛ لكن العقد الإيجابي الذي يجعله مالكاً لشيء ما، يستبعده من كل الباقي. إذا ما دام قد حدد نصيبه فيجب ان يقتصر عليه ولا يبقى له حق قبل المجتمع. هذا هو السبب الذي يجعل حق الاستيلاء الأول، رغم ضعفه الشديد في حالة الطبيعة، موضع احترام كل إنسان مدني. وبمقتضى هذا الحق يحترم المرء ما يكون للغير أقل من احترامه لما له.

وعلى وجه العموم، لجواز حق الأسبقية في الاستيلاء على قطعة أرض، يجب ان تتوفر الشروط التالية: أولاً ان تكون هذه الأرض مما لم يشغلها إنسان بعد؛ وان لا يشغل منها المستولي، بالدرجة الثانية، إلا الجزء الذي يكون بحاجة إليه لبقائه، ثالثاً وأن لا تدخل في حيازته، بالشكليات الجوفاء، وإنما بالعمل فيها وبالزراعة، الدلالة الوحيدة على الملكية التي يجب على الغير احترامها بدلاً من السندات القانونية.

ألا نكون، بالفعل، ونحن نقصر حق الأسبقية في الاستيلاء على الحاجة والعمل، قد وسعناه إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه؟ هل يمكننا ان نضع حدوداً لهذا الحق؟ أيكفي ان يضع المرء قدمه في قطعة من الأرض مشتركة ليزعم انه صاحبها في الحال؟ وهل يكفي ان تكون له القوى في إبعاد الآخرين عنها فترة ما لينتزع منهم الحق في ان لا يعودوا إليها أبداً؟ فكيف يستطيع إنسان أو شعب، الاستيلاء على مساحة شاسعة من الأرض ويحرم منها الجنس البشري كله، ان لم يكن بالاغتصاب المعاقب عليه، بما ان هذا الاغتصاب ينزع من سائر البشر السكن والغذاء اللذين منحتهما لهم الطبيعة مشتركين؟ فهل كان عمل نونيز بالباو (Nunez Balbao) وهو يستولي على الساحل، ويعلن باسم تاج قشتالة حيازته على بحر الجنوب وعلى أمريكا الجنوبية كلها، كافياً لينزع ملكيتها من جميع السكان وليبتعد عنها جميع أمراء الأرض؟ لقد كانت هذه الشكليات تتضاعف، على هذا المستوى بما يكفي من عدم الجدوى، ولم يكن للملك الكاثوليكي إلا ان يعلن حيازته، من مقره، للعالم كله؛ مع الاستثناء بعدئذ لما كان مملوكاً من قبل الأمراء الآخرين فيما مضى.

نستطيع ان نتصور كيف أصبحت أراضي الأفراد وقد جمعت وباتت متجاورة، إقليماً عاماً، وكيف صار حق السيادة وقد امتد من الرعايا إلى الأرض التي يشغلونها، حقاً عينياً وشخصياً في ان واحد؛ وهو ما يضع المالكين في حالة من التبعية أكبر ويصنع من قواهم نفسها الضمانات لإخلاصهم. وهي ميزة لا يبدو ان الملوك القدامى قد فطنوا لها، إذ كانوا، وقد سموا أنفسهم ملوكاً للفرس والسكيتين والمقدونيين، ينظرون إلى أنفسهم كزعماء للناس أكثر من أنهم سادة على البلاد. أما ملوك اليوم فانهم يسمون أنفسهم ببراعة أكثر ملوك فرنسا وأسبانيا وإنجلترا، الخ.. وهكذا فانهم بامتلاكهم الأرض يكونون أكثر اطمئناناً للإمساك بالسكان.

والفريد في أمر هذا التنازل هو ان المجتمع، بدلاً من قبوله بممتلكات الأفراد يجردهم منها، لا يفعل إلا ان يؤمن لهم حيازتها الشرعية إذ يبدل الاغتصاب بحق حقيقي والانتفاع بالملكية. عندئذ بالنظر إلى اعتبار الحائزين مؤتمنين على الثروة العامة، وبالنظر إلى ان حقوقهم تكون محترمة من جميع أعضاء الدولة ومصانة من جميع قواها ضد الأجنبي، وبتنازل مفيد للشعب بل وأكثر من ذلك أيضاً لأنفسهم، يكونون قد اكتسبوا تقريباً، كل ما أعطوه.

وهو تناقض يفسر بسهولة بالتفريق بين ما يملكه صاحب السيادة والمالك من حقوق، على نفس العين، كما سنرى فيما بعد.

قد يحدث كذلك ان يبدأ الناس بالاتحاد قبل حيازتهم لأي شيء، وانهم حين يستولون بعد ذلك، على أرض تكفيهم جميعاً، ينتفعون بها بصورة مشتركة أو يقتسمونها فيما بينهم، إما بالتساوي أو وفقاً لنسب يحددها صاحب السيادة. وأياً ما كانت الطريقة التي يتم بها هذا الاكتساب، فان الحق الذي يكون لكل فرد على العين الخاصة به، يكون دائماً تابعاً للحق الذي للمجتمع على جميع الأرض. وبغير ذلك لا يكون هناك رسوخ في الرابطة الاجتماعية ولا قوة واقعية في ممارسة السيادة.

سأنهي هذا الفصل وهذا الكتاب بملاحظة يجب ان تفيد أساساً للنظام الاجتماعي كله؛ ذلك ان الميثاق الأساسي، بدلاً من هدم المساواة الطبيعية، يقيم مكانها، على العكس، مساواة معنوية، وأن البشر إذ يمكنهم ان يكونوا غير متساوين في القوة أو في العبقرية يصبحون جميعاً متساوين بالتعاقد وبالحق[2].


الكتاب الثاني
الفصل الأول: في ان السيادة غير قابلة للتنازل
إن أول وأهم نتيجة للمبادئ المقررة آنفا هي ان الإرادة العامة تستطيع وحدها توجيه قوى الدولة وفق غاية إنشائها وهي الخير المشترك: لأنه إذا كان تعارض المصالح الفردية قد جعل من الضروري إنشاء المجتمعات فإن اتفاق هذه المصالح نفسها هو الذي جعلها ممكنة. إذ ان ما في هذه المصالح المختلفة من عنصر مشترك هو الذي شكل الرابطة الاجتماعية ولو لم يكن هناك بعض النقاط التي تتفق عليها جميع المصالح لما أمكن وجود أي مجتمع. فعلى أساس هذه المصلحة المشتركة وحدها إذن يجب ان يحكم المجتمع.

وبناء عليه أقول: بالنظر إلى ان السيادة ليست سوى ممارسة الإرادة العامة فإنها لا تستطيع أبدا التنازل عن ذاتها، وأن صاحب السيادة، الذي ليس سوى كائن جماعي، لا يمكن ان يكون ممثلا إلا بنفسه. ان السلطة يمكن ان تُنقل، أما الإرادة فلا.

بالفعل، إذا لم يكن من المتعذر ان تتفق إرادة خاصة مع الإرادة العامة على نقطة ما فمن المستحيل على الأقل ان يكون هذا الاتفاق دائما وثابتا، إذ ان الإرادة الخاصة تجنح بطبيعتها إلى الإيثار بينما تجنح الإرادة العامة إلى المساواة. وإنه لأكثر استحالة أيضا ان يكون لدينا ضمان لهذا الاتفاق مع أنه لا بد من وجوده دائما، فقد لا يكون نتيجة للمهارة وإنما للصدفة. ولعل صاحب السيادة يقول: أريد حالياً ما يريده فلان من الناس أو على الأقل ما يقول انه يريد، لكنه لا يستطيع القول: ما سيريده هذا الإنسان غدا سوف أريده أنا أيضا، بحيث أنه من السخف ان تقيد الإرادة نفسها بالمستقبل، وبما أنه ليس من شأن أي إرادة ان ترضى بشيء يعاكس صالح الكائن الذي يريد. إذا وعد الشعب إذن، ببساطة، ان يطيع، فإنه ينحل بمقتضى هذا العقد، ويفقد صفته كشعب. وفي اللحظة التي يوجد فيها سيدا لا يبقى هناك صاحب سيادة ومنذئذ تكون الهيئة السياسية قد انهارت.

لا يعني هذا قط ان أوامر الرؤساء لا يمكن اعتبارها إرادات عامة، طالما يكون صاحب السيادة حرا في معارضتها ولا يعارضها. ففي مثل هذه الحالة يجب ان نخمن من السكوت العام بأن الشعب راض. وسوف يتضح هذا الأمر أكثر على مدى البحث.


الفصل الثاني: في ان السيادة لا تتجزأ
إن السيادة لا تتجزأ لنفس السبب الذي يجعلها غير قابلة للتنازل. إذ ان الإرادة تكون عامة[3]، أو أنها لا تكون كذلك، فهي إرادة هيئة الشعب كله أو إرادة جزء منه فحسب. وفي الحالة الأولى تكون هذه الإرادة المعلنة عملا من أعمال السيادة وتكون قانونا. أما في الثانية فليست سوى إرادة خاصة أو عمل من أعمال القضاء، انها مرسوم على أكثر تقدير.

لكن سياسيينا إذ لم يستطيعوا تجزئة السيادة في مبدئها، جزءوها في موضوعها، فهم يقسمونها إلى قوة وإلى إرادة، إلى سلطة تشريعية وإلى سلطة تنفيذية، إلى حقوق فرض ضرائب وإقامة عدالة وإعلان حرب وإلى إدارة داخلية وسلطة في التعامل مع الأجنبي: تارة يخلطون هذه الأجزاء جميعها وتارة يفصلون بينها، يجعلون من صاحب السيادة كائنا وهميا ومكونا من قطع مجلوبة، ذلك كأنهم كانوا يؤلفون الإنسان من أجساد عديدة يكون لأحدهما عينان وللآخر ذراعان ولغيرهما رجلان ولا شيء أكثر من ذلك. فإن مشعوذي اليابان، على ما يقال، يقطعون الولد أمام أعين النظارة إربا، ويقذفونها في الهواء ويعملون على سقوط الولد إلى الأرض حيا وقد ردت جميع أعضائه إليه. وهذا ما تفعله حيل سياسيينا تقريبا، فبعد ان يقطعوا أوصال الهيئة الاجتماعية بسحر يليق بالسوق يجمعون الأجزاء بطريقة لا يعلمها أحد.

يرجع هذا الخطأ إلى عدم تكوين أفكار مضبوطة عن السلطة السيادية وإلى اعتبار أجزاء من هذه السلطة ما لم يكن إلا تعبيرا عنها. وهكذا مثلا قد نظر إلى عمل إعلان الحرب وإلى عقد السلم كأنهما من أعمال السيادة، وهما ليسا كذلك، بما ان كلا من هذين العملين ليس قانونا قط، لكنه تطبيق للقانون فحسب، تصرف فردي يحدد حالة القانون، كما سنرى ذلك بوضوح عندما نحدد الفكرة المتصلة بلفظ قانون.

وإذا ما تتبعنا على نفس المنوال التقسيمات الأخرى سنجد أننا نخطئ في كل مرة نظن فيها بأن السيادة مجزأة، وأن الحقوق التي تؤخذ على أنها أجزاء من هذه السيادة تكون جميعها تابعة لها ويفترض فيها دائما إرادات سامية ليست هذه الحقوق إلا تنفيذا لها.

...

الفصل الثالث: إذا كانت الإرادة العامة يمكن ان تخطئ
ينتج مما تقدم ان الإرادة العامة تكون دائما عادلة وتميل دائما إلى النفع العام: ولكن لا ينجم عن ذلك ان تتسم مداولات الشعب دائما بنفس السداد. يراد دائما له الخير، لكن هذا الخير لا يرى دائما. ان الشعب لا يفسد أبدا، لكنه كثيرا ما يخدع، وعندئذ يبدو انه أراد ما هو شر.

كثيرا ما يكون هناك من الفارق بين إرادة الجميع والإرادة العامة، فهذه لا تراعي سوى المصلحة المشتركة، أما الأخرى فتراعي المصلحة الخاصة وليست سوى مجموع الإرادات الخاصة: ولكن جردوا هذه الإرادات نفسها من الزيادات ومن النقصان التي يهدم بعضها بعضا[4] تبقى لدينا كحاصل للخلافات الإرادة العامة.

إذا لم تكن للمواطنين، عندما يتداول الشعب وهو على دراية كافية، أية وسيلة للاتصال فيما بينهم فإن الإرادة العامة قد تنتج دائما عن العدد الكبير من الفوارق الصغيرة وتكون المداولة دائما حسنة. ولكن عندما تحدث تحايلات واتحادات جزئية على حساب الاتحاد الكبير، تصبح إرادة كل اتحاد من تلك الاتحادات عامة بالنسبة لأعضائه وخاصة بالنسبة للدولة، ويمكن القول عندئذ انه لم يبق هناك من المقترعين بقدر ما هناك من الناس، بل بقدر ما هناك من الاتحادات فحسب. عندئذ يصبح عدد الفوارق أقل وتعطي هذه الفوارق نتيجة أقل عمومية. وأخيرا عندما يغدو أحد هذه الاتحادات على جانب من الضخامة بحيث يتغلب على جميع الاتحادات الأخرى، فان النتيجة لا تكون حاصل الخلافات الصغيرة وإنما نتيجة خلاف وحيد، عندئذ لا تبقى هناك إرادة عامة، ولا يكون الرأي الذي يتغلب عليها سوى رأي خاص.

المهم إذن للحصول على التعبير عن الإرادة العامة ان لا يكون هناك جماعة جزئية في الدولة وأن لا يبدي كل مواطن رأيه إلا تعبيرا عنه[5] نفسه. فهذا ما كانت عليه المؤسسة الوحيدة والرفيعة التي أقامها ليكورغوس[6] العظيم. ولئن وجدت الجماعات الجزئية فيجب الإكثار من عددها وتلافي التفاوت فيما بينها كما فعل سولون ونيوما وسرفيوس. ان هذه الاحتياطات تكون وحدها الجيدة لجعل الإرادة العامة متنورة دائما ولكي لا يخطئ الشعب أبدا.


الفصل الرابع : في حدود السلطة السيادية
إذا كانت الدولة أو المدينة السياسية ليست سوى شخص معنوي تقوم حياته على اتحاد أعضائه، وإذا كان أهم غاياتها هي صيانة بقائها الخاص، فلا بد لها من قوة إكراه شاملة من أجل تحريك وتهيئة كل جزء على النحو الملائم للكل. وكما تمنح الطبيعة كل إنسان سلطة مطلقة على جميع أعضائه فان الميثاق الاجتماعي يمنح الهيئة السياسية سلطة تحمل، إذ توجهها الإرادة العامة، اسم السيادة كما قلت من قبل.

لكن علينا فضلا عن الشخص العام ان ننظر في الأشخاص الخاصين الذين يتكون منهم هذا الشخص العام، والذين تكون حياتهم وحريتهم مستقلة عنه بصورة طبيعية. فالمقصود إذن ان نحسن التمييز بين حقوق كل من المواطنين وصاحب السيادة[7] وبين الواجبات التي يجب ان يؤديها أولئك المواطنون بوصفهم رعايا والحق الطبيعي الذي يجب ان يتمتعوا به باعتبارهم بشرا.

ومن المسلم به ان كل ما يتنازل عنه كل فرد، بالميثاق الاجتماعي، من سلطته وممتلكاته وحريته، هو الجزء من كل ذلك فحسب الذي يقتضيه انتفاع المجتمع، ولكن يجب التسليم كذلك بأن صاحب السيادة وحده هو الذي يفصل في تلك الأهمية.

أن جميع الخدمات التي يستطيع أحد المواطنين تأديتها للدولة، عليه ان يؤديها لصاحب السيادة حالما يطلبها منه، لكن صاحب السيادة من جهته لا يستطيع تكبيل رعاياه بأي قيد غير مفيد للمجتمع، بل ليس في وسعه ان يريد ذلك: إذ لا يجري أي شيء في شريعة العقل بلا سبب ولا كذلك في ظل قانون الطبيعة.

فالالتزامات التي تربطنا بالهيئة الاجتماعية ليست إجبارية إلا لأنها متبادلة ومن طبيعتها أننا ونحن نؤديها لا يمكننا العمل من اجل الغير دون العمل كذلك من أجل أنفسنا. فلماذا تكون الإرادة العامة دائما عادلة ولماذا يريد الجميع على الدوام السعادة لكل واحد منهم ان لم يكن ذلك لأنه ليس هناك من شخص لا يحتاز على هذه الكلمة "كل واحد" ولا يفكر بنفسه وهو يقترع من أجل الجميع؟ وهذا ما يقيم الدليل على ان المساواة في الحق ومعنى العدالة الذي ينجم عنها، يشتقان من الأفضلية التي يعطيها كل واحد لنفسه وبالتالي من طبيعة الإنسان، وان الإرادة العامة من أجل ان تكون حقيقية يجب ان تكون كذلك في هدفها مثلما تكون في جوهرها، وانها يجب ان تنطلق من الجميع لكي تطبق على الجميع، وانها تفقد سدادها الطبيعي عندما تجنح إلى أي هدف فردي ومحدد، لأنه لا يكون لنا عندئذ، إذ نفضل فيما يكون غريبا عنا، أي مبدأ حقيقي يرشدنا من مبادئ العدالة.

بالفعل، ما ان يكون المقصود فعلا أو حقا فرديا، في نقطة لم تكن قد سويت باتفاق عام وسابق، حتى تصبح المسألة موضع تنازع. انها قضية يكون فيها الأفراد المعنيون طرفا ويكون الجمهور طرفا آخر، لكنني لا أرى فيها لا القانون الواجب إتباعه ولا القاضي الذي يجب ان يفصل فيها. وقد يكون من السخف ان نبتغي عندئذ الاستناد في ذلك إلى قرار صريح للإرادة العامة التي لا يمكن ان تكون سوى رأي أحد الطرفين، والذي لا يكون بالتالي، بالنسبة للطرف الآخر إلا إرادة أجنبية، خاصة، جانحة في هذه المناسبة إلى الظلم وعرضة للخطأ. وعليه فكما ان إرادة خاصة لا يمكن ان تمثل الإرادة العامة، تتغير طبيعتها عندما تطبق على موضوع خاص، ولا يمكنها كإرادة عامة ان تحكم لا على إنسان بمفرده ولا على واقعه. فعندما كان شعب أثينا، مثلا يسمي أو يعزل قادته، يمنح الواحد أكاليل المجد، ويوقع بالآخر ألوان العقاب... وبعديد من المراسيم الخاصة يمارس بلا تمييز جميع أعمال الحكم، فإن الشعب عندئذ لم تعد له إرادة عامة بمعنى الكلمة، إذ لم يعد يتصرف كسيد وإنما كقاضي. ولسوف يبدو هذا مناقضا للأفكار المألوفة ولكن يجب ان يترك لي المجال لعرض أفكاري.

يجب ان نتبين من ذلك ان ما يجعل الإرادة عامة، ليس عدد الأصوات بقدر ما هي المصلحة المشتركة التي توحدها، إذ ان كل واحد في هذه المؤسسة يخضع نفسه بالضرورة للشروط التي يفرضها على الآخرين، ومن هنا هذا الاتفاق الرائع بين المصلحة والعدالة الذي يضفي على المداولات المشتركة طابع الإنصاف الذي نراه يتلاشى في مناقشة كل مسألة خاصة، خالية من مصلحة مشتركة توحد وتماثل قانون القاضي مع شريعة الوطن.

وأيا ما كانت الجهة التي نرجع منها إلى الأصل فإننا نصل دائما إلى نفس النتيجة، وهي ان الميثاق الاجتماعي يقر بين المواطنين نوعا من المساواة بحيث يلتزمون جميعا بنفس الشروط، ويجب ان يتمتعوا جميعا بنفس الحقوق. وهكذا فان كل عمل من أعمال السيادة أي كل عمل صحيح من أعمال الإرادة العامة يوجب على جميع المواطنين أو يساعدهم كذلك، بطبيعة الميثاق، بحيث ان صاحب السيادة يعرف فحسب هيئة الأمة ولا يميز واحدا من أولئك الذين كونوها. فما هو إذن العمل السيادي بمعناه الحقيقي؟ انه ليس اتفاقا بين رئيس ومرؤوس وإنما اتفاق الهيئة السياسية مع كل واحد من أعضائها: وهو اتفاق شرعي لأن أساسه العقد الاجتماعي، وهو عادل لأنه مشترك بين الجميع. مفيد لأنه لا يمكن ان يكون له من هدف إلا الخير العام. وهو راسخ الأركان لأن القوة العامة والسلطة العليا تضمنانه. وبقدر ما يكون الرعايا غير خاضعين إلا لمثل هذه الاتفاقات فانهم لا يمتثلون لأمر شخص وإنما لإرادتهم الخاصة فحسب، والسؤال: إلى أي مدى تمتد حقوق كل من صاحب السيادة والمواطنين: هو السؤال إلى أي حد يكون في وسع هؤلاء المواطنين ان يلتزموا مع أنفسهم، كل واحد تجاه الجميع والجميع تجاه كل واحد منهم.

نتبين من ذلك ان السلطة السيادية مهما كانت مطلقة، مقدسة، لا يمكن المساس بها أبدا، لا تتجاوز ولا يمكن ان تتجاوز حدود الاتفاقات العامة، وان كل إنسان يستطيع التصرف تمام التصرف بما تتركه له هذه الاتفاقات من أمواله ومن حريته بحيث لا يحق لصاحب السيادة أبدا تكليف أحد الرعايا أكثر من آخر، لأن المسألة إذ تصبح عندئذ خاصة لا تعود من اختصاص سلطته.

انه لخطأ فادح، إذا ما أقرت هذه الفروقات، ان يقال بوجود أي تنازل حقيقي من جانب الأفراد في العقد الاجتماعي، وان وضعهم، بفعل هذا العقد، يصبح أفضل حقيقة مما كان عليه من قبل، وانهم بدلا من ان يتنازلوا يقومون بمبادلة مفيدة إذ يستبدلون وجودا قلقا وغير مستقر بوجود أفضل وأكثر أمنا ويحصلون على الحرية بدلا عن استقلالهم الطبيعي وعلى أمنهم الخاص بدلا من قدرة الإضرار بالغير، وعلى حق يجعله الاتحاد الاجتماعي لا يقهر بدلا من قوتهم التي كان في وسع آخرين التغلب عليها...

الفصل السادس: في القانون
لقد منحنا بالميثاق الاجتماعي للهيئة السياسية كيانها وحياتها. والمقصود الآن ان نعطيها الحركة والإرادة بالتشريع. وذلك ان العمل الأصلي الذي تشكلت بمقتضاه هذه الهيئة واتحدت لم يحدد بعد شيئا مما يجب عليها عمله من أجل بقائها.

ان ما يكون حسنا للنظام ويلائمه يكون كذلك بطبيعة الأشياء وبصورة مستقلة عن الاتفاقات البشرية. حقا ان كل عدالة تأتي من الله، وهو وحده منبعها، لكننا لو كنا نعرف ان نتلقاها من الخالق لما كانت بنا حاجة لا لحكومة ولا لقوانين. فلا ريب في ان هناك عدالة شاملة منبثقة من العقل وحده، إلا ان هذه العدالة يجب ان تكون متبادلة لإقرارها بيننا. فإذا نظرنا بشريا إلى الأشياء فان قوانين العدالة، في حالة انعدام الجزاء الطبيعي تكون باطلة بين البشر، فهي لا تصنع الا الخير للشرير والشر للعادل عندما يراعيها هذا العادل تجاه جميع الناس ولا يتقيد بها أحد تجاهه. لا بد إذن من اتفاقات ومن قوانين لربط الحقوق بالواجبات ورد العدالة للانطباق مع هدفها. ففي حالة الطبيعة، حيث يكون كل شيء مشتركا لا أكون مدينا بشيء لأولئك الذين لم أتعهد لهم بشيء ولا أعترف بما يكون للغير إلا بما يعود علي بالنفع. لكن الأمر ليس كذلك في الحالة المدنية حيث تكون جميع الحقوق محددة بالقانون.

ولكن ما هو القانون إذن في النهاية؟ طالما أننا سنكتفي بأن لا نضفي على هذه الكلمة إلى المعاني الميتافيزيقية فسنستمر في المحاججة دون تفاهم، وعندما نكون قد حددنا ما هي ماهية قانون الطبيعة لا نكون قد حصلنا على فهم أفضل لماهية قانون الدولة.

لقد سبق لي ان قلت انه ليس هناك إرادة عامة في موضوع خاص. والواقع ان هذا الموضع الخاص يكون في الدولة أو خارج الدولة. فإذا كان خارج الدولة، فإن الإرادة التي تكون أجنبية عنه لا تكون عامة قط بالنسبة له. وإذا كان هذا الموضوع في الدولة فانه يشكل جزءا منها. عندئذ يتكون بين الكل وجزئه علاقة تجعل منهما كائنين منفصلين، يكون الجزء أحد الطرفين، والكل ناقصا هذا الجزء نفسه هو الطرف الآخر. لكن الكل ناقصا جزءا ليس الكل قط، وما دامت هذه العلاقة تبقى قائمة لا يعود ثمة من كل وإنما جزءان غير متساويين، وينتج عن ذلك ان إرادة أحد الطرفين لا تكون عامة كذلك قط بالنسبة للطرف الآخر.

أما عندما يضع كل الشعب قواعد لكل الشعب فانه لا ينظر إلا إلى نفسه، وإذا ما كون لنفسه عندئذ علاقة فإنها تكون علاقة الموضوع بأكمله من وجهة نظر إلى الموضوع بأكمله من وجهة نظر أخرى دون أية تجزئة الكل. حينئذ تكون المادة التي توضع لها القواعد عامة كالإرادة التي تسن القواعد. ان هذا العمل هو الذي أدعوه قانونا.

عندما أقول ان هدف القوانين يكون عاما دائما فإنني أعني ان القانون ينظر إلى الرعايا كهيئة وإلى الأفعال على أنها مجردة ولا ينظر أبدا إلى إنسان بوصفه فردا ولا إلى عمل خاص. هكذا فالقانون هو: يستطيع القانون ان يقرر وجود امتيازات لكنه لا يستطيع منحها بالاسم إلى شخص. وفي وسع القانون ان ينشئ طبقات عديدة بين المواطنين، بل ويحدد الصفات التي تخول الأفراد الانتماء لهذه الطبقات- لكنه لا يستطيع تسمية هذا أو ذاك للدخول فيها، ويمكنه إقامة حكومة ملكية وراثية لكنه لا يستطيع انتخاب ملك ولا تسمية أسرة ملكية، وبكلمة ان كل وظيفة تتعلق بغرض فردي ليست من شأن السلطة التشريعية قط.

يتضح لنا في الحال، على ضوء هذه الفكرة، أنه لم يعد من الواجب ان نسأل عمن يحق له سن القوانين ما دام انها أفعال صادرة عن الإرادة العامة، ولا إذا كان الأمير فوق القوانين ما دام أنه عضو من الدولة، ولا عما إذا كان في وسع القانون ان يكون ظالما ما دام أنه ما من إنسان يكون ظالما لنفسه، ولا كيف نكون أحرارا وخاضعين للقوانين ما دام أنها ليست سوى سجلات لإرادتنا.

كذلك يتضح أنه لما كان القانون يجمع عمومية الإرادة وعمومية الموضوع فإن ما يأمر به إنسان من تلقاء نفسه، أيا كان، لا يكون قانونا قط، فحتى ما يأمر به صاحب السيادة في موضوع خاص ليس كذلك قانونا وإنما يكون مرسوما، ولا هو عمل من أعمال السيادة بل عمل من أعمال القضاء.

إنني اسمي إذن جمهورية كل دولة تحكمها القوانين، أيا كان شكل الإدارة فيها. لأنه عندئذ فحسب تكون المصلحة العامة هي التي تحكم، ويكون الشأن العام ذا شأن حقيقة. فكل حكومة شرعية تكون جمهورية[8]. ولسوف أشرح فيما بعد ما هي ماهية كلمة حكومة.

ليست القوانين بمعناها المحدد سوى الشروط للاتحاد المدني. والشعب الخاضع لهذه القوانين يجب ان يكون واضعها، إذا ان تنظيم شروط المجتمع لا يعني إلا أولئك الذين يتحدون، ولكن كيف ينظمونها؟ هل يتم ذلك باتفاق مشترك، بإلهام مفاجئ؟ وهل للهيئة السياسية جهاز لإعلان تلك الإرادات؟ فمن الذي سيعطيها البصيرة الثاقبة الضرورية لتكوين ما يصدر عنها من أحكام ونشرها مقدما، أو كيف لها ان تصدرها عند الاقتضاء؟ وكيف يتسنى لجمهور أعمى، لا يعرف ما يريد في كثير من الأحيان لأنه نادرا ما يعرف ما يكون خيرا له، ان يقوم من نفسه بتنفيذ مشروع عظيم إلى هذا الحد وصعب كالنظام التشريعي؟ ان الشعب يريد الخير دائما من تلقاء نفسه ولكنه لا يعرف الخير دائما من تلقاء نفسه. والإرادة العامة تكون دائما سديدة ولكن الحكم الذي يوجهها لا يكون دائما مستنيرا. لذلك يجب العمل دائما على ان ترى الأمور على حقيقتها، وأحيانا كما يجب ان تبدو لها وإرشادها إلى السبيل السوي الذي تسعى إليه وحمايتها من إغراء الإرادات الخاصة وتقريب الأمكنة والأزمنة إلى ذهنها والتخلص من إغراء المزايا الحاضرة والمحسوسة بخطر الشرور البعيدة والخفية. ان الأفراد يرون الخير الذي ينبذونه، ولكن الشعب يريد الخير الذي لا يراه. فالجميع، على حد سواء، بحاجة إلى من يرشدهم. يجب إلزام الأولين على مواءمة إرادتهم مع عقولهم، ويجب تعليم الشعب على ان يعرف ما يريد. وعندئذ ينشأ من الاستنارات العامة اتحاد الإدراك والإرادة في الهيئة الاجتماعية، حيث ينبثق التعاون الصحيح بين جميع الأطراف، وبالتالي أعظم قوة للكل. وها هنا منشأ الضرورة للمشرع.

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:02 PM

تابع تابع جان جاك روسو :

الفصل السابع: في المشرّع :

لاكتشاف أفضل قواعد المجتمع التي تتلاءم مع طبيعة الأمم لابد من توفر عقل ممتاز يرى جميع أهواء الناس ولا يعاني منها أي هوى، ولا تكون له أية علاقة مع طبيعتنا لكنه يدركها حتى أعماقها، وتكون سعادته مستقلة عنا، ومع ذلك يريد الاهتمام بسعادتنا، وأخيرا ان يستطيع هذا العقل، وهو يراعي مجدا بعيدا لنفسه في تقدم العصور، العمل في قرن ليحصد ثماره في قرن آخر[9]. وبعبارة أخرى لا بد من آلهة لتمنح القوانين للبشر.

إن المحاججة نفسها التي كان يجريها كاليجو لا فيما يتعلق بالفعل، كان يجريها أفلاطون فيما يتعلق بالحق لتعريف الإنسان المدني أو الملكي الذي كان يبحث عنه في كتابه الحكم، أما إذا كان صحيحا ان الأمير العظيم يكون نادر الوجود فماذا يكون من أمر المشرع العظيم؟ فليس على الأول إلا ان يسير على خطى المثل الذي يجب ان يرسمه المشرع له. أما هذا فانه الميكانيكي الذي يخترع الآلة في حين لا يكون ذاك إلا العمل الذي يركبها ويجعلها تسير. ان زعماء الجمهوريات، في ميلاد المجتمعات هم الذين، كما يقول مونتسيكو، يقيمون المؤسسة وإن المؤسسة بدورها هي التي تشكل رؤساء الجمهوريات.

إن من يجرؤ على مباشرة تنظيم شعب يجب ان يشعر أنه في ذلك بصدد تغيير الطبيعة البشرية، بصدد تحويل كل فرد، من شخص يكون، بذاته، كلا كاملا ومنعزلا، إلى جزء من كل أكبر منه يتلقى منه هذا الفرد، على هذا النحو، حياته وكيانه، وتبديل تكوين الإنسان من أجل تقويته، وإحلال وجود جزئي ومعنوي مكان وجود مادي ومستقل تلقيناه جميعنا من الطبيعة. ويجب باختصار، ان ينزع من الإنسان قواه الخاصة ليمنحه قوى غريبة عنه لا يستطيع استخدامها بلا مساعدة الآخرين. وكلما كانت قواه الطبيعية ميتة ومتلاشية، كانت القوى المكتسبة أعظم وأرسخ، وكانت المؤسسة أمتن وأكمل. بحيث إذا لم يكن كل مواطن شيئا، لا يستطيع شيئا إلا بجميع الآخرين وان القوة المكتسبة من الكل تكون مساوية أو أكثر من مجموع القوى الطبيعية لجميع الأفراد، فيكون في وسعنا القول: ان التشريع قد بلغ منتهى الكمال الذي يستطيع الوصول إليه.

فالمشرع من أية ناحية نظرنا إليه، شخص ممتاز في الدولة. وإذا كان كذلك بعبقريته فهو لا يقل عنه في وظيفته. وهي ليست منصب قضاء ولا سيادة قط. فإن هذه الوظيفة التي تكون الجمهورية لا تدخل قط في تكوينها. فهي وظيفة خاصة وسامية، لا شيء مشترك بينها وبين السلطة البشرية، إذ ان من يوجه البشر ليس عليه ان يوجه القوانين ومن يوجه القوانين ليس عليه كذلك ان يوجه البشر، وإلا لما فعلت قوانينه الخادمة لأهوائه، إلا إدامة مظالمه في أكثر الأحيان، ولن يستطيع أبدا تجنب ان تفسد وجهات نظر خاصة قداسة عمله.

عندما منح ليكورغوس قوانين لوطنه بدأها بالتنحي عن الملك. فقد كان العرف السائد في معظم المدن الإغريقية ان تعهد إلى أجانب بوضع قوانينها.

وغالبا ما اتبعت الجمهوريات الحديثة في إيطاليا هذا التقليد. كما لجأت جمهورية جنيف إلى مثل ذلك فتحسنت به حالها[10]. ولقد شهدت روما في أزهى عصورها نشوء جميع جرائم الطغيان في ظهرانيها ووجدت نفسها على وشك الهلاك لانها جمعت في نفس الأيدي السلطتين التشريعية والسيادية.

في حين ان الحكام العشرة (Decemvirs) أنفسهم لم يستأثروا أبدا بحق العمل على تقديم أي قانون بمحض سلطتهم. كانوا يقولون للشعب: ما من شيء مما نقترحه يصبح بحكم القانون دون موافقتكم. أيها الرومان، كونوا أنتم أنفسكم واضعي القوانين التي تصنع سعادتكم.

ليس لمن يكتب القوانين إذن أو لا ينبغي ان يكون له، أي حق تشريعي. ولا يستطيع الشعب نفسه، عندما يريده، ان يتنازل عن هذا الحق الذي لا يمكن انتقاله، لأنه بمقتضى الميثاق الأساسي ليس هناك إلا الإرادة العامة التي تلزم الأفراد، وإننا لا نستطيع أبدا التأكد من ان إرادة خاصة هي مطابقة للإرادة العامة إلا بعد إخضاعها لاقتراع الشعب عليها، ولقد سبق لي ان قلت ذلك إلا ان تكراره لا يخلو من فائدة.

هكذا نجد معا في تأليف التشريع أمرين يبدو أنهما غير متفقين: عملية فوق القدرة البشرية ومن أجل تنفيذها؛ سلطة ليست شيئا مذكورا.

وثمة صعوبة أخرى تستحق الاهتمام. وهي ان الحكماء الذين يريدون التحدث إلى العامة بلغتهم بدلا من لغتها لا يمكن ان تفهمهم. إذ ان هناك ألف نوع من الأفكار التي يستحيل ترجمتها إلى لغة الشعب. كما ان النظرات المبالغة في تعميمها والأهداف البعيدة جدا تتجاوز إدراكه، إذ ان كل فرد لا يتذوق نظاما للحكم غير ما يتفق مع مصلحته الخاصة، يتبين بصعوبة المزايا التي تعود عليه نتيجة الحرمان المستمر الذي تفرضه القوانين الجيدة. ولكي يتمكن شعب ناشئ من تذوق المبادئ الأساسية الصحيحة في السياسة ويتبع القواعد الأساسية في قيام الدولة، فلا بد من ان يمكن للمعلول ان يصير علة وأن تتصدر الروح الاجتماعية، التي يجب ان تكون من صنع النظام، النظام نفسه، وأن يكون البشر أمام القوانين ما يجب ان يكونوا بها. هكذا إذن تكون ثمة ضرورة: فيما ان المشرع لا يستطيع استخدام لا القوة ولا المحاججة، فعليه ان يلجأ إلى سلطة من نوع آخر يمكنها ان تقود دون عنف وأن تقنع دون إفحام.

هذا هو ما أجبر آباء الأمم في جميع الأزمنة على الاستعانة بتدخل السماء وأن ينسبوا إلى الآلهة فخار حكمتهم الخاصة، لكي تطيع الشعوب، الخاضعة لقوانين الدولة كخضوعها لقوانين الطبيعة ومعترفة بالسلطة نفسها في تكوين الإنسان وفي تكوين المدينة السياسية، بحرية، وتحمل نير الهناء العام المشترك بكل انقياد.

هذا العقل السامي الذي يرتفع فوق إدراك الناس العاديين هو العقل الذي يضع به المشرع الأحكام على أفواه الخالدين، ليقود بالسلطة الإلهية، أولئك الذين لا يمكن ان تزحزحهم الحكمة البشرية[11]. ولكن لا يحق لكل إنسان ان يجعل الآلهة تتكلم ولا ان يكون مصدقا عندما ينبئ الناس أنه ترجمانها. فإن روح المشرع العظيمة هي المعجزة التي يجب ان تثبت رسالته. ففي وسع كل إنسان ان ينقش ألواحا من حجر، أو ان يشتري وسيطا للوحي (Oracle)، أو يزعم اتصالا سريا بـأحد الآلهة، أو يدرب طيرا ليتعلم الهمس في أذنه أو العثور على وسائل أخرى فظة لخداع الشعب. ان من لا يستطيع غير ذلك يكون في وسعه حتى ان يجمع حوله، صدفة، جماعة من الحمقى، لكنه سوف لا يؤسس حكما أبدا وسرعان ما يتلاشى عمله مع هلاكه. ذلك ان المجد الباطل يشكل علاقة عابرة. فليس ثمة ما يجعله دائما سوى الحكمة. ان الشريعة اليهودية ما زالت باقية، وشريعة ابن إسماعيل "محمد" التي تحكم العالم منذ عشرة قرون، ما برحت تنبئ حتى اليوم بعظمة الرجال الذين أملوها، وبينما لا ترى فيهم كبرياء الفلسفة أو روح التحيز العمياء سوى دجالين حسني الحظ، فان السياسة الحقيقية تعجب في مؤسساتهم بتلك العبقرية العظيمة والقوية التي تشرف على منشآتهم الدائمة.

ينبغي ان لا نخلص من كل هذا إلى القول مع واربورتن (Warburton) بأن للسياسة والدين بيننا هدفا مشتركا وإنما، في أصل الأمم، يفيد أحدهما أداة للآخر.


الفصل التاسع: في الشعب (تابع)
كما أعطت الطبيعة حدودا لقوام الرجل حسن التكوين فإذا ما زاد عنها أو قل يكون إما عملاقا وإما قزما، كذلك راعت التكوين الأفضل للدولة بالحدود التي يمكنها ان تمتد إليها لكي لا تكون كبيرة جدا يتعذر حكمها على وجه حسن ولا صغيرة جدا لكي تستطيع المحافظة على نفسها بنفسها. ففي كل هيئة سياسية حد أعلى من القوة لا يكون في وسعها تجاوزه، غالبا ما تبتعد عنه من فرط تعاظمها. وكلما اتسعت الرابطة الاجتماعية كلما تراخت وبصفة عامة تكون الدولة الصغيرة، نسبيا، أقوى من الكبيرة.

هناك ألف دليل للبرهان على صحة هذه الحقيقة العامة. أولا: ان الإدارة تصبح أشق في المسافات البعيدة، كما يصبح الوزن أثقل على طرف رافعة أطول. كما تصبح أكثر كلفة كلما تضاعفت الأطراف، ذلك ان لكل مدينة هيئتها الإدارية، قبل كل شيء، التي يتحمل الشعب نفقاتها، ولكل منطقة إدارتها التي يدفع الشعب نفقاتها أيضا، ثم لكل ولاية. وأخيرا الحكومات الكبيرة والمرازبة ونواب الملكية الذين يجب ان ندفع لهم بسخاء كلما ارتفعت درجاتهم. ويكون ذلك دائما على حساب الشعب البائس. وفوق ذلك كله تأتي الإدارة العليا التي تسحق الجميع. فإن أعباء كثيرة كهذه الأعباء تستنزف قوى الرعايا باستمرار، وبدلا من ان تحكمهم مختلف هذه الأنظمة حكما أفضل تصبح حالتهم أسوأ مما لو كانوا خاضعين لنظام واحد. ويكاد لا يبقى والحالة هذه من الموارد ما يغنى بمواجهة الطوارئ وعندما تعمد الدولة إلى الحصول على موارد لها تكون دائما على وشك الوقوع في خراب شامل.

وهذا ليس كل شيء، إذ لا يقتصر الأمر على ان تكون الحكومة أقل حيوية وسرعة في فرض مراعاة القوانين ومنع الإساءات وتقويم التعسفات والحيلولة دون المشاريع التمردية التي يمكن وقوعها في الأماكن البعيدة، بل يكون الشعب أقل حبا لزعمائه الذين لا يراهم أبدا، ولوطنه الذي يتساوى في نظره مع الدنيا كلها، ولمواطنيه الذين يكون معظمهم غرباء بالنسبة له. حتى القوانين نفسها لا يمكنها ان تلائم ذلك العدد الكبير من الولايات المتباينة التي تكون لكل منها طباعها المختلفة وتعيش في ظل ظروف مناخية متعارضة وبالتالي لا تستطيع تحمل شكل الحكومة نفسه. وعلى هذا فإن قوانين مختلفة لا تولد إلا الاضطراب والارتباك بين شعوب، إذ تعيش تحت راية الزعماء أنفسهم وعلى اتصال مستمر، ينتقل بعضهم إلى جوار بعض أو يتزاوجون، وإذ يخضعون لعادات أخرى، لا تعرف أبدا إذا كان تراثهم هو ملكهم حقا. فتدفن المواهب وتغفل الفضائل وتظل الرذائل بلا عقاب في ذلك الجمع من الناس الذي يجهل بعضهم بعضا، والذين تضمهم سلطة إدارية عليا في مكان واحد. وحيث لا يتمكن الزعماء المثقلون بالأعباء من مباشرة الأمور بأنفسهم، فإن الموظفين هم الذين يحكمون الدولة. وأخيرا تمتص الإجراءات التي يجب اتخاذها للمحافظة على السلطة العامة التي يرغب ضباط بعيدون كثيرون في التملص منها أو فرض أنفسهم عليها، جميع الاهتمامات العامة فلا يبقى منها شيء لسعادة الشعب، وبالكاد يبقى ما يفي بالدفاع عنه عند الحاجة، وهكذا تخور عزائم هيئة مفرطة في ضخامتها بالنسبة لدستورها فتنهار مسحوقة تحت ثقل أعبائها نفسها.

ولا بد للدولة من ناحية أخرى، من ان توفر لنفسها أساسا معينا لضمان صلابتها وصمودها في وجه الهزات التي ستتعرض لها ولما ستضطر إلى بذله من جهود في سبيل تدعيم نفسها. إذ ان لجميع الشعوب قوة نابذة تدفعها على الدوام إلى ان يتصرف بعضها ضد البعض الآخر فتنجح إلى التوسع على حساب جيرانها، كدوامات "ديكارت". وهكذا سرعان ما تتعرض الضعيفة منها للابتلاع، وقلما يستطيع أحد منها ان يحافظ على بقائه إلا بأن يضع نفسه، مع الجميع، في نوع من التوازي يجعل الضغط في كل مكان متساويا تقريبا.

نتبين من ذلك ان ثمة أسباب تدعو إلى التوسع وأسباب تدعو إلى الانكماش، وإيجاد أنسب حجم للمحافظة على الدولة، بين هذه وتلك من الدول، ليس أقل مواهب السياسة. ويمكن القول بصفة عامة أنه وجب ان تكون الاعتبارات الأولى، إذ أنها ليست سوى خارجية ونسبية، خاضعة للاعتبارات الأخرى التي هي داخلية ومطلقة، وأول ما يجب العمل على تحقيقه هو دستور صحيح وقوي، إذ يجب الاعتماد على الحيوية التي تنشأ عن حكومة جيدة أكثر من الاعتماد على موارد توفرها مملكة واسعة الأطراف.

ومع ذلك رأينا دولا متكونة على نحو كانت ضرورة الفتوح تدخل في دستورها نفسه وانها كانت للإبقاء على نفسها مجبرة على التوسع بلا انقطاع. ولعلها كانت تهنئ نفسها كثيرا على هذه الضرورة السعيدة التي كانت تشير لها، ومع ذلك، إلى لحظة انهيارها المحتوم في نهاية توسعها.


الكتاب الثالث
الفصل الأول: في الحكومة بصفة عامة
أوجه نظر القارئ إلى أنه يجب قراءة هذا الفصل بعناية وإلى انني لا أعرف كيف أكون واضحا لمن لا يريد ان يكون متنبها.

لكل عمل حر سببان يساعدان في إحداثه، أحدهما معنوي وهو الإرادة التي تحدد الفعل، والآخر مادي وهو القوة التي تنفذه. فعندما أسير إلى هدف يجب أولا ان أريد الذهاب إليه، وأن تأخذني قدماي إليه، ثانيا. ولئن أراد مشلول الركض وكان رجل رشيق لا يريد ذلك، فكلاهما يبقى في الحالتين مكانه. وللهيئة السياسية البواعث نفسها، كذلك يمكننا التمييز بين القوة والإرادة، حيث تكون هذه باسم السلطة التشريعية والأخرى باسم السلطة التنفيذية. فما من شيء يجري فيها أو لا يجب ان يجري فيها دون مساعدة هاتين السلطتين.

رأينا ان السلطة التشريعية تخص الشعب ولا يمكن ان تخص إلا الشعب. ومن السهل ان نرى على العكس، من المبادئ المقرة فيما تقدم، ان السلطة التنفيذية لا يمكن ان تخص مجموع الناس بوصف هذا المجموع مشرعا أو صاحب سيادة، لأن هذه السلطة لا تتكون إلا من أفعال خاصة، لا تكون قط من اختصاص القانون ولا هي بالتالي من شأن صاحب السيادة الذي لا يمكن لأفعاله إلا ان تكون قوانين.

يجب إذن ان يتوفر للقوة العامة عامل خاص يوحدها ويحركها وفقا لاتجاهات الإرادة العامة، يخدم اتصال الدولة بصاحب السيادة، يعمل تقريبا في الشخصية العامة ما يفعله في الإنسان اتحاد الروح بالجسد. هذا هو، في الدولة، سبب وجود الحكومة، الذي يخلط بلا مبرر بينه وبين صاحب السيادة في حين انه ليس إلا خادمها.

فما هي الحكومة إذن؟ إنها هيئة وسيطة بين الرعايا وصاحب السيادة من أجل الاتصال المتبادل بينهما، مكلفة بتنفيذ القوانين وبالمحافظة على الحرية المدنية والسياسية على السواء.

...

انني، إذن، أطلق اسم حكومة أو إرادة عليا على الممارسة الشرعية للسلطة التنفيذية، واسم أمير أو وال أو حاكم على الشخص أو الهيئة المكلفة بهذه الإدارة.

ذلك ان القوة الوسيطة التي تؤلف علاقاتها علاقة الكل بالكل أو علاقة صاحب السيادة بالدولة، توجد في الحكومة. ويمكن تمثيل تلك الرابطة الأخيرة بالرابطة بين أطراف تكافؤ مستمر، متوسطُهُ المناسب هو الحكومة. فالحكومة تتلقى من صاحب السيادة الأوامر التي يصدرها إلى الشعب ولكي تكون الدولة في توازن سليم يجب، مع توازن الكل، ان توجد هناك مساواة بين النتيجة أو سلطة الحكومة في حد ذاتها والنتيجة أو سلطة المواطنين الذين هم أصحاب سيادة من جهة ورعايا من جهة أخرى.

ليس في وسعنا، بالإضافة إلى ذلك، تعديل أي من هذه الحدود الثلاثة دون الإخلال بالنسبة في الحال. فإذا كان صاحب السيادة يريد ان يحكم أو إذا كان الوالي يريد إصدار القوانين أو إذا كان الرعايا يرفضون الطاعة، فإن الاضطراب يحل محل النظام ولا تعود القوة والإرادة تعملان بانسجام، فتسقط الدولة المنحلة على هذا النحو في مهاوي الاستبداد أو في الفوضى. ولما كان لا يوجد، أخيرا، سوى متوسط نسبي واحد بين كل علاقة فإنه لا يوجد كذلك إلا حكومة واحدة صالحة ممكنة في دولة واحدة. ولكن كما ان ألف حادث يستطيع تغيير علاقات شعب فلا يكون في وسع حكومات مختلفة ان تكون صالحة لشعوب متنوعة فحسب بل وتكون كذلك لشعب واحد في أزمنة مختلفة.

...

إلا ان هناك هذا الفارق الأساسي بين هاتين الهيئتين، وهو ان الدولة توجد بذاتها وان الحكومة لا توجد إلا بصاحب السيادة. وعلى هذا فإرادة الأمير السائدة ليست أو لا يجب ان تكون إلا الإرادة العامة أو القانون، وقوته ليست إلا القوة العامة مركزة فيه، وما ان يريد إتيان عمل مطلق ومستقل من تلقاء نفسه حتى تأخذ رابطة الكل بالتراخي. وإذا حدث أخيرا ان صارت للأمير إرادة خاصة أكثر فعالية من إرادة صاحب السيادة فاستعمل، لفرض الطاعة لهذه الإرادة الخاصة، ما يكون في يديه من القوة العامة، بحيث يصبح هناك تقريبا صاحبا سيادة، أحدهما بالحق والآخر بالفعل، انهار الاتحاد الاجتماعي في الحال وانحلت الهيئة السياسية.

ولكي يكون لهيئة الحكومة وجود، مع ذلك، حياة حقيقية تميزها عن هيئة الدولة، وليستطيع جميع أعضائها العمل في تناسق واتفاق مع الغاية التي أنشئت من أجلها، يجب ان يكون لها أنا خاصة، هي وعي مشترك بين أعضائها، قوة، إرادة خاصة بها تميل إلى المحافظة عليها. هذا الوجود الخاص يفترض وجود اجتماعات ومجالس وسلطة للمداولة وللحل وحقوق وألقاب وامتيازات يختص بها الأمير وحده وتجعل منصب الحاكم أكثر احتراما بنسبة ما يكون شاقا. وتكون الصعوبات في طريقة تنظيم هذا الكل التابع في الكل بحيث لا يبدل قط التكوين العام بتأكيد تكوينه هو، وأن يميز دائما قوته الخاصة المعينة للمحافظة عليه ذاته من القوة العامة المخصصة للمحافظة على الدولة، وأن يكون باختصار دائما مستعدا للتضحية بالحكومة من أجل الشعب لا بالشعب من اجل الحكومة.

...

الكتاب الرابع
الفصل الثاني: في التصويت
نرى من الفصل السابق ان الأسلوب الذي تعالج به الشؤون العامة يمكن ان يعطينا مؤشرا أكيدا إلى حد ما عن حالة الأخلاق الحاضرة وعن سلامة الهيئة السياسية. فكلما كان الانسجام سائدا في الاجتماعات، أي كلما كانت الآراء تقترب من الإجماع، كلما كانت كذلك الإرادة العامة مسيطرة، لكن المناقشات الطويلة والانشقاقات والصخب، تنبئ عن تصاعد المصالح الخاصة وعلى انحدار الدولة.

يبدو هذا أقل وضوحا عندما تدخل في تكوينها طبقتان أو أكثر، كالأشراف والعامة في روما اللتين كثيرا ما أقلقت منازعاتهما الجمعيات الشعبية، حتى في أزهى أيام الجمهورية. لكن هذا الاستثناء ظاهري أكثر منه حقيقي، ذلك أنه بسبب من الآفة الملازمة للهيئة السياسية نجد، إذا صح القول، دولتين في واحدة، وكل ما لا يكون صحيحا عن الاثنتين معا يكون صحيحا عن كل واحدة منهما على حدة. وفي الواقع، إنه حتى في أشد الأوقات الصاخبة كانت استفتاءات الشعب العامة عندما لم يكن يتدخل فيها مجلس الشيوخ، تجري دائما بهدوء وبأكثرية الأصوات الساحقة. ولما كان المواطنون ليسوا إلا أصحاب مصلحة واحدة فإن الشعب لم يكن له إلا إرادة واحدة.

في النهاية الأخرى من الدائرة يتم الإجماع، وذلك عندما لا يعود للمواطنين وقد سقطوا في العبودية لا حرية ولا إرادة. عندئذ يبدل الخوف والتملق التصويت بهتافات، فيبطل التداول ولا يبقى إلا العبادة أو اللعن. وقد كانت هذه هي الطريقة الخسيسة التي يبدي بها مجلس الشيوخ رأيه تحت حكم الأباطرة. وأحيانا كان هذا يتم في ظل احتياطات مضحكة: فقد لاحظ تاسيت، أثناء حكم أوثون (Othon) ان أعضاء مجلس الشيوخ، إذا انهالوا على فيتيلليوس باللعنات، كانوا يتصنعون في الوقت نفسه بإثارة ضجة مخيفة، حتى إذا ما حدث وأصبح سيدا، لا يتمكن من معرفة ماذا قال كل منهم.

من هذه الاعتبارات المختلفة تنشأ المبادئ الأساسية التي يجب ان تنظم وفقها طريقة حساب الأصوات ومقارنة الآراء بحسب ما يكون من السهل أو الصعب معرفة الإرادة العامة ومدى زيادة أو قلة انحدار الدولة.

وليس هناك سوى قانون واحد يتطلب بطبيعته موافقة إجماعية. ذلك هو العقد الاجتماعي. إذ ان الاتحاد المدني هو أكثر عقود الدنيا اختيارا، فكل إنسان نظرا لأنه يولد حرا وسيدا لنفسه، لا يستطيع أحد، بأية حجة كانت، إخضاعه دون إقراره. فالقضاء بأن ابن العبد يولد عبدا هو القضاء بأنه لا يولد إنسانا.

إذا كان قد وجد إذا حين العقد الاجتماعي معارضون فيه، فإن معارضتهم لا تبطل العقد، انها تحول فحسب دون ان يدخلوا فيه، فهم أغراب بين المواطنين. وعندما تكون الدولة قد أسست، فإن الإقامة فيها علامة الرضا، إذ تصبح سكنة الإقليم خضوعا للسيادة[12].

وما خلا هذا العقد الأولي يكون صوت العدد الأكبر ملزما للآخرين جميعهم. انها تتمة للعقد نفسه. ولكن رب سائل يسأل: كيف يمكن لإنسان ان يكون حرا ومرغما على الخضوع لإرادة ليست إرادته؟ كيف يكون المعارضون أحرارا وخاضعين لقوانين لم يوافقوا عليها؟

أجيب على ذلك بأن السؤال لم يطرح كما ينبغي. فالمواطن يوافق على جميع القوانين حتى على تلك التي تجاز رغما عنه، بل وعلى تلك التي تعاقبه عندما يجرؤ على انتهاك حرمة واحد منها. ان الإرادة الثابتة لجميع أعضاء الدولة هي الإرادة العامة، فبمقتضاها هم مواطنون وأحرار[13]. وعندما يقترح قانون في مجلس الشعب، فما يطلب منهم ليس بالضبط إبداء موافقتهم عليه أو رفضه، وإنما إذا كان يطابق أولا للإرادة العامة التي هي إرادتهم، وكل واحد وهو يدلي بصوته يقول رأيه في ذلك... وبحساب الأصوات يصدر إعلان الإرادة العامة. وعندما يتغلب إذا الرأي المعارض لرأيي فإن ذلك لا يدل على شيء سوى أنني كنت مخطئا وان ما كنت أقدر أنه الإرادة العامة لم يكنها. ولو ان رأيي الخاص هو الذي تغلب لكنت فعلت غير ما كنت قد أردت، وعندئذ ما كنت لأكون حرا.

حقيقة ان ذلك يفترض ان تكون جميع خصائص الإرادة العامة ما زالت بعد في حالة الأكثرية، وعندما تكف عن ان تكون كذلك فلا تبقى هناك حرية أيا كان الفريق المنتمي إليه.

إنني إذ أوضحت فيما تقدم كيف تحل الإرادة محل الإرادة العامة في المداولات العامة، قد بينت بيانا كافيا الوسائل العملية لتجنب هذا التعدي وسأتكلم في ذلك أيضا فيما بعد. أما فيما يتعلق بالعدد النسبي للأصوات اللازمة لإعلان هذه الإرادة فقد أعطيت كذلك التي يمكن تحديده بها. ان فرقا من صوت واحد يقضي على التساوي في الأصوات، ويقضي معارض واحد على الإجماع، ولكن بين الإجماع والتساوي توجد عدة تقسيمات غير متساوية يمكن ان نحدد هذا العدد لكل منها بحسب حالة الهيئة السياسية وحاجاتها.

ثمة مبدآن أساسيان عامان يفيدان في تنظيم هذه العلاقات: أحدهما هو أنه كلما كانت المداولات هامة وخطيرة، كلما وجب ان يكون الرأي الذي يتغلب مقتربا من الإجماع. والآخر هو أنه كلما كانت المسألة المثارة تتطلب سرعة أكثر كلما كان يجب تضييق الفارق المعين في تقسيم الآراء، أما في المداولات التي يجب إتمامها في الحال فإن زيادة صوت يجب ان تكفي. ويلوح لي ان المبدأ الأول أكثر ملاءمة للقوانين، وأن الثاني أكثر ملاءمة لتصريف الأمور. ومهما يكن من الأمر فإن على المزج بينهما تبنى أفضل النسب التي يمكن منحها للأكثرية من أجل إصدار القرارات.


الفصل الثامن: في الدين المدني...
قد ينقسم الدين، على ضوء علاقته بالمجتمع التي تكون إما علاقة عامة أو خاصة إلى نوعين، وهما دين الإنسان ودين المواطن. الأول، وهو لا معابد ولا هياكل ولا طقوس، مقتصر على العبادة الداخلية المحضة لله الأعلى، وعلى الواجبات الأخلاقية الأبدية، يكون دين الإنجيل النقي والبسيط، التوحيد الحقيقي، وهو ما يمكن ان نسميه القانون الإلهي الطبيعي. الثاني وهو مدون في بلد وحيد، يمنحه آلهته وشفعاءه الخاصين وحُماته: ان له عقائده وطقوسه وعبادته الخارجية المفروضة بالقوانين، وفيما عدا الأمة التي تعتنقه، يكون كل إنسان بالنسبة له كافرا، أجنبيا، وبربريا، وهو لا يمد واجبات الإنسان وحقوقه خارج حدود هياكله. كانت هذه هي أديان الشعوب الأولى جميعها التي يمكن ان نطلق عليها اسم القانون الإلهي المدني أو الوضعي.

ثمة نوع ثالث من الأديان أكثر غرابة، إذ أنه بتقديمه للبشر تشريعين ورئيسين ووطنين، يخضعهم لواجبات متناقضة ويمنعهم من ان يكونوا في ان واحد مؤمنين ومواطنين. ذلك هو دين اللاميين ودين اليانيين والمسيحية الرومانية، ويمكن تسمية هذا الدين بدين الكاهن. وينشأ عنه نوع من القانون المختلط والانطوائي لا اسم له إطلاقا.

وإذا ما نظرنا سياسيا إلى هذه الأنواع الثلاثة من الأديان وجدنا أنها جميعها تنطوي على أخطاء. فالثالث واضح كل الوضوح أنه سيئ، ومن العبث إضاعة الوقت في البرهان على ذلك. إذ ان كل ما يفرق الوحدة الاجتماعية لا قيمة له. وجميع المؤسسات التي تضع الإنسان في تناقض مع نفسه لا قيمة لها.

والثاني جيد في حدود توحيده للعبادة الإلهية وحب القوانين، وهو إذ يجعل من الوطن موضوع عبادة المواطنين، يعلمهم ان خدمة الدولة هي خدمة الإله الحافظ لها. فهو ضرب من الحكم الديني حيث لا ينبغي ان يكون فيه قط من حبر أعظم سوى الأمير ولا كهنة سوى الحكام. عندئذ يكون الموت في سبيل البلاد استشهادا وخرق القوانين إلحادا وإخضاع الجرم للعنة العامة إسلاما له لغضب الآلهة، فكن صالحا (Sacer estod).

لكنه سيئ في أنه يخدع البشر، نظرا لأنه مبني على الخطأ وعلى الكذب، ويجعلهم بلهاء، متعلقين بالخرافات، ويغرق عبادة الله الحقيقية في طوفان من الطقوس الجوفاء. وهو سيئ أيضا، إذ يصبح قاصرا وطاغيا فيجعل الشعب سفاكا ومتعصبا، بحيث لا يتنفس إلا القتل والمذابح ويعتقد أنه يقوم بعمل مقدس وهو يقتل أيا كان لا يؤمن بآلهته. وهو ما يضع مثل هذا الشعب في حالة طبيعية من الحرب مع جميع الشعوب الأخرى، مضرة جدا بأمنه الخاص.

يبقى إذن دين الإنسان أو المسيحية، لا مسيحية اليوم، وإنما مسيحية الإنجيل التي تختلف عنها اختلافا تاما. فبمقتضى هذا الدين المقدس، السامي، الحقيقي، يعترف البشر، وهم أبناء الإله نفسه، أنهم جميعا اخوة، والمجتمع الذي يضعهم موحدين لا ينحل حتى الموت.

لكن هذا الدين، لما كان لا تربطه أية علاقة خاصة بالهيئة السياسية، يترك للقوانين القوة الوحيدة التي يستمدها من ذاتها دون ان يضيف إليها أية قوة أخرى وبذلك تظل رابطة من اعظم روابط المجتمع الخاصة دون أثر. بل وأكثر من ذلك، فبدلا من ان يربط قلوب المواطنين بالدولة يفصلها عنها كما يفعل بالنسبة لجميع أشياء الدنيا: ولست أعرف شيئا أكثر تناقضا مع الروح الاجتماعية.

يقال لنا ان شعبنا من المسيحيين الحقيقيين قد يشكل أكمل مجتمع يمكن للمرء ان يتخيله. وأنا لا أرى في هذا الافتراض سوى صعوبة عظيمة واحدة، وهي ان مجتمعا مكونا من مسيحيين حقيقيين سوف لا يبقى مجتمعا من البشر.

بل انني أقول بأن هذا المجتمع المفترض لن يكون رغم كل كماله لا المجتمع الأقوى ولا الأكثر دواما. فمن فرط كماله سوف يفتقر إلى الرابطة، وعيبه المدمر سيكون في كماله نفسه.

كل إنسان سوف يقوم بواجبه، والشعب سيخضع للقوانين، ويكون الرؤساء عادلين ومعتدلين، والحكام مستقيمين، نزيهين، وسيستهين الجنود بالموت، ولن يكون هناك لا زهو ولا شرف، فكل هذا جميل، بالغ الجمال، ولكن دعنا ننظر فيما هو أبعد.

ان المسيحية هي دين روحاني تماما، لا تشغله سوى أمور السماء وحدها. فوطن المسيحي ليس في هذا العالم. صحيح أنه يؤدي واجبه، لكنه يؤديه بلا مبالاة عميقة بنجاح أو بسوء عاقبة مساعيه. وشريطة ان لا يكون ثمة ما يلام عليه، فلا يهمه ان تسير الأمور كلها سيرا حسنا أو سيئا في هذا العالم الدنيوي. وإذا كانت الدولة مزدهرة فلا يكاد يجرؤ على التمتع بالسعادة العامة، ويخشى ان يأخذه الزهو بمجد بلاده، وإذا هلكت الدولة فإنه يبارك يد الله التي شددت قبضتها على شعبه.

ولكي يكون المجتمع هادئا ويبقى الانسجام فيه، لا بد من ان يكون المواطنون جميعهم بلا استثناء مسيحيين صالحين على السواء. ولكن إذا وجد هناك لسوء الحظ، طموح واحد، مخادع واحد، كاتيلينا مثلا، أو كرامويل، فإن مثل هذا الرجل سيجد بلا ريب، سوقا رائجة في مواطنيه الأتقياء. فالبر المسيحي لا يسمح بسهولة بالظن سوءا في الجار. وما ان يجد أحدهم بحيلة ما المهارة في ان يفرض نفسه، ويتولى على جزء من السلطة العامة، حتى يصير رجلا يحف به التكريم، فالله يريد له ان يحترم، وإذا تعسف المؤتمن على هذه السلطة فإنه الصولجان الذي يعاقب به الرب أبناءه. والمسيحي لا يستريح ضميره تماما لطرد المغتصب، إذ لا بد لذلك من إقلاق الراحة العامة واستخدام العنف، وإراقة الدماء، وهذا كله لا يتفق مع وداعة المسيحي، وعلى كل حال ماذا يهم ان يكون الإنسان حرا أو عبدا في وادي البؤس هذا؟ الجوهري هو الذهاب إلى الجنة، وما التسليم إلا وسيلة مضافة في سبيل ذلك.

وإذا وقعت حرب خارجية يسير المواطنون بلا مشقة إلى المعركة، ما من أحد منهم يخطر على باله الفرار، انهم يقومون بواجبهم، ولكن دون حماسة للنصر، يعرفون كيف يموتون أكثر مما يعرفون كيف ينتصرون، فماذا يهم إذا كانوا منتصرين أو مهزومين؟ ألا تعلم العناية الإلهية أكثر منهم ما يجب لهم؟ ولنتصور ما يمكن لعدو فخور، متهور ومتحمس، ان يفيد من رواقيتهم! لنضع في مواجهتهم تلك الشعوب الباسلة التي يستبد بها حب فياض للمجد وللوطن، ولنقدر ان هذه الجمهورية المسيحية تواجه إسبارطة أو روما، فإن المسيحيين الأتقياء سيهزمون ويسحقون ويبادون قبل ان يمكنهم الوقت من التعارف، أو أنهم لا يكونون مدينين بنجاتهم إلا للازدراء الذي يكنه لهم عدوهم. لقد كانت عظة جميلة، في اعتقادي، تلك التي قدمها جنود فابيوس، فإنهم لم يقسموا على الموت أو النصر، وإنما أقسموا على ان يعودوا منتصرين، وبروا بقسمهم. وما كان للمسيحيين أبدا ان يفعلوا مثل ذلك، كانوا يعتقدون أنهم يمتحنون الله.

لكنني أخطئ بقولي جمهورية مسيحية، فإن كل كلمة من هاتين الكلمتين تنبذ الأخرى. ذلك ان المسيحية لا تبشر إلا بالعبودية والتبعية. وروحها ملائمة إلى أبعد حد للطغيان، ولو أنه لا يستغلها دائما. فإن المسيحيين الحقيقيين جبلوا ليكونوا عبيدا، وهم يعرفون ذلك ونادرا ما يقلقون له. فهذه الحياة القصيرة قيمتها طفيفة جدا في نظرهم.

كان الجنود المسيحيون بواسل في عهود الأباطرة الوثنيين، يؤكد ذلك جميع الكتاب المسيحيين على ما أظن، فتلك كانت مباراة على الشرف ضد الجيوش الوثنية. ومنذ ان أصبح الأباطرة مسيحيين لم تعد تلك المباراة. وعندما طرد الصليب النسر اختفت البسالة الرومانية كلها.

ولكن لنعد إلى الحق تاركين الاعتبارات السياسية جانبا، ولنحدد المبادئ في هذه النقطة الهامة. ان الذي يمنحه العقد الاجتماعي لصاحب السيادة على رعاياه لا يتجاوز قط، كما سبق ان قلت، حدود المنفعة العامة[14]، فليس على الرعايا تقديم حساب عن آرائهم لصاحب السيادة إلا بمقدار ما تهم آراؤهم المجتمع. وعليه يهم الدولة ان يعتنق كل مواطن دينا يحببه بواجباته، لكن معتقدات هذا الدين لا تهم لا الدولة ولا أعضاءها إلا بمقدار ارتباطها بالأخلاق وبالواجبات المترتبة على معتنقها تجاه الآخرين. وفضلا عن ذلك يستطيع كل واحد ان يعتنق من الآراء ما يطيب له دون ان يكون من حق صاحب السيادة معرفتها. إذ بما أنه لا اختصاص له قط في العالم الآخر، فأيا كان مصير رعاياه في الحياة المقبلة، فليس ذلك من شأنه بشرط ان يكونوا مواطنين صالحين في هذه الدنيا.

...

يجب ان تكون عقائد المدني بسيطة وقليلة العدد ومحددة بدقة دون تفسير ولا تعليق. ان الإيمان بوجود إله قادر، ذكي، محسن، بصير، مدبر، وبحياة ثانية، وبسعادة الصالحين، وعقاب السيئين وبقدسية العقد الاجتماعي وبالقوانين، هي العقائد الإيجابية. أما فيما يتعلق بالعقائد السلبية، فإنني أقصرها على واحدة، هي عدم التسامح: انها تدخل في العبادات التي استبعدناها.

...

والآن، إذ لم يبق ولا يمكن ان يكون قد بقي دين قومي منفرد، ينبغي التسامح مع جميع الأديان التي تتسامح مع غيرها، بقدر ما لا تنطوي عقائدها على شيء مضاد لواجبات المواطن. ولكن كل من يجرؤ على القول: لا سلام مطلقا خارج الكنيسة يجب ان يطرد من الدولة، ما لم تكن الدولة، على الأقل، هي الكنيسة نفسها، ولا يكون الأمير هو الحبر الأعظم. فعقيدة كهذه ليست صالحة إلا في حكومة دينية، أما في أي حكم آخر فهي ضارة...



ترجمة: ذوقان قرقوط


--------------------------------------------------------------------------------

[1] غروتيوس: فقيه هولندي من أصل فرنسي. يعتبر أول من حاول وضع قانون دولي عام يحكم العلاقات بين الأمم الأوروبية بما يضمن سلطة قوية ويضمن السلام وازدهار التجارة.

[2] ليست هذه المساواة في ظل الحكومات السيئة إلا ظاهرية ووهمية. لا تفيد إلا في إبقاء الفقير في بؤسه والغني على اغتصابه. وفي الواقع تكون القوانين مفيدة لأولئك الذين يملكون وضارة بأولئك الذين لا يملكون شيئاً. ويترتب على ذلك ان الحالة الاجتماعية لا تكون نافعة للبشر إلا بمقدار ما يملكون جميعهم شيئاً ما ولا يملك أحدهم شيئاً فائضاً.

[3] لكي تكون إرادة ما عامة ليس من الضروري دائما ان تكون جماعية ولكن من الضروري إحصاء جميع الأصوات، فأي استثناء مقصود يبطل العمومية.

[4] "لكل مصلحة"، كما يقول الماركيز دارجنستون "مبادئ مختلفة. واتفاق مصلحتين خاصتين يتكون بالتعارض مع مصلحة فرد ثالث". وكان يمكنه ان يضيف بأن اتفاق جميع المصالح يتكون بالتعارض مع مصلحة كل واحد. ولو لم تكن هناك مصالح مختلفة قط لما كنا نحس بالمصلحة المشتركة التي لم تكن لتجد عقبة في وجهها أبدا، كان كل شيء سيسير في مجراه ولانتهت السياسة بأن تكون فنا.

[5] حقا ان بعض الانقسامات تضر بالجمهورية وبعضها يكون مفيدا لها كما يقول مكيافيلي. فالتي تضر تكون ناشئة عن شيع متحزبة. والمفيدة هي التي تبقى دون تشيع ودون تحزب. وإذا لم يكن ممكنا وجود مؤسس للجمهورية يجب ان لا يكون في الجمهورية عداوات. وعلى الأقل يجب ان لا يوجد بها شيع. (تاريخ فلورنسا: الكتاب السابع)

[6] ورد ذكره في هوامش نص مكيافيلي في هذا الكتاب.

[7] أرجو القارئ النبيه ان لا يتعجل باتهامي بالتناقض هنا. فلم يكن في مقدوري ان أتجنب ذلك في المصطلحات نظرا لفقر اللغة. ولكن تريثوا قليلا.

[8] لا أقصد بهذه الكلمة أرستقراطية أو ديمقراطية فحسب وإنما بصورة عامة تقودها الإرادة العامة، التي هي القانون. ولكي تكون الحكومة شرعية لا ينبغي ان تختلط مع صاحب السيادة بل يجب ان تكون وزيرا له، عندئذ تكون الملكية نفسها جمهورية. ولسوف يتضح ذلك في الكتاب التالي.

[9] لا يصبح الشعب شهيرا إلا عندما يأخذ نجم مشرعه بالأفول. ونحن نجهل طيلة كم من القرون وفر نظام ليكورغوس السعادة للإسبارطيين قبل ان يصبحوا محل تنازع في سائر بلاد اليونان.

[10] الذين لا يعترفون لكالفن إلا بأنه عالم لاهوتي يجهلون صدى عبقريته. ان تآليف حكمائنا المنشورة التي شارك فيها بنصيب وافر، تضفي عليه من المجد ما يضفيه نظامه. وأيا ما كانت الثورة التي يأتي بها الزمن في عقيدتنا، طالما حب الوطن والحرية لا ينطفئ فينا، فإن ذكرى هذا الرجل العظيم لن تكف أبدا عن ان تكون نعمة فيه.

[11] قال مكيافيلي: "حقا انه لم يكن ثمة من مشروع لقوانين لم يلجأ فيها الشعب إلى الله. لأن القوانين لم تكن لتقبل بلا ذلك. إذ هناك قوانين كثيرة يعرفها الحكماء وليست لها بذاتها أسباب يمكن ان تقنع الآخرين. (رسالة تيتوس ليفوس: الكتاب الأول، الفصل الحادي عشر).

[12] يجب ان يفهم هذا دائما من دولة حرة، إذ ان الأسرة و الأملاك وعدم وجود ملجأ والضرورة والعنف يمكنها جميعها من جانب آخر القعود بالإنسان في بلد رغما عنه، وعندئذ فان إقامته وحدها لا تعود تفترض موافقته على العقد أو نقضا له.

[13] في جنوا نقرأ على واجهات السجون وعلى أغلال المحكوم عليهم هذه الكلمة (Libertas) حرية. ان تطبيق هذا الشعار جميل وعادل. إذ لا يوجد في الحقيقة سوى الأشرار في جميع الدول هم الذين يمنعون المواطن من ان يكون حرا. ولو أمكن وضع هؤلاء جميعهم في سجون الأشغال الشاقة لتمتع الناس بأكمل حرية.

[14] يقول الماركيز دار جنستو: "كل إنسان في الجمهورية يكون حرا تماما في كل ما لا يضر بالآخرين"، وهذا المعيار الثابت الذي لا يتغير، ولا يمكن صياغته بصورة أدق، ولم أستطع مقاومة إغراء الاستشهاد أحيانا بهذا المخطوط رغم انه غير معروف لدى الجمهور، تكريما لذكرى رجل مشهور ومحترم، حافظ حتى وهو وزير على قلب مواطن حقيقي، و‎آراء مستقيمة وصالحة في حكومة بلاده.

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:03 PM

7- إيمانويل كانط

عمانوئيل كانط (Emmanuel Kant ) فيلسوف بروسي (ألماني) ولد في كنجسبرج والتحق بمعهد فريدريك الديني في العام 1732، وفي العام 1740 التحق بجامعة كنجسبيرج. درس اللاتينية والأدب في المعهد ودرس الفلسفة والرياضيات وعلوم الدين والفيزياء في الجامعة. وفي العام 1755 حصل على شهادة الماجستير وعمل مدرسا في الجامعة التي تخرج منها. بقي مدرسا مدة خمسة عشر عاما قام خلالها بتدريس العديد من المواضيع ومن ضمنها الميتافيزيقا والمنطق والرياضيات وعلم الأخلاق، وفشل في ان يصبح أستاذا حتى العام 1770 حين فرغ كرسي المنطق والميتافيزيقا وعين فيه. استمر بالعمل في الجامعة حتى العام 1796.

اصبح عضوا في مجلس الشيوخ الأكاديمي في العام 1780. وفي العام 1787 صار عضوا في الأكاديمية الملكية للعلوم في برلين.

توفي في عام 1804 ودفن في قبو الأساتذة في مقبرة الجامعة. ومن ثم أقيم له ضريح في العام 1880 ونقشت على جداره عبارته الشهيرة التي أنهى بها كتابه "نقد العقل العملي": "السماء المرصعة بالنجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في باطن نفسي".

كان كانط ذا نزعة عقلية واهتم بالعلوم الطبيعية التجريبية، لكنه اتخذها منطلقا من أجل تكوين نظرة فلسفية شاملة للكون ولما نعرفه عنه. وقد انتقل إلى تحليل المعاني العقلية المجردة (التصورات). وكان إيمانه بقدرة العقل شديدا جدا إلى حد اعتبر معه ان إمكانية المعرفة العقلية غير محدودة.

انقسمت حياة كانط الفكرية إلى مرحلتين أطلقت عليهما أسماء المرحلة قبل النقدية، والمرحلة النقدية المرتبطة بمؤلفه "نقد العقل المحض"، والذي عمل فيه كانط على دراسة العقل البشري المجرد، أي غير المرتبط بالحس والتجربة. وقد طور كانط في هذا المؤلف مجموعة من المفاهيم التي تعبر عن مراحل المعرفة، من مثل المعطيات القبلية (apriori) الضرورية من اجل ان تتم المعرفة العلمية، مثل الحس والتجربة، والمتعالي (transcendental) السابق للتجربة ولكنه موجود في نطاق العقل، ويشكل شرطا قبليا للتجربة. وميز كانط بين العقل (Vernunft) والفكر (Verstand) الذي هو ملكة التفكير في موضوعات الحس وهو معرفة تصورية، أما العقل فهو التفكير فيما هيأه الذهن وهو ملكة المبادئ والاستدلال.

ويعمل كانط في كتابه الذي يشكل بحثا في نظرية المعرفة أو في العقل النظري (العلم والفلسفة) على بيان فساد كل من التيارين التجريبي والعقلاني. الأول لقصوره، والثاني لتجاوز حدوده.

أما المقال الذي نقرأه هنا، فهو عبارة عن إجابة عن سؤال كانت قد طرحته المجلة "البرلينية الشهرية"، ويعالج فيه كانط موضوعة قدرة الأفراد على اتخاذ القرارات المستقلة باستخدام أفكارهم ومعارفهم الخاصة دون الرجوع إلى وصاية المجتمع والدولة في بعض المجالات.


كانط: ما هو عصر الاستنارة؟


ما هو عصر الاستنارة؟ هو خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر [عند الإنسان] خارج قيادة الآخرين. والإنسان [القاصر][1][TN1] مسؤول عن قصوره لأن العلة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين. لتكن تلك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك: ذلك هو شعار عصر الاستنارة.

إن الخمول والجبن هما السببان اللذان يفسران وجود عدد كبير من الناس قد حررتهم الطبيعة منذ زمن بعيد من قيادة غريبة [عنهم]، لكنهم ظلوا قصّرا طوال حياتهم عن رضى منهم، حتى ليسهل على غيرهم فرض الوصاية عليهم. وما أسهل ان يبقى المرء قاصراً. فإذا كان لدي كتاب يحتل عندي مكان الفكر، وقائد يعوض الوعي فيّ، وطبيب يقرر لي برنامج تغذيتي، الخ... فلا حاجة لي في ان أحمل نفسي عناء [البحث]، ولا حاجة لي في ان أفكر ما دمت قادرا على دفع الثمن لكي يقبل الآخرون على هذه المشقة المملة.

إن الأغلبية الكبيرة من الناس [بما في ذلك الجنس اللطيف إجمالا] تعتبر تلك الخطوة نحو الرشد عظيمة الخطر، فضلا عن أنها أمر مرهق. ويساعدهم على القبول بحالة القصور هذه، أولئك الأوصياء الذين آلوا على أنفسهم ممارسة سلطة لا تطال على الإنسانية. فبعد ان أطبقوا [سجن] البلاهة على قطعانهم وعملوا على مراقبة هذه المخلوقات الهادئة مراقبة دقيقة، حتى لا تسمح لنفسها بالمجاسرة على أدنى خطوة خارج الحقل الذي حشرت فيه، أظهروا لها الخطر الذي يهددها ان هي غامرت بالخروج وحدها. لكن الخطر ليس كبيرا في حقيقة الأمر لأنها [لو أقدمت عليه] فسوف تتعلم السير، بعد عثرات قليلة. إلا ان مثل هذه الكبوات تولد الاحتراز وعادة ما يحملنا الخوف، الذي ينتج عن ذلك، على العدول عن محاولة أخرى. لذلك فإنه من العسير على أي شخص بمفرده الإفلات من حالة القصور التي كادت ان تصبح طبيعية فيه، إذ صار يرتاح إليها، غير قادر في هذه الفترة، على استخدام فكره الخاص، وقد حرم من فرصة المحاولة. فالمؤسسات والصيغ [الجامدة]، أي تلك الآلات المختصة باستعمال العقل، أو بتعبير أدق، باستعمال سيء للمواهب الطبيعية هي الجلاجل التي علقت على أرجل القاصرين، في حالة القصور التي ما زالت قائمة. وحتى إذا تخلص أحدهم من هذه الجلاجل فهو لا يستطيع القيام إلا بقفزة غير واثقة من فوق أصغر الأخاديد، لأنه لم يتعود بعد على تحريك ساقيه بحرية. لذلك فإن قلة من الناس توصلت من خلال إعمال ذهنهم الخاص[2] إلى الانعتاق من حالة القصور والقدرة على السير بخطوة ثابتة.

أما ان يستنير جمهور بنفسه فهذا يدخل أكثر [من ان يستنير شخص بمفرده كما تبينه الفقرة السابقة] في حيز المحتمل، بل ان هذا الاحتمال لا يمكن تجنبه إذا ترك للجمهور قدر كاف من الحرية، إذ لا بد من وجود عدد من الناس يفكرون بأنفسهم ضمن الأوصياء الرسميين على الجموع، أولئك الذين تخلصوا من نير حالة القصور، وطفقوا ينشرون بين الناس روحا تجعلهم يقدرون قيمتهم الخاصة، وجنوح كل إنسان إلى التفكير بنفسه. وعلينا ان نلاحظ ان الجمهور الذي كان تحت سلطة هؤلاء الأوصياء سوف يجبرهم [بعد ان تحرر منهم] على البقاء في وضع أدنى حين يدفعه بعض من الأوصياء الآخرين، ممن عجز على التمتع بمزايا الاستنارة، إلى الانتفاضة العنيفة، وذلك يدلنا على مضار الأحكام المسبقة والتي تنتقم ممن زرعها أو ممن سيأتي بعده، لأن الجمهور لا يصل [مرحلة] الاستنارة الا على مهل: فبإمكان الثورة ان تسقط الاستبداد الفردي، والاضطهاد المستغل أو الطموح، ولكنها لن تأتي أبدا بإصلاح حقيقي لطريقة التفكير، بل تولد، بالعكس، أحكاما مسبقة [جديدة] تشكل مع الأحكام المسبقة القديمة تخوما تفصل الثورة عن الجموع الكبيرة المحرومة من التفكير.

أما بالنسبة للاستنارة فلا شيء مطلوب غير الحرية، بمعناها الأكثر براءة، أي تلك التي تقبل على استخدام علني للعقل في كل الميادين. إلا أني أسمع الآن وفي كل اتجاه من حولي صيحة تقول: "لا تفكروا. فالضابط يقول: "لا تفكروا، عليكم ان تنفذوا..."، (هناك سيد والمسؤول المالي يقول: "لا تفكروا عليكم ان تدفعوا"، ورجل الدين يقول: "لا تفكروا عليكم ان تؤمنوا" واحد في العالم يقول: "فكروا قدر ما تشاؤون، وفيما تشاؤون ولكن عليكم ان تطيعوا[3]). في كل مكان يوجد تحديد للحرية. ولكن أي تحديد يناقض الاستنارة؟ وما هو التحديد الذي لا يناقضه بل والذي يمكن ان يكون لصالحه؟ أجيب فأقول ان الاستخدام العام لعقلنا لا بد ان يكون حرا في جميع الحالات، وهو الذي يستطيع وحده ان يأتي بالاستنارة إلى البشر، غير ان الاستخدام الخاص لعقلنا لا بد ان يخضع لتحديد صارم جدا دون ان يكون ذلك من الموانع المحسوسة في طريق الاستنارة.

وأقصد بالاستخدام العام لعقلنا ذلك الذي يقوم به المرء حين يكون عالما، في اتجاه الجمهور الذي يقرأ. أما الاستخدام الخاص (لعقلنا) فهو الذي يعطينا الحق في ممارسته والعمل به من موقع مدني، أو أي وظيفة محددة تم تكليفنا بها، إذ يوجد، ضمن مسائل عديدة تخص المصلحة العامة للمجموعة، جهاز آلي معين يحتم على بعض من أعضاء هذه المجموعة القيام بحركات لا إرادة لهم فيها، توجهها الحكومة (بفضل إجماع اصطناعي) نحو [تحقيق] الأهداف العامة أو (على الأقل) لكي تمنع القضاء على هذه الأهداف. هنا لا يُسمَح بالتفكير، بل تجب الطاعة. ولكن إذا كانت هذه القطعة من الجهاز الآلي عضوا في المجموعة، أو في المجتمع المدني العالمي، بصفته عالماً في الوقت نفسه، وإذا توجه هذا العضو بكتابات استند فيها إلى فكره، ففي هذه الحال يمكنه ان يستخدم عقله دون ان يؤثر ذلك على الشؤون التي كُلف بها خلال جزء من وقته كعنصر سلبي. وأن يرغب الضابط، الذي تلقى أمرا من رئيسه، في إعمال عقله ضمن مهمته للبحث عن جدوى هذا الأمر أو فائدته، فهذا أمر خطير ولا بد لهذا الضابط ان يمتثل. ولكن إذا أردنا ان نكون منصفين [نقول] ان لا شيء يحظر عليه، إذا كان عالما، إبداء ملاحظاته حول الأخطاء الواردة في الجهاز الحربي وتقديم هذه الملاحظات لجمهوره حتى يحكم فيها. ولا يمكن للمواطن ان يرفض أداء الضرائب المفروضة عليه سيما وأن نقداً لاذعاً لهذه الواجبات، ان لزمه قبولها، يعرضه للعقاب، بسبب الفضيحة التي يمكن ان تتولد [عن نقده] (وما ينجر عن ذلك من اضطراب شامل في النظام)، أما وقد وضعنا هذا التحفظ، فلا نرى تناقضاً مع الواجبات ان عبر هذا المواطن، بوصفه عالماً، وبصفة علنية عن نظرته في رعونة ذلك النوع من الجباية أو في جور [من فرضها]. كذلك يجب على رجل الدين ان يقوم بتعليم رعيته، وفي معبده، بحسب رمز الكنيسة التي يخدمها أنه انتدب بحسب هذه الشروط، ولكنه يتمتع، كعالم، بكامل الحرية (إن لم نقل ان ذلك من واجبه) في ان يمد الجمهور بكل الأفكار، بعد ان يزنها بثبات ونيّة حسنة، حول ما يراه خاطئاً في هذا الرمز، وفي ان يقدم لهذا الجمهور مشروع رؤيته لتنظيم أفضل للشؤون الدينية والكنائسية. وفي هذا أيضا لا يوجد ما يمكن ان يثقل ضميره، لأن ما يعلمه وفقا لوظيفته كممثل للكنيسة لا يقدمه إلا كآمر لا حرية له في إبداء الرأي فيه وإنما كتعاليم قد التزم بتدريسها باسم سلطة أجنبية [عنه].

ولسوف يقول "هذا ما تعلمه كنيستنا وها هي الحجج التي تستعملها [في ذلك]". وقد يُبرز، بهذه المناسبة، لرعيته الميزات العملية من الأطروحات التي لا يتفق معها عن اقتناع كامل والتي التزم، رغم ذلك، بعرضها، إذ من الممكن ان يكون قد وجد فيها بعض الحقيقة الكامنة أو، على الأقل، لم يجد فيها ما يتعارض مع الإيمان الذاتي [عنده] أما إذا تعرض لشيء من هذا القبيل فلا يمكن له عند ذلك الاحتفاظ بمهامه والبقاء على اتفاق مع ضميره، وعليه، إذن، ان يعتزل [عمله]. ونتيجة ذلك ان المربي إذا استخدم عقله أثناء عمله وأمام من حضر دروسه لا يقوم إلا باستعمال خاص للعقل لأن المسألة تخص اجتماعاً عائلياً، مهما بلغ حجم [هذه] العائلة. وهو يتصرف أمامها على أنه رجل دين غير حر، ولن يكون حراً، لأنه يؤدي مهمة خارجة [عن نطاقه]. أما إذا اعتبرناه عالِما يخاطب بكتاباته الجمهور الحقيقي، أي العالَم، (كعضو في مجمع ديني ضمن استخدام عام لعقله) فإنه يتمتع بحرية لا حدود لها في استعمال عقله والتحدث باسمه الخاص. والادعاء القائل بأن الأوصياء على الشعوب (في الأمور الدينية) لا بد ان يظلوا قُصراً هم أنفسهم، يُعَد سخافة ساهمت في تأييد السخافات [الأخرى].

ولكن ألا يحق لمثل هذه الجمعية الدينية، سواء كانت مجمعاً كنائسياً أو طبقة من الآباء (كما تُسمى في هولندا) ان تلجأ إلى دعوة [أعضائها] إلى تأدية اليمين على رمز معين ثابت، لكي تسلط وصاية أعلى، دائمة، على كل عضو، وحتى تؤيد هذه الوصاية من خلالهم؟ أقول ان هذا الأمر مستحيل تماماً، لأن مثل هذا النوع من التعاقد يقرر الاستغناء نهائياً عن كل تنوير جديد يمكن للجنس البشري ان يستقبله، ويظل على هذا الأساس لاغياً وغير ذي مفعول، حتى وإن كان زكي من سلطة أسمى، أي من البرلمانات أو من المعاهدات السلمية الأكثر جلالاً. ذلك لأنه لا يمكن لقرن ما ان يولد اتفاقاً يقيد القرن الذي يليه بوضع يجعله غير قادر على توسيع معارفه (بخاصة منها تلك التي تتعلق بمصلحة هذا القدر من الخطر) ويحرمه من التخلص من أخطائه، والتقدم، بصفة عامة، على [طريق] الاستنارة. إنها لجريمة في حق الإنسانية التي يحملها قَدَرُها الأصيل نحو هذا التقدم بالذات. لذا يحق للخَلَف ان يرفض تماماً مثل هذه القوانين وأن يحتج [على ذلك] بجهل من قام بسنها وطيش دوافعه. فحجر الزاوية في كل ما يمكن تقريره لصالح شعب ما، في شكل قانون، يكمن في السؤال التالي: "هل يقبل هذا الشعب ان يهب نفسه قانوناً كهذا القانون؟". من الجائز ان يكون القانون المعني ممكناً لمدة محددة قصيرة، في انتظار قانون أفضل، وتحسباً لإدخال تنظيم معين، ولكن على شرط ان يُترك لكل مواطن (وبخاصة لَرجُل الدين ان كان عِالماً) الحرية في صياغة الملاحظات حول العيوب التي تحتوي عليها المؤسسة الحالية، على ان تكون هذا الصياغة علنية، أي في شكل كتابات، مع الإبقاء على النظام القائم. وذلك حتى يأتي يوم يتقدم فيه البحث في هذه الأشياء أشواطاً بعيدة تجعله يتأكد بما فيه الكفاية، فيُرفع أمام العرش مشروعٌ مدعمٌ باتفاق [أغلبية] الأصوات (ان لم نقل جميعها) يهدف إلى حماية المجموعات المتضامنة، بحسب آرائها الخاصة، والمتفقة على تغيير المؤسسة الدينية، دون ان يُلزم ذلك أولئك الذين ظلوا أوفياء [للمؤسسة] القديمة، إنما ان يكون الاتفاق على دستور دائم لا يأتيه الشك، حتى ولو كان ذلك لمدة تعادل عُمر إنسان، مما يقضي على الإنسانية، ردحاً من الزمن، بالعقم في [توقها] إلى التقدم ويضر بالأجيال القادمة، فهذا ما هو محظور إطلاقاً.

ويمكن لشخص ما، فيما يتعلق به شخصياً، ان يؤجل الحصول على معرفة لا بد له من الحصول عليها. أما ان يُعرض عنها وأن يحرم منها الأجيال المقبلة، فهذا ما يُسمى بالتجني على حقوق الإنسانية المقدسة ودوسها. ويبقى ما حُرم على الشعب تقريره، محرماً، من باب أولى، على الحاكم، لأن سلطة الحاكم في التشريع مُنبثقة من الشعب وهو يستمد إرادته الخاصة من إرادة الشعب العامَة. فليسهر الحاكم على إبقاء الإصلاح، المنجَز أو المفَترض، متفقاً مع النظام المدني، وليترك الحرية لرعاياه في البحث عما يجب عليهم القيام به ليحصلوا على نجاة أرواحهم [في الآخرة]. فليس هذا الأمر من شأنه وإنما عليه، بالمقابل، ان يمنع البعض [من الشعب] من حرمان البعض الآخر، بالقوة، من العمل على تحقيق النجاة والإسراع بها بكل ما أوتي من جهد. والحاكم يضر بهيبته ان هو تدخل في هذا الشأن وأعطى تكريساً رسمياً للكتابات التي يحاول فيها رعاياه توضيح آرائهم. فإن فَعَلَ انطلاقاً من سلطته الشخصية فهو يتعرض للوم القائل "إن قيصر ليس أرفع [شأناً] من النحويين" وإن هو حمى في دولته الاستبداد الكنسي وبعضا من المستبدين على بقية رعاياه فهو يَضعف من قدرته العالية.

وإذا سُئلنا بعد كل هذا: "هل نحن نعيش الآن قرناً مستنيرا؟" فإن إجابتي تكون على النحو التالي: "لا. لأننا في الواقع [نعيش] قرناً يسير نحو الاستنارة"، فنحن لما نَزَل في مرحلة تفتقر إلى عناصر كثيرة أخرى تحمل الناس إلى حالة تمكنهم من ممارسة تفكيرهم الخاص في الأمور الدينية بإحكام وقدرة ودون نجدة الآخرين.

ولكن ان يكون للناس الآن مجال أرحب في ممارسة هذا [التفكير الخاص] بحرية، وأن يكون عدد العقبات أقل من ذي قبل نسبياً، في الطريق نحو عصر شامل للاستنارة يخرج بالناس من حالة القصور التي يبقون هم المسؤولون عنها، فهذا ما لنا عليه مؤشرات مؤكدة. من هذا المنطلق يمكن القول ان هذا القرن هو قرن الاستنارة وقرن [الملك] فريدريك. فالأمير الذي لا يتأفف عن التصريح بأن من واجبه ان لا يأمر بشيء في الأمور الدينية، وأنه يترك للناس كامل الحرية في ذلك، والذي يَعرِض عن لفظة التسامح المتعالية، يبقى هو نفسه مستنيراً: فهو يستحق، إذن، إجلال معاصريه واعتراف الأجيال المقبلة [بجميله]، لأنه أول من أخرج الجنس البشري من حالة القصور، من وجهة نظر إدارية على الأقل، وترك لكل [شخص] الحرية في استعمال عقله الخاص في أمور العقيدة. ففي عهده أصبح من حق رجال الدين الأجلاء، إذا كانوا علماء، ان يتفوهوا بأحكامهم وآرائهم التي تخالف الرمز الرسمي، دون ان يكون لذلك انعكاس سيئ على واجباتهم تجاه وظائفهم. كما أصبح من حقهم ان يعرضوا علانية [هذه الأحكام والآراء] على اختيار العالم، وهذا ينسحب، بالطبع، على كل شخص لا يتقيد بأي التزام تجاه وظيفته. وقد انتشرت روح الحرية هذه في الخارج حتى وإن هي تعرضت لعقبات موضوعية [أقامتها] الحكومة التي لم تستوعب دورها بعد. وما نحن فيه [حكومة فريدريك] يقوم مثلاً أمام كل حكومة لم تفهم ان لا خوف إطلاقاً على العهد السياسي، ولا على وحدة المؤسسة العامة من توفير جو الحرية، حيث سيبذل الناس كبير الجهد حتى يخرجوا من حالة الصلافة، ان لم يكن هناك من يجتهد في إبقائهم عليها.

لقد ركزتُ اهتمامي في بحثي حول حلول عصر الاستنارة، على ذلك النوع [من الاستنارة] الذي يحرر الناس من حالة القصور التي يبقون هم المسؤولون عليها، ووقفتُ على المسائل الدينية، ذلك لأنه لا مصلحة لحكامنا، في ما يخص الفنون والعلوم، في ان يقوموا بدور الأوصياء. ثم ان حالة القصور هذه [الدينية] التي تناولتُها، هي الأكثر ضرراً والأدهى خزياً. ويذهب منهج التفكير عند رئيس الدولة الذي يشجع الاستنارة إلى أبعد من هذا فيعترف، من منطلق تشريعه أيضاً، ان لا خطر [عليه] في ان يسمح لرعاياه باستخدام علني لعقلهم حتى يقدموا للعاَلم ما أنتجوه من أفكار تشير إلى بناءٍ أفضل لهذا التشريع، حتى ولو كان ذلك من خلال نقد صريح للتشريع الذي تم سَنَه. ان لنا في هذا لمثل كريم لم يتجاوزه أي ملك عدا الذي نُجله.

وهذا الملك المستنير هو الملك الوحيد الذي لا يخشى البقاء في الظل وقد مَسَك بجيش عتيد حسن التنظيم، يضمن به الطمأنينة العامة، وهو [الملك] الوحيد الذي يَقِدر على التصريح بما لا تجرؤ أي دولة حرة [أخرى] على التصريح به: "فكروا قَدرَ ما تشاؤون وفي ما تشاؤون، وعليكم ان تطيعوا".

هكذا تأخذ الأمور الإنسانية مجرىً مثيراً غير منتظر. ومهما يكن من أمر، وإذا اعتبرنا سياق الأمور في جملتها، نرى ان كل شيء تقريبا يثير الإحساس بالمفارقة: فالحصول على درجة أعلى من الحرية الَمدَنية يبدو مفيداً لحرية الفكر عند الشعب في الوقت نفسه الذي يفرض عليه حدوداً لا يمكن له تخطيها. [ومن ناحية أخرى] فإن درجة أدنى توفر له الفرصة في ان ينشر نفوذه الكامل. وما ان تُحرر الطبيعة، من تحت قشرتها الصلبة، بذرة الميل والتأهب للفكر الحر حتى تحدوها بعطفها وتجعل منها ذلك النزوع الذي سيؤثر تدريجياً وبمفعول رجعي على مشاعر الشعب (ومن خلال هذه المشاعر يزيد الشعب شيئاً فشيئا من الاستعداد للسلوك بحرية). وسوف يؤثر هذا النزوع بدوره، آخر الأمر، على أسس الحكم الذي سيرى من صالحه ان يعامل الإنسان (وهو الذي لم يعد مجرد آلة) حسب التقدير الذي يستحق.


ترجمة: يوسف الصديق


جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:04 PM

ميشال فوكو (1926 -1984)



ميشال فوكو (Michel Foucault) مفكر فرنسي شهير عالميا ويعتبر من آباء المدرسة التفكيكية، وهي اتجاه في العلوم الاجتماعية يدعو إلى الابتعاد عن النمطية في تحليل الظواهر الاجتماعية مدعيا ان ذلك يضيق إلى حد كبير آفاق المعرفة البشرية، ويسقط أوهام الناس على الظواهر.

"فوكو كان كاتبا مهجنا، يستند في كتاباته إلى كل أنواع المصنفات، والتاريخ، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، والفلسفة، ولكنه يتجاوزها جميعها. وبالتالي فهو يضفي، عامدا، على أعماله قدرا من العالمية جعلها، في ان واحد، نيتشوية واحدث من الحداثة نفسها: فهي ساخرة، ومتشككة، وعنيفة في راديكاليتها، وهي، أيضا، مضحكة ولا أخلاقية في إطاحتها بكل تقليدي ملتزم، وبالأصنام وبالأساطير..."[4]

بعدما درس الفلسفة وعلم النفس وعَلّم في السويد، وبولندا، وألمانيا وتونس، حصل ميشال فوكو على لقب بروفيسور تاريخ أنظمة الفكر في أشهر مؤسسة أكاديمية في فرنسا وهي الكوليج دي فرانس (Collège de France). ارتبطت أعمال فوكو خلال الستينات بمجموعة البنيويين (structuralists)، إلا أنه رفض أية علاقة له بهذه المجموعة. في السبعينات والثمانينات كان يعرف في الولايات المتحدة بـ "ما بعد البنيوي" نسبة إلى "ما بعد البنيوية" (poststructuralism). وكان قد رفض هذا اللقب أيضا. أقر فوكو، بتقارب من الناحية الفكرية، بينه وبين المفكر الفرنسي جيل ديلوز (Gilles Deleause) خاصة وأنه كان هناك تشابه بين الاثنين من الناحية السياسية والفلسفية. وكانت لفوكو نشاطات سياسية مختلفة منها مشاركته الفعالة في المجموعات التي كانت تناضل من أجل حقوق السجين، والمرأة، واللوطيين، والخاضعين للاستعمار كما كان لفوكو نشاطات سياسية في الحركة التي عرفت في أوروبا في نهاية الستينات بحركة "اليسار الجديد".

من الممكن تصنيف كتابات فوكو على أنها تعكس فكر ما بعد الماركسية، وذلك لانه سعى إلى تطوير إستراتيجيات في التفسير تعرف وتحدد آليات السيطرة خارج إطار العمل أو حتى خارج مفهوم نمط الإنتاج. ان كل عمل من أعماله يعالج موضوعا تاريخيا يحاول من خلاله الكشف عن كيفية ممارسة النفوذ والسلطة في بنية الأجهزة الهرمية. فهو يتطرق إلى مسألة الجنون في كتابه "الجنون والحضارة" -Madness and Civilization- (1961)؛ الدواء في كتابه "ولادة العيادة" -Birth of the Clinic- (1963)؛ العقاب في كتابه "الانضباط والعقوبة" -Discipline and Punish- (1975)؛ والجنس في كتابه "تاريخ مظاهر الجنس" -History of Sexuality- (1976-1978). كما كتب فوكو كتب أخرى في غاية الأهمية منها "أركيولوجيا المعرفة" -The Arch**ology of Knowledge- (1969). وقد وضع في هذا الكتاب منهجيته الخاصة في قراءة التاريخ والوصول إلى المعرفة العلمية والاجتماعية.




فوكو: كانط والثورة


يبدو لي ان هذا النص يكشف عن نوع آخر من الأسئلة في مجال التفكير الفلسفي. فما هو بالنص الأول في تاريخ الفلسفة (ولا حتى عند كانط) الذي يطرح سؤالاً حول التاريخ: إذ نجد عند هذا الفيلسوف نصوصاً عديدة تلقي على التاريخ سؤال الأصل، كالنص حول بدايات التاريخ ذاته، والنص المتعلق بتحديد مفهوم الأجناس. وثمة نصوص أخرى تضع التاريخ أمام سؤال حول صيغة إنجازه، كهذا النص المنشور في سنة 1784 نفسها: "حول فكرة تاريخ عالمي من وجهة نظر كونية". وهناك أخيراً نصوص تساءلت عن الغاية الذاتية[5] التي تنظم السياقات التاريخية كالنص الخاص باستعمال المبادئ الغائية. فكل هذه النصوص[6] المترابطة بعضها ببعض وثيق الترابط تخترق جميع تحاليل كانط حول التاريخ. إلا أنه يظهر لي ان نص عصر الاستنارة يختلف عن كل هذه النصوص فهو (على الأقل) لا يطرح أياً من هذه الأسئلة: لا سؤال الأصل ولا (برغم ما يبدو للناظر) سؤال الإنجاز، بل يضع بصفة محتشمة، تكاد تكون جانبية مسألة الغائية الكامنة في سياق التاريخ ذاته. والمسألة التي تبدو لي مطروحة لأول مرة في نص كانط هذا هي مسألة الحاضر، أي السؤال عن الآنية: ما يحدث اليوم؟ ماذا يحدث الآن وما هو هذا "الآن" الذي نوجد نحن وغيرنا فيه، ومن الذي يحدد اللحظة التي أكتب فيها؟.

ليست هذه هي المرة الأولى التي نجد فيها، خلال التفكير الفلسفي، إشارة إلى الحاضر بوصفه وضعاً تاريخياً محدداً. فقد وصف ديكارت في بداية "مقالة الطريقة" مسيرته ومجموعة القرارات الفلسفية التي اتخذها تجاه نفسه وتجاه الفلسفة، ولقد أشار فعلاً وبطريقة واضحة لأمر يمكننا ان نعتبره الوضع التاريخي ضمن انتظام المعارف والعلوم في عصره. غير ان المطلوب في هذا النوع من الإشارات يبقى إيجاد الدافع لاتخاذ القرار الفلسفي داخل ذلك الشكل المتوحد الذي نشير إليه بلفظة الحاضر. فعند ديكارت لا نجد سؤالاً من صنف: "ما هو بالتحديد هذا الحاضر الذي أنتسب إليه؟" فالسؤال الذي ألزم كانط بالإجابة حين ألقي عليه هو من نوع آخر، في ما يبدو لي، إذ هو لا يصاغ بهذه البساطة أي على هذا الشكل: ما الذي يحدد في الوضع الحالي هذا القرار أو ذاك ضمن النظام الفلسفي؟ بل ان السؤال يتعلق بهوية هذا الحاضر، وقبل كل شيء، بتحديد عنصر معين من الحاضر لا بد من التعرف عليه وتميزه وفك شفرته من بين كل العناصر الأخرى، حتى يصبح السؤال: ما الذي يشكل في الحاضر، الآن، المعنى في تفكير فلسفي ما؟

في الجواب الذي يحاول تقديمه حول هذا التساؤل يعمد كانط إلى بيان الميزة التي يحملها هذا العنصر، والتي تجعل منه المؤشر لسياق يضم الفكر والمعرفة والفلسفة. غير أنه من الضروري [في الحين ذاته] تحديد السبب والصيغة اللذين يجعلان المتحدث (كمفكر أو كعالمِ أو كفيلسوف) ينتمي هو ذاته إلى هذا السياق ثم كيف يمكن تحديد الدور الذي يلعبه [هذا المتحدث] في هذا السياق حيث يوجد هو نفسه كعنصر وفاعل في الوقت نفسه.

ومجمل القول أرى أننا نلمح في نص كانط هذا، قيام مسألة الحاضر كحدث فلسفي ينتمي إليه الفيلسوف الذي يتحدث عنه. وإن نحن قبلنا باعتبار الفلسفة شكلاً من أشكال العمل النظري له تاريخه المميز؛ فإننا (في اعتقادي نشاهد في نص الاستنارة الذي أمامنا، ولا أبالغ حين أقول لأول مرة) نشاهد الفلسفة تعمل على صياغة إشكالية لآنتيها النظرية. فهي تستنطق هذه الآنية كحدث لا بُد من الإفصاح عن معناه وعن قيمته وعن تفرده الفلسفي، ولا بد من ان تجد فيه (في الوقت نفسه) تعليلاً لوجودها وأساساً لما تقوله. نرى، إذن، ان تساؤل الفيلسوف عن انتمائه لهذا الحاضر لم يَعد إطلاقاً تساؤلاً حول انتمائه لمذهب ما أو لتراث معين، ولا حول قضية انتمائه لمجموعة إنسانية بصفة عامة، بل أصبح السؤال يخص انتماءه لـ "نحن" محدد، لهذا الـ "نحن" الذي يشير إلى مجموعة ثقافية تتميز بآنيتها. هذا هو الـ "نحن" الذي سيصبح في الفلسفة موضوع تفكيرها، ومن هذا المنطلق لم يعد من الممكن ان يتجنب الفيلسوف السؤال حول انتمائه المتفرد لهذا الـ "نحن". كل هذا (أي الفلسفة كعملية تجعل من الآنية إشكالاً، وكتساؤل الفيلسوف عن هذه الآنية التي ينتمي إليها والتي لا بُد ان يتخذ له منها موقفاً) كل هذا إذن سيُمكن من تمييز الفلسفة كخطاب الحداثة وكخطاب عن الحداثة.

وحتى نتحدث بصفة مبسطة نقول: ان مسألة الحداثة كانت قد طُرحت في الثقافة الكلاسيكية [الغربية] ضمن محور ذي قطبين: قطب العصر القديم وقطب التحديث. فقد تمت صياغة المسألة إما في اتجاه سلطة، علينا قبولها أو رفضها ( أي سلطة نقبل وأي نموذج نتبع، الخ...؟)، وإما في شكل (مرتبط بالاتجاه الأول) تقويمي مقارِن: هل القدامى أفضل من المحدثين؟ وهل أننا في فترة انحطاط، الخ..؟ لكننا نرى [مع نص كانط] ظهور صيغة جديدة في طرح مسألة الحداثة إذ لم يعد السؤال في علاقة المحاذاة مع القدامى، بل أصبح في علاقة يمكن ان نسميها "شعاعية"، انطلاقا من آنية المتسائل: على الخطاب بدءاً من الآن ان يضع في الحساب آنيته حتى يحدد فيها مجال تواجده الخاص من جهة، وحتى يتلفظ بمعناه من جهة ثانية، ثم وفي نهاية الأمر، كي يميز صيغة العمل الذي يستطيع القيام به داخل هذه الآنية2.

ما هي آنيتي؟ ما هو معنى هذه الآنية؟ وما هو نوع العمل الذي أقوم به حين أتحدث عن هذه الآنية؟ ذلك، في رأيي، ما يعرف هذا التساؤل الجديد حول الحداثة.

إلا ان [ما توصلنا إليه إلى الآن] لا يشكل سوى ممرا لا بد من استكشافه عن قرب، لذا يجب علينا ان نُقبل على بحث أصولي3 لا يستهدف بالضرورة فكرة الحداثة بل الحداثة كمسألة. وعلى أي حال وحتى لو أخذنا نص كانط كنقطة بروز هذه المسألة فإننا نرى ان هذا النص يندرج هو نفسه داخل سياق تاريخي واسع لا بُد من ان نقدره حق قدره. وسيكون هذا الاتجاه، دون شك، أحد المحاور الهامة لدراسة القرن الثامن عشر بعامة، وعصر الاستنارة بصفة أخص، إذا نحن وضعنا الأمر التالي موضع التساؤل: ان عصر الاستنارة قد سمى نفسه عصر الاستنارة، فهو، إذن، سياق ثقافي متفرد بذاته دون ريب، لأنه وعى ذاته بتسمية ذاته في الوقت نفسه الذي حدد فيه نفسه بالنسبة لماضيه ومستقبله، مع قيامه بتعيين الاختيارات التي سيُقبل عليها ضمن حاضره.

أو ليس عصر الاستنارة هو أول العصور التي تسمي نفسها بنفسها، وأول عصر لم يتميز (بحسب العادة القديمة) بصفة الانحطاط أو الإزدهار أو بانتسابه للرونق أو للبؤس فقط، بل سمى نفسه من خلال حدث معين داخل تاريخ الفكر الشامل، وداخل تاريخ العقل والمعرفة، حيث سيلعب هذا العصر دوره الخاص. فعصر الاستنارة طَورٌ صاغ شعاره بنفسه كما صاغ تعاليمه، معلناً عما سيقوم به من عمل في اتجاه تاريخ الفكر بعامة، ثم في اتجاه حاضره وفي اتجاه صيغ المعرفة والعلم والجهل والأوهام التي عَرَف هذا العصر كيف يتحسسها وكيف يتعرف على وضعه التاريخي فيها. ويبدو لي أننا نشهد في مسألة عصر الاستنارة هذه، أولى المظاهر [لمولد] طريقة معينة في تعاطي الفلسفة، مرت بتاريخ طويل خلال قرنين، لأن من أهم وظائف الفلسفة التي تسمى بالحديثة (والتي نستطيع تحديد بداياتها من أقصى أطراف القرن الثامن عشر) تساؤلها عن آنيتها. ونحن نستطيع متابعة خط هذه الصيغة [الجديدة] للفلسفة خلال القرن التاسع عشر حتى اليوم، مع ان الشيء الوحيد الذي أرغب في التشديد عليه هذه المرة هو ان كانط لم ينسَ فيما بعد المسألة التي عالجها سنة 1784، حين أجاب على سؤال طرح عليه من الخارج، فهو سوف يعيد محاولة الإجابة عليه ضمن ما سيقوله [في مناسبة لاحقة] عن حدث لم ينفك هو أيضا يتساءل عن ذاته، وأعني بهذا الحدث، طبعا، الثورة الفرنسية.

ففي سنة 1789 سيعطي كانط ما يمكن ان نعتبره تتمة لنص 1784. فالفيلسوف حاول في 1784 الإجابة على السؤال: ما هو عصر الاستنارة؟ أما في 1789 فسيجيب على سؤال آخر طرحته عليه الأحداث، لكن المناظرات الفلسفية في ألمانيا كانت قد صاغته منذ 1894. وهذا السؤال هو: "ما هي الثورة؟".

تعلمون ان كتاب "نزاع الكليات" هو مجموعة ثلاث رسائل حول العلاقات القائمة بين مختلف الكليات المكونة للجامعة، وتتعلق الرسالة الثانية بالنزاع بين كليتي الفلسفة والحقوق، وقد حكم مجال العلاقات بين الفلسفة والحقوق آنذاك هذا السؤال: "هل هناك تقدم مستمر للجنس البشري؟" وحتى يجيب كانط على هذا السؤال، عمد في الفقرة الخامسة من هذه الرسالة، إلى إثبات الاستدلال الآتي: "إذا نحن أردنا الإجابة على السؤال "هل هناك تقدم مستمر للجنس البشري؟" وجب علينا ان نحدد ما إذا وُجدت علة ممكنة لهذا التقدم. فإن نحن سلمنا بهذه الإمكانية وجب علينا ان نقيم الدليل على ان هذه العلة فعالة في واقع الأمر. فمجرد تحديد العلة لا يسمح إلا بتحديد جملة من النتائج الممكنة أو، بتعبير أدق، لا يسمح إلا [بتصور] إمكان النتيجة. ولكن واقع النتيجة لا يمكن ان يتأسس إلا بوجود الحدث". لا يكفي، إذن ان نتحسس التظافر الغائي الذي يجعل التقدم ممكنا، بل لا بد من ان نحدد داخل التاريخ حدثا تكون له قيمة المؤشر؟ مؤشر على ماذا؟ مؤشر على وجود علة، علة مستمرة قادت البشر خلال التاريخ على طريق التقدم، علة ثابتة يمكن لنا ان نؤكد فاعليتها في الماضي وأنها تفعل الآن، وأنها سوف تقوم بالفعل في الزمن الآتي. فالحدث الذي يمكننا إذن من تقرير وجود التقدم هو مؤشر "يمكن استحضاره بالذاكرة والاستدلال عليه، وتوقع حدوثه مستقلاً" [باللاتينية في النص الأصلي]4. يجب ان يثبت المؤشر إذن ان الأمور وقعت في الماضي (الاستحضار بالذاكرة)، وأن الأمور نفسها تحدث الآن (المؤشر [في حالته] الاستدلالية)، وأنها سوف تحدث هكذا باستمرار (المؤشر [في حالته] التوقعية)، وبهذه الطريقة يمكننا ان نتأكد من ان العلة التي تجعل التقدم ممكنا لم تَقُم بفعلها في ظرف معين فقط، بل تضمنت نزوعا شاملا يحمل الجنس البشري كله على السير في اتجاه التقدم، يصبح السؤال إذن: "هل يوجد حولنا حدث يمكن استحضاره بالذاكرة والإشارة إليه استدلالا، والتوقع بحدوثه يشير إلى تقدم مستمر يحمل الجنس البشري كله؟".

لا بد أنكم حدستم الجواب الذي يعطيه كانط، لكني أريد ان اقرأ عليكم مقطعا من نص سوف يدخل كانط من خلاله إلى الثورة كحدث له قيمة المؤشر [كما بينها]. فقد كتب في الفقرة السادسة [من الرسالة المذكورة]: "إياكم ان تروا في هذا الحدث مجموع الأعمال الراقية والمساوئ الخطيرة التي قام بها الناس، والتي حولت الأشياء العظمية عندهم حقيرة، والأشياء الحقيرة عظيمة [وإياكم ان تروا] في المعالم القديمة الرائعة التي انمحت بمفعول يكاد يكون سحريا، بينما ظهرت مكانها معالم أخرى وكأنها طلعت من تحت الأرض لا! لا شيء من ذلك". في هذا النص يشير كانط، طبعا، إلى الأفكار التقليدية التي تبحث عن دلائل التقدم أو عدم التقدم، عند النوع البشري، في انقلاب الإمبراطوريات وفي تعاقب النكبات التي تأتي على الأوضاع الأكبر رسوخا، أو في تغير الأقدار التي تصيب بالنكسة القُوى الراكزة فتعوضها لما جرى. يقول كانط لقرائه: حذار، فإننا لن نجد في هذه الأحداث الضخمة ذلك المؤشر الاستحضاري الاستدلالي التوقعي للتقدم، بل إننا نجده في أحداث أقل منها ضخامة، وأخفى منها على الإدراك، ولا يمكن لنا ان نحلل حاضرنا بالنظر إلى هذه القيم الدالة، دون ان نسقط في طلسمة تقودنا إلى إعطاء الدلالة والقيمة التي تبحث عنها لما هو في الظاهر خالٍ من الدلالة والقيمة.

لكن ما هو هذا الحدث الذي ليس هو بالحدث "الضخم"؟ هناك طبعا مفارقة عندما نقول ان الثورة ليست الحدث الصاخب، أليست هي مثال الحدث الذي يقلب، والذي يجعل ما كان كبيرا يصبح حقيرا، وما كان حقيراً يصبح كبيراً، والذي يلتهم هياكل المجتمعات والدول الأكبر رسوخا في الظاهر؟ ولكن ليس هذا هو الجانب من الثورة الذي يحدد المعنى عند كانط. فالذي يشكل الحدث ذا القيمة الاستحضارية الاستدلالية التوقعية لا يكمن في الدراما الثوري نفسه ولا في الانتصارات الثورية ولا في الإيماءات التي ترافقها. فالدال في الثورة هو الطريقة التي تقيم بها الثورة المشهد، أي الطريقة التي تُستقبل بها من طرف مشاهدين لم يُسهموا فيها وإنما نظروا إليها وحضروها واستسلموا لتيارها، ان نحو الأفضل أو نحو الأسوأ.

فالتحول الثوري لا يشكل الدليل على التقدم، ذلك لأنه، أولاً، مجرد عكس لواقع الأمور ثم، ثانياً لو ان لمن قام بهذه الثورة ان يكررها كما هي لَماَ فعل. هناك نص لكانط ذو أهمية بالغة يقول: "ليس المهم ان تكون الثورة ثورة شعب عظيم الثقافة كما رأيناها في أيامنا هذه (وهو يتحدث إذن عن الثورة الفرنسية)، وغير مهم ان نعرف ان هي نجحت أو فشلت، وليس من المهم ان نعرف ما تراكم خلالها من البؤس والفظاعة، حتى لأن إنساناً عاقلاً، لو توفر له القيام بها من جديد على أمل إنجاحها لَمَا قَبِل إطلاقاً محاولة التجربة بالثمن نفسه." فليس مسار الثورة هو المهم، وغير مهم ان تفشل أو تنجح إذ لا علاقة لكل هذا بالتقدم أو، على الأقل، بمؤشر التقدم الذي نبحث عنه. ففشل الثورة أو نجاحها لا يكونان مؤشراً للتقدم، ولا المؤشر الدال على انعدام التقدم، بل لو تمكن الإنسان من فرصة الإطلاع [على نتيجة] الثورة والعلم بكيفية تطورها، ولو تمكن في الوقت نفسه من السير بها إلى النجاح مرة أخرى فإن هذا الإنسان، ان كان عاقلاً، وحسب الثمن الضروري لهذه الثورة لا يكرر القيام بها. فالثورة في حد ذاتها كعملية "القلب"، أو كبادرة يمكن لها ان تنجح أو ان تفشل، ثم كثمن باهظ لا بد من دفعه، لا تُعتبر مؤشراً يدل على وجود علة قادرة على تمرير تقدم متواصل للبشرية خلال التاريخ.

ولكن الذي يشكل مؤشر التقدم، بالمقابل، هو ما يحاذي الثورة، كما يقول كانط من "تعاطف بين التطلعات يلامس الحماسة". فالمهم في الثورة ليس [حدث] الثورة ذاته، بل ما يدور في أذهان من لا يقومون بها أو، على الأقل، من ليسوا بالقائمين الرئيسيين بها. المهم هو العلاقة القائمة بين هؤلاء وهذه الثورة التي هم ليسوا من أعضائها الفاعلين. فالحماس للثورة، بحسب كانط، هو المؤشر لتأهب يظهر بصفة مستمرة في مظهرين: أولاً في حق كل الشعوب في ان تَهبَ نفسها الدستور السياسي الذي ترتضيه، ثم ثانياً في المبدأ الذي يتفق مع الأخلاق والحق، [القاضي] بأن تتمتع الانسانية بدستور سياسي [شامل] يجنب، من وجهة نظر هذه المبادئ ذاتها، كل حرب هجومية.

فالتأهب الذي يحمل الإنسانية نحو هذا الدستور هو الذي تشير إليه الحماسة للثورة. فالثًورة كمشهد لا كإيماءات، وكموطن للحماسة عند الذين يحضرونها، لا كمبدأ عند مَن يشاركون في صنعها هي "مؤشر استحضاري" لأنها تُبرز التأهب المتأصل [في الإنسان] وهي "مؤشر استدلالي" لأنها تُظهر الفاعلية الحاضرة لهذا التأهب، وهي أيضاً "مؤشر توقعي" لأنه لا يمكن مستقبلاً نسيان التأهب الذي برز من خلالها حتى ولو كان من الجائز مراجعة بعض من نتائج الثورة في ما بعد.

ثم أننا نعلم ان هذين العنصرين، الدستور السياسي الذي اختاره الشعب بمحض إرادته والدستور السياسي [الشامل] الذي يُجنب الحرب، هما [في] مسار عصر الاستنارة. أي ان الثورة هي بالفعل [في الوقت نفسه] التتويج والتواصل لعصر الاستنارة، وفي هذا الإطار يصبح عصر الاستنارة والثورة من الأحداث التي لا يمكن نسيانها. وقد كتب كانط يقول: "أؤكد أني أستطيع التنبؤ للجنس البشري، دون ان يكون ذلك عن ميل إلى التنجيم بل من خلال الظواهر وما استشفه من علاقات في عصرنا، أستطيع التنبؤ بأن [الجنس البشري] سوف يصل إلى هذه الغاية، أي أنه سيبلغ حالة تجعل الناس قادرين على تبني الدستور الذي يريدون والدستور الذي يجنب الحرب الهجومية، بحيث تصبح هذه المكاسب في مأمن من كل مناقضة وظاهرة كهذه لا يمكن ان تُنسى في تاريخ الإنسانية لأنها تُبرز في الطبيعة الإنسانية تأهبا ومَلَكَة [في الإقبال] على التقدم لا يمكن لأي سياسة مهما بلغت من قوة الدهاء التي تنتزعها من مجرى الأحداث السابقة فالطبيعة والحرية، ان اجتمعا في فكر الإنسان، بحسب مبادئ الحق الكامنة [فيه]، يصبحان وحدهما القادرَين على تقرير هذا الأمر حتى وإن لم يكن ذلك إلا في صيغة غير محددة، وكحدث عارض. ولكن وإذا لم يكن الهدف المطلوب من وراء هذا الحدث قد تم الوصول إليه، أي حتى وإن فشلت في ما بعد الثورة أو الإصلاح الذي شمل دستور الشعب، وإذا سقط كل شيء، بعد فترة قصيرة من الزمن، في الأخدود السابق، كما تنبأ بذلك بعض السياسيين، فإن تنبؤنا الفلسفي لن يفقد شيئاً من قوته، إذ ان هذا الحدث هو من الأهمية وعلى درجة من الارتباط بمصالح البشرية، ومن تأثير واسع على كل أجزاء العاَلم ما يجعله يعود، وجوبَا، إلى ذاكرة الشعب حالما تعود الظروف الملائمة، وسيُستحضَر عند تَحدد الأزمة ضمن محاولات متجددة من هذا الصنف؛ لأن قضية بهذه الأهمية بالنسبة للنوع البشري سوف تمكن الدستور المنتظر من ان يبلغ في وقت ما تلك الصلابة التي تؤسسها دروس التجارب المتكررة في الأذهان".

على كل حال، لا بد للثورة ان تكون مهددة بالسقوط في "الأخدود السابق"، ولكنها لن تسقط، إلا كحدث ذي محتوى تافه ويبقى وجودها يشهد على كُمونٍ مستمر لا يمكن نسيانه، ويبقى هذا هو الضمان مستقبلاً لمسيرة التقدم.

أردت ان أحدد فقط موقع نص كانط هذا حول عصر الاستنارة وسأحاول فيما بعد قراءته بدقة أكبر وأردت أيضا ان أرى كيف أَقبل كانط بعد خمس عشرة سنة على التفكير في أحداث أكثر درامية [مما جاء في هذا النص] هي أحداث الثورة الفرنسية. فنحن أمام هذين النصين نقف على موضع الأصل وعلى نقطة انطلاق سلسلة من الأسئلة الفلسفية، لأن هذين السؤالين: "ما هو عصر الاستنارة؟" و"ما هي الثورة؟" هم الشكلان لسؤال كانط حول آنيته ذاتها. وهما، فيما أظن، السؤالان اللذان لم ينفكا يترددان على جزء كبير من الفلسفة منذ القرن التاسع عشر، ان لم نقل على كل الفلسفة الحديثة. ويظهر لي، في آخر الأمر، ان عصر الاستنارة كحدث متفرد دشّن الحداثة الأوروبية، وكسياق مستمر يبرز في تاريخ العقل، وضمن تطور أشكال العقلانية والتقنية وفي عملية تأسيسها ثم ضمن استقلالية المعرفة وسلطتها. ان عصر الاستنارة إذن لا يبقى مجرد مرحلة من تاريخ الأفكار، بل هو مسألة فلسفية مدونة في فكرنا منذ القرن الثامن عشر. ولنترك في وَرَعهم أولئك الذين يريدوننا ان نحتفظ بتركة عصر الاستنارة حية مقدسة، فإن مثل هذا الورع يعد من أسذج الخيانات. المطلوب ليس ان نحافظ على بقايا عصر الاستنارة بل ان نُبقي على ذات السؤال الذي طرحه هذا الحدث وعلى معناه [أي تاريخية فكرة العالمية] الذي لا بد من الاحتفاظ به حاضراً والإبقاء عليه كالشيء الذي يجب ان يكون [مادة] الفكر.

إن مسألة عصر الاستنارة، ومسألة العقل كمشكلة تاريخية، عَبَرت الفكر الفلسفي بكيفية يتفاوت غموضها منذ كانط إلى الآن. والوجه الآخر للآنية الذي اعترض كانط هو الثورة: الثورة كحدث ثم أيضاً كفظيعة وكتحول في التاريخ وكفشل، وفي الوقت نفسه كقيمة وكمؤشر وكتأهب يفعل داخل التاريخ وضمن تقدم النوع البشري. وهنا أيضا لا يكون السؤال المطروح على الفلسفة في اتجاه تحديد ذلك الجانب من الثورة الذي يجب الحفاظ عليه، وإبرازه كنموذج، بل على السؤال ان يتجه نحو معرفة ما يجب ان نفعله بهذه الإرادة في الثورة، وبهذه "الحماسة" للثورة التي تختلف عن العملية الثورية نفسها. فالسؤالان: "ما هو عصر الاستنارة؟ و "ماذا نفعل بإرادة الثورة؟" يحددان كلاهما مجال التساؤل الفلسفي عن هوية وجودنا في الآنية التي نعيشها.

لقد أســَس كانط، فيما أعـــتقد، الركنين الرئيسيين للتراث النقدي اللذين تقاسما الفلسفة الحديثة. ولَنِقُل إنه وضع في عمله النقدي العظيم دعائم هذا التراث الفلسفي الذي يطرح السؤال حول الشروط التي تجعل المعرفة الحقة ممكنة. ولنا ان نؤكد ان جانباً بأكمله من الفلسفة الحديثة قد تولد وتطور [من كانط] في شكل تحليله للحقيقة.

غير أنه يوجد في الفلسفة الحديثة المعاصرة سؤال من نمط آخر، أي على صيغة أخرى من الاستفهام وهي التي تولدت تحديداً في السؤال عن عصر الاستنارة وفي النص حول الثورة. وهذا التراث النقدي الجديد يطرح السؤال: ما هي آنيتنا؟ وما هو المجال الحالي للتجارب الممكنة؟ والأمر لا يتعلق هنا بتحليلية الحقيقة بل بما يمكن ان نسميه بأنطولوجية[7] الحاضر، أي بأنطولوجيتنا نحن ذاتنا. ومن هنا أرى ان الاختيار الفلسفي الذي نتعرض له اليوم هو الآتي: فإما ان نختار فلسفة نقدية تأتي إلينا على أنها فلسفة تحليلية [تتناول] الحقيقة بصفة عامة، وإما ان نفضل فكراً نقدياً يأخذ شكل أنطولوجية لـ "نحن ذاتنا" أي أنطولوجية الآنية، ولقد أسس هذا الصنف من الفلسفة [الاختيار الثاني] بدءا من هيغل إلى مدرسة فرانكفورت، مروراً بنيتشه وماكس فيبر، شكلاً من التفكير حاولت أنا ان أعمل داخله.




--------------------------------------------------------------------------------

[1] للجملة الفلسفية الكانطية بنية منشغلة تجعلها "تلبس" الفكرة ولا تنتهي الا بانتهائها. فالتنقيط "النحوي" عند هذا الفيلسوف يبقى تحت قيادة النَفَس الاستدلالي الذي يطول أحيانا إلى حد إرهاق القارئ والتباس الأمور عليه. حاولنا الإبقاء على صحة الصياغة في ترجمتنا لنص كانط من الترجمة الفرنسية، مع لجوئنا في كل مرة إلى القاموس الكانطي الأصلي، بالألمانية، في تعريبنا للمفاهيم الفلسفية.

[2] ترجمنا بكلمة الفكر المفهوم الكانطي Verstand، وبكلمة عقل المفهوم Vernunft كما جرت العادة في الترجمات العربية لأهم أعمال كانط، أما حين يستعمل اللفظة Geist وهي تعني بالضبط العقل في بعديه الجماعي والتاريخي، فقد فضلنا تعريبها بكلمة الذهن. [المصطلحات مذكورة في هذا الهامش باللغة الألمانية].

[3] يقصد كانط بهذا (السيد الوحيد) الملك فريدريك ملك بروسيا الذي كان يعيش عهده، كما سيبين النص ذلك فيما بعد.

[4] اقتباس من مقالة لإدوارد سعيد بعنوان "ميشال فوكو".

[5] الغائية (teleology) هي النظرية القائلة بوجود غرض (هدف) لكل ظواهر الطبيعة.

[6] تعرف هذه النصوص في أعمال كانط تحت العناوين التالية:

"حول مختلف الأجناس البشرية" نشره أول مرة سنة 1775، وأعاد نشره منقحاً ومزيداً سنة 1777.

" حول تحديد مفهوم الجنس البشري"، 1785 (ربما كان هذا النص تعقيبا متأخرا على النص الأول).

"اقتراحات حول بدايات التاريخ الإنساني"، 1786.

2 فضلنا ترجمة مفهومactualite (actuality) بالآنية، من "الآن"، لأن فوكو في مواضع أخرى يعتمد التحليل نفسه، ويشدد على البعد الزمني لهذا المفهوم أي البعد "التوقيتي"، لا البعد "الحدثي".

3يشير فوكو حين يتحدث عن البحث الأصولي إلى استدراج المفاهيم والقيم بدءا من أصلها، واستنطاقها من خلال هذا الاستدراج تماما مثلما فعل نيتشه في كتابه "البحث في أصول الأخلاق" (Genealogie de la Morale).

4 ميز النص أبعاد هذا المؤشر بتعابير لاتينية: (Reme morativum, De monstrativum, Pronosticum).

[7] من أنطولوجيا (ontology)، ويعني علم الوجود، أو علم الكينونة، وهو العلم الذي يهدف إلى استكشاف ماهية الأشياء في حد ذاتها باستقلال تام عن أفعال الوعي.

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:05 PM

8- جون ستيوارت مِلْ

ولد جون ستيورات مل (John Stuart Mill) في لندن عام 1806. وكان الابن البكر للمفكر البريطاني المعروف جيمس مل (1773 - 1836). وأشرف جيمس نفسه على توفير شروط التعليم وتوجيه مسار دراسة جون. فدرس جون اللاتينية وهو في الثامنة من عمره وقرأ بعض أعمال ارسطو ودرس أصول المنطق وهو في الثانية عشرة من عمره. وتعكس سيرته الذاتية تربية مبرمجة لعب والده دور المبرمج لابنه البكر. لذلك، كان حظ جون من السعادة والحرية طفيفاً في طفولته وشبابه.

وأكثر جون ستيوارت مل من نشر "الرسائل" في الصحف والمجلات المختلفة منذ سن مبكر. كما أن المواضيع التي طرقها متعددة الجوانب: فمنها ما تناول المشاكل السياسية والاجتماعية الجارية، ومنها التعليقات والنقد لما كتبه المفكرون المعاصرون له في بريطانيا وفرنسا.

نقد مل منهج البحث التجريبي الذي شاع بين المفكرين الاسكتلنديين ومال إلى الإكثار من استعمال القياس (Syllogism) في البحث والدراسة. ولخص مل وجهة نظره في المنطق في كتاب صدر 1843.

لم يكن مل مفكراً "متخصصاً" ليكرس حياته لدراسة المنطق. ويبدو أن التطور الاقتصادي الذي عاشته بريطانيا خلال الثورة الصناعية والافرازات الاجتماعية والسياسية استقطبت نشاط مل الفكري. فقد نشر مؤلفاً معروفاً عالج فيه بعض "المسائل في الاقتصاد السياسي" في 1844. كما أن الإشكاليات الجديدة التي برزت بعد نشوء المجتمع الصناعي أثارت مسألة الحرية ومفهوم الحقوق الفردية في الحياة المدنية والسياسية. فقد أصبحت الصحافة ووسائل الإعلام الجديدة قوة لم يعرفها المجتمع القديم. ولخص مل موقفه في كتابين مهمين: "في الحرية" و"أفكار حول الحكم التمثيلي" وصدرت هاتان الدراستان في الأعوام 1859 - 1861.

لا يمكننا عرض جميع أعمال مل نظراً لكثرتها وغناها، لكن تجدر الإشارة إلى بعض الملامح العامة والعريضة: فبينما دعا مل إلى توسيع رقعة الحريات العامة والمدنية أبدى مخاوفه من نتائج بعض المبادئ الديموقراطية كالمساواة في حق الانتخاب. مع ذلك نادى مل بحق الرأي في الانتخاب، ونقد تصور أوغست كونت (Auguste Comte) الهرمي لبنية المجتمع وتعليله للطبيعة الهرمية للمجتمع. وعلى الإجمال، يعتبر جون ستيوارت مل أحد المفكرين البارزين الذين أرسوا أركان الفكر الليبرالي في القرن التاسع عشر.




مل: مختارات من كتاب "بحث في الحرية"

الفصل الأول
المدخل: في حدود سلطة المجتمع على الفرد
ليس موضوع هذا البحث الحرية التي تسمى "حرية الإرادة" والتي تقابل لسوء الحظ ما يسمى خطأ بالضرورة الفلسفية، وإنما موضوعه: الحرية والمدنية، أو الاجتماعية، وطبيعة السلطة التي يمارسها المجتمع شرعيا على الأفراد، وحدودها. إنها مسألة قلّ أن عرضت، وندر أن بحثت بشكل عام، ولكنها مع ذلك ذات أثر عميق في مشاكل هذا العصر العملية لوجودها الكامن الخفي. واكثر الظن أنها سوف تبرز نفسها قريبا لتعتبر مسألة المستقبل الحيوية. إنها أبعد ما تكون عن الجيدة. ويمكن القول انها منذ أقدم العصور تقريبا قد شطرت العالم. أما في مرحلة التقدم الحالية التي دخلها اكثر أقوام النوع الإنساني حضارة، فإنها تعرض نفسها ضمن شروط جديدة وتتطلب معالجة جديدة وأكثر عمقا.

إن الصراع بين الحرية وبين السلطة أبرز ظاهرة في أقسام التواريخ التي نعرفها، وخاصة تاريخ اليونان وروما وإنكلترا. أما في العصور القديمة فقد كان هذا الصراع بين الرعية أو بعض طبقات الرعية وبين الحكومة، وكان المعنى المفهوم من الحرية الاحتماء من استبداد الحكام السياسيين. فقد كان هؤلاء الحكام (باستثناء بعض حكومات الإغريق الشعبية) يُنظر إليهم وكأنهم بالضرورة في وضع معاد للشعب الذي يحكمون. كان الحكم بيد حاكم فرد، أو بيد قبيلة حاكمة أو سلالة، وكانت سلطتهم آتية عن طريق الإرث أو الفتح، ولم تكن تمارس برضى المحكومين، ولم يكن أحد يجرؤ على منازعة تلك السيادة أو يرغب في ذلك رغم كل الاحتياطات التي كانت تتخذ لاتقاء ضغطها التعسفي. كانت النظرة إلى سلطانهم أنه ضروري وأنه عظيم الخطر في الوقت نفسه، فهو سلاح قد يحاولون استعماله ضد رعيتهم كما يحاولون استعماله ضد العدو الخارجي. كذلك كان من الضروري، حتى لا يقع الضعاف من أعضاء المجتمع فريسة ينهكها عدد لا يحصى من العقبان، أن يوجد هناك حيوان جارح يكون أقوى من الآخرين يُناط به أمر إخضاعها. ولكن، لما كان ملك العقبان ليس أقل ميلا إلى افتراس الرعية من أي نهاب سلاب آخر، فقد كانت الضرورة تقضي دائما باتخاذ خطة الدفاع ضد مخلبيه ومنقاره. لذلك كان هدف الوطنيين وضع حد للسلطة التي يجب أن يتحمل الحاكم مسؤولية ممارستها على المجتمع، وهذا التحديد هو ما عنوه بالحرية. حاولوا إرساء أسس هذا التحديد بطريقتين: الأولى هي الحصول على اعتراف ببعض الحصانات، تسمى الحريات أو الحقوق السياسية، كان انتهاكها من قبل الحاكم يعتبر إخلالا بواجبه، فإذا اقدم على انتهاكها كان في عمله ما يبرر المقاومة الخاصة أو الثورة الشاملة؛ أما الطريقة الثانية التي ظهرت بعد الأولى فكانت إقامة ضوابط دستورية بموجبها أصبحت موافقة المجتمع، أو أي هيئة يفترض انها تمثل مصالحه، شرطا لازما في بعض الإجراءات الهامة التي تريدها السلطة الحاكمة. لقد اضطرت السلطة الحاكمة في معظم البلاد الأوروبية إلى الرضوخ، نوعا ما، للطريقة الأولى. ولكن الحال لم يكن كذلك بالنسبة للطريقة الثانية: إذ أصبح الوصول إلى هذا النوع من التحديد أو إلى إكماله حين يكون جزء منه مؤمنا، اصبح ذلك في كل مكان الغرض الأساسي لمحبي الحرية. ولما اطمأن البشر إلى محاربة عدو بعدو آخر، وقنعوا بأن يُحكَموا من قبل سيد ضمن شروط تؤمن لهم نوعا من الحماية ضد استبداده، فانهم لم يعودوا يعملون ليدفعوا بأمانيهم إلى أبعد من هذه النقطة.

ثم جاء زمن رأى الناس فيه أن ليس من ضرورة طبيعية أن يكّون حكامهم سلطة مستقلة، تتعارض مصالحها مع مصالحهم. وبدا لهم أن الأفضل أن يكون أولئك الذين يستلمون شؤون الدولة وكلاء أو مندوبين عنهم يعزلونهم متى شاءوا. وظهر أن هذا هو السبيل الوحيد الذي يعطيهم الضمانة التامة في أن لا يساء استعمال سلطة الحكم في غير صالحهم. هذا الطلب الجديد لحكام ينتخبون انتخابا لمدة مؤقتة أصبح تدريجيا الغرض الرئيسي لأي حزب شعبي أينما وجد حزب من هذا النوع. وأخذ هذا الطلب، إلى حد بعيد، مكان طلب الحد من سلطة الحكام الذي كانت تسعى إليه الجهود السابقة. وفيما كان النضال لجعل السلطة الحاكمة تنبثق عن انتخاب دوري من قبل المحكومين يسير في وجهته، أخذ بعض الناس يفكرون بأن الأهمية التي علقوها على مسألة تحديد السلطة نفسها كانت أكثر من اللازم، وان المسألة نفسها يمكن أن تكون مأخذا يؤخذ ضد الحكام الذين كانت مصالحهم عادة متضاربة مع مصالح الشعب. فما هو مطلوب الآن هو أن يكون الحكام متجاوبين مع الأمة وأن تكون مصالحهم وإرادتهم مصلحة الأمة وإرادتها. لن تحتاج الأمة إلى حماية من إرادتها الذاتية، وليس هناك خوف من أن تستبد بنفسها. ليكن الحكام مسؤولين عنها بطريقة مثمرة، وليكونوا عرضة للعزل من قِبَلِها، وعندها يمكن أن تمنحهم سلطات تستطيع هي أن تفرض أين يجب أن تُستعمل. وسلطتهم عندئذ ليست شيئا آخر سوى سلطة الأمة، وقد تمركزت بطريقة صالحة للتنفيذ.

أن هذا الأسلوب في التفكير، أو بالأحرى في الشعور، كان شائعا بين الأجيال الأخيرة من أحرار أوروبا، ولا يزال شائعا فيها حتى الآن كما يظهر. ويبقى أولئك الذين يقبلون فرض أي حد على ما يمكن أن تفعله الحكومة (إلا في حالة الحكومات التي يعتقدون أنها يجب أن لا توجد) يبقون قلة لامعين بين مفكري أوروبا السياسيين. إن أسلوبا في الشعور مماثلا لما ذكرت كان من الممكن أن يكون سائدا في بلادنا نفسها في هذا الوقت لو أن الظروف التي شجعته فترة من الزمن بقيت ولم تتبدل.

بيد أن النجاح في النظريات الفلسفية والسياسية، وفي الأشخاص أيضا يكشف عن عيوب وخطيئات قد يخفيها الفشل عن عين الملاحظ. فالرأي القائل بأن الشعب لا يحتاج إلى تحديد سلطته على نفسه قد يبدو حقيقة بديهية حين تكون الحكومة الشعبية مجرد حلم، أو مجرد شيء تقرأ عنه على أنه حدث في الماضي البعيد. ولم يتضايق هذا الرأي بما حدث من انحرافات مؤقتة كانحرافات الثورة الفرنسية التي جاء أسوأ ما فيها عن عمل قلة مغتصبة، والتي لم تكن في أي حال ناجمة عن عمل ثابت لمؤسسات شعبية بل عن ثورة فجائية اضطرابية قامت ضد استبداد الملك والطبقة الأرستقراطية. ولكن قامت مع الزمن جمهورية ديمقراطية[1] احتلت حيزا واسعا من سطح الكرة الأرضية وأثبتت وجودها كواحدة من أقوى أعضاء مجموعة الأمم، وبذلك وضعت حكومة منتخبة ومسؤولة موضع الانتقادات والملاحظات التي تنتظر حقيقة واقعية كبرى. وقد تبين عندئذ ان عبارات مثل "الحكم الذاتي" و"سلطة الشعب على نفسه" لا تعبر عن حقيقة الوضع الراهن. فـ "الشعب" الذي يمارس السلطة ليس دائما نفس الشعب الذي يخضع لها، و"الحكم الذاتي" الذي يتحدث عنه ليس حكم كل فرد من قبل نفسه بل حكم كل فرد من قبل كل الآخرين. وإرادة الشعب، إضافة إلى ذلك، إنما تعني عمليا إرادة العدد الأكبر أو إرادة الجزء الأكثر نشاطا من الشعب (إرادة الأكثرية)، أو أولئك الذين ينجحون في جعل أنفسهم مقبولين على أنهم الأكثرية. فقد يجوز بنتيجة ذلك أن يرغب الشعب في اضطهاد قسم من أفراده. وهنا يصبح من الضروري أن يُتخذ ضد هذا الأمر من الاحتياطات ما يُتخذ ضد أي نوع آخر من سوء استعمال السلطة وعليه تحديد سلطة الحكومة على الأفراد لا يفقد شيئا من أهميته عندما يكون القابضون على زمام السلطة مسؤولين بانتظام أمام المجتمع، أي أمام أقوى حزب فيه. وإن وجهة النظر هذه التي استساغتها على السواء عقلية المفكرين وميول الطبقات الهامة في المجتمع الأوروبي التي تتعارض مصالحها الحقيقية أو المفروضة مع الديمقراطية، لم تلاق صعوبة في تثبيت نفسها. وأصبح التفكير السياسي عامة يشمل مسألة "استبداد الأكثرية" في عداد الشرور التي يجب على المجتمع أن يظل على حذر منها.

كان أكثر الناس ولا يزالون يخشون طغيان الأكثرية كما يخشون سائر أنواع الطغيان الأخرى، وذلك لأنه ينفّذ في الغالب عن طريق إجراءات السلطات العامة. ولكن رجال الفكر يرون أن المجتمع حين يكون هو نفسه الطاغية (أي حين يكون المجتمع بجملته ضد الأفراد) فان ذلك يعني أن أساليب طغيانه لا تنحصر بالإجراءات التي يمكن أن ينفذها عن طريق موظفيه السياسيين. إن المجتمع قادر على إصدار الأوامر وعلى تنفيذها بنفسه. فإذا أصدر أوامر خاطئة بدلا من الصحيحة، أو إن أصدر أوامر في شؤون يجب أن لا يتدخل فيها، فإنه يمارس بذلك طغيانا اجتماعيا هو أشد عتوا من كثير من ألوان الاضطهاد السياسي لأنه، وإن لم تدعمه عادة عقوبات شديدة، فان وسائل النجاة التي يتركها قليلة، وهو ينفذ إلى الصميم في كثير من نواحي الحياة، ويستعبد الروح ذاتها. لهذا كان الاحتماء من طغيان الحكام غير كاف، وكان لا بد من حماية ضد طغيان الآراء والمشاعر الشائعة، وضد ميل المجتمع لان يفرض (دون اللجوء إلى العقوبات المدنية) آراءه الخاصة وطقوسه كقواعد للسلوك، يفرضها حتى على أولئك الذين لا يوافقون عليها، ليكبل النمو والتطور، ويمنع إن أمكن تكوين أي شخصية فردية لا تكون منسجمة مع طرقه، ويجبر كل الطبائع على تكييف نفسها طبق أنموذج من صنعه هو. إن هنالك حدا للتدخل المشروع في استقلال الفرد من قبل الرأي الجماعي. وإن إيجاد ذلك الحد وصيانته من التجاوز أو الاعتداء عليه لازم لحسن سلامة شؤون الناس لزوم الاحتماء من الاستبداد السياسي.

ولكن لئن كان من غير المتوقع أن تناقش هذه القضية بصورة عامة. فإن السؤال العملي: أين يجب وضع الحد، وكيف يمكن تحقيق التوفيق المناسب بين الاستقلال الفردي وبين السيطرة الاجتماعية؟ هذا السؤال يبقى الموضوع الذي عليه يتوقف كل شيء تقريبا.

إن كل ما يجعل للوجود قيمة في نظر أي شخص مرتكز على تنفيذ الضوابط التي تضبط أفعال الآخرين. فيجب إذن فرض بعض قواعد للسلوك عن طريق القانون أولا، ثم عن طريق الرأي العام في الأشياء الكثيرة التي لا تكون قابلة للإجراءات القانونية. أما ما هي هذه القيود اللازمة، فهذا هو السؤال الرئيسي في شؤون البشر.

إننا إذا استثنينا بعض المسائل الواضحة جدا، فان السؤال السابق يبقى بين المسائل التي لم يصل السعي وراء حل لها إلا إلى قدر ضئيل من التقدم. فلم يُعطِ عصران أو بلدان حلا واحدا له. لا بل إن الحل الذي قال به عصر أو بلد كان موضع استغراب الآخر وتعجبه. ومع كل ذلك فان الناس في أي عصر أو بلد لم يعودوا يرتابون بوجود أي صعوبة فيه، وكأنه موضوع كان الناس متفقين دائما حوله. والقواعد يجري بها العرف بينهم تبدو لهم جلية في حد ذاتها، ولا تحتاج إلى تبرير. إن هذا الوهم العام ليس إلا واحدا من الأمثلة على التأثير السحري للعرف، هذا العرف الذي يؤخذ لا على انه، كما يقول المثل، طبيعة ثانية فقط، بل يؤخذ دائما وخطأ على أنه طبيعة أولى. إن أثر هذا العرف في إزالة أي شك يمكن أن يعلق في نفوس الناس بشأن قواعد الأخلاق التي يفرضها الناس بعضهم على بعض هو في ازدياد مستمر لأن الموضوع أمر لا يوجد بشأنه اتفاق عام بأنه يحتاج إلى تبرير، لا من قِبَل شخص نحو الآخرين، ولا من قِبَل شخص نحو نفسه. فقد اعتاد الناس أن يعتقدوا أن مشاعرهم حول موضوعات من هذا النوع هي أفضل من الأسباب، وانها تجعل التعليل غير ضروري، وقد شجعهم على هذا الاعتقاد جماعة يطمحون في أن يكونوا بين الفلاسفة. والمبدأ العملي الذي يرشد هؤلاء الناس إلى آرائهم في تنظيم السلوك البشري هو الشعور الموجود في رأس كل منهم بأن على الجميع أن يفعلوا كما يريدهم هو ومن على شاكلته أن يفعلوا.

لا يعترف أحد في الواقع أمام نفسه أن مقياسه في الأحكام مبني على ما يحب ويرغب، ولكن الرأي الذي يُعطى في مسألة مسلكية ولا يكون مشفوعا بالأسباب لا يعدو كونه تفضيلا شخصيا. فإذا ذُكرت الأسباب ولم تكن شيئا آخر سوى تفضيلا مماثلا شعر به آخرون، بقي الأمر مجرد رغبة أناس كثيرين بدلا من واحد. إن هذا التفضيل الشخصي الذي يؤيده بهذه الطريقة تفضيل الآخرين ليس سببا كافيا وكاملا فحسب بالنسبة للشخص العادي، بل إنه السبب الوحيد عنده الذي به يبرر عادة أيا من آرائه في الأخلاق، أو الذوق، أو اللياقة حين لا تكون هذه الآراء مكتوبة صراحة في عقيدته الدينية، لا بل إنه أيضا مرشده الرئيسي في تفسيره حتى لتلك العقيدة. وهكذا تكون آراء الناس حول ما هو ممدوح أو مذموم متأثرة بكل الأسباب المتنوعة التي تتأثر بها رغباتهم بشأن سلوك الغير، وهي أسباب متعددة بقدر تعدد الأسباب التي تقرر رغباتهم بشأن أي موضوع آخر. فالأسباب تارة عقلهم، وأخرى تحّيزهم أو خرافتهم، وكثيرا ما تكون عواطفهم المحبة للمجتمع أو الكارهة له، أو حسدهم أو غيرتهم، أو غطرستهم أو ازدراؤهم. وأكثر الأسباب شيوعا هي محبتهم لأنفسهم أو خوفهم عليها: أو مصلحتهم الشخصية المشروعة أو غير المشروعة. وحيثما وجدت طبقة عالية فان القسم الأكبر من أخلاق البلاد ينبثق عن مصالح تلك الطبقة وعن شعورها بالتفوق الطبقي. فالأخلاق بين الإسبارطيين وبين الأرقاء، بين المزارعين وبين الزنوج، بين الأمراء وبين الرعية، بين النبلاء وبين مستأجري أراضيهم، بين الرجال وبين النساء؛ هذه الأخلاق كانت في معظمها وليدة تلك المصالح والمشاعر الطبقية. والعواطف التي تتولد بهذه الطريقة يرتد مفعولها على المشاعر الأخلاقية لأعضاء الطبقة العليا في علاقاتهم فيما بينهم، أما حين توجد طبقة كانت سابقا عالية وفقدت تفوقها، أو كان تفوقها غير محبوب، فان العواطف الأخلاقية السائدة عندئذ غالبا ما تحمل معها طابع الكراهية الملحة للتفوق. وهناك مبدأ خطير آخر من المبادئ التي يفرضها القانون أو الرأي العام والتي تحدد قواعد السلوك في الفعل أو في رحابة الصدر، هذا المبدأ هو خنوع البشر تجاه ما يحبه أو ما يكرهه أسيادهم المؤقتون أو أصنامهم. إن هذا الخنوع، الذي هو في الأصل أناني، ليس رياء كله: إنه يثير عواطف أصيلة من المقت والكراهية، وقد دفع البشر إلى إحراق السحرة والمارقين. لقد كان لمصالح المجتمع حتما، العامة منها والواضحة، نصيب، ونصيب كبير، بين تلك العوامل الكثيرة التي عملت في توجيه العواطف الأخلاقية، ولكن ذلك لم يكن بدافع الفكر والعقل، أو بسبب قيمة العواطف نفسها، بقدر ما كان نتيجة التعاطف أو الكراهية الذَين انبثقا عن تلك العواطف نفسها. إن ذلك التعاطف وتلك الكراهية لم تكن لهما أي صلة بمصالح المجتمع، ولكنهما أثبتتا وجودهما كقوتين كبيرتين في إيجاد الفضائل.

هكذا فإن ما يحبه المجتمع وما يكرهه، أو ما يحبه وما يكرهه قسم كبير منه، هو العامل الرئيسي الذي حدد عمليا القواعد التي يجب مراعاتها من قبل الجميع تحت طائلة عقوبة القانون أو الرأي العام. وحين جاء أناس سبقوا المجتمع في التفكير والشعور فانهم بشكل عام تركوا الوضع الراهن دون ان يحملوا عليه من حيث المبدأ، رغما عن أنهم قد يكونوا قد تصادموا معه في بعض التفاصيل. فقد شغلوا أنفسهم ببحث ما يجب على المجتمع أن يحب أو يكره بدلا من البحث فيما إذا كان ما يحبه المجتمع أو يكرهه يجب أن يفرض كقانون على الأفراد. لقد آثروا أن يحاولوا تغيير شعور الناس تجاه النقاط التي كانوا هم أنفسهم يجحدونها بدلا من أن يتضافروا في الدفاع عن الحرية مع عموم الجاحدين. والقضية الوحيدة التي ثابروا فيها على جعل النقاش على مستوى عال وبناء على مبادئ هي قضية العقيدة الدينية: هذه القضية التي ناقشها أشخاص هنا وهناك ليست وسيلة تهذيب وتثقيف فحسب، بل هي أيضا مثال واضح على أن ما يَمّس بالحس الأخلاقي ليس معصوما عن الخطأ، لان عنف المشادات الدينية عند الجلّ المتعصب من أوضح الأمثلة على الحس الأخلاقي. إن أولئك الذين كانوا أول من حطم نِيْرَ ما كان يسمى بالكنيسة العالمية لم يكونوا يريدون السماح بوجود خلاف بين الآراء الدينية، شأنهم في ذلك شأن الكنيسة نفسها. ولكن لما برد وطيس المعركة دون أن يفوز أي فريق بانتصار حاسم، واضطرت كل كنيسة أو فرقة دينية إلى تحديد أمانيها إلى حد الاحتفاظ بما نالته من نفوذ، وجدت الأقليات، التي لم يكن لها أمل في أن تصبح أكثرية، نفسها مضطرة إلى أن تطلب ممن لم تكسبهم إلى جانبها أن يسمحوا لها بان تختلف عنهم. وفي هذا الميدان وحده تقريبا أمكن لحقوق الفرد ضد المجتمع أن تثبتت على أسس عامة من المبادئ وظهرت معارضة مكشوفة لادعاء المجتمع بحقه في ممارسة سلطة ضد المنشقين. إن الكّتاب الكبار الذين يدين لهم العالم بالفضل في ما أحرزه من حرية دينية قد أكدوا أن حرية الضمير حق لا يُقهر واستنكروا بشكل قاطع أن يكون الشخص مسؤولا أمام الآخرين عن عقيدته الدينية. إلا ان عدَم التسامح من طبيعة البشر في كل ما يهمهم حقيقةٌ، ولم تتحقق الحرية الدينية بصورة عملية في أي مكان إلا حيث دعمتها اللامبالاة الدينية التي تكره أن تُعكّر صفوها المنازعات اللاهوتية. ان عقل جميع المتدينين، حتى في اكثر البلاد تسامحا، يقر واجب التسامح ولكن مع تحفظات ضمنية. فقد يقبل شخص الاختلاف في شؤون حكم الكنيسة، ولكن لا في تعاليمها المقررة، وقد يتقبل آخر كل شخص عدا البابوي أو الموحِّد، وقد يتقبل ثالث كل من يؤمن بدين مُنزَل، وقد يوسع بعضهم حدود التسامح ولكنهم يقفون عند تحد الإيمان بالله والحياة الأخرى. اما حيث لا تزال عاطفة الأكثرية أصيلة وشديدة فإننا نجد أنها لم تخفف شيئا يذكر من غلوها في وجوب إطاعتها.

إن وطأة الرأي العام في إنكلترا أشد مما هي في اكثر بلاد أوروبا، على الرغم من أن وطأة القانون قد تكون أخف، وما ذلك إلا بسبب الظروف الخاصة لتاريخ إنكلترا السياسي. فهناك قلق بالغ من جراء التدخل المباشر في سلوك الفرد من قبل السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية، ولا يأتي ذلك عن مجرد الغيرة على استقلال الفرد بقدر ما يأتي عن العادة المستحكمة في النظر إلى الحكومة على انها تمثل مصلحة أخرى معارضة لمصلحة الشعب. فالأكثرية لم تتعلم بعد أن تشعر بأن سلطة الحكومة سلطتها، وآراءها آراؤها. ومتى تعلمت الأكثرية ذلك، فالأرجح أن تتعرض الحرية لغزو الحكومة بقدر ما هي معرضة الآن لغزو الرأي العام. ولكن لا يزال هناك قدر محترم من الشعور على استعداد للقيام ضد أية محاولة من قبل القانون للسيطرة على الأفراد في شؤون لم يسبق لهم أن تعودوا على سيطرة القانون فيها. وذلك بغض النظر عما إذا كان الأمر يدخل في نطاق سيطرة القانون المشروعة أو لا يدخل. إن هذا الشعور السليم بمجمله قد يكون أحيانا في غير محله. وليس هناك في الواقع أي مبدأ معترف به لقياس ملائمة أو عدم ملائمة التدخل الحكومي، وإنما يقرر الناس ذلك وفقا لأهوائهم الشخصية. فمنهم من يهيب بالحكومة إلى التدخل والعمل كلما رأى خيرا يجب فعله أو شرا يجب معالجته وتلافيه، بينما يفضل غيرهم أن يتحملوا أي مقدار كان من الشر الاجتماعي على أن يضيفوا إلى مصالح الناس التي تُخضع للسيطرة الحكومية مصالح أخرى. والناس يأخذون هذا الجانب أو ذاك في أي قضية وفق التوجيه العام لعواطفهم، أو وفقا لمقدار اهتمامهم بالأمر الذي يقترح أن تقوم به الحكومة، أو وفقا لاعتقادهم بأن الحكومة، سوف تؤديه أو لن تؤديه بالطريقة التي يفضلونها، ولكن قَلّ أن يكون أخذهم هذا الجانب أو ذاك بناء على رأي يتمسكون به حول الأمور التي يكون من المناسب أن تقوم بها الحكومة. وبناء على عدم وجود أي مبدأ أو قاعدة، يلوح لي ان كلا من الجانبين يخطئ الآخر، وأن تدخل الحكومة يتعادل فيه عدد المرات التي يساء فيها ابتغاؤه وعدد المرات التي يساء فيها استنكاره.

إن غرض هذا البحث هو تأكيد مبدأ بسيط جدا جدير بأن ينظم معاملات المجتمع مع الفرد من حيث الإكراه والسيطرة، أكانت الأساليب المستعملة قوة مادية على شكل عقوبات قانونية أم كانت الضغط المعنوي للرأي العام. إن ذلك المبدأ هو أن الغاية الوحيدة التي تجيز للبشر، أفرادا كانوا أم جماعة، أن يتدخلوا في حرية أفعال أي واحد منهم إنما هي حماية الذات. أي إن الغرض الوحيد الذي من أجله يمكن ممارسة السلطة بحق في أي مجتمع متمدن على عضو منه رغم إرادته إنما هو دفع الأذى عن الغير. فلا يكفي أن يكون الهدف الخير الخاص للعضو، ماديا كان هذا الخير أم معنويا. ولا يجوز عدلا إرغامه على القيام بأمر أو على الامتناع عنه لأن ذلك خير له، أو لأن ذلك يجعله أسعد حالا، أو لأن الآخرين يرون أن من الحكمة والصواب فعل ذلك، إن هذه الأسباب كلها وجيهة، تنفع في التباحث معه، أو المناقشة معه، أو في إقناعه، أو في رجائه، ولكنها لا تبرر إرغامه أو إلحاق الأذى به إن فعل عكس ما يطلب منه. ولا يبرر ذلك إلا الحساب بأن السلوك الذي يقصد إبعاده عنه سوف ينجم عنه ضرر يصيب الغير: فالجزء الوحيد من سلوك أي فرد، الذي يكون مسؤولا عنه تجاه المجتمع، هو ذلك الذي يمس الغير. أما الجزء الذي يمس الشخص وحده فان استقلاله فيه مطلق وحق. فالفرد سيد على نفسه في عقله وفي جسمه.

قد يكون من الضروري أن نقول هنا إن هذا المذهب ينطبق فقط على أفراد النوع الإنساني الذين وصلوا إلى مرحلة النضوج في ملكاتهم. فنحن لا نتكلم في الواقع عن الأطفال أو الأحداث الذين هم دون السن التي يحددها القانون للرجولة أو لنضج النساء. أما الذين لا يزالون بحاجة إلى عناية الغير بهم، فتجب حمايتهم من أفعالهم كما تجب حمايتهم من الأذى الخارجي. كذلك يمكن للسبب نفسه أن نخرج من دائرة اعتباراتنا المجتمعات المتخلفة التي يمكن اعتبار الأقوام التي تؤلفها أقواما قاصرة. فالصعوبات المبكرة التي تعترض سبيل التقدم الذاتي من الخطورة بحيث لا يبقى هناك أي مجال للمفاضلة بين وسائل التغلب عليها. والحاكم المشبَّع بروح الإصلاح يجوز له أن يستعمل أي وسيلة توصله إلى الهدف الذي لا يبلغه بأي من الوسائل الأخرى. إن الاستبداد أسلوب شرعي في حكم البرابرة شريطة أن تكون الغاية تحسين حالهم، وتحقيق تلك الغاية فعلا يبرر تلك الواسطة. والحرية كمبدأ لا مجال لتطبيقها في أي من الحالات التي توجد قبل ذلك الوقت الذي يصبح فيه البشر قادرين على التحسن عن طريق المباحثات الحرة بين أطراف تحققت المساواة بينهم. حتى ذلك الحين لا يكون أمامهم إلا الطاعة لعاهل أو لملك جبار عادل إن أسعفهم حظهم بوجوده. ولكن ما ان يكتسب البشر القدرة على الانصياع إلى الاقتناع أو الإقناع في تحسين أحوالهم (وهذه مرحلة وصلت إليها منذ زمن بعيد كل الأمم التي يهمنا أمرها هنا) حتى يصبح الإكراه في شكله المباشر أو في شكل إيذاء المخالف وعقابه أمرا غير مقبول إذا قُصد استعماله كوسيلة لخيرهم، حتى وإن بقي مسموحا به في حالة ضمان أمن الغير.

من المناسب أن أذكر هنا أني أتنازل عن أي فائدة تدعم حجتي يمكن ان تأتيني من فكرة الحق المجرد كشيء مستقل عن المنفعة. فانا اعتبر المنفعة الملاذ النهائي في كل المسائل الأخلاقية: ولكنها يجب أن تكون المنفعة في أوسع معانيها، القائمة على مصالح الإنسان الدائمة من حيث هو مخلوق تقدمي. إن هذه المصالح كما أراها تسمح بإخضاع الفعل العفوي الفردي للقيد الخارجي في حالة واحدة فقط هي حين تكون أفعال الفرد ماسة بمصالح الآخرين.

فإذا أتى امرؤ فعلا يؤذي الغير فهناك وضع واضح يدفع إلى معاقبته عن طريق القانون أو بواسطة الاستنكار العام حين يتعذر تطبيق العقوبات القانونية بأمان. وهناك أيضا أفعال إيجابية أخرى تنفع الغير يحق فيها إرغامه على تأديتها، كأن يدلي بشهادة أمام المحكمة، أو أن يتحمل قسطه العادل من الدفاع المشترك، أو أي عمل آخر ضروري لمصلحة المجتمع الذي ينعم هو بحمايته، أو أن يقوم بأفعال فيها برّ بأفراد آخرين كإنقاذ حياة مخلوق إنساني أو التدخل لدفع الأذى عن قاصر عن الدفاع عن نفسه، إلى غير ذلك من الأمور التي يكون من واجب الإنسان ان يقوم بها، والتي يُسأل عنها بحق أمام المجتمع ان هو أهملها. ان الشخص قد يسيء إلى الغير لا بما يفعل فحسب ولكن بامتناعه أحيانا عن الفعل أيضا، وهو في كلا الحالين مسؤول أمام الغير عن الضرر. صحيح أن الحالة الثانية (أي عدم الفعل) تقتضي الحذر في ممارسة الإرغام أكثر مما تقتضيه الحالة الأولى: فكون الإنسان مسؤولا عن شر فعله إنما هو القاعدة، واما جعله مسؤولا عن عدم دفع الشر فهو، نسبيا، الاستثناء. ومع ذلك فهناك حالات كثيرة فيها من الوضوح والخطر ما يبرر هذا الاستثناء. فالفرد في كل ما يمس علاقاته الخارجية مسؤول شرعا أمام أولئك الذين مُسَّت مصالحهم أو إذا اقتضى الحال، أمام المجتمع الذي يحميهم. وكثيرا ما توجد أسباب معقولة لعدم تحميله المسؤولية. إلا ان هذه الأسباب يجب ان تنشأ عن مقتضيات القضية الخاصة، كأن تكون القضية من النوع الذي يحسن الفرد التصرف فيه إذا ترك على اجتهاده اكثر مما يحسن التصرف ان اتبع أي طريق من الطرائق التي باستطاعة المجتمع ان يفرضها عليه، أو كأن تكون محاولة السيطرة عليه سببا يؤدي إلى أذى أكبر بكثير من الأذى الذي تقصد هذه السيطرة منع حدوثه. فإذا حالت أسباب من هذا النوع دون تطبيق المسؤولية، فان على ضمير الفاعل نفسه أن يتدخل ويحتل مقعد القضاة الخالي ويحمي مصالح الغير التي تفتقر إلى حماية خارجية، وهنا يكون عليه أن يحاكم نفسه بصرامة طالما أن القضية لا تسمح بأن يُحاكَم من قِبَل بني جنسه.

ولكن هناك دائرة للأفعال إن كان للمجتمع المتميز بجملته عن الفرد مصلحة فيها فإنما هي مصلحة غير مباشرة، وتشمل هذه الدائرة ذلك الجزء من حياة الفرد وسلوكه الذي لا يمس إلا شخصه وحده، أو إن مسّ غيره من الناس فيكون ذلك بمحض إرادتهم، وموافقتهم التي لا خداع فيها، واشتراكهم. وأنا إذ أقول يمس شخصه فقط، فإنما أعني ما يمسه مباشرة، وقبل كل شيء آخر، لان كل ما يمسه يمكن بعد ذلك أن يمس الآخرين عن طريقه، والاعتراض الذي يمكن أن ينشأ عن هذا التداخل سوف يكون موضع اعتبار في المكان اللازم من هذا البحث. هذا هو إذن نطاق الحرية البشرية الخاص بها. انه يشمل أولا مملكة الوعي الداخلية التي تتطلب حرية الضمير بأوسع معناها وحرية الفكر والشعور، والحرية المطلقة للرأي والعاطفة في كل المواضيع العملية أو النظرية، العلمية أو الأخلاقية أو الدينية. ان حرية الإعراب عن الآراء ونشرها تبدو كأنها تقع تحت مبدأ آخر لأنها تخص ذلك الجزء من سلوك الفرد الذي يمس الغير. ولكن، لما كانت أهميتها معادِلة لأهمية حرية الفكر نفسها وكانت في قسمها الأكبر مستندة إلى الأسباب نفسها، فإنها لا تقبل الانفصال عنها.

ثانيا، يتطلب المبدأ حرية التذوق والمشرب، وحرية تصميم خطة لحياتنا توافق طبعنا، وحرية العمل وفق ما نحب ونرغب متحملين تبعة ذلك دون مضايقة تصيبنا من أبناء جنسنا، حتى ولو اعتبروا سلوكنا أحمقاً أو معوجّا أو خاطئا، طالما ان ما نفعله لا يضر بهم. ثالثا، من هذه الحرية التي لكل فرد، تنشأ ضمن الشروط نفسها، حرية التكتل بين الأفراد، وحرية الاتحاد والتضامن في سبيل أي هدف لا ينطوي على إيذاء الغير. والمفروض هنا أن الأشخاص المتكتلين هم من الناس البالغين وليسوا مرغمين أو مخدوعين.

كل مجتمع لا تُحترم فيه هذه الحريات عموما لا يكون حرا مهما كان شكل حكومته، ولا يكون أي مجتمع حرا حرية تامة ان لم تكن فيه هذه الحريات مطلقة وكاملة الشروط. والحرية الوحيدة، الحَرِيّة بهذا الاسم، هي حريتنا في أن ننشد خيرنا بطريقتنا الخاصة ما دمنا لا نحاول حرمان الغير من خيراتهم ولا نعرقل جهودهم في الحصول عليها. فكل واحد منا هو الحارس الأمين على صحته أكانت الصحة الجسدية أم العقلية والروحية. والسماح لكل منا بأن يعيش وفق ما يرى فيه خيره أجدى على البشرية، مهما تحملت منه، من إرغام الفرد على أن يعيش وفق ما يبدو صالحا في نظر الآخرين.

قد يظهر هذا المذهب غير جديد وقد يبدو لبعضهم كحقيقة أولية بديهية، ولكن بالرغم من ذلك ليس هناك مذهب آخر يتعارض مع الاتجاه العام للرأي العام والعرف الحاليين كما يتعارض هذا المذهب. فلقد بذل المجتمع جهودا جبارة في محاولة إرغام الناس على الامتثال لآرائه في الصلاح الشخصي والاجتماعي. وكانت الدول القديمة تظن، وأيّدها الفلاسفة القدماء في ذلك، ان من حقها ممارسة تنظيم كل ناحية من نواحي السلوك الخاص بواسطة السلطة العامة بدعوى ان الدولة شديدة الاهتمام بالتربية الجسدية والعقلية لكل واحد من مواطنيها، وهذه طريقة في التفكير يمكن قبولها بالنسبة لجمهوريات صغيرة محاطة بأعداء أقوياء، وهي في خطر دائم من هجوم خارجي أو اضطراب داخلي، وقد تكون فيها الفترة القصيرة من التراخي وإعطاء الأفراد أمر قيادة أنفسهم، السبب في ضربة قاضية تصيبها بحيث لا تستطيع عندئذ انتظار الخيرات الدائمة التي تنجم عن الحرية. أما في العالم الحديث فان اتساع المجتمعات السياسية، وفصل السلطات الروحية عن السلطات الزمنية (الذي وضع إدارة ضمائر الناس في أيد غير الأيدي التي تهيمن على شؤونهم الدنيوية) قد حالا دون تدخل القانون كثيرا في دقائق الحياة الخاصة. ولكن آلات الضغط المعنوي ضد الانحراف عن الرأي السائد قد استعملت بشدة أعظم في المسائل التي تمس الفرد مما في المسائل الاجتماعية. حتى الدين، وهو أقوى العناصر التي تدخلت في تكوين الشعور الأخلاقي، كان دائما خاضعا لمطامع سلطة كهنوتية تحاول السيطرة على مختلف نواحي السلوك البشري أو لروح التزَمُت البيوريتاني[2]. ومن المصلحين العصريين الذين وضعوا أنفسهم موضع المعارضة الشديدة لديانات الماضي مَن لم يكن اقل حماسا من الكنائس أو الفرق الدينية في تأكيد حق السيطرة الروحية، لاسيما الفيلسوف أوغست كونت الذي نراه في نظامه الاجتماعي الذي نشره في كتابه "نظام في السياسة الوضعية" يهدف إلى إقامة استبداد اجتماعي يتسلط على الفرد (ولو بالوسائل المعنوية اكثر مما بالوسائل القانونية) وهو استبداد يفوق ما فكر به اشد الفلاسفة القدماء صلفا في تفكيرهم السياسي.

وبالإضافة إلى المذاهب الخاصة لبعض المفكرين، فان في العالم على سعته ميلا متزايدا إلى توسيع سلطات المجتمع على الفرد، بدون ضرورة مبررة، بقوة الرأي العام وبقوة التشريع أيضا. ولما كانت التغيرات التي تحدث في العالم تتجه جميعها إلى تعزيز سلطة المجتمع وتضييق سلطة الفرد، فان هذا التعدي من قبل المجتمع ليس من الشرور التي تميل إلى الزوال من تلقاء نفسها، بل انه على العكس من ذلك سوف ينمو ويتفاقم. ان استعداد البشر، حكاما ومواطنين، لفرض آرائهم وميولهم على الغير كقاعدة للسلوك استعداد قوي وهو مدعوم بتأييد قوة تأتيه من أفضل المشاعر السامية ومن أحط المشاعر التي تمر بها الطبيعة الإنسانية، حتى ليكاد يتعذر عليه ان يقف عند أي حد أقل من إرادة السلطة. ولما كانت السلطة في تزايد لا في تناقص (إلا إذا ارتفع حاجز قوي من القناعة الأخلاقية في وجه إساءة الاستعمال)، فان علينا أن نتوقع ضمن ظروف العالم الحالية، ازديادا في قوة هذا الاستعداد.

قد يكون من الملائم قبل الدخول في صُلب الرسالة ان نحصر البحث أول الأمر في فرع واحد منه، وهو ذلك الفرع الذي يعترف الرأي السائد حاليا، ولو اعترافا جزئيا، بان المبدأ الذي أوردته سابقا ينطبق عليه. ان هذا الفرع هو حرية الفكر، ويستحيل ان نفصل عنه حرية القول والكتابة. وبالرغم من ان هذه الحريات تشكل، إلى حد كبير، جزءا من الأخلاق السياسية لكل البلاد التي تدعي التسامح الديني والمؤسسات الحرة، فان الأسس الفلسفية والعملية التي تقوم عليها ليست مألوفة من قبل الفكر العام، وهي لم تحط من الكثيرين، وحتى من قادة الفكر، بالاعتبار والتقدير اللائقين كما كان متوقعا. فإذا أحسن فهم هذه الأسس اصبح تطبيقها ممكنا في اكثر من قسم واحد من الموضوع، وبذا يكون البحث الوافي لهذا القسم من المسألة خير مقدمة لما تبقى من الموضوع. وإني لأرجو من الذين لن يجدوا شيئا جديدا فيما سوف أقوله بعد قليل أن يعذروني إن أنا خضت في هذا الموضوع مرة جديدة بعد أن كان موضوعا للبحث مرات عديدة خلال ثلاثة قرون مضت.


- يتبع -
.

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:07 PM

- تابع : جون ستيورات مِلْ

الفصل الرابع: في حدود سلطة المجتمع على الفرد :

لنسأل الآن: ما هو الحد الشرعي لسيادة الفرد على نفسه؟ أين تبدأ سلسلة المجتمع؟ ماذا يجب أن يعود للفردية من الحياة البشرية وماذا يجب أن يعود للمجتمع؟

ان كلا منهما ينال حصته العادلة إذا هو احتفظ بما يخصه أو يعنيه. فيكون للفردية جزء الحياة الذي يهم الفرد، وللمجتمع الجزء الذي يهم المجتمع.

ان المجتمع غير مؤسس على عقد ولا غاية ترجى من اختراع عقد لاستخلاص الواجبات الاجتماعية منه. ولكن من ينال حماية المجتمع يكون مدينا له مقابل ذلك، والعيش في المجتمع يقتضي حتما أن يتقيد كل فرد بخطة من السلوك تجاه الآخرين. يتألف هذا السلوك، أولا، من عدم إضرار بتلك المصالح التي يجب أن تُعتبر حقوقا إما بموجب نص قانوني صريح أو بموجب تفاهم ضمني. ويتألف هذا السلوك، ثانيا، من تحمل كل فرد نصيبه (الذي يُقَرر وفق مبدأ منصف) مما تقتضيه صيانة المجتمع أو أعضاءه من أتعاب وتضحيات. ويحق للمجتمع مهما كلف الأمر ان يفرض تحقيق هذين الشرطين على من يحاول الامتناع عن ذلك. وليس هذا كل ما يجوز أن يفعله المجتمع. فقد تكون أفعال الفرد ضارة بالغير أو قليلة الاهتمام بخيرهم دون أن تكون مخالفة لحقوقهم المقررة، ويجوز عندئذ معاقبة المذنب عن طريق الرأي العام لا عن طريق القانون. وحينما ينطوي أي جزء من سلوك الفرد على ضرر بمصالح الغير تصبح للمجتمع سلطة عليه، ويطرح على بساط البحث عندئذ السؤال القائل: هل يفيد الصالح العام من هذا التدخل أم لا؟ ولكن لا موضوع لهذا السؤال إذا كان سلوك الفرد لا يمس مصالح أحد سواه، أو ليس من الضروري ان يمسها إلا إذا أرادوا هم ذلك (بشرط ان يكون المعنيون بالغير بالغين وذوي قدر كاف من الفهم). وعلى كل حال يجب أن يكون للفرد مطلق الحرية القانونية والاجتماعية في أن يفعل ويتحمل تبعة فعله.

من الخطأ الفادح في فهم هذه النظرية ان نزعم أنها نظرية لا مبالاة أنانية تدعي أن لا شأن للناس بسلوك بعضهم مع بعض وان ليس من الواجب ان يهتموا بمصالح الغير وخيره إلا إذا كانت تمس مصالحهم. فالحاجة تدعو لا إلى الإنقاص بل إلى الزيادة في كل جهد غير مغرض يُصرف في رعاية خير الغير، ولكن الحب غير المغرض للخير يستطيع أن يجد وسائل أخرى لإقناع الناس بخيرهم غير السياط بمعناها الحرفي والمجازي. إني آخر من يحط من قيمة الفضائل التي تعنى بالذات، وان جاءت بعد شيء فإنما تأتي عندي في الدرجة الثانية من الأهمية بعد الفضائل الاجتماعية، ومن واجب التربية أن ترعاهما معا. ان التربية تعمل عن طريق الإقناع كما تعمل عن طريق الإرغام فإذا انقضت مرحلة التربية يكون من الواجب استعمال الطريقة الأولى، أي الإقناع، في ترسيخ الفضائل التي تقصد الذات وتعنيها. والناس مدين بعضهم لبعضهم الآخر بالمساعدة على التمييز بين الأحسن والأسوأ، والتشجيع على اختيار الأول وتجنب الثاني، ويجب ان يحفز بعضهم بعضهم الآخر على ممارسة ملكاتهم العليا وتوجيه مشاعرهم وأهدافهم نحو أغراض حكيمة سامية لا حمق فيها ولا انحطاط. ولكن لا يحق لفرد أو جماعة أن يقول لشخص آخر بالغ انه يجب عليه أن لا يفعل بحياته كما يشاء. فالشخص هو صاحب الشأن الأول فيما يختص بخيره الذاتي، ولا يمتد بشأن الآخرين فيه إلا في حالات العلاقة الشخصية القوية.وما شأن المجتمع به كفرد (فيما عدا سلوكه نحو الغير) إلا شأن جزئي غير مباشر. وحتى الشخص العادي نفسه فانه يملك من الوسائل لمعرفة مشاعره وظروفه الخاصة ما يفوق ما يملكه أي شخص آخر. ان تدخُّل المجتمع للتحكم في حكمه وأغراضه الخاصة به لا بد أن يقوم على افتراضات عامة قد تكون خاطئة، وإن كانت صحيحة فقد يسيء تطبيقها على الحالات الفردية أناس يجهلون تلك الحالات كما يجهلها أولئك الذين ينظرون إليها من الخارج فقط. في هذا الدائرة من شؤون البشر يقع مجال عمل الفردية. ففي سلوك البشر نحو بعضهم بعضا لا بد من مراعاة قواعد عامة ليعرف الناس ما يجب أن يتوقعوا. أما فيما يختص بالفرد، فان له الحق في ممارسة انطلاقه الفردي بحرية. يجوز أن يقدم إليه الآخرون اعتبارات تساعده في حكمه أو نصائح تقوي إرادته حتى ولو كان الأمر تطفلا منهم، إلا أنه هو الحاكم الأخير. وان الشر الناجم عن السماح للغير بإرغامه على ما يرون فيه مصلحته يرجح على كفة كل ما قد يرتكبه من أخطاء رغم النصح والتحذير إذا هو بقي بدون هذا الإرغام.

أنا لا أقصد القول ان نظرة الغير للشخص يجب أن لا تتأثر قط بما عنده من حسنات أو نقائص في صفاته التي تخص ذاته، فذلك غير ممكن ولا مرغوب فيه. فهو إن شعر في أي من الصفات الآيلة إلى خيره، فانه إلى هذا الحد حري بالإعجاب، إذ يكون بهذا القدر أقرب إلى كمال الطبيعة البشرية لا مثالي. وان كان شديد الافتقار إلى هذه الصفات، تلا ذلك ظهور الشعور المناقض للإعجاب. فهناك درجة من الحماقة، أو درجة مما قد يسمى الحطة أو الخسة في الذوق، قد لا تبرر إيذاء مقترفها، ولكنها تجعله جديرا بالاشمئزاز، بل وجديرا بالاحتقار في الحالات المتطرفة. ولو أنه لا يسيء إلى أحد، فان تصرفه قد يضطرنا إلى الحكم عليه والشعور نحوه بانه أحمق أو من درجة أدنى من ذلك. ولما كان هو يفضل ان يتجنب مثل هذا الحكم والشعور، فان في تحذيره مسبقا من العواقب الوخيمة التي يعرض نفسه لها خدمة له. ليس في الإمكان تأدية هذه الخدمة بحرية أكثر مما تسمح به الآداب العامة المرعية في الوقت الحاضر، فيقول الواحد للآخر انه يظن أنه مخطئ دون ان يُعتبر متطفلا أو غير متأدب. ولدينا الحق في ان نتصرف بطرق شتى بحسب رأينا السيء في أي شخص، لا باضطهاد فرديته بل بممارسة فرديتنا. فنحن غير مضطرين مثلا إلى معاشرته، ولنا الحق في تجنبها (ولكن بدون التفاخر بإظهارها) إذ لنا الحق في اختيار عِشرة من نرضى بهم. ومن حقنا، لا بل ومن واجبنا، أن نُحذر الآخرين منه، ان رأينا ان قدوته ذات تأثير ضار بمن يعاشرونه. ولنا أن نؤثر الغير عليه في المناصب، إلا في تلك التي ترمي إلى تحسينه. ولهذه الأسباب قد ينال المرء عقوبات شديدة على أيدي الغير عن أخطاء لا تمس مباشرة إلا ذاته. ولكنه إنما ينالها كنتائج طبيعية عفوية للأخطاء بالذات، لا لأنها فرضت عليه كقصاص. فان من يبدي تهورا أو عنادا أو اغترارا بذاته، من لا يستطيع العيش ضمن إمكانيات معتدلة، أو لا يمسك نفسه عن الإباحية المؤذية، أو يندفع في الشهوات الحيوانية على حساب أصحاب الشعور والتعقل؛ يجب أن يتوقع أن ينحط في نظرة الغير إليه وشعورهم نحوه، ولا حق له في التذمر من ذلك، إلا إذا استحق عطفهم ورضاهم بامتياز خاص في علاقاته الاجتماعية، فحظي بنعمة في أعينهم لا تتأثر بنقائصه تجاه نفسه.

أريد أن أثبت أن المتاعب التي لا يمكن فصلها عن حكم الآخرين على الفرد بسوء تصرفه إنما هي المتاعب الوحيدة التي يجوز أن يتعرض لها بسبب ذلك الجزء من سلوكه وخلقه الذي يتعلق بمصلحته الخاصة وحدها ولا يمس مصالح الآخرين في علاقتهم معه. أما الأفعال الضارة بالغير فإنها تقتضي معالجة أخرى تختلف تماما. فالتعدي على حقوقهم، أو تكبيدهم خسارة لا تبررها حقوقه، أو الكذب أو المواربة في معاملتهم، أو الاستئثار غير المشروع بالفوائد دونهم، أو حتى التخلي الأناني عن حماستهم من الأذى، كل هذا يستحق الاستنكار الأخلاقي، بل والجزاء الأخلاقي والقصاص في الحالات الخطيرة. وليست هذه الأفعال وحدها هي التي تعتبر رذيلة أيضا وتستوجب الاستهجان الذي قد يبلغ حد المقت والكراهية. ان القسوة، و الحقد أو الضغينة، والحسد الذي هو في الواقع أفظع الأهواء الضارة بالمجتمع، والرياء أو عدم الإخلاص، والنزق أو سرعة الغضب لأتفه الأسباب، والحنق دون استفزاز متكافئ، وحب التسلط على الغير، والرغبة في الاستئثار بأكثر من النصيب الشخصي من الفوائد، والكبرياء التي تتلذذ بامتهان الغير، والأنانية التي تعتبر الذات ومالها أهم من أي شيء آخر. ان هذه الصفات جميعا رذائل وهي تشكل طبعا أخلاقيا شريرا، وهي ليست كالأخطاء الخاصة بالسلوك الشخصي المذكورة آنفا والتي لا تكون في حقيقتها رذائل ولا شرورا مهما تمادى الإنسان فيها. قد تكون هذه برهانا على أي مقدار من الحماقة أو قلة الكرامة الذاتية أو احترام الذات، ولكنها لا تستوجب اكثر من الاستنكار الأدبي إذا انطوت على إخلال بالواجب نحو الغير، الذي من أجله يجب أن يعتني الفرد بنفسه. ان ما يسمى بالواجب نحو أنفسنا لا يعتبر أمرا واجبا من الوجهة الاجتماعية، إلا حين تجعله الظروف في نفس الوقت واجبا نحو الغير. وإذا كان الواجب نحو الذات يعني شيئا أكثر من الفطنة أو التبصر بالعواقب فإنما يعني احترام الذات أو التطور الذاتي، وما من أحد مسؤول عن أي من هذه تجاه الغير، لأنه ليس من مصلحة البشر ان يكون مسؤولا عن أي منها.

ان الفرق بين فقدان الاعتبار الذي يتعرض له المرء بتقصيره في الفطنة أو الكرامة الشخصية، وبين الاستنكار الذي يناله جزاء على افتئاته على حقوق الغير، ليس مجرد فرق اسمي. فهناك فرق كبير في مشاعرنا وسلوكنا تجاهه بين ما إذا كان امتعاضنا منه في أمور نظن أن من حقنا السيطرة عليه فيها، وبين ما إذا كان في أمور نعرف ان لا حق لنا بالتدخل فيها. فان كدّرنا، كان لنا الحق في الإعراب عن امتعاضنا والابتعاد عنه، ولكن ليس لنا ان ننغص عليه حياته. لنفكر في أنه يتحمل أو سيتحمل مجمل جزاء أخطائه، وان أفسد حياته بسوء إرادته، فليس في ذلك سبب يدعونا إلى زيادة إفسادها، وحري بنا بدلا من طلب قصاصه ان نحاول التخفيف من قصاصه بان نبين له كيف يمكنه ان يتجنب أو يعالج الشرور التي يجلبها عليه سلوكه. قد يكون موضع شفقتنا أو امتعاضنا، ولكن يجب ان لا يكون موضع سخطنا أو نقمتنا وان لا نعامله كعدو للمجتمع. وأقصى عمل نستطيع أن نبرره أمام أنفسنا هو ان نتركه وشأنه إذا نحن لم نشأ أن نتدخل بحسن نية بإبداء اهتمامنا به و غيرتنا عليه. إلا ان وجه المسألة يختلف إذا هو خالف الأنظمة اللازمة لحماية بني جنسه منفردين ومجتمعين. فعواقب أفعاله الوخيمة لا تقع عليه عندئذ بل على الغير، وعلى المجتمع ان يقابله بالمثل دفاعا عن أعضائه، وأن يفرض عليه أو يذيقه الألم بقصد القصاص، وإن يحرص على ان يكون قصاصا صارما. انه في هذه الحالة مجرم واقف أمام القضاء، ونحن مطالبون بالحكم عليه وبتنفيذ هذا الحكم أيضا بطريقة أو أخرى. اما في الحالة الأولى فنحن غير مكلفين بإيلامه إلا بقدر ما يترتب عرضا على استعمالنا في تنظيم شؤوننا الخاصة لنفس الحرية التي نبيحها له في تنظيم شؤونه.

يأبى الكثيرون التسليم بهذا التمييز بين ذلك الجزء من حياة الإنسان الذي يخصه وحده وذاك الذي يخص الغير. قد يسألون كيف يمكن ان لا يبالي بقية أعضاء المجتمع بأي جزء من حياة عضو فيه. ما من أحد مخلوق مستقل منعزل، ومن المستحيل ان يأتي شخص عملا يسبب لنفسه ضررا خطيرا أو ضررا دائما دون ان يصل أذاه إلى ذوي قرباه على الأقل، وكثيرا ما يتعداهم إلى غيرهم. ان أضر بأملاكه، أضر بالمنتفعين منها مباشرة أو غير مباشرة، وأفقد المجتمع جزءا من موارده قَلّ أو كثر. وإن افسد قواه البدنية أو العقلية، لما أوقع الشر على من يعتمدون عليه في جزء من سعادتهم فقط، بل لجعل نفسه أيضا غير صالح لتأدية الخدمات التي هو مدين بها لعموم البشر، وقد يصبح عالة على برّهم وإحسانهم. قد يقال أخيرا، إن المرء قد لا يسبب أذى مباشرا برذائله أو حماقته ولكنه يظل مؤذيا بقدوته، ويجب ان يرغم على ضبط نفسه لئلا يفسد أو يضل الآخرين الذين يرون سلوكه أو يعرفونه.

وقد يقال بالإضافة إلى ذلك: لو اقتصرت تبعات سوء السلوك على الفرد الشرير أو غير المفكر وحده، فهل يجب على المجتمع ان يسمح لأناس بان يرشدوا أنفسهم وقد اتضح انهم غير أهل لذلك؟ ان كان الأطفال وغير البالغين حريين بان نحميهم من أنفسهم، فهل المجتمع غير ملزم كذلك بحماية الأشخاص البالغين العاجزين عن سياسة أنفسهم؟ ولئن كان في القمار أو السكر أو الكسل أو الدعارة إفساد للسعادة وعرقلة للتقدم والتحسن، كأكثر ما يحدث في الأفعال التي يحرمها القانون، فلماذا لا يحاول القانون منع هذه الآفات بقدر ما هو ممكن عمليا واجتماعيا؟ ثم الا يجب على الرأي العام أن يكمل نقائص القانون التي لا مفر منها وان ينظم على الأقل قوة بوليسية ضد هذه الرذائل، وان يفرض عقوبات اجتماعية صارمة على مقترفها؟ كذلك قد يقال إن هذه المسألة لا تتناول مسألة تقييد الفردية، ولا إعاقة إجراء تجارب جديدة في الحياة، وإنما هي معنية بمنع أمور جربت واستنكرت منذ بداية العالم إلى اليوم. أمور أظهرت الخبرة أنها غير مفيدة ولا مناسبة لفردية أي إنسان. الواقع انه لا بد من مرور زمن طويل على الاختبار قبل ان تصبح حقيقة أخلاقية ما معتبرة على أنها أصبحت مستقرة، وأن المرغوب فيه منع جيل بعد آخر من السقوط في نفس الهوة التي قضت على السلف.

إني أجزم هنا بان الضرر الذي يلحقه شخص بنفسه قد يكون ذا أثر خطير على الغير ممن لهم علاقة به، وبدرجة أقل على المجتمع عموما. فإذا قاد مثل هذا السلوك شخصا إلى الإخلال بواجب واضح نحو الغير، فان القضية تخرج عن نطاق الشؤون الذاتية وتصبح في متناول التنديد الأخلاقي بمعناه الصحيح.

وان عجز إنسان عن دفع ديونه، أو عن إعالة أسرته وتربية أطفاله بسبب تبذيره فانه يستحق الاستهجان بل والقصاص، ولكن عقابه يكون على إخلاله بواجبه نحو أسرته ودائنيه لا على إسرافه وتبذيره. ولو حول الموارد التي يجب أن تخصص لهم إلى مشاريع استثمارية حكيمة لما تغير ذنبه الأخلاقي. لقد قتل جورج بارنويل عمه ليحصل على مال لخليلته، ولو أنه فعل ذلك لينشئ لنفسه عملا تجاريا لما تبدل الحكم بإعدامه. ثم إن الشخص الذي يجلب الأسى والغم لأسرته بإدمانه على العادات السيئة يستحق التوبيخ على عدم لطفه وعلى نكرانه للجميل. ويستحق ذلك أيضا على ممارسة عادات ليست شريرة في حد ذاتها ولكنها مؤلمة لأولئك الذين يقضي حياته معهم أو يعتمدون عليه في أسباب رفاهيتهم.

وكل من يقّصر في الاعتبارات التي تقتضيها مصالح الغير ومشاعرهم دون أن يرغمه على ذلك واجب أشد إلحاحا فانه يستحق اللوم الأخلاقي على ذلك التقصير، لا على سببه ولا على أخطائه الشخصية التي تكون قد أدت إليه من بعيد! لذلك يدان بذنب اجتماعي من يجعل نفسه بسلوكه الشخصي البحت عاجزا عن القيام بواجب معين يترتب عليه تجاه الجمهور. لا يجوز معاقبة شخص على مجرد سكره، ولكن الجندي أو الشرطي يجب ان يعاقب على سكره أثناء وظيفته. وبالاختصار كلما وقع الضرر، خرجت القضية من نطاق الحرية ودخلت ضمن نطاق الأخلاق أو القانون.

اما الضرر الطارئ الذي يمكن أن يسببه شخص للمجتمع من جراء سلوك ليس فيه إخلال بالواجب نحو الجمهور، وليس فيه قصد إلحاق الأذى بشخص معين من الناس، فانه يليق بالمجتمع ان يتحمله من أجل خير الحرية البشرية الأعم. إن كان لا بد من معاقبة البالغين على عدم اعتنائهم بأنفسهم، فاني افضل ان يكون ذلك لأجلهم على ان يكون بحجة منعهم من إضاعة نشاطهم أو من تأدية خدمة للمجتمع لا يدعي المجتمع أي حق في فرضها. بيد أنى لا أوافق على مناقشة هذه النقطة، كأن المجتمع لا وسيلة لديه في رفع الصفات من أعضائه إلى المستوى العادي من السلوك المعقول سوى الانتظار حتى يأتوا أمرا غير معقول فيعاقبهم عليه قانونيا أو أخلاقيا. لقد كان للمجتمع عليهم سلطة مطلقة خلال عمرهم المبكر، كان عهد الطفولة والحداثة تحت تصرفه ليحاول جعلهم ذوي سلوك معقول. ان الجيل الحالي هو سيد التدريب وسيد كل الظروف التي تحيط بالجيل القادم، فإذا لم يستطع إبلاغهم حد الكمال في الحكمة والصلاح فلأنه هو ذاته ناقص في الحكمة والصلاح. وليست أقصى جهوده مع الأفراد دائما أنجحها، ولكنه قادر على أن يرفع الجيل الناشئ جملة إلى درجة الصلاح التي وصل إليها هو، أو إلى ما هو أعلى منها. فان سمح المجتمع لعدد وافر من أعضائه بأن يظلوا أطفالا في عقليّتهم، فليس له إلا أن يلوم نفسه على العواقب.

ان المجتمع مسلح بقوى التربية من جهة، وهو من جهة أخرى مسلح بالتفوق الذي تفرضه سلطة الرأي العام المسَلّم به على أصحاب العقول القاصرة الذين ليسوا أهلا لتقرير أمورهم. ثم هو من جهة ثالثة يتلقى المساعدة من العقوبات الطبيعية التي لا يمكن إلا أن تصيب أولئك الناس الذين يستحقون كل امتعاض وازدراء من كل من يعرفهم. فهل يحق للمجتمع بعد هذا أن يدعي أنه بحاجة إلى سلطة لإصدار الأوامر وفرض الطاعة في شؤون الأفراد الشخصية، تلك الشؤون التي تقضي جميع مبادئ العدل ان يكون أمرها بيد من يتحملون تبعاتها. ان علينا ان نعترف أن لا شيء يؤذي أفضل الوسائل المستعملة في التأثير على السلوك مثل اللجوء إلى ما هو أسوأ منها. وإن كان في الأشخاص الذين يراد إرغامهم على سلوك سبيل التعقل والاعتدال شيء من عناصر الأخلاق القوية المستقلة، فانهم سيثورون حتما على ذلك النير. لن يقبل أحد منهم بحق الغير في السيطرة على شؤونه الخاصة، وسرعان ما يعتبر كل منهم أن من الشجاعة الوقوف في وجه تلك السلطة المغتصبة والتباهي بالقيام بعكس ما تأمر به، كما حدث إبّان عهد تشارلز الثاني للتعصب الأخلاقي الذي ظهر عند جماعة المتطهرين (puritans). أما بشأن ما يقال عن حماية المجتمع من سوء قدوة المستهترين، فالحق يقال ان القدوة السيئة ذات أثر ضار، لا سيما إذا بقي المذنب نحو الغير دون أن يعاقب. ولكننا نتحدث الآن عن السلوك الذي يفترض فيه أنه كبير الضرر على صاحبه، دون أن يكون ضارا بالغير. على أني لا أفهم هنا كيف لا يفطن الذين يعتقدون بهذا القول ان القدوة على العموم يجب أن يكون نفعها أكثر من ضررها، لأنها تستعرض الآفة وتستعرض معها أيضا نتائجها المؤلمة أو المحزنة التي تلازمها في جميع الحالات أو في معظمها إذا نال سوء السلوك ما يستحقه من التوبيخ!

إن أقوى حجة ضد تدخل المجتمع في شؤون الفرد الخاصة هي أن تدخُّله غالبا ما يكون خاطئا وفي غير محله. ان رأي العموم، أي الأكثرية السائدة، في مسائل الأخلاق الاجتماعية والواجب نحو الغير، كثيرا ما يكون خاطئا، رغما عن أنه كثيرا ما يظهر مصيبا، لان المطلوب منه إذ ذاك ان يحكم في مصالح الأكثرية، وفي الطريقة التي يمكن أن يؤثر عليهم فيها نوع من السلوك قد يسمح بممارسته. أما فرض رأي الأكثرية كقانون على الأقلية في شؤون السلوك الخاص، فانه قد يكون خاطئا بقدر ما يكون صائبا، لان الرأي العام في مثل هذه الحالات لا يعدو كونه رأي بعض الناس في ما هو خير أو شر للغير، بينما هو كثيرا لا يعني حتى هذا، فتهمله العامة ولا تبالي بإرادة أصحابه ورضاهم ولا تهتم إلا بما تفضله. هناك كثيرون يعتبرون السلوك الذي لا يحبونه ضررا لهم يجرح مشاعرهم، كذلك المتعصب الذي اتهم بالاستهانة بمشاعر الغير الدينية، فأجاب بأنهم يستهينون بمشاعره بالمواظبة على عبادتهم أو عقيدتهم اللعينة. ولكن لا يوجد شبه بين شعور شخص نحو رأيه الخاص وشعور شخص آخر يكّدره تمسك الأول برأيه، أكثر مما يوجد بين رغبة لص في أخذ محفظة نقود ورغبة صاحب المحفظة في الاحتفاظ بها. وذوق الفرد هو من شؤون الفرد الخاصة، تماما كرأيه وكمحفظته.

من السهل على أي إنسان أن يتخيل مجتمعا مثاليا لا يتدخل في حرية الأفراد واختيارهم في الأمور التي يجب فيها الاختيار، ولا يطلب منهم إلا أن يجتنبوا أنواع السلوك التي استنكرتها الخبرة العامة. ولكن أين تجد المجتمع الذي وضع لرقابته مثل هذا الحد؟ أو متى يهتم الجمهور بالخبرة العامة؟ انه في تدخله في السلوك الشخصي قلّما يفكر في شيء غير فظاعة العمل أو الشعور الذي يخالفه، وهذا القياس في الحكم يعرضه مُقُنَّعا بغلالة رقيقة تسعة أعشار رجال الأخلاق والكتاب والمفكرين على الشعب على انه رأي الدين والفلسفة. إنهم يعلموننا أن الأمور صحيحة لأنها صحيحة، أو لأننا نشعر بأنها كذلك، ويطالبون منا أن نبحث في عقولنا وقلوبنا عن قوانين السلوك الملزمة لنا وللآخرين. فهل يستطيع الجمهور المسكين إلا أن يطبق هذه التعليمات ويجعل مشاعره الخاصة في الخير والشر واجبا لازما على جميع البشر، ان أمكنه الإجماع عليها؟

إن الشر المشار إليه هنا لا يوجد نظريا فقط. وإذا كان من المنتظر مني أن أعين الحالات التي يضفي فيها الجمهور في هذا العصر وهذه البلاد على ما يفضله صبغة القانون الأخلاقي، فأنا اكتب مقالا في شذوذ الشعور الأخلاقي الحاضر، وهذا في نظري أخطر من أن يُبحث على الهامش أو بإيراد الأمثلة. بيد أنه لا بد من الأمثلة لأبين أن المبدأ الذي أقول به ذو شأن خطير وعملي، وأني لا أحاول إقامة حاجز دون الشرور الوهمية. وليس من العسير أن أبين بالأمثلة العديدة أن توسيع حدود ما يمكن ان يسمى بالبوليس الأخلاقي توسيعا يصل إلى حد الاعتداء على أعمق حرية شرعية للفرد إنما هو من أعم النزعات البشرية.

لننظر أولا في تنافر الناس القائم على أن من يخالفونهم في العقيدة الدينية لا يقبلون طقوسهم وشعائرهم ولا ينتهون بنواهها. لنوضح ذلك بمثال. لا شيء في الدين المسيحي أدعى إلى نفور المسلمين من أكل لحم الخنزير، وليس لدى المسيحيين والأوروبيين أي شيء ينظرون إليه باشمئزاز حقيقي كما ينظر المسلمون إلى هذا الأسلوب من إشباع الجوع. انه أولا مخالفة لدينهم، ولكن هذا وحده لا يوضح مدى اشمئزازهم ونوعه. فالخمر أيضا محرمة لديهم، والمسلمون يعتبرون تعاطيها إثما. ولكنهم لا يشمئزون منها. ان كراهيتهم للحم "الحيوان النجس" هي من ذلك النوع الخاص الذي يشبه النفور الغريزي الذي تثيره دائما فكرة النجاسة إذا غاصت إلى صميم المشاعر، حتى في مَن لا يراعون النظافة في عاداتهم الشخصية، والتي يكون من أبرز أمثلتها ذلك الشعورالشديد بالنجاسة الدينية عند الهنود. لنفرض ان الأكثرية المسلمة في شعب ما أصرت على تحريم أكل لحم الخنزير ضمن حدود البلاد، فهل يكون في هذا ممارسة شرعية لسلطة الرأي العام الأخلاقية؟ فان لم تكن كذلك، فلم لا؟ ان تلك العادة مثيرة حقا للشعب الذي يعتقد مخلصا أنها محرمة يمقتها الله. ولكن لا يمكن التنديد بالتحريم كاضطهاد ديني، فقد يكون دينيا في أصله، إلا أنه لن يكون اضطهادا للدين ما دام لا يوجد دين يوجب أكل لحم الخنزير. والحجة الدامغة الوحيدة التي يقوم عليها استنكار ذلك التحريم إنما هي أنه لا يحق للجمهور أن يتدخل في أذواق الفرد وشؤونه الخاصة. إليك مثل آخر أقرب إلينا: يعتقد معظم الأسبان أن من الكفر بالله أن يُعبد على غير الطريقة الكاثوليكية، فلا تعتبر أية عبادة أخرى شرعية في الأراضي الأسبانية. ثم إن شعوب جنوبي أوروبا ينظرون إلى زواج رجال الكنيسة كشيء غير عفيف، وغير لائق وفظيع، وبغيض، بالإضافة إلى كونه خروجا على الدين. ماذا يقول البروتستنت في هذه المشاعر المخلصة وفي محاولة فرضها على غير الكاثوليك؟ لو برر البشر في تدخلهم في حريات بعضهم بعضا في شؤون لا تمس مصالح الغير، فعلى أي مبدأ يمكن استثناء هذه الأمثلة؟ أو من يسعه أن يلوم الناس على رغبتهم في قمع ما يرونه معيبا في أعين الله والناس؟ لا حجة لتحريم ما يعتبر رذيلة أقوى من تلك التي يتذرع بها من يرون في الأمثلة التي أوردناها رذائل تستوجب القمع. وإلا إذا شئنا أن نأخذ بمنطق الطغاة وأن نقول إن لنا أن نضطهد الغير لأننا على حق، وإنهم لا يجوز لهم أن يضطهدونا لأنهم على باطل، فلنحذر التسليم بمبدأ نعتبر تطبيقه على أنفسنا منتهى الإجحاف والظلم.

قد يعترض بعضهم على الأمثلة الآنفة الذكر بقوله إنها مأخوذة من حوادث يستحيل وقوعها في بلادنا، إذ لا يحتمل ان يفرض الرأي العام عندنا الامتناع عن أكل بعض اللحوم أو التدخل في شؤون العبادة أو الزواج أو عدمه. بيد أن المثال التالي مأخوذ من تدخل في الحرية لم ننج بعد تماما من خطره. لقد حاول المتطهرون أن يقضوا على جميع أنواع اللهو أو التسلية العامة والخاصة، لا سيما الموسيقى والرقص والألعاب العامة والملاهي والمسارح، ونجحوا إلى حد كبير في تلك الأماكن التي قويت فيها شوكتهم، مثل بريطانيا ونيوانغلند إبان عهد الكومنولث. ولا تزال بيننا جماعات كبيرة لها من الآراء الأخلاقية والدينية ما يستنكر أسباب اللهو تلك. ولما كان معظم أولئك الناس من الطبقة الوسطى، وهي السلطة المتفوقة في الظرف الاجتماعي والسياسي الحالي، فليس من المستبعد أن يفوزوا يوما بأكثرية مقاعد المجلس النيابي. فماذا تقول بقية أعضاء المجتمع في إخضاع ما يسمح لها به من أسباب اللهو لآراء أولئك المتزمتين الدينية والأخلاقية؟ أفلا ترغب حتما في إلزام أولئك الأتقياء المتطفلين حدهم؟ وهذا هو ما يجب أن يقال لكل حكومة وكل مجتمع يدعيان أن لا حق لامرئ في أية متعة يعتبر أنها خاطئة. ولكن إذا سلمنا بمبدأ الادعاء، فلا يستطيع أحد أن يعترض على العمل به باسم الأغلبية أو السلطة الراجحة في البلاد. وعلى الجميع أن يستعدوا للإذعان لفكرة كومنولث مسيحي كما فهمه مستوطنو نيوانغلند الأولون، فيما لو نجح تدين مماثل لتدينهم في استرداد ما فقده من نفوذ.

لنتخيل احتمالا آخر قد يكون أقرب إلى التحقيق مما سبق. في العالم الحديث اتجاه نحو كيان ديمقراطي للمجتمع، مصحوب بمؤسسات سياسية شعبية. ويقال عن الولايات المتحدة، وهي اكثر البلدان ديمقراطية حكومة وشعبا، أن شعور الأغلبية يعمل كقانون فعال في تنظيم إنفاق الأموال، وأن من الصعب على صاحب الدخل الكبير، في عدد كبير من أنحاء ذلك الاتحاد، أن يجد وسيلة لإنفاق دخله الكبير لا يتعرض فيها لسخط الجمهور. ان في هذا القول مبالغة للواقع دون شك، غير أن ما يصفه من أوضاع شيء ممكن وقابل للتصور، لا بل هو نتيجة مرجّحة لشعور ديمقراطي مقرون بفكرة أن للشعب حق النقض بشأن الطريقة التي ينفق فيها الأفراد أموالهم. وما علينا بعد ذلك إلا أن نفرض انتشار الآراء الاشتراكية وتغلغلها حتى قد يصبح من العيب في أعين الأكثرية ان يقتني المرء إلا اقل قدر من الأملاك، أو أن يكسب أي دخل إلا بالعمل اليدوي. ولقد انتشر ما يشبه هذه الآراء بين أفراد الطبقة العاملة، وأزعج ذلك بقية أعضاء الطبقة الذين يتأثرون برأيها. ومن المعروف أن العمال غير الحاذقين الذين يؤلفون الأكثرية في معظم الصناعات يرون أن العامل الخائب يجب أن ينال أجرا مساويا للعامل الحاذق، وأنه لا يجوز لأحد أن يكسب بحذاقته اكثر مما يكسب الآخر بدونها. وهم يستخدمون بوليسا معنويا يتحول أحيانا إلى بوليس فعلي ليحول دون إعطاء العمال الحاذقين أجرا أعلى على خدمات أحسن وأنفع. فان اعترفنا بأن للجمهور سلطة على الأعمال الخاصة، فأنا لا أرى أن أولئك العمال على خطأ، ولا أرى أن يلام جمهور ما، كجمهور العمال، إذا ادعى لنفسه سلطة على سلوك أفراده تماثل السلطة التي يدعيها الجمهور على الناس عموما.

لا حاجة إلى أخذ حالات نفترضها افتراضا. ففي أيامنا هذه أمثلة كثيرة على اغتصاب حرية الحياة الخاصة، وعدد كبير منها ينذر بنجاح أوفر. لا بل إن هناك آراء تدعو إلى تخويل الجمهور حقا لا حد له في تحريم ما يراه خطأ بواسطة القانون، وفي تحريم عدد من الأمور يعترف بأنها بريئة بذاتها، إلا أنها طريقة في الوصول إلى ما يراه خطأ.

لقد حرم القانون، بحجة مكافحة إدمان المسكرات، شعب إحدى المستعمرات البريطانية ونصف سكان الولايات المتحدة من استعمال المشروبات المخمرة، إلا لأغراض طبية. لم يكن تحريم بيعها إلى بغية تحريم استعمالها كما هو المقصود. ومع أن عدم إمكان تنفيذ القانون قد أدى إلى إلغائه في عدة ولايات بما فيها الولاية التي يحمل اسمها ، فانه قد بدئ بحملة حماسية للعمل على سن تشريع مماثل في هذه البلاد. إن الجمعية التي تسمى نفسها "الاتحاد"، والتي أُسست لهذه الغاية، قد اكتسبت بعض الشهرة السيئة من جراء نشر مراسلات جرت بين أمين سرها وبين إحدى الشخصيات الإنكليزية القليلة القائلة بأن آراء الرجل السياسي يجب أن تقوم على المبادئ. وكان المأمول من نصيب اللورد ستانلي من هذه المراسلات أن يعزز الأمل الذي علقه عليه من أدركوا ندرة صفاته بين الشخصيات اللامعة في دنيا السياسة. إن داعية الجمعية هذا، الذي "يستنكر أي اعتراف بأي مبدأ يغتصب اغتصابا كي يبرر التعصب والاضطهاد"، يأخذ على عاتقه بيان "الحاجز العريض المنيع" الذي يفصل بين تلك المبادئ وبين مبادئ الجمعية. فيقول: "إن كل ما يتعلق بالفكر والرأي والضمير يبدو لي أنه خارج نطاق التشريع، وإن كل ما يتعلق بالأفعال الاجتماعية، والعادات، والعلاقات، يدخل في نطاق سلطة اختيارية موضوعة بِيَد الدولة نفسها لا بِيَد أي فرد من الأفراد الذين تضمهم". وهو لا يذكر فئة ثالثة تختلف عن السابقتين، مثل الأفعال والعادات التي ليست اجتماعية بل فردية، مع أن شرب المشروبات المخمرة إنما هو فعل من أفعال هذه الفئة.

إن بيع المشروبات المخمرة تجارة، والتجارة عمل اجتماعي. على أن الإجحاف المشكو منه ليس مشكلة حرية البائع بل هو حرية المشتري والمستهلك، فالدولة إنما تمنع الشرب بمنع البيع. إلا أن أمين السر يقول: "إني كمواطن أدعي أن لي الحق في التشريع كلما اعتدى على حقوق الاجتماعية فعل اجتماعي من قبل شخص آخر". وهو يعّرف هذه "الحقوق الاجتماعية" بقوله: "إن كان ثمة ما يغزو حقوقي الاجتماعية، فلا شك في أن تجارة المشروبات القوية تفعل ذلك. إنها تفسد علي حقي في الأمن، بإثارة الفوضى الاجتماعية. إنها تغزو حقي في المساواة باجتناء ربح يأتي عنه خَلقُ شقاء يفرض علي إعالته بالضرائب. إنها تعرقل حقي في حرية التطور الأخلاقي والعقلي، بإحاطة سبيلي بالأخطار، وبإفساد المجتمع الذي من حقي أن أطلب منه العون المتبادل". إن هذه النظرية في الحقوق الاجتماعية لم يسبق قط، على الأرجح، أن أعرب عن مثلها بلغة صريحة. فهي لا تعدو ما يلي: ان من الحق الاجتماعي المطلق لكل فرد ان يفعل كل فرد آخر كما يجب، وإن كل من يقصر في ذلك أقل تقصير يعتدي على حقي الاجتماعي ويخولني حق الطلب من السلطة التشريعية ان تزيل الظلم. إن مبدأ فظيعا كهذا لأشد خطرا من أي تدخل مفرد في الحرية، وما من اعتداء على الحرية إلا ويتمكن من تبريره. وهو لا يعترف بأي حق في الحرية، وربما استثنينا هنا حق الاحتفاظ بالآراء سرا دون البوح بها، إذ حالما يخرج رأي أراه أنا ضارا من فم أحد، فانه يغزو جميع "الحقوق الاجتماعية" التي يخولني إياها ذلك "الاتحاد". فهو مذهب يجعل لكل واحد من أفراد النوع الإنساني مصلحة في الكيان الأخلاقي، والفكري، والجسمي للآخرين، وكل واحد يستطيع أن يفسر هذه المصلحة طبق مقاييسه.

إليك مثلا هاما آخر على التدخل غير الشرعي في حرية الفرد الشرعية وهو التشريع الخاص بيوم العطلة أو الراحة. لا شك في أن الاستراحة في أحد أيام الأسبوع من عناء بالأعمال، بقدر ما تسمح به مقتضيات الحياة، عادة مفيدة جدا، ولو أنها غير إلزامية دينيا إلا عند اليهود. وبما أن من غير الممكن مراعاة هذا التقليد إلا بموافقة عامة من قبل الطبقات الصناعية والعمالية، وبما أن اشتغال بعض الناس يفرض ضرورة انتقال البعض الآخر، فقد يكون من الجائز والحق أن يضمن القانون لكل واحد مراعاة الآخرين لذلك التقليد وذلك بتعليق أعمال الصناعات الكبرى في يوم معين. ولكن هذا التبرير القائم على اهتمام الغير المباشر بمراعاة كل فرد للتقليد، لا ينطبق على الأعمال التي يختار المرء أن يلهو بها في أوقات فراغه، ولا يجيز أبدا فرض قيود قانونية على أسباب اللهو. صحيح أن لهو بعض الناس يعني يوم عمل بالنسبة لغيرهم، إلا ان متعة الكثيرين تستحق عناء القليلين بشرط أن يكون لهؤلاء القليلين الحرية في اختيار العمل أو التخلي عنه. ان العمال على حق في ظنهم أن الاشتغال يوم الأحد يجعل عمل سبعة أيام مكافأ عليه بأجر ستة أيام. ولكن ما دامت أكثر الأعمال معلقة في ذلك اليوم، فان القليلين الذين يجب أن يعملوا ليؤمنوا للغير المتعة التي يريدها يحصلون على زيادة نسبية في كسبهم، ثم إنهم غير مجبرين على العمل إن كانوا يفضلون الفراغ والراحة على الربح. ويمكن كذلك معالجة قضية هؤلاء الأشخاص بفرض عطلة لهم في يوم آخر من أيام الأسبوع.

لم تبق إذن حجة للدفاع عن تقييد أسباب اللهو يوم الأحد، إلا القول بان الدين لا يجيزها، وهذا اجتهاد في التشريع لا يمكن ان نفيه حقه من الاحتجاج والاستنكار. بقي ان نثبت ان المجتمع أو أيا من موظفيه لا يملك تفويضا من الأعلى للأخذ بالثأر لأي جرم مزعوم بحق الخالق لا يكون في نفس الوقت جرما بحق بني جنسنا. ان الفكرة القائلة بان من واجب كل شخص أن يكون الآخر متدينا كانت أساس جميع ما اقترف من الاضطهادات الدينية، ولو سلمنا بتلك الفكرة لبررنا تلك الاضطهادات. ومع ان الشعور الذي يتبدى في المحاولات المتكررة لمنع السفر بالقطار يوم الأحد، وفي مقاومة فتح المتاحف وغير ذلك، ليس فيه ضراوة المضطهدين القدامى، فان الحالة العقلية التي ينم عليها هي في أساسها. انها التصميم على عدم التسامح مع الآخرين في عمل أمر يسمح لهم به دينهم لسبب واحد فقط وهو أن دين المتسلطين لا يسمح به. إنها الاعتقاد أن الله يمقت أعمال الكفار فحسب، بل إنه أيضا لا يبرئ ساحتنا ان تركناهم وشأنهم.

لا يسعني في هذا الصدد أن أغفل ذكر لغة الاضطهاد الذميم التي تصدر عن صحافة هذه البلاد كلما شعرت بأنها مدعوة لملاحظة ظاهرة المورمون الغريبة التي تدعي قيام وحي جديد ودين جديد يقوم عليه. يمكن أن يقال الكثير عن هذه البدعة: حصيلة التدجيل المحسوس، التي لا تسندها أية صفات خارقة لمؤسسها، والتي يؤمن بها مئات الألوف، حتى أصبحت أساسا لجمعية في عصر الصحف والسكك الحديدية والتلغراف الكهربائي. ولك ما يعنينا هنا هو أن لهذه الديانة كما لغيرها شهداء، وأن نبيها ومؤسسها قبل بيد الدهماء بسبب تعاليمه، وأنه فتك بغيره من الأتباع بنفس العنف غير الشرعي، وأن المورمون طردوا بمجموعهم من البلاد التي نشأوا فيها. وبينما هم الآن مبعدون في ركن منعزل في قلب الصحراء، يصرح الكثيرون علنا في هذه البلاد بأن من الحق (لولا أنه من غير المناسب) إرسال حملة عليهم لإرغامهم قسرا على الإذعان لرأي غيرهم من الناس. إن المادة في المذهب المورموني التي تستفز النقمة وعدم التسامح الديني هي إباحتهم تعدد الزوجات. وهذا التعدد محلل للمسلمين والهنود والصينيين، ولكن يبدو أنه يثير عداء لا يخمد حين يمارسه أناس يتكلمون بالإنكليزية ويدعون أنهم نوع من المسيحيين. ما من أحد اشد تبرما مني بهذه الطائفة، لأسباب أخرى ولأنها إجحاف صارخ بمبادئ الحرية، فانها مجرد أحكام السلاسل التي تقيد نصف المجتمع وتحرر النصف الآخر منها. ولكن يجب أن لا ننسى أن تعدد الزوجات هذا إنما يتم بمحض إرادة النساء اللواتي يمكن اعتبارهن الطرف المَغبون. ومهما بدا هذا الأمر مستغربا، فان له تفسيرا في آراء البشر وعاداتهم العامة. ولما كانت هذه الآراء والعادات تلقن المرأة الاعتقاد بان الزواج هو الشيء الوحيد الذي لا بد منه، فمن الواضح أن هناك كثيرات تفضل الواحدة منهن أن تكون ضرة لعدد من الزوجات على أن لا تتزوج أبدا. لا يطلب من البلدان الأخرى الاعتراف بمثل هذا الزواج، أو إعفاء بعض سكانها من قوانينها الخاصة إكراما لخاطر المورمون وآرائهم. ولكن بعد أن أذعن المنشقون لمشاعر الغير المعادية إلى أبعد مما يقتضيه العدل، وهجروا المواطن التي لم ترض عن تعاليمهم، واستقروا في بقعة نائية من الأرض التي كانوا أول من جعلها صالحة لسكنى بني آدم؛ يتعذر أيجاد مبدأ غير مبدأ الطغيان يقوم عليه منعهم من العيش هناك وفق ما يريدون من القوانين، بشرط أن لا يعتدوا على غيرهم وأن يسمحوا بان يهجرهم من لا يرضى بطرق معيشتهم. لقد اقترح أحد الكّتاب أن تراسل على حد قوله "لا حملة صليبية، بل حملة تحضيرية" لوضع حد لما يبدو له أنه خطوة رجعية في الحضارة. وهي تبدو لي كذلك، ولكني لا أرى أن لأي مجتمع الحق في أن يجبر مجتمعا آخر على التحضر. وما دام الراضخون للقانون السيئ لا يطلبون العون من مجتمع آخر، لا أرى ما يوجب تدخل من لا علاقة له بالأمر لوضع حد لحالة يبدو أن من تهمهم مباشرة راضون عنها، بحجة انها فضيحة أو سبة لأناس يبعدون عنها آلاف الأميال ولا شأن لهم بها. ليرسلوا إن شاؤا مبشرين يبشرون ضدها، وليقاوموا بوسائل عادلة (ليس منها كَمّ أفواه المعلمين) تقدم مذاهب مماثلة بين ظهرانيهم. إذا كانت الحضارة قد تغلبت على البربرية يوم كانت البربرية سيدة الكون، فكيف يتسنى لنا ان ندعي الخوف من أن تنتعش البربرية بعد اندحارها وتنتصر على الحضارة؟ إن حضارة تستسلم هكذا لعدو مقهور، يجب أن تكون قد أصبحت منحطة بحيث يعجز كهانها وأساتذتها وسواهم عن الدفاع عنها أو لا يكلفون أنفسهم مؤونة ذلك. وإن كان الأمر كذلك، فخير لها أن تزول سريعا، وخير البّر عاجله، إذ ليس لها إلا أن تتردى من سيء إلى أسوأ، إلى ان تفنى وتنبعث ثانية (كالإمبراطورية الغربية) على أيدي برابرة نشيطين حازمين.


-------

[1] يشير الكاتب هنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

[2] البيوريتانية (التطهّرية) Puritanism: حركة اجتماعية دينية في الكنيسة البروتستانتية نشأت في القرن السادس عشر كحركة إصلاحية هدفها تبسيط طقوس العبادة وشعائرها

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:07 PM

9- كارل ماركس

ولد كارل ماركس (Karl Marx) في مدينة ترير(Trier)، إحدى المدن الألمانية القريبة من الحدود الفرنسية، في عائلة متوسطة حيث عمل والده محاميا.درس ماركس القانون والفلسفة والتاريخ في جامعات بون، برلين ويينا. ودار موضوع رسالة الدكتوراه حول فلسفة الطبيعة عند كل من ابيقورس وديموقريطس. بعد انتهاء دراسته في سنة 1841 عرض عليه التدريس في جامعة بون. لكنه اختار طريقاً أخرى لحياته حيث اشترك في تحرير إحدى الصحف الراديكالية لمدة قصيرة. لكن الرقابة البروسية[1] أغلقت الصحيفة ولاحقت السلطات محرريها. نتيجة لذلك هاجر ماركس إلى باريس سنة 1843.

أحدثت فلسفة هيجل (Hegel) ثورة فكرية في دول ألمانيا بعد موته (1832)، واعتبر ماركس في فترة حياته المبكرة من الهيجليين (أتباع هيجل). من ناحية ثانية، أولى ماركس اهتماماً خاصاً لدراسة النظريات الاقتصادية كنظرية آدم سميث (Adam Smith). وخلال قراءة ماركس لآثار هيجل الفلسفية كتب ملاحظات وتعليقات جمعت فيما بعد.

واصلت السلطات البروسية ملاحقة المعارضة الراديكالية في باريس بتعاون وبتنسيق مع فرنسا، وأدى ذلك إلى طرد الكثير من المهاجرين الألمان. وكان ماركس من بين المطرودين، فترك باريس وتوجه إلى بروكسل سنة 1845.

وخلال إقامته في بروكسل زار ماركس إنجلز. وكان لقيام "رابطة الشيوعيين" سنة 1847 على الصعيد العملي، وإصدار "البيان الشيوعي" سنة 1848 على الصعيد الفكري، أهمية خاصة في حياة ماركس.

كان اثر ثورة 1848 في بلدان أوروبا المختلفة على ماركس عميقاً. كذلك يمكن القول عن اثر موت كومونة باريس[2] (1871) فيما بعد. فكل دارس للنظرية الثورية عند ماركس لا يستطيع إهمال مؤلفات ماركس حول هذين الحدثين كـ "الثامن عشر من برومير" (1851) و"الحرب الأهلية في فرنسا" (1871).

كرس ماركس حياته للدراسات الاقتصادية إلى جانب نشاطه السياسي. فقد أتم "نقد الاقتصاد السياسي" في 1857. وفيما بعد بدأ ماركس بالعمل على وضع الأسس العريضة لكتابه المشهور "رأس المال". وكانت الفكرة الأساسية دراسة الموضوع في ثلاثة مجلدات. وصدر المجلد الأول 1867. غير ان نشاطه السياسي ضمن اتصالاته المستمرة مع مختلف الأحزاب والتنظيمات الاشتراكية في مختلف بلدان أوروبا منعه من مواصلة مشروعه الفكري. وفي 1878 بدأ بكتابة المجلد الثاني، لكنه لم يتم. أما المجلد الثالث فبقي فكرة لم تتم.

أما كتابات ماركس السياسية بعد 1849 فهي كثيرة ومتعددة. ولا يمكننا هنا ذكرها، فهي تحتاج لصفحات عديدة. ويمكن القول انها عبرت عن مواقف ماركس من المؤتمرات وبرامج الأحزاب الاشتراكية في بلدان أوروبا. والقسم الآخر مراسلات شخصية، لا سيما مع صديق حياته إنجلز.


جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:08 PM

10 - فريدريك إنجلز (1820-1895)



فريدريك إنجلز (Frederick Engels) مفكر وكاتب ألماني المولد. كان من الهيجليين الجدد (الجناح اليساري)، هاجر إلى بريطانيا، وتعرف هناك إلى أوضاع الطبقة العاملة التي أصبحت تشكل له موضوع اهتمام كبير، خاصة وانه كان منذ وجوده في ألمانيا يهتم بقضايا تبديل العلاقات الاجتماعية السائدة، واصبح من الاشتراكيين.

في عام 1844 التقى بماركس في باريس، وقامت بينهما علاقة متينة قائمة على الصداقة الشخصية، وعلى الاشتراك في الأفكار والتوجهات السياسية. وقاما بتأليف عدد من المؤلفات بشكل مشترك، كان اشهرها وأوسعها انتشارا "البيان الشيوعي" الذي صاغ إنجلز مسودته. كما كان بينها "الأيديولوجية الألمانية" و"العائلة المقدسة". وقد ألّف إنجلز بشكل منفرد كتبا منها: "لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية"، و"ضد دوهرنج"، و"أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة".

وعمل إنجلز مع ماركس من أجل تفعيل الرابطة الشيوعية، وتحويلها إلى حزب ثوري للبروليتاريا.

---------------------
مكانة ماركس :

يصعب التعرض لمكانة وأهمية ماركس، خاصة ان تم ذلك أمام جمهور غير مطلع وغير قارئ، دون التطرق للسؤال الذي لا بد انه يراود ذهن جمهور من هذا النوع، وهو: لماذا يُقرأ ماركس بعد انهيار الاتحاد السوفيتي؟ ولإزالة الاختلاط الذي يحتويه هذا التساؤل يمكن بإيجاز الإشارة إلى التالي:

1
لقد سعى النظام السوفيتي إلى الاستحواذ على تركة ماركس الفكرية وإلى الإضافة لها بإسهامات لينين وستالين على وجه التحديد، ومن ثَم ظهور "الماركسية اللينينية". من جهة أخرى، وفي خضم الحرب الباردة والدعاية، والدعاية المضادة، دخلت أطراف أخرى حلبة الصراع الفكري خاصة الولايات المتحدة وبعض حلفائها في الشرق والغرب. وسعى هذا التيار أيضاً لعدم التمييز بين تركة ماركس والاتحاد السوفيتي. بالتالي، اقترن ماركس بالذهن وعلى نطاق شعبي، بتجربة الاتحاد السوفيتي.

غير انه ينبغي الإشارة إلى ان مركز الماركسية كحركة فكرية وكمراس سياسي سابق لظهور الاتحاد السوفيتي، تمحور حول عمل وفكر الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، وحتى أوائل العشرينات من القرن الحالي. وقد شكل ظهور الاتحاد السوفيتي انشقاقا عميقا في الماركسية كحركة فكرية وسياسية. وقد اسهم بروز الاتحاد السوفيتي على الصعيد العالمي في الفقدان النسبي للاهتمام بالتيار الماركسي الآخر، والذي شكل امتداداً للفكر الذي تمحور حول الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني. وقد عرف هذا التيار، لاحقاً، "بالماركسية الغربية". وتميزت "الماركسية الغربية" عن "الماركسية اللينينية" بتنوعها وتعددها والمرونة الفكرية التي تناولت فيها أفكار ماركس، والنقد الصارخ الذي وجهه بعض ابرز مفكريها إلى النظام الشمولي في الاتحاد السوفيتي.

وتعتبر كتابات كارل كورش (K. Korsch) وجورج لوكاش (G. Lukacs) وانطونيو غرامشي (A. Gramsci) إضافة إلى تأسيس مؤسسة فرانكفورت للبحوث الاجتماعية في عام 1923 ومؤلفات باحثيها، من الينابيع الفكرية للماركسية الغربية. فعلى سبيل المثال، اخذ أهم كتّاب مدرسة فرانكفورت (وهم ثيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر، وهيربرت ماركيوز) منحى النقد الثقافي للمجتمع البرجوازي كمدخل أساسي للتحليل، بما في ذلك هيمنة "العقلانية التقنية" (technological rationality) في ذلك المجتمع، وما يرادفها من "وضعية" (positivism) و"علموية" (scientism) في العلوم الاجتماعية، بدلاً من التركيز فقط على هيمنة الطبقة الرأسمالية. ومن هذا المنطلق ركز هؤلاء الكتاب على تحليل المظاهر المتعددة للاغتراب في المجتمعات الغربية المعاصرة وأبعادها الثقافية والنفسية والفكرية والجمالية. وبهذا المعنى قيل ان "الماركسية الغربية" هي ماركسية "البنية الفوقية".

2
إن مكانة ماركس الفكرية في القرن العشرين تتعدى الماركسية بأنواعها، أخذاً بعين الاعتبار دخول بعض من أفكاره وتوجهه في النظر إلى المجتمع وفي تحليل التغيير الاجتماعي والسياسي والفكري، إلى العلوم الاجتماعية بشكل عام. وقد يصعب أحياناً تحديد اثر ماركس بشكل عيني ودقيق في حقول مثل علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ وعلم الإنسان والعلوم السياسية. ولكنه يصعب أيضاً تصور هذه العلوم كما هي الآن دون ماركس.

وبهذا المعنى ان لماركس تأثيرا أوسع واعم على الصعيد الفكري مما له على الصعيد السياسي، وان كان هذا التأثير في كثير من الأحيان مرنا وغير عقائدي.

وتعتمد مكانة ماركس التاريخية أيضاً على إنجازاته الفكرية المتنوعة، نشير منها على وجه الخصوص إلى التحليل النافذ الذي قدمه للنظام الرأسمالي كنظام اقتصادي والمجسد في كتاب "رأس المال"، والذي وفر أساساً نظرياً للعديد من المفكرين الاقتصاديين خلال القرن العشرين بما في ذلك غير الماركسيين منهم.

إضافة، يجب الإشارة إلى الأهمية الفكرية لنظرة ماركس إلى التاريخ وإلى العناصر الفاعلة فيه، والتي تركت أثراً كبيراً على كتابة التاريخ من بعده وخاصة في القرن العشرين.

وليس المقصود هنا التبني الحرفي للتفسير المادي للتاريخ من قبل المؤرخين، خاصة بالشكل الفظ والسوقي الذي تم التعبير عنه في بعض المؤلفات الصادرة من الاتحاد السوفياتي، وكعلاقة ميكانيكية بين "أعلى" و"أدنى"، بين بنية "فوقية" وبنية "تحتية" وباتجاه واحد لا حيد عنه ولا إنفكاك منه، من اسفل إلى أعلى!

وبشكل عام، يمكن القول انه لم يعد من الممكن بعد ماركس كتابة التاريخ بافتراض ضمني أو صريح، ان المحرك الأساسي فيه هو الفكر أو أعمال الملوك والأمراء والحكام، أو إهمال تاريخ من أهمل ذكرهم "مؤرخو البلاط". وبهذا المعنى ان تأثير ماركس على كتابة التاريخ في القرن العشرين واسع جداً ولكن بنفس القدر غير متزمت أو عقائدي، يسمح بالانتقاء والتركيز حسب المعطيات (data) الموجودة لدى المؤرخ من وثائق أو وقائع أو مواد أولية أخرى.

هذا إضافة إلى تأثير ماركس المباشر على مدارس محددة في كتابة التاريخ من مدارس وتيارات القرن العشرين.

ويمكن الإشارة هنا إلى الارتباط بين وصف ماركس لظاهرة الحداثة (modernity) وبين بعض عناصر تيارات "ما بعد الحداثة" (postmodernism) التي راجت في نهاية القرن العشرين. وترى بعض هذه التيارات سلالتها الفكرية في أعمال عدد من المفكرين من بينهم نيتشه (توفي 1900). فعندما يقول نيتشه: "ماذا فعلنا عندما اعتقنا الأرض من شمسها؟... إلى أي مكان نتجه الآن... هل بقي ما هو فوق وما هو تحت؟" من: (Gay Science)، يفهم كتّاب ما بعد الحداثة هذا على انه إدراك مبكر لمفكر ذي نظر ثاقب لعناصر أساسية لظاهرة ما بعد الحداثة، والتي يحتفلون بها، كالتجزئة (fragmentation)، والزوال (ephemerality)، وعدم الثبات والتغيير المستمر، سواء كان ذلك في نطاق القيم أو المعايير أو في نطاق المعرفة والقبول بعدم إمكانية اليقين فيها، أو نقد أطر التفسير (explanatory frameworks) التي اُعتُقِدَ انها تصلح عبر الأزمنة ولمختلف الثقافات. ونجد هنا بعض العناصر المشتركة (وان لم يكن جميعها) بين الحداثة وما بعد الحداثة، إذ تشكل الأخيرة امتداداً كمياً ونوعياً للأولى في مضامين متنوعة مثل الفن والعمارة والأدب والفكر بشكل عام، وبشكل متجذر وناقد للحداثة في عناصرها الأخرى خاصة المعرفية منها المتعلقة بتفسير التغيير في المجتمع وفي التاريخ.

وبقدر أكبر من النظر الثاقب والإحاطة والشمول رصد ماركس أيضا هذه العناصر للحداثة بعد ان وضعها في إطارها التاريخي الذي يفسرها دون بتر أو اجتزاء كظواهر محض ثقافية أو فكرية ذات فاعلية سببية مستقلة.

يقول ماركس في معرض وصفه للتغيير الجذري الذي حدث بفعل الرأسمالية الصناعية: "... هذا التزعزع الدائم في كل العلاقات الاجتماعية، وهذا التحرك المستمر وانعدام الاطمئنان على الدوام... كل العلاقات الاجتماعية التقليدية الجامدة وما يحيط بها من مواكب المعتقدات والأفكار... تنحل وتندثر؛ اما التي تحل محلها فتشيخ ويتقادم عهدها قبل ان يصلب عودها. وكل ما كان صلباً ثابتاً يطير ويتبدد كالدخان..."

غير ان ماركس اعتقد بوجود أطر ومنطلقات تصلح لتفسير ما هو متغير في أزمنة وحقب شتى. وبهذا ينتمي ماركس إلى عصره والى العصر الذي ما زال يمكث فيه العديد منا، خاصة من الذين ما زالوا يطمحون إلى الدخول في مرحلة الحداثة.


د. جورج جقمان


---------------------------

مختارات :

كارل ماركس: رأس المال (نقد الاقتصاد السياسي)


الكتاب الأول: عملية إنتاج الرأسمال
القسم السابع: عملية تراكم رأس المال
الفصل الرابع والعشرون: ما يسمى بالتراكم الأولي
6- منشأ الرأسمالي الصناعي
ان منشأ الرأسمالي الصناعي[3] لم يمض في مسار تدريجي كالذي تميز به منشأ المزارع. ولا ريب في ان بعض صغار معلمي الطوائف الحرفية، إضافة إلى عدد اكبر من صغار الحرفيين المستقلين، بل حتى العمال المأجورين، قد تحولوا إلى رأسماليين صغار، ثم تحولوا، بتوسيع نطاق استغلال العمل المأجور تدريجياً، وتوسيع تراكم رأس المال بالمقابل، إلى رأسماليين san phrase [بدون تحفظات]. في عهد طفولة الإنتاج الرأسمالي، كانت الأمور تجري في الغالب كما في عهد طفولة مدن القرون الوسطى، حيث كانت مسألة أي من الأقنان الهاربين ينبغي ان يكون رب عمل وأيهم يكون خادماً، تُبَت، عادةً، حسب تاريخ فرار القِن من سيده، أيهم اقدم وأيهم احدث عهداً بالفرار. بيد ان هذه الطريقة البطيئة بطء السلحفاة لم تكن تتناسب، بأية صورة، مع المتطلبات التجارية للسوق العالمية الجديدة التي خلقتها الاكتشافات العظمى في نهاية القرن الخامس عشر. ان العصور الوسطى خلفت شكلين متميزين من رأس المال، نضجا في اكثر التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية تبايناً، وكان يعتبران، قبل حلول حقبة الأسلوب الرأسمالي للإنتاج، بمثابة رأسمال على العموم، وهما رأس المال الربوي، ورأس المال التجاري.

"في الوقت الحاضر، تذهب ثروة المجتمع كلها إلى يد الرأسمالي أولا... فيدفع إلى مالك الأرض ريعه، وإلى العامل أجره، وإلى جباة الضرائب والعشور ما يطلبون، ويحتفظ من الناتج السنوي الذي يخلقه العمل بقسم كبير، بل بالقسم الأكبر الذي يتنامى باستمرار. ويمكن القول الآن ان الرأسمالي هو أول من يملك كل الثروة الاجتماعية، رغم انه لا يوجد قانون يضمن له الحق في هذه الملكية... وهذا التحول في ميدان الملكية قد تحقق بفعل اخذ الفائدة المئوية عن رأس المال... وليس من الغريب في شيء ان جميع المشرعين في أوروبا سعوا لمنع ذلك بالقوانين المضادة للربا... ان سلطة الرأسماليين على مجمل ثروة البلاد تؤلف ثورة كاملة في حق الملكية، فبأي قانون، أو بأي سلسلة قوانين تحققت هذه الثورة؟"[4]

كان حرياً بالمؤلف ان يعرف ان الثورات لا تصنعها القوانين أبداً.

لقد كان النظام الإقطاعي في الريف، ونظام الطوائف الحرفية في المدن، يمنعان رأس المال النقدي، الذي نشأ عن طريق الربا والتجارة، من التحول إلى رأسمال صناعي[5]. وتلاشت هذه الأغلال بانحلال زمر الخدم الأتباع للإقطاعي، وبانتزاع ملكية سكان الريف وطرد قسم منهم. لقد انبثقت المانيفاكتورات الجديدة في مرافئ التصدير البحرية أو في نقاط على البر الداخلي، بعيداً عن سيطرة المدن القديمة وأنظمة طوائفها الحرفية. من هنا منشأ الصراع الضاري الذي خاضته corporate towns [مدن الطوائف الحرفية] في إنكلترا ضد هذه المنابت الجديدة الصناعة.

ان اكتشاف مناجم الذهب والفضة في أمريكا، واقتلاع سكانها الأصليين من مواطنهم واستعبادهم ودفنهم أحياء في المناجم، وبدايات غزو ونهب الهند الشرقية[6]، وتحويل إفريقيا إلى ساحة محمية لصيد ذوي البشرة السوداء، ان ذلك كله يميز فجر عهد الإنتاج الرأسمالي. ان هذه العمليات الرغيدة هي العناصر الرئيسية للتراكم الأولي. ثم جاءت في أعقابها، الحرب التجارية التي خاضتها الأمم الأوروبية جاعلة الكرة الأرضية ساحتها. فقد اندلعت بانفصال هولندا عن أسبانيا، واتخذت أبعاداً هائلة في حرب إنكلترا ضد اليعاقبة[7]، وما تزال مستعرة في حروب "الأفيون" ضد الصين، وهلم جراً.

وتتوزع مختلف عناصر التراكم الأولي، في تسلسل زمني متعاقب إلى هذا الحد أو ذاك، بين مختلف البلدان، وبخاصة أسبانيا والبرتغال وهولندا وفرنسا وإنكلترا. وقد اندمجت في إنكلترا، نحو أواخر القرن السابع عشر، في مجموع منتظم يشمل معاً نظام المستعمرات، ونظام الاقتراض الحكومي، ونظام الضرائب الحديث، ونظام الحماية الجمركية. واعتمدت هذه الطرائق، في جانب منها، على العنف الوحشي، كالنظام الاستعماري مثلاً. ولكنها جميعاً تستخدم سلطة الدولة، أي العنف المنظم والمركز في المجتمع، بغية إنماء عملية تحويل الأسلوب الإقطاعي للإنتاج إلى أسلوب رأسمالي، وتقليص مراحله الانتقالية. ان العنف هو قابلة كل مجتمع قديم يحمل في أحشائه مجتمعاً جديداً. ان العنف هو، ذاته، قوة اقتصادية.

وبصدد النظام الاستعماري المسيحي، يقول و. هاوويت، وهو الذي اتخذ من المسيحية اختصاصاً له:

"ان الأعمال الوحشية والفظائع البشعة التي ارتكبتها ما يسمى بالعروق المسيحية، في مختلف أرجاء المعمورة، وضد جميع الشعوب التي استطاعت ان تخضعها لسلطانها، لا مثيل لها عند أي عرق آخر، مهما بلغ به العنف والجهل، ومهما بلغ من القسوة والوقاحة، في أي عصر من عصور التاريخ."[8]

ان تاريخ الاقتصاد الاستعماري الهولندي، وهولندا هي نموذج البلد الرأسمالي في القرن السابع عشر، "يعرض للأنظار صورة لا مثيل لها من الخيانة والرشاوى والمذابح والسفالة"[9]. ولا أدل على ذلك من أسلوبهم في سرقة البشر في جزيرة سيليب للحصول على عبيد لأجل جزيرة جاوا. وكان يجري تدريب لصوص البشر خصيصا لهذا الغرض. وكان هذا اللص، والمترجم والبائع، هم المشاركين الرئيسيين في هذه التجارة، وكان الأمراء المحليون هم الباعة الرئيسيين. وكان الفتيان المسروقون يرزحون في زنزانات سرية في سيليب، حتى يبلغون السن المناسبة لشحنهم في سفن نقل العبيد. وقد ورد في أحد التقارير الرسمية:

"ان مدينة ماكاسار وحدها، على سبيل المثال، ملأى بسجون سرية، وأحدها أفظع من الآخر، تغص بالمنكوبين، ضحايا الجشع والاستبداد، وهم مثقلون بالقيود، بعد ان انتزعوا من أهلهم عنوة".

ومن اجل الاستيلاء على ملقة، عمد الهولنديون إلى رشوة حاكمها البرتغالي. وقد فتح لهم هذا أبواب المدينة عام 1641. فهرعوا إلى منزله في الحال وقتلوه غيلة، لكي "يتقشفوا" في دفع ثمن الخيانة البالغ 21.875 جنيهاً. وما ان تطأ أقدامهم أرضاً، حتى يحل بها الخراب ويقل سكانها. لقد كان [عدد] سكان بانيوفانغي، إحدى مقاطعات جاوا، يناهز 80 ألف نسمة عام 1750، اما عام 1811 فلم يبق منهم سوى 8 آلاف. ما الطف هذه التجارة!

لقد حصلت شركة الهند الشرقية الإنكليزية، كما هو معروف، إلى جانب السلطة السياسية لحكم الهند الشرقية، على الاحتكار المطلق لتجارة الشاي، إضافة إلى احتكار التجارة مع الصين عموماً، واحتكار نقل البضائع من أوروبا واليها. ولكن الملاحة قرب سواحل الهند وبين الجزر، وكذلك التجارة داخل الهند، كانتا احتكاراً مقصوراً على كبار موظفي الشركة. وكان احتكار الملح والأفيون والتامول وغير ذلك من السلع مصدر ثراء لا ينضب. وكان الموظفون ذاتهم يقررون الأسعار، وينهبون الهنود التعساء على هواهم. وكان الحاكم العام يشارك في هذه التجارة الخاصة. وكان المقربون إليه يحظون بالعقود وفق شروط تتيح لهم، خيراً من السيمائيين، ان يصنعوا الذهب من العدم. وكانت ثروات طائلة تنبت كالفطر في نهار واحد، بينما يمضي التراكم الأولي قدماً دون تسليف شلن واحد. وتزخر محاكمة "وارن هاستغس" بحالات من هذا النوع. إليكم مثالاً واحداً منها: كان عقد الأفيون قد رسا على شخص يدعى ساليفان لحظة سفره في مهمة رسمية إلى منطقة نائية في الهند تبعد كثيراً عن مناطق زراعة الأفيون. فباع ساليفان عقده إلى آخر يدعى "بين" بمبلغ 40 ألف جنيه إسترليني، فباعه "بين" بدوره لقاء 60 ألف جنيه في اليوم ذاته. اما آخر من اشترى العقد ونفذه فقد أعلن انه حقق، بعد كل هذا، مكسباً ضخماً. واستناداً إلى إحدى الوثائق التي رفعت إلى البرلمان، أرغمت الشركة وموظفوها، بين أعوام 1757 - 1766، الهنود على تقديم هدايا تبلغ قيمتها 6 ملايين جنيه. وقد دبر الإنكليز، في عامي 1769 و 1770، مجاعة مفتعلة عن طريق شراء محصول الرز كله، رافضين بيعه ثانية الا بأسعار خيالية[10].

وكانت معاملة السكان الأصليين، بالطبع، افظع ما يكون في المستعمرات الزراعية المكرسة لتجارة التصدير فقط، مثل الهند الغربية، وكذلك في البلدان الغنية والمكتظة بالسكان، مثل المكسيك والهند الشرقية، التي وقعت في براثن النهب. غير ان الطابع المسيحي للتراكم الأولي تجلى حتى في المستعمرات بالمعنى الدقيق للكلمة. ان بيوريتانيي نيوانكلند، أطهار البروتستانتية الرزينة هؤلاء، قرروا في Assembly (جمعيتهم التشريعية) عام 1703، تقديم مكافأة مقدارها 40 جنيهاً عن سلخ فروة رأس كل هندي احمر، وعن كل أسير من الهنود الحمر، وفي عام 1720 ارتفعت مكافأة فروة الرأس المسلوخة إلى 100 جنيه؛ اما في عام 1744، وبعد ان اعتبرت إحدى القبائل في منطقة خليج ماساشوسيتس متمردة، وضعت الأسعار التالية: فروة رأس ذكر عمره 12 عاماً فما فوق تساوي 100 جنيه بالعملة الجديدة، أسير من الرجال 105 جنيهات، أسيرة من النساء أو طفل 55 جنيهاً، فروة رأس امرأة أو فروة رأس طفل 50 جنيهاً! وبعد عدة عقود من السنين اخذ النظام الاستعماري ثأره من أحفاد أولئك pilgrim fathers [الأجداد الحجاج] الورعين، الذين باتوا بدورهم متمردين. فبرشوة من الإنكليز وبتأليب منهم فتك بهم الهنود الحمر بالفؤوس. وأعلن البرلمان البريطاني ان الكلاب الدموية وسلخ فروة الرأس "وسائل وضعها الرب والطبيعة بين يديه".

لقد انضج النظام الاستعماري نمو التجارة والملاحة. وغدت "الشركات الاحتكارية"، على حد تعبير لوثر، رافعات جبارة لتركز رأس المال. وضمنت المستعمرات سوقاً للتصريف بالنسبة للمانيفاكتوارت الناشئة بسرعة، اما احتكار السوق هذا فقد ضمن مضاعفة التراكم. ان الكنوز المنتزعة من خارج أوروبا، بالسطو السافر، واستعباد السكان المحليين وقتلهم، تدفقت على البلد الأم وتحولت فيه إلى رأسمال. وقد بلغت هولندا التي كانت السباقة إلى تطوير النظام الاستعماري تطويراً كاملاً، ذروة عظمتها التجارية عام 1648.

"كانت هولندا تحتكر، لوحدها تقريباً، تجارة الهند الشرقية، والتبادل التجاري بين جنوب غربي أوروبا وشمالها الشرقي. وكانت مصائد أسماكها، وملاحتها، ومانيفاكتوراتها تفوق ما يملكه أي بلد آخر منها. ولربما كان إجمالي رأسمال هذه الجمهورية اكبر من رؤوس أموال بقية بلدان أوروبا مجتمعة".

وينسى غوليخ، كاتب هذه الأسطر، ان يضيف بأن الجماهير الشعبية في هولندا كانت، في عام 1648 تعاني من العمل المفرط، والفقر، والقمع الوحشي، اكثر مما كانت تعانيه الجماهير الشعبية في بقية بلدان أوروبا مجتمعة.

ان الهيمنة الصناعية في يومنا هذا تجر معها الهيمنة التجارية. اما في عهد المانيفاكتورة، بالمعنى الدقيق للكلمة، فقد كانت الهيمنة التجارية، بعكس ذلك، هي التي تمنح التفوق الصناعي. ومن هنا جاء ذلك الدور الحاسم الذي لعبه النظام الاستعماري آنذاك. فقد كان هو "الإله الغريب" الذي صعد المحراب ووقف إلى جانب آلهة أوروبا القدامى، ورماهم جميعاً ذات نهار جميل برفسة واحدة إلى قارعة الطريق. وأعلن النظام الاستعماري ان كسب المغانم هو الهدف النهائي والوحيد للبشرية.

ان نظام الائتمان العمومي، أي ديون الدولة الذي نجد براعمه في جنوا والبندقية منذ القرون الوسطى، قد استحوذ على أوروبا بأسرها، في المرحلة المانيفاكتورية. وكان النظام الاستعماري، بتجارته البحرية وحروبه التجارية، بمثابة دفيئة لنظام الائتمان ذاك. وهكذا ضرب جذوره في هولندا في بادئ الأمر. ان دين الدولة، أي نزع الملكية في صالح الدولة، سواء كانت استبدادية، ام دستورية، ام جمهورية، هو ما يَسِمُ الحقبة الرأسمالية بميسمه. والجزء الوحيد مما يسمى بالثروة الوطنية الذي يُعتبر فعلاً ملكاً جماعياً للشعوب المعاصرة هو ديون دولها[11]. لذلك فان المذهب الحديث القائل بأن شعباً من الشعوب يزداد ثراء بقدر ما يكون دينه اكبر هو مذهب منطقي تماماً. ويغدو الائتمان العمومي العقيدة التي يعتنقها رأس المال. وبنشوء مديونية الدولة، يغدو الإخلال بالثقة في دين الدولة لا التجديف على الروح القدس، خطيئة لا تغتفر.

ان الدين العمومي يصبح واحداً من أقوى الروافع الجبارة للتراكم الأولى. فهو يمنح النقود العاقر، كما لو بلمسة عصا سحرية، القدرة على الإنجاب، ويحولها بذلك إلى رأسمال، قاضياً على أية حاجة لتعرضها إلى المتاعب والأخطار الملازمة لتوظيفها في الصناعة، أو حتى في أعمال الربا. ان دائني الدولة، لا يعطون شيئاً في الواقع، فالمبالغ التي يفرضونها تتحول إلى سندات دين حكومية، يسيرة التداول، تظل تعمل بين أيديهم مثلما تعمل النقود الفعلية تماماً. ولكن، عدا عن خلق طبقة من الريعيين (renters) المتكاسلين، وعدا عن الثروة المرتجلة التي يجنيها الماليون الذين يلعبون دور الوسيط بين الحكومة والأمة، وكذلك عدا عن متعهدي جباية الضرائب، والتجار، والصناعيين الخاصين، الذي يذهب إليهم جزء كبير من كل قرض حكومي كرأسمال يهبط من السماء، عدا عن ذلك كله فان دين الدولة أدى إلى نشوء الشركات المساهمة، والمتاجرة بالأوراق المالية من كل نوع، والمضاربة بها، وباختصار نشوء المقامرة في البورصة والطغمة المصرفية المعاصرة.

ان البنوك الكبرى، التي توشحت بألقاب وطنية، لم تكن منذ ولادتها سوى شركات من المضاربين الخاصين الذين قدموا المساعدة للحكومات؛ وكان بمقدورهم ان يسلفوها نقوداً بفضل الامتيازات التي حظوا بها. لذا لم يكن ثمة معيار لقياس تراكم ديون الدولة أدق من الارتفاع المتعاقب لأسهم هذه البنوك، التي يرجع تاريخ ازدهارها إلى تأسيس بنك إنكلترا (عام 1694). لقد ابتدأ بنك إنكلترا عمله بإقراض الحكومة بفائدة مقدارها 8%، وكان مخولاً من البرلمان، في الوقت نفسه، بسك العملة من هذا الرأسمال عينه الذي كان يقرضه ثانية إلى الجمهور بصيغة البنكنوت. وأجيز البنك ان يستخدم هذه البنكنوت لخصم الكمبيالات وتقديم السلف على البضائع، وشراء المعادن الثمينة. ولم يمض وقت طويل حتى غدت هذه النقود الائتمانية، التي أصدرها البنك بنفسه، العملة التي يقدم بها بنك إنكلترا القروض إلى الدولة، ويدفع بها، بالنيابة عن الدولة، الفائدة المئوية عن ديون الدولة. ولم يكن البنك يعطي بهذه اليد ليأخذ اكثر بكثير باليد الأخرى فحسب، بل ظل، حتى وهو يقبض، الدائن الأبدي للامة حتى استيفاء آخر شلن مسلف. وبالتدريج اصبح، بالضرورة، خازن الكنوز المعدنية في البلاد، ومركز الجاذبية لكل عمليات الائتمان التجاري. وعندما توقف سكان إنكلترا عن إحراق الساحرات، بدأوا يشنقون مزوري البنكنوت. اما أي انطباع ولده لدى أهل ذلك العهد الظهور المباغت لهذا النسل من طغمة المصرفيين، والماليين، والريعيين، والسماسرة، ومضاربي الأسهم وذئاب البورصة... الخ، فذلك ما تبينه مؤلفات ذلك العهد، مثل كتابات بولينغبروك[12].

ومع ديون الدولة، ظهر نظام الائتمان العالمي، الذي غالباً ما يعتبر مصدراً من مصادر التراكم الأولى الخفية عند هذا الشعب أو ذاك. هكذا نجد ان دناءات نظام النهب لمدينة البندقية شكلت ركيزة خفية من هذا النوع لنمو ثروة الرأسمال في هولندا، التي اقترضت من البندقية، الآخذة في الانهيار، مبالغ كبيرة من النقد. وكذلك كان أمر العلاقة بين هولندا وإنكلترا. ففي مطلع القرن الثامن عشر، تخلفت المانيفاكتوارات الهولندية عن مانيفاكتوارت إنكلترا كثيراً، وكفت هولندا عن ان تتبوأ مركز الأمة السائدة في التجارة والصناعة. وهكذا اصبح إقراض رساميل ضخمة، وبخاصة لمنافستها الجبارة إنكلترا، أحد اتجاهات الأعمال الرئيسية بالنسبة لها بين أعوام 1701 و 1776. وقد نشأت مثل هذه العلاقات اليوم بين إنكلترا والولايات المتحدة فان كثيرا من الرساميل العاملة اليوم في الولايات المتحدة، دون ان تحمل شهادة ميلاد، ليست الا دماء الأطفال التي تحولت، بالأمس فقط، إلى رأسمال في إنكلترا.

وبما ان ديون الدولة ترتكز على دخولها، التي ينبغي ان تغطي مدفوعات الفوائد المئوية السنوية وسواها من المدفوعات، فقد اصبح نظام الضرائب الحديث التكملة الضرورية لنظام قروض الدولة، ان القروض تتيح للحكومة ان تغطي النفقات الاستثنائية دون ان تجعل دافع الضرائب يشعر بكل عبثها فوراً، ولكنها تقضي في آخر المطاف بزيادة الضرائب. ومن جهة أخرى فان زيادة الضرائب بسبب تنامي الديون المستمر، ترغم الحكومة، دوماً، على اللجوء المتكرر إلى أخذ قروض أخرى فأخرى لتغطية النفقات الاستثنائية الجديدة. وبالتالي فان نظام المالية المعاصر، الذي يرتكز محوره على الضرائب المفروضة على اكثر وسائل المعيشة ضرورة ( مما يرفع أسعارها) يضم في أحشائه جنين تنامي الضرائب التلقائي. ان فرض الضرائب الفاحشة، ليس استثناء عابراً، بل هو بالأحرى القاعدة المبدئية. ففي هولندا، حيث ترسخ هذا النظام أولاً، قام الوطني الكبير "دي ويت" بتمجيده في مؤلفه "المبادئ" بوصفه افضل طريقة تجعل العامل المأجور مذعناً، مقتصداً، مثابراً، صبوراً على العمل المفرط. الا ان الأثر المدمر الذي يخلفه نظام المالية المعاصر على وضع العمال المأجورين لا يهمنا، هنا، قدر اهتمامنا بالنزع القسري، الناجم عنه، لملكية الفلاحين، والحرفيين، وباختصار جميع عناصر البرجوازية الصغيرة. وليس ثمة اثنان يختلفان بهذا الخصوص حتى بين الاقتصاديين البرجوازيين. ان فِعلَ نظام المالية في نزع الملكية يشتد اكثر بفضل نظام الحماية الجمركية، الذي يؤلف بدوره أحد أقسامه المكونة.

ان الدور الكبير الذي يلعبه الدين العمومي ونظام المالية المطابق له، في تحويل الثروة إلى رأسمال، ونزع ملكية الجماهير، قاد كثيراً من الكتاب، مثل كوبيت ودبلداي وآخرين، إلى ان يروا فيهما، بصورة خاطئة، السبب الأول لبؤس الشعوب المعاصرة.

لقد كان نظام الحماية الجمركية وسيلة مصطنعة لخلق الصناعيين، وانتزاع ملكية الشغيلة المستقلين، وتحويل وسائل الإنتاج والمعيشة الوطنية إلى رأسمال، واختزال فترة الانتقال من الأسلوب القديم للإنتاج إلى الأسلوب الحديث بصورة قسرية. لقد مزقت الدول الأوروبية بعضها البعض إرباً بسبب براءة هذا الاختراع، وما ان دخلت في خدمة فرسان الكسب، حتى لم تعد تكتفي، تحقيقاً لهذه الغاية، بسرقة شعوبها هي، بصورة غير مباشرة عن طريق رسوم الحماية الجمركية، وبصورة مباشرة عن طريق مكافآت التصدير.. الخ بل افتعلت بالقوة، جميع الصناعات في البلدان المجاورة التابعة لها، كما فعلت إنكلترا، مثلاً، بصناعة الصوف الايرلندية. ولقد جرت هذه العملية في القارة الأوروبية ببساطة اكبر، إقتداء بمثال كولبير. فقد تدفق جزء كبير من رأس المال الأولى هنا، إلى الصناعيين من خزينة الدولة مباشرة.

فهتف ميرابو قائلا: لماذا تذهبون بعيداً بحثاً عن سبب ازدهار مانيفاكتورات ساكسونيا قبل حرب السبع سنوات؟ يكفيكم ان تنظروا إلى المائة وثمانين مليوناً من دين الدولة"[13].

النظام الاستعماري، الديون العمومية، نير الضرائب، الحماية الجمركية، الحروب التجارية، وما شاكل ذلك. هذه هي النبتات التي أنتجتها مرحلة المانيفاكتورة الحقيقية، والتي نمت نمواً عملاقاً خلال عهد طفولة الصناعة الكبيرة. ويقترن ميلاد هذه الأخيرة بخطف الأطفال الواسع النطاق على طريقة هيرودس. وعلى غرار الأسطول الملكي، تجند المصانع عمالها بالإكراه. ومهما كانت لا مبالاة السير ف. م. ايدن إزاء أهوال انتزاع أراضى السكان الزراعيين ابتداء من الثلث الأخير للقرن الخامس عشر حتى أيامه في أواخر القرن الثامن عشر، ومهما كان رضاه وابتهاجه بهذه العملية "الضرورية" لإقامة الزراعة الرأسمالية وإقامة "التناسب الصحيح بين الأراضي المحروثة والمراعي"_ إلا ان حتى السير ايدن لا يسمو إلى مثل هذا الفهم للضرورة الاقتصادية القائلة بسرقة الأطفال واستعبادهم بغية تحويل الإنتاج المانيفاكتوري إلى إنتاج فابريكي، وإقامة التناسب الصحيح بين رأس المال وقوة العمل. يقول ايدن:

"لعل ما يستحق استرعاء انتباه الجمهور هو مسألة هل ان الصناعة التي تعمد، لكي تعمل بنجاح، إلى خطف الأطفال المساكين من الأكواخ ومأوى العمل، إلى تشغيلهم على دفعات متناوبة خلال القسم الأعظم من الليل فتسلبهم الراحة التي يحتاجونها اكثر من غيرهم، رغم انها لازمة للجميع، و إلى خلط أعداد كبيرة من الجنسين، ومن أعمار وميول مختلفة، في كومة واحدة مما يؤدي، بالضرورة، إلى استشراء التهتك والفسوق إقتداء بالنماذج السيئة، هل ان مثل هذه الصناعة تستطيع ان تزيد مبلغ السعادة الوطنية والفردية؟"[14]ويقول فيلدن "في ديربيشاير وتوتنغهامشاير، وبخاصة في لانكشاير، استخدمت الماكينات المخترعة حديثاً في فبارك كبيرة شيدت على ضفاف الجداول القادرة على تدوير العجلة المائية. واقتضت الحاجة، بغتة، آلافاً من الأيدي العاملة في هذه العاملة في هذه الأماكن القصية عن المدن، كانت لانكشاير، بوجه خاص، الضئيلة السكان والمجدبة نسبياً آنذاك، في حاجة ماسة إلى السكان اكثر من أي شيء آخر. ولما كانت الحاجة إلى أنامل الأطفال الصغيرة، البارعة، هي الأشد، فسرعان ما أصبحت عادة اخذ متمرنين (!) من مختلف مأوي العمل في ابرشيات لندن وبرمنغهام، وغيرهما. وسيقت إلى الشمال آلاف وآلاف من هذه المخلوقات اليافعة، سيئة الطالع، التي تتراوح أعمارها بين 7 إلى 13 أو 14 عاماً. وجرت العادة ان يتكفل "رب العمل" (أي سارق الأطفال) باكساء المتمرنين وإطعامهم وإيوائهم في "بيت المتمرنين"، قرب الفابريكة؛ وجرى تعيين مراقبين للإشراف على العمل، وكانت مصلحة هؤلاء تكمن في ان يرغموا الأطفال على العمل إلى أقصى حد، لان أجرهم كان يتوقف على كمية العمل التي يعتصرونها من الأطفال. كانت قسوة المعاملة عاقبة طبيعية. وفي الكثير من الدوائر الصناعية، وبوجه خاص، في لانكشاير، ثمة قساوات تقطع انياط القلب، تمارس إزاء هذه المخلوقات الوديعة، التي لا نصير لها، بعد ان وضعت في عهدة رب العمل الصناعي. لقد كانت تنهك بالعمل المفرط إلى شفا الموت... وكانت تجلد، وتقيد بالأغلال، وتسام اشد ألوان العذاب تفنناً... وكانت تساق إلى العمل بالسياط بينما هي تتضور جوعاً... وفي بعض الأحيان كانت تدفع حتى إلى الانتحار!.. ان الوديان الرومانتيكية الجميلة في ديربيشاير ونوتنغهامشاير ولانكشاير، المحجوبة عن أية مراقبة من جانب المجتمع، قد تحولت إلى قفر موحش تمارس فيه جرائم التعذيب، وكثير من جرائم القتل!.. كان الصناعيون يجنون أرباحاً لا حدود لها، فبدءوا يمارسون العمل الليلي، أي انهم يدفعون وجبة من العمال للعمل طول الليل محل وجبة العمال التي أنهكت من العمل طوال النهار. وكانت الوجبة النهارية تأوي إلى الأسرة التي تركتها الوجبة الليلية تواً، و vice versa (والعكس بالعكس). وثمة تقليد شائع في لانكشاير يقضي بألا تدع الأسرة تبرد".[15]

وبتطور الإنتاج الرأسمالي خلال المرحلة المانيفاكتورية، فقد الرأي العام في أوروبا آخر نقطة من الحياة والضمير. وصارت الأمم تتفاخر، في وقاحة، بكل عمل شائن يخدمها كوسيلة للتراكم الرأسمالي. لنقرأ مثلاً، تاريخ التجارة الساذج، للرجل المستقيم أ. اندرسون. انه يصدح بالمديح لما يسميه انتصار البراعة السياسية الإنكليزية، لان إنكلترا، عند عقد صلح "أوترخت"، انتزعت من أسبانيا، بموجب معاهدة اسينتو، امتياز المتاجرة بالزنوج بين إفريقيا وأمريكا الأسبانية، بعد ان كانت هذه المتاجرة محصورة حتى ذلك الحين بين إفريقيا والهند الغربية الإنكليزية. ونالت إنكلترا بذلك الحق في تزويد أمريكا الأسبانية بــ 4800 زنجي سنوياً حتى عام 1743. وقد أضفى ذلك ستاراً رسمياً، في الوقت نفسه، لإخفاء تجارة التهريب البريطانية. وسمنت ليفربول من تجارة العبيد. وكانت تلك وسيلتها لتحقيق التراكم الأولى. وما يزال "أعيان" ليفربول، حتى يومنا هذا، بمثابة بنداروس يمدح تجارة العبيد التي (راجع مؤلف ايكن الصادر في 1795 الذي استشهدنا به من قبل) "تحول روح المبادرة التجارية إلى ولع وتنشئ البحارة الجسورين وتحمل أرباحاً عظيمة". وقد استخدمت ليفربول في تجارة العبيد 15 سفينة عام 1730 و53 عام 1751، و74 عام 1760، و96 عام 1770، و132 عام 1792.

وبينما أدخلت صناعة القطن عبودية الأطفال في إنكلترا، فإنها أعطت الولايات المتحدة دافعاً يحفز تحويل الاقتصاد العبودي الذي كان يتسم من قبل بطابع أبوي، بهذا القدر أو ذاك، إلى نظام استغلالي تجاري. وعموماً، ان العبودية المموهة للعمال المأجورين في أوروبا كانت بحاجة إلى العبودية sans phrase [بدون تحفظات] في العالم الجديد، كقاعدة ارتكاز[16].

لقد Tant** molis erat [اقتضى الأمر مثل هذا المجهود] كي تولد "القوانين الطبيعية الأزلية" للأسلوب الرأسمالي للإنتاج، وتتحقق عملية فصل العمال عن شروط عملهم، وتتحول وسائل الإنتاج والمعيشة الاجتماعية إلى رأسمال في هذا القطب، وتتحول جماهير السكان في القطب المعاكس من عمال مأجورين، إلى "فقراء عاملين" أحرار؛ هذا النتاج العجيب الذي اصطنعه التاريخ الحديث [17]. وإذا كانت النقود، حسب قول اوجيه [18]، "تجيء إلى الدنيا وعلى خدها لطخة دم بالولادة"، فان رأس المال يولد وهو ينزف دماً وقذارة، من جميع مسامه، من رأسه وحتى أخمص قدميه [19].


7- الميل التاريخي للتراكم الرأسمالي

إذن، ما هو فحوى التراكم الأولى لرأس المال، أي منشؤه التاريخي؟ فبما ان هذا التراكم ليس تحولاً مباشراً للعبيد الأرقاء والأقنان إلى عمال مأجورين، وليس بالتالي مجرد تبدل في الشكل، فانه لا يعني سوى انتزاع ملكية المنتخبين المباشرين، أي انحلال الملكية الخاصة القائمة على العمل الشخصي لمالكها.

ان الملكية الخاصة، بوصفها نقيض الملكية الاجتماعية الجماعية، لا توجد الا حيث تكون وسائل العمل والشروط الخارجية للعمل ملكاً لأفراد خاصين. بيد ان طابع الملكية الخاصة هذا يختلف تبعاً لكون هؤلاء الأفراد شغيلة أم غير شغيلة. ان التلاوين التي لا تحصى والتي نراها في الملكية الخاصة لأول وهلة، لا تعكس غير الأوضاع الوسيطة الواقعة بين هذين القطبين المتضادين.

ان ملكية الشغيل الخاصة لوسائل إنتاجه هي قاعدة الإنتاج الصغير، والإنتاج الصغير بدوره، هو الشرط الضروري لتطور الإنتاج الاجتماعي والشخصية الفردية الحرة للشغيل نفسه. وبالطبع فان أسلوب الإنتاج هذا كان قائماً في ظل العبودية والقنانة وغيرهما من أشكال التبعية الشخصية. ولكنه لا يزدهر، ولا يطلق العنان لكامل طاقاته، ولا يبلغ شكله الكلاسيكي الوافي، الا حيثما يكون الشغيل هو المالك الخاص الحر لشروط عمله الخاصة التي يستخدمها بنفسه، حيث يكون الفلاح مالكاً للأرض التي يزرعها، والحرفي للأدوات التي يستخدمها استخدام القنان الحاذق لأداته.

ويفترض أسلوب الإنتاج هذا، سلفاً، تجزؤ الأرض ووسائل الإنتاج الأخرى. انه يستبعد تركز وسائل الإنتاج هذه، كما يستبعد التعاون وتقسيم العمل في نطاق عملية الإنتاج الواحدة، وسيطرة المجتمع على الطبيعة وتنظيمها اجتماعياً، والتطور الحر للقوى المنتجة الاجتماعية. انه لا يتلاءم الا مع الحدود البدائية الضيقة للإنتاج والمجتمع. والسعي لتخليده يعني كما يقول بيكور بصواب السعي إلى "تعميم المستوى المتوسط بمرسوم". ولكنه يولد، عند مرحلة معينة من تطوره، الوسائل المادية لفنائه هو. ومنذ تلك اللحظة، تبدأ تضطرم في أحشاء المجتمع قوى جديدة ومشاعر جديدة تحس أنها مقيدة بأسلوب الإنتاج هذا. ويقتضي الأمر تدميره، فيدمر. ان تدميره، تحويل وسائل الإنتاج الفردية والمبعثرة إلى وسائل إنتاج اجتماعية مركزة اجتماعياً، وبالتالي تحويل الملكية القزمة للكثرة إلى ملكية عملاقة للقلة، وانتزاع الأرض ووسائل المعيشة وأدوات العمل من الجماهير الشعبية الواسعة، ان هذا الانتزاع المرعب، المؤلم، لملكية الجماهير الشعبية يؤلف المقدمة في تاريخ رأس المال. وينطوي هذا التاريخ على طائفة من الطرائق القسرية، التي لم نعرض منها سوى الطرائق الصانعة لحقبات كاملة، مثل طرائق التراكم الأولى لرأس المال. ان انتزاع ملكية المنتجين المباشرين قد تم بأكثر الأشكال الوحشية قسوة، وبدافع أحط الأهواء وأكثرها مقتاً ودناءة وسُعاراً. ان الملكية الخاصة المكتسبة بعمل مالكها، أي المرتكزة، ان جاز القول، على اندماج الشغيل الفردي المستقل، بأدوات ووسائل عمله، تُزاح من قبل الملكية الخاصة الرأسمالية، التي تقوم على استغلال قوة عمل الغير، الحرة شكلياً[20].

وما ان تكون عملية التحول هذه قد فسخت المجتمع القديم، بدرجة كافية، من حيث السعة والعمق، وما ان يتحول الشغيلة إلى بروليتاريين، ووسائل عملهم إلى رأسمال، وما ان يقف الأسلوب الرأسمالي للإنتاج على قدميه هو، حتى نجد شكلاً جديداً لمواصلة إضفاء الطابع الاجتماعي على العمل ومواصلة تحويل الأرض ووسائل الإنتاج الأخرى إلى وسائل إنتاج مُستمرة اجتماعياً، أي وسائل إنتاج جماعية، وبالتالي لمواصلة انتزاع ملكية المالكين الخاصين. فذلك الذي ينبغي انتزاع ملكيته الآن لم يعد الشغيل الذي يعمل لأجل نفسه بنفسه، بل الرأسمالي الذي يستغل كثيرين من العمال.

ان انتزاع الملكية هذا يتحقق بفعل القوانين الملازمة للإنتاج الرأسمالي نفسه عن طريق تمركز رؤوس الأموال. فالرأسمالي الواحد يقضي على الكثير من أقرانه. وإلى جانب هذا التمركز، أي انتزاع حفنة من الرأسماليين لملكية الكثيرين منهم، يتطور التطبيق التكنيكي الواعي للعلم، والاستثمار المنهجي للأرض، وتحول وسائل العمل إلى وسائل عمل غير قابلة للاستخدام الا بصورة مشتركة، والتوفير في وسائل الإنتاج كافة باستعمالها كوسائل إنتاج لعمل اجتماعي مركب، وإشراك الشعوب كلها في شبكة السوق العالمية، ويتطور كذلك الطابع العالمي للنظام الرأسمالي. وإلى جانب التناقص المستمر لعدد أساطين رأس المال، الذين يغتصبون ويحتكرون كل مزايا عملية التحول هذه، يتسع نطاق البؤس، والاضطهاد، والاسترقاق، والانحطاط، والاستغلال؛ ولكن ينمو في الوقت نفسه عصيان الطبقة العاملة، الطبقة التي يتزايد عددها باستمرار والتي تتعلم وتتحد وتتنظم بفعل آلية عملية الإنتاج الرأسمالي ذاتها. ان احتكار رأس المال يغدو قيداً لأسلوب الإنتاج الذي نما معه وبه. وان تمركز وسائل الإنتاج وجعل العمل اجتماعياً يبلغان ذلك الحد بحيث يأخذان بالتنافر مع إطارهما الرأسمالي. فينفجر هذا الإطار. وتدق ساعة نهاية الملكية الرأسمالية الخاصة. ويجري انتزاع ملكية منتزعي الملكية.

ان الأسلوب الرأسمالي للتملك الناجم عن الأسلوب الرأسمالي للإنتاج، وبالتالي الملكية الرأسمالية الخاصة، هما أول نفي للملكية الخاصة الفردية القائمة على عمل الفرد بالذات. ولكن ا لانتاج الرأسمالي يولد، بحتمية قانون طبيعي عملية من عمليات الطبيعة، ما ينفيه هو نفسه. وهذا نفي النفي. انه لا يعيد الملكية الخاصة، بل الملكية الفردية على أساس إنجازات الحقبة الرأسمالية: أي على أساس التعاون والحيازة المشتركة للأرض ولوسائل الإنتاج التي أنتجها العمل نفسه.

ان تحول الملكية الخاصة المبعثرة، القائمة على عمل مالكيها إلى ملكية رأسمالية خاصة، هو بالطبع عملية أبطأ وأطول واصعب واشق، بما لا يقاس، من تحول الملكية الرأسمالية الخاصة، التي ترتكز واقعياً على عملية الإنتاج الاجتماعية، إلى ملكية اجتماعية. ففي الحالة الأولى كان الأمر يتعلق بقيام حفنة من الغاصبين بانتزاع ملكية الجماهير الشعبية، اما في الحالة الثانية فالمقصود قيام الجماهير الشعبية بانتزاع ملكية حفنة من الغاصبين[21].



ترجمة: فالح عبد الجبار وآخرون


- يتبع -

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:10 PM

تابع ماركس + إنجلز
كارل ماركس وفريدريك إنجلز: مختارات من "البيان الشيوعي"


1. البرجوازيون والبروليتاريون[22]
إن تاريخ جميع المجتمعات[23] إلى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ النضال بين الطبقات.

فالحر والعبد، والنبيل والعامي، والسيد الإقطاعي والقن، والمعلم[24] والصانع، أي بالاختصار المضطهِدون والمضطهَدون، كانوا في تعارض دائم، وكانت بينهم حرب مستمرة تارة ظاهرة وتارة مستترة، حرب كانت تنتهي دائما إما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره واما بانهيار الطبقتين المتصارعتين معا.

وخلال العهود التاريخية السابقة نجد المجتمع في كل مكان تقريبا، مقسما إلى فئات أو مراتب متسلسلة، والأوضاع الاجتماعية على درجات متفاوتة. ففي روما القديمة نجد النبلاء، ثم الفرسان، ثم العامة، ثم الأرقاء؛ في القرون الوسطى نجد الإقطاعيين الأسياد، ثم الإقطاعيين الأتباع، ثم المعلمين، ثم الصناع، ثم الأقنان، ونجد داخل كل طبقة تقريبا من هذه الطبقات مراتب ودرجات خاصة.

أما المجتمع البرجوازي الحديث الذي ولد من أحشاء المجتمع الإقطاعي، فانه لم يقض على التناقضات بين الطبقات، بل أقام طبقات جديدة وظروفا جديدة للاضطهاد وأشكالا جديدة للنضال، بدلا من القديمة.

الا ان الذي يميز عصرنا الحاضر، عصر البرجوازية هو انه جعل التناقضات الطبقية اكثر بساطة: فان المجتمع آخذ في الانقسام اكثر فأكثر، إلى معسكرين فسيحين متعاديين، إلى طبقتين كبيرتين، متعارضتين، هما البرجوازية والبروليتاريا.

فمن أقنان القرون الوسطى نشأ السكان الأحرار في المدن الأولى؛ ومن هذه المرتبة من سكان المدن خرجت أولى عناصر البرجوازية.

ثم كان اكتشاف أمريكا والطريق البحري حول شواطئ إفريقيا الذي قدم للبرجوازية الصاعدة ميدانا جديدا للعمل. فان أسواق الهند والصين واستعمار أميركا والتبادل مع المستعمرات وتعدد وسائل التبادل وتدفق البضائع بوجه عام، كل هذه الأمور دفعت التجارة والملاحة والصناعة إلى الأمام بقوة لم تكن معروفة إلى ذلك الحين، فأمنت بذلك نموا سريعا للعنصر الثوري في المجتمع الإقطاعي الآخذ في الانحلال.

ولم يعد في استطاعة أسلوب الإنتاج الصناعي القديم، الإقطاعي أو الحرفي، ان يلبي الحاجات التي كانت تزداد مع افتتاح الأسواق الجديدة، فحلت المانيفاكتورة محله، وأخذت المرتبة أو الفئة الصناعية المتوسطة مكان المعلمين، واختفى تقسيم العمل بين طوائف الحرف المختلفة أمام تقسيم العمل في قلب الورشة نفسها.

الا ان الأسواق كانت تتسع وتتعاظم دون انقطاع، والطلب يزداد باستمرار، فأصبحت المانيفاكتورة نفسها غير وافية بالحاجة. وعندئذ احدث البخار والآلة انقلابا ثوريا في الإنتاج الصناعي، وحلت الصناعة الكبرى الحديثة محل المانيفاكتورة، وأخلت الفئة الصناعية المتوسطة الميدان لرجال الصناعة أصحاب الملايين، لقواد الجيوش الصناعية الحقيقية أي لبرجوازيي العصر الحاضر.

وخلقت الصناعة الكبرى السوق العالمية التي هيأها اكتشاف أمريكا. وأدت السوق العالمية إلى تطور التجارة والملاحة والمواصلات البرية بصورة هائلة. ثم عاد هذا التطور فأدى بدوره إلى توسيع الصناعة؛ وكلما كانت الصناعة والتجارة والملاحة والسكك الحديدية تتقدم وتنمو، كانت البرجوازية كذلك تنمو وتتعاظم، وتضاعف رساميلها وتدفع إلى الوراء جميع الطبقات التي خلفتها القرون الوسطى.

فالبرجوازية المعاصرة نفسها، كما نرى، هي نتيجة تطور طويل وسلسة من الثورات في أساليب الإنتاج والتبادل. وكانت كل مرحلة من مراحل التطور التي مرت بها البرجوازية يرافقها رقي سياسي مناسب تحرزه هذه الطبقة. فقد كانت البرجوازية في بادئ الأمر فئة أو مرتبة مضطهَدة تحت عسف الإقطاعيين واستبدادهم، ثم كانت رابطة مسلحة تدبر نفسها بنفسها في الكومونة[25]، هنا جمهورية مدينية مستقلة، وهناك فئة ثالثة ضمن المملكة تدفع الجزية للملك، ثم في عهد المانيفاكتورة كانت البرجوازية قوة توازن رجحان قوة النبلاء في الممالك ذات الحكم المقيد أو المطلق وحجر الزاوية للممالك الكبرى بوجه عام، وأخيرا منذ ان توطدت الصناعة الكبرى وتأسست السوق العالمية استولت البرجوازية على كل السلطة السياسية في الدولة التمثيلية الحديثة. فالحكومة الحديثة ليست سوى لجنة إدارية تدير الشؤون العامة للطبقة البرجوازية بأسرها.

لقد لعبت البرجوازية في التاريخ دورا ثوريا للغاية. فحيثما استولت البرجوازية على السلطة سحقت تحت أقدامها جميع العلاقات الإقطاعية والبطركية[26] والعاطفية، وحطمت دون رأفة الصلات المزخرفة التي كانت في عهد الإقطاعية تربط الإنسان "بسادته الطبيعيين" ولم تُبقِ على صلة بين الإنسان والإنسان إلا صلة المصلحة الجافة والدفع الجاف "نقدا وعدا". وأغرقت الحمية الدينية وحماسة الفرسان ورقة البرجوازية الصغيرة في مياه الحساب الجليدية المشبعة بالأنانية، وجعلت من الكرامة الشخصية مجرد قيمة تبادل لا أقل ولا أكثر، وقضت على الحريات الجمة، المكتسبة والممنوحة، وأحلت محلها حرية التجارة وحدها، هذه الحرية القاسية التي لا تشفق و لا ترحم. فهي، بالاختصار، استعاضت عن الاستثمار المقنع بالأوهام الدينية والسياسية باستثمار مكشوف شائن مباشر فظيع.

وانتزعت البرجوازية عن المهن والأعمال التي كانت تعتبر إلى ذلك العهد محترمة مقدسة، كل بهائها ورونقها وقداستها، وأدخلت الطبيب ورجل القانون والكاهن والشاعر والعالم في عداد الشغيلة المأجورين في خدمتها.

ومزقت البرجوازية الحجاب العاطفي الذي كان مسدلا على العلاقات العائلية وأحالتها إلى علاقات مالية بحتة.

وبينت البرجوازية كيف ان الكسل والخمول في القرون الوسطى كانا التتمة الطبيعية لذلك المظهر الفظ للقوة الجسمانية التي تعجب بها الرجعية أيّما إعجاب. والبرجوازية هي أول من أظهر ما يستطيع إبداعه النشاط الإنساني، فقد خلقت عجائب من الفن تختلف كل الاختلاف عن أهرامات مصر والأقنية الرومانية والكنائس الغوطية، وقادت حملات لا تشابه في شيء هجرات الشعوب والحروب الصليبية.

ان البرجوازية لا تعيش الا إذا أدخلت تغييرات ثورية مستمرة على أدوات الإنتاج، وبالتالي على علاقات الإنتاج، أي على العلاقات الاجتماعية بأسرها. وبعكس ذلك، كانت المحافظة على أسلوب الإنتاج القديم، الشرط الأول لحياة الطبقات الصناعية السالفة. فهذا الانقلاب المتتابع في الإنتاج، وهذا التزعزع الدائم في كل العلاقات الاجتماعية وهذا التحرك المستمر وانعدام الاطمئنان على الدوام، كل ذلك يميز عهد البرجوازية عن كل العهود السالفة؛ فإن كل العلاقات الاجتماعية التقليدية الجامدة، وما يحيط بها من مواكب المعتقدات والأفكار، التي كانت قديما محترمة مقدسة، تنحل وتندثر؛ اما التي تحل محلها فتشيخ ويتقادم عهدها قبل ان يصلب عودها. وكل ما كان تقليديا ثابتا يطير ويتبدد كالدخان، وكل ما كان مقدسا يعامل باحتقار وازدراء ويضطر الناس في النهاية إلى النظر إلى ظروف معيشتهم وعلاقاتهم المتبادلة بعيون يقظة لا تغشاها الأوهام.

وبدافع الحاجة الدائمة إلى أسواق جديدة تنطلق البرجوازية إلى جميع أنحاء الكرة الأرضية. فينبغي لها ان تدخل وتتغلغل في كل مكان، وتوطد دعائمها في كل مكان، وتقيم الصلات في كل مكان.

وباستمرار السوق العالمية تصبغ البرجوازية الإنتاج والاستهلاك في كل الأقطار بصبغة كوسموبوليتية. وتنزع من الصناعة أساسها الوطني، بين يأس الرجعيين وقنوطهم، فتنقرض الصناعات الوطنية التقليدية القديمة أو تواصل انقراضها يوما بعد يوم. وتحل محلها صناعات جديدة يصبح إدخالها وتعميمها مسألة حيوية لكل الأمم المتمدنة، صناعات لم تعد تستعمل المواد الأولية المحلية وحسب، بل أيضا المواد الأولية الآتية من أبعد مناطق العالم ولا تستهلك منتجاتها في داخل البلاد نفسها فحسب، بل أيضا في جميع أنحاء المعمورة. وبدلا عن الحاجات القديمة التي كانت تكفيها المنتجات الوطنية، تتولد حاجات جديدة تتطلب لكفايتها منتجات أقصى الأقطار ومختلف المناخات. ومكان الانعزال المحلي والوطني السابق والاكتفاء الذاتي، تقوم بين الأمم صلات شاملة وتصبح الأمم متعلقة بعضها ببعض في كل الميادين، وما يقال عن الإنتاج المادي ينطبق أيضا على الإنتاج الفكري. فثمار النشاط الفكري عند كل أمة تصبح ملكا مشتركا لجميع الأمم. ويصبح من المستحيل اكثر فأكثر على أية أمة ان تظل محصورة في افقها الضيق ومكتفية به. ويتألف من مجموع الآداب القومية والمحلية أدب عالمي واحد.

وتجر البرجوازية إلى تيار المدنية كل الأمم، حتى اشدها همجية، تبعا لسرعة تحسين جميع أدوات الإنتاج وتسهيل وسائل المواصلات إلى ما لا حد له. فان رخص منتجاتها هو في يدهها بمثابة مدفعية ثقيلة تقتحم وتخرق كل ما هنالك من أسوار صينية، وتنحني أمامها رؤوس اشد البرابرة عداءً وكرها للأجانب. وتجبر البرجوازية كل الأمم، تحت طائلة الموت، على ان تقبل الأسلوب البرجوازي في الإنتاج وان تدخل إلى ديارها المدنية المزعومة، أي ان تصبح برجوازية. فهي، بالاختصار، تخلق عالما على صورتها ومثالها.

وقد أخضعت البرجوازية الريف للمدينة، وأنشأت المدن الكبرى وزادت سكان المدن زيادة هائلة بالنسبة لسكان الأرياف، وانتزعت بذلك قسما كبيرا من السكان من بلادة الحياة القروية. وكما انها أخضعت الريف للمدينة، كذلك أخضعت البلدان الهمجية ونصف الهمجية للبلدان المتمدنة، الأمم الفلاحية، للأمم البرجوازية، الشرق للغرب.

وتقضي البرجوازية اكثر فأكثر على تبعثر وسائل الإنتاج والملكية والسكان. وقد كدست السكان ومركزت وسائل الإنتاج وحصرت الملكية في أيدي أفراد قلائل. وكانت النتيجة المحتومة لهذه التغييرات نشوء التمركز السياسي. فالمقاطعات المستقلة التي كانت العلاقات بينها تكاد تكون علاقات اتحادية، والتي كانت لها مصالح وقوانين وحكومات وتعرفات جمركية مختلفة، إنما جمعت كلها ودمجت في أمة واحدة مع حكومة واحدة، وقوانين واحدة، ومصلحة طبقية قومية واحدة، وراء حاجز جمركي واحد.

وخلقت البرجوازية، منذ تسلطها الذي لم يكد يمضي عليه قرن واحد، قوى منتجة تفوق في عددها وعظمتها كل ما صنعته الأجيال السالفة مجتمعة. فان إخضاع قوى الطبيعة، واستخدام الآلات وتطبيق الكيمياء في الصناعة والزراعة، ثم الملاحة البخارية والسكك الحديدية والتلغراف الكهربائي، وهذه القارات الكاملة التي كانت بورا فأخصبت، وهذه الأنهار والترع التي أصلحت وراحت البواخر تمخر عبابها، وهذه الكتل البشرية التي كأنما قذفتها من بطن الأرض قوة سحرية. أي عصر سالف وأي جيل مضى كان يحلم بان مثل هذه القوى المنتجة العظيمة كامنة في قلب العمل الاجتماعي!

وهكذا تبين لنا ان وسائل الإنتاج والتبادل، التي قامت البرجوازية على أساسها، قد نشأت داخل المجتمع الإقطاعي ثم، لما بلغت هذه الوسائل حداً معيناً من التقدم والرقي، لم تعد الظروف التي كان المجتمع الاقطاعي ينتج ويبادل ضمنها، لم يعد التنظيم الإقطاعي للزراعة والصناعة، أي بكلمة واحدة، لم تعد العلاقات الإقطاعية للملكية تتفق مع القوى المنتجة في ملء تقدمها، بل أصبحت تعرقل الإنتاج عوضا عن تطويره، ثم تحولت إلى قيود تكبله، وأصبح من الواجب تحطيم هذه القيود، فحطمت.

وحلت محلها المزاحمة الحرة، يرافقها نظام اجتماعي وسياسي يناسبها، وقامت معها السيطرة الاقتصادية والسياسية للطبقة البرجوازية. وتجري الآن أمام عيوننا حركة مماثلة لهذه. فان علاقات الإنتاج والتبادل البرجوازية وعلاقات الملكية البرجوازية، أي كل هذا المجتمع البرجوازي الحديث الذي خلق وسائل الإنتاج والتبادل العظيمة الهائلة صار يشبه الساحر الذي لا يدري كيف يقمع ويخضع القوى الجهنمية التي أطلقها من عقالها بتعاويذه. فليس تاريخ الصناعة والتجارة منذ بضع عشرات السنين سوى تاريخ تمرد القوى المنتجة الحديثة على علاقات الإنتاج الحديثة، على علاقات الملكية التي يقوم عليها وجود البرجوازية وسيطرتها. ويكفي ذكر الأزمات التجارية التي تقع بصورة دورية وتهدد اكثر فأكثر وجود المجتمع البرجوازي بأسره. فكل أزمة من الأزمات التجارية لا تكتفي بإتلاف كمية من المنتجات المصنوعة الجاهزة بل تقضي أيضا على قسم كبير من القوى المنتجة القائمة نفسها. وفي زمن الأزمة ينقض على المجتمع وباء لم يكن ليعتبر في جميع العهود السابقة سوى خرافة غير معقولة، هذا الوباء، هو فيض الإنتاج. فيرتد المجتمع فجأة إلى الوراء نحو الحالة الهمجية حتى ليخيل للمرء ان هنالك مجاعة أو حربا طاحنة شاملة تقطع عن المجتمع وسائل معيشته وموارد رزقه، وكأنما الصناعة والتجارة أتى عليها الخراب والدمار. ولم ذلك؟ ذلك لأنه اصبح في المجتمع كثير من المدنية، وكثير من وسائل العيش، وكثير من الصناعة والتجارة. ولم تعد القوى المنتجة الموجودة تحت تصرف المجتمع تساعد على نمو علاقات الملكية البرجوازية وتقدمها، بل بالعكس؛ فــقد أصبحت هذه القوى عظيمة جدا بالنسبة لهذه العلاقات البرجوازية التي أضحت عائقا في سبيل تقدمها وتوسعها. وكلما شرعت القوى المنتجة تتغلب على هذا العائق رمت المجتمع البرجوازي بأسره في الاضطراب والاختلال وهددت وجود الملكية البرجوازية بالزوال. لقد أصبحت العلاقات البرجوازية أضيق من ان تستوعب الثروات الناشئة في قلبها. فكيف تتغلب البرجوازية على هذه الأزمات؟ تتغلب بالتدمير القسري لمقدار من القوى المنتجة من جهة، وبالاستيلاء على أسواق جديدة وزيادة استثمار الأسواق القديمة من جهة أخرى. بماذا إذن؟ بتحضير أزمات اعم وأهول، وتقليل الوسائل التي يمكن تلافي هذه الأزمات بها.

فالأسلحة التي استخدمتها البرجوازية للقضاء على الإقطاعية ترتد اليوم إلى صدر البرجوازية نفسها.

ولكن البرجوازية لم تصنع فقط الأسلحة التي سوف تقتلها، بل أخرجت أيضا الرجال الذين سيستعملون هذه الأسلحة ضدها؛ وهم العمال العصريون، أو البروليتاريون. تبعا لتطور البرجوازية، أي لتطور الرأسمال، تتطور البروليتاريا، طبقة العمال العصريين الذين لا يعيشون الا إذا وجدوا عملا، ولا يجدونه الا إذا كان عملهم هذا ينمي الرأسمال. وهؤلاء العمال المجبرون على بيع أنفسهم بالمفرق هم بضاعة، هم مادة تجارية كغيرها، ولذا يعانون كل تقلبات المزاحمة وكل تموجات السوق.

ونتيجة لاتساع استعمال الآلات ولتقسيم العمل، فقد عمل البروليتاريين كل صبغة شخصية، وأضاع بذلك كل جاذب بالنسبة للعامل، وأصبح العامل عبارة عن ملحق بسيط للآلة لا يطلب منه الا القيام بعملية بسيطة رتيبة سهلة التلقين. وبذلك أصبح ما يكلفه العامل اليوم هو تقريبا ما تكلفه وسائل المعيشة اللازمة للاحتفاظ بحياته وتخليد نوعه. الا ان ثمن العمل كثمن كل بضاعة يساوي تكاليف إنتاجه. إذن كلما أصبح العمل باعثا على الاشمئزاز، هبت الأجور. وفوق ذلك ينمو، مع نمو استخدام الآلة وتقسيم العمل، مجموع الجهد المصروف في العمل، إما بزيادة ساعات العمل، واما بزيادة الجهد المطلوب في مدة معينة من الزمن، أو بتعاظم سرعة حركة الآلات، الخ...

إن الصناعة الحديثة حولت ورشة المعلم الحرفي البطريركي الصغيرة إلى مصنع كبير للرأسمالي الصناعي، وأخذت جماهير العمال المتكدسين في هذا المصنع يخضعون لتنظيم أشبه بالتنظيم العسكري. فهم جنود الصناعة البسيطون الخاضعون لسلسلة كاملة من كبار الضباط وصغارهم كأنهم في جيش عسكري. وهم ليسوا عبيد الطبقة البــرجوازية والدولة البرجوازية فحسب، بل هم أيضا في كل يوم وكل ساعة عبيد للآلة وللمناظر ولاسيما للبرجوازي، صاحب المعمل نفسه. وكلما تبين بصراحة ان الربح هو الهدف الوحيد لكل هذا الاستبداد، ازداد هذا الاستبداد خساسة وقبحا وإثارة للسخط والحفيظة.

وكلما قل تطلب العمل اليدوي للمهارة والقوة، أي كلما ترقت الصناعة الحديثة، استعيض عن عمل الرجال بعمل النساء والأولاد. ولا تبقى للفروق في الجنس أو السن أهمية اجتماعية بالنسبة للطبقة العاملة، فليس ثمة سوى أدوات للعمل تتغير كلفتها حسب العمر والجنس.

ومتى انتهى العامل من مقاساة استثمار صاحب المعمل، وتقاضى أخيرا آجرته، يصبح فريسة لعناصر أخرى من البرجوازية: مالك البيت والحانوتي والمرابي، الخ... أما صغار الصناعيين والتجار وأصحاب الإيرادات والحرفيون والفلاحون، أي الشرائح السفلى من الطبقة المتوسطة، فيتدهورون إلى صفوف البروليتاريا، وذلك لان رساميلهم الضعيفة لا تسمح لهم باستعمال أساليب الصناعة الكبرى، فينحدرون ويهلكون في مزاحمتهم لكبار الرأسماليين، ولأن مهارتهم المهنية تفقد قيمتها وأهميتها تجاه أساليب الإنتاج الجديدة، وعلى هذه الصورة تجند البروليتاريا من كل طبقات السكان.

وتمر البروليتاريا في تطورها بمراحل مختلفة، ويبدأ نضالها ضد البرجوازية منذ نشأتها.

يقوم بالنضال، بادئ الأمر، عمال فرادى منعزلون، ثم يتكاتف عمال معمل واحد، ثم يضم النضال كل عمال الفرع الصناعي الواحد في محلة واحدة ضد البرجوازي الذي يستثمرهم بصورة مباشرة. ولا يكتفي العمال بتوجيه ضرباتهم إلى علاقات الإنتاج البرجوازية، بل يوجهونها أيضا إلى أدوات الإنتاج نفسها، فيتلفون البضائع الأجنبية التي تزاحمهم، ويحطمون الآلات ويحرقون المصانع ويسعون بالقوة إلى استعادة الوضع المضاع الذي كان يتمتع به العامل في القرون الوسطى.

وفي هذه المرحلة يكون العمال عبارة عن جماهير مبعثرة في البلاد تفتتها المزاحمة. وإذا اتفق ان ضم العمال صفوفهم في جموع متراصة، فلا يكون ذلك في هذه المرحلة نتيجة لوحدتهم الخاصة بهم، بل نتيجة لوحدة البرجوازية التي ينبغي لها، لكي تبلغ مراميها السياسية، ان تحرك البروليتاريا بأسرها، وهي ما تزال تملك القدرة على ذلك. وفي هذه المرحلة لا يحارب البروليتاريون أعداءهم بل أعداء أعدائهم، أي بقايا الحكم الملكي المطلق وكبار أصحاب الأراضي والبرجوازيين غير الصناعيين وصغار البرجوازيين. وهكذا تكون الحركة التاريخية كلها متمركزة في أيدي البرجوازية، وكل انتصار في هذه الظروف، يكون انتصارا للبرجوازية.

الا ان الصناعة، عندما تتقدم وتنمو، لا تضخم عدد البروليتاريين فقط، بل تمركزهم أيضا وتضمهم في جماهير أوسع وأعظم فتنمو قدرتهم ويدركون مدى هذه القوة. وتتساوى يوما فيوما مصالح البروليتاريين وظروف معيشتهم، تبعا لما تقوم به الآلة من محو كل فرق في العمل ومن إنزال الأجرة في كل مكان تقريبا إلى مستوى متماثل في انخفاضه. ونظرا لتفاقم التزاحم فيما بين البرجوازيين، وما ينتج عن ذلك من أزمات تجارية، تصبح أجور العمال يوما بعد يوم أكثر تقلبا وأقل استقرارا؛ ويؤدي إتقان الآلات باستمرار وبسرعة متزايدة على الدوام إلى جعل مستوى حياة العمال أكثر فاكثر غير مضمون؛ وتصطبغ المصادمات الفردية بين العامل والبرجوازي، شيئا فشيئا، بصبغة المصادمات بين طبقتين. ويبدأ العمال في تأليف الجمعيات ضد البرجوازيين من أجل الدفاع عن أجورهم. ويتقدمون في هذا السبيل ويؤلفون جمعيات دائمة لكي يؤمنوا وسائل العيش لأنفسهم في حال وقوع اصطدامات؛ وهنا وهناك ينفجر النضال بشكل انتفاضة سافرة.

وقد ينتصر العمال أحيانا، ولكن انتصارهم يكون قصير الأمد. والنتيجة الحقيقية لنضالهم هي هذا التضامن المتعاظم بين جميع العمال، لا ذلك النجاح المباشر الوقتي. وهذا التضامن المتعاظم يسهله نمو وسائل المواصلات التي تخلقها الصناعة الكبرى والتي تسمح للعمال، في مختلف الجهات والمناطق، باتصال بعضهم البعض. ويكفي هذا الاتصال بين العمال لتحويل النضالات المحلية المتعددة ذات الصبغة المتماثلة في كل مكان، إلى نضال طبقي هو نضال سياسي. والاتحاد الذي كان سكان المدن في القرون الوسطى يقضون قرونا لتحقيقه نظرا لطرقهم الوعرة الابتدائية، تحققه البروليتاريا الحديثة خلال بضع سنين فقط بفضل السكك الحديدية.

الا ان انتظام البروليتاريا في طبقة، وبالتالي، في حزب سياسي، يحطمه بصورة مستمرة تزاحم العمال فيما بينهم. ولكن هذا الانتظام لا يختفي حتى يعود فيولد من جديد، وهو دائما أشد قوة وأكثر صلابة وأقوى بأسا، ويستفيد من الانقاسامات بين شرائح البرجوازيين، فيجرهم على جعل بعض مصالح الطبقة العاملة مشروعة معترفا بها قانونيا، مثل قانون جعل مدة يوم العمل عشر ساعات في إنكلترا.

أن المصادمات التي تقع في المجتمع القديم تساعد بصورة عامة، وبشتى الصور والأشكال، على تطور البروليتاريا وتقدمها. فان البرجوازية تعيش في حالة حرب مستمرة، في بادئ الأمر، ضد الأرستقراطية، ثم ضد تلك الجماعات من البرجوازية نفسها التي تتناقض مصالحها مع رقي الصناعة، وبصورة دائمة ضد برجوازية الأقطار الأجنبية جميعا. وترى البرجوازية نفسها مضطرة، في كل ميادين النضال هذه، إلى الالتجاء للبروليتاريا وطلب معونتها، فتجرها بذلك إلى مضمار الحركة السياسية. وهكذا تقدم البرجوازية بيدها إلى البروليتاريين عناصر ثقافتها، أي أنها تسلمهم السلاح الذي سيحاربونها به.

أضف إلى كل ذلك ما رأيناه من ان جماعات كاملة من الطبقة السائدة تتدهور، بنتيجة تطور الصناعة وتقدمها، إلى صفوف طبقة البروليتاريا، أو تكون على الأقل مهددة في ظروف معيشتها وشروط حياتها. وهذه الجماعات تحمل كذلك إلى البروليتاريا عددا عديدا من عناصر الثقافة.

وأخيرا، عندما يقترب نضال الطبقات من الساعة الحاسمة الفاصلة، يتخذ انحلال الطبقة السائدة والمجتمع القديم بأسره طابعا يبلغ من حدته وعنفه ان جزءا صغيرا من هذه الطبقة السائدة نفسها ينفصل عنها وينضم إلى الطبقة الثورية، إلى الطبقة التي تحمل في قلبها المستقبل. وكما انتقل فيما مضى قسم من النبلاء إلى جانب البرجوازية، كذلك في أيامنا هذه ينتقل قسم من البرجوازية إلى جانب البروليتاريا، أي بالضبط القسم المؤلف من البرجوازيين المفكرين الذين تمكنوا من الإحاطة بمجموع الحركة التاريخية وفهمها بصورة نظرية.

وليس بين جميع الــطبقات التي تقف الآن أمام البرجوازية وجها لوجه الا طبقة ثورية حقا، هي البروليتاريا. فان جميع الطبقات الأخرى تنحط وتهلك مع نمو الصناعة الكبرى، اما البروليتاريا فهي على العكس من ذلك، أخص منتجات هذه الصناعة.

ان الفئات المتوسطة، من صغار الصناعيين وصغار التجار والحرفيين والفلاحين، تحارب البرجوازية من أجل الحفاظ على وجودها بوصفها فئات متوسطة. فهي ليست إذن ثورية، بل محافظة، واكثر من محافظة أيضا، أنها رجعية، فهي تطلب ان يرجع التاريخ القهقرى ويسير دولاب التطور إلى الوراء. وإذا كنا نراها تقوم بأعمال ثورية، فما ذاك الا لخوفها من ان تتدهور إلى صفوف البروليتاريا، وهي إذ ذاك تدافع عن مصالحها المقبلة، لا عن مصالحها الحالية، وهي تتخلى عن وجهة نظرها الخاصة لتتخذ لنفسها وجهة نظر البروليتاريا.

أما اللومبن بروليتاريا[27]، هذه الحشرات الجامدة، حثالة أدنى شرائح المجتمع القديم، فقد تجرهم ثورة البروليتاريا إلى الحركة، ولكن ظروف معيشتهم وأوضاع حياتهم تجعلهم أكثر استعدادا لبيع أنفسهم لأجل المكائد الرجعية.

ان ظروف معيشة المجتمع القديم قد اضمحلت ولم يبق لها اثر في ظروف معيشة البروليتاريا. فالبروليتاري محروم من الملكية، وليست هناك أية صفة مشتركة بين علاقاته العائلية وعلاقات العائلة البرجوازية. والعمل الصناعي الحديث الذي يضم في طياته استعباد العامل من قبل الرأسمال، قد جرد العامل، سواء في إنكلترا أو فرنسا أو أميركا أو ألمانيا، من كل صبغة وطنية. وما القوانين والقواعد الأخلاقية والأديان بالنسبة إليه الا أوهام برجوازية تستتر خلفها مصالح برجوازية.

ان كل الطبقات التي كانت تستولي على السلطة فيما مضى، كانت تحاول تثبيت أوضاعها المكتسبة بإخضاع المجتمع بأسره للشروط والظروف التي تضمن أسلوب التملك الخاص بها. ولا تستطيع البروليتاريا الاستيلاء على القوى المنتجة الاجتماعية الا بهدم أسلوب التملك الخاص بها حاليا، وبالتالي يُهدم كل أسلوب للتملك مرعي الإجراء إلى يومنا هذا. ولا تملك البروليتاريا شيئا خاصا بها حتى تصونه وتحميه فعليها إذن ان تهدم كل ما كان يحمي ويضمن الملكية الخاصة.

وكانت الحركات إلى يومنا هذا، كلها قامت بها اقليات أو جرت في مصلحة الاقليات. اما حركة البروليتاريا فهي حركة قائمة بذاتها للأكثرية الساحقة في سبيل مصلحة الأكثرية الساحقة. والبروليتاريا، التي هي طبقة سفلى في المجتمع الحالي، لا يمكنها ان تهب وتقوم عودها الا إذا نسفت كل الطبقات المتراكبة فوقها والتي تؤلف المجتمع الرسمي.

ان نضال البروليتاريا ضد البرجوازية ليس في أساسه نضالا وطنيا، ولكنه يتخذ مع ذلك هذا الشكل في بادئ الأمر. إذ لا حاجة للقول ان على البروليتاريا في كل قطر من الأقطار ان تقضي قبل كل شيء على برجوازيتها الخاصة. اننا، إذ وصفنا مراحل تطور البروليتاريا، بخطوطها الكبرى، قد تتبعنا في الوقت نفسه تاريخ الحرب الأهلية، المستترة إلى حد ما والتي لا تنفك تأكل المجتمع وتنحره حتى الساعة التي تنفجر فيها هذه الحرب بشكل ثورة علنية، وتؤسس البروليتاريا سيطرتها بعد القضاء على البرجوازية بالشدة والعنف. ان كل المجتمعات السالفة قامت، كما رأينا، على التناحر بين الطبقات المضطِهدة والمضطهَدة. ولكن لأجل اضطهاد طبقة ما ينبغي على الأقل ان يكون في الاستطاعة تأمين شروط معيشية لها تمكنها من الحياة تحت وطأة الاستعباد والاضطهاد. فقد كان القن في عهد القنانة يتوصل لان يصبح عضوا في إحدى الكومونات؛ وكذلك البرجوازي الصغير، حتى تحت أشد أنواع الاستبداد الإقطاعي، كان يتوصل إلى مرتبة البرجوازي. اما العامل في عصرنا فهو على عكس ذلك تماما؛ فعوضا عن ان يرتفع ويرقى مع رقي الصناعة، لا ينفك يهوى في انحطاط، إلى ان ينزل إلى مستوى هو أدنى وأحط من شروط حياة طبقته نفسها. ويسقط العامل في مهاوي الفاقة، ويزداد الفقر والإملاق بسرعة تفوق سرعة ازدياد السكان ونمو الثروة. فمن البيّن إذن ان البرجوازية لا يبقى بوسعها ان تقوم بدورها كطبقة حاكمة وان تفرض على المجتمع بأسره شروط حياة طبقتها كقانون أعلى. انها لم تعد تستطيع ان تسود، إذ لم يعد في إمكانها ان تؤمن لعبدها حتى معيشة تتلائم مع عبوديته، وهي مجبرة على ان تدعه ينحط إلى درجة يصبح معها من واجبها هي ان تطعمه بدلا من ان تطعم نفسها بواسطته. فلم يعد من الممكن ان يحيا المجتمع تحت سيادتها وسيطرتها، أي بعبارة أخرى اصبح وجود البرجوازية منذ الآن فصاعدا غير متلائم مع وجود المجتمع.

ان الشرط الأساسي للوجود والسيادة بالنسبة للطبقة البرجوازية هو تكديس الثروة في أيدي بعض الأفراد وتكوين الرأسمال وإنماؤه. وشرط وجود الرأسمال هو العمل المأجور، والعمل المأجور يرتكز، بصورة مطلقة، على تزاحم العمال فيما بينهم. ورقي الصناعة الذي ليست البرجوازية الا خادما منفعلا له ومقسورا على خدمته يستعيض عن انعزال العمال الناتج عن تزاحمهم، باتحاد ثوري بواسطة الجمعيات. وهكذا ينتزع تقدم الصناعة الكبرى من تحت أقدام البرجوازية نفس الأسس التي شادت عليها إنتاجها وتملكها. ان البرجوازية تنتج قبل كل شيء حفاري قبرها، فسقوطها وانتصار البروليتاريا كلاهما أمر محتوم لا مناص منه.


البروليتاريون والشيوعيون
ما هو موقف الشيوعيين بالنسبة إلى مجموع البروليتاريا؟

إن الشيوعيين لا يؤلفون حزباً خاصاً معارضاً لأحزاب العمال الأخرى. وليست لهم مصالح منفصلة عن مصالح البروليتاريا بمجموعها.

وهم لا يدعون إلى مبادئ خاصة يريدون تكييف الحركة البروليتارية في قالبها.

إن الشيوعيين لا يتميزون عن بقية الأحزاب البروليتارية الا في نقطتين هما :

1. في النضالات التي يقوم بها البروليتاريون من مختلف الأمم، يضع الشيوعيون في المقدمة المصالح العامة، المستقلة عن القومية الشاملة لمجموع البروليتاريا، ويذودون عنها.

2. في مختلف مراحل التطور التي يمر بها النضال بين البروليتاريين والبرجوازيين يمثل الشيوعيون دائما مصالح الحركة بكاملها.

فالشيوعيون هم إذن، من الناحية العملية، احزم فريق من أحزاب العمال في جميع البلدان واشدها عزيمة، الفريق الذي يدفع إلى الأمام كل الفرق الأخرى. وهم من الوجهة النظرية يمتازون عن بقية البروليتاريين بإدراك واضح لظروف حركة البروليتاريا وسيرها ونتائجها العامة.

أما هدف الشيوعيين المباشر فهو الهدف نفسه الذي ترمي إليه جميع الأحزاب البروليتارية الأخرى، أي تنظيم البروليتاريين في طبقة وهدم سيادة البرجوازية واستيلاء البروليتاريا على السلطة السياسة.

ومفهومات الشيوعيين النظرية لا ترتكز مطلقاً على أفكار أو مبادئ اكتشفها أو اخترعها مصلح من مصلحي العالم.

فما هي سوى التعبير الإجمالي عن الظروف الواقعية لنضال طبقي موجود ولحركة تاريخية تتطور من ذاتها أمام عيوننا. وليس هدم علاقات الملكية القائمة أمراً يلازم الشيوعية وحدها.

فقد كابدت جميع علاقات الملكية تغييرات تاريخية متتابعة وتعاقب تاريخي مستمر.

فالثورة الفرنسية مثلاً قضت على الملكية الإقطاعية لمصلحة الملكية البرجوازية.

فليس الذي يميز الشيوعية هو محو الملكية بصورة عامة، بل هو محو الملكية البرجوازية.

غير ان الملكية الخاصة في الوقت الحاضر، أي الملكية البرجوازية، هي آخر وأكمل تعبير عن أسلوب الإنتاج والتملك، المبني عل تناحرات الطبقات واستثمار بعض الناس لبعضهم الآخر. وعلى هذا، باستطاعة الشيوعيين ان يلخصوا نظريتهم بهذا الصدد في هذه الصيغة الوحيدة وهي القضاء على الملكية الخاصة. ويأخذون علينا، نحن الشيوعيين، أننا نريد محو الملكية المكتسبة شخصياً بالعمل، هذه الملكية التي يصرحون انها أساس كل حرية وكل نشاط وكل استقلال فردي. الملكية، ثمرة العمل والكفاءة! هل تعنون بذلك هذا الشكل من الملكية، السابق للملكية البرجوازية، أي ملكية البرجوازي الصغير والفلاح الصغير؟ ان كانت هذه هي الملكية التي تعنونها، فليس لنا، نحن الشيوعيين، ان نمحوها ونزيلها، لان رقي الصناعة قد محاها أو يمحوها يوماً بعد يوم.

أم تعنون، يا ترى، الملكية الخاصة البرجوازية الحالية؟

ولكن هل يخلق العمل المأجور، عمل البروليتاري، ملكية للبروليتاري؟ كلا بل هو يخلق الرأسمال، أي الملكية التي تستثمر العمل المأجور، والتي لا يمكن ان تنمو الا بشرط ان تنتج أيضا وأيضاً عملاً مأجوراً لتستثمره من جديد. فالملكية في شكلها الحالي تتحرك بين هذين الطرفين المتناقضين: الرأسمال والعمل المأجور. فلنبحث كلاً من طرفي هذا التناقض.

ان كون المرء رأسمالياً يعني أنه لا يشغل في الإنتاج مركزاً شخصياً فحسب، بل كذلك مركزاً اجتماعياً. الرأسمال هو نتاج جماعي، فهو لا يمكن ان يدار ويشغل الا بجهود متظافرة يبذلها كثير من الأفراد، بل هو في آخر التحليل لا يدار ويشغل الا بالجهود المشتركة لجميع أعضاء المجتمع.

فليس الرأسمال قوة شخصية إذن، بل هو قوة اجتماعية. وعليه، إذا تحول الرأسمال إلى ملك مشترك يخص جميع أعضاء المجتمع، فلا يكون معنى ذلك ان ملكية شخصية قد تحولت إلى ملكية اجتماعية، بل كل ما هنالك ان الصفة الاجتماعية للملكية تكون قد تغيرت، أي ان الملكية تفقد صفتها الطبقية.

ولننتقل الآن إلى العمل المأجور.

إن الثمن المتوسط الذي يشترى به العمل المأجور، هو الحد الأدنى للأجرة، أي مجموع وسائل المعيشة اللازمة للعامل لكي يعيش كعامل. وينتج من ذلك ان ما يستملكه العامل المأجور بجهده وكده لا يساوي أو يكاد الا ما يلزمه بالضرورة للاحتفاظ بوجوده الهزيل وللإبقاء على نوعه. فنحن لا نريد أبداً ولا بشكل من الأشكال، محو هذا التملك الشخصي لمنتجات العمل الضرورية مباشرة لحفظ الحياة البشرية وتكثيرها، فان هذا التملك لا يترك اقل فائض يتسلط المرء بواسطته على عمل غيره. أما ما نريد محوه فهو أسلوب التملك الكئيب المظلم الذي يجعل العامل لا يحيا الا لأجل إنماء الرأسمال، ولا يحيا الا بمقدار ما تتطلبه مصالح الطبقة السائدة فقط.

في المجتمع البرجوازي ليس العمل الحي الا وسيلة لإنماء العمل المتراكم. اما في المجتمع الشيوعي فليس العمل المتراكم الا وسيلة لتفريج حياة الشغيلة وإغنائها وترفيهها.

وهكذا، في المجتمع البرجوازي: الماضي يسيطر على الحاضر. وفي المجتمع الشيوعي: الحاضر يسيطر على الماضي. في المجتمع البرجوازي الرأسمال مستقل وشخصي في حين ان الفرد الذي يعمل تابع لغيره ومحروم من شخصيته.

فهدم هذه الحالة تعيبه وتشجبه البرجوازية وتزعم انه هدم للشخصية والحرية! وهي على حق فيما تزعم، لأن هذا الهدم هو في الحقيقة هدم للشخصية البرجوازية وللاستقلال البرجوازي وللحرية البرجوازية.

انهم يعنون بالحرية، في إطار علاقات الإنتاج البرجوازية الحالية، حرية التجارة، حرية الشراء والبيع.

ولكن إذا تلاشت التجارة، تلاشت التجارة الحرة أيضاً. غير ان جميع الكلمات الضخمة التي ترددها برجوازيتنا عن حرية التجارة وكل تصلفها وانتفاخها وغطرستها حول الحريات، لا معنى لها الا إذا قوبلت بالتجارة المقيدة والبرجوازي المستعبد في القرون الوسطى، ولا يبقى لها أقل معنى أو دلالة عندما تدور المسألة حول ما ترمي إليه الشيوعية من إزالة التجارة وعلاقات الإنتاج البرجوازية والبرجوازية نفسها.

يهولكم ويروعكم اننا نريد محو الملكية الخاصة! ولكن في مجتمعكم هذا ذاته تسعة أعشار أعضائه محرومون من أية ملكية خاصة، وإذا كانت هذه الملكية موجودة فلأن هؤلاء الأعشار التسعة محرومة منها. فأنتم تأخذون علينا إذن اننا نريد محو شكل للملكية، شرط وجوده ان تكون الأكثرية الساحقة محرومة من كل ملكية.

أي بكلمة، تتهمونا بأننا نريد محو ملكيتكم انتم. وحقاً هذا الذي نريد.

وما ان يغدو من المستحيل ان يتحول العمل إلى رأسمال ونقد وريع عقاري، أي إلى قوة اجتماعية قابلة للاحتكار، أو بعبارة أخرى، ما ان يصبح من المستحيل ان تتحول الملكية الفردية إلى ملكية برجوازية، حتى تزأرون وتصيحون بأن الفرد قد أُمحى وأُبيد.

فأنتم تعترفون إذن انكم، عندما تتكلمون عن الفرد، لا تعنون بكلامكم الا البرجوازي، أي المالك البرجوازي. وبالفعل ان هذا الفرد يجب ان يُباد ويُمحى نهائياً.

ان الشيوعية لا تسلب أحداً القدرة على تملك منتجات اجتماعية، انها لا تنزع سوى القدرة على استعباد عمل الغير بواسطة هذا التملك.

ويعترضون علينا بقولهم: ان محو الملكية الخاصة يؤدي إلى توقف كل نشاط و إلى انتشار كسل يعم العالم بأسره.

لو كان ذلك كذلك، لكان المجتمع البرجوازي قد سقط منذ أمد طويل في بؤرة الكسل والخمول، ما دام الذين يشتغلون في هذا المجتمع لا يمتلكون، والذين يمتلكون لا يشتغلون. وهكذا يؤول كل اعتراضهم إلى تكرار ممل للحقيقة التالية وهي: حيث لا يبقى الرأسمال، لا يبقى عمل مأجور.

وجميع التهم الموجهة إلى الأسلوب الشيوعي في إنتاج واستملاك المنتجات المادية وجهت إلى إنتاج واستملاك منتجات العمل الفكري أيضاً، فكما ان زوال الملكية الطبقية يعادل بالنسبة للبرجوازي زوال كل إنتاج، كذلك زوال الثقافة الطبقية يعني بالنسبة إليه زوال كل ثقافة.

غير ان هذه الثقافة التي يبكي البرجوازي وينتحب على فقدها، ما هي عند الأكثرية الساحقة الا تدريباً على عمل مثل الآلة.

ولكن لا فائدة من مماحكتكم لنا، إذا كان قصدكم من ذلك ان تطبقوا على محو الملكية البرجوازية معيار مفهوماتكم البرجوازية عن الحرية والثقافة والحق، الخ... ان أفكاركم نفسها ناتجة عن علاقات الإنتاج البرجوازية وعلاقات الملكية البرجوازية، كما ان الحق لديكم ليس الا إرادة طبقتكم محطوطة بشكل قانون، هذه الإرادة التي تحدد فحواها ومبناها ظروف الحياة المادية لطبقتكم.

ان مفهوماتكم المغرضة تدفعكم إلى جعل العلاقات الاجتماعية المتولدة عما تختصون به من علاقات الإنتاج وعلاقات الملكية، هذه العلاقات التاريخية التي يمحوها سير الإنتاج نفسه، قوانين طبيعية وعقلية، خالدة أبدية. ولستم منفردين بهذه المفهومات، بل سبقتكم إليها كل الطبقات السائدة التي زالت اليوم. ولكن ما تقبلونه وتقرونه بالنسبة للملكية القديمة، ما تقبلونه وتقرونه فيما يتعلق بالملكية الإقطاعية، لم يعد في إمكانكم ان تقبلوه بالنسبة للملكية البرجوازية.

هدم العائلة حتى أشد الراديكاليين تطرفاً تسخطهم نية الشيوعيين هذه، الفاضحة المرذولة.

ولكن، على أية قاعدة ترتكز العائلة البرجوازية في الوقت الحاضر؟ انها ترتكز على الرأسمال والربح الفردي. وهي، بكامل كيانها وتمام بنيانها، ليست موجودة الا عند البرجوازية. ولكن تتمتها هي الإلغاء القسري للعائلة بالنسبة للبروليتاري، ثم البغاء العلني.

ان العائلة البرجوازية تضمحل طبعاً باضمحلال تتمتها هذه. وكلتاهما، العائلة البرجوازية وتتمتها، تتلاشيان بتلاشي الرأسمال.

أتأخذون علينا اننا نريد القضاء على استثمار الأبناء من قبل أهلهم وذويهم؟ ان كان ذلك فنحن نعترف بهذه الجريمة.

وتزعمون اننا نحطم اقدس الأواصر والصلات بالاستعاضة عن التربية في العائلة بالتربية في المجتمع.

ولكن تربيتكم انتم، أليس المجتمع أيضاً هو الذي يحددها؟ أليست تحددها العلاقات الاجتماعية التي تربون فيها أولادكم؟ الا يحددها تدخل المجتمع بصورة مباشرة أو غير مباشرة بواسطة المدرسة، الخ..؟ ان تدخل المجتمع في التربية ليس من ابتكار الشيوعيين. فكل ما يفعله الشيوعيون انهم يغيرون طبيعة التربية ويحورون صفتها وشكلها وينتزعونها من تأثير الطبقة السائدة ونفوذها.

ان تشدق البرجوازيين الفارغ عن العائلة والتربية وعن الأواصر والصلات العذبة بين الآباء الأولاد، أصبحت تقز منه النفس اكثر فأكثر، إذ ان الصناعة الكبرى تهدم كل صلة عائلية عند البروليتاريا وتحول الأولاد إلى مواد تجارية بسيطة وأدوات عمل بحتة.

والآن اسمعوا البرجوازية تصيح من كل جانب: "انكم أيها الشيوعيون تريدون إشاعة المرأة ".

ليست امرأة البرجوازي عنده سوى أداة إنتاج بسيطة، وهو يسمع ان أدوات الإنتاج يجب ان تكون مشتركة، فيستنتج من ذلك بالطبع ان النساء أنفسهن سوف يسري عليهن ذلك.

ولا يدخل في وهم البرجوازي ان المسألة هي على العكس تماماً، واننا نريد إعطاء المرأة دوراً غير هذا الدور الذي تقوم به الآن كأداة إنتاج بسيطة.

ولشد ما يضحكنا هذا الذعر فوق الأخلاقي الذي توحيه إلى البرجوازيين إشاعة النساء الرسمية التي يزعمون ان الشيوعيين يدعون إليها. ليست بالشيوعيين حاجة إلى إدخال إشاعة النساء، فهي تقريباً كانت دائماً موجودة.

ولا يكتفي البرجوازيون بأن تكون تحت تصرفهم نساء البروليتاريين وبناتهم، هذا عدا البغاء الرسمي، بل يجدون لذة خاصة في إغواء بعضهم لنساء بعض.

ليس الزواج البرجوازي في الحقيقة والواقع سوى إشاعة النساء المتزوجات. فقصارى ما يمكن ان يتهم به الشيوعيون إذن هو انهم يريدون، كما يزعم، الاستعاضة عن إشاعة النساء المستترة بالرياء والمغطاة بالمداجاة، بإشاعة صريحة رسمية. ولكن من البديهي والواضح ان محو علاقات الإنتاج الحالية يؤدي، بطبيعة الحال، إلى محو إشاعة النساء التي تنجم منها، أي ان البغاء، سواء كان رسميا أم غير رسمي، يضمحل ويزول.

ويتهمون الشيوعيين، عدا ذلك، بالرغبة في إلغاء الوطن والقومية. ليس للعمال وطن، فليس في الاستطاعة إذن سلبهم ما لا يملكون. وبما ان على البروليتاريا ان تستولي أولا على السلطة السياسية، وان ترتفع إلى وضع الطبقة التي تمثل الأمة، وان تصبح هي الأمة، فهي لا تزال بعد إذن وطنية، ولكن ليس بالمعنى البرجوازي لهذه الكلمة.

وها هي الفواصل الوطنية والتناقضات بين الشعوب تزول يوما بعد يوم تبعا لتطور البرجوازية، وحرية التجارة، والسوق العالمية، وتشابه الإنتاج الصناعي وشروط المعيشة الناجمة عن ذلك. وعندما تستولي البرولتاريا على الحكم تعجل في إزالتها. ان تضافر الجهود، في الأقطار المتمدنة على الأقل، هو أحد الشروط الأولية لتحرر البروليتاريا. أزيلوا استثمار الإنسان للإنسان، تزيلوا استثمار أمة لأخرى.

وعندما يزول تناحر الطبقات في قلب كل أمة يزول في الوقت نفسه العداء والحقد بين الأمم. أما التهم الأخرى الموجهة إلى الشيوعية من وجهات نظر دينية وفلسفية، وبوجه عام، من وجهات نظر أيديولوجية، فهي لا تستحق بحثا عميقا مستفيضا.

إذ هــل يحتاج المرء إلى تعمق كبير ليدرك ان نظرات الناس ومفهوماتهم وتصوراتهم، أو بالاختصار إدراكهم، يتغير مع كل تغيير يطرأ على ظروف حياتهم وعلاقتهم الاجتماعية وشروط معيشتهم الاجتماعية؟

وهلا يبرهن تاريخ الأفكار على ان الإنتاج الفكري يتبدل ويتحور مع تبدل الإنتاج المادي وتحوره؟ فالأفكار والآراء السائدة في عهد من العهود لم تكن سوى أفكار الطبقة السائدة وآرائها. وحينما يتحدثون عن أفكار تؤثر تأثيرا ثوريا في مجتمع بأسره، إنما يعبرون في الحقيقة عن هذا الواقع وهو انه تشكلت في قلب المجتمع القديم عناصر مجتمع جديد، وان انحلال الأفكار القديمة يسير جنبا إلى جنب مع انحلال ظروف المعيشة القديمة.

فحينما كان العالم القديم على أعتاب السقوط والزوال، انتصر الدين المسيحي على الأديان الأخرى القديمة. وحينما تركت الأفكار المسيحية محلها في القرن الثامن عشر لأفكار الرقي الجديدة، كان المجتمع الإقطاعي يقوم إذ ذاك بمعركته الأخيرة ضد البرجوازية التي كانت حينذاك ثورية. ولم يكن ظهور الأفكار القائلة بحرية المعتقد والحرية الدينية الا إيذانا بسيطرة المزاحمة الحرة في ميدان العقائد.

وقد يقولون: "نعم، ان الأفكار الدينية والأخلاقية والفلسفية والسياسية والحقوقية وما إليها قد طرأ عليها التعديل خلال التطور التاريخي، ولكن الدين والأخلاق والفلسفة والسياسة والحقوق كانت مع ذلك تحافظ دائما على بقائها خلال هذا التحول المستمر. وهنالك فوق ذلك حقائق أبدية، مثل الحرية والعدالة، الخ... وهي واحدة مشتركة في جميع مراحل التطور الاجتماعي. اما الشيوعية فهي تلغي الحقائق الأبدية، تلغي الدين والأخلاق عوضا عن تجديدها؛ فهي تناقض إذن كل التطور التاريخي السابق ".

ففيم تتلخص هذه التهمة؟ ان تاريخ كل مجتمع حتى الآن قائم على التناحر بين الطبقات. وقد اتخذ التناحر أشكالا مختلفة حسب العهود. ولكن مهما كان الشكل الذي اتخذه هذا التناحر، فقد كان هنالك دائما شيء [مشترك] بين جميع العصور السالفة، وهو استثمار قسم من المجتمع لقسم آخر منه. فلا غرابة إذن في ان نرى الإدراك الاجتماعي في جميع العصور، رغم كل اختلاف وكل تنوع، يتطور ضمن أشكال مشتركة معينة، أشكال للإدراك لن تنحل تماما الا بزوال التناحر بين الطبقات زوالا تاما.

ان الثورة الشيوعية تقطع من الأساس كل رابطة مع علاقات الملكية التقليدية؛ فلا عجب إذن ان هي قطعت بحزم أيضا، أثناء تطورها، كل رابطة مع الأفكار والآراء التقليدية. ولكن لندع الآن جانبا ما تبديه البرجوازية من الاعتراضات على الشيوعية.

ان الخطوة الأولى في ثورة العمال هي، كما رأينا، تحول البروليتاريا إلى طبقة سائدة والظفر بالديمقراطية. وستستخدم البروليتاريا سيادتها السياسية لأجل انتزاع الرأسمال من البرجوازية شيئا فشيئا، ومركزة جميع أدوات الإنتاج في أيدي الدولة، أي في أيدي البروليتاريا المنظمة في طبقة سائدة، وزيادة كمية القوى المنتجة وإنمائها بأسرع ما يمكن.

ولا يتم ذلك طبعا في بادئ الأمر الا بخرق حق التملك وعلاقات الإنتاج البرجوازية بالشدة والعنف، أي باتخاذ تدابير تتراءى من الوجهة الاقتصادية غير كافية ولا مأمونة البقاء، ولكنها تتعاظم وتتجاوز نفسها بنفسها خلال الحركة وتكون ضرورية لا غنى عنها كوسيلة لقلب أسلوب الإنتاج بأسره.

وستختلف هذه التدابير، طبعا، في مختلف الأقطار. غير أنه يمكن تطبيق التدابير التالية، بصورة عامة تقريبا في اكثر البلاد تقدما ورقيا:

1. نزع الملكية العقارية وتخصيص الريع العقاري لتغطية نفقات الدولة.

2. إلغاء الوراثة.

3. فرض ضرائب متصاعدة جدا.

4. مصادرة أملاك جميع المهاجرين والعصاة.

5. مركزة التسليف كله في يد الدولة بواسطة مصرف وطني رأسماله للدولة ويتمتع باحتكار تام مطلق.

6. مركزة جميع وسائل النقل في يد الدولة.

7. تكثير المصانع التابعة للدولة وأدوات الإنتاج وإصلاح الأراضي البور وتحسين الأراضي المزروعة حسب منهاج عام.

8. جعل العمل إجباريا للجميع على السواء وتنظيم جيوش صناعية، وذلك لأجل الزراعة على الخصوص.

9. الجمع بين العمل الزراعي والصناعي واتخاذ التدابير المؤدية تدريجيا إلى محو الفرق ببن المدينة والريف.

10. جعل التربية عامة ومجانية لجميع الأولاد ومنع تشغيل الأحداث في المصانع كما يجري اليوم، والجمع بين التربية وبين الإنتاج المادي، الخ...

وما ان تختفي الفوارق الطبقية وتزول خلال سير التطور، ويصبح كل الإنتاج متمركزا في يد جمعية واسعة تشمل الأمة بأسرها، حتى تفقد السلطة العامة صبغتها السياسية. إذ ان السلطة السياسية بالمعنى الصحيح هي العنف المنظم لطبقة من اجل اضطهاد طبقة أخرى. فإذا كانت البروليتاريا، في نضالها ضد البرجوازية، تبني نفسها حتما في طبقة، وإذا كانت تجعل نفسها بواسطة الثورة طبقة سائدة، ثم بصفتها طبقة سائدة، تهدم بالعنف والشدة علاقات الإنتاج القديمة، فانها بهدمها علاقات الإنتاج القديمة تهدم في الوقت نفسه ظروف وجود التناقض والتناحر بين الطبقات وتهدم الطبقات بصورة عامة، وبذلك تهدم أيضا سيادتها ذاتها من حيث هي طبقة.

وعلى أنقاض المجتمع البرجوازي القديم بطبقاته وتناقضاته الطبقية يبرز مجتمع جديد تكون حرية التطور والتقدم لكل عضو فيه شرطا لحرية التطور والتقدم لجميع الأعضاء.


ترجمة: الياس شاهين

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:11 PM

هوامش
هوامش ماركس وإنجلز

[1] بروسيا: دولة قديمة كانت تقع في شمال ألمانيا على ساحل بحر البلطيق.

[2] كومونة باريس: أول حكومة "اشتراكية" في التاريخ. وهي عبارة عن حكومة تألفت في باريس من الاشتراكيين واليساريين ردا على محاولة المجلس الوطني (البرلمان) وضع دستور جديد كان من الممكن ان يعود بالبلاد إلى النظام الملكي. ودار صراع دموي بين مؤيدي الكومونة ومؤيدي النظام السابق لها راح ضحيته زهاء عشرون ألفا.

[3] نستخدم تعبير "الصناعي" كصفة متميزة بالتضاد عن "الزراعي". أما بمعناه كمقولة اقتصادية، فان المزارع هو رأسمالي صناعي شأنه شأن صاحب الفابريكة.

[4]"The Natural and Artificial Rights of Property Contrasted" London 1832, P. 98-99

ان مؤلف هذا الكتاب الغفل هو: ت. هودسكين.

[5] حتى في عام 1794، أرسل صغار المعلمين من صانعي الأقمشة الصوفية في ليدز، وفداً إلى البرلمان يحمل التماساً بتشريع قانون يحظر على أي تاجر ان يصبح صناعياً.

[6] الهند الشرقية: إندونيسيا.

[7] اليعاقبة: أعضاء أكبر جمعية سياسية ثورية حكمت أثناء الثورة الفرنسية. من أشهر زعمائهم وأكثرهم نفوذا كان روبسبير.

[8] William Howitt. "Colonization and Christianity. A Popular History of the Treatment of the Natives by the Europeans in all their Colonies". London, 1838, p.9

وبشأن معاملة العبيد، ثمة معطيات وفيرة في مؤلف

Charles Comte."Traite de Legislation", Brussels, 1837.

وينبغي ان يدرس المرء هذا البحث دراسة تفصيلية ليرى إلام يحول البرجوازي نفسه وإلام يحول عماله، حيثما يستطيع بلا حرج، ان يحول العالم على صورته.

[9]Thomas Stamford Raffles late Lieute. Gov. of that island. "The History of Java" London, 1817.

[10] في عام 1866 قضى اكثر من مليون هندي نحبه جوعاً في مقاطعة اوريسا وحدها. ومع ذلك، كانت كل الجهود تبذل لإغناء خزينة الحكومة في الهند برفع أسعار بيع وسائل المعيشة إلى الشعب المتضور جوعاً.

[11] يشير وليم كوبيت إلى ان جميع المؤسسات العمومية في إنكلترا ويسمها بالمؤسسات "الملكية"، أما دين الحكومة فيسميه على سبيل التعويض الدين "الوطني" (National debt).

[12] "لو اجتاح التتر أوروبا اليوم، فسيتطلب الأمر كبير عناء، كي نفهمهم ما هو دور الرجل المالي عندنا" (Montesquieu. "Esprit des Lois", ed. Londres, 1769, t. IV, p. 33).

[13] Mirabeau، المرجع المذكور، المجلد 6، ص 101.

[14] Eden، The State of the Poor ، الكتاب الثاني، الفصل الأول، ص 421.

[15] John Fielden، لعنة نظام الفبارك، ص 5 و 6. وبصدد البشاعات المقترفة في بداية عهد الفبارك، راجع Dr. Aikin، وكذلك Gisborne "Inquiry into the Duties of Men", 1795, v. II.- عندما نقلت الآلة البخارية الفبارك من مساقط المياه الريفية النائية إلى المدن، وجد الرأسمال المولع "بالتقشف"، ان اليد العاملة الطفولية جاهزة في متناول يده، وان لا حاجة له إلى جلب عبيد من مأوى العمل عنوة. وحين عرض السير روبرت بيل (والد "وزير الأدب") على البرلمان مسودة قانون لحماية الأطفال، عام 1815، أعلن فرنسيس هورنر (النجم المنير في "لجنة السبائك" وصديق ريكاردو الحميم) في مجلس العموم قائلا: "يعرف الجميع انه جرى مؤخراً عرض زمرة، ان جاز استخدام هذه الكلمة، من هؤلاء الأطفال للبيع سوية مع الممتلكات المنقولة لأحد المفلسين، وبيعت بالمزاد العلني كجزء من ممتلكاته. وقبل عامين (في 1813) أحيلت قضية بالغة الشناعة إلى "محكمة المقعد الملكي"، تدور عن عدد من هؤلاء الأولاد، الذين أعطتهم إحدى الابرشيات للعمل كمتمرنين عند صناعي من لندن، تنازل عن الأولاد لصناعي آخر، ثم وجدهم بعض الأخيار على شفا الموت جوعاً (absolute famine). واطلع على قضية افظع من هذه عندما كان يعمل في لجنة تحقيق برلمانية... فقبل سنوات قلائل، أبرمت أبرشية من أبرشيات لندن اتفاقاً مع صناعي من لانكشاير تعهد فيها بأخذ طفل معتوه مع كل عشرين طفلاً سليماً".

[16] في عام 1790، كان هناك عشرة عبيد أرقاء، مقابل رجل حر واحد في الهند الغربية الإنكليزية، و14 عبداً رقيقاً مقابل حر واحد في الهند الغربية الفرنسية، و23 مقابل واحد في الهند الغربية الهولندية

(Henry Brougham. "An Inquiry into the Colonial Policy of the European Powers" Edinburgh, 1803, v. II. p. 74).

[17] نجد ان عبارة "Labouring poor" ("الفقراء العاملون") ترد في القوانين الإنكليزية منذ ان اكتسبت طبقة العمال المأجورين مقاييس تلفت الانتباه. ويستخدم هذا التعبير تمييزاً له عن "idle poor" ("الفقراء المتعطلين") والشحاذين ومن إليهم، ومن جهة، وتمييزاً له عن الطير الذي لم ينتف ريشه بعد، أي الشغيلة، الذين لا يزالون مالكين بعد، لوسائل العمل الخاصة بهم، من جهة أخرى. وانتقل تعبير "labouring poor" من دفاتر القانون إلى الاقتصاد السياسي، وقد أورثه كولبيير، وج. تشايلد، الخ.، إلى آدم سميث وايدن. بعد هذا يمكن للمرء ان يحكم لي bonne foi (حسن نية) ادموند بورك هذا "execrable political cantmonger"("المنافق السياسي البغيض")، الذي وصف تعبير "labouring poor" بأنه "execrable political cant" ("نفاق سياسي يغيض"). ان هذا المتملق الذليل، الذي قام بدور الرومانتيكي المناهض للثورة الفرنسية، لحساب الطغمة المالية الإنكليزية التي كانت تدفع له، مثلما قام بدور الليبرالي المناهض للطغمة الإنكليزية، لحساب المستعمرات الأمريكية الشمالية التي كانت تدفع له، أيام بدء الاضطرابات في أمريكا. اما في الواقع فقد كان برجوازياً مبتذلا تماماً. "ان قوانين التجارة هي قوانين الطبيعة وبالتالي فهي قوانين الرب.

(E. Bruke. "Thoughts and Details on Scarcity", ed. London, 1800, p. 31, 32).

لا عجب اذن، وهو الوفي لقوانين الرب والطبيعة، ان يبيع نفسه دوماً في افضل الاسواق! ومن الممكن ان نجد صورة جيدة عن الادموند بورك هذا، ايام عهده الليبرالي، في كتابات تاكر. لقد كان تاكر كاهناً وعضواً في حزب المحافظين (التوري)، وفيما عدا ذلك كان رجلا جديراً بالاحترام، واقتصادياً بارعاً. وازاء اللامبدئية الشائنة التي تسود في زمننا هذا، وتؤمن ايماناً مبجلا بــ "قوانين التجارة"، فان واجبنا الملزم يقضي بان نسم بميسم العار، دون كلل، جميع الذين من طراز بورك، الذين لا يتميزون عن اخلافهم بشيء عدا الموهبة!

[18] Marie Augier. "Du Credit Public".

[19] تقول مجلة "Quarterly Reviewer"، "ان رأس المال يتحاشى الضجة والمنازعات، فهو يتسم بالوجل، وهذا القول صحيح لكنه لا يعرض الحقيقة كلها. ان رأس المال يرعبه انعدام الربح، أو الربح الضئيل جداً مثلما قالوا فيما مضى ان الطبيعة تمقت الفراغ. وان ربحاً مناسباً يجعل رأس المال جريئاً، و10 في المئة تدفعه لأن يعمل في أي مجال، و20 في المئة تزيد اندفاعه وتوقه، و50 في المئة تجعله طائشاً متهوراً، و100 في المئة تجعله يدوس بالاقدام كل القوانين البشرية، وعند 300 في المئة لن يتورع عن ارتكاب أية جريمة، أو خوض أية مخاطرة، حتى لو عرضت مالكه إلى حبل المشنقة. واذا كانت الضجة والمنازعات تأتيه بالربح، راح يشجعها جميعاً بطيب خاطر. وقد قدم التهريب وتجارة العبيد البرهان على كل ما نقول هنا" T. J. Dunning، المرجع المذكور، ص 35و36).

[20] "لقد بلغنا وضعاً جديداً تماماً بالنسبة إلى المجتمع... فنحن نسعى إلى فصل كل نوع من الملكية عن كل نوع من العمل"

Sismondi. "Nouveaux Principes de I'Economie Politique". t.II [Paris, 1827], p. 434

[21] "ان رقي الصناعة الذي ليست البرجوازية الا خادماً منفعلا له ومقسوراً على خدمته يستعيض عن انعزال العمال الناتج عن تزاحمهم، باتحاد ثوري بواسطة الجمعيات. وهكذا ينتزع تقدم الصناعة الكبرى من تحت اقدام البرجوازية نفس الاسس التي شادت عليها نظام انتاجها وتملكها. ان البرجوازية تنتج قبل كل شيء حفاري قبرها، فسقوطها وانتصار البروليتاريا كلاهما امر محتوم لا مناص منه... وليس بين جميع الطبقات التي تقف الآن امام البرجوازية وجهاً لوجه الا طبقة واحدة ثورية حقاً، هي البروليتاريا. فان جميع الطبقات الاخرى تنحط وتهلك مع نمو الصناعة الكبرى، اما البروليتاريا فهي، على العكس من ذلك، اخص منتجات هذه الصناعة. ان الفئات المتوسطة، من صغار الصناعيين والباعة بالمفرق والحرفيين والفلاحين، تحارب البرجوازية من اجل الحفاظ على وجودها بوصفها فئات متوسطة. فهي ليست اذن ثورية، بل محافظة، واكثر من محافظة ايضاً، انها رجعية، فهي تطلب ان يرجع التاريخ القهقرى ويسير دولاب التطور إلى الوراء" (كارل ماركس وفريدريك انجلز. "بيان الحزب الشيوعي"، لندن، 1848).

[22] نعني بالبرجوازية طبقة الرأسماليين المعاصرين، مالكي وسائل الإنتاج الاجتماعي الذين يستخدمون العمل المأجور. ونعني بالبروليتاريا طبقة العمال الأجراء المعاصرين الذين لا يملكون أية وسائل إنتاج فيضطرون بالتالي إلى بيع قوة عملهم لكي يعيشوا. ( ملاحظة إنجلز للطبعة الإنجليزية عام 1888)

[يستخدم مصطلح "برجوازي" على وجهين: إما للدلالة على طبقة الرأسماليين، كما ورد أعلاه؛ وإما للدلالة على مجتمع المدينية التي نشأت كتجمعات حول المصانع أثناء وبعد الثورة الصناعية.]

[23] وعلى الأصح التاريخ المكتوب كله: ففي عام 1847 كان تاريخ النظام الاجتماعي الذي سبق كل تاريخ مكــتوب، أي عهد ما قبل التاريخ، مجهولا تقريبا. وبعدئذ اكتشف هاكستهاوزن في روسيا الملكية المشاعية للأرض، وبرهن مورير ان هذه الملكية المشاعية كانت الأساس الاجتماعي الذي انطلق منه تاريخيا تطور جميع القبائل الجرمانية، ثم تبين شيئا فشيئا ان المشاعة الريفية مع التملك الجماعي للأرض كانت في الماضي أو تؤلف الآن الشكل البدائي للمجتمع في كل مكان من الهند إلى أيرلندا. وأخيرا اتضح تماما التنظيم الداخلي لهذا المجتمع الشيوعي البدائي بما فيه من ميزات أساسية، عقب اكتشاف مورغان الذي بيّن الطبيعة الحقيقية للعائلة البدائية الأولى ومكانها من العشيرة. وبانحلال هذه المشاعة البدائية يبدأ انقسام المجتمع إلى طبقات متمايزة تصبح في آخر الأمر متناحرة. وقد حاولت تتبع سير هذا الانحلال في كتابي "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة". ( ملاحظة إنجلز للطبعة الإنجليزية سنة 1888).

[24] المعلم : عضو كامل الحقوق في الحرفة، معلم في داخل المشغل لا رئيسه. ( ملاحظة إنجلز للطبعة الإنكليزية سنة 1888).

[25] "الكومونة": هكذا كانت تسمى في فرنسا المدن الناشئة حتى قبل ان تنتزع من مالكيها وأسيادها الإقطاعيين الإدارة المحلية الذاتية والحقوق السياسية " للفئة الثالثة ". وبوجه عام، أخذت إنكلترا هنا نموذجا لتطور البرجوازية الاقتصادي وأخذت فرنسا نموذجا لتطور البرجوازية السياسي.( ملاحظة إنجلز للطبعة الإنكليزية عام 1888).

الكومونة: هكذا كان سكان المدن في إيطاليا وفرنسا يسمون مجموعتهم المدينية، فور انتزاعهم أو شرائهم من سادتهم الإقطاعيين حقوقهم الأولية في الإدارة الذاتية. ( ملاحظة إنجلز للطبعة الألمانية عام 1890).

[26] البطركية: نظرية ترى ان السلطة السياسية تنجم عن، أو تشتق من "حكومة المنزل".

[27] حثالة البروليتاريا، الرعاع.

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:12 PM

12- برتراند راسل

برتراند راسل (Bertrand Russell) عالم رياضيات وفيلسوف بريطاني، ومن اشهر المفكرين والشخصيات العامة في بريطانيا، حتى وفاته في عام 1970 عن ثمانية وتسعين عاماً.

بالإضافة إلى إنجازاته في الفلسفة والرياضيات والمنطق، اشتهر على نطاق واسع بفضل كتاباته المتعددة والمتنوعة في السياسة والشؤون العامة. اتسم أسلوبه في الكتابة بالأناقة في استخدام اللغة وبروح الفكاهة، وبالاستخراج الحاذق للمثل النافي والاستثناء، بهدف إضعاف موقف الخصم وإيجاد ثغرات منطقية فيه. وهو من افضل كتّاب "المقالة" كنوع من أنواع الكتابة. عمل طيلة حياته من اجل السلم ومناهضة الأسلحة النووية وكان نصيرا للعدالة الاجتماعية في معظم كتاباته.

وقد ساهم راسل مساهمة كبيرة في تطور المنطق الرياضي الحديث. فقد طور منطق "الإضافة" وحسن لغة الرموز المنطقية. ولقد حاول راسل مع هوايتهد في بداية القرن العشرين، وهما يتبعان فريغه (Frege) ان يستكملا الأساس المنطقي للرياضيات. وقد كتب عدداً كبيراً من الأعمال الفلسفية عن مشكلات العلم الطبيعي. وقد ذهب راسل إلى ان الفلسفة تستمد مشكلاتها من العالم الطبيعي وان مهمتها هي تقديم تحليل وتفسير مادي لمفاهيم العالم الطبيعي، وان ماهية الفلسفة هي المنطق والتحليل المنطقي للغة. ويعد راسل بحق اكبر ممثل بارز للوضعية الجديدة المحدثة. وقد طرأ على نظرة راسل، في حل المشكلة الرئيسية للفلسفة، تطور من المثالية الموضوعية إلى المثالية الذاتية. فالإنسان في رأيه عليه أن يشتغل بالمعطيات الحسية. ان ما يدركه الإنسان هو "واقعه" ومركبا من "الوقائع". والوقائع لا تعد فيزيقية أو حسية، إنها محايدة. وعند راسل ان ما يتجسد بشكل تجريبي لا يجب ان يعزى إلى مجال الفيزياء المحضة، بل إلى الفيزياء مضافاً إليها القطاع المقابل من علم النفس. فعلم النفس جزء جوهري لكل علم تربوي. وراسل في نظرية المعرفة لا-أدري (agnostic): فهو بإنكاره للنظرية المادية للمعرفة أورد فلسفة الشك محلها. وكان راسل في السنوات الأخيرة من حياته مساهماً فعالاً في حركة نزع السلاح العام. وقد خدمت مقالاته وخطبه ضد الحرب والدعوة إلى السلام، قضية التقدم الإنساني.




راسل: مختارات من "أسس لإعادة البناء الاجتماعي"


الفصل الثاني: الدولة :

يبدو أن التفكير الليبرالي قد أخذ يميل في السنوات الأخيرة‎، تحت تأثير النظرة الاشتراكية، إلى منح الدولة سلطة متزايدة مظهرا بعض العداوة نحو مكانة الملكية الخاصة. نجد مقابل ذلك أن النظرة النقابية تظهر عداوة لكل من الدولة والملكية الخاصة معا. أنا أميل إلى الاعتقاد بأن النظرة السنديكالية[1] أقرب إلى الصواب من النظرة الاشتراكية في هذا الشأن وذلك لأن كلا من الملكية الخاصة والدولة، اللتين هما أكثر المؤسسات سيطرة في العالم المعاصر، يزيد من فقدان الحيوية التي يشكو العالم منها بشكل مضطرد. تتعلق هاتان المؤسستان ببعضهما تعلقا وثيقا، ولكن دراستي ستقتصر في الوقت الحاضر على الدولة، وإلى أي حد هي غير ضرورية وضارة، وسأبين كيف يمكن تخفيفها من دون إجراء أية خسارة في منافعها. ولكنني سوف أقدم اقتراحا يرمي إلى تمديد مهام الدولة في نواحٍ أخرى بدلا من تقصيرها.

يمكن أن تقوم بمهام الدولة التي تتعلق بالبريد والتعليم الابتدائي مؤسسات خاصة، ولكن الدولة تقوم بها بدافع من الملائمة. ولكن هناك أمور ثانية يتعذر أن نتصورها في أيد أخرى، ما دام هناك دولة، مثل القانون والبوليس والجيش والبحرية. يختلف الاشتراكي والفردي حول مهام الدولة غير الأساسية إذ يتمنى الاشتراكي تمديدها والفردي تقصيرها. يتفق الاشتراكيون والفرديون على بعض مهام الدولة الأساسية، وهذه هي الأمور التي أرغب في انتقادها لأن المهام غير الأساسية هي، بحد ذاتها، غير جديرة بالاعتراض.

إن الشيء الجوهري في الدولة هو كونها مصب قوى المواطنين مجتمعة. تأخذ هذه القوى شكلين: شكلا داخليا وشكلا خارجيا. يتمثل الشكل الداخلي بالقانون، والشكل الخارجي يتمثل بالمقدرة، التي تتجسد في الجيش والبحرية، على شن حرب ما. تتكون الدولة من جراء ضم قوى كل سكان منطقة معينة تحت إمرة حكومة ما. تستعمل الدولة المتحضرة القوى ضد مواطنيها وفقا لشروط يعينها القانون الجزائي. أما استخدام القوة ضد الغرباء فلا تضبطه أية أنظمة أو قواعد، بل يترك، باستثناء بعض الحالات الخاصة، إلى تقلبات المصلحة القومية أكانت هذه حقيقة أم وهمية.

ليس من شك في أن القوة التي تستخدم طبقا للقواعد والقانون هي أقل أذى من القوة التي تحركها الأهواء. فلو تسنى للقانون الدولي أن يسيطر على عواطف الولاء عند الناس سيطرة كافية في تنظيم العلاقات بين الدول، لأحرزنا تقدما كبيرا على وضعنا الحالي. الفوضى البدائية التي تسبق تشكيل القانون هي أسوأ من أسوأ القوانين. أنا أعتقد أن من السهل إيجاد منزلة تعلو على القانون، نتمتع فيها بذات المنافع التي يمكن ان نحصل عليها من خلال القانون ومن دون أية خسارة في الحرية ومن دون التعرض لذات المضمار التي يجعلها القانون أو البوليس محتمة. من المحتمل أن يكون وجود بعض قوى الاحتياط ضروريا ولكن استخدام القوة الفعلي يصبح نادرا كما تصبح درجة القوة المطلوبة ضئيلة. إن الفوضى التي تسبق القانون تعطي حرية إلى الرجل القوي فقط، ولكن الحرية التي نطمح إليها تجعل كل فرد تقريبا حرا. نستطيع تحقيق مثل هذه الحرية ليس بمحو وجود القوة المجهزة محوا كليا، بل بوضع أكبر حد ممكن لمناسبات استخدامها.

يحد سلطة الدولة داخليا الخوف من الانقلاب وخارجيا الخوف من الانهزام في الحرب. وإذا صرف النظر عن هذه المخاوف، فسلطة الدولة مطلقة. يمكن أن تستولي الدولة في الواقع من خلال الضرائب على ممتلكات الناس، كما يمكنها أن تحدد قانون الزواج والميراث، وأن تعاقب التعبير عن الآراء التي لا تعجبها، وأن تنكل بمن يطالب بضم مقاطعته إلى دولة أخرى، وأن تأمر كل ذكر ذي بنية سليمة بالسير إلى الحرب كلما وجدت أن شن الحرب هو في صالحها. وفي نواحٍ أخرى متعددة تعتبر مخالفة أهداف الدولة وآرائها جريمة. لربما كانت أميركا وبريطانيا قبل الحرب أكثر دول العالم تمتعا بالحرية، ولكن حتى في أميركا لا يسمح لأي مهاجر أن يطأ أرضها قبل أن يعترف بعدم إيمانه بالفوضوية السياسية وتعدد الأزواج، بينما كان الناس في إنكلترا في السنوات الأخيرة يزجون في السجون لمجرد إعلانهم عن مخالفتهم للديانة المسيحية[2]، أو لموافقتهم لتعاليم المسيح[3]. يعتبر كل انتقاد للسياسة الخارجية عملا إجراميا. فإذا رغبت الأكثرية، أو أصحاب السلطة الفعلية، في شيء ما، كان من المفترض أن كل من لا يرغب في ذلك الشيء تعرض لأشنع أنواع العذابات والعقوبات مثل العذابات والعقوبات التي تعرض لها الهراطقة[4] في الماضي. إن مدى الطغيان الذي يطبق في هذه الحالة يتوقف على مدى نجاحه. قليل من الناس يحجم عن فتح باب الاضطهاد عندما يتأكد أنه سيكون اضطهادا ساحقا.

خدمة العلم الإلزامية ربما هي المثل الأقصى عن قوة الدولة والشاهد الأول عن الفرق بين نظرتها إلى مواطنيها ومواطني الدول الأخرى. تجازي الدولة بصرامة تامة كل من يقتل مواطنيه وكل من يرفض قتل مواطني الدول الأخرى. وبوجه عام يعتبر الوضع الأخير جريمة أسوأ. إن الحرب ظاهرة مألوفة ويفشل الناس في ملاحظة غرابتها، إنها في الواقع تبدو لِمن يعيش طبقا لغرائزه الحربية طبيعية ومعقولة، أما من يأبى أن يعيش وفقا لتلك الغرائز، فيجد استغرابه للحرب ينمو بشكل مألوف تماما. من المدهش كيف تتساهل أكثرية الناس بوجود نظام يجبرهم على الخضوع لأهوال المعركة في أية لحظة تشاؤها حكوماتهم. يجد الفنان الفرنسي غير العابئ بالسياسة والمنكب على لوحاته فقط، نفسه فجأة مدعوا لقتل الألمان الذين هم، كما يؤكد له رفاقه، سخطة على الجنس البشري كله. وكذلك يجد الموسيقي الألماني نفسه مدعوا لقتل الفرنسي الخداع. فلماذا لا يستطيع الاثنان أن يتركا الحرب إلى أولئك الذين يهوونها ويشهرونها؟ والفظاعة في الأمر أنه إذا أعلن الفنانان حيادهما، قتلهما على الفور بقية المواطنين: أما إذا حاولا التخلص من هذا المصير، أرغما على قتل أحدهما الآخر. فإذا خسر العالم الفنان وبقي الموسيقي حيا فرحت ألمانيا أما إذا خسر العالم الموسيقي وليس الفنان، ابتهجت فرنسا. ولكن لا أحد يفتكر أن خسارة الحضارة متساوية أيهما قتل.

إن سياسة كهذه هي سياسة "بدلامية"[5] جنوبية. فلو سمح للفنان وللموسيقي بأن يتجنبا الحرب، لحصدت البشرية خيرا كليا. إن سلطة دولة، تجعل ذلك التجنب مستحيلا، هي شر كلها كسلطة الكنيسة حينما كانت تدفع الناس إلى الجحيم لمجرد أن أفكارهم غير مستقيمة. لو نشأت في أيام السلم منظمة دولية تمثل فيها الألمان والفرنسيون بأعداد متساوية وأقسموا على أن لا يشتركوا في الحرب، لوجدت تلك المنظمة اضطهادا متساويا من كلا الدولتين: الفرنسية والألمانية. يطيع المواطنون المعاصرون بلدانهم الديمقراطية طاعة عمياء ويظهرون رغبة غير محدودة في القتل والاضطهاد، كما كان يفعل تماما جيش الانكشارية عند السلاطنة العثمانيين والعملاء السريون عند الطغاة الشرقيين[6].

يمكن أن تؤثر سلطة الدولة ليس من خلال القانون فقط، بل من خلال الرأي العام أيضا، كما هي الحال في إنكلترا. تكون الدولة، بواسطة الخطابة والصحافة، الرأي العام تكوينا شبه تام. والرأي القاسي هو عدو الحرية، وعداوته ليست بأٌقل وطأة من عداوة القوانين المجحفة. إذا وجد الفتى الذي يرفض أن يذهب إلى الحرب، نفسه مصروفا من عمله، مهانا في وسط الشوارع، متجنبا من رفاقه ومزدرى من صاحبته، فسيشعر أن العقاب صعب الاحتمال صعوبة الحكم بالإعدام[7]. لا يتطلب المجتمع الحر حرية قانونية قط، بل كذلك رأي عام متساهل وغياب ذاك التدخل الغريزي في شؤون جيراننا الذي يتيح المجال، تحت ستار المحافظة على وضع خلقي عال، أمام أناس حسني النية لكي يشبعوا، بلا وعي منهم، ميلهم إلى القسوة والاضطهاد. ليس اتهام الآخرين بالسوء بحد ذاته سببا لأن نظن الخير في أنفسنا. ولطالما تبقى هذه الحقيقة غير مفهومة، ولطالما تقدر الدولة أن تكون الرأي العام باستثناء بعض الحالات حيث تكون الدولة ثورية، فمن الضروري أن يحسب الرأي العام كأنه جزء مما يؤلف سلطة الدولة.

تستمد الدولة، على الأرجح، سلطتها في خارج حدودها من الحرب أو التهديد بالحرب. تستطيع أيضا فرض سطوتها خارجيا من خلال قدرتها على إقناع مواطنيها بإعطاء قروض إلى البلدان الأخرى أم لا، ولكن هذه السطوة لا تعتبر شيئا مهما إذا ما قيست بقوتها المستمدة من الجيوش والبحرية. إن أعمال الدولة الخارجية هي أنانية، فيما عدا بعض الحالات النادرة التي لا تستأهل أن تذكر. تحد في بعض الأحيان الحاجة إلى الاحتفاظ بعلاقة طيبة مع الدول الأخرى من الأنانية، ولكن هذا التعديل يطرأ على الأساليب المستخدمة لتحقيق الأهداف وليس على الأهداف ذاتها. الأهداف المبتغاة، بصرف النظر عن الحاجة إلى الدفاع عن النفس في وجه الدول الأخرى، هي مناسبات للاستثمار الفعال للدول الضعيفة أو غير المتحضرة من ناحية، ولتضخيم العز والسيادة التي تعتبر شيئا أكثر مجدا وأكثر تعاليا من الأموال، من ناحية أخرى. لا تتوانى أي دولة في سبيل تحقيق هذه الأهداف عن قتل العديد من الأجانب الذين لا تتناسب سعادتهم مع الاستعمار والخضوع أو عن تخريب المقاطعات التي يظن أن من الضروري أن يصيبها الهلع. ارتكبت هذه الفظائع كل الدول الكبيرة وبعض الدول الصغيرة، ما عدا النمسا التي لا تنقصها الإرادة وإنما المناسبة خلال السنوات العشرين الماضية باستثناء الحرب الحاضرة[8].

لماذا يرضخ الناس لسلطة الدولة؟ هناك أسباب متعددة يعود بعضها إلى التقليد وبعضها الآخر يرجع إلى أشياء حاضرة وحرجة جدا.

السبب التقليدي لطاعة الدولة هو الخضوع الشخصي للسلطان أو الحاكم. نمت الدول الأوروبية على مخلفات النظام الإقطاعي إذ أن أراضيها كانت مقاطعات يمتلكها سادة الإقطاع. اندثر مصدر هذه الطاعة التقليدية وربما لم يبق له وجود إلا في اليابان وإلى درجة ما في روسيا.

لكن لا يزال الإحساس القبلي، أو العصبية، الذي كان دائما أساس طاعة الحاكم، قويا وهو يشكل الآن الدعامة الأولى لسلطة الدولة. يجد كل إنسان تقريبا أن من الضروري لشعوره بالسعادة أن يكون عضوا في جماعة تحركها صداقات وعداءات مشتركة وتتلاحم سوية في الدفاع وفي الهجوم. ولكن هناك نوعان من هذه الجماعات التي هي مكبرات عن العائلة، والجماعات التي تبنى على هدف مشترك مدروس. ترجع الأمم إلى الفئة الأولى والكنائس إلى الفئة الثانية. فعندما تهيج الناس عقائد دينية، فغالبا ما تتبخر الفوارق القومية، كما حصل في الحروب الدينية بعد حركة الإصلاح. في هذه الحالة تصبح العقيدة الدينية رابطا أقوى من الوطنية المشتركة. مع قدوم الاشتراكية إلى العالم المعاصر، حصل وضع كهذا، ولكن إلى درجة أقل. ففي الناس الذين لا يؤمنون بالملكية الخاصة بل يشعرون أن الرأسمالي هو عدوهم الحقيقي رابطة تعلو على الفوارق القومية. لم يظهر بعد ما إذا كانت تلك الرابطة هي من القوة بحيث تستطيع مقاومة الميول التي تغذي الحرب الحاضرة، ولكن ما ظهر منها يدل على أنها جعلت ميول الاشتراكيين إلى الحرب أقل حدة من غيرهم وبهذا أحيت الأمل بإعادة بناء مجتمع أوروبي بعد انتهاء الحرب. لكن الرفض الشامل، بوجه عام، لكل العقائد الدينية ترك الشعور القبلي منتصرا والشعور القومي أقوى مما كان في أي حقبة من التاريخ. لقد أنِس بعض المسيحيين المخلصين والاشتراكيين الصادقين قوة في معتقداتهم، قادرة على مقاومة هجمات الشعور القومي ولكنهم كانوا قلة ضئيلة لم تستطع تغيير مجرى الحوادث أو تسبيب قلق فعلي للحكومات.

يولد الشعور العصبي الوحدة في الأمة بشكل رئيسي، ولكنه لا يولد قوتها بمفرده. تتولد قوة الأمة بشكل رئيسي من تخوفين اثنين من دون أن يكون أيهما بعيدا عن العقل: أولا الخوف من تفشي الجريمة والفوضى في الداخل، وثانيا الخوف من الاعتداء الخارجي.

إن الاستقرار الداخلي في مجتمع متحضر هو إنجاز كبير والدولة هي المسؤول الأول عن إيجاده. كم هو مزعج أن يجد المواطنون الآمنون أنفسهم في حالة دائمة من الخوف والجزع على ممتلكاتهم وأرواحهم؟ إذا ما جهز هواة المغامرات جيوشا خاصة للنهب والسرقة، أصبح الأمل بحياة راقية مستحيلا. لقد ولت ظروف هذه المغامرات مع القرون الوسطى وما كان مضيها بغير مقاومة شرسة. ولا يزال الاعتقاد شائعا حتى الآن، وخاصة بين الأثرياء الذين يستفيدون أكثر ما يمكن تحت ظل النظام والقانون، ان أي انخفاض في سلطة الدولة يقود إلى فوضى عامة. فينظرون إلى الاضطرابات كأنها طلائع الفتك الاجتماعي وترتعد فرائصهم لرؤية منظمات مثل الفيدرالية العامة للعمل (Confederation Generale du Travail) والاتحاد العالمي للعمال (International Workers of the World) يتذكر أصحاب ذلك الاعتقاد الثورة الفرنسية فيرتعدون ويتلمسون رؤوسهم إذ أنها الشيء الوحيد الذي يرغبون في المحافظة عليه. يرهبون بشكل خاص كل نظرية يبدو أنها تجد عذرا للجرائم الخاصة كأعمال التخريب (sabotage) والاغتيال السياسي. لا يجدون حماية من هذه المخاطر إلا في قوة الدولة ولهذا يعتقدون أن كل مقاومة للدولة هي شر بحد ذاتها.

يزيد الخوف من الاعتداء الخارجي الخوف من خطر داخلي. كل دولة هي معرضة في كل وقت لخطر الغزو من الخارج. لم تبتدع حتى الآن أي وسيلة لتخفيف ذلك الخطر سوى وسيلة التسابق في التسلح. ولكن السلاح الذي يراد به دفع الغزو الخارجي هو نفس السلاح الذي يمكن أن يستخدم للغزو. هكذا نجد الوسيلة التي يمكن أن تزيل الخوف من الغزو الخارجي هي ذات الوسيلة التي يمكنها أن تزكيه وبالتالي تجعل الحرب إذا ما وقعت بالفعل ذات مفعول هدام. وبهذا تنزل بالناس حالة من الرعب وتأخذ الدولة في كل مكان صفة المجالس الثورية (Comité du Salvt Public).

إن الشعور الذي تنمو منه الدولة هو شعور طبيعي، ولهذا نجد الخوف على الدولة معقولا في الظروف الحاضرة. بالإضافة إلى هذين المصدرين لقوة الدولة، هناك مصدر آخر ألا وهو الوطنية المتطرفة والمشابهة للغيرة الدينية.

الوطنية هي شعور مركب مبني على غرائز أولية ومعتقدات سامية. يدخل في تركيب الشعور الوطني حب المنزل والعائلة والأصحاب الذي يجعلنا حريصين جدا على المحافظة على وطننا من الغزاة، ومحبة غريزية نضفيها على المواطنين ونمنعها عن الأجانب، وافتخار بنجاح مجتمعنا الذي نشكل جزءا منه. يعتقد كل إنسان اعتقادا يزكيه حب الافتخار ويثبته التاريخ بأن وطنه يمثل تقليدا عظيما ويقف بجانب المثل التي تهم الجنس البشري كله. ولكن هناك بالإضافة إلى كل هذا، عنصر هو في الوقت نفسه أكثر نبلا وأكثر تعرضا للمهاجمة، هو عنصر العبادة، عنصر الإرادة المضحية، عنصر الفرح بذوبان حياة الفرد في حياة الأمة. يشكل هذا العنصر الناحية الدينية في الوطنية التي هي أساسية لقوة الدولة ويضع أفضل شيء في حياة الناس تحت لواء التضحية في سبيل الأمة.

يزكي التعليم العنصر الديني في الوطنية وخاصة دراسة تاريخ وأدب الأمة التي ننتمي إليها، لا سيما حينما تكون غير مرفقة بدراسة لتاريخ الأمم الأخرى وآدابها. يشدد في تعليم النشىء، في كل الأمم المتحضرة، على حسنات أمتهم وسيئات الأمم الأخرى. فيؤمن الفرد بأن أمته تستحق الدعم في أي نزاع، مهما كان سبب نشوئه، لأنها أمة متفوقة. يصبح هذا الإيمان طبيعيا جدا لدرجة أنه يجعل الناس تحتمل كل الخسائر. هذا الإيمان، الذي يشابه الإيمان في الديانات المقبولة بكل صدق وطواعية، هو نظرة شاملة للحياة مبنية على غريزة متعالية (sublimated) تدفع إلى التعلق بغاية تعلو كل غاية شخصية، غاية تحتوي على غايات شخصية متعددة كما لو كانت في حالة انصهار.

إن الوطنية كديانة هي غير مُرْضيَة إذ ينقصها الشمول الكلي. الخير الذي ترمي إليه الوطنية هو خير أمة الفرد منا وليس خير العالم أجمع. والرغائب التي توحيها الوطنية في الرجل الإنكليزي هي غير الرغائب التي تكشفها للألماني. ولذلك يصبح العالم الممتلئ بالوطنيين عالم نزاع وصراع. وكلما اشتد إيمان الأمة بوطنيتها اشتدت لا مبالاتها بنكبات الأمم الأخرى. عندما يتعلم الناس إخضاع خيرهم لخير مجموعة أكبر، لا يبقى أي سبب شرعي يمنعهم من معانقة الجنس البشري بأسره. ما يجعل ميول الناس إلى التضحية تتوقف عند حدود وطنهم هو في الواقع (admixture) دفعة من التكبر القومي. وهذه الدفعة تسمم القومية وتجعلها فيما إذا قيست بالمعتقدات التي تهدف إلى خلاص البشرية جمعا، ديانة دنيا. نحن لا نستطيع أن نهرب من الحقيقة، كلنا يحب وطنه أكثر من بقية الأوطان الأخرى، وليس من مبرر لهذا التهرب كما ليس من مبرر لافتراض أن من الضروري أن تحب كل النساء والرجال في العالم بشكل متساو. ولكن واجب كل ديانة على أقل تعديل، الديانة التي تحترم ذاتها، أن تقودنا إلى أن نعرف كيف نوفق بين محبتنا للأفراد غير المتساوية وبين شعورنا بإنصافهم، وأن نعرف كيف نجعل أهدافنا عالمية لنحقق مطالب يشترك فيها كل إنسان. لقد أدخلت المسيحية هذا التغيير على اليهودية، ومن الضروري أن يدخل هذا التغيير على أي وطنية دينية قبل ما تنفى من شرورها الأخرى.

يتصدى للوطنية، في الواقع أعداء كثيرون. فنمو الكوسموبوليتية[9] شيء محتم بسبب التعرف على البلدان الأجنبية من خلال التعليم والتجول. وبالإضافة إلى ذلك هناك نوع من الفردية التي تنتشر باستمرار، فردية مبنية على الاعتقاد بأن كل إنسان يجب أن يملك أكبر قدْر من الحرية لاختيار غايات هو المسؤول الأول عن تحديدها وليس غايات يفرضها عليه وجوده العرضي في بيئة معينة. تقف الاشتراكية والسنديكالية وكل حركات مقاومة الرأسمالية بشكل عام ضد الوطنية، وتذكر هذه الحركات الناس بأن الدولة تدافع حاليا أول ما تدافع عن امتيازات الأغنياء ولهذا يرجع كثير من الاختلاف بين الدول إلى المصالح المالية لحفنة قليلة من الحكام الأثرياء. قد تكون مقاومة تلك الحركات للوطنية مقاومة وقتية، أو قد تكون إحدى نقاط الصراع العمالي من أجل الاستيلاء على السلطة ليس الا. إننا نرى أستراليا حيث أحرز العمال انتصارا لا خوف عليه من الاندحار، مملوءة بالتعصب الوطني والعسكري، ويرجع هذا التعصب إلى إصرار العمال على منع العمل الأجنبي مشاركتهم أرباحهم الناتجة عن وضعهم المتميز. وإذا أصبحت إنكلترا دولة اشتراكية، فلا يبعد عن التصور أبدا أن تملأها موجة مماثلة من التعصب القومي مع فارق وحيد إذ من المحتمل أن تكون قومية دفاعية فقط. قلما ترسم خطط الغزو الخارجي، التي تؤدي إلى خسارة فادحة في حياة الأمة المهاجمة، إلا أيدي أولئك الذين تغذت غرائز حب السيطرة فيهم على السلطة المتولدة من الملكية الخاصة ومن مؤسسات الدولة الرأسمالية.

إن الشر الذي أصاب العالم المعاصر بسبب طفحان كيل سلطان الدولة هو كبير جدا، والغريب في الأمر أن لا يدري به غير القليلون.

إن أهم الأضرار التي تجلبها الدولة هي جعل الحرب شديدة الفعالية. فإذا زادت كل دولة قوتها العسكرية، لا يتغير ميزان القوى ولا تحصل لأي منها مناسبة للانتصار أكبر مما كانت قبل. عندما توجد وسائل الهجوم، تصبح الرغبة في الهجوم عاجلا أم آجلا مغرية جدا حتى ولو كان الهدف الأولي من إيجادها دفاعيا فقط. هكذا تؤدي الوسيلة التي تجلب الأمن في الداخل إلى عدم الأمن في الخارج. إن منع استخدام العنف في الداخل وتحريضه في الخارج هما من جوهر الدولة. تضع الدولة فاصلا اصطناعيا بين الناس وبين واجباتنا نحوهم. فنحو مجموعة ما نحن مقيدون بالقانون ونحو مجموعات أخرى لا تقيدنا إلا دراية قطاع الطرق. إن ما يجعل الدولة شرا هو تفضيلها مجموعة ما على مجموعات أخرى، أضف إلى ذلك أنه عندما تأخذ الدولة شن حرب عدوانية على عاتقها، يصبح رجالها مزيجا من القتلة واللصوص. إن جهاز الدولة الحاضرة لا تتحكم به أي ظاهرة من ظواهر العقل والمنطق لان الفوضى (Chaos) الداخلية والفوضى الخارجية يجب أن يكون كلاهما صوابا معا أو خطأ معا. لكن هذا الجهاز يجد دعما من الجميع لأنهم يعتقدون بأنه الطريق الوحيدة إلى الأمان ولأنه يولد لذة الانتصار والسيادة التي لا يمكن أن يتم الحصول عليها في مجتمع حسن. فلو تخلى الناس عن طلب تلك الملذات، أو لو استحال الحصول عليها، لسهل إيجاد حل لمشكلة الخوف من الغزو الخارجي.

إن الدولة المعاصرة، بصرف النظر عن الحرب، ضارة وذلك بسبب كبرها الذي يرهب الفرد ويذهله. لا يقدر المواطن، الذي لا ترضيه أهداف دولته، أن يتأمل في إقناعها بتبني غايات تظهر له أفضل من غاياتها، إلا إذا تمتع بمواهب نادرة. يحل، في البلدان الديمقراطية، عدد قليل من المواطنين البارزين كل المشاكل ما عدا جزء بسيط منها. ويترك تقرير ما تبقى من مشاكل إلى نتائج الاقتراع العام الذي تسوده فوضى الجماهير المتحمِّسة، لا الانطلاقة الفردية. تظهر هذه الحقيقة في دولة مثل الولايات المتحدة حيث يشعر أكثر الناس، على الرغم من أنهم يعيشون في بلد ديموقراطي، بعجز شبه تام إزاء كل المسائل الكبيرة. في دولة بمثل هذا الحجم، تعتبر الإرادة الشعبية كإحدى القوى الطبيعية وتصبح كتلك القوى خارجة عن نطاق سيطرة الإنسان. تقود هذه الحالة، ليس في أميركا وحدها بل في كل الدول الكبيرة، إلى الكلل وضيعان الشجاعة التي نقرنها بأواخر عهد الإمبراطورية الرومانية. تترك الدول الحديثة مجالا صغيرا للانطلاق الفردي إذا ما قيست مع الدول الصغيرة في اليونان القديمة وفي إيطاليا القرون الوسطى، ولهذا فهي تعجز عن تنمية شعور الناس بقدرتهم على توجيه مصيرهم السياسي. من يحصل على السلطة في الدول الحديثة هم رجال ذوو طموح يفوق العادة، رجال متعطشون إلى تلك السيطرة الممتزجة بصناعة الحنكة في السياسة واصطناع الغموض في المفاوضات. وما تبقى من الناس يقصف طموحهم شعور بالعجز (وعدم المقدرة) وثبوط العزيمة.

من المخلفات التركية التي تركها لنا التفكير الملكي القديم عن الدولة الاعتقاد بأن، في رغبة أي جزء من الشعب في الانسلاخ عن بقية الأمة، شيئا فريدا شره، فلو رغبت أيرلندة أو بولندة بالاستقلال، فمن المحتم أن تقاوم هذه الرغبة بشدة وأن تعتبر أي محاولة لتحقيقها "خيانة عظمى". إن المثل الوحيد المخالف الذي أستطيع أن أتذكره هو انسلاخ النرويج عن السويد التي وجدت من يشجعها ولكن لم تجد من يقلدها.

ليس في حالات أخرى ما يحدو الدول على ضم أراضي دول أخرى سوى الانهزام في الحرب. على الرغم من أن هذا المصير مطمح عام، فليس هو بالشيء الذي يجب أن يتبنى، لو كان للدولة غايات أسمى. يعود سبب هذا التبني إلى أن غاية الدول الكبرى الرئيسية هي السيادة وخاصة السيادة في الحرب. وغالبا ما تزداد السيادة في الحرب بالسيطرة على مواطنين غير قانعين بتلك السيطرة. لو كانت سعادة المواطنين غاية بحد ذاتها، لتركت مسألة ضم مقاطعة ما أو عدم ضمها طوعا إلى قرار تلك المقاطعة نفسها. لو تتبنى كل دولة مثل هذه الغاية، لانعدم أهم سبب في الحروب وزال العامل الأكثر أذى في الدولة.

يرجع مصدر الأذى في الدولة إلى أن السيادة هي غايتها الرئيسية. تختلف الحال عن هذا في أميركا لأن أميركا في منأى من الغزو الخارجي[10]، ولكن غاية الدول الرئيسية في كل الدول الباقية هي الحصول على أكبر قدر ممكن من القوة الاستعراضية. وبسبب هذه الغاية تكبح حريات المواطنين، والدعاية الموجهة ضد العسكريين تراقب وتعاقب بصرامة. تجد هذه الغاية جذورها في التكبر والخوف: التكبر الذي لا يترك مجالا للمسالمة، والخوف الذي يمقت رؤية تكبر الغرباء المناهض لكبريائنا. إن طغيان هذين الميلين على سياسة الدولة الخارجية هو شيء عرضي تاريخي ولا يعني أن حياة الإنسان العادي السياسية تنبع من هذين الميلين فقط. إقض على التكبر، يقضى على الخوف، لأن خوف أمة ما هو نتيجة للتكبر المزعوم في أمة أخرى. إن التباهي بالسيادة وعدم قبول حل المنازعات إلا باللجوء إلى القوة أو التهديد باللجوء إلى القوة، هي عادة في التفكير تغذيها الشهوة إلى السلطة بدرجة كبيرة. إن أولئك الذين يتمرسون على السيادة ثم يتفردون بها، يصبحون سريعي الغضب وغير قادرين على اعتبار أي إنسان مواز لهم إلا كمنافس. يذيع الصيت بأن اجتماع الرؤساء يحفل بالمخالفات أكثر من كل المجالس الأخرى. يحاول كل رئيس مجلس أن يعامل الرؤساء الآخرين كما يعامل مستخدميه، لكنهم يمقتون معاملة من هذا النوع ومن ثم يمقت مقتهم له. لا يصلح الرجال الذين اعتادوا على السيادة للقيام بمشاورات ودية أبدا. ولكن العلاقات الرسمية بين الدول هي، بشكل رئيسي، في أيدي أناس لهم سلطة كبيرة في بلادهم. هذه هي طبيعة الحال وبشكل خاص أينما وجد ملك ذو سلطة فعلية. ولكنها تقل صحة عندما تتولى الحكم جماعة صغيرة وتقل صحتها أيضا أكثر فأكثر عندما تتفتح الطريق أمام ديموقراطية صحيحة. إن هذا الصيت صحيح إلى درجة بعيدة لأن رؤساء الوزراء ووزراء خارجية كل الدول هم بحكم الضرورة أناس ذوو سيادة. الخطوة الأولى لإصلاح هذه الحالة تتوقف على اهتمام المواطن العادي بالشؤون الخارجية اهتماما صحيحا. والخطوة الثانية هي اقتناعه بأن الافتخار بالوطن لا يجوز له أن يعطل مصالحه الأخرى. عندما تثار حمية المواطن خلال الحرب، يقبل بأن يضحي بكل شيء في سبيل ذلك الافتخار، ولكن يحب أن يكون في أيام السلام أكثر تهيئا من رجال الحكم للاعتقاد بأن الشؤون الخارجية يجب أن تسوى كالشؤون الخاصة بود طبقا لأسس وليس باستخدام القوة أو التهديد باستخدام القوة.

- يتبع -

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:13 PM

تابع راسل :

تظهر نتائج التحيز الشخصي جلية، فيمن يشكل حكومة ما، في مناقشاته مع العمال. يؤكد السنديكاليون الفرنسيون أن الدولة ليست إلا حصيلة الرأسمالية وليست إلا إحدى الأسلحة التي يستخدمها رأس المال في منازعاته مع العمال. هناك كثير ما يدعم هذه النظرة حتى في الدول الديمقراطية إذ غالبا ما يستخدم الجنود لقمع الإضرابات العمالية.

وبالرغم من أن عدد المستخدمين هو أقل بكثير من عدد العمال، وبالرغم من أن قمعهم أسهل بكثير، فلا أحد يستخدم القوة ضدهم. عندما تشل المشاكل العمالية صناعة الدولة، يلام العمال على قلة وطنيتهم بينما يبقى سادتهم بعيدين عن الملامة مع العلم أن المسؤولية تقع على عاتق كليهما بشكل واضح. يعود السبب الرئيسي لموقف الحكومات هذا إلى أن الرجال الذين يؤلفونها ينتمون، إن لم يكن من خلال نجاحهم الشخصي، فمن خلال أصلهم العائلي، إلى ذات الفئة التي يتشكل منها كبار أرباب العمل. إن تحيز أفراد الحكومة نحو أرباب العمل ومعاشرتهم لهم تتضافر معا لتجعل الحكومة تنظر إلى إضرابات العمال وإلى امتناعهم عن العمل من وجهة نظر الأغنياء. يتكاتف الرأي العام مع حاجة الحكومة إلى دعم شعبي لسياستها في تصحيح مؤثرات الطبقة الثرية في البلدان الديمقراطية، ولكن يبقى هذا التصحيح جزئيا دائما. ان المؤثرات التي تغطي وجهات نظر الحكومات في المسائل العمالية هي نفس المؤثرات التي تغلف وجهات نظرها في الشؤون الخارجية مع إضافة فارق واحد، ليس في صالح المواطن العادي، وهو أن الوسائل التي تمكنه من تشكيل رأي مستقل في السياسة الخارجية تبقى بعيدة جدا عن متناول يده.

إن أهم أسباب البؤس في العالم العصري، بل وأحد أهم عوامل الرعب الذي يطغى على الناس ويمنع نموهم العقلي إلى درجة اكتماله، هو تضخم سلطة الدولة الناتج عن تعسفها في الداخل، وبشكل أهم، عن الحرب أو الخوف من الحرب. ثمة وسيلة يجب أن توجد لمعالجة هذا التضخم في سلطة الدولة إذا ما أريد للناس ألا يندفعوا زرافات في هوة اليأس كما حدث زمن الإمبراطورية الرومانية.

للدولة، على وجه العموم، غاية نبيلة ألا وهي وضع القانون في مجال التعاون بين الناس موضع القوة. لكن لا يمكن أن تتحقق هذه الغاية بشكل تام إلا إذا وجدت دولة عالمية المدى تبقى العلاقات الدولية من دونها بعيدة عن مجال القانون. وعلى الرغم من أن القانون أفضل من القوة بكثير، فالقانون ليس أفضل طريقة لحل المنازعات. القانون جامد لدرجة كبيرة وأكثره يدافع عما هو في سبيله إلى الزوال والقليل المتبقي منه يدافع عما هو في سبيل النمو. ولطالما يبقى القانون صاحب السيادة نظريا، فلا بد أن تحصل، من وقت إلى آخر، ثورات داخلية أو حروب خارجية تفرض تعديله. لا يمنع حدوث هذه المعدلات سوى الاستعداد المستمر لتغيير ميزان القوى الحاضرة. وإذا لم يتم هذا التغيير، فلن يكون هناك أي أمل في مقاومة دوافع اللجوء إلى القوة، ستحل الدولة العالمية أو المتحد الفيدرالي الدولي، إذا أتيح لها النجاح، الأزمات، ليس على نسق المراسيم القانونية التي تطبقها محكمة لاهاي العليا[11]، بل بقدْر المستطاع على نفس الطريقة التي يمكن أن تقررها الحرب. إن مهمة السلطة هي جعل اللجوء إلى القوة غير ضروري لأن تصدر قرارات مخالفة للحلول التي يمكن أن تتحقق من جراء استخدام القوة.

وقد يعتقد البعض ان هذه النظرية منافية للأخلاق. وقد يقال ان الحضارة يجب ان تهدف إلى تحقيق العدالة لا إلى إعطاء النصر إلى القوة. لكن إذا سلم أحدنا بهذا الرأي المخالف، لتناسى أصحابه أن حب العدالة ذاته يمكن أن يقدح شرارة اللجوء إلى القوة. سيعطي مجلس تشريعي، يرمي إلى الفصل في قضية ما بنفس الطريقة التي يفصل بها فيما لو كان سيلجأ إلى استخدام القوة، اعتبارا للعدالة بحكم الضرورة، فيما إذا كانت العدالة بشكل لا جدل فيه إلى جهة معينة، حتى أن فئات أخرى محايدة تستعد لحمل السلاح والمدافعة عنها. فإذا اعتدى رجل قوي على رجل ضعيف في شوارع لندن، سيظهر ميزان القوى بجانب الرجل الضعيف لأن لو لم يظهر البوليس للدفاع عنه لانبرى بعض المارة لحمايته. إن من الغباوة بمكان أن نتحدث عن مزاحمة القوة للحق ومن ثم نأمل في انتصار الحق. إذا كانت المسابقة بين القوة والحق مسابقة حقيقية فهذا يعني أن الحق سينهزم. إن المقصود من استعمال هذه اللغة الغامضة هو أن الفئة القوية تستمد قوتها من شعور الناس بأنهم على حق. لكن شعور الناس بالحق هو شيء ذاتي لدرجة كبيرة وليس هو إلا أحد العوامل التي تقرر سيادة القوة. ما هو مرغوب ومنتظر من المجلس التشريعي، ليس مقدرته على التقرير بواسطة الشعور بالحق، بل مقدرته على التقرير بشكل يجعل اللجوء إلى القوة غير ضروري.

طالما أني بحثت فيما يجب على الدولة أن تمتنع عن القيام به، فسأنتقل الآن إلى التحدث عما يجب عليها أن تقوم به.

بصرف النظر عن الحرب وحفظ النظام الداخلي، تحقق الدولة الآن بعض المهام الإيجابية، ولا يزال هناك مهام إيجابية أخرى يفترض بالدولة أن تحققها.

يمكن أن تضع بخصوص هذه الواجبات الإيجابية مبدأين أساسيين:

أولا: هناك مسائل تتعلق برفاهية المجتمع بأكمله وعليها يتوقف حصول كل مواطن على حد أدنى، ويحق للدولة في حالات كهذه أن تلح على تحقيق ذلك الحد.

ثانيا: هناك مناسبات يجب أن تلح الدولة فيها على حفظ النظام. ولكنها إن لم تفعل أكثر من ذلك، لسهلت وقوع مظالم مختلفة من الممكن تجنبها بالسماح لضحايا تلك المظالم بالتعبير عن غضبهم. يجب أن تمنع الدولة قدر المستطاع وقوع مثل هذه المظالم.

إن أبرز مثال عن الشيء الذي تتوقف فيه الراحة العامة على حد أدنى عمومي هو النظافة العامة وحجب الأمراض المعدية. إذا أهملت حالة واحدة من مرض الطاعون، فقد تسبب كارثة للمجتمع بأكمله. لا أحد يدعي بجدية أن إنسانا مصابا بالطاعون يجب، بناء على متطلبات الحرية، أن يبقى حرا يزرع وباءه طولا وعرضا. تنطبق هذه الاعتبارات نفسها على استصلاح الأراضي وعلى انتشار الحمى وعلى بقية الأمور المشابهة. يبقى التدخل في الحريات شرا ولكنه في بعض الحالات أقل شرا من انتشار المرض الذي تتيح الحرية انتشاره. فمحو آثار الملاريا والهواء الأصفر الذي ينتج من جراء قتل البراغيث هو ربما افضل مثل يضرب عن الأشياء الجيدة التي يمكن أن تتم بهذه الطريقة. ولكن عندما يكون الخير المجتنى قليلا أو عندما يكون جنيه غير مؤكد، بينما يكون التدخل في الحريات كبيرا، سيكون من المفضل ساعتئذ ان يحتمل قسم بسيط من الأمراض التي يمكن اتقاؤها على الرضوخ إلى طغيان علمي.

من الضروري اعتبار التعليم الإجباري كالصحة العامة. فوجود حشود جاهلة بين الناس هو خطر على المجتمع. إذ أنه عندما تكون نسبة كبيرة من السكان غير مثقفة، فمن الواجب أن تأخذ كل آلة الحكومة هذه الواقعة بعين الاعتبار. يستحيل وجود الديمقراطية في شكلها المعاصر في دولة حيث جماعة كبيرة لا تحسِن القراءة. ولكن ليس في هذه الحالة ما يدعو إلى إيجاد نفس المستوى العمومي الموجود في الصحة العامة. إن الغجر (النور) الذين أصبحت طريقة حياتهم مستحيلة من جراء السلطات التعليمية، يمكن أن يسمح لهم أن يبقوا حالة شاذة ذات علائم مميزة. ولكن بصرف النظر عن حالات شاذة غير مهمة كهذه، فالحجة التي تدعم الدعوة إلى التعليم الإلزامي لا تقاوم.

ما تقدمه الحكومة الآن من عناية بالأولاد هو أقل مما يجب عليها القيام به، ليس أكثر. لا يستطيع الأولاد رعاية مصالحهم، أضف إلى ذلك أن العناية الوالدية في مسائل شتى هي غير كافية. من الواضح إذن أن باستطاعة الدولة وحدها أن تلح على ضرورة تمتع الأولاد بأقل معدل ممكن من الثقافة والصحة التي يتمناها ضمير المجتمع في الوقت الحاضر.

يأتي تشجيع البحث العلمي كمسألة طبيعية أخرى يجب أن ترعاها الدولة لأن منافع الاكتشافات تعود إلى المجتمع كله، بينما الأبحاث باهظة وليس من المؤكد أنها ستؤدي إلى أي نتيجة من خلال العمل الفردي، وإنكلترا تتأخر عن بقية الدول المتحضرة في هذا الشأن.

النوع الثاني من السلطات الذي يجب أن يكون في حوزة الدولة هو ما يرمي إلى تخفيض الظلم الاقتصادي. هذا هو النوع الذي يشدد عليه الاشتراكيون. يخلق القانون أو يسهل الاحتكارات الفردية، والاحتكارات الفردية تقدر أن تفرض على المجتمع الضريبة التي تريدها. أفظع مثل على هذا هو ملكية الأراضي الخاصة. تسيطر الدولة في الوضع الحالي على شركات سكك الحديد إذ أن الأجور ثابتة بحكم القانون، ومن الواضح انه لو لم تكن تحت سيطرة الحكومة لاكتسبت درجة كبيرة من القوة[12]. لو وجدت هذه الاعتبارات وحدها، لكانت كافية لأن تثبت صحة الاشتراكية الكاملة. ولكن العدالة بمفردها هي، بحسب تقديري، كالقانون عديمة الحركة، ولذا لا تصلح لأن تكون الأساس الأول في السياسة. فهي لا تحتوي على أي بذور لحياة جديدة، ولا على أي دوافع للتقدم حتى ولو أتيح لها أن تتحقق بشكل تام. فلهذا السبب يصبح السؤال، عندما نريد تصحيح ظلامه، عما إذا كان عملنا هذا سيقتل الدوافع إلى الأعمال الحيوية المفيدة للمجتمع هاما جدا. لا تتعلق، حسب اعتقادي، الملكية الخاصة أو أي مصدر للإيجار الاقتصادي بتلك الدوافع الحيوية المفيدة للمجتمع. وإذا كانت الحال كذلك وجب التسليم بأن على الدولة أن تكون القابض الوحيد للإيجارات.

ولكن إذا سلمت كل هذه السلطات إلى الدولة، فماذا يحدث بمحاولة إنقاذ الحرية الفردية من عسف الدولة؟

هذا السؤال هو جزء من المعضلة العامة التي تقف في وجه كل من لا يزال يؤمِن بمثل الليبرالية. والمعضلة هي كيف يتم جمع حرية الفرد ورغبته في الإبداع مع المنظمة. يتزايد في السياسة والاقتصاد تسلط المنظمات الكبيرة تزايدا مخيفا يترك الفرد في وحدة من اليأس المميت. والدول هي كبرى المنظمات وأشدها تهديدا للحرية. وعلى الرغم من هذا التهديد الواضح، فعلى ما يبدو، يجب أن تتشعب مهام الدولة لا أن تتقلص.

هناك طريقة واحدة للتوفيق بين المنظمة والحرية وذلك بمنح سلطات للمنظمات الاختيارية التي تتكون مِمن أراد أن ينضم إليها لكونها تجسد الهدف الذي يعتبره كل الأعضاء أساسيا، لا الهدف الذي يفرض عليهم بحكم الظروف أو بحكم قوة خارجية. ولما كان للدولة كيان جغرافي، فهي لا تستطيع أن تكون اتحادا اختياريا بالكلية. لهذا السبب بعينه وجب إيجاد رأي عام قوي يضعها عند حدها حينما تستخدم سلطاتها بشكل تعسفي. لا يتكون هذا الرأي العام، في اغلب الأحيان، إلا من أناس تجمعهم بعض المصالح والرغائب المشتركة فقط.

يجب أن تنجز أهداف الدولة الإيجابية غير المتعلقة بحفظ النظام منظمات يشترط فيها أن تبقى مستقلة وآمنة من تدخل الدولة طالما لا تنزل تحت الحد الأدنى الضروري الذي تطلبه الدولة. يتم حاليا إنجاز هذا الشرط إلى درجة ما في التعليم الابتدائي. يمكن اعتبار الجامعات أيضا كأنها تحل مكان الدولة فيما يختص بالتعليم العالي والأبحاث العلمية، غير أنه في هذه الحالة لا يطلب إنجاز أي حد أدنى. يجب أن تحتفظ الدولة بقدرتها على الضغط في الحقل الاقتصادي، ولكن يجب عليها أيضا أن تترك أمام الآخرين مجالا للإبداع. ليس هناك ما يمنع تكثير فرص الإبداع وإفساح أكبر مجال ممكن لمقدرة كل شخص على الإبداع. لو لم تسر الأمور على هذا الشكل، لطغى في المجتمع شعور عام بالعجز واسترخاء العزيمة. لهذا يجب أن تترك دائما مهام الدولة الإيجابية في أيدي منظمات اختيارية تشرف الدولة على دقة تصرفها وسلامته كما تشرف على حل المشاكل الداخلية والخارجية التي تحصل بينها حلا وديا. يجب على الدولة أن تظهر، بالإضافة إلى ذلك، أكبر قدر ممكن من التساهل إزاء "الشاذات" وأن تقلع إلى أبعد حد ممكن عن طلب مؤسسات ذوات نمط موحد.

يمكن أن يتضاعف إنتاج المهن والمناطق الزراعية ضمن حكومات محلية. هذه هي أفضل الأفكار التي ابتكرتها النظرة السنديكالية. إنها فكرة بالغة الأهمية لأنها تخدم كلجام للتعسف الذي يميل المجتمع إلى فرضه على بعض الفئات من أعضائه. يجب أن يرحب، تفاديا لعسف المجتمع، بكل منظمة قوية تجسد شطرا من الرأي العام، كالنقابات العمالية والتعاونيات والمهن والجامعات لكونها صمامات أمان للحرية ومناسبات للإبداع. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون هناك رأي عام متحمس للحرية. قد يظن أن المعارك القديمة التي شنت في سبيل حرية التفكير وحرية الكلام تم انتصارها بشكل فاصل، ولكن أكثر الناس لا يزال مستعدا لمنح الحرية فقط لتلك الأفكار الشائعة. لهذا يجب أن تخاض المعارك في سبيل حرية التفكير وحرية الكلام من جديد. لا تحترم المؤسسات الحرية إلا إذا وجد أناس يعتبرون الحرية باهظة القيمة وهمْ على أتم الاستعداد لتحمل الضيقات في سبيل المحافظة عليها حية مضيئة.

هناك اعتراض تقليدي على كل قائد وآمر (imperio in imperium) ولكن هذا الاعتراض هو من ابتداع غيرة الحكام الظالمين فقط. إن الدول المعاصرة تضم في الواقع مؤسسات عديدة يستحيل على الدولة التخلص منها إلا في حالات نادرة عندما يتحرك الرأي العام ضدها. لقد كان صراع لويد جورد ضد المهن الطبية حول مرسوم الضمان صراعا محفوفا بتقلبات حظ هوميروسي. كذلك أنهك عمال المناجم في مقاطعة والش في سنة 1915 كل قوى الدولة تدعمهم في ذلك أمة مغتاظة. أما بالنسبة للممولين، فليس من حكومة تحلم بمخاصمتهم. وعندما تناشد الدولة مختلف الطبقات الشعبية بضرورة الشعور بالوطنية، تسمح للممولين بالاحتفاظ بفائدة تبلغ 5و4% وارتفاع في قيمة ممتلكاتهم. يفهم الجميع أن أي مناشدة لوطنيتهم تظهر جهلا كبيرا بحقيقة العالم. إن اقتناص الدولة أموالا من الممولين بالتهديد يرفع حماية البوليس عنهم هو أمر مخالف لتقاليدها. ولا يعود الإحجام عن هذا الاغتصاب إلى صعوبة عمل كهذا، بل إلى أن للثروة الكبيرة بريقا يأخذ ألباب الناس ولذا لا يستطيع أحد أن يتحمل رؤية رجل غني تُساء معاملته.

لا يقلل من أهمية وجود منظمات قوية داخل الدولة كمنظمات النقابات العمالية مثلا، إلا الموظف الذي يطمح إلى سلطة لا حد لها أو المنظمات المبنية على المنافسة كتعاونية أرباب العمل التي تطمح إلى رؤية خصم غير منظم. ولما تصبح الدولة قوية جدا، لا يجد الناس منفذا سياسيا إلا في منظمات هامشية تهدف لتحقيق غايات محدودة جدا، ولكن عندما ينعدم وجود منفذ للإبداع السياسي، يفقد الناس حماسهم الاجتماعي واهتمامهم بالمسائل الهامة ويصبحون فريسة للساسة الماكرين ومهيجي الأحاسيس الخداعيين الذين أجادوا فن اصطياد أصحاب الانتباه السقيم.

يكمن دواء هذه الآفة السياسية في إعطاء سلطات أكثر للمنظمات الاختيارية لا في التسلط عليها، وفي إفساح مجال العمل السياسي أمام كل فرد بشكل يتناسب مع منافعه وقواه، وفي حصر مهام الدولة قدر المستطاع في صيانة الأمن وفي التوفيق بين المنافع الضاربة. إن فضيلة الدولة الأساسية هي ردعها للعنف بين المواطنين. ولكن مضارها الأساسية هي تشجيعها لاستخدام العنف في الخارج وإرهابها لكل فرد بحجمها الكبير الذي يثير فيه شعورا بالعجز التام في مقاومتها حتى في البلدان الديمقراطية. سوف أعود إلى مناقشة مسألة منع استخدام العنف والحرب فيما بعد. لا يمكن إزالة شعور الفرد بالعجز من خلال المطالبة بالعودة إلى المدينة الدولة إذ أنها مطالبة رجعية مثل المطالبة بالعودة إلى أيام ما قبل الآلة. لا تتم إزالة ذلك العجز إلا وِفق أسلوب يأخذ الاتجاهات الحاضرة بعين الاعتبار. يتكون هذا الأسلوب من جراء تحويل الكثير من وظائف الدولة الإيجابية إلي منظمات طوعية هدفها القيام بتلك الوظائف. ولا تبقى الدولة إلا كسلك فدرالية أو كمحكمة عليا لفض المنازعات. فينحصر دورها عندئذ بالإلحاح على فرض حل ما للمصالح المتضاربة. ودعامتها في فرض حل كهذا هي محاولتها لإبعاد حل يرضي كل الجهات المختصة بوجه عام. هذا هو المنحى الذي تميل إليه كل الدول الديمقراطية في حالة السلم، أما في حالة الحرب أو الخوف من الحرب فتميل عنه. ولطالما تبقى الحرب خطرا حقيقيا يداهمنا في كل يوم، فلا بد أن تبقى الدولة كالآلة "مولوخ" (Moloch) تضحي بحياة الفرد حينا وتدفع دائما بنموه الصحيح إلى ميدان معركة التسابق نحو السيادة مع بقية الدول الأخرى. إن الحرب داخلية كانت أم خارجية هي أكبر أعداء الحرية.


ترجمة: د. ابراهيم يوسف النجار

----------------

[1] السنديكالية (النقابية): مذهب نقابي عمالي يدعو إلى سيطرة النقابات (اتحادات العمال) على مختلف الصناعات والحكومة.

[2] اضطهادات المبدعين.

[3] اضطهاد السنديكاليين (يجب أن نضيف الآن معاقبة دعاة مقاومة الحرب عن دافع ضميري 1916).

[4] الهراطقة: مصطلح كنسي يشير إلى رأي أو فكرة مبتدعة (بدعة) تتعارض مع معتقدات المؤسسة الدينية. وقد كانت الكنيسة في القرون الوسطى تعاقب المتهمين بالهرطقة بالنفي والتعذيب، أو حتى بالموت.

[5] نسبة إلى بدلام: مكان مليء بالهرج الصاخب والضوضاء.

[6] تقول "وست مينستر غازت" في عدد عن التطوع صدر في 29 كانون الأول سنة 1915: "من المفروض على الأكثرية أن تحكم في البلاد الديمقراطية. أما الأقلية فيجب أن ترغم على الخضوع مع أفضل شكر ممكن".

[7] أعطي السيد رينالد كامت، المسؤول عن دائرة تشريح الموتى في ميول ساكس الغربية، بعض الملاحظات عن تصرف بعض النساء اللواتي يلبسن قبعة مزدانة بريشة بيضاء. لقد شرح يوم السبت في ألنغ جسد ريتشارد شارك روبرتز البالغ من العمر أربعا وثلاثين عاما. انتحر هذا الشاب الذي كان يسوق إحدى السيارات العمومية في شارع شابرد بوش، بسبب القلق الذي حصل له من تعذيب النسوة المتعاونات مع بعض الرجال محترفي مهنة التطوع لأنه رفض الانخراط في الجندية.

لقد ورد في هذه الملاحظات أن الشاب التحق بالجيش في تشرين الأول، ولكنه رفض لضعف في قلبه. كان هذا الرفض كافيا لإزعاجه على حد قول أرملته. ثم داخله الاضطراب ظنا منه بأن رخصة سواقته ستؤخذ منه بسبب ذلك الضعف. وفي الوقت ذاته كان جزعا أيضا لأن أحد أولاده في حالة مرضية خطيرة.

قال جندي، يمت له بالقرابة، إن حياة الراحل أصبحت يائسة تماما لأن النساء كن يعذبنه ويسمينه جبانا لأنه لم يلتحق بالجندية. ومنذ بضعة أيام انقضت عليه امرأتان في مايدافيل "بشكل رهيب".

كان المشرح يتحدث بشيء من الحماس قائلا إن تصرف هؤلاء النساء هو تصرف لا يطاق. إنه شيء مهين جدا لأن يسمح لنساء لا يفقهن شيئا عن الظروف الشخصية بأن يجعلن حياة رجال حاولوا القيام بواجبهم غير محتملة. من المؤسف جدا أن لا يكون عند هاتيك النساء شيء آخر يقمن بعمله.

[8] ارتكبتها إنكلترا في جنوب إفريقيا، الولايات المتحدة في الفليبين، فرنسا في مراكش، إيطاليا في طرابلس الغرب، ألمانيا في جنوب إفريقيا، روسيا في إيران ومنشوريا، واليابان في منشوريا.

[9] الكوسموبوليتية (cosmopolitanism): مذهب ينادي بوحدة الأسرة البشرية.

[10] كتبت هذه الملاحظة في سنة 1915.

[11] محكمة لاهاي العليا هي محكمة العدل العليا الدولية ومقرها مدينة لاهي في هولندا.

[12] يصح ذلك حتى ولو كان الحكم سنديكاليا أيضا.

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:14 PM

13- سيغموند فرويد

ولد سيغموند فرويد (Sigmund Freud) في فرايبرغ (Freibberg) وهاجرت عائلته إلى فينا (Vienna). عاش هناك حتى سنة 1938، وعندما ضم هتلر النمسا إلى ألمانيا اضطر فرويد إلى تركها بسبب كونه يهودياً وعاش في لندن حتى وفاته بعد ذلك بقليل.

درس سيغموند فرويد الطب في فينيا أولاً، ومارس هذه المهنة لسنوات عديدة. ولاحظ صلة وثيقة بين بعض الأمراض وأنماط سلوك مرضاه. سافر إلى باريس في 1885 للتخصص هناك لدراسة ظاهرة الهستيريا والعلاج بالتنويم المغناطيسي. ثم انتقل إلى مدينة نانسبي ليتتلمذ على أيدي العالمين الفرنسيين بيررنهام وليبو في مجال التنويم المغناطيسي. وعاد فرويد بعد ذلك إلى فيينا لاستخدام ما درسه في علاج مرضاه.

ألف فرويد كتبا عديدة دار معظمها حول ظواهر "الهستيريا" و"الأحلام"، و "التحليل النفسي". وعرض فرويد نظريته في التحليل النفسي في جامعة كلارك في الولايات المتحدة في عام 1909. وأسس جمعية التحليل النفسي في 1910 في فينا وعمل منذ 1919 أستاذا في جامعة فينا. وعانى من مرض عضال منذ 1923 وحتى موته في 1939.

يمكن إجمال موقف فرويد من الإنسان كما يلي: الإنسان هو كائن نفسي بجانب كونه كائناً عضوياً. ورغم ما يبدو من ازدواجية في هذا التحديد، إلاّ أن كلا "الكائنين"، العضوي والنفسي، يؤثر ويتأثر بالآخر، ومن الخطأ الاعتقاد أنهما منفصلان انفصالاً كاملاً، فبعض الأمراض العضوية ترجع في أصولها إلى عناصر نفسية. وقسم فــرويد الجهاز الــنفسي إلى ثلاثة: الـ (Id)، والـ (Ego)، والـ (Super Ego). ويشمل الـ (id) كافة الغرائز الموروثة والتي توجد في الإنسان منذ الولادة. واعتبر فرويد أن الـ (ego) بمثابة صمام يسمح أو يمنع هذه الغرائز من تحقيق ذاتها. أما الـ (super ego) فتتضمن مجمل السلوكيات التي تقننت شخصياً بسبب التربية البيتية أو اكتسبت شرعية اجتماعية وأصبحت أنماط سلوك اجتماعية كالعرف والعادة وأشكال الحضارة، المادية منها والروحية. وذهب فرويد إلى أن الجهاز النفسي يحدد السلوك بأشكاله وأبعاده المختلفة سواء أخذ شكل الفعل الخارجي أو استبطن داخلياً.

كرس فرويد جزءاً من وقته في أواخر حياته لكتابة بعض الأبحاث التي تعدت مجال علم النفس المحض. و"قلق في الحضارة" هو إحداها. ويطرح فرويد في هذا الكتاب الصلة المركبة بين ظهور الحضارة وتقدمها وبين الجهاز النفسي وتأثير التقدم الحضاري فيه.



فرويد: مختارات من "مختصر التحليل النفسي"

توطئة
الهدف من هذا المؤلف المقتضب جمع مذاهب التحليل النفسي لعرضها عرضا تقريريا ان جاز القول، في أوضح شكل ممكن وأكثره تركيزا. ولم نرم فقط، بعملنا هذا، إلى كسب ثقة أو انتزاع اقتناع.

إن تعاليم التحليل النفسي تنهض على عدد لا يقع تحت حصر من المشاهدات والتجارب، ومن لم يتحقق، في نفسه أو لدى الآخرين، من هذه المشاهدات لا يملك أن يصدر عليها حكما مستقلا.

القسم الأول: طبيعة النفسية
الفصل الأول: الجهاز النفسي
ينهض التحليل النفسي على مسلمة أساسية يقع على عاتق الفلسفة نقاشها، وإن تكن نتائجها تبرز قيمتها. فما نسميه بالنفسية (أو الحياة النفسية) نعرف عنه شيئين: أولاً العضو البدني لهذه النفسية، مسرح عملها، أي المخ (أو الجهاز العصبي)، وثانياً أفعالنا الشعورية التي لنا بها معرفة مباشرة والتي ليس لأي وصف أن يزيدنا بها علماً. أما كل ما يقع بين هذين القطبين فيبقى مجهولا لنا، وإن يكن بينهما ارتباط ما فليس من شأنه أن يمدنا بأكثر من تحديد دقيق لموضع السيرورات الشعورية، من غير أن يتيح لنا فهمها.

وتتصل فرضيتانا بهذين الحدين أو هاتين البدايتين لمعرفتنا. والفرضية الأولى ذات صلة بتحديد الموضع. فنحن نسلم بأن الحياة النفسية وظيفة لجهاز نعزو إليه امتدادا في المكان ونفرض أنه مؤلف من أقسام عدة. ومن ثم فإننا نتصوره ضربا من مقراب أو مجهر أو شيئا من هذا القبيل. وبناء هذا التصور واستكماله حدث علمي جديد، وإن كانت محاولات مماثلة قد جرت في هذا السبيل.

إن دراسة تطور الأفراد هي التي أتاحت لنا أن نعرف هذا الجهاز النفسي. ونحن نطلق على أقدم هذه المناطق أو الهيئات النفسية اسم الهذا[1]؛ ويشمل مضمونه كل ما يحمله الكائن الإنساني معه عند ولادته، كل ما هو متعين في الجبلة، أي في المقام الأول الدوافع الغريزة الصادرة عن التنظيم البدني والتي تجد في الهذا، من خلال أشكال مجهولة لنا، أول نمط من أنماط التعبير النفسي[2].

وتحت تأثير العالم الخارجي الواقعي المحيط بنا، يطرأ على شطر من الهذا تطور خاص. فبدءا من الطبقة اللحائية الأصلية المزودة بأعضاء قادرة على تلقي التنبيهات، وكذلك على اتقائها، قام تنظيم خاص وما لبث ان صار وسيطا بين الهذا والخارج. وإنما على هذا الشطر من نفسيتنا نطلق اسم الأنا[3].


الخصائص الرئيسية للأنا
بنتيجة العلاقات التي تكون قد قامت بين الإدراك الحواسي والأفعال العضلية، يتأتى للأنا ان يتحكم بالحركات الإرادية. ومهمته هي حفظ الذات، وهو يؤدي هذه المهمة، فيما يتصل بالعالم الخارجي، بتعلمه كيف يتعرف التنبيهات، وبمراكمته (في الذاكرة) الخبرات التي تمده بها هذه التنبيهات، وبتحاشيه التنبيهات المفرطة في قوتها (بالهرب)، وبتوصله أخيراً إلى تعديل العالم الخارجي على نحو موائم ولصالحه (النشاط). أما في الداخل، فهو يتصدى لمواجهة الهذا باكتسابه السيطرة على مطالب الدوافع الغريزية، وبتقريره ما إذا كان من الممكن إشباع هذه الدوافع أو ما إذا كان من الأنسب إرجاء هذا الإشباع إلى حين مؤاتٍ أو ما إذا كان من الواجب خنقها أصلاً. ويخضع الأنا في نشاطه لاعتبار التوترات الناجمة عن تنبيهات الداخل أو الخارج. فزيادة التوتر تسبب بالإجمال ألماً، ونقصانها تتولد عنه لذة. بيد أن الألم أو اللذة غير منوطين في أرجح الظن بالدرجة المطلقة للتوترات، بل بالأحرى بوتيرة تغيراتها. والأنا ينزع إلى اللذة ويسعى إلى تحاشي الألم. وكل زيادة منتظرة، متوقعة، في الألم تقابلها إشارة حصر، وما يطلق هذه الإشارة، من الخارج أو من الداخل، يسمى الخطر. وبين الحين والحين، يقطع الأنا الروابط التي تربطه بالعالم الخارجي ويخلد إلى النوم حيث يجري على تنظيمه تعديلاً مهماً. وتتيح لنا حالة النوم ان نلاحظ ان نمط التنظيم هذا يتمثل في توزيع خاص معين للطاقة النفسية.

وعلى امتداد فترة الطفولة المديدة التي يجتازها الفرد الناشئ ويكون عماده في أثنائها على والديه تتشكل في أناه، كما بضرب من الترسب، هيئة خاصة تكون بمثابة امتداد للتأثير الوالدي. هذه الهيئة هي الأنا الأعلى. وبقدر ما ينفصل الأنا الأعلى[4] عن الأنا أو يعارضه، يشكل قوة ثالثة لا مناص للأنا من أن يعمل لها حساباً.

ويعد صحيحاً كل تصرف يصدر عن الأنا ويلبى مطالب الهذا والانا الأعلى والواقع معاً، وهذا ما يحدث حين يفلح الأنا في التوفيق بين هذه المطالب المتباينة. ومن الممكن دوماً وأبداً فهم خصائص العلاقات بين الأنا والأنا الأعلى إذا أرجعناها إلى علاقات الطفل بوالديه. ومن المحقق ان ما يؤثر في الطفل ليس شخصية الأهل وحدهم، بل كذلك، وبوساطتهم، تأثير التقاليد العائلية والعرقية والقومية، علاوة على مقتضيات الوسط الاجتماعي المباشر الذي يمثلونه. ويتأثر أيضاً الأنا الأعلى للطفل، في أثناء تطوره، بخلفاء الأهل وبدائلهم، وعلى سبيل المثال بعض المربين وبعض الأشخاص الذين يمثلون في المجتمع مثلا عليا موقرة. ويتضح لنا ان الهذا والأنا الأعلى، رغم تباينهما الأساسي، تجمع بينهما نقطة مشتركة، إذ يمثل كلاهما بالفعل دور الماضي؛ فالهذا يمثل أثر الوراثة، والأنا الأعلى أثر ما تلقاه عن الآخرين؛ بينما يتعين الأنا في المقام الأول بما خبره بذاته، أي بالعارض والراهن.

ان هذا المخطط العام للجهاز النفسي يصدق أيضاً على الحيوانات العليا التي بينها وبين الإنسان وجه شبه نفسي. ويجدر بنا ان نسلم بوجود أنا أعلى حيثما يتعين على الكائن الحي ان يمر في طفولته. كما لدى الإنسان بفترة طويلة من الاتكال الطفلي. اما تمايز الأنا عن الهذا فواقع لا مماراة فيه.

ولم يعكف علم نفس الحيوان بعد على الدراسة الشائقة التي تبقى هنا متاحة له.

الفصل الثاني: نظرية الدوافع الغريزية
تعبر قوة الهذا عن الهدف الحقيقي لحياة الفرد العضوية وتنزع إلى إشباع حاجات هذا الفرد الفطرية. ولا يُعنى الهذا بحفظ الحياة ولا باتقاء الأخطار. فهاتان المهمتان الأخيرتان تقعان على عاتق الانا الذي يتعين عليه أيضاً ان يكتشف أنسب وسيلة وأقلها خطراً للفوز بإشباع، مع أخذ مقتضيات العالم الخارجي بعين الاعتبار. اما الانا الأعلى، فعلى الرغم من أنه يمثل حاجات أخرى أيضاً، فإن مهمته الأساسية تبقى على الدوام كبح الإشباعات.

اننا نطلق على القوى التي تعمل خلف حاجات الهذا الآسرة، والتي تمثل في النفسية المتطلبات البدنية، اسم الدوافع الغريزية. وهذه الدوافع محافظة بطبيعتها، رغم انها تشكل العلة الأخيرة لكل نشاط. وبالفعل، ان كل حالة يبلغها يوما الكائن تنزع إلى إعادة فرض ذاتها حالما تُترك. ويسعنا أيضاً ان نميز عددا غفيرا من الدوافع الغريزية، وهذا ما هو واقع فعلاً. على أن ما يهمنا هو أن نعرف ان لم يكن في الإمكان اختزال هذه الدوافع الغريزية العديدة إلى عدد محدود من الدوافع الغريزية الأساسية. وقد تعلمنا ان الدوافع الغريزية يمكن ان تغير هدفها (بالنقل)، وانها قابلة أيضاً لأن ينوب بعضها مناب بعض، إذ يمكن لطاقة أحد الدوافع ان تتحول إلى دافع آخر. وهذه الظاهرة الأخيرة لا تزال منقوصة التفسير. وبعد طول تردد وطول اخذ ورد، قر قرارنا على التسليم بوجود غريزتين أساسيتين فقط: الايروس[5] وغريزة التدمير (وتقع في نطاق الايروس غريزتا حفظ الذات وحفظ النوع المتعارضتان، وكذلك غريزتا حب الذات والحب الموضوعي[6]، المتناقضتان بدورهما). وهدف الايروس إنشاء وحدات متعاظمة الحجم باستمرار بغية صونها، وبكلمة واحدة، هدف ربطي. أما هدف الغريزة الأخرى، على العكس، فهو فصم الروابط كافة، وبالتالي تدمير كل شيء. ومباح لنا ان نفترض ان الهدف النهائي لغريزة التدمير إرجاع الحي إلى الحالة اللاعضوية، ولهذا نسميها غريزة الموت. فلئن سلمنا بأن الكائن الحي لم يظهر إلا بعد المادة الهامدة، وأنه منها خرج، فلا محيد لنا عن الاستنتاج من ذلك أن غريزة الموت تنصاع للقاعدة المتقدم ذكرها والتي تنص على ان كل غريزة تنزع إلى إعادة حالة سابقة. اما بالنسبة إلى الايروس، غريزة الحب، فليس لنا ان نطبق عليها القاعدة عينها لأننا لو فعلنا لكان هذا معناه اننا نصادر على ان الجوهر الحي، بعد ان شكل في البداية وحدة، تجزأ في وقت لاحق، ثم بات ينزع إلى معاودة الالتئام من جديد[7].

ان الغريزتين الأساسيتين تتعارضان أو تتراكبان في الوظائف البيولوجية. ففعل الأكل مثلا يستلزم تدمير موضوع ما، على أن يعقبه تمثل هذا الموضوع. أما الفعل الجنسي فهو عدوان ينزع إلى تحقيقي أوثق اتحاد. هذا التوافق وهذا التناحر بين الغريزتين الأساسيتين يخلعان على ظاهرات الحياة كل التنوع الذي هو سمة مميزة لها. وإذا تجاوزنا مضمار الحياة العضوية وجدنا تناظر غريزتينا الأساسيتين يفضي إلى الزوج المتناقض: التجاذب والتنافر، الذي يهيمن على العالم اللاعضوي[8].

ان كل تعديل يطرأ على نسبة انصهار الغريزتين تكون له أظهر النتائج. ففرط العدوانية الجنسية يقلب المحب إلى قاتل سادي، والنقصان الكبير في هذه العدوانية عينها يحيله خجولاً أو عنيناً.

ولا مجال لحصر أي من الغريزتين الأساسيتين في منطقة بعينها من مناطق النفسية، إذ نلتقيهما حتما في كل مكان. وهاكم كيف نتصور الحالة البدئية: فقد كانت كل الطاقة المتاحة للايروس، التي سنسميها من الآن فصاعداً بالليبيدو، موجودة في الأنا - الهذا غير المتمايز بعد، وكانت تعمل على تحييد النوازع التدميرية الماثلة فيه بدورها (لا نملك بعد مصطلحا مماثلاً لمصطلح "الليبيدو" للإشارة إلى طاقة الغرائز التدميرية). ويغدو سهلاً علينا نسبياً بعد ذلك ان نتتبع المصائر اللاحقة لليبيدو. أما فيما يتصل بغريزة التدمير، فإن هذا التتبع أشد عسراً.

فما دامت هذه الغريزة تعمل في الداخل بوصفها غريزة موت، فإنها تظل خرساء ولا تظهر لنا إلا لحظة تتحول إلى الخارج بوصفها غريزة تدمير. ويبدو ان هذا التمويه ضروري لحفظ الفرد، والجهاز العضلي هو الذي يتولى الأمر. ففي زمن تكوّن الأنا الأعلى، تتثبت تراكمات كبيرة من غريزة العدوان في داخل الأنا وتعمل فيه كعناصر تدمير ذاتية وذلك هو أحد الأخطار التي تتهدد سلامة النفسية والتي يعرض الإنسان نفسه لها حين يسلك طريق الحضارة. وبالفعل، إن كبح المرء جماح عدوانيته لهو بوجه عام ضار ومسبب للمرض. وكثيراً ما نلاحظ تحول عدوانيته مكبوحة إلى تدمير ذاتي لدى فرد يقلب عدوانه إلى ذاته، فيشد في سورة الغضب شعره أو يلطم وجهه بقبضتيه. ومن المحقق ان هذا الفرد كان يؤثر ان يعامل بهذه المعاملة شخصاً غيره. ويبقى على كل حال قسم من التدمير الذاتي في داخل الفرد إلى ان يقتله في خاتمة المطاف، وربما لا يكون ذلك إلا بعد ان تُستنفد طاقته الليبيدوية بتمامها أو تتثبت على نحو ضار. وهكذا يباح لنا أن نفترض ان الفرد يموت بسبب منازعاته الداخلية، بينما لا يسقط النوع، على العكس، إلا بعد صراع فاشل ضد العالم الخارجي، وحين يتغير هذا العالم تغييراً لا تعود تكفي معه التكيفات المكتسبة.

من العسير ان نصف مسلك الليبيدو في الهذا وفي الأنا الأعلى. فكل ما نعرفه يخص الأنا حيث تتراكم، من البداية، كل الكمية المتاحة من الليبيدو. وعلى هذا الوضع نطلق اسم النرجسية الأولية المطلقة. وهو يدوم الا ان يشرع الأنا بتوظيف الليبيدو في تمثلاته الموضوعية، وبتحويل الليبيدو النرجسي إلى ليبيدو موضوعي. ويبقى الأنا، مدى الحياة كلها، المستودع الكبير الذي منه تنطلق التوظيفات الليبيدوية نحو المواضيع والذي إليه ترتد أيضا على نحو ما تفعل كتلة وذفية[9]حين تمد أو تسحب شواها الكاذبة (Pseudopodia) وإنما في ملاء حالات الحب فقط يتحول الشطر الأعظم من الليبيدو إلى الموضوع، ويحل هذا الأخير، إلى حد ما، محل الأنا. ومن خصائص الليبيدو الهامة الأخرى حركيته، أي اليسر الذي ينتقل به من موضوع إلى أخر. ويقال، على العكس من ذلك، ان الليبيدو يتثبت حين يعلق، أحياناً طول الحياة، ببعض المواضيع الخاصة.

مما لا جدال فيه ان لليبيدو مصادر بدنية، وانه ينتشر في الانا بدءاً من أعضاء ومواضع مختلفة في الجسم. وهذا ما يتجلى أوضح التجلي في ذلك الشق من الليبيدو الذي يعرف، بمقتضى هدفه الغريزي، بالتهيج الجنسي. ويطلق اسم المناطق الشهوية (zones erogenous) على تلك الأجزاء من الجسم التي منها ينطلق بصورة رئيسية هذا الليبيدو، غير ان الجسم برمته يشكل، والحق يقال، منطقة شهوية. ومما أتاح لنا بوجه الخصوص ان نعرف الايروس، ومن ثم ممثله: الليبيدو، دراسة الوظيفة الجنسية التي تتطابق في عرف الجمهور، بله في نظرياتنا العلمية أيضاً، مع الايروس، وقد تأتي لنا أن نتبين الكيفية التي يتطور بها رويداً رويداً النازع الجنسي، الذي له ذلك الدور البالغ في حياتنا، بدءاً من دوافع غريزية جزئية عدة تمثل مناطق شهوية خاصة شتى.

الفصل الثالث: تطور الوظيفة الجنسية
تنزع الجنسية البشرية، في عرف التصور الأكثر شيوعاً بين الناس، إلى تحقيق الاتصال في المقام الأول بين الأعضاء الجنسية لفردين من جنس مختلف. وتعد القبلات والنظر إلى جسم الشريك ولمسة تظاهرات ثانوية وأفعالاً تمهيدية. والمفروض بالنازع الجنسي ان يظهر عند البلوغ، أي في زمن النضج الجنسي، وأن يكون هدفه التناسل. غير ان بعض الوقائع، المعروفة جيداً، لا تدخل في الإطار الضيق لمثل هذا التصور:

1. فمما يسترعي الانتباه ان بعض الأشخاص لا يشعرون بانجذاب إلا نحو أفراد من نفس جنسهم وإلا نحو الأعضاء التناسلية لهؤلاء الأفراد.

2. مما يسترعي الانتباه أيضاً ان اللذة التي تساور بعض الأفراد لا تصدر، وان حافظت على طابع جنسي تام، عن المناطق التناسلية أو لا تستخدمها بصورة عادية. ويسمى هؤلاء الأشخاص بالمنحرفين.

3. من الواضح، أخيراً، ان بعض الأطفال، الذين يعدون لهذا السبب منحطين، يهتمون في وقت مبكر للغاية بأعضائهم التناسلية التي تظهر عليها علائم تهيج.

لا عجب ان يكون اكتشاف هذه الوقائع الثلاث المغفلة قد أثار ضجة. فالتحليل النفسي، الذي أبرزها وشدد عليها، عاكس تيار الأفكار الرائجة شعبياً، ومن هنا جوبه بمعارضة عنيفة. وهاكم النتائج الرئيسية لذلك الاكتشاف.

1. ان الحياة الجنسية لا تبدأ في عهد البلوغ، بل تعلن عن نفسها في زمن مبكر جداً عقب الولادة.

2. من الضروري التمييز بدقة بين مفهوم الجنسي ومفهوم التناسلي. فلفظة الجنسي لها معنى أوسع بكثير، وهي تطال وجوها عدة من النشاط لا ضلع لها بالأعضاء التناسلية.

3. تتضمن الحياة الجنسية الوظيفة التي تتيح الظفر بلذة من مناطق شتى في الجسم؛ وهذه الوظيفة يفترض فيها في وقت لاحق ان توضع في خدمة التناسل. غير ان هاتين الوظيفتين لا تتطابقان على الدوام تمام التطابق.

ان الأطروحة الأولى، التي هي أبعد الاطروحات الثلاث عن التوقع، هي أيضاً أولاها بالاستثئار بأعظم الاهتمام. فلئن أنكرت صفة "الجنسية" على بعض وجوه النشاط لدى صغار الأطفال، فليس ذلك إلا نزولا عند حكم رأي مسبق قديم. فوجوه النشاط هذه ترتبط بظاهرات نفسية لا نعتم ان نلتقيها، في زمن لاحق، في حياة الراشدين الحبية كالتثبيت، مثلا، على موضوع خاص، أو الغيرة، الخ. ونلحظ أيضاً ان ظاهرات الطفولة الأولى هذه تتطور وفق قواعد معينة، ويطرد تناميها وصولاً إلى آخر السنة الخامسة من العمر، حيث تبلغ ذروتها لتتوقف بعد ذلك لحين من الزمن. وعند تلك المرحلة يقف التقدم، وتقع جملة من الأشياء في لجة النسيان وتتراجع القهقرى. وبعد هذه المرحلة التي يقال لها مرحلة الكمون، تعاود الجنسية ظهورها عند البلوغ، بل يسعنا القول إنها تزهر من جديد. الحقيقية التي تواجهنا إذن هنا هي ان الحياة الجنسية ثنائية الطور في توطدها، وهذه ظاهرة لا تلحظ إلا عند الإنسان وحده، ودورها في صيرورة هذا الأخير كبيرا ولا شك[10].

وتخضع جميع أحداث هذه المرحلة المبكرة من النشاط الجنسي، خلا استثناءات نادرة، للنساية الطفلية، وهذه ظاهرة لا يجوز ان تقابل منا بعدم الاكتراث. وبالفعل، ان ملاحظة هذه النساية هي التي أتاحت لنا أن نكون فكرة عن أسباب الاعصبة وان نضع طريقتنا في العلاج التحليلي. وعلاوة على ذلك، أمدتنا دراسة السيرورات التطورية في طور الطفولة ببراهين تؤيد استنتاجات أخرى.

ان أول عضو يعلن عن نفسه كمنطقة شهوية ويطرح مطالب ليبيدوية على النفسية هو، منذ الولادة، الفم. فكل النشاط النفسي يتركز أولاً على إشباع حاجات هذه المنطقة. ولا شك في ان التغذية تشبع، قبل كل شيء، حاجة حفظ الذات. لكن لنحاذر الخلط بين الفيزيولوجيا والسيكولوجيا. فالطفل يدلل في وقت مبكر جداً، بتشبثه بالمص، على ان فعله هذا يعود عليه بالرضى. وهذا الشعور بالرضى، وان استمد أصله من التغذية، يبقى مع ذلك مستقلاً. وما دامت الحاجة إلى المص تنزع إلى توليد لذة، فمن الممكن ومن الواجب أن توصف بأنها جنسية.

ومنذ هذا الطور الفموي، ومع ظهور الأسنان الأولى، تبرز بعض الدوافع الغريزية السادية بصورة منعزلة. ويزداد بروزها زيادة كبيرة في الطور الثاني، الذي نسميه بالطور السادي - الشرجي، لان الشعور بالرضى يتأتى من العدوان ومن الوظيفة الإخراجية. ولئن خولنا أنفسنا الحق في إدراج النوازع العدوانية في الليبيدو، فذلك لأننا نعتقد أن السادية مزيج من دوافع غريزية ليبيدوية خالصة ومن نوازع تدميرية خالصة، وهو مزيج يدوم أبد العمر[11].

أما الطور الثالث الذي نسميه بالقضيبي فيسبق مباشرة الحالة النهائية للحياة الجنسية ويكون بينه وبينها شبه كبير. ولنلحظ ان الأعضاء التناسلية الذكرية (القضيب) هي وحدها التي تلعب في هذا الطور دوراً. أما الأعضاء التناسلية الأنثوية فتبقى ردحاً طويلا من الزمن مجهولة؛ ذلك ان الطفل، حينما يسعى إلى فهم الظاهرات الجنسية، يأخذ بنظرية المخرج[12] الموقرة، وهي نظرية لها ما يبررها من وجهة النظر التكوينية[13].

مع الطور القضيبي وفي أثنائه تدرك الجنسية الطفلية ذروتها وتقترب من طور أفولها. ومن الآن فصاعداً سيختلف مصير كل من الصبي والبنت. فقد بدأ كلاهما بأن وضع نشاطه الذهني في خدمة الاستقصاء الجنسي، وأخذ كلاهما بفرضية عمومية القضيب. غير أن الطريقين اللذين يسير فيهما الجنسان سيفترقان. فالصبي الصغير يدخل في الطور الاوديبي ويشرع بمعابثة قضيبه ويرفق هذه المعابثة بتخيلات ذات صلة بنشاط جنسي موضوعه الأم. غير ان الصبي الصغير لا يعتم تحت تأثير صدمتين متزامنتين: التهديد بالخصاء وملاحظة فقدان المرأة للقضيب، ان يتعرض لأعظم رضة في حياته، وهي الرضة التي تعقبها لاحقا مرحلة الكمون بكل نتائجها. اما الفتاة الصغيرة فبعد محاولات فاشلة لتقليد الصبي تدرك فقدانها للقضيب أو بالأحرى دونية بظرها، الأمر الذي يكون له آثار دائمة في تكوين طبعها؛ فهذه الخيبة الأولى في مضمار المنافسة تجعلها تعزف في كثير من الأحيان عن الحياة الجنسية عزوفاً تاماً.

من الخطأ أن نحسب أن هذه المراحل الثلاث ذات حدود مرسومة بوضوح، فقد توازي واحدتها الأخرى أو قد تتداخل معها أو قد تتطابق، وفي الأطوار المبكرة تعمل شتى الدوافع الغريزية الجزئية بصورة مستقلة عن بعضها بعضاً في سبيل كسب مقدار من اللذة. وإنما في أثناء الطور القضيبي ترضخ النوازع الأخرى لزعامة الأعضاء التناسلية ويندمج الطلب العام للذة بالوظيفة الجنسية. ولا يكتمل التنظيم إلا مع البلوغ، وفي طور رابع، هو الطور التناسلي. وتجري الأمور في هذا الطور على النحو الآتي: 1- تبقى توظيفات قديمة، شتى لليبيدو قائمة؛ 2- تندمج توظيفات أخرى في الوظيفة الجنسية لتشكل الأفعال الثانوية أو التمهيدية التي ينشأ عن إشباعها ما يمسى باللذة التمهيدية؛ 3- يجري استبعاد نوازع أخرى، إما بالقمع الشامل (الكبت)، وإما بتعديل دورها في الأنا؛ فتشكل بعض سمات طبعية أو تخضع لإسماء مصحوب بنقل للهدف.

لا تتم هذه السيرورة على الدوام بلا ضرر، وضروب الكف التي تعيق مجراها تتظاهر في شكل اضطرابات مختلفة في الحياة الجنسية. عندئذ يبقى الليبيدو مثبتاً على الحالات المميزة للأطوار المبكرة من النمو، وتحدث ضروب شتى من الحيدان عن الهدف السوي تسمى بالانحرافات. وتقدم لنا الجنسية المثلية السافرة مثالاً على اضطرابات التطور هذه ويبين التحليل ان هناك على الدوام رابطاً موضوعياً جنسياً مثلياً، وكل ما هنالك ان هذه الجنسية المثلية تبقى في اغلب الحالات كامنة. والسيرورات التي تؤدي إلى قيام حالة سوية لا تتحقق أبداً بتمامها كما لا تنعدم أبداً بتمامها. فليس لها إجمالا سوى طابع جزئي، بحيث يتوقف المال النهائي على علاقات كمية. وواضح للعيان مدى تعقيد هذا الوضع. وهكذا فإن التنظيم التناسلي وان قام، غير أنه يظل محروماً من جميع أجزاء الليبيدو التي لم يقيض لها التطور والتي لبثت مثبتة على المواضيع والأهداف القبتناسلية[14]. ويتجلى هذا الضعف، في حالات عدم الإشباع الجنسي أو العقبات الفعلية، في نزوع الليبيدو إلى التراجع نحو التوظيفات القديمة القبتناسلية، أي إلى النكوص.

لقد انتهينا، في أثناء دراستنا الوظائف الجنسية، إلى اقتناع أول ومسبق، أو بتعبير أدق، إلى اشتباه أول بصدد نقطتين تبدو أهميتهما، في هذا المضمار كله، كبيرة. أولاً، ان الظاهرات السوية أو غير السوية التي نلاحظها (وتلك هي الفينومينولوجيا) تقتضي ان توصف من الزاوية الدينامية أو الاقتصادية (في الحالة التي نحن بصددها يتعين علينا ان نسعى إلى معرفة التوزيع الكمي لليبيدو). ثانياً، ان أسباب الاضطرابات التي ندرسها تتكشف في تاريخ تطور الفرد، أي في طفولته.

الفصل الرابع: الكيفيات النفسية
وصفنا بنية الجهاز النفسي، والطاقات أو القوى التي تفعل فيه. ورأينا، من خلال مثال بيِّن، كيف تنتظم هذه الطاقات، وفي المقام الأول الليبيدو، في وظيفة فيزيولوجية هدفها حفظ النوع. على ان هذا كله لم يكن له طابع نفسي نوعي، فيما خلا، بطبيعة الحال، الواقعة التالية التي يمكن التحقق منها بالتجربة: وهي ان الجهاز والطاقات المشار إليها هي بمثابة الأساس بالذات للوظائف التي تعرف بالوظائف النفسية وعليه، فلننظر الآن في ما هو، في عرف التصور الشائع، سمة موقوفة على الظاهرة النفسية، في ما يجعل منها ظاهرة فريدة في نوعها.

ان نقطة الانطلاق لبحثنا تتيحها لنا واقعة منقطعة النظير، لا سبيل إلى تفسيرها أو وصفها: هي الشعور. ومع ذلك، حالما يدور الكلام عن الشعور، يعرف كل واحد للحال، وبالخبرة، ما المقصود به[15]. ويقنع الكثيرون من الناس، سواء كانوا من العاملين أم غير العاملين في الأوساط العلمية، بالافتراض ان الشعور هو وحده قوام النفسية كلها، وان ليس لعلم النفس بالتالي من مهمة في هذا الحال غير ان يميز، في داخل نطاق الفينومينولوجيا النفسية، بين الادراكات والاحساسات والسيرورات الذهنية والأفعال الإرادية، ومع ذلك يتفق رأي الجميع على ان السيرورات الشعورية لا تشكل سلسلة متصلة مكتملة، وهذا ما يوجب التسليم بوجود سيرورات فيزيقية أو بدنية مصاحبة للظاهرات النفسية، وأدنى إلى الاكتمال من سلاسل هذه الأخيرة، إذ يشتمل بعضها على سيرورات شعورية موازية بينما لا يشتمل بعضها الآخر على شيء من هذا. يبدو طبيعياً إذن ان نلح في علم النفس على هذه السيرورات البدنية، وان نرى فيها خاصية ما هو نفسي صرف، وأن نحاول تقييم السيرورات الشعورية تقييماً مغايراً. بيد ان اغلب الفلاسفة وكثيرين سواهم، يثورون على هذه الفكرة ويعلنون ان المصادرة على وجود نفسية لاشعورية خُلْف وإحالة.

ومع ذلك، فهذا بالضبط ما يتعين على التحليل النفسي ان يفعله، وتلكم هي بالتحديد فرضيته الأساسية الثانية. فهو يؤكد ان السيرورات المصاحبة التي يُزعم انها من طبيعة بدنية هي بالتحديد قوام النفسية، ولا يشغل نفسه بادئ الأمر بصفة الشعور ولا ينفرد التحليل النفسي أصلا بإبداء هذا الرأي. فقد افصح مفكرون آخرون. ومنهم مثلاً ت. ليبيس (Lipps)، عن وجهة نظر مماثلة في ألفاظ مماثلة؛ ونظراً إلى أن التصور الشائع عن ماهية النفس لا يرضي الفكر، فقد كان من المحتم ان تفرض فكرة وجود لاشعور نفسها بمزيد من القوة على علم النفس، لكن على نحو شديد الإبهام والغموض، مما شلها عن التأثير في العلم[16].

قد يميل المرء إلى أن يرى هذا الخلاف بين التحليل النفسي والفلسفة مجرد مسألة تنصب على التعريف: "فأي سلسلة من سلاسل الظاهرات ينبغي ان نختصها بالوصف بأنها "نفسية"؟

والواقع أن هذه المسألة ارتدت اعظم الأهمية. فعلى حين ان علم نفس الشعور ما كان يسعه قط الخروج من نطاق هذه السلاسل المليئة بالثغرات والمرتبطة بكل وضوح بشيء آخر، فإن المفهوم القائل ان العنصر النفسي هو في ذاته لاشعوري أتاح لعلم النفس ان يصير فرعاً، مشابهاً لغيره من الفروع، من العلوم الطبيعية. فالظاهرات التي يدرسها علم النفس هي في ذاتها ليست اكثر قابلية للمعرفة من الظاهرات التي تدرسها العلوم الأخرى، كالكيمياء أو الفيزياء مثلاً، لكن من الممكن تعيين القوانين التي تحكمها وإخضاع علاقاتها المتبادلة وارتهان بعضها ببعضها الآخر للملاحظة على نطاق واسع وبلا ثغرات.

وهذا ما يسمى بالوصول إلى "فهم" هذه الفئة من الظاهرات الطبيعية؛ وهو أمر يقتضي خلق فروض ومفاهيم جديدة؛ على أنه يجوز ان نعد هذه الفروض والمفاهيم المستحدثة أدلة على ما نتخبط فيه من حرج بل ينبغي ان نرى فيها إغناء لمعارفنا. ويخلق بنا ان ننظر إليها من الزاوية عينها التي ننظر منها إلى فروض العمل التي تلجأ إليها في العادة علوم طبيعية أخرى، وان نعزو إليها القيمة التقريبية نفسها. وإنما من التجارب المتراكمة والمنتخبة تنتظر هذه الفروض تعديلاتها ومبرراتها، كما تتوقع تعيينا اكثر دقة ووضوحاً. فهل لنا ان نعجب ان بقيت المفاهيم الأساسية للعلم الجديد (الدافع الغريزي، الطاقة العصبية، الخ)، بل مبادئه بالذات، بعيدة لأجل مديد من الزمن عن التعيين، مثلها في ذلك مثل مفاهيم العلوم الأقدم عهداً (القوة، الكتلة، الجاذبية، الخ)؟

ان كل علم يستند إلى مشاهدات وتجارب ينقلها إلينا جهازنا النفسي، لكن بما ان هذا الجهاز عينه هو موضوع دراستنا، فان المماثلة تقف عند هذا الحد. فمشاهداتنا نجريها بمساعدة جهاز الإدراك عينه، ونحن نعتمد تحديداً على قطع الاتصال في سلاسل السيرورات النفسية. وبالفعل، اننا نردم الفجوات باستدلالات معقولة مقبولة، ونترجمها إلى مادة شعورية. وبعلمنا هذا نضيف، ان جاز التعبير، إلى الظاهرات النفسية اللاشعورية سلسلة متممة من الوقائع الشعورية. ويقوم اليقين النسبي لعلمنا عن النفسية على القوة الاقناعية لاستدلالاتنا. ومن يبغ التعمق في هذه المسألة فسيجد أن تقنيتنا تصمد بقوة أمام كل نقد.

ينجذب اهتمامنا، في أثناء عملنا، نحو بعض التمايزات التي تشكل ما نسميه بالكيفيات النفسية. ولا حاجة بنا إلى ان نشرح هنا ما نسميه بالشعور، فهو عينه الشعور لدى الفلاسفة ولدى الجمهور العريض[17]. وكل ما عداه من النفسية، هو في رأينا، اللاشعور. ولن نجد مفراً من أن نجري في هذا اللاشعور تمييزاً هاماً. فعدد من السيرورات تغدو، بالفعل، شعورية بسهولة، ثم تكف عن أن تكون شعورية لتعود فتصبح كذلك من جديد بلا عناء. فهي تستطيع، كما يقال، ان ترجع إلى الذاكرة وأن تستعاد وتُستظهر. ولا يغب عنا أن الحالة الشعورية هي من اكثر الحالات سرعة زوال، إذ لا يبقى الشعوري شعورياً إلا لهنيهة من الزمن. ولئن لم تؤيد ادراكاتنا هذه الواقعة، فليس لنا ان نرى في ذلك سوى تناقض ظاهر مرده إلى ان التنبيهات يمكن ان تدوم زمناً ما، بحيث يتأتى لإدراكنا لها ان يتكرر طوال هذا الزمن. ويتوضح هذا الوضع متى تفحصنا الإدراك الشعوري لسيروراتنا التفكيرية، فصحيح ان هذه السيرورات قابلة لأن تدوم، لكنها قابلة أيضاً لأن تتوقف في مثل لمح النظر. وسوف نقول في هذا القسم من اللاشعور، الذي يبقى لاشعوريا تارة، ويغدو شعورياً طوراً، إنه "قابل لان يصير شعورياً"، وسوف نحبذ ان نطلق على اسم القبشعور[18]. وتدل التجربة انه لا وجود تقريباً لسيرورة نفسية، مهما تكن معقدة، لا يمكن لها أحياناً ان تبقى قبشعورية، وان كانت تسعى في العادة إلى الدلوف إلى الشعور، كما نقول.

ثمة سيرورات أو مضامين نفسية أخرى تواجه صعوبة اكبر في الدلوف إلى الشعور. ولا مفر من أن تُستنتج وتُكتشف ويُعثر لها على ترجمتها الشعورية. ولها تحديداً نحتفظ باسم اللاشعور بحصر المعنى. اننا نعزو إذن إلى السيروات النفسية كيفيات ثلاثاً: فهي إما شعورية وأما قبشعورية وإما لا شعورية. والتمييز الذي يمكن ان يصير شعورياً، بلا تدخل من قبلنا. واللاشعوري يمكن أن يصبح، بفضل جهودنا، شعورياً، وكثيراً ما يتراءى لنا في هذه الحال أنه يتعين علينا، للوصول إلى ذلك، التغلب على مقاومات بالغة الشدة. وعندما نقوم بهذه المحاولة على شخص آخر يخلق بنا أن نتذكر أنه لا يكفينا ان نردم فجوات إدراكاته، واننا إذ نتيح له ان يعيد بناء الأحداث لا نكون أفلحنا بالضرورة في تحويل المواد اللاشعورية المعينة عنده إلى مواد شعورية. والحق ان هذا المضمون يكون مزدوج التثبيت في نفسيته، أولا في إعادة البناء الشعوري الذي أتحناه له، وثانياً في الشكل البدائي اللاشعوري. وبمواصلتنا مجهودنا نتوصل في العادة إلى تحويل المضمون اللاشعوري إلى مضمون شعوري، فيتطابق عندئذ التثبيتان. وتتيح لنا شدة جهودنا أن نقيس المقاومة التي تعترض سبيل التحول إلى الشعور والتي تتفاوت من حالة إلى أخرى. كذلك فإن النتيجة التي نظفر بها بعد لأي في أثناء العلاج التحيلي يمكن أن تحدث بصورة تلقائية أيضاً، وذلك عندما ينقلب أحياناً مضمون لاشعوري في العادة إلى مضمون قبشعوري ثم يصبح شعورياً، وهذا ما يحدث في الحالات الذهانية على نطاق واسع. ومن ذلك نستنتج ان بقاء بعض المقاومات الداخلية هو واحد من شروط الحالة السوية. وفي أثناء النوم بصفة عامة ترتفع المقاومات ويندفع بنتيجة ارتفاعها المضمون اللاشعوري، فتتاح بالتالي للأحلام إمكانية التكون. وعلى العكس من ذلك، قد يحدث ان يبقى المضمون القبشعوري بعيد المنال لأمد من الزمن، إذ تعترض بعض المقاومات سبيل تحوله إلى الشعور، كما في حالة النسيان العابر (الهفوات). وكذلك قد ترتد الفكرة القبشعورية بصورة مؤقتة إلى الحالة اللاشعورية، وذلك هو شرط النكتة فيما يبدو. وسوف نرى ان هذا الضرب من ارتداد المضامين (أو السيرورات) إلى الحالة اللاشعورية يلعب دوراً هاماً في نشوء الأمراض العصابية.

ان نظرية الكيفيات الثلاث النفسية تبدو، في هذا الشكل العام والمبسط الذي قدمناها به، وكأنها عامل تشويش للأشياء لا عامل توضيح. بيد أنه يخلق بنا ألا ننسى أنها ليست نظرية بحصر المعنى، بل هي مجرد تقرير أولي عن وقائع مشاهدة، يسعى لا إلى تفسير هذه الوقائع، بل إلى الإحاطة بها عن أقرب قرب ممكن. ومن شأن، التعقيدات التي تتكشف لنا على هذا النحو ان تظهر للعيان كثرة العقبات التي تتعثر بها أبحاثنا. على أن كل شيء يحملنا على الاعتقاد ان معرفة العلاقات التي تقوم بين كيفيات النفسية وبين أقاليم الجهاز النفسي أو هيئاته التي نصادر على وجودها ستتيح لنا فهماً افضل للأشياء، وان تكن هذه العلاقات بعيدة بدورها عن البساطة.

ان فعل الشعور يتعلق قبل كل شيء بالادراكات التي تتلقاها أعضاء حواسنا من الخارج. هذه الظاهرة تحدث إذن، من وجهة النظر الطوبوغرافية، في الطبقة اللحائية الأكثر خارجية من الأنا. ونحن لا ننكر ان بعض المعلومات الشعورية تأتينا أيضاً من داخل جسمنا، وتتمثل بالمشاعر التي لها على حياتنا النفسية تأثير اعظم وقعاً بعد من الادراكات الخارجية. وأخيراً تصدر عن أعضاء الحواس، في ظروف شتى، علاوة على إدراكاتها الخاصة بها، مشاعر وأحاسيس مؤلمة. وهذه الانطباعات، كما نسميها تمييزاً لها عن الادراكات الشعورية، تنبعث أيضاً من أعضائنا الطرفية. والحال اننا نعتبر هذه الأعضاء استطالات لتشعبات الطبقة اللحائية، الأمر الذي يتيح لنا ان نتمسك بوجهة النظر التي تقدم بيانها. وحسبنا ان نقول ان الجسم عينه ينوب مناب العالم الخارجي بالنسبة إلى الأعضاء الطرفية، المستقبلية للأحاسيس والمشاعر.

لكم كان الأمر سيبدو بسيطاً لو أمكن لنا ان نعين موقع السيرورات الشعورية في محيط الأنا، وموقع كل الباقي اللاشعوري في الأنا، وربما كان هذا واقع الحال لدى الحيوانات؛ غير ان الأمور اكثر تعقيداً لدى الإنسان بالنظر إلى وجود عمليات باطنة في الأنا قابلة أيضاً لان تغدو شعورية. واللغة هي التي تتيح إمكانية إقامة ارتباط وثيق بين مضامين الأنا والبقايا الذاكرية من الادراكات البصرية وعلى الأخص السمعية. ومن هنا يكون المحيط الادراكي للطبقة اللحائية قابلاً للتنبيه، من الداخل، على نطاق أوسع بكثير. ومن الممكن أيضاً لبعض السيرورات الباطنة، نظير تيارات التمثلات والسيرورات التفكيرية، ان تغدو شعورية. ولذلك يقوم جهاز خاص يوكل إليه التمييز بين الاحتمالين. وهو الذي يتولج بما نسميه امتحان الواقعية. وبذلك تبطل معادلة الإدراك- الواقع (العالم الخارجي). كما ان الأخطاء، التي تحدث من الآن فصاعداً بيسر وسهولة، والتي لا يكاد يخلو منها في العادة حلم، تسمى بالهلوسات.

ان كيفية داخل الأنا، الذي يحتوي في المقام الأول، على السيرورات التفكيرية، هي القبشعور. والقبشعور سمة مميزة للأنا وموقوفة عليه حصراً. على أنه يصح الافتراض بأن الارتباط بالآثار الذاكرية للكلام هو شرط الحالة القبشعورية، فهذه الحالة مستقلة بالأحرى عن شرط كهذا، على الرغم من أن انشراط سيرورة ما بالكلام يتيح لنا أن نستنتج على وجه اليقين ان هذه السيرورة من طبيعة قبشعورية. ان الحالة القبشعورية، المتسمة من جانب أول بالقدرة على بلوغ الشعور، ومن الجانب الثاني بارتباطها بالآثار الكلامية، لهي حالة خاصة لا تستنفد هاتان الصفتان طبيعتها. وبرهاننا على ذلك ان أجزاء كبيرة من الأنا، وعلى الأخص من الانا الأعلى، الذي لا يمكن أن ننكر عليه طابعه القبشعوري، تبقى بالإجمال لاشعورية، بالمعنى الوصفي للكلمة. واننا لنجهل العلة التي تعّين ان يكون الأمر كذلك، ولسوف نحاول فيما بعد أن نتصدى لمعضلة الطبيعة الحقيقية للقبشعور.

اما اللاشعور فهو الكيفية الوحيدة السائدة داخل الهذا. وتجمع بين الهذا واللاشعور روابط وثيقة مماثلة لتلك التي تربط بين الانا والقبشعور، بل ان الرابط هنا اكثر حصرية. ولو القينا نظرة استرجاعية على تاريخ فرد من الأفراد وعلى تاريخ جهازه النفسي، لتأتى لنا ان نجري في الهذا تمييزاً هاماً ففي الأصل كان الهذا هو كل شيء. وقد تطور الانا بدءاً من الهذا تحت التأثير المتصل للعالم الخارجي. وفي أثناء هذا التطور الوئيد انتقلت بعض مضامين الهذا إلى الحالة القبشعورية، فاندمجت على هذا النحو بالأنا. بينما بقيت مضامين أخرى بلا تغيير في الهذا، فشكلت نواته التي يعسر النفاذ إليها. غير أن الانا الفتي والضعيف نبذ إلى اللاشعور، في خلال هذا التطور، بعض المضامين التي سبق له ان دمجها، وسلك المسلك عينه حيال انطباعات جديدة عدة كان في مقدوره استقبالها، بحيث ما تسنى لهذه الانطباعات المنبوذة ان تخلف أثراً إلا في الهذا. وإنما على هذا القسم من الهذا نطلق، بالنظر إلى أصله، اسم المكبوت، ولا يتأتى لنا على الدوام أن نميز تمييزاً دقيقاً واضحاً بين هذين الضربين في مضمون الهذا، وليس هذا بأمر ذي بال أصلاً، حسبنا ان نقول ان الهذا يتضمن مضامين فطرية ووقائع مكتسبة في مجرى تطور الأنا.

نحن نسلم إذن بانقسام طوبوغرافي للجهاز النفسي إلى أنا والى هذا، وهو انقسام يناظر كيفيتي القبشعور واللاشعور. ونحن نعتقد أيضاً ان هاتين الكيفيتين هما مجرد مؤشر إلى الفارق وليستا جوهره.

فما الطبيعة الحقيقية إذن للحالة التي تتجلى في الهذا بكيفيتها اللاشعورية، وفي الانا بكيفيتها القبشعورية، وما قوام هذا الاختلاف؟

اننا نقر بأننا لا ندري من الأمر شيئاً، وليس ثمة سوى بصيص باهت يضيء الظلمات الدامسة لمعرفتنا. فهنا على وجه التحديد نقترب من اللغز الحقيقي للظاهرات النفسية الذي لم يجد حله بعد فجرياً على معطيات علوم طبيعية أخرى، نسلم بأن كمية معينة من الطاقة تفعل فعلها في الحياة النفسية، ولكن لا تتوفر لنا أية قرائن قمينة بأن تسمح لنا بمقارنة هذه الطاقة بغيرها. ويبدو أن الطاقة العصبية أو النفسية توجد في شكلين: وأحدهما سهل الحركة، وثانيهما، على العكس، مقيد. واننا لنتكلم عن توظيفات (investments) وعن توظيفات فائضة (surinvestments) للمضامين النفسية، بل نذهب إلى حد الافتراض بأن كل "توظيف فائض" يعين ضرباً من تركيب لسيرورات شتى، تتحول أثناءه الطاقة الحرة إلى طاقة مقيدة. وعند هذا الحد تتوقف معرفتنا، لكننا نعتقد جازمين ان الفارق بين الحالة اللاشعورية والحالة القبشعورية يرجع، بدوره، إلى علاقات دينامية مماثلة، وهذا قمين بأن يفسر لماذا يمكن لإحدى الحالتين ان تتحول، تلقائياً أو بجهودنا، إلى الأخرى.

لقد توصل العلم التحليلي، رغم كل هذه الشكوك، إلى تقرير حقيقة واقعة جديدة. فقد أبان ان السيرورات التي تدور في اللاشعور أو الهذا تخضع لقوانين مغايرة للقوانين التي تخضع لها السيروارات التي تدور في الانا القبشعوري. ونحن نطلق على مجمل هذه القوانين اسم السيرورة الأولية، بالتعارض مع السيرورة الثانوية التي تحكم ظاهرات القبشعور أو الأنا. وعلى هذا، تكون دراسة الكيفيات النفسية قد أثبتت في النهاية أنها ليست عقيمة كل العقم.


ترجمة: جورج طرابيشي



فرويد: مختارات من "قلق في الحضارة"

-3-
لم تزدنا دراستنا عن السعادة حتى الآن معرفة بشيء لا يعلمه الناس جميعا. وإذا أردنا ان نتممها هنا بالبحث في علة المصاعب التي تحول دون ان يصير الناس سعداء على نحو ما يحلو لهم، فان حظنا في اكتشاف شيء جديد لا يبدو اكبر بكثير. فلقد سبق أن أعطينا الجواب بإشارتنا إلى المصادر الثلاثة التي ينبع منها الألم الإنساني: قوة الطبيعة الساحقة، شيخوخة الجسم البشري، وأخيرا عدم كفاية التدابير الرامية إلى تنظيم العلاقات بين البشر، سواء أضِمْنَ الأسرة أم الدولة أم المجتمع. وفيما يتعلق بالمصدرين الأولين لا مجال لترددنا طويلا، إذ أن حصافتنا تجبرنا على الاعتراف بواقعيتهما، مثلما تجبرنا على الرضوخ لما لا مهرب منه. فنحن لن نحكم أبدا تمام الإحكام سيطرتنا على الطبيعة، وجسمنا، الذي هو ذاته عنصر من عناصر الطبيعة، سيبقى ابد الدهر قابلا للفناء ومحدودا في مقدرته على التكيف، كما في سعة وظائفه. لكن الإقرار بهذه الحقيقة لا يجوز ان يحكم علينا بالشلل: بل على العكس، إذ انه يعّين لنشاطنا الوجهة التي ينبغي عليه ان يسلكها. فلئن كنا لا نستطيع إلغاء الآلام كافة، ففي مقدورنا على الأقل التخلص من بعضها وتسكين بعضها الآخر: وبرهاننا على ذلك تجربة لها من العمر ألوف السنين. بيد أننا نلاحظ موقفا مختلفا تجاه المصدر الثالث للألم، ولا يسعنا أن ندرك لماذا لا توفر المؤسسات التي أنشأناها بأنفسنا الحماية والمنفعة لنا جميعا. وعلى كل حال، لو أمعنا التفكير في الفشل المحزن الذي تُمنَى به، في هذا المجال على وجه التحديد، إجراءاتنا للوقاية من الألم، لشرعت تراودنا الشكوك بأن ثمة قانونا ما للطبيعة التي لا تقهر يتواري هنا أيضا عن الأنظار، وان هذا القانون يتعلق هذه المرة بتكويننا النفسي بالذات.

وإذا ما تصدينا لدراسة احتمال كهذا، اصطدمنا على الفور بتوكيد طالما طرق آذاننا، ولكنه يستأهل ان نتوقف عنده لأنه عجيب ومدهش حقا. فهو يزعم أن ما نسميه بحضارتنا هو الذي ينبغي ان نحّمله إلى حد كبير تبعة بؤسنا، وأن التخلي عن هذه الحضارة للعودة إلى الحالة البدائية سيكفل لنا قدرا من السعادة اكبر بكثير. انني اعتبر هذا التوكيد عجيبا ومدهشا لأنه من المؤكد الثابت بالرغم من كل شيء، أيا يكن التعريف الذي نلبسه لمفهوم الحضارة، ان كل ما نسعى إلى تجنيده لحمايتنا من تهديدات الألم الناجم عن هذا أو ذاك من المصادر الآنفة الذكر إنما هو من صنع هذه الحضارة عينها.

كيف انتهى الأمر بعدد كبير من المخلوقات البشرية إلى الأخذ، على ما في ذلك من غرابة، بوجهة النظر المعادية للحضارة تلك؟ اعتقد ان استياء دفينا، من منشأ ناء للغاية، كان يتجدد في كل طور من أطواره، هو الذي حث على تلك الإدانة التي كانت تتكرر بانتظام بفضل ظروف تاريخية مؤاتية. ويخيل إلي انني قادر على معرفة ما كان الأخير وما قبل الأخير من تلك الظروف، لكنني لست ضليعا بما فيه الكفاية في العلم لأتتبع تسلسلها عبر الماضي السحيق للجنس البشري. حسبي أن أشير إلى أن عامل العداء للحضارة كان من أسباب انتصار المسيحية على الوثنية، إذ جرى وثيق الربط بينه وبين الخفض من قيمة الحياة الأرضية كما نادى به المذهب المسيحي. وقد قام ما قبل الأخير من تلك الظروف التاريخية حين أتاح تطور الأسفار الاستكشافية إمكانية الاتصال بالأجناس والشعوب المتوحشة. فقد تصور الأوروبيون، نظرا إلى عدم توفر الملاحظات الكافية والتفهم الصحيح لعادات المتوحشين وأعرافهم، ان هؤلاء الأخيرين يحيون حياة بسيطة وسعيدة، فقيرة بالحاجات، على نحو ما عاد متاحا للمستكشفين الأكثر تَمَدْيُناً الذين يزورونهم. وقد جاءت التجربة اللاحقة لتصحح، في اكثر من نقطة، ذلك الحكم. فلئن كانت الحياة اسهل عليهم بالفعل، فقد ارتكب الأوروبيون مرارا وتكرارا خطأ عزو خفة الأعباء هذه إلى غياب المطالب البالغة التعقيد والناجمة عن الحضارة، مع أن الفضل فيها كان يعود، بوجه الإجمال، إلى كرم الطبيعة والى جميع التسهيلات التي تتيحها للمتوحشين لتلبية حاجاتهم الحيوية. أما آخر تلك الظروف التاريخية فقد قام حين تعلمنا أن نمّيز أواليات[19] العُصاب[20] الذي هدد بتخريب القسط الضئيل من السعادة الذي فاز به الإنسان المتمّدن. وقد اكتشف الناس عندئذ ان الإنسان يصير عصابيا لأنه لا يستطيع ان يتحمل درجة العزوف والزهد التي يتطلبها المجتمع باسم مثله الأعلى الثقافي، وخلصوا إلى الاستنتاج بأن إلغاء تلك المطالب أو تخفيفها يعني رجوعا إلى إمكانيات السعادة.

هناك سبب آخر أيضا للخيبة ولانقشاع الأوهام. فخلال الأجيال الأخيرة تمكنت البشرية في مجال العلوم الفيزيائية والطبيعية وتطبيقاتها التقنية من تحقيق تقدم خارق للمألوف، وقد بسطت بنتيجة ذلك سيطرتها على الطبيعة على نحو ما كان يمكن تصوره قبل اليوم. وسمات هذا التقدم معروفة للجميع إلى حد يغني حتى عن تعدادها. وبنو الإنسان فخورون بتلك الفتوحات، وهم في فخرهم هذا محقون. بيد انه يخيل إليهم ان هذه السيطرة الحديثة العهد على المكان والزمان، وهذا الاسترقاق لقوى الطبيعة، وهذا التحقيق لصبوات وأماني لها من العمر آلاف السنين، لم تزد البتة من مقدار المتعة التي ينتظرونها من الحياة. ومن ثم، لا يعمر أفئدتهم الإحساس بأنهم صاروا نتيجة ذلك أكثر سعادة، وقد كان من المفروض ان يكتفوا بالاستنتاج بأن السيطرة على الطبيعة ليست شرط السعادة الوحيد، كما انها ليست الهدف اليتيم لعملية التمدين. لا أن يستنتجوا ان تقدم التقنية غير ذي قيمة بالنسبة إلى "اقتصاد" سعادتنا. وبالفعل، ألن نميل إزاء الاستنتاج الأخير إلى الاعتراض بقولنا: أليس مكسبا إيجابيا من اللذة، الا يزداد بلا لبس شعوري بالسعادة، إذا ما أمكنني أن أسمع متى ما شئت صوت ولدي الذي يقطن على بعد مئات الكيلومترات، أو إذا ما أتمكنني ان اعلم فور نزول صديقي من الباخرة التي كانت تقله أن رحلته الطويلة والشاقة قد انتهت بسلام. أهو شيء تافه ان يكون الطب قد افلح في تخفيض نسبة وفيات الأطفال، وفي تقليص أخطار إصابة الناس بالعدوى تقليصا يبعث على الدهشة حقا؟ أهو شيء عديم القيمة ان يكون الطب عينه قد نجح في إطالة الأمد المتوسط لحياة الإنسان المتمدن بعدد غير هين من السنين؟ أنه لفي مستطاعنا أن نضيف إلى هذه المحاسن، التي ندين بها لعصر التقدم العلمي والتقني هذا، على كثرة ما يتعرض له من ذم وتحقير، قائمة بكاملها.... ولكن هو ذا صوت النقد المتشائم يعلو ويرتفع! الصوت الذي يبث في الآذان ان غالبية هذه التسهيلات هي من طبيعة مماثلة لتلك "اللذة الرخيصة" التي تطريها النكتة المعروفة التالية: عرِّض ساقك العارية للبرد، خارج الفراش، فتفوز فيما بعد بـ "لذة" إعادتها إلى الدفء! فلولا السكك الحديدية، التي ألغت المسافة، هل كان أولادنا غادروا مسقط رأسهم، وهل كانت ستوجد، من ثم، حاجة إلى التلفون لسماع صوتهم؟ ولولا الملاحة عبر المحيطات لما كان صديقي فكر بالسفر، ولكنت استغنيت عن التلغراف للاطمئنان على مصيره. وما الفائدة من تقليص وفيات الأطفال إذا كان هذا التقليص ذاته يفرض علينا ان نضبط أنفسنا ضبطا شديدا في الإنسال، وإذا كنا بعد كل شيء لا نربي عددا من الأطفال اكبر من العدد الذي كنا نربيه أيام لم يكن لقواعد حفظ الصحة من وجود، وهذا بينما طرأ من جهة أخرى تعقيد على شروط حياتنا الجنسية في الزواج وانتفى في أغلب الظن التأثير الإيجابي للانتخاب الطبيعي؟ وماذا نجني أخيرا من طول أمد الحياة، إذا كانت هذه الحياة عينها ترهق كواهلنا بأعباء ومشاق لا تقع تحت حصر، وإذا كانت فقيرة بالأفراح، غنية بالآلام، إلى حد نرحب معه بالموت بوصفه خلاصا سعيدا؟


- يتبع -

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:15 PM

- تابع فرويد :

يبدو انه بحكم المؤكد اننا لا نشعر بأننا في يسر من امرنا وهناء في ظل حضارتنا الراهنة، لكن من العسير جدا ان نحكم هل شَعَرَ أهل الماضي، والى أي حد، بأنهم أسعد حالا، وان نقيّم بالتالي الدور الذي لعبته شروط حضارتهم. اننا ننزع على الدوام إلى تصور البؤس من زاوية موضوعية، وبعبارة أخرى، ننزع على الدوام إلى ان ننتقل بالفكر، مع حفاظنا على مطالبنا وسياستنا الخاصة، إلى شروط الثقافات القديمة لنتساءل عندئذ عن فرص السعادة أو التعاسة التي كانت ستتاح لنا في ظلها. وهذه الكيفية في النظر إلى الأمور، ان تكن موضوعية في الظاهر لأنها لا تقيم اعتبارا لتحولات الحساسية الذاتية، فهي في جوهرها ذاتية بكل القدر الممكن، لأنها تُحِل استعداداتنا النفسية محل سائر الاستعدادات الأخرى المجهولة لدينا. على ان السعادة هي، على كل حال، شيء مغرق في الذاتية. فمبلغا ما بلغ بنا النفور والاشمئزاز من بعض المواقف والأوضاع، كوضع المحكوم بالأشغال الشاقة في سالف الأزمان، أو وضع الفلاح في حرب الثلاثين عاما[21]، أو وضع ضحية محاكم التفتيش المقدس، أو وضع اليهودي المعرض للمجازر الجماعية، فانه يتعذر علينا على كل حال ان نضع أنفسنا محل أولئك التعساء، وأن نتكهن بالتشوهات التي أنزلتها عوامل نفسية متباينة بقدراتهم على استقبال الفرح والوجع. وفي عداد هذه العوامل لنذكر الحالة البدائية من اللاحساسية البليدة، والتَبَلّه التدرجي، وقطع حبل كل رجاء، وأخيرا مختلف الطرائق الفجة أو المهذبة في إلهاء النفس. وفي حالة حدوث ألم فائق الشدة، يمكن ان تتدخل أواليات نفسية معينة للحماية من الوجع. لكن يخيل إلي انه لا جدوى من مواصلة التبّحر في هذا الجانب من المشكلة.

لقد آن الأوان للنظر في جوهر تلك الحضارة التي وضعت قيمتها، بصفتها مصدرا للسعادة، موضع تشكيك. ولن نطالب بصيغة تحددها في قليل من الألفاظ قبل ان نكون قد فزنا ببعض الجلاء من فحصها وتحليلها. حسبنا ان نكرر القول[22] بأن مصطلح الحضارة[23] يشير إلى جملة الصنائع والتنظيمات التي يبعدنا تأسيسها عن حالة أسلافنا البهيمية والتي تفيد في غرضين: حماية الإنسان من الطبيعة، وتنظيم علاقات البشر فيما بينهم. ولمزيد من الوضوح سنفحص واحدة تلو الأخرى سمات الحضارة كما تتبدى في المجتمعات الإنسانية. وسوف يكون هادينا بلا تحفظ أثناء هذا الفحص اللغة الذائعة، أو كما يقال أيضا "الحس اللغوي"، مطمئنين إلى أننا بذلك لا نغمط حق تلك الحدوس العميقة التي ما تزال تتأبّى إلى اليوم على الترجمة إلى مصطلحات مجردة.

ان التوطئة لموضوعنا سهلة ميسورة، فنحن نسلّم بصفة الحضارة لجميع النشاطات والقيم النافعة للإنسان لتطويع الأرض خدمة له ووقاية من جبروت قوى الطبيعة: وهذا المظهر من مظاهر الحضارة هو أقلها إثارة للشبهات وللجدل. وإذا أردنا أن نوغل بعيدا في الماضي، فسنذكر من بين الوقائع الحضارية الأولى استعمال الأدوات، وتدجين النار، وتشييد المساكن. وتحتل ثانية هذه الوقائع مكانا رفيعا باعتبارها إنجازا خارقا للمألوف ولا سابق له[24]. أما الواقعتان الأخريان فقد فتحتا للإنسان طريقا ما لبث فيما بعد أن غدا السير فيها قدما إلى الأمام، ومن السهل أصلا تخمين الدوافع التي كانت تحضه على ذلك. وبفضل ما بات في متناول الإنسان من أدوات، جَوَّد أعضاءه (المحركة والحواسية على حد سواء) أو وسّع توسيعا مرموقا حدود مقدرتها. وزودته الآلات ذات المحرك بقوى جبارة تتساوى وقوى عضلاته بالذات من حيث سهولة توجيهها والتحكم بها. وبفضل السفينة والطائرة، ما عاد لا الماء ولا الهواء يعيقان تنقله وتسفاره. وبالنظارات صحح عيوب عدسات عينيه، وأتاح له المقراب (التلسكوب) ان يرى إلى مسافات بعيدة، مثلما أتاح له المجهر (الميكروسكوب) ان يتخطى الحدود الضيقة التي ترسمها لبصره بنية شبكية عينه. وباكتشاف آلة التصوير الفوتوغرافي كفل لنفسه أداة تثبت الظواهر الزائلة، كما ان اسطوانة الحاكي تؤدي له الخدمة عينها فيما يتعلق بالانطباعات الصوتية العابرة، وما هذان الجهازان في الواقع الا تجسيد مادي للمقدرة التي وُهبت له على التذكّر، وبعبارة أخرى، ما هما الا تجسيد لذاكرته. وبفضل الهاتف صار يسمع من بعيد، من مسافات كانت الحكايات الخرافية ذاتها تقرّ بأنها غير قابلة للاجتياز. وفي الأصل، كانت الكتابة لغة الغائب، وكان المنزل السكني بديل جسم الأم، ذلك البيت الأول الذي يبقى الحنين إليه أبد الدهر على الأرجح، والذي كان المرء يعرف الأمان فيه ويشعر بأنه في يسر من أمره وهناء.

لكأنها حكاية من حكايات الجنيات! وبالفعل، ان تلك المنجزات والصنائع التي عرف الإنسان بفضل علمه وتقنيته كيف يغني بها هذه الأرض التي رأى النور على سطحها أول ما رآه مخلوقا صغيرا قريبا إلى البهيمة والتي لا يزال على كل سليل من عرقه أن يدلف إليها في حالة الرضيع الذي لا حول له ولا قوة - يا لبوصة الطبيعة أقول: ان تلك المنجزات والصنائع ان هي الا التحقيق المباشر لجميع، كلا، لمعظم، الأماني التي عبرت عنها حكايات الجنيات تلك. وفي وسع الإنسان، بلا جدال، ان يعتبرها فتوحات للحضارة. لقد كان كوّن لنفسه، منذ سحيق العصور، مثلا أعلى لكلية القدرة ولكلية العلم، ثم جسده في آلهته. وعزا إلى هذه الآلهة كل ما لبث عَصّيا أو محظورا عليه. في مقدورنا إذن ان نقول ان تلك الآلهة كانت "مُثُلا عليا حضارية". وما دام الآن قد اقترب غاية الاقتراب من هذا المثل الأعلى، فقد أمسى هو نفسه شبه إله. لكن فقط، في الحقيقة، على المنوال الذي يصل به بنو الإنسان بوجه عام إلى أنماطه الخاصة من الكمال، أي على نحو منقوص: بصدد بعض النقاط لا يصلون إلى هدفهم بالمرة، وبصدد بعضها الآخر يصلون إلى نصف ما يريدون. لقد غدا الإنسان، ان جاز القول، ضربا من "إله رمامي"[25]، إلها يستأهل بالتأكيد كل إعجاب ان كان مسلحا بأعضائه المساعدة، لكن هذه الأعضاء لم تنبت معه وكثيرا ما تسبب له ألما بالغا. وعلى كل حال، من حقه أن يتعزى بفكرة ان ذلك الارتقاء لن ينتهي مع عام اليُمن والبركة، عام 1930[26]. فالمستقبل البعيد سيأتينا، في هذا الميدان من ميادين الحضارة، بتقدم جديد ومرموق، وعلى قدر من الأهمية يتعذر في أغلب الظن التنبؤ به من الآن. وسوف يعزز التقدم الآتي ملامح الإنسان الإلهية اكثر فاكثر. بيد اننا لا نريد ان ننسى، وهذا لصالح دراستنا، أن أي إنسان معاصر لا يشعر بأنه سعيد، مهما قارب أن يكون إلها.

اننا نتعرف المستوى الحضاري الرفيع لقطر من الأقطار حين نلاحظ ان كل شيء فيه مدروس بعناية ومنظم بفاعلية من أجل استغلال الإنسان للأرض، وان حماية هذا الإنسان من قوى الطبيعة مؤمنة ومضمونة، وبكلمة واحدة، ان كل شيء فيه مدَّبر ابتغاء نفعه. وفي قطر كذاك تُنظّم مجاري الأنهار المهددة بالفيضان، وتُساق المياه المتاحة عن طريق شبكة من الأقنية إلى الأماكن التي لا تتوفر فيها. وتُفلح الأرض بعناية، وتُزرع فيها نباتات موائمة لطبيعتها، وتُستخدم الثروات المنجمية المستخرجة على نحو متواصل من باطن الأرض في صنع أدوات وآلات لها ضرورتها الحيوية. وتُربل فيه وسائل المواصلات، وتكون سريعة وأمينة، وتُستأصل شأفة الوحوش الكاسرة والخطرة، وتزدهر تربية الحيوان. لكننا نطالب الحضارة بالمزيد، ونتمنى ان نرى تلك الأقطار عينها تتصدى على نحو كريم لتلبية مطالب أخرى. وبالفعل، اننا لا نتردد في ان نحيي أيضا، كما لو أن مبتغانا الآن التنكر لأطروحتنا الأولى، كل اهتمام يصدر عن البشر تجاه الأشياء التي لا نفع منها يرجى أو حتى تلك التي لا جدوى منها البتة في الظاهر، على اعتبار ان مثل هذا الاهتمام هو مؤشر من مؤشرات الحضارة، ومن قبيل ذلك حينما نشاهد في هذه المدينة أو تلك الحدائق العامة، تلك الفسحات الضرورية لها بصفتها مستودعات للهواء الطلق وملاعب، وقد جُمّلت أيضا بمسالك مُزهّرة، أو نرى نوافذ البيوت وقد زُينّت بأصص الأزهار. ان هذا "اللامجدي" الذي نطالب الحضارة بأن تعترف بكامل قيمته ما هو، وهذا ما نتبينه للحال، الا الجمال. اننا نطالب الإنسان المتمدن بأن يكرّم الجمال حيثما التقاه في الطبيعة، نطالب بأن تستنفر الأيدي كل ما تتمتع به من مهارة في تزيين الأشياء به. وهيهات ان نستنفذ لائحة المطالب التي نتقدم بها إلى الحضارة. ونحن نرغب أيضا في ان نرى علائم النظافة والنظام. اننا لا نكوّن فكرة رفيعة عن التنظيم المديني لبلدة في الريف الإنكليزي، في زمن شكسبير، حين نقرأ أنه كانت ترتفع، أمام باب منزل أبويه في ستراتفورد، كومة كبيرة من الزبل. واننا لنغتاظ ونتكلم عن "البربرية"، أي نقيض الحضارة، حين نشاهد دروب "وينرفالد" [غابات أخّاذة حول فيينا] وقد انتشر فيها مزق الأوراق. ان كل وساخة تبدو لنا متنافية مع حالة التمدين. ثم اننا نسحب على الجسم البشري مطلب النظافة، ويأخذنا العجب من علمنا ان الملك - الشمس[27] نفسه كانت تفوح منه رائحة كريهة، وأخيرا نهز رأسنا تعجبا عندما نعاين في ايزولا بيللا الطشت الصغير الذي كان نابليون يستخدمه لاغتساله الصباحي. بل اننا لا ندهش البتة عندما نسمع ان استعمال الصابون هو المقياس المباشر لدرجة التحضر. وكذلك الحال فيما يتعلّق بالنظام الذي يرتبط هو الآخر، شأنه شأن النظافة، بالتدخل الإنساني. ولكن لئن لم يكن في وسعنا أن نتوقع أن تسود النظافة في قلب الطبيعة، فان هذه الأخيرة تعلمنا بالمقابل النظام، هذا إذا شئنا ان نصيخ السمع إليها، فملاحظة الانتظام العظيم للظاهرات الفلكية لم تقدم للإنسان مثالا وقدوة فحسب، بل أيضا الصورة الأولى الضرورية لإدخال النظام على حياته. ان النظام ضرب من "الإكراه على التكرار" وهذا الإكراه هو الذي يقرر، مستفيدا من التنظيم الذي يقام ليدوم، متى وأين وكيف يتوجب فعل هذا الشيء أو ذاك، وبذلك يوفر الإنسان على نفسه جهد التردد وتلمس الطريق متى ما تماثلت الظروف. والنظام، الذي لا مراء البتة في محاسنه، يسمح للإنسان بأن يستعمل على افضل نحو المكان والزمان، وبأن يقتصد في الوقت نفسه في قواه الجسمانية. ومن حقنا ان نفترض ان النظام تجلّى من البدء وتلقائيا في الأفعال الإنسانية، وعجيب حقا ألا تكون الأمور قد جرت على هذا النحو، بل الأعجب من ذلك أن يكون الإنسان قد أظهر ميلا طبيعيا إلى الإهمال واللانظام وعدم الدقة في العمل، وأن تكون الحاجة قد دعت إلى بذل جهود متضاعفة لحمله، بواسطة التربية، على الاحتذاء بمثال السماء.

يحتل الجمال والنظافة والنظام مكانة خاصة، بكل تأكيد، بين مطالب الحضارة. وإذا لم يكن للإنسان ان يزعم أن أهميتها تماثل أهمية السيطرة على قوى الطبيعة، وهذه السيطرة حيوية جدا بالنسبة إلينا، أو تعادل أهمية عوامل أخرى ما يزال علينا أن نتعلم كيف نتعرفها، فليس لإنسان أيضا ان يخفض منزلتها بطوع إرادته إلى مرتبة الأمور الثانوية. ومثال الجمال، الذي لا يسعنا أن نقبل بنفيه من عداد مشاغل الحضارة واهتماماتها، يكفي وحده لكي يبين لنا أن الحضارة لا تضع نصب عينيها النافع وحده دون غيره. وعلى كل، فان نفعية النظام بديهية لا مماراة فيها. أما النظافة، فلا بد أن نأخذ بعين الاعتبار أن علم الصحة يقتضيها هو الأخر، ومن المباح لنا أن نفترض ان هذه العلاقة لم تكن مجهولة من الناس، حتى قبل تطبيق العلم في مجال الوقاية من الأمراض. بيد أن مبدأ النفعية لا يفسر تمام التفسير ذلك الميل: ولا بد أن ثمة عاملا آخر يلعب دوره في الموضوع.

لكننا لا نستطيع أن نتخيل سمة أكثر تمييزا للحضارة من القيمة المعلقة على النشاطات النفسية العليا من إنتاجات فكرية وعلمية وفنية، ولا مؤشرا ثقافيا موثوقا كالدور القيادي المنسوب إلى الأفكار في حياة البشر. وبين هذه الأفكار تحتل الأنظمة الدينية أرفع مكانة في سلّم القيم. وقد حاولت في موضع آخر أن أسلط الضوء على بنيتها المعقدة. وتصطّف إلى جانبها في المرتبة الثانية التأملات الفلسفية، ثم أخيرا ما يمكن ان يمسى بـ "الانشاءات المثالية" لبنى الإنسان، أي الأفكار المتعلقة بإمكان تحسين وضع الفرد أو الشعب أو البشرية قاطبة، أو المطالب والصبوات التي تنهض فيهم على هذا الأساس. وكون إبداعات الفكر تلك متداخلة أشد التداخل، لا منفصلة بعضها عن بعض، يجعل صياغتها والتعبير عنها واشتقاقها السيكولوجي مهمة عويصة وشائكة. وإذا سلمنا بصورة بالغة العمومية بأن نابض كل نشاط إنساني هو الرغبة في الوصول إلى هدفين متقاربين، النافع واللذيذ، توجّب علينا أن نطبق هذا المبدأ نفسه على التظاهرات الثقافية المطروحة على بساط النقاش هنا، على الرغم من أن النشاطين العلمي والفني هما وحدهما اللذان يؤكدان من بين هذه التظاهرات صحّة ذلك المبدأ. ولكن لا سبيل إلى الشك في أن التظاهرات الأخرى لا تتطابق هي الأخرى مع حاجات إنسانية بالغة القّوة، حتى وان لم تكن متطورة الا لدى أقلية قليلة فقط. كذلك ينبغي الا تضللنا أحكام القيمة التي تطلق على بعض من تلك المثل العليا أو على بعض من تلك الأنظمة الدينية والفلسفية. فسواء أحاولنا ان نرى فيها أرفع خلق وأسمى إبداع للفكر الإنساني، أم أصررنا على أن نرى فيها مجرد تخريف وهذر يدعوان للرثاء، فإننا مضطرون في الأحوال جميعا إلى الإقرار بأن وجودها، وعلى الأخص رجحان كفتها وتفوقها، يدل على مستوى رفيع من الثقافة والحضارة.

ان آخر سمات الحضارة، ولكن ليس بكل تأكيد أدناها شأنا، تتجلى في الكيفية التي تنظم بها علاقات البشر فيما بينهم. هذه العلاقات، المسماة بالاجتماعية، تخص الكائنات البشرية إما بصفتهم جيرانا لبعضهم البعض، وإما بصفتهم أفرادا يبذلون ما أوتوا من قوى كي يتساعدوا ويتعاضدوا، وإما بصفتهم مواضيع جنسية لأفراد آخرين، وإما بصفهتم أعضاء في أسرة أو في دولة. وبوصولنا إلى هذه النقطة، يصبح من العسير علينا للغاية ان نتمثل ما المقصود في خاتمة المطاف بمصطلح "المتمدن"، من دون أن نتأثر على كل حال بالمطالب التي يحددها هذا المثل الأعلى أو ذاك. وربما لجأنا بادئ ذي بدء إلى التفسير التالي: إن العنصر الحضاري يقوم بقيام المحاولة الأولى لتنظيم تلك العلاقات الاجتماعية. فان لم تقم مثل هذه المحاولة، خضعت تلك العلاقات الاجتماعية للعسف الفردي، وبعبارة أخرى، تولى تنظيمها الفرد الأقوى جسمانيا على نحو يخدم مصالحه الخاصة ودوافعه الجنسية الغريزية. ولن يتغير شيء إذا ما وجد ذلك الفرد الأقوى فردا أقوى منه. ولا تغدو الحياة المشتركة ممكنة الا إذا توصلت الغالبية إلى تشكيل تجمع أقوى من قوة كل عضو من أعضائه على حدة، والى المحافظة على تلاحم متين في مواجهة كل فرد على حدة. وعندئذ يقف سلطان هذه الجماعة بوصفه "حقا" موقف المعارضة تجاه سلطان الفرد المرذَّل والموصوف بالقوى الغاشمة. وبحلول السلطان الجماعي محل القوة الفردية، تخطو الحضارة خطوة حاسمة إلى الأمام. ويكمن الطابع الأساسي لحضارة هذه المرحلة في كون أعضاء الجماعة يحدون من إمكانات التذاذهم بينما كان الفرد المفرد يجهل كل تضييق من هذا النوع. هكذا يكون المطلب الحضاري التالي هو مطلب "العدل"، أي الاطمئنان إلى ان النظام الشرعي الذي تمّ إقراره لن يُنتهك أبدا لصالح فرد مفرد. ونحن لا نصدر هنا حكما على القيمة الأخلاقية لمثل هذا "الحق". وإذ تواصل الحضارة ارتقاءها، تسلك طريقا تنزع خلاله إلى الكف عن اعتبار الحق تعبيرا عن إرادة جماعة صغيرة (طائفة أو طبقة أو أمة) تسلك إزاء سائر الكتل الجماهيرية، المماثلة لها في النوع ولكن الأكثر تعدادا في الأرجح، سلوك الفرد المتأهب للجوء إلى القوة الغاشمة. والمفروض ان تأتي النتيجة النهائية تأسيس حق بمشاركة الجميع، أو على الأقل جميع الأعضاء القابلين للانتماء إلى الجماعة، من خلال تضحيتهم بدوافعهم الغريزية الشخصية، حق لا يفسح مجالا لوقوع أي واحد منهم ضحية القوى الغاشمة باستثناء أولئك الذين أبوا قبولا به.

ليست الحرية الفردية إذن نتاجا حضاريا. بل كانت، قبل أي حضارة، على أعظم ما يمكن ان تكون، ولكن بلا قيمة أيضا في غالب الأحيان، لان الفرد لم يكن في وضع يؤهله للدفاع عنها. وقد فرض عليها تطور الحضارة قيودا، وتقتضي العدالة بألا يعفى أحد من هذه القيود. وحين تشعر جماعة إنسانية ما بدفقة من الحرية تجيش في أعماقها، فإن ذلك يمكن أن يكون تعبيرا عن حركة تمّرد ضد ظلم سافر، وهذا بدوره قد يساعد على تحقيق تقدم حضاري جديد. لكن ذلك قد يكون أيضا نتيجة لاستمرار بعض رواسب من نزعة فردية غير مروّضة، فيشكل بالتالي قاعدة وأساسا للميول المناوئة للحضارة. وتنصبّ دفعة الحرية، بفعل ذلك، ضد بعض الأشكال أو بعض المطالب الثقافية، أو حتى ضد الحضارة بالذات.

لا يبدو ان هناك إمكانية لحمل الإنسان، كائنة ما كانت الوسيلة، على مقايضة طبيعته بطبيعة الأرَضة[28]، فهو دائم الميل إلى الدفاع عن حقه في الحرية الفردية ضد إرادة المجموع. وكثيرة هي الصراعات التي تخاض ضمن نطاق البشرية وتتركز حول مهمة يتيمة: إيجاد توازن مناسب، وقمين بالتالي بتأمين سعادة الجميع، بين مطالب الفرد وبين المطالب الثقافية للجماعة. وانها لواحدة من المشكلات التي يتوقف عليها مصير الإنسانية ان نعرف هل يمكن أن يتحقق هذا التوازن بواسطة شكل معين من الحضارة، أم أن هذا النزاع، على العكس، لا حل له.

بمطالبتنا قبل قليل الحس المشترك بأن يهدينا إلى سمات الحياة الإنسانية التي تستأهل اسم الحضارة، انتهينا إلى تكوين صورة واضحة وإجمالية للحضارة، لكننا لم نعلم تقريبا شيئا لا يعرفه القاصي والداني. وبالمقابل، احترزنا من الوقوع في حبائل الرأي المسبق الذي يقول أن الثقافة تعادل التقدم وترسم للإنسان طريق الكمال. ولكن هنا يفرض علينا نفسه تصور قمين بتوجيه اهتمامنا في وجهة مغايرة. فتطور الحضارة يبدو لنا أشبه ما يكون بسيرورة من نوع خاص تجري "فوق" الإنسانية، ولكنها سيرورة يوحي إلينا العديد من خصائصها بأنها من الأشياء المألوفة عندنا. ويمكننا تمييز هذه السيرورة من خلال التعديلات التي تدخلها على العناصر الأساسية المعروفة عميق المعرفة والمسماة بغرائز البشر، تلك الغرائز التي تمثل تلبيتها المهمة الاقتصادية الكبرى لحياتنا.

ان عددا معينا من هذه الغرائز سيجري استهلاكه واستنفاذه على نحو ينبجس مكانه شيء سنسميه لدى الفرد بخاصية أو سمة طبعيّة. وأسطع الأمثلة على هذه الأوالية تقدمه لنا ايروسية الطفل الشرجية. فالاهتمام البدئي الذي يعلقه على وظيفة التغوط، وعلى أجهزتها ونتاجها، يتحول أثناء النمو إلى مجموعة من الصفات المعروفة تماما لدينا: الشح والتقتير، حسن النظام، وحب النظافة. ولئن تكن هذه الصفات ذات قيمة كبيرة في حد ذاتها وتستأهل كل تقدير وترحيب، فان كفّتها قد ترجح على ما عداها إلى حد الشذوذ إذا ما تضخمت وشحذت حدتها، وعندئذ يتولد عنها ما نسميه بـ "الطبع الشرجي". نحن لا نعلم كيف يحدث ذلك، لكن لا يخامرنا ظل من شك بصدد صحة هذا التصور[29]. والحال اننا رأينا ان النظام والنظافة يدخلان في عداد مطالب الحضارة الأساسية، بالرغم من ان ضرورتهما الحيوية لا تتجلى فورا لكل ذي عينين، بل قد يكتنفها قدر من الإبهام يعادل ما يكتنف قابليتهما لان يكونا مصدرا للذة. وفَور الانتهاء من توضيح هذه النقطة، لا مفر من ان يلفت انتباهنا التشابه القائم بين سيرورة التحضر وتطور الليبيدو لدى الفرد. وثمة دوافع غريزية أخرى قادرة على ان تغير، إذا ما بدلت وجهتها، الشروط اللازمة لتلبيتها، وعلى أن تعين لها طرقا أخرى، وهذا ما يتطابق في معظم الحالات مع أوالية معروفة جيدا لدينا: التصعيد (لهدف الدوافع الغريزية)، ولكنه يفترق عنها في حالات أخرى. ويشكّل تصعيد الغرائز واحدة من أبرز سمات التطور الثقافي، فهو الذي يسمح للنشاطات النفسية الرفيعة، العلمية أو الفنية أو الأيديولوجية، بأن تلعب دورا بالغ الأهمية في حياة الكائنات المتحضرة. وقد نميل، للوهلة الأولى، إلى أن نرى فيه بصورة أساسية المصير الذي تفرضه الحضارة على الغرائز. لكن خيرا نفعل لو أمعنا النظر في الأمر مليا. ومن المتعذر ثالثا وأخيرا، وهذه النقطة تبدو أهم النقاط كافة، الا نفطن إلى أي مدة يقوم بناء الحضارة على مبدأ العزوف عن الدوافع الغريزية، والى أي مدى يقتضي هذا البناء الحضاري عدم إشباع (قمع، أو كبت، أو أي أوالية مماثلة أخرى) الجامح من الغرائز. وهذا "العزوف الحضاري" يتحكم في الشبكة الواسعة للعلاقات الاجتماعية بين الناس، ولقد سبق أن عرفنا أنه فيه على وجه التحديد تكمن علة العداء الذي يتوجب على الحضارات كافة أن تكافحه وتقاومه. وسوف يفرض هذا العزوف على مبحثنا العلمي أعباء ثقيلة، وسوف يتوجب علينا أن نسلط الضوء على العديد من النقاط. وليس من اليسير أن نفهم كيف يمكن للمرء ان يتدبر أمره كي يأبى إشباع غريزة من الغرائز. والأمر لا يخلو من خطر، فإذا لم يكافأ هذا الرفض على نحو اقتصادي، كان لنا أن نتوقع حدوث اختلالات خطيرة.

لكن إذا كنا نحرص على معرفة ما القيمة التي يمكن أن يدعيها لنفسه تصورنا عن تطور الحضارة، بوصف هذا التطور سيرورة خاصة مشابهة للنضوج السوي لدى الفرد، فلا مفر لنا بالبداهة من التصدي لمشكلة أخرى ومن التساؤل بادئ ذي بدء عن المؤثرات التي يدين لها هذا التطور بمنشئه، وعن الكيفية التي رأى بها النور، وعما حدد مجراه ومساره.


- 4 -
انها والحق، لمهمة شاقة، ولنقر بأن الشجاعة حيالها تخوننا. سأكتفي إذن بأن اعرض هنا النزر اليسير الذي أمكنني أن استشفه.

حين اكتشف الإنسان البدائي أن أمر تحسين مصيره الأرضي قد أمسى، بفضل العمل، بين يديه، بالمعنى الحقيقي لا المجازي، ما عاد في مستطاعه أن يبقى على موقف اللامبالاة وعدم الاكتراث تجاه مبادرة هذا أو ذاك من أقرانه إلى العمل معه أو ضده. فقد تلبس هذا القرين في نظره قيمه المعاون، وصار من المفيد له ان يعيش معه. وكان الكائن الإنساني قد اخذ بعادة تأسيس الأسر منذ عهد ما قبل التاريخ يوم كان ما يزال قريبا من القرد، وأرجح الظن ان أعضاء آسرته كانوا مساعديه الأوائل. ويمكننا الافتراض بأن تأسيس الأسرة تواقت مع ارتقاء معين لحاجة الإشباع التناسلي، على أساس ان هذه الحاجة لم تعد تظهر إلى حيز الوجود على طريقة الضيف الذي يطرق بابك على حين غرة ثم تنقطع أخباره عنك ردحا طويلا من الزمن بعد رحيله، وإنما على طريقة المستأجر الذي يقيم في المنزل فلا يبرحه. وبذلك تواجد لدى الذكر الدافع ليحتفظ بالأنثى لديه، أو بصورة أعم بالمواضيع الجنسية، ولم تجد الإناث بدورهن مناصا من البقاء لدى الذكر الأقوى حرصا منهن على عدم الافتراق عن صغارهن، وقد كان بقاؤهن في صالح هذه المخلوقات الصغيرة التي لا حول لها ولا قوة[30]. وفي إطار تلك الأسرة البدائية نظل نفتقر إلى سمة أساسية من سمات الحضارة، إذ أن عسف الزعيم والأب كان غير محدود. وقد حاولت أن أشير في الطواطم والتابو إلى الطريق الذي قاد من تلك المرحلة الأسرية البدائية إلى المرحلة التالية، أي المرحلة التي تحالف فيها الاخوة فيما بينهم. وبانتصار هؤلاء على الأب، عرفوا بالتجربة ان الاتحاد يمكن ان يكون أقوى من الفرد المفرد. وتقوم الحضارة الطوطمية[31] على القيود التي ما وجدوا مناصا من فرضها على أنفسهم للحفاظ على ذلك الوضع المستجد. وقد شكلت قواعد التابو[32] أول شرعة "قانونية". كانت حياة الناس المشتركة تقوم إذن على الأساس التالي: أولا إلزام العمل، وهو إلزام أوجدته الضرورة الخارجية، وثانيا قوة الحب، على اعتبار ان هذا الأخير يستوجب الا يحرم الرجل من المرأة، موضوعه الجنسي، والا تحرم المرأة من ذلك الجزء المنفصل عن جسمها والذي هو طفلها. هكذا غدا ايروس وانانكيه[33] والدي الحضارة الإنسانية التي كانت مأثرتها الأولى إتاحة الإمكانية لعدد كبير من الكائنات البشرية ان يبقوا ويعيشوا في ظل حياة مشتركة. وبما ان قوتين لا يستهان بهما قد تضافرتا في هذا المجال ووحدتا جهودهما، فقد كان من المأمول أن يتم التطور اللاحق بلا صعوبة وأن يفضي إلى سيطرة أشمل فأشمل على العالم الخارجي، وكذلك إلى زيادة مطردة في عدد الأعضاء الذين تضمهم الجماعة الإنسانية تحت جناحها. وليس من السهل ان نفهم أيضا كيف كان يمكن لهذه الحضارة عينها ألا تعمل على إسعاد أبنائها.

قبل أن نتفحص من أين يمكن ان يجيء الشر، وحتى نسد ثغرة تركناها بلا ردم في مقطع سابق، لنرجع أدراجنا إلى مفهوم الحب الذي سلمنا بأنه كان واحدا من أسس الحضارة. لقد نوهنا آنفا بتلك الواقعة. الاختبارية المتمثلة في أن الحب الجنسي (التناسلي) يوفر للكائن الإنساني أقوى ملذات وجوده ويؤلف بالنسبة إليه النموذج الأول لكل سعادة، ولقد قلنا أيضا انه ما كان على البشرية الا أن تخطو خطوة واحدة أخرى إلى الأمام بعد ذلك حتى تنشد سعادة الحياة في ميدان العلاقات الجنسية وحتى تجعل الايروسية التناسلية في نقطة المركز من تلك الحياة. ثم أضفنا قولنا ان الإنسان بسلوكه هذا الطريق قد حكم على نفسه، بصورة تبعث على أشد القلق، بالتبعية لقسم من العالم الخارجي، نعني الموضوع المحبوب، وبات عرضة لألم حاد في حال إعراض هذا الأخير عنه أو فقدانه إذا لم يكن وفيا له أو إذا فارق الحياة. ولهذا حذر الحكماء في جميع الأزمان بإلحاح ما بعده إلحاح من سلوك ذلك الطريق (لكن بالرغم من جهودهم كافة، لم يفقد هذا الطريق إغراءه بالنسبة إلى عدد كبير من أبناء البشر).

لقد قُيّض لأقلية منهم، بفضل جبلتهم، ان يصلوا رغما عن كل شيء إلى تلك السعادة عن طريق الحب، لكن لا بد لذلك من إدخال تعديلات واسعة ذات صفة نفسية على وظيفة الحب. فأولئك الأشخاص يحررون أنفسهم من موافقة الموضوع ورضاه عن طريق عملية نقل للقيمة، أي بصبهم على حبهم بالذات الأهمية التي كانوا يعلقونها في البدء على ان يكونوا من المحبوبين، وهم يحمون أنفسهم من فقدان الشخص المحبوب باتخاذهم مواضيع لحبهم لا كائنات محددة وإنما جميع الكائنات الإنسانية سواسية، ويتجنبون أخيرا التقلبات والخيبات المرتبطة بالحب التناسلي بإشاحتهم عن هدفه الجنسي وبتحويلهم الدوافع الجنسية الغريزية إلى عاطفة ذات "هدف مكفوف". والحياة الداخلية التي يختلقونها لأنفسهم عن هذا السبيل، أعني تلك الكيفية الرقيقة، المتعادلة، الهادئة في الإحساس، المنيعة أيضا على كل تأثير، لا يعود بينها وبين الحياة الحبّية التناسلية وانفعالاتها وعواطفها من شبه خارجي كثير، بالرغم من انها تنبع منها أساسا. ولعل القديس فرنسيس الأسيزي[34] هو من توغل أبعد ما يكون التوغل في ذلك الطريق المفضي إلى استخدام الحب استخداما كاملا لأغراض حس السعادة الداخلية. ولئن تعرفنا في هذه الطريقة واحدة من التقنيات الرامية إلى تحقيق مبدأ اللذة، فقد ربطها غيرنا بالدين وأرجعها إليه في غالب الأحيان، ذلك ان مبدأ اللذة والدين يمكن أن يتلاقيا في تلك المناطق النائية التي لا يبالي فيها المرء بتمييز أناه من المواضيع، وبتمييز المواضيع بعضها من بعض. وثمة تصور أخلاقي، سنتبين عما قليل دوافعه الدفينة، يريد ان يرى في ذلك النزوع إلى الحب الكوني للإنسانية وللعالم أمسى موقف يمكن للكائن البشري ان يقفه. وهنا تبارحنا كل رغبة في الاستمرار بالاحتفاظ في سرنا بتحفظين رئيسيين اثنين: أولا، ان الحب الذي لا يختار يفقد في نظرنا بعضا من قيمته الذاتية إذ يدلل على ظلم وإجحاف بحق موضوعه، ثانيا، ليست الكائنات البشرية جديرة جميعها بأن تكون محبوبة.


--
إن هذا الحب الذي أسس الأسرة ما يزال يمارس تأثيره وسلطانه في داخل الحضارة سواء أفي شكله البدائي من حيث انه لا يعزف عن الإشباع الجنسي المباشر، أم في شكله المعدَّل من حيث انه محبة مكفوفة الهدف. ويمضي الحب في هذين الشكلين، في أداء وظيفته في الجمع بين أعداد أكبر فأكبر من الكائنات البشرية وفي التوحيد بينها بقوة لا تفلح في الوصول إلى مثلها مصلحة جماعة يقوم كيانها على العمل. وعدم دقة في استعمال كلمة "الحب" له ما يبرره من وجهة نظر علم الوراثة. فاسم الحب يطلق على العلاقة بين الرجل والمرأة اللذين أسسا أسرة بداعي حاجاتهما الجنسية، ولكنه يطلق أيضا على العواطف الإيجابية التي تقوم ضمن نطاق الأسرة بين الأهل والأولاد، بين الاخوة والأخوات، مع أنه كان يفترض فينا أن نصف العلاقات الأخيرة هذه بأنها حب مكفوف من حيث الهدف، أي محبة. لكن هذا الحب المكفوف كان في الأصل بالغ الشهوانية، وقد لبث كذلك في لاشعور البشر. وسواء أكان الحب كلي الشهوانية أو مكفوفا، فانه سيتخطى نطاق الأسرة ليستولي، في شكليه الاثنين، على مواضيع كانت ما تزال إلى حينه مجهولة وغريبة، وليقيم معها علاقات جديدة: فهو يفضي في شكله التناسلي إلى تشكيل أسَر جديدة، وفي شكله المكفوف من حيث الهدف إلى "صداقات" لها أهميتها البالغة بالنسبة إلى الحضارة لأنها تتملص من العديد من القيود المفروضة على الأول، وعلى سبيل المثال حصريته. ولكن مع المزيد من التقدم والارتقاء لا تعود العلاقة بين الحب والحضارة ملتبسة: فالحب يحارب من جهة أُولى مصالح الحضارة، وهذه بدورها تتهدده، من جهة ثانية، بتقييدات مؤلمة.

يبدو هذا العداء المتبادل وكأنه محتوم لا مناص منه، لكن ليس من اليسير ان ندرك دفعة واحدة سببه الدفين. انه يتجلى، أول ما يتجلى، في شكل نزاع بين الأسرة وبين الجماعة الأرحب نطاقا التي ينتمي إليها الفرد. وقد سبق ان لاحظنا ان واحدا من جهود الحضارة الرئيسية ينصّب على تجميع الناس في وحدات كبيرة. لكن الأسرة لا تريد ان تتخلى عن الفرد.

فأعضاؤها يزدادون ميلا واستعدادا للانعزال بأنفسهم عن المجتمع، ويواجهون صعوبة اكبر في الدلوف إلى دائرة الحياة الكبيرة، كلما توثقت الوشائج التي توحد بينهم. وان أقدم طراز للحياة المشتركة من وجهة نظر تطور النوع، وهو الطراز الوحيد الذي يسود أيضا أثناء طفولة الفرد، يتصدى بالمقاومة للطراز المتمدن الذي تم التوصل إليه في زمن متأخر والذي يسعى إلى الحلول محله. وهكذا يغدو الافتراق عن الأسرة بالنسبة إلى كل مراهق مهمة، مهمة يساعده المجتمع في كثير من الأحيان على أدائها عن طريق طقوس البلوغ وإطلاع المراهق على "الأسرار". ويساورنا هنا انطباع بان هذه الصعوبات ملاذ لكل تطور نفسي، وفي الواقع، لكل تطور عضوي أيضا.

أضف إلى ذلك ان النساء لا يتأخرن عن معاكسة تيار التحضر والتمدن، وهن يمارسن تأثيرا ينزع إلى إبطائه وإعاقته. وهذا مع ان أولئك النسوة هن أنفسهن اللواتي أرسين في البدء أساس الحضارة بفضل مطالب حبهن. ولسوف يأخذن بنصرة مصالح الأسرة والحياة الجنسية، بينما سيفرض العمل التمديني، الذي سيمسي اكثر فأكثر من اختصاص الرجال، على هؤلاء الأخيرين مهام متعاظمة الصعوبة وسيرغمهم على تصعيد غرائزهم وهو التصعيد الذي لا تملك النساء أهلية كبيره له. ولما كان الكائن الإنساني لا يتمتع بكمية غير محدودة من الطاقة النفسية، فانه لا يستطيع إنجاز مهامه الا من خلال توزيع مناسب لطاقته الليبيدية. والنصيب الذي يخص به أهدافا ثقافية من تلك الطاقة إنما يقتطعه بوجه خاص من النساء ومن الحياة الجنسية، واحتكاكه الدائب بغيره من الرجال وتبعيته الناجمة عن علاقاته بهم يدفعان به إلى التقاعس عن واجباته كزوج وأب. وحين ترى المرأة نفسها وقد أقصتها متطلبات الحضارة إلى المرتبة الثانية، تقف من هذه الحضارة موقفا عدائيا.

بديهي ان الحضارة من جهتها لا تنزع إلى توسيع الدائرة الثقافية فحسب، بل تسعى أيضا، وبالقدر نفسه، إلى تضييق الحياة الجنسية. فمنذ طورها الأول، طور الطوطمية، تنطوي سننها على تحظير اختيار الموضوع من بين المحارم، وهو تحظير يعادل في أرجح الظن أعنف بتر وأجمى تشويه فرض على مر الزمن على حياة الحب لدى الكائن الإنساني. وبقوة المحرمات والشرائع والأعراف، تفرض قيود جديدة على الرجال والنساء على حد سواء. لكن الحضارات لا تقطع جميعها هذا الشوط الطويل على هذا الطريق، فبنية المجتمع الاقتصادية تمارس بدورها تأثيرها على المقدار الذي يمكن ان يبقى قائما من الحرية الجنسية. ونحن نعلم جيدا ان الحضارة تنصاع بصدد هذه النقطة للضرورات الاقتصادية، لأنها مكرهة على أن تقتطع من الحياة الجنسية مقدارا غير قليل من الطاقة النفسية كي تستخدمه لأغراضها. وهي تتبنى هنا سلوكا مماثلا لسلوك قبيلة أو طبقة من السكان تستغل وتنهب قبيلة أو طبقة أخرى منهم بعد ان تكون قد أخضعتها لسيطرتها. فالخوف من تمرد المضطهَدين يحض على تدابير وقائية اشد صرامة. وقد بلغت حضارتنا الأوروبية الغربية، كما تبين لنا، نقطة أوج في هذا المسار. ولكن لئن بدأت بتحظير صارم لأي تظاهرة للجنسية الطفلية، فان هذا الفعل الأول له كامل تبريره من وجهة نظر علم النفس، لان حجز رغبات الراشد الجنسية المضطرمة لا حظّ له في النجاح ما لم يمهد له منذ الطفولة بعمل تحضيري. أما ما ليس له من مبرر البتة فهو مغالاة المجتمع المتحضر في هذا السبيل إلى حد نفي هذه الظاهرات الجلية السافرة التي ليس أسهل من إثبات وجودها. فاختيار الموضوع من قبل فرد بالغ جنسيا سَيُحْصَر بالجنس الآخر، وسيجري تحظير معظم الإشاعات الخارجة عن النطاق التناسلي بوصفها انحرافات.

وضروب الحظر المتنوعة هذه تعبر عن مطلب حياة جنسية متماثلة للجميع، وهذا المطلب، بتعاليه على التفاوتات التي يشتمل عليها التكوين الجنسي الفطري أو المكتسب للكائنات الإنسانية، يحرم عددا لا يستهان به منها من اللذة الايروسية. ويغدو بالتالي مصدرا لظلم فادح. وقد يتمثل نجاح هذه التدابير الرادعة عندئذ في الواقعة التالية: فالاهتمام الجنسي يندفع برمته، على الأقل لدى الأفراد الأسوياء الذين لا يتعارض تكوينهم مع هذا النوع من رد الفعل، في "اقنية" تركت مفتوحة، وهذا من دون أن يتعرض ذلك الاهتمام لأي هدر أو نقصان.

لكن الشيء الوحيد الذي يبقى حرا وفالتا من ذلك الحظر، أي الحب الجنسي والتناسلي الغيري، يقع بدوره أسير تقييدات جديدة تفرضها الشرعية وأحادية الزواج. فالحضارة المعاصرة لا تتردد في المجاهرة باعترافها بالعلاقات الجنسية شرط ان يكون أساسها القِران الذي لا فصام له، والذي يعُقد مرة واحدة ونهائية، بين الرجل والمرأة، كما لا تتردد في إعلان عدم قبولها بالجنسية بوصفها مصدرا مستقلا بذاته للذة، وفي إعلان عدم استعدادها للتسليم بها الا بصفتها عامل تكاثر ما أمكن لأي شيء آخر أن ينوب منابه حتى يومنا هذا.

طبيعي أن ذلك هو الشطط بعينه. وكل إنسان يعلم ان هذه الخطة قد ثبت عدم صلاحها للتطبيق، ولو لأجل قصير. والحق ان الضعفاء هم وحدهم الذين أمكن لهم أن يتكيفوا مع مثل تلك القيود الواسعة على حريتهم الجنسية. أما أصحاب القوة والعزيمة فلم يقبلوا بها الا مقابل منحهم تعويضا سيأتي دور الكلام عنه لاحقا. وقد اضطر المجتمع المتحضر إلى التغاضي عن مخالفات عديدة كان يفترض فيه ان يلاحقها لو انه كان متمسكا فعلا بسننه، وفيا لشرائعه. ولنحاذر، من جهة أخرى، من الوقوع في الخطأ المعاكس بتسليمنا بأن مثل هذا الموقف الذي تقفه حضارة من الحضارات لا ينتج عنه أي أذى أو ضرر ما دام لا يحقق مراميها جميعا. فالحياة الجنسية للكائن المتحضر تعاني، بالرغم من كل شيء، من غبن خطير وخلل فادح، وهي توحي إلينا أحيانا بأنها وظيفة آيلة إلى ضمور، مثلها في ذلك مثل أسناننا وشَعْرنا بوصفها أعضاء. وانه ليحق لنا، ولو بوجه الاحتمال، أن نفترض أن أهميتها قد تناقصت بصورة ملموسة بصفتها مصدرا للسعادة، وبالتالي بصفتها تحقيقا لهدفنا الحياتي[35]. ويخيل إلينا أحيانا اننا نستشف ان الضغط التمديني ليس العلة الوحيدة لذلك، وأن الوظيفة الجنسية، بحكم طبيعتها بالذات، تضن بمنحنا إشباعا كاملا وترغمنا على طرق دروب أخرى. أترانا نحيد عن جادة الصواب هنا؟ ليس من السهل ان نقطع برأي.

...

- 5 -
علمتنا مزاولة التحليل النفسي ان ضروب الحرمان الجنسي الملمح إليها لا يتحملها بوجه خاص الناس المدعوون بالمرضى العصابيين. فهؤلاء يستمدون من أعراضهم المرضية تلبيات وإشباعات بديلة تسبب لهم بذاتها الألم أو تصبح مصدرا للوجع بخلقها لهم صعوبات مع الوسط أو مع المجتمع. وهذه الحالة الأخيرة يسهل فهمها، بينما تطرح علينا الحالة الأولى لغزا جديدا. والحال ان الحضارة تقتضي، فضلا عن التضحيات الجنسية، تضحيات من طبيعة أخرى.

اننا نكون قد تصورنا التطور الشاق والمضني للحضارة على انه إشكال ارتقائي ذو طابع عام حين نرجعه، على نحو ما فعلنا، إلى تظاهرة لعطالة الليبيدو والى نفور هذا الأخير من العزوف عن وضع قديم للأخذ بآخر جديد. ونحن نبقى تقريبا عند النقطة ذاتها حين نستنبط التعارض بين الحضارة والجنسية من كون الحب الجنسي علاقة بين اثنين لا مجال فيها لشخص ثالث الا ان يكون متطفلا أو يلعب دور معكّر الصفو. بينما تقتضي الحضارة بالضرورة علاقات بين عدد كبير من الكائنات. ففي الحب يتلاشى كل اهتمام بالعالم المحيط، والمتحابان يكتفيان واحدهما بالآخر. ولا يحتاجان حتى إلى ولد مشترك كي يكونا سعيدين. وليس كالحب حالة يميط فيها إيروس اللثام عن ماهية طبيعته، وعن تطلعه إلى أن يجعل عن الكثرة كائنا واحدا، ولكنه حين يفلح في ذلك بإشعاله ضرام الحب بين كائنين اثنين، يكتفي بما فعل ويقنع به، كما يؤكد لنا المثل السائد.

يمكننا بسهولة إلى هنا أن نتخيل جماعة متحضرة تتألف من أشباه تلك "الكائنات المزدوجة" التي إذا انطفأ في ذاتها ظمأ طاقتها الليبيدية تتحد فيما بينها برباط العمل والمصالح المشتركة. وعلى أساس افتراض كهذا لا تعود الحضارة بحاجة إلى ان تقتطع من الجنسية مقدارا ما من الطاقة. لكن مثل هذه الحالة المرجوة لا وجود لها ولم توجد قط، بل يبين لنا الواقع ان الحضارة لا تكتفي البتة بتلك الطرز من الاتحاد التي عزوناها إليها حتى الآن. بل تريد، فضلا عن ذلك، ان توحد أعضاء المجتمع فيما بينهم برابطة ليبيدية، وانها تجهد بجميع الوسائل، بغية تحقيق هذا الهدف، كيما تقيم بينهم تماهيات[36] قوية، وكيما تمهّد أمامهم جميع الدروب القمينة بأن تقودهم إلى ذلك، وانها تعبّئ أخيرا اكبر مقدار ممكن من الليبيدو المكفوف من حيث الهدف الجنسي حتى تشد أزر الرابطة الاجتماعية بعلاقات صداقة. ولوضع هذه المقاصد موضع التنفيذ، لا مناص من تقييد الحياة الجنسية، لكننا لا نتبين البتة ما الضرورة التي تجر الحضارة إلى هذا الطريق والتي تبرر معارضتها للجنسية. وعلى هذا، لا بد انه يوجد هنا عامل تشويش لم يمكن لنا بعد أن نكتشفه.


جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:16 PM

تابع فرويد

والحال انه في عداد المطالب المثالية للمجتمع المتحضر مطلب قمين هنا بأن يهدينا إلى سواء السبيل. هذا المطلب يقول لنا: "أحبب قريبك كنفسك". وهذه الكلمة الجامعة، المشهورة في العالم قاطبة، اقدم عهدا بكل تأكيد من المسيحية التي وضعت اليد عليها كما لو أنها المرسوم الذي يحق لها ان تفاخر غاية المفاخرة بصدوره عنها. لكنها بالتأكيد ليست سحيقة في القدم. فقد كانت ما تزال مجهولة من البشر حتى في عهود ما بعد التاريخ.

لكن لنقف منها موقفا ساذجا كما لو اننا نسمع بها للمرة الأولى، وفي هذه الحال لا نستطيع ان ندفع عن أنفسنا شعورا بالمباغتة إزاء غرابتها. فلماذا نعتبر ما ورد فيها واجبا علينا؟ وأي عون تمدّنا به؟ ثم كيف السبيل، على الأخص، إلى العمل بها وتطبيقها؟ وهل سيكون ذلك في مستطاعنا؟ ان حبي لهو في نظري شيء ثمين ثمين بحيث لا أملك الحق في هدره والتفريط به دونما وعي وهو يفرض علي واجبات يفترض فّي أن أكون قادرا على الوفاء بها ولو مقابل تضحيات. وإذا أحببت كائنا آخر، فلا بد ان يكون مستأهلا لذلك بصفة من الصفات (أستبعد هنا علاقتين لا تدخلان في حساب حب القريب: الأولى أساسها الخدمات التي يمكن ان يؤديها لي، والثانية أساسها أهميته الممكنة كموضوع جنسي). انه يستأهل حبي حين يشبهني في وجوه مهمة شبها عظيما يمكن معه ان احب فيه نفسي أنا. إنه يستأهله إذا كان اكمل مني إلى حد يتيح لي إمكانية ان احب فيه مَثَلي الأعلى بالذات. وعلي ان احبه إذا كان ابن صديقي، لان ألم صديقي، إذا وقع مكروه لابنه، سيكون أيضا ألمي، ولن يكون أمامي مناص من أن أشاطره إياه. ولكن إذا كان بالمقابل مجهولا مني، وإذا لم يجتذبني بأي صفة شخصية، ولم يلعب بعد أي دور في حياتي العاطفية، فانه من العسير جدا علي ان أشعر تجاهه بعاطفة حب. ولو فعلت لاقترفت ظلما، لأن أهلي وأصحابي جميعا يقدّرون حبي لهم على انه إيثار وتفضيل، وسأكون مجحفا بحقهم لو خصصت غريبا بالمحاباة نفسها. وإذا كان لا بد، والحالة هذه، ان أشركه في مشاعر الحب التي تخالجني كما يقتضي العقل إزاء الكون قاطبة، وهذا فقط لأنه يحيا على هذه الأرض مثله مثل الحشرة أو دودة الأرض أو الحفت[37]، فانني أخشى ألا يشع من قلبي باتجاهه سوى قدر ضئيل للغاية من الحب، كما أخشى بكل تأكيد الا يكون في مقدوري ان أغدق عليه من الحب بقدر ما يأذن لي العقل ان احتبسه من اجل نفسي. ولكن ما الفائدة من هذه الفذلكة المفخمة بصدد وصية لا يبيح لنا العقل ان ننصح أحدا بإتباعها؟ حين أمعن النظر في المسألة عن قرب اقرب، ألمح المزيد من الصعاب والإشكاليات أيضا. فذلك الغريب ليس غير جدير بالحب بوجه عام فحسب، بل ينبغي أيضا أن اقر، توخيا للصدق، بأنه يستأهل في غالب الأحايين عدائي، بل كراهيتي. فهو لا يبدو انه يكنّ لي أي عطف، ولا يدلل نحوي على أي مراعاة. وإذا ما وجد في الأمر نفعا له، فلن يتردد في إنزال الأذى بي، بل هو لا يتساءل ان كانت أهمية الكسب الذي يجبيه تتناسب مع عظم المضرة التي ينزلها بي. والأدهى من ذلك والأمّر انه حتى إذا لم يَجْنِ ربحا، وإنما فقط مجرد لذة ومتعة، فلن يتردد البتة في الهزء مني وإهانتي والافتراء علي، ولو تباهيا منه فقط بالسلطان الذي له علي. وفي وسعي أن أتوقع حتمية هذا السلوك حيالي بقدر ما يشعر بمزيد من الثقة بنفسه وبقدر ما يعتبرني أضعف منه ولا حول لي ولا قوة. أما إذا سلك غير هذا السلوك، وأما إذا قابلني، حتى من دون أن يعرفني، بالاحترام والمراعاة، فانني لعلى أتم استعداد عندئذ لمقابلته بالمثل، دونما حاجة إلى توسط وصية أخلاقية. ومن المؤكد ان تلك الوصية السامية لو صيغت على النحو التالي: "أحبب قريبك كما يحبك هو نفسه"، لما كان لي عليها من اعتراض. ولكن ثمة وصية ثانية تبدو لي أشطّ من الأولى فأياً عن المعقول وتضرم فيّ نار تمرد أعنف وأقوى. وصية تقول لنا: "أحبب عدوك". ولكني أجدني، عند إمعان التفكير، مخطئا إذ أطعن فيها باعتبارها تنطوي على دعوى أشد بطلانا من تلك التي تنطوي عليها الوصية الأولى. وفي الواقع، كلتاهما سيان[38].

هنا يرتفع، على ما يخيل إلي، صوت سامٍ ليصدع أذني بالتذكرة: "على وجه التحديد لأن قريبك غير جدير بالحب، ولأنه بالأحرى عدو لك، يتوجب عليك أن تحبه كما تحب نفسك".

وليس عسيرا علي أن أدرك أن المسألة، هنا، ضرب من Credo quia absurdum [39].

والآن إذا طُلب إلى قريبي أن يحبني كنفسه، فمن المرجح أن يجيب كما أجبت وأن ينكرني للأسباب ذاتها. هل سيكون في ذلك محقا مثلي، وهل ستكون دوافعه موضوعية نظير دوافعي؟ آمل أن لا، ولكنه حتى في هذا الحال سيحاكم الأمور كما حاكمتها. وهذا معناه ان سلوك الناس ينطوي على فوارق يرجعها علم الأخلاق، من دون أن يقيم اعتباراً للشروط التي ترتهن بها أو بتعاليه عليها، إلى فئتين اثنتين: فئة "الخير" وفئة "الشر". وهاتان المقولتان لا رادّ لهما، ولكن ما لم تلغيا كلتاهما فان الامتثال للقوانين الخلقية العليا سيعني في ما يعني إنزال الضرر بالحضارة. إن في هذا الامتثال تشجيعا مباشرا على الخبث وسوء النية. ولا قبل لنا هنا بمقاومة إغراء التذكير بحادث وقع في المجلس النيابي الفرنسي أثناء مداولة بصدد عقوبة الإعدام. فقد أثار واحد من أنصار إلغائها بخطاب ملتهب له عاصفة من التصفيق قطعها صوت تعالى من آخر القاعة بالقول: Que Messieurs les Assassins commencent![40].

ان قسط الحقيقة الذي يحتجب وراء ذلك كله والذي يحلو للناس ان ينفوه يتلخص على النحو التالي: ليس الإنسان بذلك الكائن الطيب السمح، ذا القلب الظمآن إلى الحب، الذي يزعم الزاعمون انه لا يدافع عن نفسه إلى متى هوجِمَ. وإنما هو على العكس كائن تنطوي معطياته الغريزية على قدر لا يستهان به من العدوانية. وعليه، ليس القريب بالنسبة إليه مجرد مساعد وموضوع جنسي ممكنين، وإنما أيضا موضوع إغراء وإغواء.

وبالفعل، ان الإنسان نزّاع إلى تلبية حاجته العدوانية على حساب قريبه، والى استغلال عمله بلا تعويض، والى استعماله جنسيا بدون مشيئته، والى وضع اليد على أملاكه وإذلاله، والى إنزال الآلام به واضطهاده وقتله. الإنسان ذئب للإنسان[41] : من يجرؤ، إزاء جميع تعاليم الحياة والتاريخ، ان يكذّب هذا المثل السائر؟ وكقاعدة عامة، إما أن تُظهِر هذه العدوانية الغاشمة استفزازا أو تضع نفسها في خدمة مأرب كان يمكن أيضا الوصول إلى هدفه بوسائل انعم وأكثر تهذيبا. وبالمقابل تظهر العدوانية في بعض الظروف الموائمة، وعلى سبيل المثال حين تُشَلّ عن التأثير طاقة القوى الأخلاقية التي كانت تعارض تظاهرات العدوانية وتكفها وتقمعها، تظهر إلى حيز الوجود بصورة عفوية وتميط عن الإنسان لثام الوحش المفترس الذي لا يقيم من اعتبار البتة لجنسه. ومن يستحضر منا في ذاكرته فظائع هجرات الشعوب الكبرى أو غزوات قبائل الهون، الفظائع التي اقترفها المغول المشاهير بقيادة جنكيز خان أو تيمورلنك، أو تلك التي نجمت عن استيلاء الصليبيين الأتقياء على القدس، ومن دون ان ننسى في نهاية المطاف فظائع الحرب العالمية الأخيرة[42]. فلا مناص له من ان يقبل بتصورنا وان يعترف بصحة أسسه.

ان هذا النزوع إلى العدوان، الذي يسعنا ان نزيح النقاب عنه في أنفسنا والذي نفترض بحق وجوده لدى الآخرين، يشكّل العامل الرئيسي للخلل في علاقاتنا بقريبنا، وهو الذي يفرض على الحضارة عبء جهود كثيرة. وبفعل هذه العدوانية الابتدائية التي تؤلّب بني الإنسان بعضهم على بعضهم الآخر، يجد المجتمع المتحضر نفسه مهددا باستمرار بالانهيار والدمار. ولا يكفي للمحافظة عليه الاهتمام بالعمل التضامني: فالأهواء الغريزية أقوى من الاهتمامات العقلية. وعلى الحضارة ان تجنّد كل ما في متناولها كي تحد من العدوانية البشرية وكي تقلص تظاهراتها عن طريق استجابات نفسية ذات طابع خلقي. ومن هنا، كان ذلك الاستنفار لطرائق ومناهج تحض بني الإنسان على تماهيات وعلاقات حب مكفوفة من حيث الهدف. ومن هنا أيضا كان ذلك التقييد للحياة الجنسية. ومن هنا أخيرا كان ذلك المثل الأعلى المفروض على الإنسان بأن يحب قريبه كنفسه، ذلك المثل الأعلى الذي يجد تبريره الحقيقي في أن ما من شيء يعاكس، بقدر ما يفعل هو، الطبيعة الإنسانية البدائية. وجميع الجهود التي بذلتها الحضارة باسمه لم تجد حتى الآن فتيلا. وتحسب هذه الحضارة انه في مستطاعها ان تتلافى الشطط الفظّ للقوة الغاشمة باحتفاظها لنفسها بالحق في الاحتكام إلى هذه القوة عينها لمواجهة المجرمين، لكن القانون لا يستطيع ان يطال التظاهرات الأعظم حذرا وإرهافا وخفاء للعدوانية البشرية. ولا مفر من ان ينتهي الأمر بكل واحد منا ذات يوم إلى ان يرى ان الآمال التي علقها في صباه على أقرانه ما هي الا أوهام، وبصفتها أوهاما على وجه التحديد ينفض يديه منها. وفي وسع كل واحد منا أن يشعر بمدى ما يكابد في حياته من شقاء وعذاب بسبب سوء نية قريبه. لكن من الظلم ان نلوم الحضارة ونأخذ عليها رغبتها في استبعاد الصراع والمزاحمة من النشاط الإنساني. فلا شك في انهما لازمان، لكن التنافس ليس بالضرورة عدواً، ومن باب الإساءة إلى الأول أن نتخذه ذريعة لتبرير الثاني.

يعتقد الشيوعيون انهم اكتشفوا الطريق إلى الخلاص من الشر. فالإنسان في نظرهم كله طيب، ولا يريد سوى الخير لقريبه، لكن مؤسسة الملكية الخاصة أفسدت طبيعته. فامتلاك الأملاك يقلد القوة لفرد بعينه ويبذر فيه بذرة النزوع إلى إساءة معاملة قريبه. ومن ثم فان من حُرم من الملك لا بد ان يصبح معاديا للمالك وأن يثور عليه. ويوم تُلغى الملكية الخاصة وتؤول جميع الثروات إلى مشاع مشترك ويغدو في مستطاع كل امرئ ان يشارك في المباهج التي توفرها، ستزول العداوة ونية الإيذاء السائدتان بين البشر. ولما كانت الحاجات جميعا ستجري تلبيتها، فلن يعود للمرء من داع إلى ان يرى في الآخر عدوا، وسيمتثل الجميع بطوع إرادتهم وملء اختيارهم لضرورة العمل. وليس النقد الاقتصادي للنظام الشيوعي من شأني، ولا يسعني أن أنظر هل من المناسب وهل من المفيد إلغاء الملكية الخاصة[43]. اما فيما يتعلق بمسلمته السيكولوجية، فمن المباح لي على ما اعتقد ان أرى فيها وهما لا يقوم على أساس من واقع. صحيح ان إلغاء الملكية الخاصة يجرد العدوانية البشرية وما ينجم عنها من لذة من واحدة من أدواتها، بل من أداة قوية، ولكنه لا يجردها من أقوى أدواتها: وبالمقابل، لا يكون قد تغير شيء في فروق القوة والنفوذ التي تسيء العدوانية استغلالها، ولا في طبيعة هذه الأخيرة. فالعدوانية لم تخلقها الملكية بل كانت تسود بلا منازع وبلا حدود تقريبا في أزمنة بدائية كانت الملكية فيها غير ذات شأن، ولا تكاد غريزة الملكية تفقد لدى الأطفال شكلها الشرجي البدائي حتى تتجلى العداوة لديهم. وتشكّل العدوانية الرسابة التي تتثفّل في قاع جميع عواطف المحبة أو الحب التي تربط بين البشر، ما خلا، ربما، عاطفة واحدة: عاطفة الأم تجاه ابنها الذكر. فحتى لو ألغي والحالة هذه حق الفرد في تملك الخيرات المادية، فسيبقى الامتياز الجنسي الذي ينبع منه بالضرورة أعنف التحاسد وأشد التباغض بين كائنات تحتل مواقع مختلفة في سلم واحد. ثم حتى لو ألغي هذا الامتياز الأخير بإطلاق كامل الحرية للحياة الجنسية، وبالقضاء بالتالي على الأسرة، تلك الخلية المنبتة للحضارة، لما أمكن البتة التكهن بالدروب الجديدة التي سيكون في مقدور الحضارة اختيارها لتطورها. ولا بد، على كل حال، من التكهن بما يلي: أيا يكن الدرب الذي ستختاره، فان السمة التي لا تزول ولا تبيد للطبيعة البشرية ستجّد في إثرها فيه.

ظاهر للعيان انه ليس سهلا على بني الإنسان العزوف عن إشباع تلك العدوانية المميزة لهم. ولو فعلو لما فازوا بأي راحة أو هناء. ان تجمعا حضريا ضيق النطاق، وتلك هي ميزته، يفتح منفذا لذلك الدافع الغريزي إذ يسمح بمعاملة كل من يبقى خارجه معاملة الأعداء. وما هذه الميزة بهزيلة. وتظل هناك على الدوام إمكانية لتوحيد أعداد اكبر فأكبر من الناس بروابط الحب. ولكن بشرط ان يبقى غيرهم خارج عدادهم كي يتلقوا الضربات. وقد سبق لي الاهتمام بالظاهرة المتمثلة في أن المجتمعات المتجاورة، بل المتصاهرة، تتحزب فيما بينها وتتبادل الهزء والسخرية، وعلى سبيل المثال الأسبان والبرتغاليون، ألمان الشمال وألمان الجنوب، الإنكليز والاسكتلنديون... الخ. وقد أطلقت عليها اسم "نرجسية الفروق الصغيرة"، وهي تسمية لا تسهم كثيرا في توضيحها وجلاء أمرها. وفي وسعنا أن نلاحظ ان هذه الظاهرة تنطوي على تلبية مريحة وغير مؤذية نسبيا للغريزة العدوانية، تسهل على أعضاء المجتمع المعني انصهارهم وتلاحمهم. وقد أدى الشعب اليهودي، بحكم تشتته في كل مكان، خدمة جلى، من وجهة النظر هذه، لحضارة الشعوب التي آوته واستضافته، ولكن جميع مجازر اليهود في العصر الوسيط لم تكفّ، واأسفاه، لتجعل تلك الحقبة اكثر أمنا وسلاما بالنسبة إلى الأشقاء المسيحيين. وحين جعل الرسول بولس من حب الناس الكوني أساس جماعته المسيحية، كانت النتيجة المحتومة لذلك أشد التعصب وأكثره تطرفا من قبل المسيحية تجاه غير المهتدين إليها، علما بأن مثل هذا التعصب لم يكن معروفا لدى الرومان الذين لم تكن حياتهم العامة والسياسية قائمة بحال من إلى الأحوال على الحب، بالرغم من أن الدين كان بالنسبة إليهم شأنا من شؤون الدولة وبالرغم من ان دولتهم كانت على الدوام تحمل بصمة الدين العميقة. كذلك لم يكن من قبيل المصادفة التي لا يفهم لها سر أن يلجأ الحرمان إلى اللاسامية كي يحققوا على نحو أشمل وأكمل حلمهم في الهيمنة العالمية، وهانحن ذا نرى كيف ان محاولة إرساء الأسس لحضارة شيوعية جديدة في روسيا تجد نقطة ارتكازها السيكولوجية في اضطهاد البرجوازيين. وكل ما هنالك اننا نتساءل بقلق عما سيفعله السوفييت بعد إفادة برجوازييهم عن بكرة أبيهم.

إذا كانت الحضارة تفرض مثل هذه التضحيات الباهظة، لا على الجنسية فحسب بل أيضا على العدوانية، فاننا نفهم في هذه الحالة فهما احسن لماذا يعسر على الإنسان غاية العسر ان يجد في ظلها سعادته. وبهذا المعنى، كان الإنسان البدائي محظوظ القسمة في الواقع لأنه ما كان يعرف أي تقييد لغرائزه. وبالمقابل، كان اطمئنانه إلى التمتع مُطَولا بمثل هذه السعادة واهيا للغاية. وقد قايض الإنسان المتحضر قسطا من السعادة الممكنة بقسط من الأمان. لكن لا ننس ان الزعيم في الأسرة البدائية كان هو وحده الذي يتمتع بتلك الحرية الغريزية أما الباقون فكانوا يقاسون في أغلال الرقّ من اضطهاده. كان التضاد على أشده إذن في تلك الحقبة السحيقة القدم من التطور الإنساني بين أقلية تستفيد من مزايا الحضارة وأكثرية محرومة من هذه المزايا. وتنبئنا المعلومات الأدق والأصح التي توفرت لنا عبر أعراف المتوحشين الحاليين بأنه ليس من داع البتة لنحسدهم على حرية حياتهم الغريزية: فقد كانوا خاضعين، بالفعل، لقيود من نوع آخر، لكن أشد صرامة، ربما، من تلك التي تغلّ المتحضر المعاصر.

إذا كنا ننحي باللائمة بحق على حضارتنا الراهنة لأنها لا تحقق على نحو كاف نظاما حياتيا قمينا بإسعادنا، مع ان ذلك هو مطلبنا منها، ولأنها تبقي على العديد من الآلام التي كان يمكن، ولو بوجه الاحتمال، تلافيها، وإذا كنا نبذل قصارى جهدنا من جهة أخرى، ومن خلال نقد صارم قاس، كي نكتشف مصادر نقصها وعدم كمالها، فاننا بكل تأكيد لا نمارس في ذلك الا حقنّا الثابت. ونحن إذ نفعل ذلك لا نضع أنفسنا في صف أعدائها. كذلك فانه من حقنا ان نتأمل منها أن تقوم رويدا رويداُ بتغييرات قمينة بتلبية حاجاتنا على نحو أفضل، الأمر الذي سيقيها شر هذه الانتقادات. بيد اننا قد نتآلف مستقبلا مع فكرة ان بعض الصعاب القائمة حاليا ترتبط وثيق الارتباط بجوهر الحضارة، ولن تذللها أي محاولة للإصلاح. وناهيك عن الالتزامات التي يفرضها علينا تقييد الدوافع الغريزية، وهي التزامات نحن مهيئون لها، نجد أنفسنا مكرهين على تقليب النظر أيضا في الخطر الذي تثيره حالة خصوصية يمكن ان نسميها "بؤس الجماهير السيكولوجي". فهذا الخطر يصبح داهما حين تكون العلة الرئيسية لقيام الرباط الاجتماعي تَشَبّه أعضاء المجتمع ببعضهم بعضا، بينما لا تتمكن، من جهة مقابلة، بعض الشخصيات التي لها سجية القادة والزعماء من أداء الدور الهام الذي يفترض ان تضطلع به في تكوين الجمهور[44]. ولعل وضع أميركا الراهن يتيح فرصة طيبة لدراسة هذا الأذى المخيف النازل بالحضارة. وهنا أقاوم إغراء الاندفاع في انتقاد الحضارة الأمريكية، حرصا مني على عدم إعطاء انطباع بأنني أبغي أنا نفسي استعمال طرائق أمريكية.




ترجمة: جورج طرابيشي

-------------
هوامش فرويد :

[1] يعرف بالـ id.

[2] ان هذا القسم الأقدم عهداً من أقسام الجهاز النفسي يبقى مدى الحياة أهمها إطلاقاً. ودراسته هي التي كانت بمثابة البداية للمبحث التحليلي النفسي.

[3] يعرف بالـ ego.

[4] يعرف بالـ super ego.

[5] ايروس: إله الحب عند الإغريق.

[6] الموضوعي (objectal): نسبة إلى الموضوع، طباق الذات، والحب الموضوعي هو حب الموضوع، حب ما ليس هو الذات، وبمعنى ما، الحب الغيري.

[7] تخيل بعض الشعراء خرافات من هذا القبيل، لكن لا شيء في تاريخ المادة الحية يؤكد تخيلاتهم.

[8] كان الفيلسوف امبيذوكلس الاغريغنتي قد تنبى منذ القديم هذا التصور للقوى الأساسية أو الغرائز، وهو تصور لا يزال العديد من أنصار التحليل يقابلونه بالرفض.

[9] الوذفة أو البروتوبلازما: المادة الحية الأساسية في الخلايا الحيوانية والنباتية، وحركتها متمورة تمد أو تسحب فيها أقدامها (شواها) الكاذبة.

[10] ثمة فرضية تذهب إلى ان الإنسان تحدر من حيوان ثديي كان نضوجه الجنسي يتم في السنة الخامسة من عمره. ثم طرأ حدث خارجي كبير أخل بالتقدم المطرد للنوع وأوقف تطور الجنسية. وقد يكون هذا أيضاً اصل بعض الفروق الأخرى في الحياة الجنسية بين الإنسان والحيوانات، ومنها مثلاً انتقاء التأثير الموسمي على الليبيدو، واستخدام دور الحيض في العلاقات الجنسية.

[11] ينبغى ان نتساءل عما إذا كان إشباع الحوافز الغريزية التدميرية الخالصة حقيقةً بتوليد لذة، وعما إذا كان هناك تدمير بدون عناصر ليبيدوية. ولا يبدو ان إشباع الرغبات التي تتبقى في الانا من غريزة الموت يولد لذة ، على الرغم من ان المازوخية تمثل مزيجاً شبيهاً تماماً بالسادية.

[12] نظرية المخرج Cloaque: تصور طفلي يحسب ان الأطفال، نظير البراز، يولدون من "الخلف"، أي من الشرج. ويرتب المذهب التحليلي النفسي على هذا الخلط بين المهبل والشرج نتائج هامة، ومنها نفي الدور الشهوي للمهبل، وربط الجنس بالعدوان وبمشاعر الخوف عند الاتصال الجنسي.

[13] ذهب بعضهم تكراراً إلى أن التهيجات المهبلية يمكن أن تطرأ في وقت مبكر للغاية لكنها لا تعدو في الأرجح في هذه الحال ان تكون تهيجات بظرية، أي تهيجات في عضو مشابه للقضيب، وبذلك لا يسقط حقنا في وصف هذا الطور بأنه قضيبي.

[14] القبتناسلية: مصطلح يشير إلى المرحلة قبل التناسلية (presexual).

[15] يرى اتجاه متطرف، نظير السلوكية التي رأت النور في أميركا، أن بوسعه ان ينشئ علم نفس لا يقيم اعتباراً لهذه الواقعة الأساسية!

[16] في أوراق المؤلف التي نشرت بعد وفاته وجدت صياغة أخرى يعود تاريخها إلى تشرين الأول 1938، ننقل منها المقاطع التالية:

"....والعجيب ان الجميع، أو الجميع تقريباً، يتفق رأيهم على أن يجدوا لكل ما هو نفسي طابعاً مشتركاً، طابعاً يعبر عن ماهيته بالذات. أنه الطابع الوحيد، الذي يند عن الوصف، والذي لا حاجة به أصلاً إلى ان يوصف، للشعور. فكل ما هو شعوري هو نفسي، وبالعكس، كل ما هو نفسي هو شعوري. وانى لنا ان نماري في بديهية كهذه! لكن لنقر مع ذلك بأن هذه النظرة للأمور لم توضح ماهية النفسية، إذا اصطدم البحث العلمي هنا بجدار، فما اكتشف أي درب يمكن ان يتخطى به هذا الحاجز. ثم ان المماثلة بين النفسي والشعوري تقود القائم بها- وهذه نتيجة مؤسفة - إلى فصل السيرورات النفسية عن مجمل الظاهرات الكلية، فتتبدى هذه السير ورات وكأنها شيء قائم بنفسه.

"وما كان من الممكن القبول بفكرة كهذه. إذ كيف لنا، بالفعل، ان نتجاهل ان الظاهرات النفسية ترتبط إلى حد كبير بالظاهرات البدنية، وأنها، بالعكس، تؤثر تأثيراً قوياً فيها أيضاَ؟ والحق، لئن وجد الفكر الإنساني نفسه يوماً في درب مسدود، فإنما في هذا المضمار تحديداً. وقد اضطر الفلاسفة ، بحثاً عن مخرج، إلى التسليم ولو بوجود سيرورات عضوية موازية للسيروارت النفسية ومرتبطة بها على نحو يعسر تفسيره. وتفسح هذه السيرورات في المجال أمام المبادلات بين "النفس والجسم" وتدرج من جديد الظاهرة النفسية في مجمل الحياة. غير ان هذا التفسير ليس بدوره مقنعاً.

لقد خرج التحليل النفسي من هذا المأزق بأن أنكر بقوة مماثلة النفسي بالشعوري. كلا، ان الشعور ليس ماهية النفسي، بل صفة من صفاته فحسب، وصفة متقلبة، غائبة اكثر منها حاضرة في الغالبية العظمى من الأحوال. والعنصر النفسي يبقى بحد ذاته، وأياً تكن طبيعته، لا شعورياً، شبيهاً في ذلك، في ارجح الظن، بسائر الظاهرات الطبيعية الأخرى التي نعرفها.

" في رأينا ان مسألة علاقات الشعور بالنفسية قد وجدت حلها الآن: فما الشعور إلا كيفية (خاصية)، متقلبة أصلاً، من كيفيات النفسية. لكن يبقى علينا بعد ان نفند اعتراضاً: فعلى الرغم من الوقائع التي تكلمنا عنها يزعم بعضهم أنه لا يجوز العزوف عن فكرة وحدة الهوية بين النفسي والشعوري لأن السيرورات النفسية التي تعرف باللاشعورية لا تعدو ان تكون سيرورات عضوية موازية لسيرورات النفسية ومعترفاً بها منذ القديم. وعلى هذا، فإن المشكلة التي نريد حلها لا تعدو بدورها ان تكون مسألة باطلة تنصب على التعريف. وجوابنا عن ذلك انه من غير المعقول ومن غير المناسب بالفعل تحطيم وحدانية الحياة النفسية لصالح تعريف ليس إلا، في الوقت الذي نعاين فيه ان الشعور لا يمدنا إلا بسلاسل من تظاهرات غير كاملة، مليئة بالثغرات. أفمن قبيل المصادفة وحدها ألا نكون قد توصلنا إلى تقديم نظرية شاملة متماسكة عن النفسية إلا بعد ان عدّلنا تعريفها؟

"لنحاذر على كل حال من الاعتقاد بان التحليل النفسي هو الذي ابتكر نظرية النفسية هذه. فقد أكد فيلسوف آلماني، هو تيودور ليبس، جازماً ان اللاشعور سمة مميزة للظاهرة النفسية. وقد كان مفهوم اللاشعور يقرع منذ زمن بعيد أبواب علم النفس، وكان بينه وبين الفلسفة، وكذلك بين الأدب، مغازلة، ولكن العلم ما كان يعرف كيف يستخدمه. وقد تبنى التحليل النفسي هذه الفكرة، وحملها على محمل الجد، وافرغ عليها مضموناً جديداً. وقد اهتدت الأبحاث التحليلية النفسية إلى بعض سمات للنفسية اللاشعورية ما كان أحد اشتبه بها بعد، واكتشفت بعض القوانين التي تحكمها. ولا نقصد بذلك ان الكيفية الشعورية قد فقدت قيمتها في نظرنا. فهي تبقى المنارة الوحيدة التي تضيء لنا وتسدد خطانا في دياميس الحياة النفسية. وبالنظر إلى الطبيعة الخاصة لمعرفتنا، فإن قوام مهمتنا العلمية في مضمار علم النفس ان نترجم السيرورات اللاشعورية إلى سيرورات شعورية لنردم على هذا النحو ثغرات إدراكنا الشعورية".

[17] تجدر الإشارة إلى ان الشعور بالألمانية، كما باللغات اللاتينية، يعني الوعي (conscience). وبالمقابل، فإن الترجمة العربية لهذا المصطلح بالشعور (وكذلك اللاشعور مقابل اللاوعي (inconscient) تقيم فاصلاً اختصاصياً بين اللغة التحليلية النفسية وبين لغة عامة الناس.

[18] preconsious

[19] أواليات: يستخدم المترجم مصطلح اواليات مشتقا من كلمة "آلة" والمقصود به آليات (mechanisms)

[20] العصاب: مرض نفسي، اضطراب عصب وظيفي (neurosis).

[21] الحرب الدينية والسياسية بين 1618 و 1648، وكان من أسبابها الرئيسية الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت.

[22] راجع مؤلف فرويد: "مستقبل وهم".

[23] هذا المصطلح قابل أيضا للترجمة ب "الثقافة" (culture)، وهو في الألمانية Kultur.

[24] تأذن لنا معطيات تحليلية ناقصة، بل قابلة لأكثر من تأويل واحد، بصياغة فرضية قد تبدو بعيدة عن المعقول بصدد اصل تلك المأثرة الإنسانية الكبرى، فنحن نزعم ان الأشياء حدثت كما لو ان الإنسان البدائي قد اعتاد، في كل مرة كان يجد نفسه فيها في مواجهة النار، ان يلبي بتلك المناسبة رغبة طفلية: الرغبة في إخمادها بنفث بوله. اما بصدد التأويل الاحليلي البدائي للسان اللهب الذي يرتفع ويمتد في الأجواء. فلا يمكن ان يحوم حوله ظل من شك، إذ تقوم أساطير لا يحصى لها عد شاهدا على صحته. وقد كان إطفاء النار بالتبول - وهي طريقة كان ما يزال يلجأ إليها الأحفاد المتأخرون للقردة كما يمثلهم غوليفر في ليليبوت (بلاد خرافية نزل فيها غوليفر، بطل قصة سويفت "رحلات غوليفر" وأهلها لا يزيد طولهم على ست بوصات".

وغارغانتوا، بطل رابيليه - أقول كان إطفاء النار بالتبول ضربا من فعل جنسي مع كائن مذكر، تظاهرة محببة إلى النفس من تظاهرات القوة الرجولية أثناء ضرب من "مبارزة" جنسية مثلية. وأول من عزف عن ذلك الفرح وأبقى على النار مشتعلة، كان أيضا أول من أمتلك المقدرة على حملها معه وعلى إخضاعها لخدمته. ولقد كان بإطفائه نار هيجانه الجنسي الذاتي، قد دجّن تلك القوة الطبيعية المتمثلة في لسان اللهب. هكذا يكون ذلك الكسب الحضاري الكبير مكافأة على عزوف عن دافع جنسي. وقد وقع الاختيار، في مرحلة ثانية، على المرأة لتكون حارسة النار الملتقطة والمحفوظة في موقد المنزل، لأن تكوينها التشريحي يمنعها من الاستسلام لإغراء إطفائها. وثمة مسوغ أيضا للتنويه بالعلاقة الثابتة التي تقوم، كما تشهد على ذلك التجربة التحليلية، بين الطموح والنار والايروسية الاحليلية.

[25] نسبة إلى الرمامة: جراحة الترميم والتوقيع.

[26] أي السنة التي ظهر فيها هذا المؤلف.

[27] لويس الرابع عشر.

[28] حشرة تحيا حياة جماعية.

[29] أنظر نص فرويد "الطبع والايروسية الشرجية".

[30] في الواقع، لم يتلاش الطابع الدوري للعملية الجنسية، لكن تأثيره على الإثارة الجنسية النفسية سلك بالأحرى الاتجاه المعاكس. ويرتبط هذا التحول في المقام الأول بأفول حاسة الشم التي كان الطمث يمتلك بواسطتها القدرة على التأثير على نفس الذكر. وقد تولدت عندئذ بدور الاحساسات الشمية الإثارات البصرية. واستطاعت هذه الأخيرة، بخلاف الأولى (فالإثارات الشمية منقطعة)، أن تمارس تأثيرا دائما. وتابو الطمث إنما ينجم عن هذا "الكبت العضوي" كإجراء مضاد للرجوع إلى طور تم تجاوزه من التطور. اما سائر الدوافع الأخرى فمن طبيعة ثانوية في ارجح الظن (راجع ك. د. دالي: "الميثولوجيا الهندوسية وعقدة الخصي"، مجلة "ياماغو"، 13، 1937). فحين ينقلب آلهة مرحلة فائتة من الحضارة إلى أبالسة، يكون هذا لانقالاب إعادة إنتاج على مستوى مغاير لتلك الأوالية عينها. بيد أن تراجع الاستطاعة التهييجية للرائحة إلى مرتبة ثانوية يبدو وكأنه ناجم هو نفسه عن كون الإنسان قد ارتفع عن الأرض وحزم أمره على السير واقفا، وهي وضعية أظهرت للعيان الأعضاء التناسلية التي كانت محجوبة عن النظر حتى ذلك الحين، فأوجدت بذلك الحاجة إلى حمايتها، فظهر إلى الوجود الحياء والحشمة. وعليه، يكون انتصاب الإنسان أو اكتسابه "الوضعية العمودية" بمثابة البداية لسيرورة الحضارة التي لم يكن عنها من محيص. وبدءا من هنا شملت في ما شملت انحطاط أهمية الادراكات الحسية الشمية وهزال النساء في فترة الحيض، وأفضت إلى هيمنة الادراكات الحسية البصرية، والى وقوع الأعضاء التناسلية تحت مدى النظر، ثم إلى استمرارية الإثارة الجنسية وتأسيس الأسرة، ومن ثم إلى عتبة الحضارة الإنسانية. وما تقدمنا به لا يعدو أن يكون تخمينا نظريا، ولكنه على قدر كبير من الأهمية يستأهل معه التحقق من صحته بدقة عن طريق الحيوانات التي تقترب في شروط حياتها منتهى الاقتراب من شروط حياة الإنسان كذلك نتبين تأثير عامل اجتماعي ظاهر للعيان في المجهود الذي تفرضه الحضارة سعيا وراء النظافة. فلئن وجد هذا المجهود تبريره المتأخر في ضرورة التقيد بقواعد علم الصحة، فانه قد ظهر إلى حيز الوجود قبل ان تعرف هذه القواعد. فالدافع إلى ان يكون المرء نظيفا يصدر عن الحاجة الملحة إلى إزالة البراز الذي غدا كريها بالنسبة إلى حاسة الشم. ونحن نعلم ان الوضع يختلف لدى الأطفال الصغار الذين لا يوحي إليهم البراز بأي قرف، بل يبدو وكأنه ثمين عزيز باعتباره جزءا من أنفسهم منفصلا عن جسمهم. وتبذل التربية جهدا بالغا في التعجيل بقدوم المرحلة التالية التي يفترض ان يفقد فيها البراز كل قيمة وأن يضحْي فيها موضع قرف وتقزز، وبالتالي ان يُطرح. ومثل هذا التدهور في القيمة ما كان ليكون ممكنا لولا ان الرائحة النتنة لتلك المواد التي يفرزها الجسم قضت عليها بأن تشاطر المصير الذي آلت إليه الاحساسات الشمية بعد أن نهض الإنسان عن الأرض. هكذا تكون الايروسية الشرجية أو من يطأطىء الرأس أمام ذلك "الكبت العضوي" الذي شق الطريق إلى الحضارة. ويتجلى أثر العامل الاجتماعي، الذي يتكفل بإدخال تحولات جديدة على الأيروسية الشرجية، في الواقعة التالية، وهي ان الإنسان، بالرغم من كل التقدم الذي أنجزه، لا ينفر إلا لماما من رائحة برازه، بينما تصدمه وتقززه رائحة براز الغير. إذن فالفرد النجس، أي ذاك الذي لا يخفي عن الأنظار برازه، يجرح الآخرين ولا يقيم لهم اعتباراً، وهذا المدلول نفسه ينطبق أصلا على الشتائم الدارجة والمقذعة. كذلك ما كان لنا أن نفهم الاستعمال المهين لاسم أوفى صديق للإنسان بين الحيوانات لولا خاصيتان اثنتان تعرضان الكلب لازدراء الإنسانية: انه أولا "حيوان شمي" لا يهاب البراز، وانه لا يخجل ثانيا من وظائفه الجنسية.

[31] الطوطم (totem): مصطلح أنثروبولوجي يعني الحيوان أو النبات (أو أي شيء آخر) تعتبره القبيلة رمزا لها.

[32] التابو (taboo): مصطلح أنثروبولوجي يعني الحرام أو المحرّم.

[33] انانكيه (ananke): الضرورة الخارجية أو القدر.

[34] مؤسس رهبانية الفرنسيسكان، ولد في 1182 وتوفي في 1226 ونذر نفسه للفقر.

[35] من بين مؤلفات الكاتب الإنكليزي المرهف الحس جون غالورثي، التي يقر الجميع اليوم بقيمتها، قصة قصيرة انتزعت إعجابي الكبير فيما سلف. وعنوانها "شجرة التفاح"، وقصور على نحو ثاقب كيف لم يعد ثمة مكان، في حياتنا المتمدنة الحديثة، للحب البسيط والطبيعي بين كائنين إنسانيين.

[36] التماهي (identification)، اشتقاقا من "ما هو".

[37] جنس من الثعابين غير السامة.

[38] يستطيع الشاعر الكبير ان يجيز لنفسه التعبير، ولو بلهجة المزاح على الأقل، عن حقائق سيكولوجية مستهجنة بشدة. هكذا يجاهرنا هـ. هايني بالقول: "انني اكثر المخلوقات طُرّاً حبا للسلم. رغائبي هي: كوخ متواضع سقفه من التبن، ولكنه مجهز بفراش وثير، ومائدة ثرة. ولبن وزبدة طازجان، وزهور على الشبابيك، وعند الباب بضع أشجار جميلة، وإذا شاء لي الرحمن السعادة الكاملة، فليمنن على برؤية تلك الأشجار وقد علق بها ستة أو سبعة من أعدائي شنقا. وبقلب مفعم بالتحنان والإشفاق، سأصفح قبل ان يفارقوا الحياة عن جميع الإهانات التي تسببوا لي بها في حياتهم - صحيح ان الصفح عن الأعداء واجب، ولكن ليس قبل أن تعلق مشانقهم" (هايني: "أفكار وخواطر").

[39] قول لاتيني يُنسب خطأ إلى القديس اوغسطينوس، وترجمته" أومن به لأنه مخالف للعقل".

[40] بالفرنسية في النص، ومؤادها: فليتفضل السادة القتلة بالبدء!

[41] باللاتينية في النص :Homo Homini Lupus.

[42] يعني الحرب العالمية الأولى.

[43] ان من ذاق في حداثته أهوال الفقر وعانى من كبرياء الأغنياء وانعدام الإحساس لديهم، لا يمكن قطعا ان يتُهم أو يُشتبه في عدم تفهمه وعدم تقبله للجهود المبذولة لمحاربة تفاوت الثروات وما يترتب عليه. وفي الحقيقة، إذا كان هذا الكفاح يبغي التذرع بالمبدأ المجرد، القائم على أساس العدل، والقائل يتساوي جميع البشر فيما بينهم، فلن يكون أسهل من الرد عليه بأن الطبيعة الأولى قد اقترفت مظالم لا علاج لها بما أوجدته من تفاوت أصيل في القدرات النفسية والعقلية الموزعة على البشر.

[44] راجع س. فرويد: "علم النفس الجمعي وتحليل الأنا" (1920)، دار الطليعة، بيروت 1979

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:17 PM

14- ألبرت أينشتين

ألبرت أينشتاين (Albert Einstein) عالم فيزيائي ومؤسس النظرية النسبية، وصائغ عدد من النظريات الفيزيائية الأخرى. ويدين الناس في عالم اليوم لأينشتاين بشكل كبير في تصورهم عن المكان والزمان. ذلك بالرغم من أنه لم ينجح في الالتحاق بالجامعة إلا في المحاولة الثانية!

ولد أينشتين لأبوين يهوديين في ألمانيا التي عاش فيها. وقد كان أينشتاين في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان محاضرا زائرا، حين وصل أدولف هتلر إلى السلطة في ألمانيا عام 1933. وبقي في الولايات المتحدة واستقر في مدينة برنستون خوفا من الإرهاب الفاشي الذي جعل من أينشتاين هدفا له.

صاغ أينشتاين نظريته الأولى عن الحركة البراونية في العام 1901. وفي العام 1905 صاغ نظريته عن الظاهرة الكهروضوئية، وصاغ النظرية النسبية الخاصة في نفس العام. وفي العام 1916 نشر مؤلفه عن النظرية النسبية العامة، وله العديد من النظريات الأخرى. حصل أينشتاين على جائزة نوبل للفيزياء في العام 1921، عن أعمال غير النظرية النسبية.

إن مقدمة أينشتاين لكتاب غاليليو التي تم اختيارها لهذا الكتاب هي محاولة للتعرف، من مصدر ثانوي، على أفكار جاليليو جاليلي، عالم الفلك الإيطالي الشهير، الذي ولد في مدينة بيزا في العام 1564.

وجد غاليليو في أبحاثه ما يدعم وجهة نظر كوبيرنيكوس القائلة بان الشمس هي مركز الكون وبان الأرض تدور حولها. وفي عام 1616 اضطر غاليليو أن يعد بهجر نظريته. لكن ذلك لم يدم، حين نشر كتابه (Saggiatore) وجاهر بأفكاره في كتابه "حوار بين منظومتين عالميتين" الذي صدر في العام 1932. ودعي جاليليو إلى روما إثر ذلك، لينكر تأكيده على نظرية كوبيرنوكوس، وقد فعل ذلك تحت التهديد. وهناك رواية، غير صحيحة في الغالب، تقول إنه أضاف بعد إنكاره الرسمي لهذه النظرية قائلا: "لكنها في كل الأحوال تدور!" (عن الأرض).




أينشتاين: مقدمة لكتاب جاليليو جاليليي "حوار بخصوص النظامين الرئيسيين: نظام بطليموس والنظام الكوبيرنكي"


يعتبر عمل جاليليو المسمى "حوار بخصوص النظامين العالميين الرئيسيين ..." منجما من المعلومات لكل إنسان معني بالتاريخ الحضاري للعالم الغربي وأثره على النمو الاقتصادي والسياسي.

هنا ينكشف إنسان يملك إرادة ملتهبة وذكاء عقلانيا وشجاعة ليقف ممثلاً للتفكير العقلاني أمام جمع من هؤلاء الذين باعتمادهم على جهل الناس وتراخي المدرسين في زي الكاهن والعالم، يحافظون على مراكز سلطتهم ويدافعون عنها. إن موهبة غاليليو الأدبية الفائقة مكنته من مخاطبة المتعلمين من رجال عصره بلغة واضحة مؤثرة من أجل التغلب على تفكير معاصريه الأسطوري والمتمركز حول الإنسان، ومن الرجوع بهم باتجاه رأي موضوعي سببي بخصوص النظام الكامل المتناغم للكون (الكوسموس)، ذلك النظام الذي فقدته الإنسانية مع تدهور الحضارة اليونانية.

عندما أتحدث بهذه الطريقة، فإنني أدرك أنني أنا أيضاً أقع في المنزلق العام الذي يقع فيه هؤلاء السكارى بإخلاصهم، الذين يبالغون في تعظيم مكانة أبطالهم. قد يكون صحيحاً أن شلل العقل خلال القرن السابع عشر، والناتج عن التقليد السلطوي المتصلب الذي جلبته عصور الظلمات القروسطية[1] كان قد إنحسر إلى حد انه لم يكن باستطاعة قيود التراث لمفكري القدم ان تصمد مدة أطول، مع أو بدون جاليليو.

وبالرغم من ذلك فإن هذه الشكوك تتعلق فقط بجزء صغير من المشكلة العامة المختصة بالمدى الذي يمكن أن تتأثر به حقبة من التاريخ ببعض الأفراد الذين تثير ميزاتهم فينا الانطباع بأنها [الميزات] متفردة أو مصادفة، الذين لم يكن تواجدهم في تلك الفترة إلا بمحض الصدفة. وكما هو مفهوم، فإن عصرنا هذا ينظر نظرة متشككة أكثر من النظرة التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر أو النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلى دور الفرد. فالتخصصات العميقة في المهن والمعرفة، تجعل الفرد يظهر كـ "قابل للتبديل" كأي جزء من آلة يتم إنتاجها بالجملة.

لحسن الحظ، إن تقديرنا لكتاب "حوار ..." كوثيقة تاريخية لا يعتمد على موقفنا من تلك الأسئلة المخاطِرة. بداية، إن "حوار ..." يعطي تفسيراً حياً ومقنعاً لأبعد الحدود لتلك الآراء التي كانت سائدة والمتعلقة بتركيب الكوسموس بعامة. إن التصور السائد لشكل الأرض كقرص مسطح بالإضافة إلى بعض الأفكار المهمة المتعلقة بالفضاء المليء بالنجوم وبتحركات الأجسام السماوية الذي كان سائدا في بداية العصور الوسطى، كان يمثل تدهورا للمفاهيم اليونانية القديمة، وبشكل خاص لأفكار أرسطو ولمفهوم بطليموس المكاني والمتماسك المتعلق بالأجسام السماوية وتحركاتها: التصور السائد حول العالم في عصر جاليليو يمكن وصفه كما يلي:

هناك فضاء وفيه توجد نقطة مفضلة هي مركز الكون. المادة، على الأقل الجزء الأكثف منها، يميل للاقتراب إلى أقرب حد ممكن من هذه النقطة. وتبعاً لذلك، فقد اتخذت المادة شكلاً مقارباً (مشابهاً) للشكل الدائري (الأرض). وانطلاقاً من هذه المعلومة حول الأرض، فإن مركز تلك الكرة يتطابق عملياً مع مركز الكرة السماوية (الكون). أما الشمس، والقمر والنجوم فكلها محمية من السقوط باتجاه مركز الكون، حيث إنها مربوطة بقواقع كروية متصلبة شفافة تتطابق مراكزها مع مركز الكون "الفضاء". هذه القواقع الكروية تدور حول الكرة الأرضية الثابتة (أو مركز الكون) بسرعات زاويّة قليلة الاختلاف. قوقعة القمر هي صاحبة أصغر نصف قطر، وتحيط بعالم ما تحت القمر. أما القواقع الخارجية بأجسامها السماوية فتمثل "العالم السماوي"، والتي توصف أجسامها بأنها أبدية، غير قابلة للانهدام أو التبدل وذلك مقارنة بـ "الكرة الأرضية السفلى" الموجودة داخل قوقعة القمر، بالهيكل القمري الذي يحتوي على كل ما هو مؤقت زائل فانٍ وقابل للإفساد.

بطبيعة الحال، لا يمكن لنا أن نلقي اللوم بشأن هذه النظرة الساذجة على الفلكيين اليونان الذين في تصويرهم لتحركات الأجسام السماوية، استعملوا تراكيب هندسية مجردة، ازداد تعقيدها بازدياد دقة المراقبات الفلكية. وبسبب عدم توفر نظرية للميكانيكا حاولوا تقليص التحركات المعقدة (الظاهرة) إلى أبسط حركات أمكنهم تصورها، وبالتحديد إلى حركات دائرية موحدة وتراكيب منتظمة. إن التعلق بفكرة أن الحركة الدائرية هي الحركة الطبيعية بحق كانت ما تزال واضحة التميز عند جاليليو، وربما تكون هي المسؤولة عن عدم إدراك جاليليو الكامل لقانون القصور الذاتي وأهميته الضرورية.

وهكذا باختصار كُيّفت أفكار اليونان مع ذهنية الأوروبيين البربرية البدائية لذلك الوقت. كما ورغم ان الأفكار الهيلينية هذه ليست سببية، فقد كانت موضوعية وحرة من الآراء ذات النظرة الإحيائية، أو خالية من الآراء الروحية، وهذه فضيلة يمكن ان ننسبها لكونية (كوسمولوجية) أرسطو.

إن جاليليو في دفاعه عن النظرية الكوبرنيكية لم يكن فقط مدفوعا بدافع تبسيط التصور عن الحركات السماوية. فقد كان هدفه ان يستبدل النظام الفكري المتحجر والعقيم ببحث جدي عن فهم أعمق وأثبت بخصوص الحقائق الفيزيائية (الطبيعية) والفلكية.

إن شكل الحوار المستعمل في عمله قد يكون جزئياً نتيجة لمثال أفلاطون الساطع. فقد مكن جاليليو من استخدام موهبته الأدبية غير العادية في خلق مواجهة حادة وفعالة بين الآراء. بالتأكيد انه أراد أن يتفادى التزاماً مفتوحاً حول هذه الأسئلة الخلافية، مما كان يقوده إلى الدمار بأيدي محاكم التفتيش. في الحقيقة، كان جاليليو ممنوعا بوضوح من المدافعة عن النظرية الكوبرنيكية. وبغض النظر عما يحويه الحوار من حقائق ثورية، فإنه يمثل محاولة خبيثة، ظاهرياً تستجيب لذلك الطلب، وتتجاهله في الواقع. ولسوء الحظ فقد تبين بأن محاكم التفتيش لم تستطع أن تقدر مزاحا بهذه الدقة حق قدره.

إن نظرية الأرض الثابتة كانت قائمة على الفرضية القائلة بأنه يوجد مركز مجرد للكون، وكان الافتراض بان ذلك المركز يسبب سقوط الأجسام الثقيلة على سطح الأرض. إذ ان تلك الأجسام المادية لها ميل للاقتراب من مركز الكون بقدر ما تسمح به "لا-اختراقية الأرض". هذا يؤدي إلى شكل الأرض شبه الدائري.

يعترض جاليليو على تقديم أرضية ذلك "اللاشيْ" (مركز الكون) والذي من المفترض أن يفعل في الأجسام المادية، معتبراً ذلك غير كاف أبداً.

إلا أنه يوجه الانتباه إلى حقيقة أن هذه الفرضية غير المرضية تنجز اقل بكثير من المطلوب منها. فعلى الرغم من انها تعطي تفسيراً لكروية للأرض إلا انها لا تفسر الشكل الكروي للأجسام السماوية الأخرى. ومع ذلك، فإن دورات القمر والزهرة، والتي اكتشفها لاحقاً بواسطة التلسكوب المخترع حديثاً، أثبتت الشكل الكروي لهذين الجسمين السماويين، كما وأثبتت المراقبات الدقيقة للبقع الشمسية نفس النتيجة بالنسبة للشمس. والحقيقة، إنه لم يبق هناك أي شك في زمن جاليليو بشأن الشكل الكروي للكواكب والنجوم.

وعليه، فإن فرضية "مركز الكون" لا بد أن تستبدل بفرضية أخرى تكون قادرة على تفسير الشكل الكروي للنجوم أيضاً وليس فقط للأرض. يقول جاليليو، بوضوح، إنه لا بد من وجود نوع من التفاعل (الميل نحو التقارب المتبادل) في المادة المكونة للنجم، والسبب نفسه يكون مسؤولاً (بعد التخلي عن فرضية "مركز الكون") عن السقوط الحر للأجسام الثقيلة على سطح الأرض.

دعوني أضيف هنا أن تشابهاً قريباً يكمن بين رفض جاليليو لفرضية أن للكون مركزاً كتفسير لسقوط الأجسام الثقيلة، وبين رفض فرضية نظام قاصر ذاتيا كتفسير للسلوك القاصر ذاتيا للمادة. (الفرضية الأخيرة هي القاعدة التي تتركز عليها النظرية النسبية العامة). والمشترك بين الفرضيتين هو تقديم جسم مفهومي له الخصائص التالية:

1. ليس من المفترض فيه ان يكون حقيقيا، كالمادة ذات الثقل (أو الحقل).

2. انه يحكم سلوك الأجسام الحقيقية، إلا أنه لا يتأثر بها أبداً.

إن تقديم هذه العناصر المفهومية، بالرغم من أنها ليست ممنوعة تماما، من وجهة نظر منطقية محضة، منفّر للغريزة العلمية.

لقد استطاع جاليليو أيضاً إدراك أن تأثير الجاذبية على سقوط الأجسام الحر في تسارع، عموديا بقيمة ثابتة، مثلما يمكن تركيب الحركة الأفقية غير المتسارعة فوق هذه الحركة المتسارعة.

إن هذه الاكتشافات تتضمن بالضرورة، على الأقل بشكل نوعي، أسس النظرية التي صاغها نيوتن في وقت لاحق. لكن قبل كل شيء فإن الصيغة العامة لمبدأ القصور الذاتي ناقصة، على الرغم من انه قد كان من السهل الحصول على ذلك من قانون جاليليو لسقوط الأجسام مع معيقات (التحول إلى التسارع العمودي المتلاشي). إن الفكرة الناقصة هنا أيضا هي ان نفس المادة التي تشكل التسارع العمودي على سطح جسم سماوي تستطيع ان تؤدي إلى تسارع أجسام سماوية أخرى. كما أن جميع تلك التسارعات يمكن ان تشكل مع القصور الذاتي حركات دورانية. بيد انه تم الوصول إلى معرفة أن وجود المادة (الأرض) يسبب تسارع الأجسام الحرة (على سطح الأرض).

من الصعب علينا اليوم أن نقدر المجهود الهائل الذي بذل في تحديد صياغة مفهوم التسارع وفي إدراك أهميته الفيزيائية (الطبيعية).

كون مفهوم "مركزية الكون" قد رُفض، ولسبب معقول، فقد تم أيضاً سحب فكرة ثبات الأرض، وبشكل عام فكرة دور الأرض الاستثنائي لم تعد مبررة. إن السؤال حول ما يجب اعتباره "ثابتاً" حين وصف حركة الأجسام السماوية أصبح سؤالاً ملحاً وتبعاً لـ أرستاركوس وكوبرنيكوس، فقد تم توضيح حسنات اعتبار الشمس في حالة ثبات (وكما قال جاليليو فإن ذلك ليس إجماعاً تاماً ولكنه فرضية إما صحيحة أو خاطئة). وبشكل طبيعي، يمكن الجدل أن افتراض دوران الأرض حول محورها أسهل من افتراض دوران جميع النجوم الثابتة حول الأرض إضافة إلى ذلك، فإن الافتراض القائل بدوران الأرض حول الشمس يجعل حركات الكواكب الداخلية والخارجية تظهر متشابهة، وتُلغى بالتحركات التراجعية للكواكب الخارجية، أو أن ينسب تفسيرهم إلى حركة الأرض حول الشمس.

ومهما كانت هذه النقاشات مقنعة، وبشكل خاص في ظل الحالة التي اكتشفها جاليليو بأن كوكب المشتري بجميع أقماره يمثل نظاماً كوبرنيكياً بشكل مصغر، فانها [النقاشات] ما زالت ذات طبيعة نوعية. فبما أننا [البشر] مرتبطون بالأرض، فإن ملاحظاتنا لن تكشف أبداً بشكل مباشر تحركات الكواكب "الحقيقية"، وإنما سيكون فقط باستطاعتنا ان نلحظ نقطة تقاطع خطوط الرؤية (الأرض- الكواكب) مع "مدار النجم الثابت". لقد اصبح وجود دعائم خارجة على النقاشات النوعية ممكناً فقط بعد تحديد "المدارات الحقيقية" للكواكب: إحدى المشاكل التي كان من الصعب تخطيها، والتي قام كيبلر بحلها (خلال الفترة التي عاش فيها جاليليو) بأسلوب بارع. إلا أن ذلك التقدم الحاسم لم يترك أثراً في عمل جاليليو الحياتي للتذكير بالحقيقية القائلة بأن الأفراد المبدعين غالبا ما يكونون غير متفتحين.

لقد بذل جاليليو مجهوداً كبيراً كي يثبت أن الحقيقية القائلة بأننا لا نستطيع أن نلحظ أي تأثيرات ميكانيكة لتلك التحركات لا تدحض نظرية دوران الأرض. وبشكل دقيق، فإن إثباتاً كهذا كان مستحيلاً لأن النظرية الميكانيكية كانت ناقصة. وأنا أعتقد أن معالجة جاليليو لهذه المشكلة أثبتت إبداعه بقوة خاصة. كان جاليليو، طبعاً، معنيا بإثبات أن النجوم الثابتة بعيدة جداً، بحيث لا يمكن اكتشافها من خلال التغيير الظاهري الناتج عن الحركة السنوية للأرض بواسطة أدوات القياس في عصره. إن ذلك البحث هو نوع من الإبداع أيضاً، بغض النظر عن بدائيته.

لقد كان جاليليو يهدف لإيجاد إثبات ميكانيكي لحركة الأرض، ما أدى به لصياغة نظرية خاطئة عن المد والجزر. وقد كان صعباً جداً على جاليليو أن يتقبل المحاججات الجميلة التي وردت في محادثته الأخيرة كإثباتات، لولا أن مزاجه لم يساعده في إظهار الأفضل عنده. إنه من الصعب علي أن أقاوم الإغراء في التعامل مع ذلك الموضوع بشكل أوسع.

إن الصبغة التي أستطيع إدراكها في عمل جاليليو المهني هي المعركة الانفعالية ضد أي نوع من أنواع المبادئ الدوغمائية المستندة إلى السلطة. لقد كانت الخبرة والتفكير الحذر هما الشيئين الوحيدين اللذين تقبلهما جاليليو كمقياس للحقيقة. من الصعب علينا اليوم أن نفهم مدى تطرف ذلك الرأي الذي أظهره جاليليو في عصره، عندما كان الشك في حقيقة الآراء التي لا أساس لها سوى التسلط، يعتبر أعظم جريمة يحاسب عليها. في الحقيقة نحن لسنا بعيدين بأي حال من الأحوال عن ذلك الوضع، حتى في هذه الأيام، حيث يحاول كل منا إشباع غروره. إلا أنه نظرياً، على الأقل، فإن مبدأ التفكير العادل قد انتصر، ونجد معظم الناس يحاولون إعطاء موافقتهم الشكلية على ذلك المبدأ.

لقد كان سائداً التأكيد على أن جاليليو قد أصبح الأب للعلم الحديث، وذلك باستبداله أسلوب الاستدلال الاستنباطي بالأسلوب التجريبي الوصفي. إلا أنني أعتقد أن ذلك التفسير لن يكون دقيقاً، إذ أنه لا يوجد أسلوب تجريبي مجرد من الأنظمة والمفاهيم الاستنباطية، كما أنه لا يمكن وجود، أي تفكير استنتاجي دون اللجوء إلى التجربة التي ينبع منها ذلك التفكير. وللمقارنة فإن التفكير التجريبي الاستنتاجي هو أسلوب مضلل وكان يبدو غريباً بالنسبة لجاليليو. وحقيقة فإنه لم يتم حتى القرن التاسع عشر إيجاد أنظمة منطقية (رياضية) منفصلة عن العنصر التجريبي بشكل قاطع. إضافة إلى ذلك، فإن الأساليب التجريبية التي أتى بها جاليليو لم تكن كاملة بحيث أن أفضل تخمين كان يغطي ثغرات المعطيات التجربيبة (على سبيل المثال، لم يكن هناك أي أساليب لقياس الأوقات التي تقل عن الثانية). إن التناقض بين المذهب التجريبي والمذهب العقلاني لا يظهر أبداً كمسألة جدلية في عمل جاليليو. إذ أن جاليليو كان ينقض الأساليب الاستنباطية التي اتبعها أرسطو ومناصروه، فقط عندما كان يعتبر مقدمتهما عشوائية أو خالية من حجة دفاع، كما انه لم يكن يوبخ خصومه لاستعمالهم المذهب الاستنباطي. في الحوار الأول، ركز جاليليو في عدة فقرات على أنه، طبقا لأرسطو أيضاً، لا بد من وضع معظم الاستنباطات جانباً إذا ما تعارضت مع النتائج التجريبية. من ناحية أخرى، فإن جاليليو نفسه قد استفاد من الاستنتاج المنطقي، كما أن محاولاته لم تكن موجهة تماماً نحو "الإدراك". إلا أنه ومن أجل الإدراك، لا بدّ من رسم النتائج من نظام منطقي مقبول أصلاً.

---------

[1] نسبة إلى القرون الوسطى.

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:18 PM

15- ستيفن هوكنج


ولد ستيفن هوكنج (Stephen Hawking) في اكسفورد في المملكة المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية وكان والداه يعيشان في لندن، غير أن اتفاقا كان قد ابرم بين ألمانيا النازية وبريطانيا حول عدم قصف اكسفورد وكيمبردج، ولهذا السبب ذهبت والدته إلى اكسفورد لتضعه في أمان. وعاش طفولته أثناء وبعد الحرب في إحدى ضواحي لندن، حيث كان يقيم العلماء والأكاديميون الإنجليز. وكانت المدرسة التي درس فيها تتبنى منهجا تعليميا خاصا تمخض عنه أن ستيفين لم يتعلم القراءة قبل الثامنة من العمر.

ويقول هوكنج انه كان منذ الطفولة شغفا بالألعاب التي كانت تمكنه من التحكم بالأشياء. فكان لا يأبه لشكل الطائرات والقارب التي يصنعها كلعب طالما أنها كانت تعمل! وعند انتقاله لكتابة أطروحة الدكتوراه في الفلكيات اعتقد أن في ذلك تجسيدا لطموحه القديم: "إذا استطعت أن تفهم كيف يعمل الكون، فستتمكن من السيطرة عليه بطريقة ما!

أمضى دراسته الجامعية في اكسفورد ومن ثم في كيمبردج. وقد أصابه مرض (motor neurone disease) في بداية التحاقه ببرنامج الدكتوراه في كمبردج. وكاد أن يتوقف عن البحث بسبب المرض وعدم ودود أمل في الشفاء والتحسن، أو حتى في وقف التدهور حيث صارت قدرته على التحكم بأعضائه تقل تدريجيا. بيد أن علاقة نشأت بينه وبين فتاة أراد أن يتزوجها دفعته إلى الاستمرار في البحث لكي يستطيع الحصول على عمل لكسب العيش. وقد تزوجها فعلا في عام 1965.

استمر في أبحاثه في مجال النظرية النسبية حتى العام 1970. وفي الأعوام 1970-1974 بحث في مجال الثقوب السوداء. وانتقل بعد ذلك إلى البحث في مجال المقاربة بين النظريتين النسبية والكوانتية.

وأصبح هوكنج منذ حين، من اشهر الفيزيائيين في العالم المعاصر. حتى يقال أنه الأكثر شهرة بعد اينشتين. وهو يتحرك على كرسي ذي عجلات، ويستخدم الحاسوب في الكتابة والمحادثة مع الآخرين، حيث تم تطوير نظام حاسوب خصيصا له يحوّل ما يطبعه إلى كلمات ينطق بها جهاز محوسب، وقد قام بإلقاء محاضرات عامة باستخدام الجهاز.

النص الذي نقرأه هو الفصل الأول من أحد كتابين للمؤلف "تاريخ مقتضب للزمن - من الانفجار العظيم إلى الثقوب السوداء" (A Brief History of Time - From the Big Bang to Black Holes)، يشرح فيه هوكنج كيف يرى علم الفيزياء الكون.



هوكنج: مختارات من كتاب "تاريخ مقتضب للزمن"

تصورنا عن الكون :

في محاضرة عامة عن علم الفلك ألقاها أحد العلماء المشهورين (البعض يقول إنه برتراند راسل) وصف هذا العالم كيف أن الأرض تدور حول الشمس. وكيف أن الشمس بدورها تدور حول محور مجموعة كبيرة من النجوم المسماة مجرتنا. في نهاية المحاضرة نهضت سيدة عجوز في آخر القاعة وقالت: " ليس ما قلته لنا سوى هراء. العالم في حقيقته هو صفيحة مسطحة مرتكزة على ظهر سلحفاة عملاقة". ابتسم العالم ابتسامة كبيرة وسألها: "وعلى ماذا تقف السلحفاة؟" أجابته العجوز: "أنت ذكي جدا أيها الشاب، لكنها سلاحف تتلاحق حتى تصل إلى الأسفل!".

قد يجد معظم الناس ان من السخف تصور الكون وكأنه برج غير متناه من السلاحف، ولكن لماذا نعتقد أن معرفتنا أفضل؟ ما الذي نعرفه عن الكون وكيف؟ من أين جاء الكون والى أين هو ذاهب؟ هل كان للكون بداية، وإن كان كذلك، ما الذي كان قبل تلك البداية؟ ما هي طبيعة الزمن؟ هل له نهاية؟ إن آخر مكتشفات الفيزياء، والتي أصبحت ممكنة بفضل التكنولوجيا الحديثة، تقترح إجابات لبعض من هذه الأسئلة، ويوماً ما ستصبح هذه الإجابات بديهية لنا مثل حقيقة دوران الأرض حول الشمس، أو ربما سخيفة مثل فكرة برج السلاحف. فقط إنه الزمن (بغض النظر عن ماهيته) الذي يستطيع التحديد.

في كتابه "عن السماوات" (On the Heavens) استطاع الفيلسوف اليوناني أرسطو (340 ق.م.) أن يقدم اثنتين من المحاججات الداعمة لحقيقة أن الأرض هي كرة مستديرة أكثر منها سطحاً منبسطاً. فقد أدرك أولاً أن كسوف القمر هو عبارة عن وضعية وجود الأرض أرض بين الشمس والقمر. إن خيال الأرض المنطبع على سطح القمر كان دائماً مستديراً، الأمر الذي لا يمكنه أن يكون صحيحاً إلا إذا كانت الأرض كروية. فلو كانت الأرض مسطحة لكان خيالها مطولا واهليلجياً[1]، إلا إذا كان الكسوف يحدث دائماً في الوقت الذي تكون فيه الشمس عمودية على مركز الأرض.

ثانياً، لقد عرف اليونان من خلال رحلاتهم أن النجم الشمالي يظهر، حين النظر إليه من الجنوب، أقرب (أقل ارتفاعاً) منه حين النظر إليه من المناطق الشمالية. (بما أن موقع النجم الشمالي هو فوق القطب الشمالي، فهو يظهر وكأنه تماماً فوق الناظر إليه في القطب الشمالي، لكن بالنسبة لناظر إليه من خط الاستواء، فيظهر وكأنه عند الأفق). ومن الاختلاف بين الموقعين المرئيين للنجم الشمالي من مصر ومن اليونان، فقد قدر أرسطو المسافة المحيطة بالأرض بــ 400 ألف ستاديا[2]. ورغم انه لم يكن معروفاً على وجه الدقة ما هو طول الستاديا، إلا انه يمكن تقديره بحوالي 200 ياردةً، الأمر الذي يجعل حساب أرسطو حوالي ضعف الحساب المتعارف عليه حالياً. إضافة إلى ذلك، فقد قدم اليونان محاججة ثالثة تدعم فكرة كروية الأرض: فالأرض لا بد لها أن تكون مستديرة، وإلا فلماذا نرى أولاً شراع السفينة الآتية من الأفق، ونرى هيكلها فقط بعد ذلك؟

اعتقد أرسطو أن الأرض ساكنة وأن الشمس، القمر، الكواكب والنجوم تتحرك في مسارات دائرية حول الأرض. لقد اعتقد ذلك لأنه أحس، لأسباب غامضة، أن الأرض هي مركز الكون وأن الحركة الدائرية هي الحركة المثالية. هذه الفكرة طورها بطليموس في القرن الثاني لتصبح نموذجاً كونياً كاملاً. فالأرض تقع في المركز محاطة بثمانية مسارات دائرية للقمر، الشمس، النجوم، والخمسة كواكب التي كانت معروفة في حينه: عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل. وتتحرك هذه الكواكب على دوائر أصغر تتصل بمساراتها الخاصة وذلك حتى يتم حساب حركتها المعقدة في السماء. والدوائر الخارجية تحمل ما يسمى النجوم الثابتة، والتي تبقى في أماكنها بالنسبة لبعضها البعض ولكنها تدور معاً عبر السماء. ماذا كان يوجد خلف آخر دائرة؟ أبداً لم يكن واضحاً لكنه حتماً لم يكن جزءاً من كون الإنسان المدرَك.


لقد وفرَّ نموذج بطليموس نظاماً دقيقاً للتنبؤ بمواقع الأجسام السماوية في السماء. ولكن لغرض التنبؤ الصحيح بهذه المواقع، كان على بطليموس أن يفترض أن القمر يتبع مساراً يجعله أحياناً أقرب إلى الأرض ضعف المرات الأخرى، مما يجعل القمر يبدو في بعض الأحيان أكبر من حجمه بمقدار الضعف! ورغم أن بطليموس أدرك هذا الخلل، إلا أن نموذجه كان بصفة عامة، وإن لم يكن دائماً، مقبولاً. وقد تم تبنيه من قبل الكنيسة الكاثوليكية على انه صورة للكون تتوافق مع الكتاب المقدس حيث ان لديه الامتياز الكبير في انه ترك مساحة كبيرة خارج دائرة النجوم الثابتة للجنة والنار.

وفي عام 1514 تم تقديم نموذج أبسط من قبل الكاهن البولندي نيكولاس كوبرنيكوس (Nicholas Copernicus). (في البداية، وربما بسبب الخوف من أن يوسم بالهرطقة من قبل الكنيسة، نشر كوبرنيكوس نموذجه دون تعريف باسمه). فكرته كانت أن الشمس ساكنة في المركز وأن الأرض والكواكب تتحرك حولها بمسارات دائرية. ومرّ ما يقارب القرن قبل أن أُخذت فكرته بجدية . ثم جاء بعد ذلك عالما الفلك: الألماني يوهانز كبلر (Johannes Kepler)، والإيطالي جاليليو جاليلي (Galilio Galilei)، وبدءا علناً بتأييد النظرية الكوبيرنيكية، رغم حقيقة أن المدارات التي تنبأ بها لا تطابق تلك المرصودة. وجاءت الضربة القاضية للنظرية الأرسطية-البطليمية في عام 1609. في تلك السنة بدأ جاليليو بمراقبة السماء ليلاً بتلسكوب تم اختراعه حديثاً. وعندما شاهد جاليليو كوكب المشتري وجد أن عدة توابع أو أقمار ترافقه وتدور حوله. هذا يتضمن أن الأشياء ليس ضرورة أن تدور حول الأرض كما اعتقد ارسطو وبطليموس. (بالطبع، كان ما زال بالإمكان الاعتقاد بأن الأرض هي في مركز الكون وأن أقمار المشتري تتحرك في مسارات معقدة حول الأرض بحيث تظهر وكأنها تدور حول المشتري. لكن نظرية كوبيرنيكوس كانت أكثر سهولة). وفي نفس الوقت عدل كبلر نظرية كوبيرنيكوس حين اقترح أن الكواكب تتحرك ليس بشكل دوائر وإنما بشكل اهليلجي والآن أصبحت التنبؤات تطابق ما تم رصده.

بالقدر الذي كان كبلر مساهماً، كانت المدارات الاهليلجية مجرد نظرية منشأة لغرض خاص، وحتى إنها كانت غير محببة لأنه كان من الواضح ان الاهليلجات أقل كمالاً من الدوائر. فعند اكتشافه، عن طريق الصدفة تقريباً، ان المدارات الاهليلجية تتوافق وملاحظاته، لم يستطع أن يوفق بين هذا الاكتشاف وبين فكرته القائلة إن الكواكب موجودة لتدور حول الشمس بقوى مغناطيسية، وقد جاء التفسير لهذه الظاهرة بعد ذلك بفترة طويلة في عام 1687، حين أصدر السير اسحق نيوتن كتابه عن فلسفة الرياضيات الطبيعية ومبادئها (Philosophi** Naturalis Principia Mathematica) والذي ربما يكون أهم عمل فردي أصدر في العلوم الفيزيائية. لم يقدم نيوتن في كتابه هذا نظرية يشرح فيها حركة الأجسام في المكان والزمان فحسب، ولكنه أيضاً طور المعادلات اللازمة لتحليل هذه التحركات. إضافة لذلك فقد أوجد نيوتن قانون الجاذبية العام الذي يكون بموجبه كل جسم في الكون منجذباً لكل جسم آخر بقوة تزداد بازدياد كتل الأجسام وبازدياد اقترابها من بعضها البعض. هذه القوى هي نفسها التي تسبب سقوط الأجسام على الأرض. (والقصة التي تقول إن نيوتن قد ألهم من تفاحة سقطت على رأسه مشكوك في صحتها، فكل ما قاله نيوتن هو إن "فكرة الجاذبية جاءت إليه وهو جالس يتأمل وتزامن ذلك مع سقوط تفاحة"). وتابع نيوتن بحثه ليثبت، حسب قانونه، إن الجاذبية هي التي تجعل القمر يتحرك في مدار اهليلجي حول الأرض، وتسبب أيضاً دوران الأرض والكواكب حول الشمس في مدار اهليلجي.

لقد استطاع النموذج الكوبيرنيكي ان يتخلص من فكرة الدوائر السماوية البطليموسية ومعها فكرة أن للكون حدوده الطبيعية. ولأنه لم يظهر أن "النجوم الثابتة" تغير مواقعها، باستثناء دورتها عبر السماء والتي تنبع عن دوران الأرض حول محورها، فقد أصبح من الطبيعي الافتراض بأن النجوم الثابتة هي أجسام تشبه الشمس لكنها أبعد بكثير.

تبين لنيوتن، حسب نظريته للجاذبية، أنه لا بد للنجوم من أن تتجاذب مع بعضها البعض، ولذا لا يمكنها أن تبقى بدون حركة. ألن تسقط جميعها في لحظة ما؟ وفي رسالة بعثها نيوتن إلى ريتشارد بنتلي (Richard Bentley)، أحد رواد الفكر في عصره، عام 1691، جادل نيوتن أن ذلك لن يحدث إلا إذا كان هناك عدد منتهي من النجوم موزعة على منطقة محدودة في الفضاء. إلا أنه تبعاً للمنطق من ناحية أخرى، فبوجود عدد غير منتهي من النجوم الموزعة بانتظام في فضاء لا متناه، لن يسقط أي نجم، وذلك لعدم وجود أية نقطة مركزية لسقوط النجوم فيها.

يعتبر هذا الجدال مثالاً للشراك التي من الممكن ان يواجهها الشخص عند حديثه عن اللامنتهي، ففي كونٍ لا نهائي يمكن اعتبار أية نقطةٍ نقطةً مركزية لأن كل نقطة لها عدد غير منتهي من النجوم على جوانبها. وفقط بعد مرور الكثير من الوقت، تبين أن التوجه الصحيح يكمن في اعتبار وضع نهائي حيث تصطف النجوم فوق بعضها البعض. ومن ثم الإجابة على السؤال: كيف يمكن للأمور أن تتغير في حالة إضافة مفاجئة لنجوم موزعة بشكل منتظم خارج تلك المنطقة؟ حسب قانون نيوتن، فإن النجوم الإضافية لن تؤثر بشكل عام على النجوم الأصلية وإنما ستتساقط بنفس السرعة. فنحن نستطيع إضافة أي عدد من النجوم نريده ولكنها جميعاً ستنهار وستضمحل. ونعلم الآن انه من المستحيل الحصول على نموذج ساكن ولا نهائي لكونٍ تقوم فيه الجاذبية دائماً بجذب ما حولها.

انه انعكاس شيق للأجواء العامة للتفكير السائد قبل القرن العشرين كيف ان أحداً لم يقترح أن الكون يتوسع أو يتقلص. لقد كان مقبولاً وصف الكون بإحدى صفتين؛ إما انه موجود للأبد على حالة دون أن يطرأ عليه أي تغيير أو أنه خلق في وقت محدد في الماضي على حال يشبه ما هو عليه الآن. ويعزى هذا إلى ميل الناس إلى الإيمان بالحقائق المطلقة وإلى احتياجهم لفكرة انه رغم حقيقة تقدمهم في السن وفنائهم، فإن الكون ابدي وغير متغير.

حتى هؤلاء الذين أدركوا أن نظرية نيوتن في الجاذبية تظهر أن الكون لا يمكنه أن يكون ساكناً، لم يفكروا في اقتراح إمكانية توسع الكون. بالمقابل فقد حاولوا تعديل النظرية بحيث تتحول قوى الجذب إلى قوى تنافر في المسافات البعيدة. ولم يؤثر ذلك بشكل ملحوظ على تنبؤاتهم حول حركة الكواكب، لكنه سمح بتوزيع لا نهائي للنجوم بحيث تبقى في حالة توازن، توازن قوى الجذب من النجوم القريبة مع قوى التنافر من النجوم البعيدة. لكننا الآن نعرف أن مثل هذا التوازن غير مستقر؛ ففي حال اقتراب النجوم قليلاً من بعضها البعض، فان قوى الجذب ستصبح أقوى وتهيمن على قوى التنافر بحيث تستمر النجوم في السقوط باتجاه بعضها البعض. ومن الناحية الأخرى، فلو ابتعدت النجوم عن بعضها البعض قليلاً، فعندها ستطغى قوى التنافر وستبعدها أكثر وأكثر.

اعتراض آخر ضد سكون ولا نهائية الكون ينسب إلى الفيلسوف الألماني هينريخ أولبرس (Heinrich Olbers) الذي كتب حول هذه النظرية عام 1823. في الحقيقة، إن عدداً من معاصري نيوتن قد أثاروا المشكلة ولم تكن مقالة اولبرس هي الأولى التي احتوت على جدالات معارضة معقولة، لكنها كانت الأولى التي أحرزت اهتماماً واسعاً. إن الصعوبة في سكون ولا نهائية الكون هو أن كل خط رؤية تقريبا سينتهي على سطح أحد النجوم، وبالتالي يتوقع الفرد أن تكون السماء جميعها مضيئة كالشمس حتى في الليل. أما فكرة اولبرس المقابلة، فكانت تقول إن الضوء المنبعث من النجوم البعيدة يخفت نتيجة امتصاصه من قبل مواد عازلة. ولكن إذا حدث هذا فإن هذه المواد العازلة ستسخن حتى تتوهج وتضيء كالنجوم. إن الطريقة الوحيدة لتجنب الاستنتاج أن كل سماء الليل يجب أن تكون مضيئة هي الافتراض بأن النجوم لم تكن مشعة منذ الأزل بل إنها بدأت تضيء في وقت محدد في الماضي. وفي هذه الحالة فإن المواد الممتصة إما أنها لم تسخن بعد أو أن ضوء النجوم البعيدة لم يصلنا بعد. هذا يوصلنا إلى السؤال حول الأسباب التي أدت إلى إضاءة النجوم في المقام الأول.

بالطبع، إن بداية الكون قد تم نقاشها قبل ذلك بوقت طويل. فحسب آراء عدد من الفلكيين السابقين، والتقاليد اليهودية والمسيحية والإسلامية، فإن الكون بدا في زمان محدد ليس بالبعيد. إحدى الحجج لمثل هذه البداية هي الشعور بأهمية وجود "السبب الأول" لتفسير وجود الكون. (ضمن نطاق الكون، فإننا نفسر الحدث كمسبب من حدث سابق. إلا أن وجود الكون نفسه يمكن تفسيره بهذه الطريقة فقط إذا كانت له بدايات). حجة أخرى وضعها القديس اغسطين (St. Augustine) في كتابه "مدنية الله" حيث أشار إلى أن الحضارة هي تطور، ونحن نتذكر من أنجز عملاً ما أو من طور آلية ما، ولذا فقد يكون ان الإنسان وربما أيضاً الكون لم يوجدا من فترة طويلة. وقد قبل القديس اغسطين بـــ 5000 سنة تقريباً قبل الميلاد كتاريخ لخلق الكون وذلك حسب "سفر التكوين". (من الجدير ذكره أن هذا التقدير ليس بعيداً جداً عن نهاية العصر الجليدي حوالي 10.000 سنة ق.م.، وهو التاريخ الذي يحدده الجيولوجيون كبداية فعلية لحضارتنا.)

أما بالنسبة إلى أرسطو وإلى معظم الفلاسفة الإغريق، فلم تعجبهم كثيراً فكرة الخلق التي يميزها كثير من التدخل الإلهي. فهم يؤمنون بأن الجنس البشري والعالم من حوله وجدا ويستمران في الوجود إلى الأبد. فقد درس القدماء فكرة التطور المذكورة سابقاً وكانت إجاباتهم تتلخص بالإشارة إلى الفيضانات المتكررة أو الكوارث المتعددة والتي تعيد باستمرار الجنس البشري إلى بدايات الحضارة.

لقد عالج الفيلسوف عمانوئيل كانط (Immanuel Kant) بإسهاب الأسئلة حول بدايات الكون في زمن معين، وما إذا كان الكون محدوداً في مساحته. وذلك في كتابه الهام (والغامض أيضاً) "نقد العقل الخالص" الذي نشر عام 1781. وقد سمى كانط هذه الأسئلة بتناقضات (antinomies) العقل الخالص لأنه شعر بأنه يوجد قدر متساوٍ من الحجج لدعم نظرية أن للكون بداية والنظرية المعاكسة القائلة بأن الكون قد وجد منذ الأزل. حجته الداعمة للنظرية هي أنه لو لم يكن للكون بداية فسيكون هناك فترة لا نهائية من الزمن قبل أي حدث، وهذا اعتبره أمرا سخيفا. أما حجته الداعمة للنظرية المعاكسة فهي أنه إن لم يكن للكون بداية فيتطلب ذلك فترة زمنية لا نهائية قبل بداية الكون. فلماذا إذا يجب أن يبدأ الكون في زمن محدد؟ في الحقيقة، إن ما يقوله كانط كدعم للنظرية وللنظرية المعاكسة إنما هو حجة واحدة. فكلاهما يعتمدان على افتراض لم يفصح عنه مفاده أن الزمن مستمر في المسير خلفاً إلى الأبد سواء وجد الكون من الأزل أو لم يوجد. وكما سنرى فإن مفهوم الزمن ليس له معنى قبل بداية الكون. هذا ما وضحه القديس اغسطين عندما سئل: ماذا كان يفعل الله قبل خلق الكون؟ لم يجب القديس اغسطين: انه كان يجهز جهنم لمن يسأل مثل هذه الأسئلة، وإنما أجاب بأن الزمن هو ميزة من ميزات الكون الذي خلقه الله وأن الزمن لم يوجد قبل بداية الكون.

عندما كان معظم الناس يؤمنون بأن الكون ساكن وغير متغير، وكان السؤال حول بداية الكون سؤالاً ميتافيزيقياً أو لاهوتياً. ونستطيع تفسير ما نراه بشكل جيد سواء اعتقدنا بنظرية وجود الكون منذ الأزل أو بنظرية أن الكون قد بدأ في زمن محدد ويبدو كأنه وجد منذ الأزل. لكن في عام 1929 لاحظ إدوين هابل (Edwin Hubble) أن المجرات البعيدة، كيفما تنظر إليها تجدها تبتعد بسرعة عن كوكبنا. وبكلمات أخرى: إن الكون يتوسع. وهذا يعني أنه في أوقات سابقة كانت جميع الأجسام مركزة في مكان واحد. وفي الحقيقة، يبدو أنه في وقت ما، قبل عشرة أو عشرين ألف مليون سنة، كانت جميع الأجسام في نفس المكان، وبالتالي كانت كثافة الكون لا نهائية. إن هذا الاكتشاف أدى إلى انتقال السؤال حول بداية الكون إلى حقل العلوم.

إن مشاهدات هابل أدت إلى اقتراح وجود زمن اسمه "الانفجار الكبير" (Big Bang) الذي كان فيه الكون لا متناهياً في الصغر وكثافته عالية إلى ما لا نهاية. في هذه الظروف تنهار جميع قوانين العلوم، وتنهار بالتالي جميع الإمكانيات للتنبؤ بالمستقبل. وإذا كان هناك أحداث قبل ذلك الوقت، فإنها لا تستطيع أن تؤثر على ما يحدث في الوقت الحاضر. ويمكن إهمال وجودها لأنه لا يوجد له تبعات يمكن ملاحظتها. ويمكننا القول بأن الزمن بدأ عند الانفجار الكبير، بمعنى أن الزمن السابق لذلك لا يمكن تعريفه. ويجب التشديد هنا على أن هذه البداية في الزمن تختلف كثيراً عن تلك التي درست سابقاً. ففي كونٍ لا يتغير، البداية في الزمن هي أمر يجب فرضه من قبل أحد أو شيء خارج نطاق هذا الكون لأنه لا يوجد للبداية ضرورة فيزيائية ونستطيع تخيل أن الله خلق الكون في أي زمن في الماضي. من جهة أخرى، إذا كان الكون يتسع، فيمكن وجود أسباب فيزيائية لضرورة وجود بداية. ويستطيع المرء أن يتخيل أن الله خلق الكون في نفس لحظة الانفجار الكبير، أو حتى بعد ذلك الانفجار بحيث يجعله يبدو كأنه كان هناك انفجار كبير. أما افتراض بدء الكون قبل هذا الانفجار فهو أمر لا معنى له. إن حقيقة أن الكون يتوسع لا تلغي وجود خالق، إلا أنها تحدد الوقت الذي يمكن ان يكون قد بدأ مهمته فيه!

من أجل التحدث عن طبيعة الكون ومناقشة أسئلة حول بدايته أو نهايته، يجب أولاً توضيح معنى النظرية العلمية. سأتبنى الرؤية البسيطة القائلة ان النظرية هي عبارة عن نموذج للكون أو لجزء محدد منه، ومجموعة من القوانين التي تربط كميات معينة في النموذج مع ملاحظاتنا حول الكون. والنظرية العلمية توجد فقط في عقولنا وليس لها أي وجود حقيقي آخر(مهما كان ذلك يعني). والنظرية تعتبر نظرية جيدة إذا أوفت بشرطين: يجب أن تصف وصفاً دقيقاً مجموعة كبيرة من الملاحظات على أساس نموذج يحتوي عددا قليلا من العناصر الاعتباطية (arbitrary)[3]؛ ويجب أيضا أن تتنبأ بشكل دقيق بنتائج الملاحظات المستقبلية. على سبيل المثال، إن نظرية ارسطو التي تفترض أن جميع الأشياء مكونة من أربعة عناصر هي التراب والهواء والماء والنار كانت بسيطة لدرجة تؤهلها لتكون نظرية جيدة، لكنها لم تخرج باستنتاجات محددة. من جهة أخرى، فإن نظرية نيوتن في الجاذبية اعتمدت على نموذج أبسط وهو أن الأجسام تتجاذب مع بعضها البعض بقوى تتناسب طردياً مع الكتلة وتتناسب عكسياً مع مربع المسافة بينها. ومع ذلك فإن نظريته تنبأت بحركة الشمس والقمر والكواكب بدرجة عالية من الدقة.

إن أية نظرية فيزيائية تعتبر شرطية، بمعنى أنها مجرد فرضية: أي لا يمكن إثباتها أبداً. فمهما كان عدد المرات التي تتفق بها نتائج التجارب مع النظرية، فلا يمكننا التأكد من أن نتيجة التجربة القادمة لن تناقض النظرية. من ناحية أخرى نستطيع دحض نظرية في حالة تعارض ملاحظة واحدة مع تنبؤاتها. وكما أكد الفيلسوف المختص بفلسفة العلم كارل بوبر (Karl Popper)، فإن النظرية الجيدة هي التي تتميز بحقيقة أنها توصلنا إلى تنبؤات يمكن دحضها أو تخطيئها بالملاحظة، ففي كل مرة تتفق فيها نتائج تجربة جديدة مع تنبؤات النظرية، فإن النظرية تستمر في الوجود وتزداد ثقتنا بها، ولكن إذا تعارضت إحدى الملاحظات الجديدة مع النظرية، فيجب علينا التخلي عنها أو تعديلها. على الأقل هذا ما هو مفروض أن يحدث، ولكن يمكن دائماً التشكيك في قدرة الشخص الذي أجرى الملاحظة.

ما يحدث عادة بالممارسة هو أن النظرية الجديدة المبتكرة تكون امتدادا للنظرية السابقة. على سبيل المثال، كشفت المراقبة الدقيقة لكوكب عطارد عن فرق بسيط بين حركة الكوكب وبين تنبؤات نظرية نيوتن في الجاذبية. وجاءت النظرية النسبية العامة لاينشتاين لتتنبأ بهذا الفرق الطفيف في الحركة عما تفترضه نظرية نيوتن. إن حقيقة أن تنبؤات اينشتاين طابقت ما لوحظ، بينما لم تطابقه نظرية نيوتن، يؤكد صحة النظرية الجديدة. ورغم ذلك فنحن نستخدم نظرية نيوتن في الحالات التي نتعامل معها دائماً. (كما أن استخدام نظرية نيوتن أبسط بكثير من استخدام نظرية اينشتاين!)

إن هدف العلم النهائي هو إيجاد نظرية واحدة تصف الكون بأكمله. لكن النهج الذي يتبعه معظم العلماء هو فصل المشكلة إلى جزئين. أولاً: توجد القوانين التي تصف لنا التغير الذي يطرأ على الكون مع مرور الوقت. (فإذا عرفنا كيف يكون الكون في وقت ما، فإن هذه القوانين الفيزيائية تخبرنا كيف سيبدو الكون في أي وقت لاحق). ثانياً: هناك سؤال حول حالة الكون البدائية (الأولى). يشعر بعض الناس أن العلم يجب أن يهتم بالجزء الأول فقط؛ فهُم يتركون السؤال حول حالة الكون الأولى للميتافيزياء أو للدين. وما يقولونه إن الله، لكونه كلي القدرة، يستطيع أن يوجد الكون بأي طريقة يريدها. قد يكون هذا صحيحاً، ولكن في هذه الحالة أيضاً يستطيع أن يجعل الكون يتطور بطريقة كلياً عشوائية. ويبدو أن الله اختار أن يتطور الكون بطريقة منظمة وحسب قوانين معينة، ولهذا السبب يبدو الأمر منطقياً إذا افترضنا أن هناك قوانين تحكم الحالة الأولى.

يتضح أنه من الصعب جداً إيجاد نظرية تصف الكون كله دفعة واحدة. وعوضاً عن ذلك، نلجأ إلى تقسيم المشكلة إلى أجزاء ونخترع عدداً من النظريات الجزئية. كل واحدة من هذه النظريات الجزئية تصف أو تتنبأ بمجموعة محددة من الملاحظات مهملةً آثار كتل أخرى عليها، أو أنها تمثلها بمجموعة بسيطة من الأرقام. يمكن أن يكون هذا النهج خاطئاً تماماً. فإذا كان شيء في الكون يعتمد على كل شيء بشكل أساسي. فقد يكون مستحيلاً التوصل إلى حل متكامل عن طريق البحث في أجزاء منفصلة من المشكلة. وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت تلك بالتأكيد، هي الطريقة التي حققنا من خلالها التقدم في الماضي. والمثال النموذجي مرة أخرى هو نظرية نيوتن في الجاذبية التي تنص على وجود قوى جذب بين كل جسمين يعتمد فقط على عدد واحد مرتبط بكل جسم وهو كتلة هذا الجسم التي تعتبر مستقلة عن المادة التي صنع منها. ورغم ذلك لا يتوجب علينا أيجاد نظرية لتركيب وتكوين الشمس والكواكب حتى نتمكن من حساب مداراتها.

اليوم يصف العلماء الكون بواسطة نظريتين جزئيتين أساسيتين: النظرية النسبية العامة (general theory of relativity) ونظرية الميكانيكا الكوانتية (quantum mechanics). هاتان النظريتان تعتبران من أعظم الإنجازات الفكرية التي تمت في النصف الأول من هذا القرن. ان النظرية النسبية العامة تصف قوى الجاذبية والتركيب الواسع للكون، أي تركيب حجم الكون المرئي ابتداء من أميال قليلة وحتى مليون مليون مليون مليون ميل (1 وأمامه 24 صفراً). أما الميكانيكا الكوانتية بالمقابل فهي تتعامل مع ظواهر على مستويات غاية في الصغر مثل واحد في المليون من واحد في المليون من الانش. لكن لسوء الحظ، فإن هاتين النظريتين لا تتناسبان مع بعضهما البعض ولا تستطيعان أن تكونا صحيحتين في وقت واحد. فمن أهم ما يشغل علماء الفيزياء اليوم، وهو أيضا المبحث الأساسي لهذا الكتاب، هو البحث عن نظرية جديدة تجمع بين النظريتين- نظرية كوانتية للجاذبية. ليس لدينا بعد مثل هذه النظرية وقد نكون بعيدين جداً عن إيجاد مثل هذه النظرية، ولكننا على علم بكثير من الصفات التي يجب أن تتألف منها هذه النظرية. وسنرى في فصول لاحقة أننا نعلم قدراً لا بأس به من التنبؤات التي يجب أن تؤدي إليها النظرية الكوانتية للجاذبية.

إذا اعتقدنا الآن أن الكون ليس عشوائياً بل محكوم من قبل قوانين محددة فيجب علينا الجمع بين النظريات الجزئية بتشكيل نظرية موحدة متكاملة، تصف كل شيء في الكون. بيد ان هناك معضلة أساسية في إيجاد نظرية موحدة وشاملة من هذا النوع. إن الأفكار المقدمة أعلاه حول النظريات العلمية تفترض أننا بشر عقلانيون لدينا الحرية لمراقبة الكون كما نريد للتوصل إلى استنتاجات منطقية مما نراه حولنا. حسب هذه الخطة من المعقول جداً توقع أنه بالإمكان التقدم أكثر للتوصل إلى معرفة القوانين التي تحكم كوننا. وإذا ما وجدت حقاً تلك النظرية الموحدة المتكاملة فعلى الأرجح أنها ستحدد أعمالنا. وهكذا فإن النظرية نفسها ستحدد نتيجة البحث الذي نقوم به! ولماذا توصلنا النظرية إلى الاستنتاجات الصحيحة من الإثباتات المقدمة؟ ألا يمكن أن توصلنا، وبنفس الطريقة، إلى استنتاجات خاطئة؟ أو حتى تفضي بنا إلى عدم الوصول إلى أي استنتاجات؟

إن الإجابة الوحيدة التي أستطيع تقديمها لحل هذه المشكلة تعتمد على نظرية داروين (Darwin) في الانتخاب الطبيعي. الفكرة هي أنه في أي نسل يعيد إنتاج كائناته، يوجد تغييرات في المادة الجينية وتغييرات في تنشئه الأفراد المختلفين. هذه الاختلافات تعني أن بعض الأفراد سيكونون أفضل قدرة من غيرهم على التوصل لاستنتاجات صحيحة حول العالم من حولهم وان يتصرفوا حسب تلك الاستنتاجات. هؤلاء الأفراد سيكونون أقدر على البقاء والتكاثر حتى يسود نظام حياتهم وطريقة تفكيرهم. والصحيح أن ما كنا في الماضي ندعوه ذكاء واكتشافاً علمياً، قد أضاف ميزة جديدة للبقاء. ليس واضحاً إن كانت هذه هي القضية: اكتشافاتنا العلمية يمكنها جداً أن تدمرنا جميعاً، وحتى لو لم يكن الوضع كذلك فإن النظرية الموحدة المتكاملة قد لا تغير كثيراً من فرصنا في البقاء. وعلى أي حال، في حال أن الكون تطور بشكل منظم، يمكن أن نتوقع أن المنطقية التي زودنا بها الانتخاب الطبيعي قد تكون مفيدة في بحثنا عن النظرية الموحدة المتكاملة وبالتالي لن تقودنا إلى الاستنتاجات الخاطئة.

وبسبب كون النظريات الجزئية المتوفرة حالياً كافية للتوصل إلى استنتاجات دقيقة في جميع الحالات باستثناء حالات خاصة، فإن عملية البحث عن النظرية النهائية للكون يصعب تبريرها على أسس علمية. (يجدر الذكر أن جدلاً مماثلاً كان يمكن سياقه ضد النظرية النسبية والنظرية الكوانتية، وأن هاتين النظريتين قدمتا لنا كلاً من الطاقة النووية والثورة المايكروالكترونية (microelectronics revolution) !) وعليه، فإن اكتشاف نظرية موحدة متكاملة قد لا يساعد في بقاء جنسنا، وحتى انها قد لا تؤثر في أسلوب حياتنا. ولكن ومنذ فجر الحضارة لم يستسغ الناس رؤية الأحداث غير مترابطة وغير قابلة للتفسير. وإنما شكلوا فهماً للنظام الذي يقوم عليه العالم. وما زلنا اليوم نتطلع لمعرفة لماذا نحن هنا، ومن أين أتينا. إن أعمق رغبة بشرية للمعرفة مبررة بشكل كاف لاستكمال رحلة البحث وهدفنا ليس غير


-----------

[1] الاهليلج هو الدائرة المطولة، أو الشكل البيضوي.

[2] الستاديوم وجمعه ستاديا هو مقياس بعدي: شاخص مدرج يستخدم مع أداة مسامية لقياس الأبعاد.

[3] غير مبرهن عليها.


جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:18 PM

16- هربرت ماركيوز

هربرت ماركيوز (Herbert Marcuse) فيلسوف ألماني، فرّ من البطش النازي وعاش في أمريكا بعد عام 1934. كان ماركيوز عضواً في مدرسة فرانكفورت (Frankfurt School) وقد تبنى فكرة التغيير الاجتماعي ودافع عنها دفاعاً كبيرا،ً ولهذا كان في الستينات رمزاً لليسار الجديد، وللعديد من الثوريين في ألمانيا وأوروبا. لقد شكل كتابة "الأيروس والحضارة" (Eros and Civilization)، الذي نشر في عام 1955، محاولة واضحة من قبله للدمج بين أفكار فرويد وماركس.

وقد كان ماركيوز ملتزماً بقضية التحرر الجنسي للاشعور من طغيان العقل الواعي كالتزامه بالتحرر الثوري للجماهير من السيطرة السياسية والاقتصادية للطبقة الرأسمالية الحاكمة.

وقد أشتهر ماركيوز بشكل خاص بسبب تحليله لطبيعة طغيان المجتمع الحديث، حين يكون رأسماليا، كما هو ظاهر في كتابه "الرجل ذو البعد الواحد" (One-Dimensional Man)، الذي صدر في العام 1964، أو شيوعياً كما ظهر في كتابه "الماركسية السوفيتية" (Soviet Marxism) 1958.

وفي المقالة المقتبسة في هذا الكتاب فإن هربرت مركيوز "يعيد النظر في مفاهيم الثقافة وتعريفاتها، ليكشف جانب العنف الخبئ تحت رمزياتها الاستعمالية، من اجل إعادة نظر جديدة في تعريف حقيقي للثقافة يتطابق فيها كل من الدلالة والممارسة، في ظل مجتمع التقنية والاستهلاك، ويجب ألا يغرب عن بالنا أن هذا الفيلسوف وجه نقده خاصة للمجتمع الأمريكي باعتباره النموذج الأعلى لحضارة التقنية المعاصرة. وهو لذلك عندما يتعرض لنقد الأنظمة التربوية والجامعية، فهو يقصد بالطبع تلك السائدة في أميركا حوالي منتصف هذا القرن. ونذكر هنا أن أفكار هذا الفيلسوف كانت ميثاقاً لثورة الطلاب والمثقفين التي أسقطت عصر فيتنام في أمريكا وتسببت في تغيرات واسعة في شؤون الثقافة والأنظمة الجامعية، وكانت شعارات كذلك لثورة الجامعيين في أحداث أيار- مايو 1968 في باريس وفيما سمي بثورة الطلاب في الغرب كله".




ماركيوز : ملاحظات حول تحديد جديد للثقافة


إنني أنطلق من تعريف قاموس وبستر (Webster) الذي يقول إن الثقافة هي مجموعة معينة من الاعتقادات والآراء، والفتوحات والتقاليد، التي تؤلف "خلفية" مجتمع ما. وتُستثنى عادة من المفهوم التقليدي "فتوحات" مثل التدمير والجريمة، كما تستثنى "تقاليد" مثل القسوة والتعصّب. وسأقتصر على هذا الاستعمال، على الرغم من أن إعادة إدخال هذه الصفات في التعريف قد تبدو ضرورية. وسيدور كلامنا حول العلاقة بين "الخلفية" (أي الثقافة) و"الأساس": هكذا تبدو الثقافة كمجموعة من الأهداف الأخلاقية والجمالية والفكرية (أي قيم) التي يعتبرها المجتمع غاية تنظيم العمل وتقسيمه وإدارته، أي "الخير" الذي يريد أن يصل إليه بإتباعه نمطاً معيناً في الحياة. فنمو الحريات الفردية والعامة، وتقهقر الظلم الذي يعيق تطور "الفرد" والشخصية، ووجود إدارة فاعلة وعقلانية، كل هذا يمكن اعتباره "قيماً ثقافيةً" تمثل مجتمعاً صناعياً متطوراً (الشرق والغرب على حد سواء لا ينفيان عنها رسمياً صفة القيم).

ونحن لا نُقر بوجود ثقافة (سابقة كانت أم حاضرة) إلا عندما تتحقق أهداف هذه الثقافة وقيمها التمثيلية في الواقع الاجتماعي أو عندما تكون في طور تحققها فيه. ومن الممكن أن توجد فروقات هائلة في أهمية ترجمة هذه القيم في الواقع وملاءمتها له، ولكن الأنظمة العامة المعمول بها في مجتمع معين والعلاقات بين أفراده لا بد لها أن تنطوي على تجانس يسهل كشفه بينه وبين القيم التي ينادي بها هذا المجتمع. فينبغي لها أن تكون قاعدة لتحقيقٍ محتملٍ لهذه القيم. وبعبارة أخرى، ان الثقافة هي أكثر من أيديولوجيا بسيطة. فإذا أمعنا النظر في الأهداف التي تنادي بها الحضارة الغربية وفي توقها إلى تنفيذها، لاستطعنا تعريف الثقافة بأنها عملية "أنسنة" (humanization) تمتاز بالسعي المشترك نحو دوام الحياة البشرية، وتهدئة الصراع من أجل الحياة، أو على الأقل حصره في حدود يمكن مراقبتها، وتدعيم نظام المجتمع الإنتاجي، وتنمية القدرات الفكرية عند البشر، وتخفيف التعديات والعنف والبؤس وإعلائها (sublimation)[1].

ولا بد لنا الآن من أن نوجه انتقادين اثنين:

1.كان "إلزام" الثقافة دوماً خاصية محصورة في "عالم" محدد يتكون من هوية عرق أو أمة أو دين أو نوع آخر من الهويات (الاستثناءات هنا محكوم عليها ان تبقى في حيز الأيديولوجيات).ولقد وجد دائماً عالم "غريب" لم تكن الأهداف الثقافية بالنسبة له ذات قيمة: فمفاهيم العدو، والآخر، والغريب، والمبعد لا تنطبق بادئ الأمر على الأفراد، بل على الجماعات والأديان وأنماط الحياة والنظم الاجتماعية. وتُوضع الثقافة "بين مزدوجتين" أمام العدو (الذي قد يبرز أيضاً من داخل العالم ذاته) وهي قد تُمنع عنه حتى، فتجد بذلك البربرية لها طريقاً مرسوماً بشكل تام.

2.لا يمكن تعريف الثقافة بعملية "الأنسنة" إلا إذا استبعدت القسوة والتعصب والعنف غير "المستعلي" (non sublime). غير أن هذه القوى (ومؤسساتها) يمكن أن تؤلف جزءاً مكوناً للثقافة، لدرجة أن بلوغ أهداف الثقافة أو الاقتراب منها يتم عن طريق القسوة والعنف.

هذا ما يفسر التناقض في كون "الثقافة الغربية العليا" احتجاجاً رفيع المستوى ضد الثقافة، واتهاماً لها وإنكاراً، ليس فقط من جراء ترجمتها البتراء في الواقع بل بسبب مبادئها الداخلية وبسبب مضمونها أيضاً.

إن اختبار ثقافة معينة في هذه الظروف ينطوي على طرح سؤال حول العلاقات بين القيم والأفعال، وذلك ليس لكونه مسألة منطقية أو متعلقة بنظرية المعرفة فحسب، بل لأنه مسألة تتعلق بالبنية الاجتماعية: ما هي العلاقة بين إمكانات المجتمع والأهداف التي يسلم بها؟ ان الأهداف محددة في الظاهر "بالثقافة العليا" المقبول بها (اجتماعياً). وهي تمثل بذلك قيماً يجب أن تتجسد على نحو وافٍ في المؤسسات والعلاقات الاجتماعية. ونستطيع إذن ان نصوغ سؤالنا بكلمات أكثر وضوحاً:

ما هي العلاقة بين أدب مجتمع ما وفنه وفلسفته ودينه وبين الممارسة العملية لها في المجتمع؟ نظراً لضخامة هذه المسألة لن نستطيع مناقشتها إلا في إطار بضع فرضيات تستند إلى بعض نزعات التطور المعاصر.

لقد اتفقت الآراء بشكل واسع في المناقشات التقليدية على أن العلاقة بين الأهداف الثقافية والوسائل الفعلية ليست متطابقة تماماً (ولا تستطيع أن تكون كذلك؟) وأنها نادراً ما تكون متآلفة. ولقد اتضح هذا الرأي في التمييز بين "الثقافة" و"الحضارة" : فالثقافة تعود إلى مستوى عال من استقلال الإنسان وتكامله في حين تخص الحضارة ميادين الحاجة والعمل والسلوك التي يقتضيها المجتمع والتي لا يكون الإنسان فيها فعلاً منسجماً مع ذاته متحداً مع جوهره الخاص، بل على العكس من ذلك يكون الإنسان فيها تبعياً (heteronomous) متعلقاً بالظروف والحاجات الخارجية. ثم إن ميدان الحاجة قد يكون مصغراً (وهذا ما يقع غالباً). فمفهوم التطور لا ينطبق في الواقع إلا على التقدم الحضاري. ولكن تطوراً كهذا لم يلغ التوتر القائم بين الثقافة والحضارة. بل يحتمل ان يكون قد قوى هذا التفرع الثنائي، لأن الإمكانات الهائلة التي يقدمها التطور التقني تتناقض اكثر فأكثر مع إنجازاتها المحدودة والمشوهة. لأن الثقافة تُدمج بشكل منظم مع الحياة اليومية والعمل، لدرجة أنه يمكننا التساؤل ما إذا كنا نستطيع ان نحافظ على التمييز بين الثقافة والحضارة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الميول المسيطرة في المجتمع الصناعي المتقدم؛ وبشكل اكثر دقة، يمكننا التساؤل ما إذا كان التوتر القائم بين الهدف والوسيلة، بين قيم الثقافة والواقع الاجتماعي، قد أبطله امتصاص الوسائل للأهداف. ألم تنصهر مرة الثقافة والحضارة انصهاراً سابقا لأوانه وقمعيا وعنيفا، انصهارا ساهم في إضعاف القوى التي كانت تنجح في كبح جماح الميول التخريبية؟ إن دمج الثقافة بالمجتمع يجعل المجتمع "تسلطياً" (totalitarian)، ولو أنه لا يزال يحتفظ بأشكال ومؤسسات ديمقراطية. ونستطيع أن نبين على الشكل الآتي بعضاً من العلاقات الضمنية بين الثقافة والحضارة:

ثقافة حضارة
عمل فكري
عمل مادي

يوم راحة
يوم عمل

وقت الفراغ
عمل

ميدان الحرية
ميدان الضرورة

فكر
طبيعة

تفكيرغير عملياتي
تفكير عملياتي






لقد وجدت هذه التفرعات لدى الجامعيين ما يعادلها في التمييز بين العلوم الطبيعية وجميع العلوم الأخرى كالعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، الخ.: إن علوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية وحتى العلوم الإنسانية تتقارب في مناهجها ومفاهيمها. ويُسهل هذا التقارب انتشار التجريبية الوضعية، والصراع ضد كل ما يدعى "ميتافريزقية"، وتطبيق " النظرية الخالصة" تطبيقاً مباشراً، وقبول جميع الأنظمة ترتيباً يتفق مع المصالح القومية والنقابية. ويتفق هذا التغيير في التربية مع التغيرات البنيوية التي طرأت على المجتمع الحالي والتي تطرح مشكلة التفرع الثنائي المذكور آنفاً: إن الحضارة التقنية تميل إلى إلغاء أهداف الثقافة المغايرة (للأهداف الاجتماعية القائمة) وأيضاً إلى إلغاء العوامل أو العناصر الثقافية التي تبدو معاكسة لأشكال الحضارة القائمة أو غريبة عنها. ولا تدعو الحاجة هنا إلى تكرار النظرية القائلة بأن دمج العمل مع الراحة، والزهد مع التسلية، والفن مع تدبير المنزل، وعلم النفس مع إدارة المشاريع، يغير عمل هذه العناصر التقليدي: فهي بذلك تتخذ قيمة "إيجابية" (إثباتية)، أي أنها تساعد على تدعيم نفوذ العالم القائم على الفكر (هذا العالم القائم نفسه الذي جعل منافع الثقافة سهلة المنال بالنسبة للإنسان)، كما أنها تساهم في تعزيز موقف ما هو كائن بالنسبة إلى ما يمكن أو يجب أن يكون. وهذه القضية ليست إدانة: إذ ان احتمالات أوسع للوصول إلى الثقافة التقليدية وخاصة إلى أعمالها الأصلية أفضل من التمسك بامتيازات ثقافية تنعم بها دائرة مغلقة مبنية على الغنى والمحتد. ولكن لكي نحفظ القيمة المعرفية لهذه الأعمال لا بد من موهبة ذكاء ووعي فكري لا يرتبطان بصيغ التفكير والسلوك التي تستوجبها حضارة البلدان الصناعية المتقدمة.

إن تقدم الحضارة في شكلها الحالي ونزعاتها، تتطلب وسائل في التفكير عملياتية أو إجرائية (operationalistic) تحول إلى سلوك معين. وهذه الوسائل قادرة على تقبل العقلية المنتجة للأنظمة الاجتماعية القائمة، وعلى الدفاع عنها وتحسينها. ولكنها غير قادرة على دحضها. بيد ان مضمون هذه الثقافة العليا (الذي غالباً ما كان متستراً) يكمن في معظمه في هذا الدحض: فهي كانت تدين التخريب المؤسسي للقدرات البشرية كما كانت مسؤولة عن المحافظة على أمل تعده الحضارة القائمة طوباوياً وترفضه. صحيح ان الثقافة كانت دائماً في أشكالها العليا ذات طابع تأكيدي، نظراً لأنها كانت بعيدة عن ميدان العناء والبؤس اللذين تكبدهما أولئك الذين كانوا يخلقون المجتمع بعلمهم والذين كانت الثقافة ثقافتهم والذين أصبحت الثقافة بهم أيديولوجيا المجتمع. ولكنها كانت منفصلة عن المجتمع لكونها أيديولوجيا. وهذا الانفصال كان يعطيها الحرية في المعارضة والاتهام والرفض. انّ وسائل الاتصال اليوم كثيرة تقنياً وسهلة جداً، وهي غاية في الغزارة، ولكن مضمونها قد تغيّر.

سأحاول الآن، فيما يخص استبعاد مضمون الثقافة الذي كان معارضاً في الماضي، ان أبرهن ان الأمر لا يتعلق بمثل أعلى رومانطيقي (أيا كان) وقع ضحية التقدم، ولا بدمرقطة الثقافة المتزايد، ولا بتعادل الطبقات الاجتماعية، بل على الأغلب بإغلاق الفسحة الحيوية أمام نمو الاستقلال والمعارضة. ولا أستطيع هنا أيضاً إلا أن ارسم الخطوط الكبرى لهذه المسألة، وسأبدأ بالوضع في الميدان الجامعي.

إن التقسيم بين علوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية (أو علوم السلوك) والعلوم الإنسانية يبدو سطحياً جداً، خصوصاً أن التفريق بين مواضيعها، وفي أضعف الإيمان بين مواضيع العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، مشكوك في أمره إلى أبعد حد. والمشاكل الجامعية في هذا الميدان ليست إلا مرآة تعكس هذا الوضع العام. فهناك في الواقع تقسيم في المادة بين العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، أو بالأحرى بينها وبين ما كان يجب أن تكون عليه العلوم الإنسانية في السابق: أعني بذلك معرفة ظواهر الطبيعة البشرية (humanities) التي لم تترجم بعد في الواقع. والمقصود بذلك خاصة طرق التفكير والتمثيل والتعبير المفارقة (transcendence) غير العملياتية (non operationalistic). فهل يتطلب تحليل المجتمع والتصرفات الاجتماعية، وحتى الفردية منها، في عصرنا هذا ان نتجاهل الطبيعة البشرية؟ وهل يستبعد وضعنا الثقافي ومجموع تصرفاتنا الاجتماعية علوم الطبيعة وهل تغض من شأنها؟ هل تبعدها إلى مستوى العلوم "التي لا تتعلق بالسلوك"، والتي تكون بذلك "غير علمية"، والتي تخص القيم الشخصية والعاطفية والميتافيزيقية والشعرية، والتي لا تصبح "علمية" إلا إذا دونت بكلمات علمانية؟ ولكن العلوم الإنسانية إذا قامت بمثل هذا العمل تتخلى عن ماهيتها وتترك الحقائق غير العلمانية لتتعلق بالقواعد التي تسوس المجتمع القائم. ذلك لأن المقاييس التي تستعملها علوم السلوك هي ذاتها مقاييس المجتمع الذي ترتبط هذه العلوم بدراسة سلوكه.

ولكي أتجنب أي تفسير رومانطيقي خاطئ، أود أن أكرر أن الثقافة كانت دائماً امتيازاً لأقلية صغيرة كما كانت قضية ثروة ووقت وحظ. أما الكتلة الشعبية المحرومة، فقد كانت "القيم العليا" بالنسبة لها دائماً كلمات فارغة أو مواعظ أو أوهاماً مجردة من المعنى، وكانت في أحسن الحالات أمالاً وأمنيات لم تتحقق. ووضع الثقافة المميز جعل من الحفرة التي تفصل بين الحضارة المادية والثقافة الفكرية، وبين الحرية والحاجة، سبباً لإبقاء الثقافة غير العلمية تحت شعار "الميدان الخاص" (reserve domain). لقد كان بمقدور الأدب والفن ان يصلا في هذا الميدان إلى قيم كانت في الحقيقية مرفوضة أو مكبوتة أو محولة إلى مفاهيم ومقاييس تفيد المجتمع. وكان بمقدورهما أن ينقلا هذه القيم كذلك. من هنا استطاعت الفلسفة، الدين، ان تعبر عن ضرورات أخلاقية عالمية غالباً ما كانت تتناقض بوضوح مع أخلاق المجتمع السائدة. من وجهة النظر هذه نستطيع القول إن الثقافة غير العلمية كانت أقل تسامياً من الشكل الذي أخذته في ترجمتها إلى قيم وتصرفات اجتماعية واقعية. وكانت بالتأكيد أقل تسامياً من الأدب الذي لم يكبته عصرنا. ذلك لأن أسلوب هذه الثقافة العليا الموزون والمصقول كان يعبر سلباً عن حاجات الإنسان وآماله غير المشروطة والتي يجسدها الأدب المعاصر مثلما تتحقق في المجتمع، أي مشبعة بأشكال القمع القائمة.

هذه الثقافة العليا ما زالت موجودة. وهي يسيرة المنال اكثر من أي وقت مضى. وهي الآن يقرأها الناس أو يرونها أو يستمعون إليها اكثر بكثير من السابق. ولكن المجتمع أغلق منذ وقت طويل الميادين الفكرية التي تستطيع هذه الثقافة ان تفهم فيها ضمن محتواها الإدراكي الخاص وحقيقتها الأصلية. ان الميول العملياتية في التفكير والسلوك تُبعد هذه الحقائق إلى دائرة الشخصية والذاتية والانفعالية. وهي في هذه الحالة تستطيع ان تتوافق بسهولة مع العلم القائم: فجانب الثقافة المتعالي والنقدي والنوعي يُلغى، في حين يُدمج الجانب السلبي بالإيجابي. وهكذا تفرغ عناصر الثقافة المعارضة: تأخذ الحضارة الثقافة على عاتقها، فتنظمها وتشتريها وتبيعها؛ وتحول الأفكار غير العملياتية أو المرتبطة بالسلوك إلى أفكارا عملياتية تتبع السلوك. وليس هذا التحول عملاً منهجياً وانما تراتب اجتماعي. ونستطيع التعبير عن فعل هذا التراتب الأساسي بالصيغة التالية: إن دمج قيم الثقافة بالمجتمع القائم يلغي انتماء الحضارة إلى الثقافة ويقلل بذلك من التوتر القائم بين "الواجب" و"الكينونة" (وهو توتر تاريخي واقعي)، وبين الممكن والحاصل، والمستقبل والحاضر، والحرية والضرورة.

وينتج عن ذلك ان مضامين الثقافة المستقلة والنقدية تتحول إلى غايات تربوية بناءة ضمن عناصر الانفراج، وتصبح بذلك وسيلة هذا التكيف.

كل عمل أصيل في الأدب والفن والموسيقى والفلسفة يتكلم لغةً شاملة، تنقل أفعالاً وظروفاً تختلف عن تلك التي تنقلها اللغة المبنية على السلوك؛ وهذا ما يفسر وحدة مادتها واستحالة ترجمتها. بيد أن هذه المادة التي تستحيل ترجمتها أصبحت على ما يبدو في طريقها نحو الزوال. إذ أنها تضيع الآن عبر عملية انتقال وتبديل لا تتعرض "للفوبشري" (superhuman) ولا للفوطبيعي (supernatural) (الدين) فحسب، بل لمضامين الثقافة البشرية والطبيعية كذلك (الأدب، الفن، الفلسفة): ذاك ان الصراع العنيف الشديد بين الحب والكراهية، والأمل والخوف، والحرية والحاجة، والسبب والمسبب، والخير والشر، يصبح الآن صراعاً واضحاً وطبيعياً واكثر مرونة، أي أكثر ملاءمة للسلوك.

وليس الأبطال والآلهة والملوك والفرسان، الذين يبكّون عالمهم من عالم المأساة والرواية والأغاني والأعياد، ليسوا وحدهم الذين اختفوا، بل اختفى أيضاً العديدُ من الألغاز التي لم يستطيعوا حلّها، والمعارك الكثيرة التي خاضوها والقوى المتعددة والأهوال التي خضعوا لها. إن نسبة متزايدة من القوى التي لم تقهر (ولا تقهر) تحدّ منها الآن العقلانية التقنية والعلوم الطبيعية والاجتماعية. وأن عدداً كبيراً من المسائل النموذجية أصبحت اليوم تابعة لميدان تشخيص علماء النفس والاجتماع والسياسة وفي متناول علاجاتهم. وإذا كان تشخيص هذه المسائل وعلاجها سيئين، وإذا كان مضمونها الذي ما يزال يحتفظ بصلاحيته مشوهاً أو محجماً أو مقموعاً، فإن ذلك لا يمنع إمكانية حصول هذا التطور الجذري. وبكلمة مختصرة نستطيع القول ان البشرية وصلت إلى مرحلة تستطيع فيها تقنياً أن تبين عالم السلام، عالماً يخلو من الاستغلال والبؤس والخوف. وعندئذ لا بد أن تصبح الحضارةُ ثقافةً.

إن تفكك مادة الثقافة العليا المفارقة على يد التقنية الحديثة سلب منها وسائل التعبير والاتصال الملائمة، وأدى إلى زوال الأشكال الأدبية والفنية التقليدية، وإلى تعريف جديد وعملياتي للفلسفة وإلى تحول الدين إلى رمز تشريعي. وقد وجدت الثقافة في الوضع القائم تعريفاً جديداً لها: إن كلمات الأعمال (الأدبية) التي صمدت، وأصواتها وألوانها وأشكالها بقيت كما هي ولكن معانيها فقدت من جوهرها وصلاحيتها. فالأعمال التي كان تعارضها مع الوضع القائم يثير فضيحة في الماضي أفقدها تأثيرها اتخاذها شكلاً تقليدياً. ولم تحتفظ بطابعها الغريب عن المجتمع لوقت طويل. فالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع تسيطر فيها تجريبية مزيفة تردّ مفاهيمها ومناهجها إلى تجربة الإنسان المحدودة والمقموعة في عالم مشوش، وتنتقص من المفاهيم التي لا تقتفي السلوك وتردها إلى مستوى البلبلة الميتافيزيقية. وهكذا فإن أفكاراً مثل الحرية والمساواة والعدل والفردية كانت قيمتها التاريخية، طيلة الوقت الذي لم تزل فيه مضموناً غير محقق، تكمن في كونها لا تستطيع ان تتناسب مع الواقع القائم. وهذا الواقع لم يكن قادراً على تأييدها لأنها كانت تتنافى مع عمل المؤسسات المنوط بها تحقيقها.

وكانت هذه الأفكار نموذجية غير عملياتية، لا لأنها ذات طابع ميتافيزيقي وغير علمي فحسب، وإنما لأن المجتمع كان مؤسساً على العبودية وعدم المساواة والظلم والتسلط. وتميل وسائل التفكير والبحث المعمول بها في الثقافة الصناعية المتقدمة إلى مطابقة المفاهيم النموذجية وتحقيقها الفعلي في المجتمع؛ أو هي تأخذ قاعدتها من الطريقة التي تتحقق فيها هذه المفاهيم في الواقع. وهي كذلك تكتفي في أفضل الحالات بتحسين هذه المطابقة. أما ما لا يمكن مطابقته (نقله إلى الواقع) فإنها تعده ضرباً من النظريات البالية.

إن التناقض واضح بين الأصل والنقل، وهو جزء من تجربتنا اليومية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الصراع بين الممكن والواقع يصبح اكثر حدة مع التقدم الصناعي ومع إمكانيات المجتمع المطردة في التغلب على التفاوت والخوف والأعمال القاسية. ولكن هذا التقدم نفسه وتطبيقاته تضع حاجزاً أمام فهم أسباب هذا الصراع وفرص حله (فرص تهدئة الصراع من أجل الحياة)، أكان هذا الصراع فردياً أم اجتماعياً، ضمن إطار الأمة أم على الصعيد العالمي. ففي ميادين الثقافة الأكثر تطوراً، يضاعف الإنتاج الفائض للنظام القائم رغبات الشعب ويشبعها بواسطة إدارة شاملة تسهر على جعل حاجات الأفراد حاجات تقوي النظام وتديمه. إن الأسس المعقولة لتغيير نوعي تتلاشى فتتلاشى معها الأسس المعقولة لبناء حضارة قد تصبح ثقافة.

إذا كان تبدل العلاقة بين الثقافة والحضارة نتاج المجتمع التقني الجديد، وإذا كان بقاء هذه العلاقة متعلقاً دوماً بهذا الأخير، فإن تعريفاً ثانياً وجديداً (للثقافة)، مهما كانت طريقة معالجته، يبقى أكاديمياً لأنه سيذهب في اتجاه معاكس للنزعات المسيطرة. ولكن، هنا أيضا يمكن لُبعد الجهود النظرية ونقائها وضعفها الجلي أمام الواقع أن تتحول إلى مصدر قوى إذا لم تتخل عن تجريدها بالخضوع إلى الوضعية والتجريبية المخادعة. ذلك لأن هاتين الطريقتين في التفكير ترتكزان على تجربة ليست في الواقع الا قطاعاً هزيلاً من التجربة عُزل عن العوامل والقوى التي تحددها. إن اندماج الثقافة الإداري في الحضارة هو نتيجة الاتجاه المعاصر للتطور العلمي والتقني، وهو نتيجة خضوع الإنسان والطبيعة المطرد لقوى تنظم هذا الخضوع وتستغل ارتفاع مستوى المعيشة لأجل ترسيخ نمطها في الصراع من أجل الحياة ولأجل تخليده.

وتتجلى فعالية هذا النظام اليوم في تعبئة الرجال بشكل دائم لاحتمال وقوع حرب نووية وفي تعبئة النفوس بالعداء والكراهية التي تغدو ضرورة اجتماعية ضمن أشكال الحقد الذي يولده الصراع من أجل البقاء في "حضارة الرخاء". هذا هو العالم الذي يحدد التجربة في ميادين الحضارة الصناعية الأكثر تقدماً والذي يحدها بحجب البدائل الحقيقية وغير الطوباوية. هناك البدائل النوعية، لان تهدئة النزاع من أجل الوجود وإعادة تعريف العمل كتحقيق حر لحاجات الإنسان وقدراته، لا تستلزمان وجود مؤسسات مختلفة جوهرياً فحسب، بل تتطلبان كذلك رجالاً تغيروا تغيراً جذرياً، رجالاً ليسوا ملزمين بعمل مستلب لكسب قوتهم. في شروط كهذه، يعني تحول اتجاه التقدم الموجود تبدلاً أساسياً في المجتمع. ولكن لكي يتحقق التبدل الاجتماعي يفترض ان توجد حاجة حيوية له وان يمر الإنسان في تجربة الحلول الأخرى والظروف التي لا تطاق. وهذه الحاجة وهذه التجربة هما بالضبط ما يمنع نمو الثقافة. وليكون بمقدورهما التحرر لا بد من إعادة بناء البعد الثقافي الضائع، هذا البعد الذي كانت سلطة المجتمع الشمولية تحافظ عليه من قبل: ذلك لأنه كان يكون البعد الفكري للاستقلال.

إن التربية وفق أساس الاستقلال الفكري والفردي تبدو هدفاً معترفاً به عالمياً. والأمر هنا يتعلق في الواقع بمنهاج مخرب يتضمن انتهاكاً لبعض أقوى المسلمات الديمقراطية "المقدسة". ذلك لأن الثقافة الديمقراطية المعمول بها تشجع التبعية تحت غطاء الاستقلالية، وتعرقل تفتح الرغبات (والحاجات) متظاهرة بتشجيعها، وتقّيد الفكر والتجربة بحجة توسيعهما ونشرهما إلى ما لا نهاية. إن معظم الناس ينعمون بحرية التصرف عندما يتعلق الأمر بالبيع والشراء، بالبحث عن عمل أو اختيار عمل آخر. وهم أحرار في تحركاتهم ويستطيعون ان يعبروا عن آرائهم. ولكن أراءهم لا تذهب في أية لحظة إلى أبعد من النظام الاجتماعي القائم الذي يحدد لهم حاجاتهم واختياراتهم ومواقعهم. إن الحرية نفسها تعمل هنا كوسيلة حصر وتصويب. وتلازم هذه الميول القمعية (والرجعية) تحّول المجتمع الصناعي إلى مجتمع تقني، وذلك تحت شعار المسؤولية الكاملة عن الإنسان. وتصيب هذه التحولات المتلازمة في طريقة العمل وذهنية الشعب وعمله السياسي، أسس الديمقراطية إصابة بالغة. وسنكتفي هنا بسرد بعض الظواهر المعروفة.

لابد بادئ الأمر من ملاحظة سلبية الناس المتزايدة أمام الجهاز السياسي والاقتصادي الموجود في كل مكان، وخضوعهم لإنتاجه الغزير و "لفوقيته"، ووجود حاجز بين الأفراد وينابيع السلطة والإعلام التي تحول الناس إلى أشياء مشوشة. إن حاجات المجتمع القائم تتحول إلى حاجات فردية ويصبح السلوك والرغبات التي فرضها المجتمع تلقائية. ولا تتطلب هذه المعادلة العامة في مراحل التطور الأكثر تقدماً أي لجوء إلى الإرهاب أو إلى إلغاء قواعد اللعبة الديمقراطية.

على العكس من ذلك، فإن الرؤساء المنتخبين يخضعون شيئاً فشيئاً إلى ناخبيهم الذين يمثلون رأياً عاماً مكوناً بدوره من المصالح السياسية والاقتصادية الغالبة. وسلطتهم كما يبدو هي سلطة العقلانية الإنتاجية والتقنية. والناس يقبلون بها ويدافعون عنها لأنها كذلك، فيجعلون منها قضيتهم المشتركة. وينتج عن ذلك ولادة روابط عامة ومتبادلة من التبعية تحجب الطبقية الحقيقية. وهكذا نرى ان التبعية المتعددة الجوانب مقبولة تحت ستار العقلانية التقنية وعبر أشكال الحريات والتسهيلات التي يقدمها "مجتمع الرخاء". إن خلق (أو إعادة خلق) ملجأ للاستقلالية الفكرية في مثل هذه الظروف لا يمكن إلا أن يأخذ شكل تراجع وعزلة واعية وأن يؤدي إلى ولادة "نخبة مفكرة". وغني عن البيان أن عملية إعادة تعريف الثقافة في حالة حصولها تسير ضد ميول معروفة جيداً. وهي تحرر الفكر والبحث والتعليم والدراسة من مجموعة القيم والتصرفات الموجودة؛ كما أنها تكون مناهج ومفاهيم قادرة على ان تتخطى عقلانياً إطار القيم والأعمال القائمة. وهذا يعني بالنسبة للعلوم الجامعية انتقال محور أعمالها إلى النظرية "الصرفة"، أي في اتجاه العلوم الاجتماعية، والعلوم السياسية، وعلم النفس والفلسفة النظرية، الخ، وكلها علوم تجريدية. وتكون النتائج أكبر في مجال تنظيم التربية: فهذا الانتقال يتسبب في خلق جامعات "للنخبة". ويكون أحد شروط إنشائها الأولى الاستقلال المالي: فالقضية اليوم قبل كل شيء قضية الدعم المادي ومصادره.

فأي مشجع للعلوم لا يستطيع بمفرده وبشكل شخصي ان يمول تربية يُقدَّر لها ان تهيئ ولادة سلم من القيم والقوى مختلفة نوعياً. ولا تستطيع تربية كهذه إلا أن تكون ربيبة حكومة تنوي (وتقدر) أن تواجه بها التيار السياسي القائم. ويكفي ان نصوغ هذا الشرط حتى نتبين مدى طوباويته.

ثم إن فكرة وجود جامعة مخصصة للنخبة المثقفة مرفوضة اليوم لكونها ضد الديمقراطية، على الرغم من أن ما يشدد عليه هو صفة "المثقفة"، وأن مفهوم "النخبة" يعني ان مجموعة من طلاب المدارس والمعاهد يجري انتقاؤها وفق مقياس الجدارة، أي وفق ميلهم للتفكير التجريدي واستعدادهم له. هذه الفكرة هي في الواقع ضد الديمقراطية، في حال اعتبرنا ان ديمقراطية الشعب، بما فيها نظامها التربوي، هي في توافقها مع أشكال الحرية والمساواة الممكنة تاريخياً. ولا اعتقد أن هذا ينطبق على حالتنا. فالفكر السلوكي والموضوعي السائد حالياً لا يعمل في الغالب إلا لينتزع من الفكر البشري جذور الاستقلال الذاتي، هذا الاستقلال الذي يعني اليوم (كما في السابق) وجود بعد نقدي بين الفرد وعالم التجربة القائم. ويفقد الطالب بفقدان ان نقد التجربة هذا، الوسائل والأدوات الفكرية التي تسمح له بفهم مجتمعه وثقافته من خلال الاستمرارية التاريخية التي يحقق فيها هذا المجتمع، أو يشوه أو يرفض، إمكاناته الخاصة ومستقبله.

إن الاحتجاج ضد السلوكية الخانقة يوجد بشكل غير عقلاني في المدارس الفلسفية العديدة كالوجودية والماوراء نفسية واللاهوتية الجديدة. وكلها تعارض الميول الموضوعية. ولكن معارضتها مشكوك في أمرها ووهمية. فهي تساهم بدورها في انحلال الفكر الناقد.

فمفاهيم الفكر الناقد هي في الوقت ذاته فلسفية واجتماعية وتاريخية. وهي بفضل هذا التفاعل ونظراً لسيطرتها المتزايدة على الطبيعة والمجتمع، تكون حوافز الثقافة الفكرية: فهي تقدم إمكانية فكرية قد تستطيع أن تصل إلى خلق مشاريع تاريخية جديدة واحتمالات جديدة للحياة. هذا البعد النظري للفكر يحطم اليوم بشكل منظم. وإذا كنا نشدد هنا على عودة هذا البعد وتوسيعه فلأن ثقافتنا ولدت وتحددت حتى في ظواهرها الأكثر عملية مع العلم والفلسفة والأدب، وذلك قبل ان تصل إلى نضوجها وتصبح واقعاً منظماً.

إن إعادة تنظيم الثقافة التي تكلمت عنها في الصفحات السابقة تنال من موقف العلم أيضاً. وأنا استعمل قصداً عبارة "تنظيم" البشعة في هذا السياق لأن الثقافة أصبحت موضوع تنظيم. وما انتزاع الثقافة من الإدارة القائمة إلا إعادة لتنظيمها وإخلالاً به. يجب الا يقيم دورُ العلم في الثقافة القائمة بناءً على الحقائق العلمية وحدها (من غير المعقول إنكارها أو الإنقاص من قيمتها)، ولكن بالاستناد إلى تأثيرها على وضع الإنسان كذلك. فالعلم مسؤول عن تطور الإنسان: ولا تقع المسؤولية الأخلاقية والفردية على العالم بحد ذاته، ولكن على عمل المنهج وعلى المفاهيم العلمية نفسها. ويجب ان لا يُفرض على العلم أية غائبة (teleology) ولا أي هدف غريب عنه: فالعلم له أهدافه التاريخية المتأصلة فيه التي لا يمكن لأية "علموية" (scientism) أو حيادية أن تحل محلها.

والعلم هو نشاط فكري، وهو قبل أي تطبيق عملي وسيلة للصراع من أجل الحياة، صراع الإنسان مع الطبيعة وصراع الإنسان مع بني الإنسان. ونظرياته الكبرى ونماذجه وتجريداته هي وليدة هذا الصراع. فهي تسبق أو تحفظ أو تبدل ظروف هذه المعركة. ومن الممكن القبول بأن هدف العلم الحقيقي هو تحسين هذه الظروف، ولكن في هذه الحال يكّون العلم نفسه والحقيقة قيماً. وقد سلمنا بهذه القمعية عندما تكلمنا على "الحضارة"- التي اعتبرناها تطبيقاً تراتبياً لها ومرهقاً. وقد لعبت هذه القيمة دوراً أساسياً في العلاقة بين العلم والمجتمع وزادت إمكانيات العلم المادية في الصراع من أجل الحياة. فنظرية غاليليو الداعية إلى مفهوم للطبيعة تجهل الأهداف الموضوعية، والى انتقال البحث العلمي من "اللماذا" إلى "الكيف". ومن النوعية إلى الكمية، واستبعاد أي ذاتية لا تحدد من العلم، هذا المنهج كان الشرط الأساسي لأي شكل من أشكال التقدم المادي والتقني المعروف منذ القرون الوسطى. به نشأت مفاهيم الإنسان والطبيعة العقلانية وهو الذي ساهم في خلق الظروف الملائمة لولادة مجتمع عقلاني، وساعد في الوقت ذاته على تطور وسائل التدمير والسيطرة (العقلانية)، أي الوسائل التي تمنع البشرية من تحقيق ذاتها. إذ ان التدمير كان منذ البدء مواكباً للبناء، وكانت الإنتاجية مرتبطة باستعمالها لغايات قمعية، وكان السكون (أي عدم الإنتاجية يعتبر عدواناً).

وليست مسؤولية العلم المزدوجة هذه وليدة الصدفة: فالعلم في شكله المحدد والطبيعة في كمياتها المحسوبة (أي كعالَم رياضيMathematical Universe ) هما "محايدان" مستعدان لتقبل جميع الاستعمالات والتحويلات. وليسا محدودين إلا بحدود المعرفة العلمية ومقاومة المادة الخام. ويمكن للعلم من جراء هذا الحياد أن يُستعمل لخدمة غايات المجتمع وأن ينمو في كنفه.

وهذا المجتمع يصل إلى إخضاع الطبيعة من خلال إخضاع البشر، والى استثمار المصادر الطبيعية والفكرية من خلال استثمار الإنسان، كل هذا يتم في أشكال عدوانية وقمعية على جميع الأصعدة الفردية والوطنية والعالمية. ولكن العلم نفسه وصل إلى مرحلة من المعرفة والإنتاجية تضعه في موضع التناقض مع هذه الحالة: فالعقلانية العلمية "الصرفة" تدرك إمكانية محو العوز والظلم من العالم اجمع إدراكاً واقعياً. ولا يعني هذا العودة بالعلم إلى الوراء أو تحجيم دوره، بل تحريره من الأسياد الذين ساهم هو نفسه في تنصيبهم. وليس هذا التحرير حدثاً خارجياً لا يمس هيكلية المؤسسة الصناعية: فهو يتعلق بالمنهجية العلمية نفسها وبتجربة الطبيعة وإسقاطها العلميين. وللعلم وظيفة جديدة في المجتمع العقلاني والإنساني، وهي وظيفة قد تدعو إلى إعادة تنظيم المنهجية العلمية، ليس بالعودة إلى فلسفة الطبيعة النوعية (أي فلسفة ما قبل غاليليو)، بل بتحديد الأهداف الجديدة تحديداً علمياً، ينجم عن تجربة جديدة للإنسان والطبيعة. وهذه الأهداف تتوافق مع سلام البشرية العام.

ولكن لا بد من التساؤل عما إذا كان العلم قد فقد في "مجتمعات الرخاء" مقدرته على التحرير، وإذا كان في بحثه عن التدمير والتضليل قد عزَّز الصراع من أجل الحياة بدلاً من تلطيفه. ويصبح بذلك التمييز بين العلم والتقنية مشكلة. فإذا كانت اكتشافات الرياضيات الأكثر تجريدية واكتشافات الفيزياء النظرية تلبي حاجات شركة الـ (IBM) ولجنة الطاقة النووية (الأمريكية)، فإن الوقت قد حان للتفكير في أن احتمال وقوع هذا الاستعمال مرتبط بمفهوم العلم بحد ذاته. نحن لا نفر من هذا الواقع إذا فصلنا بين العلم الصرف وتطبيقاته واتهمنا هذه الأخيرة فقط: ذلك لأن "صفاء" العلم بحد ذاته هو الذي سهًّل دمج البناء والتدمير، الإنسانية والبربرية، كلما تطورت سيطرة الإنسان على الطبيعة. ومن المستحيل على أي حال وضع ميول العلم الهدامة مع ميوله البناءة كما يستحيل، ضمن ميدان البحث العلمي العام، التمييز بين القطاعات والمناهج والمفاهيم التي تتلاءم والحياة، والأخرى التي تؤدي إلى دمارها. فكلها تبدو متماسكة بروابط داخلية متينة. وقد خلق العلم ثقافته الخاصة، هذه الثقافة التي تستوعب جزءاً كبيراً من الخطوة. ومفهوم "الثقافتين" الذي يتكلم عنه سنو (G. P. Snow)هو مخادع ولكن محاولة الدفاع عن الظروف الحالية لتوحيدها خطأ أكثر فداحة.

إن للثقافة غير العلمية (وسأكتفي بوجهها الأدبي) لغتها الخاصة التي تختلف عن لغة العلم اختلافاً جوهرياً، فلغة الأدب هي لغة أخرى (متفوقة، مجاوزة) لا تنتمي إلى عالم الكلام الذي يدل على الأشياء الموجودة دلالة مباشرة. فهي تدلنا على "عالم آخر" يخضع لمقاييس أخرى ولقيم أخرى ولمبادئ أخرى. وهذا العالم الآخر يظهر في العالم القائم ويدخل في الاهتمامات اليومية وفي التجربة مع أنفسنا ومع غيرنا وفي المحيط الاجتماعي والطبيعي. ومهما يكن الأمر فإن الفارق بين هذين العالمين، يجعل من الأدب عالماً مختلفاً تماماً: وهذا الفارق يكمن في كونه نفياً للحقيقة القائمة. ولما كان العلم قد أصبح جزءاً لا يتجزأ من هذه الحقيقة، بل بالأحرى أجد عناصرها المحركة، فإن الأدب هو نفي للعلم كذلك.

ولا يوجد في الأدب الغربي الأصيل ما يقربه من الواقع العلمي حتى ولا في أعمال اميل زولا، فمجتمع الإمبراطورية الثانية الذي يقدمه هذا الروائي هو في الحقيقة نفي لواقع هذا المجتمع.

إن الهوة التي تفصل اليوم بين الثقافة العلمية والثقافة غير العلمية يمكن أن تحمل نتائج جسيمة. فحياد العلم الصرف اضر به وجعله عاجزاً عن رفض التعاون من أصحاب نظريات التدمير والاستغلال الرسميين ومع الذين ينفذونها. وقد يحمي انكماشُ الثقافة غير العلمية على نفسها الملاذ الأخير الذي تلجأ إليه حقائق وصور منسية أو مكبوتة. وإذا كان المجتمع اليوم يتقدم (بوسائل علمية) نحو تعادل وإدارة كاملين، فإن استلاب الثقافة غير العلمية يصبح الشرط الأول لأي معارضة ولأي رفض. فإذا اطلع شاعر أو كاتب أو فقيه على النظرية الثابتة في الديناميكا الحرارية (thermodynamics) أو على قوانين انكسار الأشعة فهذا يتعلق بهم ولا يمكن أن يلحق بهم الضرر.

ولكن هذا لن ينفعهم البتة فيما يريدون قوله. فالطبيعة، كما يراها أساتذة العلوم الكمّوية (quantified sciences)، ليست هي الطبيعة بحد ذاتها (بوجه شامل) و"بناء العالم المحسوس بناء علمياً" ليس "في عمقه الفكري وتعقيده وهندسته عمل الإنسان الفكري المشترك الذي لا يضاهي جمالاً وروعةً".

ويبدو لي أن ميادين الأدب والفن والموسيقى هي إلى حد كبير اكثر جمالاً وروعة. ولا أظن أن القضية تتعلق بالذوق فقط. فعالم الثقافة غير العلمية هو عالم ذو أبعاد متعددة يتتبع فيها كل موضوعية الإنسان الفرد. إن التواضع العلمي يخبئ غالباً استبدادية مثيرة للقلق وميلاً إلى إبعاد أي طريقة غير علمية في التفكير العقلاني إلى ميدان الشعر والخيال.

وإذا كنت قد رجعت إلى ذكر "الثقافتين" فلأن الأساس فيه على ما يبدو لي ليس سوى حض على الامتثالية (conformist) تحت ظاهر العقلانية العملية. ومن الممكن ان يكون توحيد الثقافة العلمية والثقافة غير العلمية أو إعادة توحيدهما شرطاً أولاً لكي يتفوق على نفسه المجتمع المجند كلنا من أجل الدفاع أو القمع الدائمين، ولكن تقدماً كهذا لا يمكن أن يحصل إلا في إطار ثقافة الدفاع والقمع القائمة فعلاً، والتي يدعمها العلم بطريقة فعالة. ولكي يحصل هذا التقدم لا بد من أن يتحرر العلم من جدلية السيد والعبد التي تحول استعباد الطبيعة إلى وسيلة استغلال وتخلد الاستغلال في أشكال "عليا". إن الثقافة تحافظ أمام تحرير العلم هذا على فكرة الأهداف التي لا يستطيع العلم وحده ان يعرفها، أعني بخاصة هدف الأنسنة، ومن الواضح ان توجيه العلم وجهة جديدة يتطلب تبدلات اجتماعية وسياسية، أي بناء مجتمع مختلف كلياً، يستطيع في سبيل بقائه ان يتخلى عن بعض المؤسسات مثل الدفاع (عدوانياً كان أم قمعياً). ولا يمكن أن يكون إعداد مثل هذا التغيير في إطار المؤسسات الموجودة إلا سلبياً، اعني بذلك التخفيف من القهر (الإكراه - الإلزام) الهائل الذي يمارس على وسائل التفكير غير الامتثالية والنقدية والمفارقة حتى يمكن مقاومة احتكار ما يسمى بالتجريبية السلوكية.

وإذا كان كانط (Kant) محقاً في قوله إن التربية يجب ألا توضع في سبيل المجتمع الحاضر وإنما في سبيل مجتمع أفضل، فإن أحد مستلزمات التربية (وربما أهمها) سيتكون من تغيير مكانة العلم في الجامعات وفي ميدان "البحث والتنمية" بكامله. إن الدعم المادي الكريم الذي تنعم به اليوم علوم الطبيعة لا يهدف فقط إلى تشجيع البحث والتنمية لما فيه فائدة البشر، بل هو يخدم كذلك غايات مناقضة. وبما أن هذا المزيج من العناصر المتناقضة لا يمكن ان يحد منه في نطاق النظام الاجتماعي القائم، فإنه من الممكن أن نحصل على تقدم محدود في ممارسة سياسة تميز بين الدعم والأولويات. غير أن سياسة كهذه تفترض وجود حكومات ومؤسسات مستعدة (وتملك ما يكفي من قوة) للحد بشكل صارم من القطاع العسكري. وهذا افتراض لا ينعم بكثير من الواقعية. ويمكن التفكير بإنشاء ميدان جامعي مستقل، يجري فيه البحث العلمي بشكل منفصل عن الغايات العسكرية، ويُعهد بتنظيم نتائجه والسهر على سيرها ونشرها إلى مجموعة من العلماء تشغلهم فكرة الأنسنة. ويوجد كثير من الجامعات والمعاهد التي ترفض قبول بحث ترعاه الدولة ويتعلق ببرامج عسكرية، فمن الممكن أيضا أن تشجع، ليس فقط المؤسسات التي تبدي مثل هذا التحفظ، بل تلك التي تساعد بنشاطِ نشر لملفات حول استعمال العلم استعمالاً تعسفياً يخدم أهدافاً غير إنسانية.



ترجمة: د. بسّام بركة

--------------

[1] مع ملاحظة التقيد بالمعنى الاصطلاحي لهذا اللفظ في التحليل النفسي. وهو لفظ يشير إلى حيلة دفاعية تفرغ بها الطاقات الغريزية في أشكال سلوكية من النشاطات غير الغريزية، بحيث تشتمل على عناصر اجتماعية. يعتبر مثلا حب المعرفة نوعا من التسامي بولع النظر والتطلع، حيث انه حب استطلاع ولكنه موجه نحو موضوع غير جنسي، ولذته غير جنسية.

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:20 PM

17 - إيريك فروم

ولد أريك فروم (Erich Fromm) لعائلة يهودية تقليدية (Orthodox) في مدينة فرانكفورت الألمانية في عام 1900. التحق بجامعة فرانكفورت وهايدلبيرغ حيث درس فيها العلوم الاجتماعية والنفسية والفلسفية. وحاز من الأخيرة على درجة الدكتوراه، وكان موضوع أطروحته: " Jewish Law: A contribution to the sociology of Jewish Diaspora " (القانون اليهودي: مساهمة في علم اجتماع الشتات اليهودي) كما تلقى تدريباً عملياً مكثفاً في مجال علم النفس التحليلي في ميونخ وبرلين والولايات المتحدة الأمريكية. وإضافة إلى ممارسته التطبيقية للتحليل النفسي، عمل فروم محاضراً في نخبة من الجامعات الأمريكية الشهيرة. توفي في سويسرا عام 1980.

تعتبر كتابات فروم محاولة جادة لدراسة السلوك الإنساني على ضوء التوفيق بين مقتضيات كل من المنهجين الفرويدي، والذي يرتكز أساساً على دراسة الفرد وبنائه النفسي، والماركسي والذي يرتكز بالدرجة الأولى على دراسة المعطيات الاقتصادية. ففي مقالة له حملت عنوان: " The application of Psychoanalysis to Sociology of Religious Studies " يرى فروم، على سبيل المثال، ان إسهام كل من المنهجين النفسي والاجتماعي-الاقتصادي مُجتَمِعَيْن يمكن من إدراك العلاقة بين المضامين المعنوية (النفسية) والمضامين المادية (الاقتصادية) للتطور الإنساني. وفي سعيه لإحكام صياغة منهجه الجديد، نرى فروم يأخذ على فرويد معالجته لمسألة التكوين الغريزي وعلاقة ذلك بالسلوك الإنساني. وبتأثر واضح بالمنهج الماركسي يعتقد فروم ان المحدد الأساسي للسلوك ليس التكوين الداخلي الغرائزي للفرد وإنما الظروف والمؤثرات المحيطة به.

من أهم كتابات فروم: الهروب من الحرية (Escape from Freedom) 1941، الإنسان لنفسه (Man for Himself) 1947، المجتمع السليم (The Sane Society) 1955، فن الحب (The Art of Loving) 1956، قلب الإنسان (The Heart of Man) 1964، وأخيرا ثورة الأمل (The Revolution of Hope) 1968.



فروم: مختارات من "ثورة الأمل - نحو أنسنة التقنية"


1: مفترق الطرق
ثمة شبح، لا يتبينه بوضوح إلا عدد قليل من بيننا، يتقدم بخطى سريعة. فهو ليس ذلك الوهم القديم من الشيوعية أو الفاشستية. إنه شبح جديد: مجتمع ممكن تمام الإمكانية، خاضع للإنتاج في أعلى درجاته وللاستهلاك وموجه بالنواظم الآلية. والإنسان في هذا السياق الاجتماعي آخذ في التحول الآن، إلى دولاب في الآلة الكبرى، يُغذى ويُسلى جيدا، لكنه مع ذلك، سلبي، ومن الناحية الانفعالية لا حياة فيه، وبانتصار هذا المجتمع الجديد سوف تختفي الفردانية والحياة الخاصة؛ وسوف تقولب المشاع إزاء الغير وفقاً للتكيف السيكولوجي ولوسائل أخرى، أو أيضا، بعقاقير تيسر كذلك نوعا جديدا من التجربة الاستبطانية. وكما يبين زبينيو برزيزنسكي: "في مجتمع التقالكتروني"[1] يميل المرء إلى التجانس مع ملايين المواطنين المتغايرين، بسهولة تحت تأثير سلطان شخصيات قوية وجذابة تستخدم بفعالية آخر ما وصلت إليه تقنية المواصلات لتحكم الانفعالات وتشرف على العقل"[2]. وقد تنبأ جورج أورويل وألدوس هاكسلي في 1984 وفي أفضل العوالم بهذا الشكل الجديد للمجتمع.

لعل أشد ما يقلق اليوم في وجه هذا المجتمع هو فقدان المراقبة لنظامنا الخاص. فإننا لم نعد ننفذ إلا قرارات ناظماتنا الآلية؛ ولكن، بوصفنا كائنات بشرية، لا هدف لنا إلا الإنتاج والاستهلاك أكثر فأكثر. ولسنا بقادرين على أن نريد أمرا ما أكثر من أن لا نريد شيئا بالنظر إلى أننا مهددون من الأسلحة النووية وبالشلل من السلبية التي يولدها استبعادنا للقرارات المسؤولة.

كيف حدث ذلك؟ كيف غدا الإنسان وهو في الذروة نفسها من انتصاره على الطبيعة، السجين لابتكاره الخاص، وكيف تعرض لخطر تدمير نفسه بنفسه؟

إن الإنسان في بحثه عن الحقيقة العلمية، قد نظم من المعارف ما كان في وسعه استخدامه من أجل السيطرة على الطبيعة. إنه حصل على نجاحات هائلة. لكنه بإصراره على التقنية وعلى الاستهلاك المادي وحدهما فقد الاحتكاك بنفسه هو وبالحياة. ولما لم يعد حريصا إلا على التقنية وعلى القيم المادية، فَقَدَ، ليس فحسب الإيمان الديني والقيم الإنسانية، بل والقدرة كذلك على الإحساس بالانفعالات العميقة وبالفرح وبالحزن اللذين يرافقانها. وأصبحت الآلة التي بناها من القوة بحيث ولدت برنامجه الخاص وهي التي تحدد، الآن، فكر الإنسان نفسه.

إن أخطر أعراض نظامنا، حاليا، هو أن الاقتصاد يتعلق بإنتاج التسلح (دون النظر إلى المحافظة على العدد الإجمالي للدفاع) وبمبدأ الاستهلاك الأقصى. ويسير النظام الاقتصادي، فعلا، على شرط أن ينتج المواد التي تهددنا بالتدمير المادي وبتحويل الفرد إلى مستهلك سلبي وبخنقه إذن، وأخيرا، بخلق بيروقراطية نكون حيالها عاجزين.

فهل نواجه معضلة فاجعة ولا حل لها؟ أيجب علينا أن ننجب مرضى ليكون لنا اقتصاد سليم وهل اننا لا نستطيع استخدام مواردنا المادية ومخترعاتنا ونظماتنا الآلية، لغايات إنسانية؟ وهل يجب أن يكون الأفراد سلبيين وتابعين لكي يتاح السير الحسن للتنظيمات القوية؟

إن الأجوبة على هذه الأسئلة تتباين. فبين أولئك الذين يعترفون بالتبدلات الراديكالية والثورية التي يمكن أن يقود إليها "الـتعاظم المكني" في حياة الإنسان، يقف الكتاب الذين يدعمون الرأي القائل بأن المجتمع الجديد أمر محتوم وأنه إذن من العبث مناقشة مزاياه. وهم، في الوقت الذي يؤيدون فيه تماما المجتمع الجديد، يفحصون بعض الهواجس فيما يتعلق بنتائجه على الإنسان كما نعرفه. ويمثل هذا الاتجاه زبينيو برزيزنسكي وهـ. كاهن وبالمقابل يصف "جاك إيللول" بحمية، في التقنية أو مجازفة العصر، المجتمع الجديد الذي نقترب منه وتأثيره التدميري، انه سيتصدى للشبح ولنقصان إنسانيته الرهيب. ويخلص إلى القول بأن المجتمع الجديد ليس مؤهلا بالضرورة للانتصار، لكنه يظن، بعبارات الترجيح، أنه قد ينتهي إلى التغلب على مصاعبه. إلا أنه يتأمل في إمكانية للحيلولة دون انتصار المجتمع اللابشري: كان يجب أن "يزداد عدد الرجال الواعين للخطر على الحياة الشخصية والروحية الذي يمارسه مجتمع التكنولوجيا وأن يقروا تأكيد حريتهم بقلب مجرى هذا التطور"[م‌ا‌1] [3]. ويكاد موقف لويس مومفورد أن يكون شبيها بموقف إيللول. ففي كتابه الرائع والعميق: "أسطورة الآلة"[4]. يصف مومفورد "الـتعاظم المكّتبي" منذ ظاهرته الأولى في المجتمعات المصرية والبابلية. إن أكثرية الرجال، سواء أكانوا في قمة السلم أو كانوا مواطنين عاديين، لا يرون شبحا، قادما، وهو يتميز عن الكّتاب الذين أشرت إليهم من قبل حيث منهم من يتعاطف معه أو ينظر إليه بكره. فهم يخلدون اعتقاد القرن التاسع عشر الذي مضي أوانه، والقائل بأن الآلة سوف تساعد على تخفيف عبء الرجل وانها سوف تبقى وسيلة من أجل غاية؛ وأثناء هذا لا يرون الخطر: لو كان يؤذن للتكنولوجيا بمتابعة منطقها الخاص لنمت بما يشبه نمو السرطان، ولجازفت بتهديد النظام المركب للحياة الفردية والاجتماعية. والموقف المتخذ في هذا المؤلف[5] قريب من حيث المبدأ من موقف مومفورد وإيللول.

قد يختلف عنه في الحدود التي ألمح فيها مزيدا من الإمكانيات لإرجاع الإشراف على النظام الاجتماعي إلى الرجل. والآمال في هذا الصدد مبنية على العوامل التالية:

1. يمكن فهم النظام الاجتماعي الحالي فهما أفضل إذا نحن أعدنا ربط النظام الـ "إنسان" بجملة النظام الاجتماعي-الاقتصادي. فالطبيعة البشرية ليست تجريداً لا ولا نظاما طيعاً للغاية، وإذن يمكن إهماله، ديناميكياً. وإنما لها صفاتها النوعية وقوانينها وبدائلها. لذلك فإن دراسة نظام الـ "إنسان" تتيح لنا أن نرى، من جهة، أثر بعض عوامل النظام الاجتماعي-الاقتصادي على الإنسان، ومن جهة أخرى، إلى أي حد تكون اضطرابات نظام الـ "إنسان" مولدّة للاختلالات في جملة النظام الاجتماعي. وبإدخالنا العنصر الإنساني في تحليل النظام الإجمالي نصبح أفضل استعداداً لإدراك سيره السيء؛ وسوف نستطيع، على هذا النحو، تحديد الضوابط التي تحكم انتظام العمل الاقتصادي في النظام الاجتماعي، في سبيل رفاه أمثل للناس الذين يشاركون فيه. وكل هذا ليس مقبولاً، بالطبع، إلا إذ اتفقنا على التفكير بأن التطور العضوي للنظام البشري، هو وظيفة لبنيته الخاصة؛ أي أن الرفاه البشري هو الهدف الأساسي.

2. إن عدم الرضى المتزايد، الناتج عن طريقة الحياة الحالية وعن كل ما تولّده من: سلبية وسأم صامت وانعدام الحياة الخاصة، وضياع الشخصية من جهة، والتطلع، من جهة أخرى، إلى حياة سعيدة وزاخرة بالمعنى، تتجاوب مع الحاجات النوعية، التي نمّاها الإنسان على مدى آلاف السنين الأخيرة من تاريخه والتي تميزه، في آن واحد، عن الحيوان، وعن الناظم الآلي. هذا الاتجاه هو الأقوى، إذ أن القسم الذي يملك كل ما يحتاجه الأهالي، المنتفع باكتفاء مادي شامل، قد أكتشف، على هذا النحو، بأن فردوس المستهلك لا يوفر له الرضى الذي كان يعد به. (ومازال الذين لا يملكون ما يحتاجونه لم يحصلوا بعد، بالطبع، على الإمكانية لتحقيق ذلك، إلا أنه يلاحظ فقدان الفرح لدى أولئك "الذين يملكون كل ما يستطيع رجل أن يريده").

لقد فقدت الأيديولوجيات والمفاهيم كثيراً من جاذبيتها. والكليشيهات التقليدية كالـ "يسار" والـ "يمين"، أو "شيوعية" و "رأسمالية" لم يبق لها معنى. إن الناس يبحثون عن اتجاه جديد، عن فلسفة جديدة، ينصرف نحو أولوية الحاجة المادية والروحية لا نحو الموت. انه يحدث استقطاب متزايد سواء في الولايات المتحدة أو في مجمل العالم: هناك أولئك الذين تجتذبهم القوة، "القانون والنظام"، طرائق البيروقراطية. وحاصل القول اللا-حياة؛ وأولئك الذين يصبون بشوق إلى أن يعيشوا وإلى أن يكون لهم مواقف جديدة، يؤثرونها على المخططات الموضوعة في قوالب جاهزة. هؤلاء الرواد سيشكلون حركة تطمح في آن واحد إلى تغيرات عميقة في ممارستنا الاقتصادية والاجتماعية وإلى تغيرات في تهيجنا السيكولوجي والروحي للحياة. وهدفهم هو، على وجه العموم، تنشيط فعاليات الفرد وإعادة الإشراف على النظام الاجتماعي إلى الإنسان وتمدين التكنولوجيا. إنها حركة باسم الحياة، حوافزها شاملة إلى أبعد حد وبسيطة: إن الخطر على الحياة، اليوم، لا يستهدف طبقة أو أمة فحسب وإنما كل فرد. تحاول الفصول التالية معالجة عدد من المسائل المجملة فيما تقدم، بالتفصيل، وعلى الأخص تلك التي تتعلق بالصلات بين الطبيعة الإنسانية والنظام الاجتماعي الاقتصادي.

إلا أنه لا بد من توضيح نقطة لها أفضليتها. وذلك أنه يوجد اليوم يأس واسع الانتشار جداً فيما يتعلق بإمكانيات تغيير مجرى الأمور. هذا اليأس هو، في جزئه الكبير، لا شعوري، إذ أن الرجال في مستوى الشعور، هم "متفائلون" ويأملون في غد من "الـتقدم". فقبل التطرق للوضع الحالي وما يكمن فيه من أمل، يجب إذا أن نبحث ظاهرة الأمل.

2: الأمل
1- ما لا يكونه الأمل
الأمل هو عنصر حاسم في كل محاولة للتغيير الاجتماعي في الاتجاه إلى دينامية ووعي وفكر أكبر. إلا ان طبيعة الأمل كثيرا ما يساء فهمها؛ إذ تخلط مع حالات لا علاقة لها البتة بالأمل وتكون مناقضة لها تماما.

فما هو الأمل إذن؟

هل هو، على نحو ما يرى كثيرون، ما لدى المرء من رغبات وأمنيات؟ في هذه الحالة يمكن أن يكون أولئك الذين يرغبون في اقتناء السيارات والبيوت والمستطرفات (gadgets) بأعداد كبيرة وأفضل نوع، من ذوي الأمل.

وإذا لم يكن موضوع الأمل شيئا وإنما امتلاء، حالة من اليقظة أكبر، تحرر من السأم أو بعبارات أخرى، إذا كان موضوع الأمل هو الخلاص أو الثورة فهل يكون ذلك هو الأمل؟ هذا النوع من الانتظار يمكن أن يكون حقا من الأمل، ولكنه يكون من الأمل إذا لم يعكس سوى سلبية وتوقع؛ إذ أن الأمل يخفي، هكذا، الاستسلام والأيديولوجية المحضة.

لقد وصف كافكا هذا النوع من الأمل السلبي والمنقاد، وصفاً رائعاً في مقطع من كتابه القضية. حيث يصل رجل إلى الباب الذي يؤدي إلى السماء (الشريعة) ويتوسل إلى الحارس لكي يدعه يدخل. فيجيبه بأنه لا يستطيع الآن السماح له بذلك. وعلى الرغم من أن الباب الذي يقود إلى الشريعة يظل مفتوحاً فإن الرجل يقرر أنه يحسن صنعاً لو انتظر حتى يحصل على الإذن بالدخول. عندئذ يستقر وينتظر طيلة أيام، وحتى سنوات. ويظل يطلب بانتظام الإذن بالدخول ولكنه يتلقى دائماً نفس الجواب أنه ما زال لا يستطيع بعد الحصول على الإذن بالدخول. وكان الرجل طيلة هذه السنوات الطويلة يلاحظ الحارس باستمرار تقريباً ويتعلم أن يتحقق حتى من براغيث ياقته الفرو. وفي النهاية يصبح طاعناً في السن، وإذ يحس أنه على شفا الموت، يسأل لأول مرة: "كيف جرى أنه لم يسع أي شخص غيري، طيلة هذه السنوات كلها، إلى الدخول؟" فيجيب الحارس: "لم يكن في وسع أحد غيرك أن يحصل على الوصول إلى هذا الباب، بما أن هذا الباب كان مخصصاً لك. والآن فإنني أغلقه".

كان الرجل الشيخ طاعناً في السن أكثر مما يجب لكي يفهم ولكنه لم يكن في وسعه أن يفهم أكثر لو أنه كان اصغر سناً. فالبيروقراطيون يملكون الكلمة الأخيرة: إن قالوا لا فإنه لا يستطيع الدخول. فلو كان للرجل أكثر من هذا الأمل السلبي والكامن لأمكنه الدخول ولأمكن لشجاعته في مخالفة إرادة البيروقراطية أن تكون الفعل المحرر الذي يمكن أن يقوده إلى القصر المشعّ. فكثير من الناس يشبهون رجل كافكا العجوز. يأملون، لكنهم لم ينتجوا ما يدفعهم للتصرف وفقاً لحكمة قلبهم، وما لم يعط البيروقراطيون الضوء الأخضر فإنهم لا يكفون عن الانتظار[6].

هذا النوع من الأمل السلبي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بشكل مطلق من الأمل يمكن أن يوصف كأنه رجاء في الزمن. والزمن والمستقبل يصبحان المقولة الرئيسية لهذا النوع من الأمل. فما من شيء يُفترض حدوثه في الآن وإنما بعد ذلك فحسب، في اليوم التالي أو في العام القادم، وفي عالم آخر، إذا كان من المحال الاعتقاد بأن الأمل يمكن أن يتحقق في هذا العالم. فوراء هذا الاعتقاد تجد نفسها وثنية الـ "مستقبل" و"التاريخ" و "الأجيال القادمة"، التي بدأت مع الثورة الفرنسية وبرجال مثل روبسبير، الذي كان يعبد المستقبل كأنه إلهة: إنني لا أفعل شيئاً؛ إنني أبقى سلبياً لأنني لست شيئاً ولأنني عاجز؛ ولكن المستقبل، إسقاط الزمن، سوف يكملان ما لم أستطع تحقيقه. هذه العبادة للمستقبل، التي هي وجه آخر لعبادة "التقدم" في الفكر البرجوازي الحديث، هي استلاب الأمل بالضبط. فبدلاً من أن أكون أنا من يعمل أو يصبح شيئاً ما فإن الأوثان، المستقبل والأجيال القادمة ستتحقق لي مشاريعي دون أن يكون عليّ ما أفعله[7].

إذا كان الانتظار السلبي هو شكل مموه لليأس والعجز فثمة شكل آخر من القنوط والإرهاق، يتخذ تماماً القناع المقابل: قناع اللفظية والمغامرية، قناع اللامبالاة تجاه الواقع، والدونكيشوتية. ذلك كان موقف المخلِّصين الكاذبين و"الانقلابيين" (putchistes) الذين كانوا يزدرون على كل حال أولئك الذين لا يفضلون الموت على الهزيمة. هذا الستار الراديكالي المستعار من اليأس والعدمية هو متواتر في أيامنا هذه لدى العناصر الأكثر التزاماً من الجيل الشاب. فهم بليغو الأثر بجسارتهم وحزمهم، لكنهم يفقدون كل مواجهة بانعدام الواقعية والحس الاستراتيجي وأحياناً بانعدام حب الحياة[8].

2- المفارقة وطبيعة الأمل
إن فعل أمَّل يمكن أن يشبه عندئذ مفارقة ما: إنه لا يكون لا أنتظر في حالة سلبية ولا أرغم حادثاً يتعذر تحقيقه. فالأمل هو نمر جاثم لا ينقضّ إلا عندما تجيء اللحظة. ولا تكون تعبيراً عن الأمل لا الإصلاحية المتعبة ولا المغامرية المقنعة بالراديكالية. فأن يؤمل المرء يعني أن يكون مستعداً في كل لحظة لاستقبال ما لم يكن قد نشأ بعد، دون أن ييأس، مع ذلك، إذا لم يتدخل الحدث في مجرى حياتنا. يؤمل فيما هو موجود أو فيما لا يكون موجوداً لا يعني شيئاً. إن ضعاف الأمل يستقرون في الراحة أو العنف. والذين يكون أملهم قوياً يميزون كل إشارة حياة جديدة ويتشبثون بها؛ فهم في كل لحظة مستعدون للمشاركة في انبثاق ما يجب أن يولد.

إن فقدان التمييز بين أمل واع وأمل لا شعوري هو واحد من أكثر الالتباسات الدارجة. ويُرتكب الخطأ نفسه، بالطبع، بالنسبة لكثير من التجارب الانفعالية الأخرى كالسعادة والتلهف والضجر والاكتئاب أو الحقد. وممَّا يدعو إلى الدهشة أن يكون مفهوم اللاشعور، على الرغم من شهرة نظريات فرويد، قليل التطبيق إلى هذا الحد على مثل هذه الظواهر الانفعالية. قد يكون هناك سببان رئيسيان لذلك. الأول هو أن ظاهرة اللاشعور كلها (إذن الكبت) ذات صلة، في كتابات بعض المحللين النفسانيين وبعض "فلاسفة التحليل النفسي" بالرغبات الجنسية، فهم يستعملون الكبت بصورة خاطئة: كأنه مرادف لقمع التمنيات والنشاطات الجنسية. فينزعون عندئذ من مكتشفات فرويد عدداً من أهم نتائجها. أما السبب الثاني فيكمن على الأرجح في أن الوعي بالرغبات الجنسية المكبوتة أقل إثارة بالنسبة لأجيال ما بعد العصر الفكتوري من تجارب مثل الاستلاب واليأس والجشع. هكذا فإن أغلب الناس لا يعترفون بمشاعرهم في الخوف والضجر والوحدة واليأس، أي أنهم لا يعونها[9]. وهذا لسبب بسيط، وهو: ان مخططنا الاجتماعي يفترض بالرجل الذي يصل إلى مبتغاه أن لا يخشى من السأم ولا من أن يكون وحده. فعليه أن ينظر إلى هذا العالم كأنه الأفضل؛ ولتكون لديه فرص أكثر للارتقاء الاجتماعي، يحب أن يكبت الخوف بقدر ما يكبت الشك ويكبت السأم بقدر ما يكبت اليأس، في حين أنها، لا شعورياً، تكون يائسة؛ والعكس يمثل الاستثناء. فالمهم في بحث الأمل واليأس، ليس ما يفكره الناس، بصورة أساسية، في عواطفهم ولكنه ما يحسّون به حقيقة. إذ يمكن من خلف الكلمات والجمل التي يتلفظون بها، كشف شعورهم الحقيقي، من تعبير الوجه، ومن طريقة المشي ومن القدرة على رد الفعل، باهتمام، تجاه ما يكون أمام أعينهم ومن غياب التعصب الذي يدللون عليه عندما تقدم لهم برهنة معقولة.

إن وجهة النظر الديناميكية المطبقة، في هذا الكتاب، على الظواهر النفسية - الاجتماعية تختلف اختلافاً أساسياً عن التناول الوصفي السلوكي لأكثر أبحاث العلوم الإنسانية. فبوجهة نظر ديناميكية لا نسعى بصورة أساسية إلى معرفة ما يفكر فيه شخص ما أو يقوله أو كذلك كيف يسلك الآن. إنما نحن معنيون ببنيته الطبيعية، أي بالبنية نصف الدائمة لطاقاته، وبالاتجاهات التي تُغنى فيها هذه الطاقات وبالشدة التي تظهر فيها. ولو كنا نعرف القوى المحركة التي تعلّل السلوك لأدركنا، ليس التصرف الحاضر فحسب وإنما لأمكننا كذلك عمل فرضيات معقولة حول الطريقة التي قد يتصرف بها شخص ما في ظروف جديدة. ففي احتمال ديناميكي يمكن للـ "تغيرات" المفاجئة في تفكير أو تصرف شخص ما، أن تكون متوقعة، على الجملة، على شرط معرفة بنيته الطبيعية.

يمكننا أن نتكلم طويلاً عما لا يكونه الأمل، ولكن الأجدر بنا أن نعزم فنتساءل عما يكون. فهل تستطيع الكلمات حقاً وصف الأمل أو أنه لا يمكن الإطلاع عليه إلا بقصيدة، بأغنية، بإشارة، بتعبير من الوجه أو بفعل؟

إن الكلمات أقل من أن تكفي لوصف تجربة إنسانية بل غالباً ما تزيدها غموضاً، تشرَّحها وتقتلها. وهكذا عندما يدور الكلام عن الحب، أو الحقد أو الأمل ينتهي بأن يفقد التماس مع ما افترض انه موضوع الكلام. إن الشعر والموسيقى وأشكال الفن الأخرى هي، من بعد، أفضل الوسائل الملائمة لتصوير تجربة إنسانية لأنها دقيقة وتتجنب التجريد وضبابية الكليشيهات التي تكون التصورات المشتركة للتجربة الإنسانية.

قد لا يكون من المستحيل، مع كافة هذه التحفظات، أن نرسم خطوطاً أولى للتجربة المحسوسة بكلمات ليست تلك التي يستخدمها الشعر. إن وصف التجربة يعني تبيان مختلف وجوهها، وعليه إقامة حوار يعرف فيه الكاتب والقارئ أنهما يرجعان إلى الشيء نفسه. وإنني لأطلب من القارئ، وأنا أقوم بهذه المحاولة، أن يشارك في جهدي وأن لا ينتظر مني أن أجيب على سؤال: ما هو الأمل؟ فلا بد لي من أن أطلب إليه تعبئة تجاربه الخاصة لجعل حوارنا ممكناً.

إن فعل أمَّل هو حالة من الوجود. إنها حيوية داخلية، حيوية الفعالية[10]الشديدة الموجودة بالقوة[11]. ويرتكز مفهوم "الفعالية" على واحد من أكثر الأوهام الإنسانية انتشارا في المجتمع الصناعي الحديث. فحضارتنا كلها متمحورة على الفعالية، فعالية بمعنى أن يكون مشغولاً وأن يكون مشغولاً بمعنى الانهماك (الانهماك الضروري في سبيل الآمال). والواقع أن أكثرية الناس هم "نشيطون" إلى حد أنهم لا يستطيعون تحمل عدم القيام بأي شيء. فهم يحولون حتى ما يُزعم انه أوقات فراغهم إلى شكل آخر من الفعالية. فإذا لم تكن منهمكاً في كسب المال فإنك منشغل في الارتحال أو في لعب الجولف أو بكل بساطة في الثرثرة حول كل شيء ولا شيء. وأكثر ما يخشاه المرء هو اللحظة التي لا يكون له فيها حقيقة ما يفعله. وتسمية هذا التصرف بالــــ "فعالية" هي مسألة مصطلح، وأكثر الناس الذين يظنون أنفسهم نشيطين جداً، ليسوا، للأسف، واعين بسبب من أنهم شديدو السلبية على الرغم من انهماكهم. فهم بحاجة على الدوام لحافز خارجي، سواء أكان ذلك يعني ثرثرة الآخرين أو السينما أو السفر أو أشكالاً أخرى من الإثارات الأبعث على الخفقان. إنهم بحاجة للتحريض، "لدفعهم إلى المباشرة"، بحاجة إلى أن ُيوسوَس لهم وان ُيغوَوا. يركضون دائماً ولا يتوقفون أبداً. ويحسبون أنفسهم في غاية النشاط على حين يحركهم وسواس القيام بعمل أي شيء لكي يفروا من الغمّ الذي ينبعث عندما يكونون في مواجهة أنفسهم.

إن الأمل هو مقوّ نفسي للحياة وللتطور. إذا كانت الشجرة التي لا تحصل على الشمس تتوجه شطر الجهة التي يأتي منها النور، فلا يمكننا القول بأن الشجرة "تأمل بالطريقة التي يأمل بها الإنسان إذ أن الأمل لا يمكن أن يكون مرتبطاً بما لا تملكه الشجرة: بالعواطف والوعي. ومع ذلك لا يمكن أن يكون خطأ إذا قلنا ان الشجرة تأمل في الشمس وأنها تفصح عن هذا الأمل بتوجيه جذعها نحو النور. فهل هذا يختلف عن الطفل مع ذلك على حاجته للتنفس بنفسه وعن أمله في أن يعيش. أليست الرضاعة اندفاعاً نحو ثدي الأم؟ ألا يأمل الوليد الوقوف والمشي؟ والمريض، ألا يأمل أن يكون في صحة جيدة، والسجين بأن يكون طليقاً، والجائع بأن يشبع؟ ألا يكون لدينا الأمل في الغد عندما ننام؟ وفعل أحب ألا ينطوي على أمل الرجل في قوته وقي قدرته على إيقاظ شريكته وأمل المرأة في مبادلته ذلك وفي إيقاظه بدورها؟


3- الإيمان
عندما يكون الأمل قد اختفى، لا يبقى للحياة من معنى، حالياً، وتقديراً. فالأمل هو عنصر باطني في الحياة وفي ديناميكية الفكر. وثمة عنصر آخر في البنية الحيوية، ويرتبط به ارتباطاً وثيقاً: هو الأيمان. وهو ليس شكلاً داخلياً للاعتقاد وللمعرفة؛ إذ أن الإيمان في هذا أو في ذاك ليس موجوداً. فإيمان المرء هو أن يكون مقتنعاً بما لم يبرهن عليه بعد، هو أن تكون له معرفة بالواقع الممكن والوعي بما هو مثمر. إن الإيمان يكون عقلياً عندما يرتبط بمعرفة الواقع المحقق؛ فهو يستند على إمكانية إدراك ومعرفة الأساس فيما وراء المظاهر. والإيمان كالأمل ليس رؤية المستقبل، بل رؤية "الـحاضر" الذي سيولد.

إن القول بأن الإيمان هو يقين يستتبع بعض التحفظات يعني اليقين بحقيقة الشيء الممكنة وليس اليقين بمعنى تنبؤ أكيد. فالطفل يمكن أن يكون مولوداً ميتاً، وأن يموت وهو يولد، ويمكن أن يموت في الأسبوعين الأولين من وجوده. وها هنا هي مفارقة الإيمان: اليقين بغير المؤكد[12]. والمقصود هو اليقين في حدود الإدراك والرؤية الإنسانيين لا اليقين في حدود نهاية حقيقية الواقع. فلسنا بحاجة إلى الإيمان من أجل ما يكون متوقعاً علمياً، ولا يمكن أن يكون ثمة إيمان من أجل ما يكون مستحيلاً. إن الإيمان مبنيّ على استعدادنا لأن نعيش ولأن نتحول. فإيماني بتغير الآخرين يكون نتيجة ما لدي من تجربة في قدرتي على أن أتغير[13].

يجب أن نفرق تفريقاً هاماً بين الأيمان العقلي والأيمان اللامعقول[14]. فعلى حين أن الأيمان العقلي هو نتيجة فعالية داخلية لفكرنا وعاطفتنا فإن الأيمان اللامعقول هو خضوع لشيء ما محدد يُقبل كأنه حقيقي، دون الاهتمام بمعرفة ما إذا كان ذلك كذلك أم لا. إن العنصر الأساسي لكل إيمان لا عقلي هو خاصيته السلبية، سواء أكان موضوعه صنماً أو زعيماً أو أيديولوجية. فحتى رجل العلم بحاجة لأن يكون متحرراً من الإيمان اللاعقلي في الأفكار التقليدية لكي يملك إيمان العقلي في قدرة فكره المبدع. وعندما يكون اكتشافه "محققاً" لا يبقى بحاجة إلى الإيمان، إذا لم يكن ذلك من أجل الخطوة القادمة التي يفكر بإجرائها. ففي دائرة العلاقات البشرية يعني "إيمان المرء" بشخص آخر أن يكون على يقين من "عواطفه العميقة"، أي من ثبات واستقرار مواقفه الأساسية. ونستطيع بنفس الرجع أن نؤمن بأنفسنا، ليس في دوام آرائنا وإنما في موقفنا الأساسي تجاه الحياة، أصل البنية الطبيعية. ومثل هذا الأيمان يكون خاضعاً لتجربة الأنا، لقدراتنا على القول، شرعاً "أنا" وبمعنى تماثلنا.

إن الأمل يتكافأ مع الإيمان. فلا يمكن للإيمان أن يدوم دون نزوع طبعي إلى الأمل. ولا يمكن أن يكون للأمل من أساس آخر إلا في الأيمان.


4- قوة الروح
ما يزال هناك عنصر آخر متعلقاً بالأمل وبالإيمان في البنية الحيوية: هو الشجاعة أو كما يسميه سبينوزا قوة الروح [15]. ولعل عبارة قوة الروح تكون أقل غموضاً لأن كلمة "شجاعة" كثيراً ما تستعمل في وصف الشجاعة في الموت أكثر من وصف الشجاعة في الحياة. فقوة الروح هي القدرة على مقاومة إغراء المخاطرة بالأمل والأيمان اللذين إذا ما تحولا إلى تفاؤل فارغ أو إلى إيمان لا عقلي يمكن أن يتحطما. وقوة الروح هي القدرة على القول "لا" عندما يرغب جميع الناس في سماعك تقول "نعم".

لكن مفهوم قوة الروح ليس واضحا تمام الوضوح إذا لم ننوه بوجه آخر له، هو: البسالة. والبسالة لا تهاب لا من التهديدات ولا من الموت. إلا أن كلمة "باسل" تنطبق، كما يحدث كثيراً، على عدة مواقف مختلفة. سأذكر أهم ثلاثة فحسب: أولا قد يكون شخص ما باسلاً لأنه لا يكترث بالحياة، ونتيجة لذلك يكون باسلاً في وجه الخطر؛ ولكن، في حين أنه لا يخشى الموت من الممكن جداً أن يخاف الحياة. وهذا الشخص لا يبقى باسلاً عندما لا يجد نفسه في وضع يجازف فيه بحياته. إذ أنه، عمليا، يبحث عن المواقف الخطرة للهرب من خوفه من الحياة ومن نفسه ومن الآخرين.

والشكل الثاني للبسالة هو بسالة الشخص الذي يعيش في حالة خضوع تكافلي (symbiotic) لمعبود سواء أكان شخصا أو مؤسسة أو فكرة؛ إن وصايا المعبود تكون مقدسة؛ فهي مجبرة أكثر كثيراً حتى من ضرورات المحافظة على الجسد. ولو كان في وسعه مخالفة وصايا المعبود أو الشك فيها لأمكنه مجابهة خطر فقدان مطابقته للمعبود. وهذا يعني أنه يتعرض لخطر إيجاد نفسه من جديد منفرداً غاية الانفراد، وإذن، على شفا الجنون. وحينئذ قد يصبح الموت، مما يتمناه، أكثر من هذا الخطر.

أما الشكل الثالث للبسالة فهو بسالة الشخص المتطور، كلية، المطمئن والذي يحب الحياة، فالشخص الذي تغلب على الجشع ولم يعد يتشبث بأي معبود ولا بأي موضوع وبالتالي لا يملك شيئا يجب أن يفقده: إنه غني لأنه مجرد وهو قوي لأنه لم يعد عبداً لرغباته. يستطيع أن يطرح الأصنام والرغبات اللامعقولة والهلوسات لأنه على تلاؤم تام مع الواقع، في داخل نفسه وخارجها. فلو أن شخصاً كهذا الشخص قد بلغ "صحواً" كاملا فلن يعرف بعدها الخوف. ولن تكون بسالته تامة إذا هو اتجه نحو هذا الهدف دون بلوغه. وكل شخص، مع ذلك، يميل نحو هذه الحالة التي يكون فيها هو ذاته على وجه تام، يعلم أن شعوراً من القوة والفرح، في كل خطوة جديدة تُسلك إليها، يستيقظ ولا يدع مجالا لأي شك. ويحسّ بأن مرحلة جديدة من حياته قد بدأت. ويستطيع الشعور بحقيقة أقوال غوته: "لقد بنيت بيتي على لا شيء لذلك فإن العالم بأكمله هو ملكي".

إن الأمل والإيمان، بوصفهما صفتين جوهريتين للحياة، يوجهان، بطبيعتهما نفسها، نحو سمو مفارق للحالة الراهنة سواء أكانت فردية أم اجتماعية. ذلك أن التغيير وعدم البقاء أبداً على نفس المنوال في أية لحظة [16] هما صفة من الصفات الخاصة بكل حياة. إذ أن الحياة التي تركد، تميل نحو الموت، وإذا كان الركود تاماً فإنه يكون الموت. وينتج عن ذلك أن الحياة، بخاصيتها الحركية، تنزع إلى التخلُّص من الحالة الراهنة والتغلب عليها. فإننا نصبح أقوى أو أضعف، أعقل أو أكثر جنوناً، أشجع أو أكثر جبناً. كل ثانية هي ثانية في فرار، من أجل الأفضل أو الأسوأ. فإما أننا نغذي كسلنا، جشعنا وحقدنا أو أننا نجوِّعها. وكلما غذيناها كلما غدت قوية؛ وإذا نحن جوَّعناها أصبحت ضعيفة.

وما يكون صحيحاً عن الفرد هو صحيح عن المجتمع. فهو ليس سكونياً أبداً، وإذا لم يتطور، فإنه يؤول إلى الزوال؛ وإذا لم يتجاوز الحالة الراهنة من أجل الأفضل فإنه يتغير من اجل الأسوأ. وغالباً ما يتوهم الفرد أو الناس الذين يشكلون مجتمعاً، بأنهم يستطيعون البقاء ثابتين، ولا يعدلون وضعاً ما إلى هذا الاتجاه أو إلى غيره. وعلى هذا فإننا إذا تسمرنا حيث نحن فإنه يعني أننا نبدأ في الانحطاط.


5- البعث
يسمح لنا مفهوم التحوّل الشخصي أو الاجتماعي بإعادة تعريف كلمة "بعث"، بل هو يجبرنا على ذلك، دون أي رجوع إلى مضامينها اللاهوتية المسيحية. فكلمة بعث في معناها الجديد، الذي قد يكون المدلول المسيحي أحد تعابيره الرمزية الممكنة، ليست خلقا لواقع آخر، مفارق لواقع هذه الحياة: ولكنها تحويل لهذه الحقيقة الواقعة في اتجاه ديناميكية أعظم. إن الإنسان والمجتمع يبعثان في كل لحظة في فعل الأمل والإيمان، هنا والآن؛ فكل فعل حب وتيقظ وحنو هو بعث؛ وكل فعل كسل وجشع وأنانية هو موت. إن الوجود يواجهنا في كل لحظة بالتخيير بين البعث والموت؛ ونحن نستجيب لذلك في كل لحظة. وهذه الاستجابة لا تكمن فيما نقوله أو نفكره؛ وإنما تتعلق بما نكون وبالطريقة التي نتصرف بها وبالهدف الذي يواصل السير إليه.


6- الأمل المخلِّص
لقد وجد كل من الإيمان والأمل وهذا البعث الدنيوي تعبيره الكلاسيكي في رؤيا الأنبياء المخلِّصة. وهؤلاء لا يتصدرون المستقبل كأنهم كسَّاندر[17] أو كأنهم جوقة في المأساة اليونانية؛ إنهم يمعنون النظر في الواقع الحاضر الذي يستخلص من عينيات من الرأي العام ومن السلطة. وهم لا يشاءون لأنفسهم أن يكونوا أنبياء ولكنهم يشعرون انهم مضطرون للإفصاح عن صوت ضميرهم، وعن "معرفتهم معه"، وإلى القول عن الإمكانيات التي يستشفونها وإلى أن يبينوا للناس مختلف الاختيارات وأن يحذروهم أخيراً. فها هنا كل مبتغاهم. وللناس الأمر في الاهتمام بإنذاراتهم وتغيير طريقهم أو البقاء صماً وعمياً، وأن يتألموا. ذلك أن اللغة النبوية تكون دائماً لغة الخيار والانتخاب والحرية؛ فهي ليست أبداً لغة الحتمية من أجل الأفضل ومن أجل الأسوأ. وأقصر صياغة للخيارية النبوية هي هذه الآية لدوتيرونوم: "إنني أقدم لكم اليوم الحياة والموت، وإنكم لتختارون الحياة!" [18].

كانت الرؤيا المخلِّصة، في الآداب النبوية، ترتكز على التوتر بين "ما كان يوجد أو يكن وبين ما كان في صيرورة ولكنه يبقى للتحقيق" [19]. إن فكرة الخلاص، في الحقبة اللاحقة لعصر النبوة، تغير معناها في كتاب دانيال حوالي عام 164 ق. م. وفيما خلفه مجهولون من الأدب المنقوش الذي لم يدرج في العهد القديم. هنا الأدب يحتوي على فكرة "عمودية" من الخلاص في مقابل فكرة الأنبياء الـ "أفقية"[20] تاريخيا. فقد أكّد على تحويل الفرد، وفي نطاق واسع على النهاية الفاجعة للتاريخ التي تقع بكارثة نهائية. وهذه الرواية القيامية ليست رواية التخييرات وإنما رواية التنبؤ، وهي ليست رواية الحرية بل رواية الحتمية.

إن الرؤيا النبوية الخيارية الأولية تنتصر في التقاليد التلمودية والربانية اللاحقة. وفكرة المسيحيين الأوائل متأثرة تأثراً أقوى برواية الفكرة المسانية القيامية، على الرغم من أن الكنيسة بصورة مناقضة، تعسكر بوصفها مؤسسة، في انتظار سلبي.

بيد أن الفكرة النبوية في مفهوم الـ "مجيء الثاني" قد ظلت حيَّة؛ وقد وجد التفسير النبوي للإيمان المسيحي، في مرات عديدة تعبيره في طوائف ثورية و"هرطوقية"؛ ويُبدي جناح الكنيسة الكاثوليكية الرومانية الراديكالي كما تبدي عقائد مسيحية مختلفة غير كاثوليكية، عودة صريحة إلى المبدأ النبوي، سواء إلى خياريته أم إلى المفهوم الذي يجب، وفقاً له، أن تطبق الأغراض الروحية على السياق السياسي والاجتماعي.

خارج الكنيسة، كانت الاشتراكية الماركسية الأولية، التعبير الأكثر دلالة عن الرؤيا المسيانية[21]، موضحة بلغة علمانية؛ ثم أفسدها وهدمها الانحراف الشيوعي في رسالة ماركس. وقد عثر العنصر المسياني في الماركسية على صوت يتحدث باسمه لدى اشتراكيين إنسانيين عديدين، وعلى الأخص في يوغوسلافيا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا وهنغاريا. فالماركسيون والمسيحيون قد ابتدأوا حوارا على المستوى العالمي، مستنداً إلى تراث مسّياني مشترك[22].


7- انهيار الأمل
إذا كان الأمل والإيمان وقوة الروح ضرورية للحياة فكيف جرى أن يكون أولئك الذين فقدوا الأمل والإيمان وقوة الروح والذين يحبون عبوديتهم وتبعيتهم، عديدين إلى هذا الحد؟ إن هذه الإمكانية من الضياع هي بالذات التي تكون مميزة للوجود البشري. فنحن نُحبى، في المنطلق، بالأمل والإيمان وقوة الروح، وهي صفات لا شعورية "دون فكرة" من المنَيّ ومن البيضة، من اتحادهما، من نمو الجنين ومن إتمامه. ولكن التقلُّبات المترتبة على البيئة وعلى المصادفة تأخذ منذ بداية الحياة، في تيسير أو إعاقة الأمل الكامن.

لقد أمَّل أكثرنا في أن يكونوا محبوبين ليس فحسب من أجل تغنيجهم وتغذيتهم وإنما لكي يُفْهَمُوا ويُهتَم بهم ويُحتَرموا. وأملَّ أكثرنا في القدرة على كسب الثقة. وعندما نكون أطفالاً، لا نكون قد عرفنا بعد الابتكار البشري للكذب، ليس فحسب الكذب في الكلام وإنما كذلك الكذب في الأداء والحركات والعيون وتعبير الوجه. فكيف يمكن أن يكون الطفل مُعّداً لهذا الابتكار البشري بنوع خاص الذي هو الكذب؟ إننا، جميعنا، وعينا بعضنا بصورة أعنف من بعض، بأن الناس لا يعتقدون بما يقولون أو أنهم يقولون عكس ما يعتقدون. وليس فحسب "الناس"، وإنما بالذات أولئك الذين نثق بهم أنفسهم: أقاربنا، أساتذتنا، قادتنا.

قليلون جداً، هم الذين ينجون، في لحظة من لحظات تطورهم، من حتمية رؤيتهم لخيبة فكرهم، أو أحياناً لانهياره تماماً. فهل يمكن أن يكون ذلك حسناً؟ فإذا كان الرجل لم يجرب خيبة الأمل هذه، فكيف لأمله أن يصبح أقوى وأكثر لا محدودية، كيف يمكنه تجنب الخطر في أن يصبح حالماً متفائلاً. ولكن الأمل، غالباً ما يكون فضلا عن ذلك، قد زعزع إلى حد عميق بحيث يخشى من عدم العثور عليه أبداً.

الواقع أن الأجوبة وردود الفعل على انهيار الأمل تتنوع كثيراً وتتعلق بالظروف المختلفة: تاريخية وشخصية وبسيكولوجية وبنيوية. فجميع الناس تقريباً يستجيبون لخيبة آمالهم بالتكيّف مع تفاؤلية معتدلة؛ ومن لهم أمل جيد هم الذين يعلنون هذه التفاؤلية دون أن يتكلفوا عناء التحقق من أن ما سيقع ليس حتى الأفضل بل قد يكون الأسوأ. فالناس يصفرون ما إن يصفر أحدهم، وبدلاً من أن يعوا يأسهم، يبدون وكأنهم يساهمون في مهرجان شعبي.

فهم يلائمون مقتضياتهم مع ما يستطيعون الحصول عليه ولا يحلمون حتى بما يبدو خارج متناولهم. وكعناصر متآلفة تمام التآلف في القطيع، لا يشعرون أبداً أنهم يائسون لأن ما من أحد آخر يبدو أنه يحس باليأس. إنهم صورة لنمط من التفاؤلية الانقيادية يمكننا التحقق منها في المجتمع الغربي المعاصر، باعتبار أن التفاؤلية تكون واعية في المعتاد والانقياد اللاشعوري.

وثمة نتيجة أخرى لانهيار الأمل هي: "تقسية القلب". فكثير من الناس، شباب جانحون أو بالغون ساخطون، لم يعودوا يتحملون، في لحظة من لحظات حياتهم، أن ُيهانوا. بعضهم قرروا، في حالة فجائية أو تحت تأثير نوبة ما، بأنهم ملًوا من ذلك وأنهم لن يحسوا شيئاً بعد في المستقبل. وما من شخص قد يكون قادراً أبداً على إهانتهم على حين يكونون قادرين على الإساءة إلى الآخرين. هؤلاء الناس في وسعهم أن يشتكوا سوء حظهم لعدم عثورهم على صداقة أو على حب ولكن ذلك ليس نقصاناً في الحظ بل هذا هو في الواقع قدرهم. إنهم لا يؤثرون في مشاعر أحد إذ فقدوا الشفقة ومعرفة الغير، وليس في وسعهم مزيد من الانفعال. ونجاحهم الباهر في الحياة هو في عدم حاجتهم لأحد. وهم فخورون بأن جانبهم لا يُمَسّ، وراضون عن اقتدارهم على الإساءة بصورة شرعية أو إجرامياً، بدلالة عوامل اجتماعية أكثر منها بسيكولوجية. ويظل أكثرهم، إذا صح القول، مجمدين، وبالتالي تعساء حتى آخر حياتهم، وكثيراً ما يبدأ، وبمعجزة، ذوبان الجليد. فقد يعني ذلك، ببساطة، الالتقاء بشخص يهتم بهم، يشعر انهم متعلقون به وأنهم يثقون فيه: عندئذ ينفتحون على أبعاد من المشاعر جديدة. وإذا واتاهم الحظ تذوب ثلوجهم تماماً ثم إذا ببذور الرجاء التي كانت تبدو قد أتلفت، تورق فجأة.

كذلك هناك نتيجة أخرى أشد خطراً لانهيار الأمل، هي النزعة إلى الهدم وإلى العنف. تماماً لأن البشر لا يستطيعون العيش بلا أمل، إذ أن من انهار أمله يكره الحياة. وبما أنه لم يعد يستطيع توليد الحياة فيجب عليه أن يهدمها وهو أمر يكون إنجازه أسهل، حقيقة، من معجزة. إذ يريد أن يثأر لنفسه عن حياة لم يعشها ولن يبالي بعدئذ بهدم الحيوات الأخرى أو بتحطيم نفسه[23].

نجد رد الفعل الهدمي الناجم عن انهيار الأمل، عادة، لدى أولئك الذين يُحرمون، لأسباب اقتصادية أو اجتماعية، من امتيازات الأغلبية ولا يعرفون كيف يتوجهون اجتماعياً أو اقتصادياً. إن ما يقود إلى الحقد وإلى العنف ليس، بصفة رئيسية، هو الحرمان من حق اقتصادي؛ فالذي يقود إلى العنف وإلى نزعة الهدم هو الوعود التي تحطم على الدوام ووضع ميئوس منه. وما من شك بأن الجماعات المعدمة والتي تعامل بقسوة بالغة لا تبلغ حتى درجة أن تكون يائسة لأنها لا تملك أية بارقة من أمل. فهي أقل عنفاً من أولئك الذين يلمجون إمكانيات في أن يؤملوا، ولكنهم يتحققون في نفس الوقت من أن أملهم مستحيل. فالنزعة إلى الهدم هي، بلغة بسيكولوجية، البديل للأمل، تماماً كما يكون الموت بديلاً لحب الحياة والفرح بديلاً للغمّ.

إن الفرد ليس هو الوحيد الذي يجب أن يعيش بالأمل. فالأمم والطبقات الاجتماعية تعيش كذلك بالأمل، والإيمان وقوة الروح؛ ولو فقدت هذه الطاقة الكامنة لاختطفت بما يتطور فيها سواء من نقص في الحيوية أم من نزعة إلى الهدم.

ولسوف نلاحظ بأن تنمية الأمل أو اليأس عند الفرد تكون محددة، على مدى واسع، بحضور الأمل أو اليأس في مجتمعه أو في طبقته. وأياً ما كانت الزعزعة التي يتعرض لها أمل الفرد في طفولته، إلا أنه لو عاش في حقبة من الأمل ومن الإيمان لبُعث رجاؤه. وفضلاً عن ذلك فإن الشخص الذي تقوده تجربته إلى الأمل، غالباً ما يكون لديه ميل إلى الاكتئاب وإلى اليأس إذا لم يبق للمجتمع أو للطبقة اللذين ينتمي لأحدهما من أمل.

منذ مطلع الحرب العالمية الأولى، وربما بصفة أخص في أمريكا، منذ سقوط الرابطة المعادية للإمبريالية في نهاية القرن الماضي يميل الأمل بسرعة متزايدة إلى الاختفاء في العالم الغربي. فقد قلت منذ قليل بأن اليأس يختفي وراء قناع التفاؤلية وأحياناً في ثوب العدمية الثورية. إن ما يستطيع رجل التفكير فيه، إذن، من نفسه، يكون قليل الأهمية بالمقارنة مع ما يكونه ومع ما يحسّه صدقاً؛ ولكن أكثرنا ليسوا واعين بما يحسون.

إن دلائل اليأس هي جميعها هنالك. انظروا التعبير الضجر لدى الفرد المتوسط، فقدان الاتصال بين الناس حتى عندما يحاولون، بصورة يائسة "إقامة الاتصال". لاحظوا العجز في التخطيط الجدي للتغلب على التلوث المتزايد في مياه المدن وهوائها، ولتدارك المجاعة المتوقعة في البلدان الفقيرة؛ دون الخوض في حديث العجز عن التخلص من الخطر اليومي على الحياة ومصير الجميع، الذي يشكله السلاح الهيدروجيني. وعلى الرغم مما نستطيع قوله عن الأمل فإن قصورنا عن العمل أو التخطيط من أجل أن نحيا يفضح يأسنا.

نحن نجهل، على العموم أسباب هذا اليأس المتزايد. فقبل عام 1914 كان الناس يظنون أن العالم في أمانة، وأن الحروب، اللامبالية بالحياة البشرية، قد أصبحت من التراث الماضي. ومع ذلك حدثت الحرب العالمية الأولى وحرّفت الحكومات أسبابها. ثم جرت الحرب الأهلية الأسبانية، مع مهزلة مزاعمها، سواء من جانب الدول الغربية أم من جانب الاتحاد السوفيتي؛ وبعدها الحرب العالمية الثانية، مصحوبة بازدراء تام للسكان المدنيين؛ وحرب فيتنام التي تحاول الحكومة الأمريكية فيها سحق شعب صغير في سبيل "إنقاذه". غير أنه ما من دولة من الدول الكبيرة قد خطت الخطوة الأولى التي يمكنها أن تمنح الأمل للجميع: التخلص من أسلحتها النووية الخاصة، واثقة في حكمة الدول الأخرى لاقتفاء أثرها.

ما زالت هناك لهذا اليأس المتزايد أسباب أخرى، وبخاصة تكوين مجتمع صناعي تحول إلى بيروقراطية تماماً، وقصور الفرد بازاء التنظيم وهو ما سأتطرق إليه في الفصل القادم.

إذا كانت أمريكا والعالم الغربي يحافظان على حالة من اليأس لا شعورية ومن نقصان الإيمان وقوة الروح فمن المتوقع أن لا يصبحا قادرين على مقاومة الإغراء في إطلاق تفجير نووي هائل يمكنه أن يضع حداً لجميع المشاكل - اكتظاظ بالسكان وضجر وجوع - في الحدود التي قد تزيل كل حياة.

إن التقدم في اتجاه نظام ثقافي واجتماعي حيث يمكن أن ينتمي الإنسان، يتعلق بقدرتنا على تحكمنا بيأسنا. فلا بد لنا بداية من أن نعي ومن ثم البحث بعدئذ إذا كانت توجد إمكانية حقيقية لتغيير حياتنا الثقافية والاقتصادية والاجتماعية في اتجاه جديد، يتيح لنا أن نؤمّل من جديد. إن الأمل سيكون جنوناً صرفاً إذا كانت إمكانية حقيقية كهذه غير موجودة؛ أما إذا كانت موجودة، فالأمل عندئذ يكون مسوّغاً، ويكون أملاً مبنياً هذه المرة على تقصِّي اختيارات جديدة وعلى بدائل جديدة، كما يكون كذلك مبنياً على أعمال مخططة للسماح بتحقيق هذه البدائل الجديدة.


ترجمة: ذوقان قرقوط

جمال جرار 20 - 7 - 2010 07:21 PM

هوامش إيرك فروم :

[1] كلمة مركبة من عبارتي التقنية والإلكترونية.

[2] مواجهة "المجتمع التقالكتروني" مجلد رقم 1 (يناير 1968ص 19).

[3] في التقنية أو مجازفة العصر، مكتبة أ. كولان (1954).

[4] أسطورة الآلة: لويس مومفورد (نيويورك، هاركور، ترايس اند ورلد، 1966).

[5] مثل في "الخوف من الحرية"، وكذلك في "المجتمع الصحيح".

[6] في الأسبانية تعني كلمة أمّل (esperar) انتظر (attendre) وأمِّل (esperer) في آن واحد ومن الواضح أن لها علاقة بهذا الأمل السلبي الذي أحاول وصفه هنا.

[7] إن المفهوم الستاليني الذي يقرر التاريخ وفقاً له فيما يكون صحيحاً أو خطأ، جيداً أو سيئاً هو الاستثمار المباشر لوثنية المستقبل لدى روبسبير. فهو على طرفي نقيض مع وضع ماركس الذي كان يقول: "فالتاريخ ليس شيئاً. ذلك أن الإنسان هو الموجود وهو الذي يفعل". كما كتب ماركس في قضية فيورباخ ما يلي: "إن المذهب المادي الذي يرى بأن الناس هم نتاج الظروف والتربية، وأنهم إذ يغيرون الظروف وإن المربي نفسه بحاجة لأن يكون متربيا"ً.

[8] في "غريزة الحب والحضارة" وفي "الإنسان ذي البعد الواحد" لهربرت ماركيوز، ينفجر يأس كهذا اليأس في وضح النهار. إن جميع القيم التقليدية كالحنان والحب والقلق والمسؤولية لا يمكن أن يكون لها معنى في مجتمع ما قبل التكنولوجيا. أما في المجتمع التكنولوجي (مجتمع بدون قمع وبدون استغلال) فسيأتي إنسان لا يكون لديه ما يخشاه حتى الموت، إنسان سينُمي حاجات ما تزال غير محددة بعد وسيملك الفرصة لإرضاء "نوازعه الجنسية متعددة الأشكال".(أحيل القارئ إلى الدراسات الثلاث في نظرية الجنسية لفرويد). وبالاختصار، ينظر إلى تقدم الإنسان النهائي ارتداد إلى مستوى الحياة الطفولية، عودة إلى سعادة الرضيع المشبع. فليس عجيباً أن ينتهي ماركيوز إلى اليأس: "إن النظرية الحرجة في المجتمع لا تملك من المفاهيم ما يتيح اجتياز الفارق بين الحاضر والمستقبل؛ وهي لا تجزي وعوداً؛ ولم تنجح؛ فقد ظلت سلبية. وفي مكنتها أن تبقى هكذا أمينة تجاه أولئك الذين، بلا أمل، قد أعطوا ويعطون حياتهم للرفض العظيم" (الإنسان ذو البعد الواحد، ص 281).

هذه الأقوال تظهر إلى أي مدى يخطئ أولئك الذين يهاجمون أو يعجبون بماركيوز بوصفه أستاذا ثورياً؛ إذ أن الثورة لم تبن قط على اليأس، ولا يمكن أن تكون كذلك أبداً. لكن ماركيوز ليس مهتماً حتى بالسياسة؛ فإذا لم يشعر المرء أنه متعلق بالتحولات بين الحاضر والمستقبل، فإنه لا يبحث في السياسة، أية كانت، راديكالية أم غير ذلك. وماركيوز هو بصورة أساسية، مثل للمثقف المحروم الذي حوًل يأسه الشخصي إلى نظرية راديكالية. وسيشكل النقص في إدراكه وإلى حد ما في معرفته بفرويد، جسراً، للأسف، يتيح له التحرك لإجراء التركيب بين الفروجية والمادية البرجوازية والهيجيلية المهذبة التي تتشكل بالنسبة له، على ما يبدو، وبالنسبة لـــ"راديكاليين" آخرين، من نفس الاتجاه الفكري، المرتقى النظري الأكثر تقدماً. ولا مجال هنا للبيان بالتفصيل على أن ذلك يعني حلم يقظة، ساذجاً، ودماغياً ولا معقولا، لاواقعياً ومجرداً من الحب للحياة.

[9] بودي أن ألفت النظر إلى أن الكلام عن "اللاشعورر" يكوّن شكلاً آخر من الفكر ومن اللغة المختلّين. فلا يوجد شيء شبيه بعضو أو بشيء في المكان يمكن أن نسميه بــــ "اللاشعور" بالحوادث الخارجية والداخلية؛ المقصود إذن هو وظيفة نفسية وليس عضواً متموضعاً.

[10] كما تشير الملاحظة التالية يفرق المؤلف بين (activity)، حيوية، فعالية، نشاط وبين (activiness) مفعم بالنشاط والحيوية. وسوف نجد نفس التفريق بين (passivity) سلبية و (passiveness).

[11] أدين باستعمال عبارة activiness (بدلا من العبارة المعتادة activity) إلى اتصال شخصي بميخائيل ماكوبي. كذلك فإني أستخدم عبارة (passiveness) بدلا من عبارة (passivity) في النطاق الذي يكون فيه لكلمة (passiveness) و (activiness) علاقة بموقف أو بحالة عقلية.

وقد تكلمت عن مشكلة الفعالية والسلبية بالعلاقة، خاصة، مع التوجيه الإنتاجي في عدة كتب. وبودي ان الفت انتباه القارئ إلى الدراسة الرائعة والمتينة للفعالية والسلبية في كتاب (Metamorphosis) "الانمساخ" لأرنست شاشتيل (نيويورك: بازيك بوك 1959).

[12] في العبرية تعني كلمة "إيمان" كلمة يقين، وآمين (Amen) تعني بكل تأكيد.

[13] الحاجة إلى اليقين سنبحثها في الفصل الثالث.

[14] سوف نناقش مدلول "عقلاني" و "لاعقلاني" في الفصل الرابع.

[15]ملاحظة المترجم: أخلاق سبينوزا، الطبعة الكلاسيكية، غارنيير 153 ترجمة شارل أبوّهن الفصل الثالث، شرح القضية 59.

[16] لا مجال للبحث في تعريفات الحياة العضوية والمادية اللاعضوية ولا في الحدود بينهما. إن التفريقات التقليدية من وجهة نظر البيولوجيا وعلم الوراثة الحاليين، قد وضعت بالتأكيد موضع التساؤل. ولكن قد يكون من الخطأ الافتراض بأن هذه التفريقات قد فقدت صالحها؛ فهي بحاجة إلى التمحيص أكثر من حاجتها إلى الاستبدال.

[17] Cassandreابنة بريام وهيكوب منحها أبوللون موهبة التنبؤ بالمستقبل، ورسم الله بأن لا يصدق تنبؤاتها أحد. وبسقوط طروادة التي تنبأت به عبثاً دون أن يصدقها أحد أصبحت عبدة لآغا ممنون وما كادت تصل إلى اليونان حتى قتلت. وسار اسمها مضرب المثل على بعد البصيرة التي لا تلاقي غير الشك.

[18] لقد بحثت في طبيعة الخيارية النبوية بصورة مفصلة في كتابي You shall be as Gods (New York: Holt, Rienhart and winsion. 1967) انظر كذلك في نفس الكتاب مناقشة الاتجاه الرؤيوي في الفكر اليهودي المَسّياني بالمقارنة مع اتجاه الخيارية الأصلية.

[19] اليهودية والمسيحية: ليوبيك New York: The Jeuish) Leo B**ek

Publication Society of America, 1958) ترجمة وتقديم و. كوفمان.

[20] هذه العبارات استخدمها بيك، المصدر السابق وقد حاول تيلهاود دي شاردان في: مستقبل الإنسان: نيويورك، هاربر و1964 أن يقيم تركيباً من هذه المفاهيم.

[21] المسيانية: تصور قائل بانتظار المسيح.

[22] لقد عثر أرنست بلوخ في كتابه "مبدأ الأمل"، أكثر من أي شخص آخر، على مبدأ الأمل النبوي في الفكر الماركسي. وقد ساهم عدد كبير من الاشتراكيين الإنسانيين المعاصرين في الكتاب الذي طبعه أريك فروم Symposium of Socialist Humanism (نيويورك دوبل دي 1965). انظر كذلك الطبعة الإنكليزية من الصحيفة اليوغسلافية التطبيق والحوار وهي مجلة دولية يصدرها الفوروم ويطبعها ج. نينّينغ تحتوي على تبادل بين الإنسانيين المسيحيين وغير المسيحيين.

إن التأكيد الواسع الانتشار القائل بأن لماركس نظرة حتمية للتاريخ تعني بأن الاشتراكية كانت أمراً لا مفر منه، هو في رأيي غير صحيح. فطابع الحتمية يبدو في بعض جمل ماركس وهو يستمد أصوله من أسلوبه الدعائي والتحريضي المختلط غالباً بأسلوبه التحليل والعلمي. وقد ألحت روزا لوكسمبورغ، ولعلها ألمع مفسرة نظرية لماركس، على وجهة النظر القائمة على الاختيار في صياغة "الاختيار بين الاشتراكية والبربرية".

[23] هذه المشكلة ومشكلة ظواهر أخرى للنزعة إلى الهدم سوف أبحثهما في كتابي القادم: أسباب النزعة البشرية إلى الهدم.


انتهى .


مصدر هذه الصفحات موقع اللوغوس .

أرب جمـال 26 - 7 - 2010 02:49 PM

مشكور جمال على جهدك في نقل الموضوع ويعطيك العافية

جمال جرار 8 - 11 - 2010 01:37 AM

مشكورة أرب على مرورك
سلمت على الرد
تحياتي




نشمي المنتدى

زهرة عمان 25 - 12 - 2010 09:00 PM

http://img112.imageshack.us/img112/3...d861ac2xo5.gif

عاشق تراب الأقصى 6 - 1 - 2011 11:13 PM

مشكور جمال جرار على الموضوع
لي عودة بغذن المولى عز وجل

فاصل ونواصل 6 - 1 - 2011 11:20 PM

http://t.farok.2.googlepages.com/Tarek_logo1.gif

طرحت فابدعت ,,
دمت ودام هذا العطاء
ودائما بأنتظار جديدك الشيّق
خالص ودي وأعذب التحايا لكـ

http://t.farok.2.googlepages.com/Tarek_logo1.gif

احترامي

جمال جرار 26 - 8 - 2011 03:43 AM


الهنوف 8 - 4 - 2012 06:50 PM

الله يعطيكم العافية يا رب و الله موضوع افادني في مادة التاريخ

أرابيلا 23 - 7 - 2012 09:53 PM

سلمت الايادي على افادتنا والطرح الموفق
تحيتي لك وبوركت جهودك

جمال جرار 27 - 9 - 2012 11:20 PM

شكرا لكم على مروركم الرائع
تحياتي ولكم مني ارق تحية


الساعة الآن 07:05 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى