منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   القرآن الكريم والأحاديث وسيرة الأنبياء والصحابة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=95)
-   -   من أساليب الإقناع في القرآن الكريم (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=8881)

ميارى 2 - 8 - 2010 02:23 AM

من أساليب الإقناع في القرآن الكريم
 
من أساليب الإقناع في القرآن الكريم

بقلم الدكتور معتصم مصطفى

تقديم عمر عبيد حسنه

الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وجعل معجزة الرسالة الخاتمة (القرآن) معجزة عقلية برهانية بيانية، وعرفانية في الوقت نفسه، خالدة ممتدة، مستمرة الإعجاز والإقناع، مجردة عن حدود الزمان والمكان، مخاطبة لعقل الإنسان، متميزة عن سائر معجزات النبوة التاريخية، التي جاءت مجسَّدَة بفعل بشري خارق للعادة، مرتبطة بأشخاص الأنبياء، مؤقتة بوجودهم، الأمر الذي يشير إلى أن النبوات السابقة كانت خاصـة بأقوام بعينهم، وأزمـان بذاتها، وأن الإيمان بالنبوة والمعجزة ممن لم يعاصرها ويشهدها هو نوع من الإيمان بالغيب، من بعض الوجوه، وفي ذلك حكمة بالغة.

ذلك أن الإنسان في تطور حياته وأطواره، منذ النبوة الأولى، وحتى الرسالة الخاتمة، حيث بلغت البشرية طور الرشد العقلي، كان يتطلب معجزات حسية مجسدة، ميسرة الإدراك؛ لأن الانتقال من التجسيد إلى التجريد، ومن الذات إلى القيمة، ومن الفعل المجسد المنظور الملموس إلى المنهج المدرك، يتطلب رشداً بشرياً، وتفكراً وتفكيراً، وقدرة على الملاحظة والمقارنة والمقايسة والاستدلال والبرهان، لتجاوز الصورة إلى الحقيقة، واختيار الصواب للوصول للتي هي أقوم، قال تعالى: ((إِنَّ هَـذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ ُ)) (الإسراء:9).

فالقرآن معجزة الرسالة الخاتمة، هو معجزة عقلية فكرية برهانية بيانية - كما أسلفنا - لذلك كانت إحدى التحديات والعظات: الدعوة إلى التفكير والتفكر المجرد، والنظر، للوصول إلى الحقيقة: ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ )) (سبأ:46)، وبذلك كان القرآن معجزة خالدة تخاطب عقل الإنسان، أينما كان ومتى كان، ومن هنا أدرك الشاعر هذا المعنى عندما قال:

جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم
والصلاة والسلام على الذي أوتي جوامع الكلم، وكان محلاً لتلقي القرآن، قال تعالى: (( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً )) (المزمل:5)، فكان بذلك إمام البيان وترجمان القرآن، وحسبنا قولة السيدة عائشة رضي الله عنها: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ" (أخرجه الإمام أحمد)، الذي أيده ربه بالكثير من المعجزات الحسية المجسدة، التي تجلت لأنظار البشر، كسائر الأنبياء السابقين، إلى جانب معجزة القرآن، لتكون دليلاً على نبوته في بناء القاعدة البشرية الأولى، لكن ذلك جميعه لم يعتبر من المعجزات الخالدة الممتدة على الزمان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته.

ولقد أكد عـليه الصلاة والسلام هذا المعنى للمعجزة بقوله: "مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ" (أخرجه البخاري).

وبعد:

فهذا كتاب الأمة الخامس والتسعون: "أساليب الإقناع في القرآن الكريم" للدكتور معتصم بابكر مصطفى، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في محاولة لاسترداد دور القيم، في الكتاب والسنة، والانطلاق منها في الحوار الحضاري والمجاهدة الفكرية وصياغة حياة الناس وإعادة تشكيلهم الثقافي، وتحقيق الخلود واستمرار العطاء، الذي يعتبر من أخص خصائص الرسالة الخاتمة والمعجزة الخالدة، وامتلاك القدرة على الإنتاج، مستهدين في ذلك بمنهج السيرة النبوية في تعاملها مع القرآن، التي جسدت قيم الوحي في واقع الناس، وأقامت البناء من خلال عزمات البشر، ومستصحبين للتاريخ والتراث الإسلامي بكل غناه وعبره وتجاربه.

ذلك أن الإشكالية -فيما نرى- تتمثل في عدم القدرة علىتحديد موقع التأسي وكيفيات التنـزيل القرآني على واقع الناس من خلال مسيرة السيرة الطويلة، مع تقلب الظروف وتطور الإمكانات المختلفة، وامتلاك القدرة على وضع الحاضر بكل مكوناته وإمكاناته في الموقع المناسب، الذي يشكل محل الاقتداء في هذه المرحلة وتلك الإمكانات من مسيرة السيرة، والاجتهاد في اختيار الحكم المناسب، والاهتداء بالسيرة لتنـزيل الآيات القرآنية على واقع الناس، من خلال استطاعاتهم، وبيان حدود التكليف، وإدراك مواصفات الخطاب القرآني، وتوفر شروط محل التكليف، والقدرة على التمييز يبن التنـزيل المشار إليه المنوط بتوفر الاستطاعة، وبين الإسقاط الخطير للآيات والأحاديث على واقع لم تتوفر له الشروط المطلوبة للتكليف.

هذا من جانب، ومن جانب آخر نعتقد أنه لا بد من إزالة الالتباس بين اجتهادات البشر ونصوص الوحي، ذلك أن الاجتهادات مع أنها من عطاء الوحي إلا أن ذلك لا يمنحها القدسية والعصمة التي تجعلها محلاً للاقتداء والتأسي والتنـزيل، وإنما تبقيها محلاً للعبرة والعظة والتجربة.. فالمشكلة تكمن في الخلط بين قول الشارع في الكتاب والسنة وفهم الشارح في التراث؛ الخلط بين الذات والقيمة، والنكوص عن التجريد، الذي يعتبر محور المعجزة القرآنية والذي يعني أهلية الرشد، إلى التجسيد الذي يمثل مرحلة الانتكاس والطفولة العقلية.

ولعل اعتماد القرآن ليكون معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم أو معجزة الرسالة الخاتمة دون سائر المعجزات المادية المجسدة، التي اشترك فيها الرسول صلى الله عليه وسلم مع سـائر الأنبياء من قبله، ولمّا نراها نحن، وإنما نؤمن بها إيماننا بالغيب عن طريق الخبر الصادق، يعتبر ذا دلالات متعددة في هذا الموضوع.

فالتجريد الذي تميزت به معجزة الرسالة الخاتمة (القرآن) هو نوع من التخصيب الذهـني والنمو العقلي، الذي يعتبر من أعلى مراتب العقل، كما يعني - فيما يعني - القدرة الذهنية والفكرية على النظر من خلاله إلى الأشياء المجسدة والواقعة، ومعايرتها، وامتلاك القدرة على تقويمها، فالتجريد قيمة ومعيار ممتد، والتجسيد تجلٍ وذات تشكل حيزاً في الزمان والمكان.. وبذلك فالتجريد خالد، محله الإنسان العاقل المكلف.

والقرآن، المعجزة المجردة، أول ما يخاطب العقل ويرتقي به لأعلى مراتبه، ويدعوه للاستعمال والتشغيل والتفكر، ليصل إلى القناعة، ويصبح قادراً على التمييز والمقايسة والاستنتاج والمقارنة، وهي من أهم أدوات الإقناع، قال تعالى: (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ)) (سبأ:46)، فالقناعة تأتي ثمرة للدليل والبرهان المتولد من النظر.

ولم يكتف القرآن بمخاطبة العقل، وإنما وضع الإنسان، بكل حواسه ووعيه، في المناخ العلمي، ولفت نظره إلى الأشياء من حوله، ودعاه إلى التأمل والنظر فيها، للوصول إلى اكتشاف السنة والقانون الذي ينتظمها؛ ولم يقتصر على ذلك، بل درّبه أيضاً على آليات وكيفيات النظر في الآيات، واستنتاج القانون، الذي هو طريق الوصول إلى الحق: ((سَنُرِيهِمْ آياتنا فِي الآْفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ )) (فصلت:53)، فميدان النظر الفسيح الذي فتحه القرآن أمام الإنسان هي آيات الآفاق والكون، بكل أبعاده وكل ما فيه، وآيات الأنفس بكل أغوارها وكل طواياها، ومنحه الأبجديات لهذا النظر وهذه القراءة: ((وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا)) (البقرة:31).. فقوانين الأشياء والأفلاك والعلوم الطبيعية مطردة، وليست عبثية، وكذلك قوانين العلوم الاجتماعية والإنسانية، فهي ميادين فسيحة للنظر والاعتبار واكتشاف السنن.

ولعل دعوة القرآن إلى النظر في قوانين الأشياء والآفاق والأكوان كمرحلة أولى تقع تحت الحواس، هي السبيل لإدراك قوانين الأفكار والاجتماع والإنسان، ومن هنا قُدِّمت رؤية آيات الآفاق في الآية على رؤيتها في الأنفس، لتكون أحد السبل للوصول إليها؛ وهي في النهاية قوانين واحدة منسجمة ومتوازية، مبرأة من الارتطام والاصطدام، الأمر الذي يؤكد أن مصدرها واحد، هو الحق المطلق، سبحانه وتعالى، وبذلك تصبح هذه الحقيقة: الإيمان بالله واجب الوجود من الناحية العقلية.

وبالإمكان القول هنا: بأن القرآن الذي كان البوصلة والدليل والمحرك لعقل الإنسان، كان محور هذا التراث الفكري العظيم، وهذا الإنتاج الثقافي والعلمي والعقلي على مدى خمسة عشر قرناً؛ فكل الإنتاج المعرفي تمحور حول القرآن، وارتكز إلى القرآن، وانطلق من مرجعية القرآن، وتحرك في جميع المجالات في مناخ القرآن، بما في ذلك الإنتاج العلمي التجريبي، الذي يأتي ثمرة النظرة العلمية لعالم الأشياء والأكوان، واكتشاف نواميسها، وكل يوم يتكشف جديد يزيد اليقين والقناعة بما يمنحه القرآن من رؤية، وكل يوم تدافع سنة بسنة وقدر بقدر، وتتقدم الرحلة العلمية بالدفع القرآني لعقل الإنسان، والدفق الإنساني في حواسه ومشاعره.

بل قد نقول أيضاً: بأن الجدلية المعرفية، التي تعتبر المحرك الأساس لعملية الكشف العلمي، كانت وليدة طبيعية للمعجزة المجردة (القرآن)، وتحريضها الذهني، سواء كانت دفاعاً عن القرآن وبياناً لمعطياته أو دفعاً لحقائقه ورؤيته.. فالقرآن هو المحرك الذهني الذي ينظم المعادلات العقلية في كل الأحوال؛ ولعل هذه الجدلية هي التي أدت إلى وفرة الإنتاج الثقافي عموماً.

فالمعجزة المجردة (القرآن) لم تأت لتشل الطاقة وتوقع الإنسان في العجز عن الفعل، وتلغي العزيمة، وتعطل القدرة الذهنية، وتطفئ الفاعلية، وتؤدي إلى الاستنقاع الاجتماعي والجمود الذهني والعقلي والاستسلام، والانتهاء إلى الجبرية الذهنية، وهذا منحى جدير بالتأمل، بل كانت سبباً في استنفار العقل، وتشغيل الحواس، وتحريك القوى الفاعلة بالإنسان، وتفجير الطاقات الكامنة فيه، وبناء القناعة العقلية، والوصول إلى الصواب، ولفت النظر إلى ما يمتلك من مؤهلات انطوى فيها الكون كله:

وتحسب أنك جُرْمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالَم ُالأكبر
هذا الانطواء للعالم الأكبر في الذات البشرية يعني أن القرآن دعا الإنسان للتعرف على طاقاته الهائلة، المتجددة وغير المحدودة، التي تسع العالم الأكبر، ومن ثم ينطلق بكل ما يمتلك لتحقيق خلافته في هذا العالم، ويتعرف إلى مكنوناته، وينظر في طواياه وخباياه وما ينطوي عليه، حتى يكون قادراً على تعميره والقدرة على تسخيره.

لقد كانت معجزة القرآن، وما تزال إلى يوم الدين، محرضاً علمياً وثقافياً ومعرفياً، ولئن عجز الناس عن الإتيان بمثله فإنهم لم يعجزوا عن تحقيق مدلولاته وإدراك مقاصده، وتجسيد قيمه، من خلال عزمات البشر، فهو معجزة استنفرت العقل البشري، لا للإتيان بمثلها وإنما للارتقاء بها وتحقيق دلالاتها في النفس والمجتمع والكون.

لقد كانت محاولة محاكاة هذه المعجزة، والتحرك من خلال نضحها وعطائها، والقدرة على تجسيدها، وتوليد مقاصدها، واستنباط عطائها في كل عصر، سبيل حياة الأمة المسلمة، وامتدادها، وصمودها، ومناعتها، وأكثر من ذلك كانت السبيل لمعاودة نهوضها من كبواتها، قال تعالى: ((فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) (الزخرف:43).

لقد جعل القرآن التفكير مفتاح الاستدلال والعلم، وتشكيل القناعة، وإدراك حقائق الدين ووحيه؛ والاجتهاد عبادة مأجورة، أصاب الإنسان أم أخطأ.. جعل التفكير فريضة قرآنية، ورفض التعليم بالتلقين، والاعتقاد بالتقليد، واعتبر إيمان المقلد لا يجوز ولا يعفي صاحبه من المسؤولية، وجعل خير الناس من تعلم القرآن وعلمه، قال صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ" (أخرجه البخاري)، فتعلم القرآن وتعليمه هو وضع الإنسـان على الجادة للتحرك في تحقيق المكتسبات العلمية أو المعرفية.. والتعليم والتعلم تفكر وتدريب على التفكير، وهو غير الحفظ والاستظهار والتلقين، الذي يشيع في الواقع الإسلامي.

وقد تكون الإشكالية اليوم في: أن التعامل مع القرآن لم يتحقق بالمقاصد المطلوبة ويحقق العبرة والحذر، حيث بدأت علل التدين من الأمم السابقة، التي أصيبت بالتعامل مع كتابها، تتسرب إلى الأمة الإسلامية، أولئك الذين قال الله عنهم: ((وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ )) (البقرة:78) أي إلا تلاوة وترتيلاً، قال ابن تيمية رحمه الله، عن ابن عباس وقتاده، في قوله: ((وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ)) أي غير عارفين بمعاني الكتاب، يعلمونـها حفظاً وقراءة بلا فهم، لا يدرون ما فيها؛ و ((إِلاَّ أَمَانِيَّ)) أي تلاوة، لا يعلمـون فقـه الكتاب، وإنما يقتصرون على ما يتلى عليهم.. فكيف والحالة الذهنية هذه يمكن أن يحرك القرآن سواكن القلوب ورواكد العقول؟

ولولا قابلية الإصابة واحتمالاتها الكبيرة لما حذر الله منها، ذلك أن كثيراً من المسلمين اليوم يعتبرون مجرد حفظ القرآن وتحفيظه مدعاة للخيرية الواردة في الحديث: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ".. وعلى ما في الحفظ والتحفيظ من الخير والعطاء والثواب وبناء العقل واستقامة اللسان، لكن كمال الأمر لا يتحقق إلا بالتدبر والتفكر والتفكير، واسترداد الفاعلية، وتأهيل الإنسان قرآنياً لبناء الحضارة الراشدة والحياة السعيدة الطيبة، والاهتداء للتي هي أقوم، فالإنسان ليس ذاكرة فقط، ليس شريط تسجيل (أو كاسيت)، ولذلك قال بعض السلف: لقد نزل القرآن ليُعمل به، فجعل بعض الناس من حفظه وتلاوته (فقط) عملاً. ولابد من الاعتراف، مع شديد الأسى، أن الكثير من علل التدين تسربت إلى المسلمين عملياً، على مستوى الذات، وما ذلك إلا لتوفر القابليات وغياب الحذر المطلوب.

ولقد ساعد على ذلك الحال الخللُ في مناهج وطرائق التربية وآليات التلقي والتعامل مع القرآن، الأمر الذي أدى للوصول إلى الحالة التي عبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم "بذهاب العلم" حتى مع وجود الشهادات والإجازات والحفاظ.

ولعل فيما يذكره ابن كثير، رحمه الله، عند تفسير الآية الثالثة والستين في سورة المائدة في الجدال الذي وقع بين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه زياد بن لبيد، مؤشراً دقيقاً على بعض ما صرنا إليه مع كتاب الله.

فقد أخرج الإمام أحمد، رحمه الله تعالى، عَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: "ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا فَقَالَ: وَذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ، قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا، وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ لَبِيدٍ، إِنْ كُنْتُ لأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ لا يَنْتَفِعُونَ مِمَّا فِيهِمَا بِشَيْءٍ ؟" (الحديث أخرجه أحمد في مسنده، وأخرجه ابن ماجه في سننه عن زياد بن لبيد في كتاب الفتـن، وأخرجه الترمذي في سـننه في باب ما جاء في ذهاب العلم، وقال: حديث حسن غريب).

وحيث إن المعجزة القرآنية تتمتع بهذه الخصائص والصفات في التغيير للواقع والهداية التي هي أقوم، لذلك فإن استهداف القرآن وعزله عن حياة الأمـة مستمر بوسائل شتى، منذ الجاهلية الأولى: ((لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ)) (فصلت:26) إلى ما انتهت إليه الوجهة التعليمية في معظم بلاد المسلمين، ومنذ زمن، التي تبدو وكأنها ترتكز على إفساد السليقة، واستبدال اللغة، وتغيير الحرف العربي في لغات الشعوب المسلمة، لإقامة الحواجز بين الأمة وتراثها المتأتي من عطاء القرآن، وإسقاط الاهتمام بعلوم اللغة العربية، مفتاح فهم القرآن، ومن ثم إفساد التذوق، وإفساد التلقي، والقضاء على أمل التغيير والارتقاء.

وقد تكون الإشـكالية أن بعض معاول الهدم تتأتى من الذات قبل (الآخر)؛ لأنـها لو جاءت واضحة من (الآخر) لحققت خيراً ((لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ)) (النور:11)، لأنها تستنفر الأمة، وتصنع التحدي، وتمكِّن من الاستجابة والمواجهة.

لقد كان من الطبيعي، والطبيعي جداً، أن يتمركز الاستهداف حول القرآن للوصول بالمسلمين إلى حالة الهجر، التي حذر الله منها على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: (( وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً)) (الفرقان:30)، وهذا الهجر من الجرائم الفكرية الكبيرة التي أشار إليها القرآن في الآية التالية لهذه الآية مباشرة: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً)) (الفرقان:31).

والهجر المقصود هنا ليس في عدم التلاوة والحفظ فقط، فهذا قد يكون قائماً ومستمراً، وإنما الهجر في غياب التدبر، وإقصاء القرآن عن حياة الأمة، والتوهين، وصناعة القابليات لمرور ثقافة وحضارة ومعايير (الآخر).

ولعل مدلول قولـه تعالى: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ )) (الحجر:9) يعني من بعض الوجوه، أن القرآن باق ومستمر ومحفوظ بحفظ الله، وأن الجهود لا بد أن تـتركز حول التدبر والتفكر، وما يمنحه ذلك من عطاءات ثقافية وحضارية وعلمية ومعرفية تجعل من الأمة شاهدة على الناس بجدارة علم وثقافة وخلق، وليست بادعاء.

نعاود القول: بأن الله حذرنا من علل التدين، ومنها ممارسة كهانات رجال الدين، الذين حاولوا احتكار المعرفة والنطق باسم الله، واحتكار حمل الكتاب المقدس، واستغلوا الدين لتحقيق التسلط على الناس، قال تعالى: ((فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )) (المائدة:13)، وقال: ((...وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ...)) (المائدة:41)، وقال: ((إِنَّ كَثِيراً مّنَ الأْحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ...)) (التوبة:34).

والمتأمل في أبعاد وآفاق هذه الآيات وواقع المسلمين ينتابه ذعر وخوف شديد، على الحال التي نحن عليها، وخاصة عندما يرى علل التدين تتقدم صوب الأمة المسلمة، بل صوب بعض نخبها.

إن ظهور الكهانات في الداخـل الإسلامي، بمعظم مواصفاتها، لا شك أنه أصـبح يشكل علة خطيـرة من علل التدين، ذلك أن رجال الدين، أو حملة الكتاب المقدس، الناطقين باسم الله في تاريخ التدين، كانوا أخطر على الأمة والحضارة والدين من أعدائه.. صحيح أنه في الإسلام لا توجد طبقة رجال دين، وإنما يوجد علماء ومتخصصون في العلوم الإسلامية، وأنهم جميعاً، مهما بلغوا، يجري عليهم الخطأ والصواب وعدم العصمة، وأن المعجزة القرآنية المجردة فصلت القيمة عن الذات، وجعلت القيمة هي المعيار للذات، كائنة من كانت، فالرجال يُعرفون بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال، وكل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.

لكن ملامح نذر الخطر المخيفة في بعض صور التدين الإسلامي، وليس في قيم الدين، أصبحت لا تخطئها العين، حيث يقترب واقع التدين في بعض جوانبه ومؤسساته عملياً من طبقة رجال الدين والأكليروس، ويبتعد عن ميدان العلم المتخصص؛ ولا نستغرب أن نرى من يعتلي المنابر ويتحدث باسم الدين من قد لا يكون له نصيب من كسب العلوم الإسلامية اللهم إلا الانتساب لبعض التنظيمات الإسلامية.. هذا الانتساب جعله يعطي نفسه حق القول في الدين والثقافة الإسـلامية والإعجاز العـلمي، وقد يكون متخصصاً في شعب معرفية تمثل فروضاً كفائية المجتمع بأشد الحاجة إليها(!) فهجره لاختصاصه وتحولـه إلى غير اختصاصه يترتب عليه خلل، وآثاره خطيرة على جمـيع الأصعـدة، ليس أقلها تفريـغ موقعه الذي غادره وإتاحة الفرصة لامتداد (الآخر)، وتعطيل عطاء موضعه الذي انتهى إليه دون أن يفقهه.

فالتحريف الذي أشار إليه تعالى في قوله: ((يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ)) في أصله حذف لبعض الألفاظ وإبدالها بغيرها ليتغير تبعاً لذلك المعنى والحكم والتكليف.. والنسيان الذي أشار إليه قوله تعالى: ((وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ)) إسقاط لبعض آيات وأحكام الكتاب بشكل متعمد، على الرغم من معرفته والتذكير به.

والخطورة تكمن اليوم في تطور التحريف من صورته الساذجة تلك، التي قد تكون مكشوفة، وهي حذف بعض الألفاظ أو إبدالها ليتغير تبعاً لذلك المعنى والتكليف، بحيث يتاح المجال لممارسة الابتزاز والاستغلال، إلى نوع متقدم، وهو الخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ (التأويل)، والتفسير والتأويل الذي يمارسه فقهاء السلطان والاستبداد السياسي أو الظلم الاجتماعي ليوافق المطلوب، ويشكل مسوغاً شرعياً لممارسات غير شرعية؛ فبدل أن نكيف سلوكناً مع القرآن نكيف آيات القرآن ونطوعها ونفسرها على هوانا لتسويغ سلوكنا! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعاً لِمَا جِئْتُ بِهِ" (الأربعين النووية) لا ماجئت تبعاً لهواه.

وليس هذا فقط، وإنما محاولات التبعيض والحذف والانتقاص والانتقاء في مناهج التربية والتعليم والإعلام والوعظ والإرشاد، الأمر الذي ينتهي بنا إلى أقصى مراحل الخزي، التي حذر الله منها بقوله: (( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَـابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) (البقرة:85)، وقال تعالى: ((وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)) (المائدة:49).

أفلا يسـتدعي الأمر أن يُنظر في أسـباب الخزي الذي نعاني منه؟ ألا يستدعي الأمر أن ندرك أن آية: (( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) (التوبة:34)، جاءت بعد قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مّنَ الأْحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ...)) فنأخذ حذرنا، ونعتبر بغيرنا، ونحاصر الكهانات التي تتسرب إلينا؟

فالقرآن شفاء للعلل والإصابات، وتصويب للعقل والفكر، ومعالجة لفساد الرأي والجنوح، وليس للرقية فقط، والتحول به من المدائن والأحياء إلى المقابر، والقراءة المبتدعة على الأموات.

وقد تكون المشكلة أن فساد العلماء (رجال الدين) أشد خطورة على الأمة من فساد الحكام، لذلك قال بعض الحكماء: من فسدت بطانته... كان كالغاص بالماء.. شر البلاد بلاد لا أمان بها، وشر الملوك من خافه البريء.. ذلك أن فساد بعض الحكام، الذي قد يؤدي إلى انفصال السلطان عن القرآن، جعل الأمة تاريخياً منحازة إلى القرآن، وبذلك ضمان الاستمرار؛ فالأمة أقوى من الدولة، والعقيدة أبقى من السياسة؛ أما إذا فسد العلماء أو اعتلى منابرهم من غير المؤهلين، فإلى قيادة مَنْ تنحاز الأمة؟!

إن فسـاد العلـماء، وإفسادهم بالمال أو بالجـاه أو بالسـلطان أو الرئاسات - وقد قال بعض العارفين: آخر ما يخرج من قلوب الأولياء حسب الرئاسة- يعتبر من أخطر علل التدين على حياة الأمة: ((يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مّنَ الأْحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ...)) (التوبة:34)، إلا أننا مطمئنون إلى أن قيم الدين المتمثلة في معجزته الخالدة تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد.. فمعجزة الإسلام ليست متجسدة في شخص، أو جماعة، أو هيئة، أو إنسان، أو رجل، مهما كبر، وإنما هي معجزة مجردة ممتدة على الزمان والمكان والإنسان.. ومن التجريد يتأكد الخلود والقدرة على التوليد، ومن التجسيد كان التوقيت والانقضاء.. والخلود يعني تجاوز مرحلة التجسيد بالزمان والمكان والأشخاص، وامتداد المتجرد أو المجرد كقيمة حتى يوم القيامة.

ولعل من المفيد هنا أن نذكر بأن القرآن الكريم في دعوته للإنسان، وإقناعه بالحقائق المطلقة، بالنسبة لرؤيته في الكون والحياة والإنسان، انتهى به إلى الإيمان بالله واجب الوجود عقلاً "وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد" ذلك أن عطاء هذا الإيمان هو الذي يمثل الخلاص والتحرر من كل أنواع التسلط والعبودية.

لقد خاطب القرآن قوى الوعي كلها في الإنسان؛ خاطب العقل وحرضه على النظر والتفكير -كما أسلفنا- ودربه على بعض المعادلات الفكرية.

واستخدم الأدلة البرهانية، وأجاب في خطابه للإنسان عن الأسئلة الكبرى المؤرقة له، والذي لا يمتلك العقل أدوات التوصل إليها والإجابة عنها.

استخدم البرهان والاستدلال والمقايسة والمقارنة. وقد لا نكون بحاجة لإيراد الأمثلة، فكلمة: ((فَاعْتَبِرُواْ )) ، و((انظُرُواْ))، و((لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))، و((لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ))، واعتبار إيقاظ الوعي والتفكير سبيل الإيمان، أكثر من أن تحصى في القرآن.

كما استخدم القصة لتحقيق العبرة: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأّوْلِي الألْبَـابِ)) (يوسف:111).

واستخدم التاريخ، ليلفت النظر إلى سنن السقوط والنهوض واطرادها.

وملَّك الإنسان حقائق علمية يقينية، كما ملكه القابليات والأدوات للنظر، وقال له: انطلق في الأرض وانظر: ((فَسِيرُواْ فِي الأْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ)) (آل عمران:137).

واستخدم المثل، وخاطب النفس من الداخل وعرض تقلباتها المتنوعة، وأثار الخواطر وسبر أغوارها، وجيش المشاعر، وحرك العاطفة، ونمى الأحاسيس، كما خاطب الإنسان بالمصير، وتحدى بالعواقب والمآلات.

واستخدم الحوار والمجادلة، وقدم بعض الحقائق العلمية، ووضع الإنسان على الجادة، وأعطاه دليل رحلة البحث العلمي ومفاتحه، وجعل ذلك تكليفاً ومسؤولية.

كما استشرف له الماضي، لتشكيل ذاكرته وتحقيق التراكم المعرفي المطلوب لتنميته، قال تعالى: ((شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ)) (الشورى:13)، ((مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّـاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ)) (الحج:78).

كما قدم رؤية للمستقبل، وأخبر عن المصير وعالم الغيب، وحكى قصة أطوار الحياة، التي تشكل حقائق يعيشها الإنسان ويلمسها ويشاهدها.

وعلى العموم، نستطيع أن نقول: قدم القرآن معادلات للحياة، وغطى جميع مساحاتها، وأجاب عن أسئلة الإنسان، وأحسن بناءه، وناط به صناعة العمران وتحقيق الاستخلاف.. فالله خلق الإنسان، وأحسن خلقه وتقويمه، والإنسان أبدع أشياءه وكشف قوانين المادة التي مكنته من التقدم العلمي.

ولم يكن ما قدمه القرآن رؤية خيالية نظرية، ولا فلسـفة توهيمية هائمة، ولا معرفة باردة عاجزة عن الفعل والتحقق في واقع الناس، وإنما معجزته الحقيقية تمثلت في أن رؤيته وقيمه وفلسفته تجسدت في حياة الناس.

وحسبنا أن نقول: بأنه لا أدل على نجاح استراتيجية القرآن وأساليبه المتميزة في الإقناع من أن الأمة المسلمة تشكلت من خلاله، وتماسكت من خلال القرآن، ونهضت من كبواتها من خلاله، وقدمت حضارة وثقافة بنضح من القرآن.

وأنه على الرغم من التقدم العلمي والمعرفي، مع ذلك لم تسجل إصابة واحدة على معرفة الوحي في القرآن والسنة، مصداقاً لقولـه تعالى: ((لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ (المستقبل) وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ (الماضي) )) (فصلت:42)، لكن تتراكم الإصابات لعالم المسلمين اليوم بسبب هجرهم للقرآن.

وبعد، فالكتاب الذي نقدمه يمكن أن يعتبر محاولة لتقديم بعض الملامح حول أساليب القرآن في الإقناع، ودعوة لاستصحاب هذه الأساليب في تعاملنا مع الثقافات الوافدة في هذه الحقبة الخطيرة من حياة البشرية، حقبة حوار الحضارات أو صراع الحضارات والسعي لفرض أنماط ثقافية باسم العولمة والنظام العالمي الجديد ، ولا أدل على اعتماد القرآن سبيل الإقناع من أن شعاره الكبير كان وما يزال: ((لا إِكْرَاهَ))، والتذكير بأهمية المجاهدة بالقرآن، استجابة لقوله تعالى: ((وَجَـاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً )) (الفرقان:52) فالجهاد الكبير هو جهاد الأفكار، وعلى الأخص في هذا العصر، الذي يعتبر الإعلام والحوار وصراع الأفكار والحضارات والمدافعة الثقافية من أمضى أسلحته وأخطرها.

ولعل الكتاب يمثل أيضاً دعوة للتبصر بمنهج القرآن والتعامل معه بأدوات صحيحة، والتحقق بوسائله، أو استراتيجيته في الإقناع وتحصيل الإيمان، ومعرفة كيفية الاستمساك به، لتجاوز العجز والفقر الثقافي وهدم التوهم، الذي يأتي عادة ثمرة للعجز والإحباط، بأن التشدد والإكراه والعنف والغلو هو الذي يقنع الإنسان ويحقق نقله من الكفر إلى الإيمان.

ذلك أن من المؤسـف التوهم بأن التشدد والعنف يمكن أن يحقق المطلوب ويقنع الناس بالإسلام، على الرغم مما جاء به القرآن من استراتيجية للإقناع وآليه لبناء ثقافة وقناعة الإنسان، وتجسد ذلك في تاريخنا الثقافي في جملته، الذي يعتبر تاريخ عطاء القرآن، وأن القيمة الأساسية في ديننا التي مكنته ومكنت له: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدّينِ)) (البقرة:256)، حيث كانت قيادة الإنسان من خلال قناعاته، ومع ذلك فإن بعضنا ما يزال يعتقد أن السيف أصدق إنباء من الكتب، ويفوته قول الشاعر:

الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المكان الثاني
فيدخل الكثير من المعارك الغلط باسم الدين، ويهدر الكثير من الطاقة باسم الجهاد، ويخطئ اختيار الوسيلة، ويسيء للأمور، ويفتقد الحكمة في النظر.

وقد نقول هنا: بأن الكلام عن أساليب القرآن، ودوره في تحقيق الإقناع، هي من المسـلمات، والأدلة على ذلك أكثر من أن يحاط بها على مستوى الفكر والفعل بحيث لم تعد تدع استزادة لمستزيد، ولا أدل على ذلك مما أنتجه القرآن من إنسان وحضارة وثقافة، وإن شئت فقل: أمة، بكل مقوماتها، لكن المشكلة الأساس اليوم، التي تستدعي الكثير من النظر والبحث والمعالجة، تتمثل في السؤال الكبير: إذا كان القرآن الكريم بهذا العطاء الخالد، والقدرة الخارقة على الإقناع (المعجزة العقلية الثقافية الخالدة) فلماذا يعجز المسلمون أن يكونوا في مستوى قرآنهم، على مختلف الأصعدة؟ ولماذا يبقى واقعهم غير مقنع، إن لم يكن منفراً، بل وغوغائياً في بعض جوانبه؟

وكم يترجى الإنسان ويتمنى أن الدراسات والجهود التي اجتمعت على بيان عظمـة القرآن يتحول بعضها ليتبين أين الخلل، وكيف نعيد التواصل مع القرآن، ونفتش عن أنفسنا، وعلاج إصاباتنا في القرآن؟ ونحن نعلم جميعاً أن القرآن الكريم خالد قادر على العطاء إلى يوم الدين.

ولعل من أبرز خصائص القرآن أنه أطلق العقل من عقاله، وأعاد إليه وظيفته، وارتقى به إلى آفاق من الكشف والكسب المعرفي، وأكد له أن رحلة البحث والكشف العلمي لن تتوقف ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ)) (فصلت:53)، إلى يوم القيامة، فالقرآن بطبيعته حمَّال أوجه، كما قال سيدنا علي رضي الله عنه، وهذا يمنح طاقة هائلة وخصبة للنظر والرؤية، ويدفع إلى التعددية والتنوع وإغناء الرحلة العلمية، ويفتح الأبواب كلها للنظر في الآفاق والأنفس؛ وكلٌ يرتقي حسب قدراته العقلية: ((فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا)) (الرعد:17)؛ ولكلٍ من الثواب والأجر حسب كسبه المعرفي.

هذه الآفاق الفسـيحة لا تحـدها حـدود زمـانية أو مكانية أو بشرية، ويكفي أن نتأمل قوله تعالى: ((قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَـاتِ رَبّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـاتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)) (الكهف:109)، ((وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأْرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـاتُ اللَّهِ)) (لقمان:27)، لندرك الأبعاد والمساحات والفضاءات، التي تنتظرنا، والتي يتحرك فيها العقل البشري من خلال عطاء معرفة الوحي، بعيداً عن الانسداد والتقييد والانحباس والمحاصرة.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.


ميارى 2 - 8 - 2010 02:27 AM

الفصل الأول

استراتيجيات الإقناع


يتعرض العالم الإسلامي إلى عملية استلاب ثقافي وغزو فكري من خلال وسائل إعلامية جعلت من العالم كوخاً صغيراً، في ظل مصـطلح «العولمة» المرتكزة إلى انتـشار المعلومات، وتذويب الحدود الجغرافية، وتحقيق أكبـر قدر من التشابه بين هويات الشعوب وخصوصياتها.

فمعظم الرسائل الإعلامية المستقبلة في عالمنا الإسلامي من وسائل إعلام أجنبية تهدف إلى أن نفقد الثقة بقيم الإسلام ومناهجه في الحياة، ونستبدل بمعاييرنا ومقاييسنا معايير ومقاييس ترسم طريقاً غير الذي رسمه لنا الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم... وأن نفقد الثقة في أي تحرك إسلامي، وذلك تحت شعار التطور والتقدم؛ فضلاً عن إثارة الفتن في صفوف الأمة، إقليمية أو طائفية أو شعوبية، وتفجير معارك جانبية بين أفراد الأمة، وتحريض الدول الضعيفة، بعضها ضد بعض... وعزل الأمة الإسلامية عن الأمم جميعها، وتشويه سمعة العمل الإسلامي الداعي لبعث الإسلام من جديد، لينهض بالأمة ويأخذ بيدها... والإبقاء على مجتمعاتنا مجتمعات استهلاكية، تستورد من الغرب كل شيء.

هذه هي بعض أهداف الإعلام، الذي نعمل على استقباله، وهي أهداف اتفق حولها كثير من الباحثين في هذا المجال... غير أن الأمر الجدير بالملاحظة هو أن هذا الخطاب الإعلامي يحظى بدرجة عالية من الإقناع وسط جمهور عريض من المتلقين وصلت حد القناعة، التي قادت إلى هروب المتلقي من وسائل إعلامه المحلية إلى وسائل إعلام أجنبية، لا تراعي قيماً أو سلوكاً فاضلاً، مما أسفر عن انحطاط أخلاقي ونمو وتزايد أنماط سلوكية جديدة غير تلك التي جاء بها الإسلام.

وقد استطاع الإعلام الغربي أن يصل إلى إقناع المتلقي في العالم العربي والإسلامي والاستحواذ عليه، من خلال برامجه، التي يبثها وفق استراتيجيات ثلاث، هي:

1- الاستراتيجية الدينامية النفسية، التي يخاطب من خلالها الجمهور، نفسياً ووجـدانياً وعاطفياً، سـواء كان ذلك عبر اللغة أو الصورة.

2- الاستراتيجية الثقافية الاجتماعية، التي تخاطب المتلقي وفقاً لعاداته وتقاليده وثقافته.

3- استراتيجية إنشاء المعاني، التي تهدف إلى إشاعة وغرس معان جديدة في المجتمع، قد لا تتجانس مع ماهو سائد فيه.

ومما تجدر ملاحظته أن هذه الاستراتيجيات قد استخدمها الخطاب القرآني، غير أن تخلف الأمة الإسلامية عن الركب جعلها بعيدة عن مصادرها العلمية الأصيلة.

فغاية هذا الكتاب هو الوقوف على الأساليب الإقناعية في القرآن الكريم، وكيفية الاستفادة منها في العمل الإعلامي، بهدف نشر الدعوة الإسـلامية في أنحاء العالم كافة، بدلاً من أن نكون مستقبلين فقط لبرامج لا تتجانس وعقيدتنا وقيمنا.. حيث الدعوة إلى الله تعالى تعتبر من أوجب واجبات المسلم.. ووسائل نشر الدعوة اليوم متاحة أكثر من أي وقت مضى، ولكن ينقصنا الخطاب الإقناعي، الذي يجعل المتلقي في الداخل والخارج يقبل على ما نبث وننشر.

وقد جاء الكتاب في أربعة فصول، خصصنا الأول منها للحديث عن استراتيجيات الإقناع؛ فيما جاء الفصل الثاني متناولاً استمالات وأساليب الرسالة الإقناعية؛ أما الفصل الثالث فكان عن القرآن الكريم واستراتيجيات الإقناع؛ وجاء الفصل الرابع متناولاً استراتيجيات الإقناع ونشر الدعوة في العصر الحديث، بالإضافة إلى الخاتمة.

أسأل الله أن ينفع به، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.

وبالله التوفيق.

الفصل الأول

استراتيجيات الإقناع

تتعدد النظريات التي حاولت تفسير الظاهرة الإعلامية وتأثيراتها على الجمهور.. واعتمدت في بداياتها المدخل النفسي لتفسير مكونات الظاهرة، ثم المدخل الاجتماعي، من واقع البحوث الميدانية، التي حاولت الوقوف على العملية الإعلامية وتأثير الرسالة الإعلامية على الجمهور المستهدف.. وحينما تيقن العلماء فشل كل من المدخل النفسي منفرداً وكذلك المدخل الاجتماعي منفرداً في تحليل الظاهرة تم دمج المدخلين بهدف تحديد وظائف وتأثيرات وسائل الإعلام في المجتمع، انطلاقاً من أن الوظائف أدوار عامة تؤديها وسائل الإعلام، وأن التأثيرات عبارة عن نتائج تحديد هذه الأدوار.

وتأثير الرسـالة الإعـلامية يبدأ بإقناع الجمهور بمشاهدتـها أو الاستماع إليها أو قراءتها.. ولفكرة الإقناع الأساسية جذور قديمة، فقبل عصر الاتصالات الجماهيـرية بوقت طـويل، كان مصـطلح «علم البيان» أو «الفصاحة» يستخدم للإشارة إلى فن استخدام اللغة للتأثير على أحكام الآخرين وسلوكهم؛ ومن خلال الزمن الذي كان فيه الصوت البشري هو الوسيلة الوحيدة للاتصال، التي يمكن استخدامها لإقناع الناس بتغيير المعتقدات والأعمال، كانت تلك مهارة هامة بالفعل.. ومع ازدياد تطور المجتمعات، ازدهر فن الإقناع الشفهي بالكلام الفصيح.

وكان الإقناع كفن يُمارس منذ قرون، غير أن «علم الإقناع»، الذي انبثق فيما بعد هو نتاج القرن العشرين، ومقارنة بالعلوم الأخرى فهو حديث، ولذلك يرى بعض المهتـمين بالأمر أن الحكم على هذا العلم يجب أن ينطلق من الإجابة عن السـؤال القائل: هل أوجـد العلم إغراءات مقنعة تستطيع السيطرة على السلوك الإنساني؟ وأيًّا ما كانت أساليب الإقناع، فناً أو علماً، فإنها سوف تزداد فاعليتها في السيطرة على السلوك(1).

وعملية الإقناع تبدأ من الفكرة وطريقة التعبير عنها وأسلوب نقلها.. والربط بين الفكرة والتعبير عنها وكيفية نقلها، من الأمور الشائعة بين دارسي الإعلام وخبرائه، وبالرجوع لآرائهم يمكن الخروج بعدة قواعد أساسية تعطي وجهة نظر سائدة(1):

القاعدة الأولى: أن الكلمات عبارة عن رموز تستعمل للتعبير عن الأشياء أو الأفكار أو المفاهيم أو التجارب أو الأحاسيس.

القاعدة الثانية: أن الكلمة الواحدة من الممكن أن تحمل معاني كثيرة ويكون لها أكثر من استعمال.

القاعدة الثالثة: عند استخدام الرموز الكلامية أو الكلمات الرمزية كدليل لاتصالاتنا العامة أو الخاصة، فإننا غالباً ما نعتمد على الشمولية دون التفاصيل.

القاعدة الرابعة: من خلال دورة معاني الكلمات بين الناس وتبادلهم لـها، يتحدد المعنى الذي يتصل بالعـلاقة بين الرموز أو الموضـوعات أو المفاهيم التي تعود عليها.

القاعدة الخامسة: من الكلمات ما يمكن أن تكون لها معانٍ ظاهرة وأخرى باطنة.

القاعدة السادسة: تميل الحقيقة إلى الثبات بينما تتجه اللغة للحركة الميكانيكية.

فهذه هي القواعد التي تربط الفكرة بالتعبير عنها وأسلوب نقلها.

والفكرة من حيث الاصطلاح الإعلامي هي: الشكل المحدد للتعبيـر عن مجموعـة من المواقف المرتبطة بشـخصيات حقيـقية أو اختيارية خلال ظروف اتصالية محددة([1])، ومن ثم فإن الإقناع في السياق الحالي يشير بصورة أساسية إلى استخدام وسائل الإعلام الجماهيرية لتقديم رسائل مخططة عمداً لاستنباط سلوكيات معينة من جانب جماهير القراء أو المستمعين أو المشاهدين، ولذلك فإن التعديل الواقعي للسلوك هو الهدف الذي ينبغي تحقيقه باعتباره المتغيـر التابع في النظرية التي تسـتهدف تفسيره([2]).

وقد عرض الباحثون ثلاث استراتيجيات نظرية للإقناع، يخاطب كل منها نفس المتغير التابع، وهو السلوك العلني.. وتشمل هذه الاستراتيجيات:-

1- الاستراتيجية الدينامية النفسية.

2- الاستراتيجية الثقافية الاجتماعية.

3- استراتيجية إنشاء المعاني.

وعلى الرغم من الصعوبة الماثلة للعيان في تحديد أثر الإعلام في السلوك، إلا أن المعلومات التي توفرها وسائل الإعلام تقوم بدور محفز في هذا المجال.. ويمكن القول على وجه العموم: بأن المعلومات التي يستقبلها الإنسان من وسائل الإعلام تصب في المخزون المعرفي، الذي يستقبل أيضاً معلومات إضافية من مصادر أخرى وعبر قنوات أخرى. وتتفاعل تلك المعلومات مع المخزون المعرفـي المتراكم فتؤدي إلى تكوين صورة معرفية عقلية معدلة يتصرف الإنسان في ضوئها وبموجبها.

لذلك فإن التأثر بالرسائل الإعلامية يعتبر عاملاً من بين مجموعة عوامل أو متغيرات تسهم جميعاً في إعادة صياغة الصورة العقلية، وهذه بدورها تدفع الإنسان لاتخاذ قرار معين والإتيان بسلوك ينسجم مع ذلك القرار([3])، وهذا قمة الإقناع، الذي يعرف بأنه استخدام الرموز واستغلالها بهدف دفع المتلقين للقيام بأعمال محددة تخدم المتلقي نفسه.

ميارى 2 - 8 - 2010 02:29 AM


أ
ولاً: الاستراتيجية الدينامية النفسية:

تقوم الافتراضات الأساسية في علم النفس على المؤثر والاستجابة عند الفرد، وذلك على النحو التالي:-

1- إن المؤثرات تُسْتَقبل وتُكتَشف بواسطة الأحاسيس من المحيط الخارجي.

2- إن خصائص الكائنات العضوية تشكل نوع الاستجابة التي ستحدث، وأخيراً سوف يتيح ذلك ظهور بعض أشكال السلوك.

وبما أننا لا نهتم بالمخلوق البشري وحده، فإنه يمكن تحديد العوامل المؤثرة في الآتي([4]):-

أ- مجموعة من خصائص بيولوجية بشرية أو صفات موروثة.

ب- مجموعة أخرى من عوامل قد تكون قائمة أساساً على البيولوجيا جزئياً والتعليم جزئياً، مثل الحالات والظروف الانفعالية.

ج- مجموعة من عوامل مكتسبة أو جرى تعلمها لتنظيم التركيب الإدراكي للفرد.

ومن هنا ندرك أن المخلوق البشري تركيب معقد من مكونات بيولوجية وعاطفية وإدراكية، ومن بين هذه الأنواع الثلاثة لا بد أن تركز الاستراتيجية الدينامية النفسية أما على عوامل عاطفية أو عوامل إدراكية، إذ من المستحيل تعديل عامل بـيولوجي موروث كالطول أوالعنصر أو الجنس.

فمن الممكن استخدام وسائل الاتصال الجماهيري لإثارة حالة انفعالية كالغضب أو الخوف، والتي يمكن أن تكون مهمة عندئذ في تشكيل الاستجابة.

وتحاول هذه الاستراتيجية ربط الإثارة الانفعالية بأشكال معينة من السلوك؛ وفي حين أن العواطف تمثل أسـاساً واضحاً لهذه الاستراتيجية إلا أن استخدامها يتم في عدد محدود من المواقف خاصة تلك التي على صلة بالجوانب الإنسانية. أما العوامل الإدراكية فهي مؤثرات على السلوك الإنساني، ومن ثم فإنه إذا كان من الممكن تغيير العوامل الإدراكية فسوف يتسنى عندئذ تغيير السلوك بكل تأكيد([5]).

ومن هنا يمكن القول: إن جوهر الاستراتيجية الدينامية النفسية هو استخدام رسالة إعلامية فعالة لها القدرة على تغيير الوظائف النفسية للأفراد حتى يستجيبوا لهدف القائم بالاتصال، أي أن مفتاح الإقناع يكمن في تعلم جديد من خلال معلومات يقدمها القائم بالاتصال لكي يتغيَّر البناء النفسي الداخلي للفرد المستهدف (الاحتياجات - المخاوف - التصرفات) مما يؤدي إلى السلوك العلني المرغوب فيه.

وتستخدم وسائل الإعلام العالمية هذه الاستراتيجية بشكل فاعل من خلال أساليب التضليل الإعلامي المرتكز إلى خمس أساطير([6]) هي:-

1- أسطورة الفردية والاختيار الشخصي.

2- أسطورة الحياد.

3- أسطورة الطبيعة الإنسانية الثابتة.

4- أسطورة غياب الصراع الاجتماعي.

5- أسطورة التعددية الإعلامية.

ويمكن ملاحظة ذلك من خلال التغطية الإخبارية للأحداث والبرامج ذات الطابع الدرامي، إضافة للإعلانات.. والرسم التالي يوضح هذه الاستراتيجية.


ميارى 2 - 8 - 2010 02:31 AM


ثانياً: الاستراتيجية الثقافية الاجتماعية:-

بينما تقوم الافتراضات الأساسية لعلم النفس على أن السلوك يمكن السيطرة عليه من قوى داخل الفرد، فإن العلوم الاجتماعية الأخرى تفترض أن قدراً كبيراً من السلوك الإنساني تشكله قوى من خارج الفرد([7]).

ويؤكد علم دراسة المجتمعات البشرية التأثير القوي للثقافة على السلوك، بينما يهتم علم السياسة بدراسة هياكل الحكم وممارسة السلطة، أما علم الاجتماع فإنه يدرس تأثير النظام الاجتماعي على سلوك الجماعة.. وتقـدم كل هذه العلوم أسـاساً للتنبؤ بطبيعة العمل البشري.

وهكذا لا يوجد شك كبير في أن كلاً من العوامل الاجتماعية والثقافية تشكل خطوطاً توجيهية للسلوك البشري، ولهذا السبب فإن مثل هذه العوامل الخارجية يمكن أن تهيىء أساساً للإقناع، مع افتراض أنه يمكن للفرد تحديدها أو التحكم فيها([8]).

إن ما تتطلبه استراتيجية ثقافية اجتماعية فعالة هو أن تحدد رسائل الإقناع للفرد قواعد السلوك الاجتماعي، أو المتطلبات الثقافية للعمل الذي يحكم الأنشطة، التي يحاول رجـل الإعلام أن يحدثها، وإذا كانت التحديات موجودة فعلاً تصبح المهمة هي إعادة تحديد هذه المتطلبات.

وتستخدم الدول الأجنبية هذه الاستراتيجية لبث ثقافتها وتقاليدها في البلدان الأخرى، وهذا يعني أن الرسالة الإعلامية تعمل على تعميم ثقافة تلك الدولة وقيمها، وتقيم بالتالي لغة مشتركة بين البلدين، تسهل للطرف الأقوى فرض سيطرته على الطرف الأضعف.. ويبدو أن العالم الإسلامي اليوم يشكل الطرف الأضعف، حيث تتم السيطرة الثقافية عليه عبر الآتي([9]):

- نشر قيم النظام الرأسمالي في الدول المسيطرة عبر البرامج المنوعة، وصولاً إلى الأفلام والتحقيقات، فضلاً عن المباريات والتحيُّز المباشر لهذا النظام في الأخبار والتعليقات.

- تصدير فلسفات عمل عبر الشركات الكبرى، وهي الوحدات التنظيمية الأساسية في الاقتصاد الرأسـمالي العالمي الحديث، هذا التصدير تقوم به وسائل الإعلام الغربية، ونعمل نحن على استقباله في الديار الإسلامية.

- تعزيز الاتجاه المهني في قيم العمل وسلوكياته، الأمر الذي يؤدي إلى فرض قيود تقاوم التغيير في النظام العام.

- نشر عادات وتقاليد المجتمعات الصناعية المتقدمة.

ويساعد على تدعيم هذه السيطرة وتثبيتها، التدفق الحر للمعلومات، وضخامة الإنتاج للشركات الإعلامية العالمية الكبرى.

ميارى 2 - 8 - 2010 02:34 AM


ثالثاً: استراتيجية إنشاء المعاني:

تستخدم وسائل الإعلام الجماهيرية في إنشاء ودعم الصور الذهنية من خلال مصادر غير محددة للمعلومات، تعمل على صياغة أو تعديل المعاني التي خَبِرها الناس عن كل شيء. ويتضمن نموذج المعاني أساساً المقترحات المتشابكة التالية([10]):

1- الذاكرة عند الإنسان تتيح تطوير المعرفة.

2- المعرفة موجودة على شكل مفاهيم، وهي تركيبات لها أسماء أو تصنيفات للمعاني التي يذكرها الأشخاص.

3- معاني المفاهيم يمكن للشخص أن يحصل عليها إما عن طريق الاتصال الحسي المباشر مع النواحي المختلفة للواقع، أو من خلال التفاعل الرمزي مع الجماعات التي تستخدم اللغة.

4- اللغة هي أساساً مجموعة من الرموز ( اللفظية وغير اللفظية) تستخدم في تمييز وتسمية وتصنيف المعاني المتفق عليها.

5- العادات أو الاتفاقات، توجد الروابط بين الرمز والمعنى، وبهذا فهي تتيح عملية الاتصال بين هؤلاء الذين يلتزمون بالقواعد.

6- رموز اللغة المتفق عليها، التي يستخدمها شعب معين، تشكل فهمه أو تفسيره أو سلوكه تجاه عالمه المادي والاجتماعي.

وقد أحصى بعض العلماء وظائف اللغة الاجتماعية فـي الآتي([11]):

أ- اللغة تجعل للمعارف والأفكار البشرية قيماً اجتماعية، لسبب يقوم على استخدام المجتمع للغة بقصد الدلالة على أفكاره وتجاربه.

ب- اللغـة تحتفظ بالتراث الثقافي والتقاليد الاجتماعية جيلاً بعد جيل.

ج- اللغة عبارة عن وسيلة لتعلم الفرد، تعينه على تكييف سلوكه وضبطه حتى يلائم تقاليد المجتمع وسلوكياته.

د- اللغة تزود الفرد بأدوات التفكير، وما وصل المجتمع البشري إلى ما هو عليه الآن إلا من خلال التعاون الفـكري المنظم لحياته، ولا يأتي هذا التعاون الفكري إلا بالتفاهم وتبادل الأفكار بين أفراد المجتمع، والوسيلة الميسورة لهذا التبادل والتفاهم هي اللغة.

ووفقاً لاستراتيجية إنشاء المعاني فإن وسائل الإعلام تكوِّن الصور الذهنية لرؤوسنا، وتنمي معتقداتنا عن العالم الحقيقي، وتؤثر في سلوكنا، كما أنها تنشىء وتغير وتثبت المعاني ككلمات في لغتنا، وتؤثر هذه التعديلات للمعاني في استجابتنا للموضوعات المختلفة.

وإذا افترضنا أن وسائل الإعلام يمكن أن تعدل المعاني وتؤثر على السلوك بدون قصد، فإن هناك أسساً كافية للاعتماد على استراتيجية بناء المعاني بغرض تغيير السلوك عن قصد، فالمعلومات التي تنقل إلى الجماهير يجب أن تكـون فاعـلة([12]).

وعموماً يمكن تلخيص هذه الاستراتيجيات في الآتي:-

الاستراتيجية النفسية تهدف إلى تعديل أو تنشيط العامل الإدراكي للفرد؛ بينما تهدف الاستراتيجية الثقافية الاجتماعية إلى صياغة أو تعديل التعريفات لسلوك اجتماعي متفق عليه من قبل الجماعة، أو تعيد تحديد متطلبات ثقافية أو قواعد سلوك للجماعة من خلال أدوار محددة أو مراتب أو عقوبات؛ فيما تهدف استراتيجية إنشاء المعاني إلى خلق معانٍ جديدة، أو تغيير معانٍ راسخة داخل أي مجتمع من المجتمعات.

وعموماً يمكن القول: إن الإقناع في أدبيات الاتصال يرتبط ببناء الرسالة وأسلوب تقديمها.. وعلى الرغم مما يشار إليه دائماً من تأثيرات لعناصر أخرى في عملية الاتصال، إلا أن الرسالة وخصائصها تظل هي المتغير الأساس والحاسم في تحقيق هدف الإقناع في الحصول على استجابات موالية.. ويُعتبر تخطيط الرسالة الإعلامية وبناؤها البداية الناجحة لزيادة التوقعات بنجاح الرسالة العملية الإقناعية([13]).

وفي الفصل القادم نتناول هذه الجوانب.


ميارى 2 - 8 - 2010 02:41 AM


الفصل الثاني:استمالات وأساليب الإقناع في الرسالة الاتصالية


قال تعالى: ((يأَ يُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَـاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )) (الحجرات:13).

من أهم الأسس النظرية التي يقوم عليها علم الاتصال المعاصر، هي النظرية الرياضية للمعلومات (Mathematical theory of Information) التي تعتمد على التعارف بين الأفراد والمجتمعات والحكومات.. ومثلما أن الاتصال يعتمد على اللغة، وهو الذي يسمى بالاتصال اللفظي، فهناك اتصال غير لفظي يؤدي هو الآخر دوراً مهماً، سواء كان مصاحباً ومكملاً للنمط الأول أو مستقلاً.

ولقد تجلى ذلك في كثير من الآيات القرآنية، كما في قول الحق تبارك وتعالى مخاطباً نساء النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا نِسَاء النَّبِي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً )) (الأحزاب:32).

فالخضوع هنا بمعنى إمالة الكلام وإلانته... وهو تعبير مباشر عن نمط الاتصال غير اللفظي، الذي يستخدم خصائص ما وراء اللغة.. والنهي عن تليين الكلام مرتبط بفعالية وتأثير هذه الرسالة غير اللفظية، حتى ولو تناقضت مع ظاهر الكلام، بما تثير من توقعات وآمال عند الفُسَّاق ذوي القلوب المريضة([1]).

فالاتصال معلومات أو أوامر تبث إلى البيئة بهدف التأثير فيها، والسيطرة عليها.. وتقوم العملية الاتصالية على مكونات أساس هي: المرسل أو المصدر، ثم الرسالة، ثـم الوسيلة، فالمتلقي، ورجـع الصدى أو التأثير، مع مراعاة أن تقسيم هذه العملية إلى مجموعة من العناصر يستهدف الشرح والتبسيط، ولا ينفي مدى التركيب والتعقيد، وعدم إمكانية الفصل بين هذه العناصر في الواقع الحقيقي، مع التأكيد أن عملية الاتصال تتسم بالاستمرارية، وتعتمد على مجموعة من العناصر المتصلة والمتداخلة والمتشابكة مع ظروف نفسية واجتماعية تؤثر في النهاية على انتقال الأفكار والمعلومات بين الأفراد والجماعات.

والذي يهمنا من أركان العملية الاتصالية في هذا الكتاب عنصر الرسالة وماهي السمات الإقناعية لها.. فالرسالة هي مضمون السلوك الاتصالي، فالإنسان يرسل ويستقبل كميات ضخمة ومتنوعة من الرسائل، بعضها يتسم بالخصوصية مثل الحركة والإيماءة والإشارة والابتسامة والنظر؛ وبعضها الآخر يتسم بالعمومية مثل الندوات والمحاضرات ورسائل الصحف والمجلات والراديو والتلفزيون والسينما؛ وبعض الرسائل يتم نقلها بقصد، ورسائل أخرى يتم التعرض لها بالمصادفة، وكلما كان هناك تفاعل وفهم مشترك بين المرسل والمتلقي قاد ذلك إلى فعالية الرسالة؛ وكلما استطاع المتلقي أن يستوفي المرسل لمزيد من الفهم، اكتسبت الرسالة فعالية أكبر([2]).

وهناك عدة أمور يجب أن نأخـذها في الاعـتبار بالنسـبة للرسالة، منها:-

1- لغة الرسالة: وهي مجموعة الحروف والكلمات التي لا تقبل التقسيم وتهدف إلى تكوين بناء متكامل، ومجموعة من العناصر (مفردات اللغة) ومجموعة من الأساليب التي تجمع تلك العناصر في تكوين له معنى.

2- مضمون الرسالة: وهو مادة الرسالة التي يختارها المصدر لتعبر عن أهدافه، فهو العبارات التي تقال، والمعلومات التي تقدم، والاستنتاجات التي نخرج بها، والأحكام التي نقترحها.

3- معالجة الرسالة: تشيـر معالجة الرسـالة إلى القـرارات التي يتخذها المصدر أو المرسـل بالنسـبة للطريقـة التي سـيقدم بها المضمون، فالمصـدر قد يخـتار معلومة معينة ويتجاهل معلومة أخرى، وقـد يكرر الدليل الذي يحـاول أن يثبت به رأيه، وقد يلخص ما يقـوله فـي البدايـة أو فـي النهايـة، ويسـتطيع المصـدر أن يذكر كل الحقائق في رسالته، وقد يترك للمتلقي مهمة تكملة الجوانب التي لم يذكرها في الرسالة.. ويتخذ كل فرد القرارات التي تحقق أهدافه بأفضل شكل متاح.

وتتلخص عناصر نجاح الرسالة الإعلامية، كما يرى الدكتور محي الدين عبد الحليم، في الآتي([3]):-

أ- يجب أن يراعى في الرسالة أن تهم أكبر عدد ممكن من الجماهير المستقبلة، وأن تشعر هذه الجماهير بحاجتها لموضوع الرسالة، وأن تعالج مشاكلهم، وأن تتناول مختلف قضاياهم.

ب- يجب أن تعد الرسالة بما يتناسـب والظروف الخاصـة التي تحكم كل وسيلة إعلامية، لأن الرسالة الإذاعية تتطلب شروطاً قد لا تتطلبها الرسالة الموجهة عن طريق التلفزيون، ذلك أن مستقبل الرسـالة الإذاعية لا يرى الحدث بعينه كما لا يرى المذيع الذي ينقل له ذلك الحدث، وعلى العكس من ذلك فإن مستقبل الرسالة الإعـلامية المنقولة بواسطة التلفزيون يشـاهد لقطات من الحدث كما يشاهد المذيع، وكذلك فإن الرسالة المطبوعة تسـمح إلى حد ما بالإفاضة في شرح تفاصيل الموضوع الذي تنقله، وكذلك فإن الرسالة الشفوية تختلف عن الرسائل التي سبق ذكرها، وهذا يتطلب من المرسل أن يكون متفهماً لطبيعة كل وسيلة، دارساً لأصول استخدامها في الزمان والمكان المناسبين.

ج- يجب مراعاة المستويات المختلفة للجمهور المستقبل للرسالة الإعلامية، فتوجه الرسالة باللغة التي يفهمها هذا الجمهور ويتجاوب مع معانيها، فالرسالة الموجهة لمستويات تعليمية عليا تختلف عن الرسالة الموجهة لمستويات شعبية قليلة الحظ من التعليم والثقافة، وكذلك الرسالة الموجهة للجمهور المحلي الداخلي تختلف عن الرسالة الموجهة للجمهور الخارجي العالمي.

د- يجب ألا تأتي الرسالة متناقضة مع عادات المجتمع وتقاليده، ولكن يجب أن تأخذ الرسالة في اعتبارها اهتمامات الجمهور الذي توجه إليه، ذلك أن الفرد لا يعرض نفسه إلا للموضوعات التي يرغب في التعرض إليها فعلاً، وهو ما يسـمى بالتعرض الانتقائي، كما أنه لا يدرك هذه الموضوعات إلا بالشكل الذي يود إدراكها به، وهو ما يسمى بالإدراك الانتقائي، وأن معظمنا يتذكر المواد الإعلامية التي تؤيد وجهة نظره ونحاول أن نتجاهل المعـلومات المخالفة لآرائنا، وهو ما يسمى بالحفظ أو التذكر الانتقائي.

هـ- يجب أن تتميز الرسالة الإعلامية بالبساطة والوضوح، وأن تسـتبعد منها العبارات والألفاظ المعقدة والغامضة، لأن الإعلام يعتمد على الكلام الواضـح البسـيط، أياً كان نوع الرسالة الإعلامية الموجهة؛ وليست الرسالة الإعلامية الناجحة هي التي تصاغ عباراتها بمهارة أو طلاقة لغوية فائقة ثم تترك عالم الواقع وتحلق في أجواء الخيال.

الاستمالات المستخدمة في الرسالة الإقناعية

يرتبط محتوى الرسالة عادة بالقدرة على الإقناع، فقد كان أفلاطون يعرف البلاغة بأنها "كسب عقول الناس بالكلمات". وكان أرسطو يرى أن البلاغة هي: "القدرة على كشف جميع السبل الممكنة للإقناع في كل حالة بعينها".

ويتحدث العلماء عن ثلاثة أنواع أساسية من الاستمالات التي توجد بالرسالة الإقناعية هي: الاستمالات العاطفية، الاستمالات العقلانية، واستمالات التخويف.. وفيما يلي استعراض لكل منها، مع إيراد بعض النماذج من القرآن الكريم([4]).

1- الاستمالات العاطفية:

تستهدف الاستمالات العاطفية التأثير على وجدان المتلقي وانفـعالاته، وإثارة حاجاته النفسـية والاجتماعية، ومخاطبة حواسه بما يحقق أهداف القائم بالاتصال.. وتعتمد الاستمالات العاطفية على ما يلي:-

أ- استخدام الشعارات والرموز، وتعتمد في ذلك على خاصية التبسيط لعملية التفكير واختزال مراحـله المختلفة عن طريق إطلاق حكم نهائي في شكل مبسط، ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم قول الحق عز وجل: ((يَسْـأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ )) (البقرة:189)، فالشعارات هي عبارات يطلقها القائم بالاتصال لتلخص هدفه في صيغة واحدة ومؤثرة بشكل يسهل حفظها وترديدها، أما الرموز فتشير إلى تنظيم التجارب الإنسانية في مجموعة من الرموز التي تلغي صناعياً التباين بين الأفراد في عالم الواقع، ويصبح التفاهم ممكناً على أساس هذه الرموز العامة التي حلت محل التجارب الفردية وأصبح لها مدلول عام متفق عليه بين أفراد الجماعة.

ب- استخدام الأساليب اللغوية، مثل التشبيه والاستعارة والكناية أو الاستفهام، الذي يخرج عن كونه استفهاماً حقيقياً إلى معنى آخر مجازي كالتوبيخ والتبكيت، وكل الأساليب البلاغية التي من شأنها تقريب وتجسيد وجهة نظر القائم بالاتصال، ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: ((قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً)) (مريم:4)، وقولـه تعالى: ((صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـابِدونَ)) ( البقرة: 138)، وقوله تعالى: ((أَفَسِحْرٌ هَـذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ)) (الطور:15)، وقولـه تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ)) (الطور:30)، وقوله تعالى: ((أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ )) (الطور:32).

ج- دلالات الألفاظ، وهي من أساليب تحريف الكلم عن مواضعه اعتماداً على الألفاظ المستخدمة، ويمكن تطبيق ذلك باستخدام كلمة أو صفة أو فعل، تكون محملة بمشاعر معينة قد تكون سلبية تضفي نوعاً من الرفض على الاسم أو الفاعل المصاحب لها مثل استخدام صفات (التخريبية) أو أفعال مثل: ادعى، زعم، اعترف؛ وقد تكون إيجابية مثل: المعتدل، النشط.. ويلاحظ أن بعض هذه الألفاظ في أصلها اللغوي محايدة كلفظ (ادعى) إلا أن معيار الحكم هو ما جرى العرف عليه في استخدام اللفظ، وهو ما يطلق عليه علماء اللغة: (الحقيقة العرفية للفظ).. كذلك يمكن استبدال الكلمة بكلمة أخرى لها دلالة معنوية، ويقصـد بالدلالـة المعنوية انتـقال الذهن من مفهـوم اللفـظ إلى ما يلازمه، ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: ((وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأْنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ)) (الأنعام:136)، وقوله تعالى: ((وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ)) (القصص:64)، ((وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)) (القصص:74)، ((زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ)) (التغابن:7).

د- صيغ أفعل التفضيل، وذلك لاستخدامها لترجيح فكرة معينة أو مفهوم ما، وفي القرآن الكريـم قـول الحق عـز وجل: ((يا صَاحِبَي السّجْنِ ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)) (يوسف:39)، وقولـه تعالى: ((أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ)) (الدخان:37)، وقوله تعالى: ((وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ)) (الزخرف:32)، وقوله تعالى: ((أأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ)) (البقرة:140).

هـ- انتقاء ما يدل على أن الرأي أو الحكم حقيقة، وذلك على الرغم من عدم الاتفاق والإجماع عليه، ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَـارَى وَالصَّـابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَعَمِلَ صَـالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونََ)) (البقرة: 62)، فالنصارى واليهود المذكورون في هذه الآية هم من آمن بموسى وعيسى قبل بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد البعثة فهم كفرة لا ينطبق عليهم هذا الرأي أو الحكم الرباني، ومن ذلك الآية (47) سورة المائدة، حيث يقول الحق عز وجل: ((وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ))، وهذا في حـكم الزمان قبل أن ينسخ الإنجيل بالقرآن، أما وقد استبانت الأمور وتمايزت الصفوف بعد نزول القرآن فيجب أن يرجع الجميع إلى حكم كتاب الله الذي أنزله على سيدنا محمـد صلى الله عليه وسلم.

و- الاسـتشهاد بالمصادر، وهي تستغل حب التشبه بمن هو أكثر أو أعلى سلطة أو من يحظى بمصداقية عالية من جانب المتلقي. وفي القرآن الكريم قوله تعالى: ((فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ)) (الأنبياء: 58)، ((قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ )) (الأنبياء:63).

ز- معاني التوكيد، وهي العبارات والألفاظ التي تستخدم لتشديد المعنى.. مثل قوله تعالى: ((لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) (آل عمران:188)، وقوله تعالى: ((اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ)) (التوبة:80).

ح- استخدام غريزة القطيع، ويقصد بها، استغلال الضغط الذي يجعلنا نتوافق مع الجماعة المرجعية التي ننتمي إليها، ويطلق عليها العدوى النفسية، ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرائيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) (يونس:90).

وقولـه تعالى: ((فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)) (العنكبوت:65)، وقولـه تعالى: ((وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجَّـاهُمْ إِلَى الْبَرّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ)) (لقمان:32).

ميارى 2 - 8 - 2010 02:43 AM


- الاستمالات العقلانية:

وهي تعتمد على مخاطبة عقل المتلقي، وتقديم الحجج والشواهد المنطقية وتفنيد الآراء المضادة بعد مناقشتها وإظهار جوانبها المختلفة.. وتستخدم في ذلك:-

أ- الاستشهاد بالمعلومات والأحداث الواقعية.

ب- تقديم الأرقام والإحصاءات.

ج- بناء النتائج على المقدمات.

د- تفنيد وجهة النظر الأخرى.

وهناك أمثلة عديدة من الآيات القرآنية التي استخدمت هذا النوع من الاستمالات، من ذلك قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رِبّهِ أَنْ آتَـاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّيَ الَّذِي يُحْيي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ)) ( البقرة: 258)؛ وقـولـه تعالى: ((أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْي هَـذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ)) (البقرة:259).

3- استمالات الخوف:

تشير هذه الاستمالة إلى النتائج غير المرغوبة التي تترتب على عدم اعتناق المتلقي لتوصيات القائم بالاتصال.. وتؤدي إلى جعل المتلقي يستجيب للرسالة في حالتين:

الأولى: شدة الإثارة العاطفية، التي تشكل حافزاً لدى المتلقي للاستجابة لمحتوى الرسالة.

الثانية: توقعات الفرد بإمكان تجنب الأخطار وبالتالي تقليل التوتر العاطفي عند الاستجابة لمحتوى الرسالة.

وتوجد ثلاثة عوامل تؤثر على شدة الإثارة العاطفية في هذا النوع من الاستمالات، هي:-

أ- محتوى الرسالة: إذ يجب أن يكون لمحتوى الرسالة معنى عند المتلقي حتى يستجيب للهدف منها ويحدث التوتر العاطفي، فالناس يميلون إلى تجاهل التهديدات، حتى تظهر علامات واضحة على خطورتها.

ب- مصدر الرسالة: إذا نظر المتلقي إلى القائم بالاتصال باعتباره غير ملم بالمعلومات الكافية فسوف يرفض توقعاته، وبهذا تفشل الرسالة في إثارة ردود فعل عاطفية؛ وإذا شعر المتلقي أن القائم بالاتصال يبالغ في التخويف فإنه قد يتجاهل ما يقوله.

ج- خبرات الاتصال السابقة للمتلقي: حيث أشارت بعض الدراسات إلى أنه حينما يتعرض بعض الناس لرسائل تثير (الخوف) والتوتر، يقل جانب الخوف لديهم، إذا سبق أن تعرضوا لرسائل مشابهة، فالتعرض السابق للمعلومات يؤدي إلى نوع من التحصين العاطفي، ذلك أن عنصر المفاجأة يزيد من درجة الإثارة العاطفية التي تحدثها الأنباء السيئة.

ويقوم استخدام استمالات التخويف أو التهديد على الفروض الآتية:-

أ- استخدام هذه الاسـتمالات يؤدي إلى إحسـاس الفرد بالتوتر، نتيجة لزيادة الإحساس بالخوف أو الشعور بالعزلة، التي تركز عليها رموز الرسالة.

ب- الإحساس بالتوتر - في هذه الحالة - يشكل حافزاً للفرد على تجنب الخطر أو النتائج غير المرغوبة.

ج- سوف يستجيب الفرد، بتأثير الحافز، إلى أي توصيات تجنبه هذا الخطر أو النتائج غير المرغوبة.

د- من خلال التجريب والتدعيم، تتحول الاستجابات من ثمّ إلى عادات سلوكية تتفق مع أهداف القائم بالاتصال.

ويمكن استخلاص بعض الفروض الخاصة ببناء الرسالة، التي تشير إلى التهديد أو التخويف من مثل:-

أ- اقتراب التهديد من المتلقي شخصياً يزيد من حالة التوتر، وهذا مما يضفي على التهديد معنىً ذاتياً.

ب- يرتبط التهديد بالاقتراب الزماني، فاحتمال الحدوث لايعطي أثراً واضحاً مثل الحدوث الفعلي، وكذلك لايعطي المتلقي اهتماماً بالأحداث البعيدة الحدوث، فالفرد يميل إلى تجاهل التهديد أو التخويف حتى تظهر مؤشرات واضحة وقريبة بالخطر الذي يعبر عنه التهديد.

ج- هناك علاقة ارتباطية عكسية بين قدر التهديد والاستجابة إلى توصيات الرسالة، لأن المبالغة في التهديد قد تثيـر التحدي لدى المتلقي، أو تجعله يتجنب الرسائل التي تشير الى هذا التهديد.

د- وضوح الرسالة يؤدي الى إمكانية تنفيذ توصياتها، وهذا يختلف عن وضوح وظهور الخطر أو غموضه، لأن غموض الخطر وعدم معرفة المتلقي بأبعاده يزيد من توتره أكثر من التهديد المعروف.

هـ- كلما كانت التوصيات في حدود قدرات المتلقي وإمكانياته كلما كان من السهل تنفيذها والالتزام بها.

وفي القرآن الكريم نجد أمثلة كثيرة على ذلك، منها:

- الآيات التي وردت بشأن الربا ومن ذلك قوله تعالى: ((الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) (البقرة:275).

- ومنها آيات سورة المائدة، قال تعالى: ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (المائدة:38) وقولـه تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)) (المائدة: 95)، وقوله تعالى: ((اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) (المائدة: 98).

وغير ذلك من الآيات الكثيـرة، التي اسـتخدمت هذا النوع من الاستمالات لبيان معاني محددة وأحكاماً ذات صلة بالقضايا الدينية والدنيوية.

أساليب الإقناع المستخدمة في الرسالة الاتصالية

تتنوع وتتعدد الأساليب المستخدمة في الرسالة لإقناع المتلقي بمضمونها؛ فأساليب عرض المحتوى تؤثر على التعليم والإقناع، وهناك العديد من الاعتبارات التي تؤدي الى اختـيار أسـلوب معين لتقديـم النص الإعلامي، واسـتخدام نوع معين من الاستمالات، بما يتوافق وطبيعة الموضوع وخصائص جمهور المتلقين.. ومن تلك الأساليب الإقناعية:

1- وضوح الأهداف مقابل استنتاجها ضمنياً:

الإقناع يكون أكثر فعالية عند ذكر أهداف الرسالة أو نتائجها بوضوح، لذلك يجب أن لا نترك للجمهور عبء استخلاص النتائج بنفسه.. وقد أسفرت نتائج الدراسات والبحوث التي أجريت على الجمهور، فيما يتعلق بتغيير الاتجاهات، عن أن الذين غيـروا اتجاهاتهم بما يتوافـق وأهـداف الرسـالة بلغت الضـعف حينما قدم المتحدث نتائجه بشكل محدد، وذلك بالمقارنة إلى نسبة الذين غيروا اتجاهاتهم بعد أن تعرضوا لرسالةٍ ترك المتحدثُ نتائجها يستخلصها الجمهور.

وفي الواقع فإن القرآن جاءت آياته كلها واضحة الأهداف.

ومما يجدر ذكره أن هذه الأساليب والاعتبارات قد تذهب إلى أبعد من ذلك، حيث تتجاوز مستوى الوضوح مقابل الضمنية، فهي أيضاً تتوقف على ظروف أخرى كثيرة مثل:

أ- مستوى تعليم وذكاء المتلقي.

ب- درجة أهمية الموضوع أو ارتباطه بالمتلقي.

ج- نوع القائم بالاتصال.

فالملاحظ أنه كلما زاد ذكاء المتلقي وتعليمه كان من الأفضل ترك الهدف ضمنياً.. وإذا كان الموضوع مهماً للمتلقي فسوف تتوفر لديه معلومات كثيرة عنه، الأمر الذي يجعله يدقق ويتفحص رسائل القائم بالاتصال وأهدافه، وبالتالي يصبح تركه يستخلص النتائج بمعرفته أكثر فعالية، كذلك إذا كان القائم بالاتصال محل شكوك المتلقي فإن تأثيره سوف يقل إذا قدم الرسالة بشكل محدد، ويمكن ملاحظة ذلك في قصة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح في الآيات من (66) - (80) من سورة الكهف.

2- تقديم الأدلة والشواهد:-

يقول الله تعالى: ((أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأْرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)) (الغاشية: 17-20).

يسعى معظم القائمين بالاتصال إلى دعم رسائلهم الإقناعية بتقديم أدلة أو عبارات تتضمن إما معلومات واقعية أو آراء منسوبة إلى مصادر أخرى غير القائم بالاتصال.. ويمكن تقديم بعض التعميمات حول تأثير تقديم الأدلة والشواهد، منها:

أ- يرتبط استخدام الأدلة والشواهد في الرسالة بإدراك المتلقي لمصداقية المصدر، فكلما زادت مصداقية المصدر قلَّت الحاجة لمعلومات تؤيد ما يقوله.

ب- تحتاج بعض الموضوعات أدلة أكثر من غيرها، خاصة تلك الموضوعات التي لا ترتبط بالخبرات السابقة للمتلقي.

ج- يقلل التقديم الضعيف للرسالة من وقع وتأثير أي دليل.

د- تقديم الأدلة يكون وقعه أكبر على الجماهير الذكية، أي أولئك الذين يتوقعون إثباتاً للأفكار المعروضة عليهم.

هـ- يتوقف تأثير الدليل على ما إذا كان المتلقون يعتبرونه صحيحاً أو غير صحيح.

3- عرض جانب واحد من الموضوع مقابل عرض الجانبين، المؤيد والمعارض:

وجد بعض الباحثين أن تقديـم الحجـج المؤيـدة والمعارضة في الموضوع الواحـد أكثر فعالية وأقدر على التعبير لدى الفرد المتعلم، وحيـن يكون الجمهور متردداً فإن تقديـم الجانبيـن يكون أقوى أثراً.

يقول الله تعالى: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَـانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَـاوَاتِ وَالأْرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)) (البقرة:30-33).

ولذلك نجد أن الآية رقم (34) في سورة البقرة تؤكد أن الملائكة قد وصلوا إلى قناعة بالطرح الرباني، فحينما أمرهم بالسجود لآدم عليه السلام أقبلوا دون تردد، قال تعالي: ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)) (البقرة:34).

وفي المقابل يكون التركيز على جانب واحد من الموضوع أكثر فعالية على تغيـير آراء الأفراد الأقل تعليماً، أو الأفراد المؤيدين لوجهة النظر المعروضة في الرسالة، حيث يصبح تأثير الرسالة في هذه الحالة تدعيماً.

4- ترتيب الحجج الإقناعية داخل الرسالة:-
يشار إلى الرسالة التي تحتجز أقوى وأهم الحجج إلى النهاية بأنها تستخدم في ذلك ترتيب الذروة، أو تأثير النهاية، أما الرسالة التي تقدم الحجج الأقوى في البداية فهي تتبع تأثير عكس الذروة أو تأثير البداية.. ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه ليس هناك قاعدة أو قانون عام لترتيب الحجج في عملية الإقناع، فقد ذهبت بعض الدراسات إلى أن الحجج التي تُقدم في البداية تأثيرها أقوى من الحجج التي تقدم في النهاية، بينما أظهرت دراسات أخرى نتائج عكس ذلك.. ويرى بعض الباحثين أن تأجيل الحجج الأقوى حتى النهاية أفضل من تقديمها في البداية، ولنا أن نلاحظ ترتيب الحجج في القرآن الكريم، كما في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع النمرود، حيث جاءت الحجة القوية في نهاية الأمر: ((فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) (البقرة: 258).

5- استخدام الاتجاهات والاحتياجات الموجودة لدى الجماهير:
يرى علماء الاجتماع أن الجمهور يكون أكثر استعداداً لتدعيم احتياجاته الموجودة عن طريق تطويره لاحتياجاتٍ جديدة عليه تـماماً؛ بمعنى أن الرسالة تكون أكثر فعالية حينما تجعل الرأي أو السلوك الذي تعرضه يبدو للجمهور على أنه وسـيلة لتحقيق احتياجاته الموجودة فعلاً، وفي القرآن الكريم يقول تعالى: ((إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ)) (المائدة:112-113).

6- التكرار:

يرى عدد من علماء الاتصال أن تكرار الرسالة من العوامل التي تساعد على الإقناع؛ ذلك أن التكرار يؤدي إلى تذكير المتلقي باستمرار بالهدف من الرسالة، ويثير في الوقت نفسه احتياجاته ورغباته. وفي القرآن الكريم نجد الكثير من الآيات والقصص قد تم تكرارها، وخير مثال لذلك قصة سيدنا موسى عليه السلام.

فهذه هي استمالات وأساليب الإقناع التي اتفق حولها كثير من الباحثين في هذا المجال، ويوصي عدد منهم بضرورة اختيار الرموز اللغوية الواضحة والمفهومة والمألوفة، والبعد عن الألفاظ أو الرموز المهجورة، مع مراعاة خصائص الجمهور فيما يتعلق باستخدام قواعد النحو والصرف، والأساليب البلاغية، وهذا كله مما يؤثر على يسر القراءة وسهولة التعرض للوسيلة الإعلامية، ولكن مما يثير الجدل شيوع الاعتقاد بأن اللغة الانفعالية تعتبر أحد الأساليب المهمة في الإقناع، وبالتالي يعتبر مستوى اللغة الانفعالية أحد الخيارات المطروحة في الرسائل الإقناعية.

ميارى 2 - 8 - 2010 02:47 AM


الفصل الثالث : القرآن الكريم وأساليب الإقناع

الله تعالى هو المصدر الأول لكل علـم: ((قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْء)) (الرعد:16) ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)) (الصافات:96) ، ((وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء)) (البقرة:255)، ((وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ)) (الحجرات:21)، ((وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأْبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) (النحل:78)، ((عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)) (العـلق:5)، ((مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء)) (الأنعام:38).

ولأن الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار، ولا نتلقى منه مباشرة، فقد جعل من دونه مصدرين رئيسين يستقي منهما الإنسان معرفته هما: القرآن والكون.

إن المحتوى المعرفي لأي علم من العلوم يعتمد اعتماداً كلياً على مصدر تلك المعرفة، ويضطرد معها اطراداً مباشراً؛ بمعنى أن المصدر إذا كان مدركاً لكل صغيرة وكبيرة وملماً بكل جزئية في علم ما من العلوم، فإنه يترتب على ذلك علو قدر تلك المعرفة المستقاة من ذلك المصدر.. وبما أن مصدر المعرفة في المنهجية الإسلامية هو الله سبحانه وتعالى، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين، فإن من إيجابيات هذا المصدر المباشر أن المتلقي للمعرفة يشعر بأمن واطمئنان في أنه سيجد الإجابة من هذا المصدر عن كل سؤال يخطر على باله، كالظمآن الذي يبحث عن قطرة ماء فيجد أمامه نهراً عذباً ليرتوي منه([1]).

فالقرآن الكريـم، وهو كلام الله تعالى، المنـزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بلفظه ومعناه، المتعبد بتلاوته، قد احتفى حفاوةً كبيرة بالعلم والعلماء، وأشاد بهما، ورفع من أقدارهما، بل عد العلم من صفات الكمال لله، قال تعالى: ((نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ)) (التحريم:3)، وقال تعـالى: ((وَسِعَ كُلَّ شَيْء عِلْماً)) (طه:98).

وبعد أن منَّ الحق عز وجل على سيدنا آدم، أبي البشرية، بنعمة الإيجاد من العدم، منَّ عليه بنعمة العلم: ((وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا)) (البقرة:31)، وبه فضّله.. وكذلك منَّ الله تعالى على الأنبياء والمرسلين بنعمة العلم والحكمة: ((وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا)) (يوسف:22)، وقال عن داود وابنه سليمان عليهما السلام: ((وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً)) (الأنبياء:79)، واعتبر العلماءَ أشد الناس خشية لله: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)) (فاطر:28)، وجعل معجزة رسالته الخاتمة كتاباً خاتماً، هو كتاب القرآن، وأول كلمة فيه: ((اقْرَأْ))، وأقسم بأداة الكتابة: ((ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)) (القلم:1)، وهـو يدعو عباد الله للعلم والسعي إليه وتحصيله بالنظر في آفاق الكون والأنفس: ((قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاواتِ وَالأْرْضِ)) (يونس:101)، ((وَفِي الأْرْضِ آيَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ، وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ)) (الذاريات:20-21)، ((أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأْرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)) (الغاشـية:17-20)، وعد المقصـرين فيه لا يستون مع الذين يعلمون... وجعله سبيلاً إلى معرفة الخالق حق معرفته، ومن هنا أحاط القرآن بقضايا العلم، وكانت علومه كافية للناس والحياة([2]).

والقرآن الكريم كمصدر للمعرفة تجلى إعجازه في أمور كثيرة، إعجاز في نظمه وبلاغـته وإعجاز في قصـصه وأخباره؛ إعجاز فيما انطوى عليه من الإخبار بالغيبيات التي لم تكن معهودة عند التنـزيل؛ وإعجاز فيما أشار إليه من حقائق مثبتة في أرجاء الكون الفسيح تجلت وتبدت في عصرنا الراهن بعد تقـدم العلم وكشوفاته في الأنفـس والآفاق.. كيف لا يكون القرآن كذلك وهو منـزل من عند الله تعالى؟

يقول الإمام السيوطي: إن كتاب الله تعالى اشتمل على كل شيء، أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل، إلا وفي القرآن شرح أفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، وفي القرآن إشارة إلى مجامعـها([3]).

بل إن كل ما أشكل فهمه على النظار واختلفت فيه الخلائق، في النظريات والمعقولات، في القرآن رموزٌ إليه ودلالات عليه، يختص أهل الفهم بإدراكها.. وقد ظل القرآن منذ نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى يومنا هذا معجزة خالدة، نستمد منها كل يوم الدروس والعبر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال له: " ياعم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطونه، فإنك أتيت محمداً لتعرض ما قبله، قال: علمت قريش أني من أكثرهما مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له وكاره، قال: وماذا أقول؟؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، لا برجزة ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقولـه شيئاً من هذا، والله إن لقولـه الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه يعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه ...، فقال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر بأثره عن غيره([4]) فنـزلت الآيات: ((ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً)) (المدثر:1-25) "([5]).

وقد ظل القرآن يؤثر على سامعيه منذ القدم، ولعل قصة الوليد بن المغيرة سابقة الذكر تدل على ذلك.. وحديثاً، فقد استعملت أجهزة المراقبة الإلكترونية المزودة بالكمبيوتر لقياس الآثار والتغييرات الفسيولوجية عند عدد من المتطوعين الأصحاء أثناء استماعهم لتلاوات قرآنية... وقد تم تسجيل وقياس أثر القرآن عند عدد من المسلمين المتحدثين بالعربية.. وبالنسبة لغير المتحدثين باللغة العربية، مسلمين كانوا أوغير مسلمين، فقد تليت عليهم مقاطع من القرآن الكريم باللغة العربية، ثم تليت عليهم ترجمة هذه المقاطع باللغة الإنجليزية، وفي كل هذه المجموعات أثبتت التجارب المبدئية وجود أثر مهدىء للقرآن بنسبة 97%.. وهذا الأثر ظهر في شكل تغييرات فسيولوجية تشير إلى مستوى تأثر الجهاز العصبي التلقائي. وتفاصيل هذه النتائج المبدئية عرضت على المؤتمر السنوي السابع عشر للجمعية الطبية الإسلامية بأمريكا الشمالية الذي عقد في مدينة سانت لويس، في أغسطس 1984م، ولقد ظهر من الدراسات المبدئية أن تأثير القرآن على التوتر يمكن أن يُعزى لعاملين([6]):

الأول: هو صـوت القرآن الكريم في كلمات عربية، بغض النظر عمّا إذا كان المستمع قد فهمها، وبغض النظر عن إيمان المستمع.

الثاني: هو معاني المقاطع القرآنية التي تليت، حتى ولو كانت مقتصرة على الترجمة الإنجليزية بدون الاستماع للكلمات القرآنية باللغة العربية.

وإذا كانت النظرية الإعلامية البشرية تقول: إن الرسالة الإعلامية ينبغي أن تتجانس مع مستقبلها، وإنها تؤثر على مستقبل معين دون أن تؤثر على مستقبل آخر ذي خصائص مختلفة، فإن الإعجاز الإعلامي للقرآن يقدم إطاراً من نوع آخر، فالقرآن يخاطب كل البشر، الغني والفقير، والمتعلم وغير المتعلم، كما يخاطب كل الأجناس، فالمؤمن غير المستقر، لظرف ما، إذا سمع القرآن عاد إلى حالة ملائمة، وكذلك الحال للمتعلم وغير المتعلم، والرجل والمرأة، العجوز والشاب... إلخ.. أي أنهم يتأثرون بشدة رغم اختلاف الثقافة والبيئة واللغة والحالة النفسية، أي أن القرآن يخاطب في البشر ما لا يعلمه البشر بدقة، ويعلمه الله، فالله يخاطب في النـفس ملكات يعلمها، وتتأثر به، ونحن نفسر هذه الأمور وفقاً لعلمنا المحدود([7]).

من كل ما تقدم يمكننا القول: إن القرآن الكريم يُعتبر رسالة إقناعية خاطبت العقل البشري من خلال استراتيجيات محددة وأساليب إقناعية معروفة في عالم اليوم.. وبهذا فإنه مثلما سبق القرآن الكريم الاكتشافات العلمية الحديثة بعشرات القرون، فهو أيضاً يسبق مرتكزات النظرية الإعلامية بذات القدر.

القرآن والاستراتيجية الدينامية النفسية للإقناع

إن جوهر الاستراتيجية الدينامية النفسية هو استخدام رسالة إعلامية فعالة، لها القدرة على تغيير الوظائف النفسية للأفراد حتى يستجيبوا لهدف القائم بالاتصال، أي أن مفتاح الإقناع يكمن في تعلم جديد من خلال معلومات يقدمها القائم بالاتصال حتى يتغير البناء النفسي الداخلي للفرد المستهدف (الاحتياجات - المخاوف - التصرفات) مما يؤدي إلى السلوك العلني المرغوب فيه.

فمن بين المداخل المختلفة للإقناع: محاولة التغيير في البناء النفسي للفرد، بإثارة حاجياته أو دوافعه أو اتجاهاته، ومن ضمن الأنواع الشـائعة في هذا المجال هو إثارة توقعات المتلقي بأن قيامه بسلوك معين سـوف يجنبه أخطاراً ما أو حرماناً، أو يؤدي إلى فقدانه القبول الاجتماعي.

حيث يركز المحتوى في هذه الحالة على الأخطار أو النتائج غير المرغوبة إذا لم يستجب المتلقي لتوصيات الرسالة الإقناعية.

وفي القرآن الكريم تقع آيات الترغيب والترهيب ضمن هذه الاستراتيجية، وهي كثيرة جداً، غالبة، طاغية، ومقصدها الزجر من ارتكاب محظور، أو الحث على امتثال مأمور، وغاية الكل صلاح الفرد وفوزه ونجاته من النار، قال تعالى: ((إِنَّ هَذَا الْقُرْءانَ يِهْدِي لِلَّتِي هِي أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا *وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) (الإسراء:9-10).

وفيما يلي مزيداً من الآيات القرآنية التي توضح استخدام القرآن للاستراتيجية الدينامية النفسية، مع بيان تفسير هذه الآيات عند ابن كثير، مع الأخذ في الاعتبار أن الآيات التي سنقوم بذكرها من القرآن الكريم تأتي على سبيل المثال وليس الحصر:

أ- قوله تعالى : ((وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ )) (البقرة:23-24).

في هذه الآية تقرير لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتحد من الله تعالى للكافرين أن يأتوا بمـثل هـذا القرآن أو ببعضه، فإن عجزوا - والحال أنـهم سيعجزون - فالنار مثواهم، فهو تهديد ووعيد لهم([8]) وبمراجعة مرتكزات الاسـتراتيجية الدينامـية النفسـية نجـد أن هـذه الآيات توضـح الأخـطار أو النـتائج إذا لـم يستجب المتلقي لتوصيات الرسالة.

ب- قولـه تعالى: ((يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)) (البقرة:278-279).

جاءت هذه الآيات لترهيب الناس من أكل الربا، قال ابن كثير: أي اتركوا مالكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هـذا الإنذار([9]).. فهذه الآية تحاول تغيير البناء النفسي للمجتمع من خلال إثارة الفرد عبر حاجاته أو دوافعه، فهي تطلب من المؤمنين القيام بسلوك معين حتى يتجنبوا أخطاراً معينة.

ج- قولـه تعالى: ((وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهَاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَـاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً)) (الفرقان: 68-69).

هذه كبائر نفاها الله عن عباده الصالحين تعريضاً لما كان عليه أعداؤهم، وفيها الحث والترهيب من فعلها واقترافها([10]).

فهي تؤكد صفات المؤمنين، وبذلك تحاول أن تنشط العامل الإدراكي للمؤمنين، كما أنها في ذات الإطار تحاول أن تعدل من السلوك النفسي لآخرين من خلال الترهيب والوعيد.

د- قولـه تعالى: ((فَقُلْنَا يا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظمأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى)) (طه:117-119).

فالأثر المترتب على إصغاء آدم إلى إبليس هو الشقاء المتمثل في التعب في طلب القوت، الذي يسعى له وحده دون امرأته([11]). فالجانب النفسي في هذه الآيات يخاطب الاحتياجات بهدف الوصول إلى سلوك علني مرغوب فيه.

هـ- قولـه تعالـى: ((فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيـامَةِ أَعْمَى)) (طه:123-124).

وتشير الآية إلى أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين، فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه([12]).. وفي هذا أيضاً خطاب دينامي نفسي.

و- قولـه تعالى: ((وَيا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ)) (هود:89).

معنى الآية كما قال ابن كثير: أي لا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصـرار على ما أنتم عـليه من الكفر والفساد فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح وهود وقوم لوط([13])- النقمة والعذاب - وبما أن هؤلاء القوم يعرفون ما حدث للأقوام المذكورين، ففي هذا بعد دينامي نفسي.

ز- قولـه تعالى: ((الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأْغْلالُ فِي أَعْنَـاقِهِمْ والسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)) (غافر:70-72).

قال ابن كثير: هذا تهديد شديد ووعيد أكبر من الرب جل جلاله لهؤلاء([14]).. وهو أيضاً خطاب دينامي نفسي.

ح- قولـه تعالـى: ((يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)) (التحريم:6).

قال ابن عباس: يقول اعـملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، وأمروا أهليكم بالذكر ينجيكم من النار([15]).. وفي هذا أيضاً خطاب دينامي نفسي.

فمن الآيات كلها، التي سـبق ذكرها، يمكن القول: إن القرآن الكريم يسعى إلى التغيير في البناء النفسي للفرد من خلال استعمال استمالات التخويف أو التهديد.. والأمر الجدير بالملاحظة أن الآيات القرآنية التي تعـمل على إثارة التوتر العاطفي نتيـجة استمالات التهديد أو التخويف، تـتضمن في الوقت ذاته التوصيات التي يمكن بمقتضاها تجنب الفرد مصـادر هـذا التـهديد. ومن خـلال تجـريب هـذه التوصيات وتدعيمها، فإنها تتحول إلى عادات سلوكية تتفق مع أهداف القائم بالاتصال، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا جوهر الاستراتيجية الدينامية النفسية للإقناع.


ميارى 2 - 8 - 2010 02:50 AM

القرآن والاستراتيجية الثقافية الاجتماعية للإقناع

إذا كان التخوف أو التهديـد يثيـر في الفرد الحاجة إلى الأمن أو تجنب الحرمان من تلبية حاجيات أخرى، بوصفها دوافع للفرد تدفعه للاستجابة السلوكية التي تلبي حاجاته، فإن المدخل الثاني للإقناع يركز على العلاقات الاجتماعية، ودافعية الانتماء، وحرص الفرد على تقدير الجمـيع له، بحيث تجعله يتـجنب السـلوك الذي لا ترضى عنه الجماعة، ويستجيب إلى السلوك الذي يتوافق مع المعايير الاجتماعية التي تتمثل في القيم والتقاليد والأعراف التي تحدد معايير السلوك لدى الجماعة والمجتمع وخصائصه الثقافية.

وهذه المعايير والقواعد والضوابط، تمثل بالنسبة للقائم بالاتصال، في عملية الإقـناع، مؤشرات لاتجاهات التأييد أو المعارضة، القبول أو الرفض، أو بصفة عامة قبول التوصـيات أو رفضها في الرسـالة الإقناعية، وهذا مما يؤكد أهمية احتواء الرسالة على الرموز التي تتفق مع هذه القواعد والمعايير والضوابط، بحيث ترسم التوقعات بأنماط السلوك، كما ترسم للملتقي حدود الاتفاق أو الاختلاف مع هذه القواعد والمعايير والضوابط، وبالتالي التوقعات بالثواب والعقاب الذي يتمثل في القبول الاجتماعي من الجماعة أو المجتمع([16]).

إن ما تتطلبه استراتيجية ثقافية اجتماعية فعالة هو أن تحدد رسائل الإقناع للفرد قواعد السلوك الاجتماعي أو المتطلبات الثقافية التي تحكم أنشطة العمل، التي يحاول رجل الإعلام أن يحدثها.. وإذا كانت التحديات موجودة فعلاً، تصبح المهمة هي عملية إعادة تحديد هذه المتطلبات.

وفي القرآن الكريم اقترنت هذه الاستراتيجية بمعجزات الرسل، عليهم السلام، حيث كانت هذه المعجزات تتفق مع القيم والعادات والأعراف التي كانت سائدة في مجتمع كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزات بهرت الأبصار، وحيرت كل السحرة، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام، وصاروا من عباد الله الأبرار..

وأما عيسى عليه السلام فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيداً من الذي شرع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد..

وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعث في زمان البلغاء والفصحاء وتجاريد الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله عز وجل، لو اجتمعت الإنـس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعَشر سور من مثله أو بسورة من مثله، لم يستطيعوا أبداً وإن كان بعضهم لبعضٍ ظهيـراً، وما ذاك إلا لأن كلام الرب عز وجل لا يشبه كلام الخلق أبداً([17]).

ففي قصة سيدنا موسى، عليه السلام، يقول الله تعالى: (( وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَاناً سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى * قَالُواْ إِنْ هَذانِ لَسَاحِرانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى * قَالُواْ يا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأْعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُواْ آمَنَّا بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَى)) (طه:56-70).

يقول الله تعالى مخبراً عن فرعون: إنه قال لموسي حين أراه الآية الكبرى، وهي إلقاء عصاه فصارت ثعباناً عظيماً، ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء، قال: هذا سحر جئت به لتسحرنا وتستولي به على الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم، ولايتم هذا معك فإن عندنا سحراً مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه، فاجعل بيننا وبينك موعداً، أي يوماً نجتمع نحن وأنت فيه، نتعارض ماجئت به بما عندنا من السحر في مكان معين وفي وقت معين، فعند ذلك قال لهم موسى: موعدكم يوم الزينة، وهو يوم عيدهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماع جميعهم، ليشاهد الناس قدرة الله على مايشاء، ومعجزات الأنبياء، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية، ولهذا قال: وأن يُحشر الناس ضحى، ليكون أظهر وأجلى وأوضح، وهكذا شأن الأنبياء، أمرهم بيِّن واضح، أما فرعون فلما تواعد هو وموسى عليه السلام إلى وقت ومكان معلوم ((فَتَوَلَّى)) أي شرع من مدائن مملكته حيث كان السحر كثيراً نافقاً، ثم بعد ذلك اجتمع الناس فى الميقات المعلوم، وهو يوم الزينة، وجلس فرعون على سرير مملكته واصطف له أكابر دولته، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة، وأقبل موسى عليه السلام معه أخاه هارون، ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفاً وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم فى إجادة عملهم في ذلك اليوم، ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم، يقولون:

((فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ، قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)) (الشعراء: 41-42).

((قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً)) (طه:61) أي لاتخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها وأنها مخلوقة فتكونون قد كذبتم على الله ((فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ )) (طه:61) أي يهلككم بعقوبة هلاكاً لا بقية له: ((وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ)) (طه:62) قيل: إنهم تشاجروا فيما بينهم، فقائل يقول: ليس هذا بكلام ساحر إنما هذا كلام نبي، وقائل يقول له: بل هو ساحر، ثم تناجوا فيما بينهم، ثم قالوا تعلمون أن هذا الرجل وأخاه - يعنون موسى وهارون - ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر، يريدان فى هذا اليوم أن يغلباكم وقومـكم ويسـتوليا على الناس وتتبعهما العامة، ويقاتلا فرعون وجنوده، فينتصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم.. وقوله: ((وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى )) (طه:63) أي يستبدا بهذه الطريقة، وهي السحر، ثم قال السحرة: ((إِمَّا أَن تُلْقِيَ)) - أي أنت أولاً ((وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ)) أي أنتم أولاً لنرى ماذا تصنعون من السحر، وليظهر للناس جلية أمرهم، فلما ألقى كل منهم سحره، خاف موسى على الناس من أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم، قبل أن يلقي ما في يمينه، فأوحى الله تعالى إليه فى الساعة الراهنة أن ((وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ)) ، يعني عصاك، فإذا هي تلقف ما صنعوا، وذلك أنها صارت تنيناً عظيماً هائلاً ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئاً إلا تلقفته، والسحرة والناس ينظرون ذلك عياناً، جهرة، نهاراً ضحوة، فقامت المعجزة واتضح البرهان، ووقع الحق وبطل السحر، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: ((إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)).

فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه، ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه، علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسي ليس من قبيل السـحر والحيل، وأنه حق لا مرية فيه، ولا يقدر على هذا إلا الذي يقول للشيء: (( كُنْ فَيَكُونُ)) فعند ذلك وقعوا سـجداً لله، وقالوا: آمنا برب العالميـن، رب موسـى وهارون، ولهذا قال ابن عباس وعبيد بن عمير: كانوا أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء بررة([18]).

ففي هذه القصة يعتبر تخطيط الرسالة الإعلامية وبناؤها هو العامل الأساس لنجاح العملية الإقناعية، التي استهدفت بناء اتجاهات وأنماط سلوكية جديدة في مجتمع كان يؤمن بالسحر وأفعال السحرة، وكان مدخل ذلك البناء الوجداني، بجانب البناء المعرفي، باعتبارهما العناصر الأسـاس لبناء الاتجاهات والميل السـلوكي، وفقاً للاسـتراتيجية الثقافية والاجتماعية.

وفي قصة سيدنا عيسى، عليه السلام، يقول الله تعالى: ((وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ أَنِي أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئ الأْكْمَهَ والأْبْرَصَ وَأُحْيي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) (آل عمران:49).

يقول ابن كثير: كان سيدنا عيسى عليه السلام يفعل بصور الطين شكل طير ثم ينفخ فيه فيطير بإذن الله عز وجل، عياناً بياناً، فكانت هذه معجزة تدل على أنه مرسل من عند الله.. ((وَأُبْرِئ الأْكْمَهَ)) قيل: إنه الذي يبصر نهاراً ولا يبصر ليلاً، وقيل بالعكس، وقيل الأعشى، وقيل الأعمش، وقيل هو الذي يولد أعمى، وهو أشبه لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي.. ((والأْبْرَصَ)) معروف.. ((وَأُحْيي الْمَوْتَى))، وهذه معجزة تتجانس والزمن الذي بعث فيه سيدنا عيسى عليه السلام، زمن الطب وأصحاب علم الطبيعة.. ((وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ)) أي أخبركم بما أكل أحدكم الآن وماهو مدخر في بيته.. وكل هذه آيات لكم تدل على صدق ما جئتكم به([19]).. فالبعد الثقافى والاجتماعى في رسالة سيدنا عيسى عليه السلام يهدف إلى تعديل صياغة سلوك اجتماعى متفق عليه من قبل الجماعة، وتحديد متطلبات ثقافية وقواعد سلوكية من خلال أدوار محددة، وكانت المعجزات الطبية التي جاء بها من عند الله تعالى مسرحاً لذلك.

أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد بُعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاريد الشعراء، فكانت معجزته كتاباً من عند الله عز وجل، تحدى به الله سبحانه وتعالى الجن والإنس على أن يأتوا بمثله، وأشار الحق عز وجل إلى أنهم لن يستطيعوا ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، قـال تعالى: ((قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)) (الإسراء:88).

ينبه الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على شرف هذا القرآن العظيم، فأخبر أنه لو اجـتمعت الإنس والجن كلهم واتفقـوا على أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله، لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا، فإن هذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير ولا مثيل ولا عديل له، وقد روى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير، أو عكرمه عن بن عباس قال: إن هذه الآية نزلت في نفر من اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا نأتيك بمثل ما جئتنا به، فأنزل الله هذه الآية([20]).

ولعل موقف الوليد بن المغيـرة، الذي أشرنا إليه سابقاً، يأتي في السياق ذاته.

إن معجزات الأنبياء تأتي دائماً متجانسة مع النمط الثقافي والاجتماعي السائد في زمن كل نبي، فإذا ماعجزت الثقافة السائدة عن المجابهة والتصدي، والحال كذلك، أيقن المجتمع ذي الفطرة السليمة والبصيرة النافذة أن ماجاء به النبي هو من عند الله تعالى، فتقوم الحجة ويقع الدليل والبرهان، فتسود ثقافة جديدة ومجتمع جديد، ممتثل لأوامر الله تعالى، مجتنباً لنواهيه، ولا يتخلف عن الركب إلا مكابر أو صاحب غرض وهوى.

ويقع ضمن نطاق الاستراتيجية الثقافية والاجتماعية في القرآن الكريم التدرج في التشريع، ومثال لذلك تدرج الأحكام في تحريم الخمر، قال تعالى: (( يَسْـأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)) (البقرة:219)؛ وقال تعالى: ((يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى)) (النساء: 43)؛ وأخيراً قوله تعالى: ((يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَلأْنصَابُ وَالأْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ)) (المائدة:90-91).

أورد ابن كثير في تفسيره عن أنس بن مالك: بينما أنا أدير الكأس على أبـي طلحـة وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة ومعاذ ابن جبل وسهيل بن بيضاء، حتى مالت رؤوسهم من خليط بسر وتمر، فسمعت منادياً ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا، وأصبنا من الطيب. ثم خرجنا على المسجد([21]).. فمضمون الآية الأخيـرة تحول إلى سـلوك جماعي، كما في رواية الحديث.. ومن ذلك ما أورده ابن كثير أيضاً عن زيد بن ثابت عن أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفضيح والبسر، فإذا منادٍ ينادي، قال: اخرج فانظر، فإذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، فجرت في سكك المدينة.

من كل ما تقدم، فإن القرآن العظـيم يمـدنا بمسـلمات أساسـية لفرضيات الاستراتيجية الثقافية والاجتماعية، وإذا أردنا تتبع ذلك في الآيات القرآنية لما وسعنا هذا السفر، ولكن حسبنا النماذج التي أشرنا إليها، ويمكن للقارىء أن يستنبط الآيات التي تناولت هذه الاستراتيجية من كتاب الله العزيز بعد أن عرف مرتكزاتها وأساليب بنائها.

ميارى 2 - 8 - 2010 02:52 AM


القرآن الكريم واستراتيجية إنشاء المعاني

سبق وأن أشرنا في الفصل الأول إلى أن وسائل الإعلام الجماهيرية تستخدم في إنشاء ودعم الصور الذهنية من خلال مصادر غير محددة للمعلومات، والتي تصوغ معاني جديدة، أو تبدل المعاني التي خبرها الناس عن كل شيء، وهذا هو جوهر استراتيجية إنشاء المعاني كمرتكز ثالث للإقناع في الرسالة الإعلامية.

وفي القرآن الكريم نجد استخداماً واسعاً لهذه الاستراتيجية، خاصة وأن الإسلام جاء لتغيير مجتمع كان يعيش في جهل وتخلف ويحتاج إلى صياغة جديدة تقوم على قيم فاضلة وأخلاق حميدة ومثل وسلوكيات يجب أن تتبع، وكان التغيير بحاجة إلى إنشاء معانٍ جديدة وتغيير معانٍ أخرى راسخة، وفي القرآن الكريم آيات كثيرة جاءت في هذا السياق، من ذلك قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ راعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (البقرة:104).

قال ابن كثير: نهى الله عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، ذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص عليهم، فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا يقولوا: راعنا، ويورون بالرعونة كما قال تعالى: ((مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ... )) ([22]) ففي هذه الآية يدعو الله سبحانه وتعالى عباده إلى استخدام معانٍ جديدة بدلاً من تلك المستخدمة، خاصةً وأن المعنى المنهي عنه يحمل أكثر من معنى عند استخدامه من قبل اليهود.

ومن ذلك قولـه تعالى: ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا)) (البقرة:158)، جاء في سبب نزولها عن عاصم قال: سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة، فقال كانا من شعائر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما فنزلت الآية([23]).

وفي هذا تغيير للمعاني، فشعائر الإسلام تختلف في معانيها عن تلك التي كانت تمارس في الجاهلية، وفي ذلك تصحيح للمفاهيم التي كانت سائدة في الجاهلية، ودفع للحرج عن المسلمين.

وفي السياق ذاته قولـه تعالى: ((وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مّنَ النّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً)) (النساء:22). قال ابن العربي: هو خلف الأبناء على حلائل الآباء، إذ كانوا في الجاهلية يستقبحونه ويستهجنون فاعله، ويسمونه المقتي، نسبوه إلى المقت.. قال: وقولـه تعالى: ((إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ)) يعني من فعل الأعراب في الجاهلية، إذ أن بعضهم كانت الحمية تغلب عليه فيكره أن يعمر فراش أبيه غيره فيعلو هو عليه؛ ومنهم من كان يستمر على العادة وهو الأكثر، فعطف الله بالعفو عما مضى([24]) وفي ذلك إنشاء معنى جديداً يفضي إلى سلوك جديد متعلق بحفظ الأنساب.

ومن ذلك قولـه تعالـى: ((وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ)) (الأحزاب:4)، قال ابن كثيـر: نزلت هـذه الآية في شـأن زيد ابن حارثة رضي الله عنهما مولى النبي صلى الله عليه وسلم.. كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة، فكان يُقال له: زيد بن محمد، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة، بقوله تعالى: ((وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ)) ([25]) وفي ذلك إنشاء لمعان جديدة تقود إلى اتباع سلوك جديد.

والآيات القرآنية التي قادت إلى إنشاء معانٍ جديدة أكثر من أن تحصى أو تعد.. وفيما يلي طـائفة أخـرى منها:

- قال تعالى: ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأْولَى .. )) (الأحزاب:33).

ذكر الإمام القرطبي في تفسيره أن سودة رضي الله عنها قيل لها: لم لا تحجِّين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججتُ واعتمرتُ، وأمرني الله أن أقرَّ في بيتي.. قال الراوي: فو الله ما خرجَتْ من باب حجرتها حتى أُخْرجـت جنازتها، رضوان الله عليها.. قال ابن العربي: "لقد دخلتُ نيفاً على ألف قرية، فما رأيت نساءً أصون عيالاً ولا أعفّ نساءً من نساء نابلس، التي رُمي بها الخليلُ صلى الله عليه وسلم بالنار، فإني أقمتُ فيها فما رأيت امرأة في طريق نهاراً إلا يوم الجمعة، فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلىء المسجد منهن، فإذا قُضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى"([26]).

فهذه معانٍ جديدة طبقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والقرون الهجرية الأولى، ونحن الآن بحاجة إلى بعث هذه المعاني من جديد، حتى تنداح في المجتمع في شكل سلوكيات تحفظ للمرأة كرامتها، بدلاً من متابعة أساليب الموضة الغربية التي لا تراعي إلاًّ ولا ذمة في جانب المرأة.

ومن المعاني الجديدة الـتي جاء بـها الإسـلام، نجد قول الحق عز وجل: ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (المجادلة:22) قال ابن كثير في معرض حديثه عن تطبيق الصحابة رضوان الله عليهم للإرشاد الوارد في هذه الآية:... ومن هذا القبيل حين استشار الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر، فأشار أبو بكر الصديق: أن يفادوا فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين، وهم بنو العم والعشيرة ولعل الله تعالى أن يهديهم، فقال عمر: لا أرى ما رأى يارسول الله، هل تمكني من فلان (قريب لعمر) فأقتله، وتمكن علياً من عقيل، وتمكن فلاناً من فلان، ليعلم الله أن ليست في قلوبنا مودة للمشركين([27]).. وكم نحن الآن بحاجة إلى هذه المعاني امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى، وتنفيذاً لأحكامه.

ويمضي القرآن الكريم في تعليم المجتمع الإسلامي الأول معان جديدة لم تكن موجودة في الجاهلية، ومن ذلك قوله تعالى: ((وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)) (النور:31).

قال القرطبي في تفسيـره: روى البخاري عن عائشة أنها قالت: "رحم الله النساء المهاجرات الأول، لما نزل: ((وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)) شققن آزرهن فاختمرن بها.. ودخلت عائشة على حفصة بنت أخيها عبد الرحمن رضي الله عنهم، وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها فشقته عليها، وقالت: إنما يضرب بالكثيف الذي يستر" ([28]).

إن سور القرآن الكريم وآياته تحمل جميعها خصائص الرسالة الإقناعية، سواء من خلال الاستراتيجية الدينامية النفسية، أو الثقافية الاجتماعية، أو إنشاء المعاني.. ولعل ما حاولنا إبرازه يأتي على سبيل المثال لا الحصر، فالقرآن الكريم رسالة اتصالية صممت كأساس للإقناع من خلال الطرح الرباني المتـكامل، الذي لا تشـوبه شائبة أو ينقصه شيء، ونحن في القرن الحادي والعشرين علينا أن نستفيد من السياق الرباني لبعث الإسلام في نفوس المجتمعات المسلمة من جديد، وفي نشر دعوة الله إلى العالـم كافة على أسـاس من الحجة والإقناع، آخذين في الاعتبار حديث النبي صلى الله عليه وسلم، القائل: " مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"([29]).

فهذه هي استراتيجيات الإقناع، التي أوضحنا كيفية استخدامها في الخطاب القرآني، الذي هدى هذه الأمة للتي هي أقوم، ومن المعلوم بالضرورة أن تبليغ رسالة القرآن الكريم إلى العالمين هو فرض على علماء الأمة، فكان لابد في تبليغ هذه الرسالة العالمية من نقل مضامينها ومعانيها إلى أرجاء العالم كافة بأسلوب مقنع، انطلاقاً من قول علماء الأصول: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".


الساعة الآن 03:25 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى