منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   واحة الأدب والشعر العربي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=199)
-   -   ابو العلاء المعرّي (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=2258)

B-happy 3 - 12 - 2009 11:58 PM

ابو العلاء المعرّي
 
نبذة عن أبي العلاء المعري
نبذة مختصرة

المعرّي هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان. ولد في معرّة النعمان في شمال سوريا سنة 363 هجرية (973 ميلادية) وفي الرابعة من عمره أصيب بالجدري وفقد بصره. درس على أبيه الذي مات وهو في الرابعة عشرة من عمره، فرحل إلى حلب حيث كانت الحركة الثقافية التي ازدهرت في ظل سيف الدولة لاتزال نشيطة، ومن حلب إلى أنطاكية، وكانت لاتزال تدافع عما بقي لها من تراثها البيزنطي، ومن أنطاكية توجّه إلى طرابلس الشام، ومرّ باللاذقية فأخذ عن بعض الرهبان ما وجده عندهم من علوم اليونان وآرائهم الفلسفية.
في عام 398 هجرية رحل إلى بغداد حيث مكث عامين عاد بعدهما إلى معرّه النعمان ليجد أمه قد لحقت بأبيه فاعتزل الناس إلاّ خاصة طلاّبه وخادمه الذي كان يتقاسم معه دخله السنوي وهو ثلاثون دينارًا كان يستحقها من وقف. ورحل المعري سنة تسع وأربعين وأربعمائة هجرية .


نبذة مفصّلة
نشأ "أبو العلاء المعري" في أسرة مرموقة تنتمي إلى قبيلة "تنوخ" العربية، التي يصل نسبها إلى "يَعرُب بن قحطان" جدّ العرب العاربة ويصف المؤرخون تلك القبيلة بأنها من أكثر قبائل العرب مناقب وحسبًا، وقد كان لهم دور كبير في حروب المسلمين، وكان أبناؤها من أكثر جند الفتوحات الإسلامية عددًا، وأشدهم بلاءً في قتال الفرس.
وُلد أبو العلاءفي بلدة "معرَّة النعمان" ونشأ في بيت علم وفضل ورياسة متصل المجد، فجدُّه "سليمان بن أحمد" كان قاضي "المعرَّة"، وولي قضاء "حمص"، ووالده "عبد الله" كان شاعرًا، وقد تولى قضاء المعرَّة وحمص خلفًا لأبيه بعد موته، أمَّا أخوه الأكبر محمد بن عبد الله (355 - 430هـ = 966 – 1039م) فقد كان شاعرًا مُجيدًا، وأخوه الأصغر "عبد الواحد بن عبد الله" (371 – 405هـ = 981 - 1014م) كان شاعرًا أيضًا.
وعندما بلغ أبو العلاء الثالثة من عمره أُصيب بالجدري، وقد أدَّى ذلك إلى فقد بصره في إحدى عينيه، وما لبث أن فقد عينه الأخرى بعد ذلك.ولكن هذا البلاء على قسوته، وتلك المحنة على شدتها لم تُوهِن عزيمته، ولم تفُتّ في عضده، ولم تمنعه إعاقته عن طلب العلم، وتحدي تلك الظروف الصعبة التي مرَّ بها، فصرف نفسه وهمته إلى طب العلم ودراسة فنون اللغة والأدب والقراءة والحديث.فقرأ القرآن على جماعة من الشيوخ، وسمع الحديث عن أبيه وجدِّه وأخيه الأكبر وجدَّتِه "أم سلمة بنت الحسن بن إسحاق"، وعدد من الشيوخ، مثل: "أبي زكريا يحيى بن مسعر المعري"، و"أبي الفرج عبد الصمد الضرير الحمصي"، و"أبي عمرو عثمان الطرسوسي".وتلقَّى علوم اللغة والنحو على يد أبيه وعلى جماعة من اللغويين والنحاة بمعرَّة النعمان، مثل: "أبي بكر بن مسعود النحوي"، وبعض أصحاب "ابن خالوية".وكان لذكائه ونبوغه أكبر الأثر في تشجيع أبيه على إرساله إلى "حلب" – حيث يعيش أخواله – ليتلقى العلم على عدد من علمائها، وهناك التقى بالنحوي "محمد بن عبد الله بن سعد" الذي كان راوية لشعر "المتنبي"، ومن خلاله تعرَّف على شعر "المتنبي" وتوثقت علاقته به.ولكن نَهَم "أبي العلاء" إلى العلم والمعرفة لم يقف به عند "حلب"، فانطلق إلى "طرابلس" الشام؛ ليروى ظمأه من العلم في خزائن الكتب الموقوفة بها، كما وصل إلى "أنطاكية"، وتردد على خزائن كتبها ينهل منها ويحفظ ما فيها.وقد حباه الله تعالى حافظة قوية؛ فكان آية في الذكاء المفرط وقوة الحافظة، حتى إنه كان يحفظ ما يُقرأ عليه مرّة واحدة، ويتلوه كأنه يحفظه من قبل، ويُروى أن بعض أهل حلب سمعوا به وبذكائه وحفظه – على صغر سنه – فأرادوا أن يمتحنوه؛ فأخذ كل واحد منهم ينشده بيتًا، وهو يرد عليه ببيت من حفظه على قافيته، حتى نفد كل ما يحفظونه من أشعار، فاقترح عليهم أن ينشدوه أبياتًا ويجيبهم بأبيات من نظمه على قافيتها، فظل كل واحد منهم ينشده، وهو يجيب حتى قطعهم جمعيًا.
عاد "أبو العلاء" إلى "معرة النعمان" بعد أن قضى شطرًا من حياته في "الشام" يطلب العلم على أعلامها، ويرتاد مكتباتها.وما لبث أبوه أن تُوفي، فامتحن أبو العلاء باليُتم، وهو ما يزال غلامًا في الرابعة عشرة من عمره، فقال يرثي أباه:
أبي حكمت فيه الليالي ولم تزل
رماحُ المنايا قادراتٍ على الطعْنِ
مضى طاهرَ الجثمانِ والنفسِ والكرى
وسُهد المنى والجيب والذيل والرُّدْنِ

وبعد وفاة أبيه عاوده الحنين إلى الرحلة في طلب العلم، ودفعه طموحه إلى التفكير في الارتحال إلى بغداد، فاستأذن أمه في السفر، فأذنت له بعد أن شعرت بصدق عزمه على السفر، فشد رحاله إليها عام (398هـ = 1007م).
واتصل "أبو العلاء" في بغداد بخازن دار الكتب هناك "عبد السلام البصري"، وبدأ نجمه يلمع بها، حتى أضحى من شعرائها المعدودين وعلمائها المبرزين؛ مما أثار عليه موجدة بعض أقرانه ونقمة حساده، فأطلقوا ألسنتهم عليه بالأقاويل، وأثاروا حوله زوابع من الفتن والاتهامات بالكفر والزندقة، وحرّضوا عليه الفقهاء والحكام، ولكن ذلك لم يدفعه إلى اليأس أو الانزواء، وإنما كان يتصدى لتلك الدعاوى بقوة وحزم، ساخرًا من جهل حساده، مؤكدًا إيمانه بالله تعالى ورضاه بقضائه، فيقول تارة:
غَرِيَتْ بذمِّي أمةٌ
وبحمدِ خالقِها غريتُ
وعبدتُ ربِّي ما استطعـ
ـتُ، ومن بريته برِيتُ

ويقول تارة أخرى:
خُلِقَ الناسُ للبقاء فضلَّت
أمةٌ يحسبونهم للنفادِ

إنما ينقلون من دار أعما
لٍ إلى دار شقوة أو رشاد
ِ
ولم يكن أبو العلاء بمعزل عن المشاركة في الحياة الاجتماعية والفكرية في عصره؛ فنراه يشارك بقصائده الحماسية في تسجيل المعارك بين العرب والروم، كما يعبر عن ضيقه وتبرمه بفساد عصره واختلال القيم والموازين فيه، ويكشف عن كثير مما ظهر في عصره من صراعات فكرية ومذهبية، كما يسجل ظهور بعض الطوائف والمذاهب والأفكار الدينية والسياسية.
وقد عرف له أهل بغداد فضله ومكانته؛ فكانوا يعرضون عليه أموالهم، ويلحُّون عليه في قبولها، ولكنه كان يأبى متعففًا، ويردها متأنفًا، بالرغم من رقة حالة، وحاجته الشديدة إلى المال، ويقول في ذلك:
لا أطلبُ الأرزاقَ والمو
لى يفيضُ عليَّ رزقي
إن أُعطَ بعضَ القوتِ أعـ
ـلم أنَّ ذلك فوق حقي

وكان برغم ذلك راضيًا قانعًا، يحمد الله على السراء والضراء، وقد يرى في البلاء نعمة تستحق حمد الخالق عليها فيقول:
"
أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر".
لم يطل المقام بأبي العلاء في بغداد طويلاً؛ إذ إنه دخل في خصومة مع "المرتضي العلوي" أخي "الشريف الرضي"، بسبب تعصب "المعري" للمتنبي وتحامل المرتضي عليه؛ فقد كان أبو العلاء في مجلس المرتضي ذات يوم، وجاء ذكر المتنبي، فتنقصه المرتضي وأخذ يتتبع عيوبه ويذكر سرقاته الشعرية، فقال أبو العلاء: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قصيدته: "لك يا منازل في القلوب منازل" لكفاه فضلاً.
فغضب المرتضي، وأمر به؛ فسُحب من رجليه حتى أُخرج مهانًا من مجلسه، والتفت لجلسائه قائلاً: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر تلك القصيدة؟ فإن للمتنبي ما هو أجود منها لم يذكره. قالوا: النقيب السيد أعرف! فقال: إنما أراد قوله:
وإذا أتتك مذمَّتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأنِّي كامل

وفي تلك الأثناء جاءت الأخبار إلى أبي العلاء بمرض أمه، فسارع بالرجوع إلى موطنه بعد نحو عام ونصف العام من إقامته في بغداد.
غادر أبو العلاء بغداد في (24 من رمضان 400 هـ = 11 من مايو 1010م)، وكانت رحلة العودة شاقة مضنية، جمعت إلى أخطار الطريق وعناء السفر أثقال انكسار نفسه، ووطأة همومه وأحزانه، وعندما وصل أبو العلاء إلى بلدته كانت هناك مفاجأة قاسية في انتظاره.. لقد تُوفِّيت أمه وهو في طريق عودته إليها.ورثاها أبو العلاء بقصيدة تقطُر لوعة وحزنًا، وتفيض بالوجد والأسى. يقول فيها:
لا بارك الله في الدنيا إذا انقطعت
أسباب دنياكِ من أسباب دنيانا

ولزم داره معتزلاً الناس، وأطلق على نفسه "رهين المحبسين"، وظلَّ على ذلك نحو أربعين عامًا، لم يغادر خلالها داره إلا مرة واحدة، عندما دعاه قومه ليشفع لهم عند "أسد الدولة بن صالح بن مرداس" - صاحب حلب - وكان قد خرج بجيشه إلى "المعرة" بين عامي (417،418هـ = 1026،1027م)؛ ليخمد حركة عصيان أهلها، فخرج أبو العلاء، متوكئا على رجُل من قومه، فلما علم صالح بقدومه إليه أمر بوقف القتال، وأحسن استقباله وأكرمه، ثم سأله حاجته، فقال أبو العلاء:
قضيت في منزلي برهةً
سَتِير العيوب فقيد الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقل
وهمَّ لروحي فراق الجسد
بُعثت شفيعًا إلى صالح
وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع منِّي سجع الحمام
وأسمع منه زئير الأسد

فقال صالح: بل نحن الذين تسمع منَّا سجع الحمام، وأنت الذي نسمع منه زئير الأسد. ثم أمر بخيامه فوضعت، ورحل عن "المعرة".

وكان أبو العلاء يأخذ نفسه بالشدة، فلم يسع في طلب المال بقدر ما شغل نفسه بطلب العلم، وهو يقول في ذلك: "
وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب، ولا أتكثر بلقاء الرجال، ولكن آثرت الإقامة بدار العلم، فشاهدت أنفس مكان لم يسعف الزمن بإقامتي فيه". ويُعدُّ أبو العلاء من أشهر النباتيين عبر التاريخ؛ فقد امتنع عن أكل اللحم والبيض واللبن، واكتفى بتناول الفاكهة والبقول وغيرها مما تنبت الأرض.وقد اتخذ بعض أعدائه من ذلك المسلك مدخلاً للطعن عليه وتجريحه وتسديد التهم إليه، ومحاولة تأويل ذلك بما يشكك في دينه ويطعن في عقيدته.وهو يبرر ذلك برقة حاله وضيق ذات يده، وملاءمته لصحته فيقول: "ومما حثني على ترك أكل الحيوان أن الذي لي في السنة نيِّفٌ وعشرون دينارًا، فإذا أخذ خادمي بعض ما يجب بقي لي ما لا يعجب، فاقتصرت على فول وبلسن، وما لا يعذب على الألسن.. ولست أريد في رزقي زيادة ولا لسقمي عيادة".
وعندما كثر إلحاح أهل الفضل والعلم على أبي العلاء في استزارته، وأبت به مروءته أن يرد طلبهم أو يقطع رجاءهم، وهم المحبون له، العارفون لقدره ومنزلته، المعترفون بفضله ومكانته؛ فتح باب داره لا يخرج منه إلى الناس، وإنما ليدخل إليه هؤلاء المريدون.فأصبح داره منارة للعلم يؤمها الأدباء والعلماء، وطلاب العلم من كافة الأنحاء، فكان يقضي يومه بين التدريس والإملاء، فإذا خلا بنفسه فللعبادة والتأمل والدعاء.وكما لم تلن الحياة لأبي العلاء يومًا في حياته، فإنها أيضًا كانت قاسية عند النهاية؛ فقد اعتلّ شيخ المعرَّة أيامًا ثلاثة، لم تبق من جسده الواهن النحيل إلا شبحًا يحتضر في خشوع وسكون، حتى أسلم الروح في (3 من ربيع الأول 449هـ = 10 من مايو 1057م) عن عمر بلغ 86 عامًا.
وقد ترك أبو العلاء تراثًا عظيمًا من الشعر والأدب والفلسفة، ظل موردًا لا ينضب للدارسين والباحثين على مر العصور، وكان له أكبر الأثر في فكر وعقل كثير من المفكرين والعلماء والأدباء في شتى الأنحاء، ومن أهم تلك الآثار:
-
رسالة الغفران
: التي ألهبت خيال كثير من الأدباء والشعراء على مَرِّ الزمان، والتي تأثر بها "دانتي" في ثُلاثيته الشهيرة "الكوميديا الإلهية".
-
سقط الزند
: وهو يجمع شعر أبي العلاء في شبابه، والذي استحق به أن يوصف بحق أنه خليفة المتنبي.
-
لزوم ما لا يلزم (اللزوميات)
: وهو شعره الذي قاله في كهولته، وقد أجاد فيه وأكثر بشكل لم يبلغه أحد بعده، حتى بلغ نحو (13) ألف بيت.

B-happy 4 - 12 - 2009 12:04 AM

أبو العلاء المعرّي
رهين المحبسين
المعرّي .. فيلسوف الشعراء

(في ذكرى وفاته: 3 ربيع الأول 449هـ)

سمير حلبي

نشأ "أبو العلاء المعري" في أسرة مرموقة تنتمي إلى قبيلة "تنوخ" العربية، التي يصل نسبها إلى "يَعرُب بن قحطان" جدّ العرب العاربة. ويصف المؤرخون تلك القبيلة بأنها من أكثر قبائل العرب مناقب وحسبًا، وقد كان لهم دور كبير في حروب المسلمين، وكان أبناؤها من أكثر جند الفتوحات الإسلامية عددًا، وأشدهم بلاءً في قتال الفرس.
وُلد أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان في بلدة "معرَّة النعمان" من أعمال "حلب" بشمال "سوريا" في (27 من ربيع الأول 363هـ = 26 من ديسمبر 1973م). ونشأ في بيت علم وفضل ورياسة متصل المجد، فجدُّه "سليمان بن أحمد" كان قاضي "المعرَّة"، وولي قضاء "حمص"، ووالده "عبد الله" كان شاعرًا، وقد تولى قضاء المعرَّة وحمص خلفًا لأبيه بعد موته، أمَّا أخوه الأكبر محمد بن عبد الله (355 - 430هـ = 966 – 1039م) فقد كان شاعرًا مُجيدًا، وأخوه الأصغر "عبد الواحد بن عبد الله" (371 – 405هـ = 981 - 1014م) كان شاعرًا أيضًا.


محنة في محنة
وعندما بلغ أبو العلاء الثالثة من عمره أُصيب بالجدري، وقد أدَّى ذلك إلى فقد بصره في إحدى عينيه، وما لبث أن فقد عينه الأخرى بعد ذلك. ولكن هذا البلاء على قسوته، وتلك المحنة على شدتها لم تُوهِن عزيمته، ولم تفُتّ في عضده، ولم تمنعه إعاقته عن طلب العلم، وتحدي تلك الظروف الصعبة التي مرَّ بها، فصرف نفسه وهمته إلى طب العلم ودراسة فنون اللغة والأدب والقراءة والحديث. فقرأ القرآن على جماعة من الشيوخ، وسمع الحديث عن أبيه وجدِّه وأخيه الأكبر وجدَّتِه "أم سلمة بنت الحسن بن إسحاق"، وعدد من الشيوخ، مثل: "أبي زكريا يحيى بن مسعر المعري"، و"أبي الفرج عبد الصمد الضرير الحمصي"، و"أبي عمرو عثمان الطرسوسي". وتلقَّى علوم اللغة والنحو على يد أبيه وعلى جماعة من اللغويين والنحاة بمعرَّة النعمان، مثل: "أبي بكر بن مسعود النحوي"، وبعض أصحاب "ابن خالوية".
وكان لذكائه ونبوغه أكبر الأثر في تشجيع أبيه على إرساله إلى "حلب" – حيث يعيش أخواله – ليتلقى العلم على عدد من علمائها، وهناك التقى بالنحوي "محمد بن عبد الله بن سعد" الذي كان راوية لشعر "المتنبي"، ومن خلاله تعرَّف على شعر "المتنبي" وتوثقت علاقته به. ولكن نَهَم "أبي العلاء" إلى العلم والمعرفة لم يقف به عند "حلب"، فانطلق إلى "طرابلس" الشام؛ ليروى ظمأه من العلم في خزائن الكتب الموقوفة بها، كما وصل إلى "أنطاكية"، وتردد على خزائن كتبها ينهل منها ويحفظ ما فيها. وقد حباه الله تعالى حافظة قوية؛ فكان آية في الذكاء المفرط وقوة الحافظة، حتى إنه كان يحفظ ما يُقرأ عليه مرّة واحدة، ويتلوه كأنه يحفظه من قبل، ويُروى أن بعض أهل حلب سمعوا به وبذكائه وحفظه – على صغر سنه – فأرادوا أن يمتحنوه؛ فأخذ كل واحد منهم ينشده بيتًا، وهو يرد عليه ببيت من حفظه على قافيته، حتى نفد كل ما يحفظونه من أشعار، فاقترح عليهم أن ينشدوه أبياتًا ويجيبهم بأبيات من نظمه على قافيتها، فظل كل واحد منهم ينشده، وهو يجيب حتى قطعهم جمعيًا.

بين اليأس والرجاء
عاد "أبو العلاء" إلى "معرة النعمان" بعد أن قضى شطرًا من حياته في "الشام" يطلب العلم على أعلامها، ويرتاد مكتباتها. وما لبث أبوه أن تُوفي، فامتحن أبو العلاء باليُتم، وهو ما يزال غلامًا في الرابعة عشرة من عمره، فقال يرثي أباه:
أبي حكمت فيه الليالي ولم تزل
رماحُ المنايا قادراتٍ على الطعْنِ
مضى طاهرَ الجثمانِ والنفسِ والكرى
وسُهد المنى والجيب والذيل والرُّدْنِ

وبعد وفاة أبيه عاوده الحنين إلى الرحلة في طلب العلم، ودفعه طموحه إلى التفكير في الارتحال إلى بغداد، فاستأذن أمه في السفر، فأذنت له بعد أن شعرت بصدق عزمه على السفر، فشد رحاله إليها عام (398هـ = 1007م).

نجم يسطع في سماء "بغداد"
واتصل "أبو العلاء" في بغداد بخازن دار الكتب هناك "عبد السلام البصري"، وبدأ نجمه يلمع بها، حتى أضحى من شعرائها المعدودين وعلمائها المبرزين؛ مما أثار عليه موجدة بعض أقرانه ونقمة حساده، فأطلقوا ألسنتهم عليه بالأقاويل، وأثاروا حوله زوابع من الفتن والاتهامات بالكفر والزندقة، وحرّضوا عليه الفقهاء والحكام، ولكن ذلك لم يدفعه إلى اليأس أو الانزواء، وإنما كان يتصدى لتلك الدعاوى بقوة وحزم، ساخرًا من جهل حساده، مؤكدًا إيمانه بالله تعالى ورضاه بقضائه، فيقول تارة:
غَرِيَتْ بذمِّي أمةٌ
وبحمدِ خالقِها غريتُ
وعبدتُ ربِّي ما استطعـ
ـتُ، ومن بريته برِيتُ
ويقول تارة أخرى:
خُلِقَ الناسُ للبقاء فضلَّت
أمةٌ يحسبونهم للنفادِ
إنما ينقلون من دار أعما
لٍ إلى دار شقوة أو رشادِ

ولم يكن أبو العلاء بمعزل عن المشاركة في الحياة الاجتماعية والفكرية في عصره؛ فنراه يشارك بقصائده الحماسية في تسجيل المعارك بين العرب والروم، كما يعبر عن ضيقه وتبرمه بفساد عصره واختلال القيم والموازين فيه، ويكشف عن كثير مما ظهر في عصره من صراعات فكرية ومذهبية، كما يسجل ظهور بعض الطوائف والمذاهب والأفكار الدينية والسياسية.
وقد عرف له أهل بغداد فضله ومكانته؛ فكانوا يعرضون عليه أموالهم، ويلحُّون عليه في قبولها، ولكنه كان يأبى متعففًا، ويردها متأنفًا، بالرغم من رقة حالة، وحاجته الشديدة إلى المال، ويقول في ذلك:
لا أطلبُ الأرزاقَ والمو
لى يفيضُ عليَّ رزقي
إن أُعطَ بعضَ القوتِ أعـ
ـلم أنَّ ذلك فوق حقي
وكان برغم ذلك راضيًا قانعًا، يحمد الله على السراء والضراء، وقد يرى في البلاء نعمة تستحق حمد الخالق عليها فيقول: "أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر
".

رسالة الغفران
لم يطل المقام بأبي العلاء في بغداد طويلاً؛ إذ إنه دخل في خصومة مع "المرتضي العلوي" أخي "الشريف الرضي"، بسبب تعصب "المعري" للمتنبي وتحامل المرتضي عليه؛ فقد كان أبو العلاء في مجلس المرتضي ذات يوم، وجاء ذكر المتنبي، فتنقصه المرتضي وأخذ يتتبع عيوبه ويذكر سرقاته الشعرية، فقال أبو العلاء: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قصيدته: "لك يا منازل في القلوب منازل" لكفاه فضلاً.
فغضب المرتضي، وأمر به؛ فسُحب من رجليه حتى أُخرج مهانًا من مجلسه، والتفت لجلسائه قائلاً: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر تلك القصيدة؟ فإن للمتنبي ما هو أجود منها لم يذكره. قالوا: النقيب السيد أعرف! فقال: إنما أراد قوله:
وإذا أتتك مذمَّتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأنِّي كامل

وفي تلك الأثناء جاءت الأخبار إلى أبي العلاء بمرض أمه، فسارع بالرجوع إلى موطنه بعد نحو عام ونصف العام من إقامته في بغداد.

العودة إلى الوطن
غادر أبو العلاء بغداد في (24 من رمضان 400 هـ = 11 من مايو 1010م)، وكانت رحلة العودة شاقة مضنية، جمعت إلى أخطار الطريق وعناء السفر أثقال انكسار نفسه، ووطأة همومه وأحزانه، وعندما وصل أبو العلاء إلى بلدته كانت هناك مفاجأة قاسية في انتظاره.. لقد تُوفِّيت أمه وهو في طريق عودته إليها. ورثاها أبو العلاء بقصيدة تقطُر لوعة وحزنًا، وتفيض بالوجد والأسى. يقول فيها:
لا بارك الله في الدنيا إذا انقطعت
أسباب دنياكِ من أسباب دنيانا
ولزم داره معتزلاً الناس، وأطلق على نفسه "رهين المحبسين"، وظلَّ على ذلك نحو أربعين عامًا، لم يغادر خلالها داره إلا مرة واحدة، عندما دعاه قومه ليشفع لهم عند "أسد الدولة بن صالح بن مرداس" - صاحب حلب - وكان قد خرج بجيشه إلى "المعرة" بين عامي (417،418هـ = 1026،1027م)؛ ليخمد حركة عصيان أهلها، فخرج أبو العلاء، متوكئا على رجُل من قومه، فلما علم صالح بقدومه إليه أمر بوقف القتال، وأحسن استقباله وأكرمه، ثم سأله حاجته، فقال أبو العلاء:
قضيت في منزلي برهةً
سَتِير العيوب فقيد الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقل
وهمَّ لروحي فراق الجسد
بُعثت شفيعًا إلى صالح
وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع منِّي سجع الحمام
وأسمع منه زئير الأسد
فقال صالح: بل نحن الذين تسمع منَّا سجع الحمام، وأنت الذي نسمع منه زئير الأسد. ثم أمر بخيامه فوضعت، ورحل عن "المعرة".

أبو العلاء النباتي
وكان أبو العلاء يأخذ نفسه بالشدة، فلم يسع في طلب المال بقدر ما شغل نفسه بطلب العلم، وهو يقول في ذلك: "وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب، ولا أتكثر بلقاء الرجال، ولكن آثرت الإقامة بدار العلم، فشاهدت أنفس مكان لم يسعف الزمن بإقامتي فيه".
ويُعدُّ أبو العلاء من أشهر النباتيين عبر التاريخ؛ فقد امتنع عن أكل اللحم والبيض واللبن، واكتفى بتناول الفاكهة والبقول وغيرها مما تنبت الأرض. وقد اتخذ بعض أعدائه من ذلك المسلك مدخلاً للطعن عليه وتجريحه وتسديد التهم إليه، ومحاولة تأويل ذلك بما يشكك في دينه ويطعن في عقيدته. وهو يبرر ذلك برقة حاله وضيق ذات يده، وملاءمته لصحته فيقول: "ومما حثني على ترك أكل الحيوان أن الذي لي في السنة نيِّفٌ وعشرون دينارًا، فإذا أخذ خادمي بعض ما يجب بقي لي ما لا يعجب، فاقتصرت على فول وبلسن، وما لا يعذب على الألسن.. ولست أريد في رزقي زيادة ولا لسقمي عيادة". وعندما كثر إلحاح أهل الفضل والعلم على أبي العلاء في استزارته، وأبت به مروءته أن يرد طلبهم أو يقطع رجاءهم، وهم المحبون له، العارفون لقدره ومنزلته، المعترفون بفضله ومكانته؛ فتح باب داره لا يخرج منه إلى الناس، وإنما ليدخل إليه هؤلاء المريدون. فأصبح داره منارة للعلم يؤمها الأدباء والعلماء، وطلاب العلم من كافة الأنحاء، فكان يقضي يومه بين التدريس والإملاء، فإذا خلا بنفسه فللعبادة والتأمل والدعاء. وكما لم تلن الحياة لأبي العلاء يومًا في حياته، فإنها أيضًا كانت قاسية عند النهاية؛ فقد اعتلّ شيخ المعرَّة أيامًا ثلاثة، لم تبق من جسده الواهن النحيل إلا شبحًا يحتضر في خشوع وسكون، حتى أسلم الروح في (3 من ربيع الأول 449هـ = 10 من مايو 1057م) عن عمر بلغ 86 عامًا.

آثاره أبي العلاء
وقد ترك أبو العلاء تراثًا عظيمًا من الشعر والأدب والفلسفة، ظل موردًا لا ينضب للدارسين والباحثين على مر العصور، وكان له أكبر الأثر في فكر وعقل كثير من المفكرين والعلماء والأدباء في شتى الأنحاء، ومن أهم تلك الآثار:
- رسالة الغفران: التي ألهبت خيال كثير من الأدباء والشعراء على مَرِّ الزمان، والتي تأثر بها "دانتي" في ثُلاثيته الشهيرة "الكوميديا الإلهية".
- سقط الزند: وهو يجمع شعر أبي العلاء في شبابه، والذي استحق به أن يوصف بحق أنه خليفة المتنبي.
- لزوم ما لا يلزم (اللزوميات)، وهو شعره الذي قاله في كهولته، وقد أجاد فيه وأكثر بشكل لم يبلغه أحد بعده، حتى بلغ نحو (13) ألف بيت.
- الفصول والغايات (في تمجيد الله والمواعظ).
- عبث الوليد: وهو شرح نقدي لديوان "البحتري".
- معجز أحمد: وهو شرح ديوان "أبي الطيب المتنبي".
- رسالة الملائكة.
- رسالة الحروف.
- الرسالة الإغريضية.
- الرسالة المنيحية.




B-happy 4 - 12 - 2009 12:05 AM

أبو العلاء المعري.. فلكياً


إبراهيم مشارة
٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨


أبو العلاء المعري شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، وأحد كبار الشعراء العرب وأعمقهم ثقافة وأرسخهم قدما في علوم العربية والمنطق والفلسفة، وأحد القلائل الذين لهم خبرة بالنفس الانسانية وتقلباتها. ويزيد إعجابنا بسعة ثقافته إذا تقصينا شيئا من ثقافته الفلكية.
يبهر أبو العلاء المعري من له دراية بالفلك، ويحار في الدقة التي يصف بها الشاعر المجموعات النجمية وطلوعها وشروقها الواحدة تلو الأخرى وهو الضرير الذي حرم من متعة النظر إلى السماء ! ولقد أكثر المعري من ذكر النجوم والكواكب، ولا جرم أنه كان يعظم شأنها وهو القائل عن زحل :
زحل أشرف الكواكب دارا
من لقاء الردى على ميعاد

والمعري كغيره من المثقفين في العصر العباسي الأول والثاني الذين اطلعوا ولا ريب على مؤلفات أفلاطون وأرسطو وبطليموس، والإشارة هنا بقوله "أشرف الكواكب دارا" إلى كون زحل الكوكب الأبعد مدارا حول الأرض لا حول الشمس لأن النظرية البطليوسية وفحواها أن (الأرض مركز الكون) سادت حتى عصر كوبرنيكوس، ولهذا وقف الإنسان القديم في تعرفه على الكواكب عند زحل لأن الكواكب الأخرى (أورانوس ونبتون وبلوتو) لا ترى إلا بالمناظير القوية . وقد كان المعري مؤمنا بفناء المادة وانحلال الكون من حيث هو نجوم وكواكب فيقول مباشرة بعد البيت السابق :
ولنار المريخ من حدثان الدهر
مطف وإن علت في اتقاد
والثريا رهينة بافتراق الشمل
حتى تعد في الأفراد
واللبيب اللبيب من ليس يغترر
بكون مصيره للفساد


اقتران الكواكب
وفي لزوميات المعري إشارات فلكية تخفى على كثير من المثقفين في عصرهوفي غيره من العصور. كإشارته إلى اقتران الكواكب،وهو من الناحية الفلكية اجتماع كوكبين أو أكثر في برج البروج في أقرب مساحة ممكنة، وإذا علمنا أن بعض الكواكب لا تتم دورة واحدة حول الشمس إلا خلال عشرات السنين اتضح لنا أن هذا الأمر نادر الحدوث. ومن الاقترانات التي تناولها المعري ما تعلق بكوكبي المشتري وزحل وقد كان القدماء يتفاءلون خيرا بهذا الإقتران، على العكس من تشاؤمهم من ظهور المذنبات . يقول المعري :
قران المشتري زحلا يرجى
لإيقاظ النواظر من كراها

غير أن المعري يخونه التوفيق في بيت من هذه القصيدة حين يؤكد ثبات مواقع النجوم :
تقضى الناس جيلا بعد جيل
وخلفت النجوم كما تراها

فالذي هو ثابت اليوم أن النجوم في حالة حركة، وأن كثيرا منها سيغير موقعه بعد آلاف السنين، فمجموعة "الدب الأكبر " لن يكون شكلها كما نراها اليوم بل سيتغير نتيجة لحركة نجومها !
وفي قصيدة "عللاني" وهي قصيدة نظمها الشاعر في عهد الشباب حاول فيها أن يحاكي المبصرين في دقة الوصف، متعاليا على عاهته، وقد نجح في ذلك إلى حد الإعجاز، وأدعو القارئ إلى قراءة هذه الأبيات ومراجعة ذاكرته حول أسماء النجوم الواردة في هذه القصيدة، وعن الفصل الذي تشرق فيه وتغرب إن كان من الملمين بالفلك، يقول أبو العلاء :
ليلتي هذه عروس من الزنـ
ج عليها قلائد من جمان
وكان الهلال يهوى الثريا
فهما للوداع معتنقان

والمؤكد أن الشاعر نظم هذه القصيدة في أواخر الربيع، لأن برج الثور حيث توجد مجموعة "الثريا " لايكون بالأفق الغربي إلا في أواخر هذا الفصل حيث تنزله الشمس في شهر مايو فتنحجب عن الأبصار. فإذا كان الهلال إبن أيام قليلة في أواخر الربيع نزل في برج الثور فيرى بعد مغيب الشمس في هذا البرج، وقبل هذا البيت يقول المعري :
وكأني ما قلت والبدر طفل
وشباب الظلماء في العنفوان

نجم سهيل
وقد أولع المعري بذكر نجم "سهيل " وهو نجم عملاق أحمر يبعد عن الأرض بحوالي أربعمئة سنة ضوئية وهو جد مهم في الملاحة الفضائية لأنه يستخدم كنقطة مرجعية في توجيه السفن الفضائية في رحلاتها ما بين الكواكب , ويقع هذا النجم في كوكبة ( الجؤجؤ) التي تشكل جزءا من المجموعة النجمية العملاقة "السفينة" فماذا يقول الشاعر عن هذا النجم :
وسهيل كوجنة الحب في اللون
وقلب المحب في الخفقان
ضرجته دما سيوف الأعادي
فبكت رحمة له الشعريان

ولن نخوض في الجمال الأدبي الأخاذ الكائن في هذا الوصف، ولكن ينبغي أن نشير هنا إلى أن هذا النجم لا يرى من العروض الشمالية "كسورية" حيث عاش الشاعر بسبب وجوده تحت خط الأفق في جنوب الكرة السماوية . ولاتتأتى رؤيته إلا من جنوب الأرض (إفريقيا الجنوبية، أستراليا، أمريكا الجنوبية ) . والشاعر قد أراد أن يدلل على سعة ثقافته الفلكية ولو لم يشاهد هذه النجوم !
ويختم المعري قصيدته بالإشارة إلى شروق كوكبة "النسر الواقع " وفيها النجم اللامع" vega" وهي كوكبة تشرق في أواخر الربيع قبل الفجر ثم تتقدم غرب السماء يوما بعد يوم، وبالتالي تكون محتلة للسمت في فصل الصيف . والعارف بالفلك يحار في دقة المعري في تقصي هذه المجموعات النجمية وهو الضرير . يقول عن هذه المجموعة :
ونضا فجره على نسره الوا
قع سيفا فهم بالطيران

ومن النجوم التي أشار المعري إليها في لزومياته وسائر شعره : الشعرى اليمانية والشعرى الشامية، فأما الأولى فقد عبدتها العرب القدماء، وقد فند القرآن الكريم هذه الأباطيل والوثنيات فقال تعالى مخاطبا العرب في سورة النجم : "وأنه هو رب الشعرى" . والشعرى اليمانية نجم يبعد عنا بحوالي ثماني سنوات ضوئية وهو من ألمع النجوم ويستأثر بليلنا طوال ليالي الشتاء ويوجد قريبا من مجموعة الجبار "orion " أو الجوزاء كما أسمتها العرب . وحول هذين النجمين للعرب أسطورة جميلة فحواها أن الشعرى اليمانية هربت مع حبيبها نجم سهيل وعبرت نهر المجرة أي "درب التبان " ولهذا تسمى أيضا بالشعرى العبور، وظلت أختها الشعرى الشامية تبكي على فراقها دون أن تتمكن من عبور نهر المجرة ولهذا تسمى أيضا بــ"الغميصاء " أي في عينيها تقرح من شدة البكاء، يقول المعري مخاطبا أحد أخواله المكثرين للسفر:
إذا الشعرى اليمانية إستنارت
فجدد للشآمية الودادا

شاعر الفرقدين
وفي قصيدة المعري المشهورة "ألا في سبيل المجد" وهي التي نظمها في عهد الشباب وافتخر فيها بمركزه الأدبي وأخلاقه العالية يذكر نجما هو "السها" وهو نجم خفي في كوكبة الدب الأكبر في الذيل، كانت العرب تمتحن به قوة البصر عندهم وقالت في المثل :"أريها السها وتريني القمر" وهو مثل يضرب للشخص تريه الأمر الخفي فيضرب عنه صفحا ويتحدث عن الواضح الجلي ! يقول المعري مشيرا إلى هذا النجم :
وقالت السها للشمس أنت خفية
وقال الدجى يا صبح لونك حائل

وهو يشير من خلال ذكر هذا النجم إلى فساد القيم وانقلاب الأوضاع، إلى درجة أن الحقير الصغير يطاول الشريف الكبير !
وكما ذكر المعري الكواكب وأولع بذكر المريخ وزحل ( كيوان )، وذكر النجوم البعيدة وفي لزومياته يتردد ذكر الفراقد أو الفرقدين كما في رثائه لأبي حمزة الفقيه، والفرقدان نجمان نيران في كوكبة الدب الأصغر أشد إضاءة من النجم القطبي الذي يشير إلى القطب الشمالي، ومن أسمائهما "حارسا القطب" لأنهما يدلان على النجم القطبي لمن لا يعرفه، يقول شاعرنا مشيرا إليهما :
وكم رأت الفراقد والثريا
قبائل ثم أضحت في ثراها

وفي مرثيته لأبي حمزة الفقيه يشير كذلك إليهما :
كم أقاما على زوال نهار
وأنارا لمدلج في سواد

ولم يغفل المعري الإشارة إلى السماكين وهما نجمان عملاقان أحدهما هو "السماك الرامح" في كوكبة "العواء" أو الراعي والآخر هو "السماك الأعزل" في كوكبة "العذراء البروجية" والسماك الرامح ألمع من السماك الأعزل وقد تردد ذكرهما كثيرا في شعر العرب . أما شاعرنا فقد رأى منزلته الأدبية سامية بين السماكين :
و لي منطق لم يرض لي كنه منزلي
على أنني بين السماكين نازل

وهي قصيدة نظمها الشاعر في عهد الشباب وقد آلمه حسد البعض ومحاولتهم النيل من الشاعر، يصر حكيم المعرة على أن منزلته في الجوزاء، وفي هذه الكوكبة التي ذكرها الشاعر خاط كبير فالعرب قد تطلقها على مجموعة الجبار "orion" بدليل أن أحد نجومها وهو من النجوم المصنفة كألمع النجوم تسميه العرب " إبط الجوزاء " وبهذا الإسم عرفه الفلكيون الغربيون "Bételgeuse" على أن الجوزاء الحقيقية كوكبة بروجية بين الثور والسرطان تنزلها الشمس بين 22 يونيو 21 يوليو وصارت تقع في السمت في العروض الشمالية بدل كوكبة السرطان بسبب مبادرة الإعتدالين وترنح محور دوران الأرض، ولا نعلم هل كان المعري يقصد بالجوزاء برج الجوزاء هذا كما شرحناه، أم جرى على إلف العرب في إطلاقهم هذا الاسم على الجبار ? المهم أنه يقول :
أفوق البدر يوضع لي مهاد
أم الجوزاء تحت يدي وساد?

أما الشمس نجمنا الذي يبدد سواد الفضاء ووحشة الكون فقد شغل هذا النجم عقل المعري الجبار وتساءل عن زمن مولد الشمس وأدرك أنه قديم :
ومولد هذي الشمس أعياك حده
وخبر لب أنه متقادم

واستأثر الزمن بفكر الشاعر الفيلسوف كما استأثر بعقول الفلاسفة الإغريق وبعقل نيوتن وأينشتين، وإن كانت نظرية النسبية قد فصلت في نسبية الفضاء والزمن فالمعري يرى أن تيار الزمن ينساب في الكون ويملؤه ولا توجد نقطة في الكون بلا زمن !

هذه لمحة وجيزة عن ثقافة المعري الفلكية، فدارس شعره يقف على كثير من الإحالات في قصائده، وهي كثيرة تستغرق مؤلفا مفصلا، ولا يزعم كاتب هذا المقال أن الشاعر كان فلكيا، وإن كان عنوان المقال يوحي بشيء من ذلك فالشاعر كان عقلا فذا استوعب ثقافة عصره واطلع على شيء من الفكر والثقافة الإغريقية وربما الهندية والفارسية، ولهذا جاء شعره ممثلا لسعة اطلاعه وحيرته الفلسفية، وطهارة نفسه ونقاوة ضميره من رذائل الكذب والنفاق والأنانية وهو القائل:
ولو أني حبيت الخلد فردا
لما أحببت بالخلد انفرادا

فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا

حقا إن المعري مفخرة من مفاخر الثقافة العربية وشاعر عظيم من أساطين الشعر وفرسانه الكبار .

B-happy 4 - 12 - 2009 12:05 AM

أبو العلاء المعري والمقابر الجماعية

صبيحة شبر
21 آذار (مارس) ٢٠٠٨


من يقرأ في شعر أبي العلاء المعري، ذلك الإنسان الذي جرب الدنيا، وعرف انه لاشيء يجدي، ضحك المرء أو بكى، النتيجة واحدة في الاثنين:
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد

ما الذي يدرينا إن غنت الحمامة على غصنها المياد، أم بكت ؟ الألحان نفسها، تنطلق من الطائر وقت الفرح والحزن، فيأخذ بالإنشاد معبرا عما يشعر به من شجن يهز النفس، ويثلم الفؤاد ، فلماذا يصرخ الإنسان، ويلطم الوجه حين يأتيه الناعي مخبرا إياه عن فراق إنسان حبيب، قد عز له المثيل، جاء شاعرنا النبأ حزينا ينقل له فراق من يحب من بني البشر، وكان المعري قد أعتزل الناس، ولم يخالط الكثير من العباد، فيستقبل المعري الخبر الحزين بحكمة كبيرة، مفادها ان صوت النعي يشبه صوت البشير، فنحن نسمع الصوت عاليا دون أن نفهم ما المراد منه:
وشبيه صوت النعي اذا قيـ
ـس بصوت البشير في كل ناد

وبالحكمة العالية التي اكتسبها المعري، من حياته الغنية بالعلوم والآداب يتساءل أين قبورنا الكثيرة التي هبط إليها أناسنا الأعزاء، الذين حنوا علينا وأطعمونا الحب والرحمة ، والقبور كثيرة تملآ الرحب من عهد عاد الى أيامنا هذه، التي زادت حدة الموت فيها ، فلم تقتصر على الموت الطبيعي، أو ذلك الذي يحدث جراء المرض العضال الذي لابراء منها، وإنما أصبح عدد الموتى المغادرين هذه الحياة، بلا شعور بالأسف أكثر أضعافا عما كان في عهد المعري، حيث تكالب البعض من اجل وضع حد، لحياة الكثير من الناس الطيبين، الذين آلوا على أنفسهم مساعدة الآخر والذود عن حياضه، واذا بهم يتلقون جزاء سنمار.
هل كان المعري يملك من النظرة الثاقبة ،ما يجعله يتوقع ان الحياة تتدهور باستمرار ، وان الأمس أفضل من اليوم ، كما أن الغد اشد بشاعة من اليوم ، ما الذي جعل حياتنا بهذا السوء ؟ أليس عدم احترامنا للآخرين ، واتصافنا بصفات تنفر المرء منا حين لانجد في الغير حسنا او جمالا ، لاسيما في اختلافهم بوجهات النظر ، فلماذا يتكبر المرء على من وهبه الحياة ، ومن منحه الحب السامي ورعاه :
خفف الوطء ما أظن أديم الـ
أرض إلا من هذه الأجساد

هل يكفي قدم الآباء والأجداد، وارتحالهم الى الحياة الأخرى، ان نتناسى ما أضافوه إلينا، وما جادت به أياديهم من عظيم الهبات:
وقبيح بنا وإن قدم العهـ
ـد هوان الآباء والأجداد

ما الذي يدعونا الى الاختيال والعجب ، بما فعلناه ونحن لم نستطع ان نفعل ما يستحق الفخر ، فلماذا نضر بمن استقر في جوف الأرض:
سر ان اسطعت في الهواء رويدا
لا اختيالا على رفات العباد

فأين ذهبت القبور ؟ هل اندثرت ؟ وهي كثيرة من عهد عاد الى الآن، أليس القبر يشاد على موضع قبور أخرى قد سبقته، وضمت رفات الملايين من الموتى، بعد ان أودعهم ذووهم في الثرى ، وهي تحمل الأضداد الذين تقاتلوا في دنيا البشر، وإذا بهم يقطنون اليوم لحدا واحدا، يضم الأسود والأبيض والمسالم والمتحارب والهاديء والصاخب، أليس القبر يضحك من تقلب الناس من حالة التناحر الى حياة الوئام:
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد

كم ضمت قبورنا من أجساد بشرية ، بعضها يعود الى مذنبين ، بحق الناس والبعض الآخر ، يعود الى أبرياء لم يذنبوا بشيء الا انهم كانوا يملكون قلوبا ناصعة ،أحبت كل الناس وتمنت الخير لهم.

ماذا يمكن للمعري أن يقول في هذا الزمن الذي تراكمت فيه الجرائم بحق البشرية، وأضحى الناس متحاربين من اجل قضية غيرهم، يسيرون معصوبي الأعين من بؤس الى آخر اشد إيلاما.

B-happy 4 - 12 - 2009 12:07 AM

950 عاما على وفاة أبو العلاء المعري


بسام الهلسه
01/01/2008


لو كان أبو العلاء المعري منتسباً لأمة أُخرى، لاحتل مكانة عالية بين أعلام النهضة الكبار في الأدب والفكر والثقافة في العالم، لكن الأمم المستضعفة والمتخلفة –شأن العرب والمسلمين اليوم- لا تدفع الثمن من حاضرها البائس فقط، بل من ماضيها المتألق أيضاً!
وهي لا تعاني من إنكار وجحود الآخرين لها فحسب، بل ومن عدم تقديرها واحترامها هي لذاتها.. وهو الأمر الذي لا بد منه –احترام الذات- (بدون ادعاء أو تجاهل لمنجزات الآخرين طبعاً)، للأمم وللجماعات وللأفراد على السواء، إذا ما أرادوا أن يكون لهم شأن في الوجود، بل حتى إذا ما أرادوا أن يؤسسوا لوجود حي فاعل.
كان شيخ المعرة الذي رحل قبل 950 عاماً، من أكثر الشخصيات نفاذ بصيرة في عصره وفي تاريخنا عموماً، وهو الضرير الذي فقد بصره صغيراً في الرابعة من عمره. فإضافة إلى الثقافة الموسوعية التي استوعبتها حافظته الهائلة، وذكائه الحاد، وسرعة بديهته، عبر المعري عن شخصية متميزة فريدة في الأدب والفكر العربي-الإسلامي، شكلت انقلاباً على الثقافة السائدة في عصره، والتقاليد التي أرساها من سبقوه.
وإذا كان قد تأثر بالمتنبي في مطلع حياته، كما يتبدى في ديوانه الأول "سقط الزند"، وكما يتبدى من شرحه لديوانه وتخصيصه بلقب "الشاعر"، فسرعان ما قطع مع التقاليد الشعرية العربية التي وظفت الشعر للتكسب ولطلب الحظوة والمال، ليكرس شعره للتعبير عن تجربته الخاصة وتأملاته ونظراته في الحياة والناس والوجود.. وهي نظرات وتأملات أعلت من قيمة ودور العقل في زمن عمت فيه الخرافات والجهل، واحتفت بالمعرفة والأحكام القائمة على الخبرة والمعاينة الحية للواقع.
وخلافاً للشعراء (وللمثقفين أيضاً) الذين "يقولون ما لا يفعلون" قدم المعري نموذج المفكر والأديب الذي توافق أفعاله أقواله، وتتطابق أقواله مع أفكاره ومعتقداته. وكانت حياته منذ اعتزاله في داره في المعرة، إثر عودته من بغداد ووفاة أمه، ترجمة صادقة لقناعاته التي عاشها بإخلاص مميز إلى الحدود القصوى.. وهي حالة فريدة في الأدب العربي وفي الأدب الإنساني عموماً.
عاش المعري (973م-1057م) في أوان شيخوخة الحضارة العربية الإسلامية وأفولها، بعد قرنين زاهيين (التاسع والعاشر الميلادي- الثالث والرابع الهجري) عدَّهما العلامة "آدم متز" قرني النهضة العربية الإسلامية. وبحسه الرهيف وتبصراته الثاقبة، أدرك بؤس ما آل إليه المسلمون، وتفاهة ما هم فيه وعليه يتكالبون... وبدل أن يشكو الزمان ويندبه ويصارعه لأنه لم يعطه ما يستحق كما فعل المتنبي، نراه وقد نبذه لأنه لا يستحق، بل هو موضع شبهة:
إن رابنا الدهرُ بأفعاله
فكلنا بالدهر مرتابُ!
وهو موقف أسبغه على الحياة أيضاً التي لم ير فيها سوى عناء موصول غير جدير بالمجاهدة، وتساوى لديه النواح والغناء:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي
نوح باكٍ ولا ترنمُ شادي
وهو أيضاً ما جسده في سلوكه الاعتزالي الذي امتد نحواً من أربعين سنة لم يغادر فيها داره سوى مرة واحدة اضطراراً ليتوسط لأهل المعرة لدى قائد أراد مهاجمتها (ابن مرداس):
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيثِ
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفسِ في الجسد الخبيثِ
وإذ ذهب في قناعاته إلى حد "لزوم ما لا يلزم" فقد امتنع عن تناول اللحم وما ينتجه الحيوان والطير، وعاش نباتياً متقشفاً، زاهداً في الحياة التي بدت له الرغبة فيها جهلاً:
رغبنا في الحياة لفرط جهل
وفقدُ حياتنا حظٌ رغيبُ!
ولم يكن موقفه من الناس في عصره إلا استئنافاً لموقفه من الحياة، بل ربما كان الأساس الذي انطلق منه:
يحسُنُ مرأى لبني آدمٍ
وكلهم –في الذوق- لا يَعذَبُ!
ما فيهمو برٌ ولا ناسكٌ
إلا إلـى نفـع لـه، يجـذبُ
أفضل من أفضلهم، صخرةٌ
لا تظلـمُ الناس، ولا تكـذبُ!
قلتُ: في عصره، لأننا نعرف رأيه في السابقين من داليته المشهورة:
خفف الوطأ، ما أظن
أديم الأرض إلا من هذه الأجساد!
وهو كلام لا يصدر إلا عن نفس شفيفة رفيقة تفيض بالحب.. وهو ما يؤكده لنا سلوك الشيخ العالم الذي لم تدفعه مواقفه للإنطواء السلبي، ولم يعنِ اعتزاله نبذ الناس وبغضهم، وهو ما نعرفه جيداً من حلقات الدروس التي كرسها لطالبي العلم، ومن عديد المؤلفات التي وضعها وصنفها، والتي شكل بعضها فتحاً في مجاله مثل "رسالة الغفران" التي تناقلتها لغات الأمم بحفاوة وتقدير.
وهذه مآتٍ لا يأتيها إنسان لا مبالٍ، بل إنسان وعلامة كبير يشعر بعمق وعظم مسؤوليته تجاه الحقيقة، وتجاه العلم انتاجاً وتبليغاً..
ولم تطفئ عزيمته الماضية، نيران الحقد والدسائس والافتراءات التي أوقدها حاسدوه الصغار..
وظل سراجه مضيئاً حتى آخر خفقة من قلبه، وحينما رقد رقدته الأخيرة، رثاه ثمانون شاعراً.. فيما نقش على شاهدة قبره بيت شعره المبرِّح:
هذا جناه أبي عَلَيَّ
ومـا جنيتُ علـى أحـد!
رحم الله أبا العلاء، ضاقت الأرض على سعتها بجسمه (بل قل: بنفسه الكبيرة) فالتمس العزاء لدى خالقه:
مَحَلُّ الجسم في الغبراء: ضنك
ولكن عفو خالقنا: رَحِيبُ..

B-happy 4 - 12 - 2009 12:08 AM

إطلالة على السخرية عند أبي العلاء المعري

فوزي معروف
السخرية سلاح الروح العظيمة لقهر المتاعب، ولعل المثل المعروف الأقدم هو "سقراط الذي سخر من قاتله وهو يتجرع كأس السمِّ قائلاً يرد على تلاميذه الذين كانوا يرددون: "من المؤسف أيها المعلم أن تموت دون ذنبٍ ارتكبته" "وهل تظنون أن الموت كان يمكن أن يكون أسهل لو كنتُ مذنباً" ضحك تلاميذه بين دموعهم وثار حقد أعدائه أكثر.
أحد رجال الثورة الفرنسية قال قبيل إطلاق الرصاص عليه: "رصاصة واحدة تكفيني دع الباقي لبريء آخر" أضحك قولهُ الحاضرين بينما أثار حنق خصومه. السخرية العميقة قدرُ العظماء من بني البشر من سقراط أول الساخرين المعروفين إلى الجاحظ والمعري إلى برناردشو ومارك توين...
ويتميز الساخر العظيم بأنه يضع يده على القاع الروحي لمن يعيشون حوله وهذا يكاد يكون واحداً عند معظم شعوب الأرض.. ولعل هذا الأمر يكمن وراء تشابه الأدب الساخر عند كثير من الشعوب وبخاصة تلك المتقاربة جغرافياً التي تتقاطع في نصوصها الساخرة هموم مشتركة ومشاكل متشابهة.
والأدب الساخر أدب عالمي لا يخلو منه تراث أمة حيّة.. فالإنسان أينما كان يعالج نواقصه عندما يسخر منها... وكثيرون من الناس يؤمن أن السخرية إحدى الطرق لتغيير الواقع، أو هي أحد أشكال المقاومة، والأدب الساخر لا يقصد الإضحاك فقد بل له أهداف وغايات من أهمها: الحفاظ على قيم المجتمع العليا، تكريس السلوك القويم، تعديل مجرى اتجاه متطرف.. لأن السخرية تهاجم دائماً التصلب في الفكر والطبع والسلوك ساعية لجعل طباع المجتمع أكثر مرونة كما أن السخرية تترجم حالة روحية حين تنحرف القيم ويسود الزيف.
وكثيرون يرون أن السخرية سلاح يحمي الروح من ضعفها كما يرون فيها تعبيراً عن مأساة هي أكبر من أن يتحملها الضمير الإنساني كما يحدث الآن في الأراضي العربية والعراق المحتلة إذ معظم التعبير عن الواقع العربي الآن يميل إلى السخرية.
تتوهج السخرية حين يمر الإنسان بظروف تشعل الروح وتمزق الأعصاب.. وهذا ما كان مع (غوغول) حين وصل الواقع الروسي إلى حدٍ من السوء لا يُطاق إذ ذاك ظهرت سمة بارزة في أدبه هي "الضحك من بين الدموع" كما قال ناقده "بيلنسكي" آمن بالإضحاك الهادف وتولت السخرية عنده نقل الرسالة المرة في نقد الواقع نقداً إيجابياً.
حين تصبح الآلام هائلة يبتسم المبدعون الكبار بدل البكاء لكنها ابتسامة أفظع من الدموع. تنعكس في كلمات ومواقف ساخرة كما عند ابن الرومي والمعري والجاحظ في تراثنا. والمازني ومحمد الماغوط في واقعنا المعاصر.
الأدب الساخر لون صعب الأداء يتطلب موهبة خاصة وذكاءً حاداً وبديهةً حاضرة
[1]
. وهو وليد المرحلة العمرية الأكثر نضجاً التي تتحرر من العواطف العنيفة...
السخرية الحقة لا تكون إلا مع وجود التوازن الشاق الجميل والنظرة المستوعبة للطبيعة والإنسان ومن أجل ذلك لا تقع السخرية الناجحة النافذة في مرحلة مبكرة من العمر الإبداعي.. إذ لا بد كي تنجح السخرية من يقظة في الروح وهذه قلَّما تتوفر مع حماسة الشباب" ولعل هذا هو السبب في خلو آثار شباب المعري من السخرية العميقة ووجودها بكثافة وعمق في نتاج المرحلة المتأخرة من عمره ـ اللزوميات ـ رسالة الغفران.
الكتابة الساخرة الناجحة، فنٌ صعب المراس، يتوفر لقلة قليلة من بداياتهم الكتابية إذ لا بد من النضج الفكري والاجتماعي حتى يصل الكاتب إلى درجة معينة تؤهله لأن يصير كاتباً ساخراً.. ولعل أعمق الكتابات الساخرة وأبقاها على الزمن هي تلك التي توج بها بعضُ المبدعين حياتَهم بحيث يمكن القول: إن السخرية الناجحة فنُّ المرحلة المتأخرة من العمر نذكر أمثلة منها أفلاطون يقول وقد قارب الشيخوخة "علمتني الحياة أن الجد والصراحة لا مكان لهما في العلاقات الإنسانية".
بعد استقراء نماذج الكتابة الساخرة عند بعض أعلامها يلاحظ المرء أنها تتطلب درجة عالية من المهارة والرهافة...
المهارة: التي تبقي على الشعرة الدقيقة الفاصلة بين المسموح به والمنهي عن التصريح به. باللقطة المحايدة في الظاهر، الوصف الذي يُنطق الحال على نحو غير مباشر والتعليق البريء على مستوى السطح بما يضفي حياداً مراوغاً في وصف المشاهد أو صوغ الحوارات جنباً إلى جنب.
الرهافة: التي تنفر من الإعلان المباشر عن المواقف أو الآراء، فتؤثر التلميح الذكي على التصريح الفج متجنبة العبارات النابية والجمل العاطفية رافضة الاستسلام لغواية أي حال من حالات الهشاشة الوجدانية في البوح، لذلك تبدو اللقطات الإنسانية عند هؤلاء وأمثالهم رهيفة تنطق بأكثر مما تؤديه الكلمات.
ويُلاحظ هنا إن كتابة المعري ـ المتأخرة بخاصة ـ لا تخلو من الوجه الآخر للجد المتجهم... وهو السخرية التي تعطي مذاقاً لاذعاً لكتابته. السخرية سلاح ناوش به مفاسد الواقع حيث ـ ما كان يملك ـ وهو على الحال التي نعرف ـ سوى السخرية لمواجهة واقع أفسده القمع والخوف والسرقة.
إذاً واجه المعري الحياة ومحنتها الدائمة بالسخرية مرة والنفاذ بالوعي والحكمة إلى صميمها مرة أخرى واصلاً إلى ما ظنه اليقين عندما يعلن إيمانه بالعقل وثقته المطلقة فيه دليلاً وهادياً وإماماً.
كذب الظن لا إمام سوى العقل
مشيراً في صبحه والمساء

هذا الذي تقدم لا يعني أن المعري يُعلن أنه يقدم أو قدم نصاً في السخرية ولكننا نستخلص أقواله التي تشير إلى روحه الساخرة في ثنايا ما كتب لتكون فقط عيّنة من أدبه الساخر.. المعري يشبه الجاحظ في سخرياته المقنعة بالجد المتعالية عن الكثيرين من عامة الناس.
هذا المبدع الذي حاول أن يفرَّ من سجونه إلى الجحيم والجنة ليتحدث هناك بحرية ويعطي رأيه بكل ما في الحياة حوله وكان بذلك باراً بقسمه الشهير:
إني وإن كنتُ الأخيرَ زمانه
لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل

إن الكثير من لقطات المعري الساخرة تستند إلى آلية المفارقة اللغوية التي تجعل العلاقة بين الدلالة المباشرة والدلالة المنزاحة علاقة قائمة على التقابل الدلالي لأن بنية السخرية تتحقق بوجود دال ومدلولين يكون الأول مباشراً ويكون الثاني ضمنياً... يكون المدلول الأول حرفياً وظاهراً بينما يكون المدلول الثاني قصدياً وضمنياً ولا بد والحال كذلك لكي تحقق السخرية الهدف منها على مستوى الكتابة.. لا بد من تفاعل العنصرين: الكاتب والمتلقي لأن السخرية تحضر في النص من خلال مؤشرات وقرائن فقط يأتي بعد ذلك دور المتلقي في تشييدها لتصبح محققة...
وعند المعري كما عند غيره من كبار الساخرين نجد أن السخرية العميقة هي التي تتحقق بواسطة عدد قليل من المؤشرات إذ تستطيع بهذه المؤشرات القليلة توليد الأثر الساخر الذي يبتعد عن الابتذال.
المقياس الحقيقي للرجل الكبير.. ابتسامته.. روحه المرحة.. قدرته على السخرية من المتاعب.. والمعري واحد من هؤلاء مع أستاذه الجاحظ سيد الأدب الساخر في تراثنا المتوفى عام 255هـ وبخاصة في المرحلة المتأخرة من حياته في كتاب البخلاء، ورسالة التربيع والتدوير..
هكذا كان المعري الذي عاش بين عامي 363 ـ 449 هـ/ 973 ـ 1058م/ الشاعر الفيلسوف المتجهم النظرة إلى الحياة والناس.. كان في آثاره التي كتبها بعد مرحلة الشباب من كبار الساخرين في التراث الإنساني تميز بأسلوبه الساخر ذي الدعابة الدكناء التي لم يخلُ منها حتى اسمه الذي قال فيه:
دُعيت أبا العلاء وذاك مينٌ
ولكن الصحيح أبو النزول

***
وأحمد سماني كبيري وقلما
فعلتُ سوى ما أستحق به الذمّا

السخرية عند المعري موقف من العالم، يهجو نقائصه يركز الضوء على أبرز مفارقاته.. موقف يُدمي الروح في اللحظة ذاتها التي يضحك فيها الكائن البشري على ضعفه وتخاذله وخساسته وابتذاله.. قبل أن يضحك بسببها على الآخرين وفي مأثورنا العربي (شر البلية ما يضحك) البلية في كل زمان ومكان من حولنا التي قد نواجهها بأسلحة متعددة ومنها السخرية التي هي أعرق أسلحة البشر وألطفها.
وحين تأتي السخرية من أمثال المعري يسمو الإعجاب إلى درجة عالية، إذ ليس هنا ما هو أشد من سجون أبي العلاء الثلاثة التي عبر عنها بقوله:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن النبأ الخبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسم الخبيث

لأنه كان من الممكن لهذه السجون أن تؤدي ـ كما كان متوقعاً ـ إلى مزاج سوداوي أو غضب عارم على البشر أو مرارة تفحّ بسمومها في وجه الآخرين.. بالعكس إن هذه السجون طهرته من أوضار الحياة وجعلته أبعد ما يكون عن هوس الدنيا وفتنتها، كما جعلته أبعد عن أشراكها. هذه السجون قادته مع الميل القابع فيه إلى الفلسفة، قادته إلى الحقيقة الإنسانية المتمثلة في التجرد (العزلة) والمشاركة فقد أصبح اتساع عقله الرحب المتفتح ووجدانه الخصب الممتلئ لكل ما يشمل الآخرين صفةً من أبرز صفات المعري وتوجهاً أساسياً يفيض عنه:
فأي الناس أجعله صديقاً
وأي الأرض أسلكه ارتيادا
كأني في لسان الدهر لفظٌ
تضمن منه أغراضاً بعادا
يكررني ليفهمني رجالٌ
كما كررتَ معنىً مستعادا
ولو أني حُبيتُ الخلد فرداً
لما أحببتُ بالخلد انفرادا
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
ولي نفسٌ تحلُّ بي الروابي
وتأبى أن تحل بي الوهادا



السخرية من المتبجحين:
الواسطة التي ترفع غير المستحقين إلى أماكن لا يستحقونها، والتي قضت على أس الأساس لكل تقدم حقيقي وهو "الرجل المناسب في المكان المناسب"... يسخر المعري منها بطريقته في رسالة الغفران حين يقول على لسان "أوس بن حجر".. ولقد دخل الجنة من هو شرٌّ منّي ولكن المغفرة أرزاق، كأنها النشب في الدار العاجلة...".
كما يسخر المعري من الجاهلين الذين يعيشون نعمة الجهل مبتعدين بأنفسهم عن عذاب الفكر واستخدام العقل حين يقول على لسان "طرفة بن العبد" وددتُ أني لم أنطق مصراعاً ودخلتُ الجنة مع الهمج والطغام"
[2]. وسخر كذلك من أدعياء الشعر والضعفة الذين قالوا ما لا قيمة له ومثل لهم بالرجّاز ولعلهم الذين اختاروا بحر الرجز لقصائدهم ـ مُفْرِداً لهم حديثاً خاصاً بل وجنّة خاصة جمع فيها الرجّاز واختار لهم فيها مكاناً متواضعاً ومن هؤلاء ذكر: الأغلب العجلي ـ العجاج ـ رؤبة ـ حميد الأرقط.. ويتصور المعري في رسالته أن أحد هؤلاء يعترض على رأيه فيهم فيكون رده العنيف: "لو سُبك رجزك ورجزُ أبيك لم تخرج منه قصيدة مستحسنة"
ولا ينجو المدّعون المتبجحون الذين يُعطون أنفسهم ما لا يستحقونها ويضعونها في غير أماكنها من سخريته ومثّل لهؤلاء بأبي القاسم الذي ذكره المعري في بيتين من الشعر فجعله نموذجاً لكثيرين من بني البشر في كل العصور يقول:
هذا أبو القاسم أعجوبة
لكل من يدري ولا يدري
لا ينظم الشعر ولا يحفظ الـ
ـقرآن وهو الشاعر المُقري

ومعظم الناس عند المعري غير عادلين أو منصفين لا يعطون صاحب الحق حقه، أو يبالغون في الثناء على من لا يستحق.. لقد ضاق بأمثال هؤلاء واشتاق إلى بشر يُعطون الحق لأصحابه:
من لي أن لا أقيم في بلدٍ
أذكر فيه بغير ما يجب
يُظن بي اليُسر والديانة والعلمُ
وبيني وبينها حجب
أقررت بجهلي وادّعى فهمي
قوم فأمري وأمرهم عجب

ولعل الناس في زمن المعري مثلهم في زمننا هذا تشغلهم المظاهر ودائماً لا يعبّر مظهرهم عن حقيقتهم.. لذلك سخر من ناس زمنه وفضل عليهم الحجر:
يُحسن مرأى لبني آدم
وكلهم في الذوق لا يعذب
ما فيهم بَرُّ ولا ناسكٌ
إلا إلى نفعٍ لـه يجذب
أفضلُ من أفضلهم صخرةٌ
لا تظلم الناس ولا تكذب
[3]

ولا يغيب عن ذاكرة المتلقي الحادثة التي سخر منها المعري من الجنس البشري الذي لا يفارقه الطمع حتى وهو في الجنة، حين يقف ابن القارح أمام سفرجلة فتتحول من فاكهة إلى جارية حوراء ولكنها نحيلة ضاوية فيسجد صاحبها شكراً لله.. ويخطر بباله وهو ساجد أن جاريته ذات جسم ضاوٍ... وما إن رفع رأسه من سجوده حتى صار ردفاها يُضاهي كلٌّ منهما كثبان عالج وأنقاء الدهناء (مكانان ضخمان في الجزيرة العربية).. فيقع ساجداً مرة ثانية تمجيداً لقدرة الله.. وهو يسمع أصداء أصوات تخبره تحويلها على الإرادة.
معرفة المعري بإنسان عصره وصلت به إلى حد فقدان الثقة الذي عبر عنه بقوله:
عصاً في يد الأعمى يروم بها الهُدى
أبرُّ لـه من كلِّ خدنٍ وصاحبِ



السخرية من بعض رواة الشعر:
يعقد أبو العلاء في رسالة الغفران مجلساً طريفاً يسخر فيه من طريقة بعض الرواة في الرواية لنصوص الشعر طارحاً في الوقت ذاته الطريقة التي يراها مناسبة... حين يذكر بطله (ابن القارح) بيتين من الشعر للبكري.. يهتف هاتف قائلاً: "أتشعر أيها العبد المغفور له؟ لمن هذا الشعر؟ فيقول الشيخ: نعم حدثنا أهل ثقتنا عن أهل ثقتهم يتوارثون ذلك كابراً عن كابر حتى يصلوه بأبي عمرو بن العلاء فيرويه لهم عن أشياخ العرب.. عن وعن أنّ هذا الشعر لميمون بن قيس
[4]، ثم يعرض المعري موكباً من الشعراء يسألهم عما نُسب إليهم من شعر، فينكرون ويتهمون رواته.. يلتفت ابن القارح إلى أعشى قيس فيقول له: يا أبا بصير أنشدنا قولك:
أمن قتلة بالأنقا
ء دار غير محلوله

فيقول أعشى قيس ما هذا مما صدر مني وإنك منذ اليوم لمولَعٌ بالمنحولات!!
وجاء بأبينا (آدم) يسأله عما نُسب إليه من شعر قائلاً: يا أبانا قد روى لنا عنك شعرٌ منه قولك:
نحن بنو الأرض وسكانها
منها خلقنا وإليها نعود

فيقول آدم: إن هذا لقول حق، وما نطقه إلا بعض الحكماء؛ ولكني لم أسمع به حتى الساعة. فيقول: فلعلك يا أبانا قلته ثم نسيت، فقد علمتُ أن النسيان متسرع إليك وحسبك شهيداً على ذلك الآية: )ولقد عَهدْنا إلى آدم من قبلُ فَنَسِيَ ولم نجد له عزما
[5] فيقول آدم: أبيتم إلا عقوقاً وأذية إنما كنت أتكلم بالعربية وأنا في الجنة، فلما هبطت إلى الأرض، نُقل لساني إلى السريانية فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت، فلما ردني الله إلى الجنة عادت عليّ العربية فأي حين نظمت هذا الشعر؟ في العاجلة أم الآجلة؟ والذي قال ذلك يجب أن يكون قاله وهو في الدار (الماكرة)... ثم يسأل ابن القارح آدم (عليه السلام) عن شعر نُسب إليه لما قتلَ قابيلُ هابيلاً وهو:
تغيرت البلاد ومن عليها
فوجهُ الأرض مغبرٌ قبيحُ

فيقول آدم: "... إنكم في الضلالة متهوّكون آليت ما نطقتُ بهذا النظيم ولا نُطق في عصري وإنما نظمهُ بعض (الفارغين) فلا حول ولا قوة إلا بالله!! كذبتم على خالقكم ربكم، ثم على آدم أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذب بعضكم على بعض ومآلكم في ذلك إلى الأرض"
[6].

السخرية من الكلام دون فعل:
ما قال المعري شيئاً لم يطبقه في سلوكه فقد كان قدوة نادرة في المطابقة بين القول والعمل إذا ما نهى عن شيء وفعله.. ولعله من هذا الإيمان في المطابقة بين القول والعمل سخر كثيراً من هؤلاء الذين لا يعملون بل يعتمدون على الدعاء، هؤلاء الذين يكثرون القول دون القيام بأي فعل ولعل هذا ما قصد إليه في (الصاهل والشاحج) حين هدد البعيرُ البغلَ بالدعاء عليه فكان ردُّ البغل: "أما تخويفك إياي بدعائك، فإن الوحش الراتعة تبتهل على سيد الغابة مذ كانت الخليقة، وما لقي من دعائها إلا خيراً وكذلك صغار الطير يدعون على الباز والأجدل (الصقر) وما يزدادان بذلك إلا رغبة في صيدهن، والظباء والسُماسم (صغار الثعالب) يرغبن إلى ربهم في هلاك الذئب والكلب الصائد فما سُمع منهن دعاء"
[7].
لو كان المعري بيننا اليوم لما احتاج أن يقول غير هذا الذي قاله أمام العجز العربي الذي يكتفي فقط بالدعاء على الأشرار والسفاحين بالموت.
يسخر المعري من هذا الإجماع على الذل والهزيمة وتلقي الإهانات بصدر رحب فيقول:
على الذم بتنا مجمعين وحالنا
من الرعب حالُ المجمعين على الشكر

ونتساءل هل قرأ المعري المستقبل ـ الذي نحن فيه ـ حيث وصلنا إلى العالم الجديد الذي يتساوى فيه الإرهابي مع المدافع عن حقوقه (المقاوم) يتساوى فيه الشهيد مع المقتول. يتساوى فيه الجلاد والضحية حين ذكر الحادثة التالية:
".. وبعد أن صار ملك الحيوانات من أهل الجنة، يفترس ما شاء الله مما حوله، فلا تتأذى الفريسة التي تجد من اللذة وهي تؤكل كاللذة التي يجدها ملك الحيوان وهو يأكل!!


السخرية من الجهل والتقليد:
لقد ساد الجهل بين الناس لدرجة صاروا معها يقبلون ما ترفضه العقول ويصور ذلك بسخريته:
لقد صدّق الناسُ ما الألبابُ تبطله
حتى لظنوا عجوزاً تحلب القمرا
أناقة هم أم شاة فيمنحها
عساً تغيثُ به الأضياف أو غمرا؟

ساد الجهل حتى تساوى المبصرون مع العميان.. ولعل المعري يثأر لعماه حتى يُكثر من السخرية بالمبصرين الذين لا يريدون الاستفادة من نعمة الإبصار التي وهبها الخالق لهم، يقول:
وبصيرُ الأقوام مثلي أعمى
فهلموا في حندسٍ نتصادم!

وأما المقلد الذي يعتمد النقل دون العقل، والذي لا يعمل فكره في شيء يعرض له يتناوله المعري بقوله:
في كل أمرك تقليدٌ رضيت به
حتى مقالك: ربي واحدٌ أحدُ

يؤمن المعري بقدرة الإنسان ـ العقل ـ على الإبداع المتجدد بتجدد الحياة، ويسخر من أولئك الذين يقولون في كل زمان: ما ترك الأول للآخر شيئاً.. يسخر قائلاً: "ليس أضرَ على العلم من قول القائل ما ترك الأول للآخر شيئاً" وقد عبر عن
إيمانه هذا ببيته الشعري الأشهر:
إني وإن كنت الأخير زمانه
لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل



السخرية من شعراء التكسب:
يسخر شاعرنا من شعراء التكسب فلا يسلم أحد من صورة ساخرة نالته يقول:
تكسب الناس بالأجساد فامتهنوا
أرواحهم بالرزايا في الصناعات
وحاولوا الرزق بالأفواه فاجتهدوا
في جذب نفع بنظمٍ أو سجاعات
[8]

ويعتبر المتكسب بالشعر إهانة أو وصمة عار على جبين الشعر الحقيقي:
ومغرم بالمخازي طالب صلة
مغرى بتنفيق أشعار لـه كسد
[9]

ويقول: إذا سار شعر التكسب وانتشر بين الناس فإن الشعر الحقيقي يُصاب بالكساد:
يحق كساد الشعر في كل موطن
إذا نفقت هذي العروض الكواسد
[10]

في كتابه (الصاهل والشاحج) يتحدث عن شعر التكسب على لسان الشاحج (البغل) فيقول:
"
فإني كرهتُ أن أتصور بصور أهل النظم المكتسبين الذين لم يترك سؤال الناس في وجوههم قطرة من الحياء، ولا طولُ الطمع في نفوسهم أنفة من قبيح الأفعال".
لأن الشعر عند المعري "إذا جُعل مكسباً لم يترك للشاعر حسباً، وإذا كان لغير مكسب حَسُنَ في الصفات والنسب".
ولا يسلم (ابن القارح) بطلُ رسالة الغفران من سخرية أبي العلاء حين حاول أن يتوسل طمعاً بدخول الجنة يقول المعري على لسان بطله: "
... زينتْ لي النفسُ الكاذبة أن أنظم أبياتاً في (رضوان) خازن الجنة عملتها على وزن:
قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان
ورسم عفت آياته منذ أزمان
ووسمتها بـ (رضوان) ثم ضانكت الناس، حتى وقفت منه بحيث يسمع ويرى فما حفل بي ولا أظنه أبهَ لما أقول..
ثم عملتُ أبياتاً على وزن:
بان الخليط ولو طووعتُ ما بانا
وقطعوا من حبال الوصل أقرانا
ووسمتها برضوان ثم دنوت منه ففعلتُ كفعلي الأول.. فلم أزل أتتبع الأوزان التي يمكن أن يوسم بها رضوان حتى أفنيتها وأنا لا أجد عنده مغوثة ولا ظننته فهم ما أقول؟!
لم يستجب (رضوان) فملأ اليأس والحزن روح ابن القارح فصاح بأعلى صوته وقال: "قد مدحتك بأشعار كثيرة ووسمتها باسمك.." فقال: ما الأشعار فإني لم أسمع بهذه الكلمة قط إلا الساعة؟ فقلت الأشعارُ جمعُ شعر والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط...
وكان أهل العاجلة يتقربون به إلى الملوك والسادات..
".
ولكن رضوان طرده فانصرف إلى خازن آخر يتوسل إليه بالشعر ولقي منه ما لقي من الأول... ولعل هذا الموقف صرف ابن القارح عن الاهتمام بآداب الجن معللاً بذلك بقوله: "لقد شقيتُ في الدار العاجلة بجمع الأدب ولم أحظ منه بطائل، وإنما كنتُ أتقرب به إلى الرؤساء فاحتلب منهم درّبكي.."
[11]
.
يتساوى المدح والهجاء عند المعري حين يبالغ المادحون (الشعراء) فيسبغون على الممدوح صفات ليست فيه يقول:
إذا أثنى عليّ المرء يوماً
بخير ليس فيَّ فذاك هاجِ
[12]

***
سيّان عندي مادح متخرص
في قوله وأخو الهجاء إذا ثلب
[13]

أما إذا بالغ المادح في إضفاء صفات ليست لبني البشر على ممدوحه فإن الهجاء في هذه الحالة يكون أفضل:
إذا كان التقارض من محال
فأحسنُ من تمادحنا التهاجي
[14]

يقبل المعري الهجاء من (الحطيئة) لأن الهجاء عند هذا الشاعر يمثل الوجه الحقيقي لنفسه، ولعل هذا الصدق مع النفس والانسجام مع الذات هو الذي جعل مؤلف رسالة الغفران يجمع بطله (ابن القارح) مع الحطيئة ليصفه بالصدق في هجوه لنفسه.. وحين يذكره بممدوحه الزبرقان بن بدر يقول الحطيئة:
"انتفع بهجائي ولم ينتفع غيره بمديحي"
[15]
السخرية من شعر المدح جعلت المعري يتنكر لشعر المدح الذي قال بعضاً منه في ديوان صباه (سقط الزند). قال في مرحلة عزلته ونضجه: "مدحت فيه نفسي فأنا أكره سماعه" ويقول تلميذه التبريزي "رأيته يكره أن يُقْرأ عليه شعر صباه في (سقط الزند) وكان يحثني على الاشتغال بغيره من كتبه مثل "لزوم ما لا يلزم"
[16].


سخريته من الأدباء المتكسبين:
أمام عجز الأدباء والمفكرين العرب عما يجري في الوطن العربي.. وأمام شجاعة بعض أصحاب الضمائر الحية من الأدباء والمفكرين في العالم؛ أمام هذا وذاك تتألق سخرية المعري من أدباء عصره الذين يقودون الناس إلى الكذب والذل:
وما أدب الأقوام في كل بلدةٍ
إلى المين إلا معشر أدباء

بهذا البيت أعاد المعري كلمة أدب إلى معناه الأصلي ـ هو الدعوة إلى الطعام والأدب دائماً دعوة... إلخ... لكنه في بعض العصور صار دعوة إلى الموت لا إلى الطعام
وكل أديب أبي سيدعى إلى الردى
من الأدب لا أن الفتى متأدب
[17]

صناعة الأدب ـ الإبداع ـ يربأ بها المعري أن تنزل إلى السوق فتعرض للبيع للطغاة والأغنياء، وهذا ما سخر منه صاحب (رسالة الغفران) في حوار تخيله بين إبليس وأديب حلبي "يقول إبليس: من الرجل؟ فيقول: أنا فلان بن فلان من أهل حلب، كانت صناعتي الأدب أتقرب به إلى الملوك فيقول إبليس: "بئس الصناعة إنها تهب رغفاً من العيش لا يتسع بها العيال وإنها لمزلة بالقدم"
[18].
ولا نظن أن المعري يقف بسخريته عند أهل الأدب فقط، بل يتعدى ذلك ليسخر من المجتمع ـ بكافة فئاته وجوانبه ـ الذي لا يقدر المبدعين والأدباء حق قدرهم... لأن السائد في عصر المعري كما في عصرنا هذا أن الجاهلين يعيشون بنعمةٍ وغنى يفوق الحد، بينما لا يجد المبدعون ما يسدُّ رمقهم، ونتساءل هل هذا الواقع كان وراء صرخة المعري البائسة في اللزوميات؟‍!
إنا لِمَا نحنُ فيه من عنت
فكلنا في تحيل ودلس


السخرية من بعض النحويين:
سخر المعري من النحاة واللغويين الذين عقدوا مسالك النحو وأحالوه إلى طلاسم وألغاز بعد أن كان مع الأوائل من النحويين حلو المجتنى يلبي حاجات النطق، حيث لم يكن فيه تكلف أو تصنع على يد أبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد، ولكنه صار صعباً مطلوباً لذاته على يد الأخفش والكسائيُ والفراء وأمثالهم الذين عقد لهم في رسالة الغفران مجالس ساخرة وشغلهم بجمهرة من المسائل النحوية والصرفية واللغوية وجعلهم في الفردوس (متحابين) بعد أن كانوا في الدار العاجلة (متباغضين).
فقد غسل صدر أحمد بن يحيى (ثعلب) من الحقد على (محمد بن يزيد (المبرد) فصارا يتصافيان ويتوافيان... وسيبويه قد طهرت سويداء قلبه من الضغن على علي بن حمزة (الكسائي) وأصحابه لما فعلوا به في مجلس البرامكة.
وقد شغل النحاةُ بطلَ رسالة الغفران ابن القارح بكلامهم حتى ضاع منه صك التوبة وجعل يلومهم على هذه الضجة قائلاً: "كنت قد رأيت في المحشر شيخاً لنا كان يدرس النحو في (الدار العاجلة) يعرف بـ (أبي علي الفارسي) وقد امترس به قوم يطالبونه ويقولون: تأولت علينا وظلمتنا فلمّا، رآني أشار إليَّ بيده فجئته فإذا عنده طبقة منهم (يزيد بن الحكم الكلابي) وهو يقول: ويحك أنشدت عني هذا البيت برفع (الماء) يعني قوله:
فليت كفافاً كان شرك كلُّه وخيرك عني ما ارتوى (الماء) مرتوي
ولم أقل إلا (الماء) بالنصب، وإذا جماعة من هذا الجنس كلهم يلومونه على تأويله فقلت: يا قوم: إن هذه أمور هينة فلا تعنتوا الشيخ فإنه يمت بكتابه في (القرآن) المعروف بـ (كتاب الحجة) وأنه ما سفك لكم دماء ولا احتجن عنكم مالاً فتفرقوا عنه
[19].
ويعقد بين اللغويين ـ في جنته ـ حواراً ـ فينصرفون عما هم فيه من نعيم يتجادلون حول اسم (سلال) في الجنة
[20]

ومعظم النحاة عند المعري ـ أهل تزيّد ومبالغة لم يتورعوا من الاستشهاد بكلام طفل أو امرأة ليست بذات بال
[21]…. وبلغت سخريته بالنحاة أن جعلهم مشغولين ببطونهم بعد أن اطمأنوا لمكانهم في الجنة فأبو عبيدة اشتهى طاووساً مشوياً من طواويس الجنة وقد رآه طائراً يروق من رآه حسناً متمنياً أن يشوى بالخل فيكون كذلك في صفحة من ذهب… وحين تمر إوزة من فوقهم تشرئب أعناقهم فيشتهيها بعضهم مشوية أو كَرْدَناجاً أي كباباً بالفارسية، أو معمولة بـ (سماق) أو بـ (لبن وخل). فتكون على ما يتمنون، وحين بلغوا ما تمنوه قال أبو عثمان المازني للأصمعي: "يا أبا سعيد. ما وزن إوزة؟ فيقول الأصمعي: "أإليّ تعرّض بهذا يا فُصْعُل؟"[22] وطالما جئت مجلسي بالبصرة وأنت لا يرفع بكَ رأس[23].
وتجلت سخرية المعري بالنحاة حين صور فرح أهل الجنة بضياع النحو.. فرحوا لأنهم عندئذٍ فقط سوف يتكلمون بلغة الأصول النقية التي لم تصلها يدُ نحوي لأن الناس احتاجوا في الدار الفرارة إلى علم النحو واللغة لأن العربية الأولى أصابها تغيير".
بهذه الإشارات الدالة الساخرة يضع المعري أيدينا على فكره اللغوي القائم على العودة إلى الأصول الصافية… وإذا كان يؤمن بضرورة النحو من أجل سلامة اللغة.. فإنه أعلن في جدّه وسخريته عدم ثقته بالنحو المتخم بالتكلف والاصطناع والتأويل، الأمر الذي دعاه لأن يهتف في كتابه "الأيك والغصون" يا نحو يا نحو حُقَ لما كتب فيك المحو"
[24]
.
سخر المعري من النحاة وتخيل جدلهم ونقاشهم مثل هدير الجمل إذ أضاع المتأخرون النحو التقي الأصيل الذي خلفه الأوائل.. فلو عاش الدؤلي حتى يسمع كلام الفارسي في الحجة ما فهمه ـ فيما أحسب إلا فهم الأمة هدير السنداب
[25]
.
بعضُ الشخصيات.. بعضُ القضايا.. تبقى أهميتها براهنيتها وليس بتاريخيتها.. وحديثنا اليوم عن المعري لراهنيته حيث ابتعد بنفسه عن الانشغال باليومي الزائل بأدب المناسبات. وعانقه شوق الكتابة العقلية المفتوحة الآفاق بحيث تتعدد القراءة معها بتعدد القراء…
فمن قرائه منْ وجد في كتابات المعري سيطرة العقل على الإبداع.. ومنهم منْ وجد مرارة السخرية ومنهم منْ وجد الآثار النفسية للحرمان الذي عاشه سجين المعرة الذي لم يستطع التواصل مع الآخرين إلا من خلال الإبداع الذي حاول من خلاله فتح حوار مع الآخرين كما حاول من خلاله تجاوز الهوة التي تفصله عن الآخرين فبنى مملكته من الكلمات والصور "الخيال" ولعل لذة الإبداع والكتابة كانت البديل عن التواصل مع الآخرين.
السجن المركب الذي عاشه فتح خياله الأدبي وحسَّه الفني فانبرى يبدع… فكانت (رسالة الغفران) إحدى الثمرات تميزت بقضايا هامة منها… تمردها على الأجناس الأدبية المعروفة في النثر العربي حتى أيام المعري.. تعدّى فيها المقامة وتعدّى الرسالة الإخوانية كما تعدّى النثر المسجوع. وأعاد للنثر العربي حريته التي عرفها عند (الجاحظ).
كل ذلك وغيره جعل (رسالة الغفران) مأدبة أدبية متنوعة الأشكال والصنوف والألوان فيها من الترسل طرف ومن الخير الأدبي نصيب ومن الخرافة والأعاجيب ألوان.. فيها المقامة، فيها الشعر بنفحه وإيقاعه. هذا التنوع غذى (رسالة الغفران) بهذه الشعرية الفذة التي لا تنفك تغذي القراءة وتفتح أبواب البحث والدراسة.

هذه إطلالة مفيدة بحدود الوقت على السخرية عند أبي العلاء (المعري) الذي لم تفارقه الابتسامة طوال رحلته في (رسالة الغفران)، والواقع أن المعري هو الذي قام بتلك الرحلة وليس صديقه ابن القارح الذي هو هنا في رسالة الغفران قناع للمعري، اسم مستعار له، دريئة يختفي وراءها رغم حقيقته التاريخية.
في هذه الرسالة يبلغ المعري ذروة السخرية الأمر الذي رفعه إلى مصاف الساخرين الإنسانيين العالميين الكبار.. إذ تميز بهذه الرسالة بروعة الخيال وعبقرية السخرية. ودائماً.. العبقرية المبدعة لا مكانية ولا زمانية كما يقول فيتكور هوغو.

B-happy 4 - 12 - 2009 12:10 AM

المرأة عند أبي العلاء المعري

لبابة أبو صالح


توطئة :
احتلت المرأة من الشعر صدوره وأعجُزَه , تغنى بها الشعراء وتفننوا في وصفها , حتى أخذت من الشعر جزءاً غير يسير.
ورغم أن هذا هو الأصل الذي يكشف عن نظرةٍ محمودةٍ لها, إلا أن غرض الغزل تأرجح بين العذري المقبول, والحسي المبتذل في الشعر. ولعل الريشة الراسمة لهذه الملامح التي شكَّلت وجه القصيدة – في أي عصر من العصور – هي ريشة أوجدها ذلك العصر, فرضتْ على القصيدة الألوان والخطوط لتخرجها مطابِقَةً لحالة المجتمع السائدة. فالمرأة في الشعر الجاهلي ليست المرأة في الشعر الأموي أو العباسي, فلا المكانة التي تتبوؤها هي نفسها , ولا حالتها في مجتمعها هي ذاتها .. وإن كانت تفرض حضورها على الشعر , فإنها تفرضه بالشكل الذي يختاره لها عصرها ويختاره الشاعر نفسه لها. وبالنظر إلى وضع المرأة في عصر بني العباس , وأي أثر كانت تتركه, وأي فساد كانت غارقة في وحله, تتباين آراء الشعراء حولها, فلم تعد المرأة تقتصر على تلك الممدوحة الجميلة والتي تشبه القمر في الضياء والشمس في الإشراق, بل تعدَّته كل التعدي. فلن نعجب كثيرا إن خَلَتْ قصيدة من القصائد من ذكرها الذِّكر الحسن الذي يُجِلُّها ويرفعها مكانة سامية, ولن نعجب أبداً إن صار ذكرها مرافقاً للَّهو والشرب والانحلال الأخلاقي , لتصبح المرأة هي الغواية والفساد متشكِّلة في قينة فاسقةٍ أو جاريةٍ لعوب , أو راهبةٍ من راهبات الأديرة.
عاش المعري في العصر العباسي – القرن الخامس الهجري – ضريراً لا يُبصر الحال ببصَرِهِ , لكنه أبصر الشناعة والبشاعة كلها بعين بصيرته , فآثر أن ينأى بعيداً عن المرأة , وعن الوحل الذي لطَّخت نفسها بطينه. وربما لتفصيلي في قضية المرأة عند المعري أوجه عدة سأتطرق فيها إلى تساؤلات تكون بدايات الخيوط التي سأمسك أطرافها لأصل إلى صورة جليَّة لها للمرأة عنده.
من هي المرأة الأولى في حياة أبي العلاء المعري ؟!
• واقع شعره وما ينطق به في شأن المرأة , هل هو الحاجة إليها , أم الإحجام عنها ؟.!
• موقفه من المرأة عامة ؟!
• هل كانت مظهراً من مظاهر التشاؤم عنده ؟!
• هل لعزوفه عن الزواج علاقة بنظرته القاتمة عن المرأة ؟!



المرأة الأولى في حياة الشاعر المعري :
كانت أم الشاعر صاحبة الأثر الأكبر في حياته , ومن المؤسف حقا أن نجد المؤرخين الذين أرَّخوا لحياة هذا الشاعر قد أهملوا تلك الأم التي كان لها أكبر الأثر في حياة ابنها , فلم يذكروا عنها إلا النزر اليسير , و ربما كان ذلك راجعا إلى أهمية الرجل في المجتمع آنذاك أكثر من المرأة. و حتى شاعرنا نفسه أهمل التحدث عنها في الشطر الأول من حياته , ولكنه عاد وأكثر من ذكرها بعد رحيله إلى بغداد , أي بعد وفاتها , وظلَّ يذكرها حتى قضى نحبه.
والمُطَّلِعُ على شعر المعري يلحظ أنه يكنِّ عاطفة لأمه أقوى بكثير من عاطفته لأبيه , ولا نعلم سبباً لذلك إلا أنه يلوح لنا أن الأم كانت الأقرب إلى الشاعر الضرير الذي يحس بحاجة ماسَّةٍ إلى معين يساعده ويشاركه ويأخذ بيده ويقيله من عثراته ( إذ إنه عندما كان في الرابعة من عمره أصيب بالجدري , ولم يُشف من هذه العلة إلا بعد أن شوهت وجهه بندوب لا شفاء منها , وذهبت ببصره مسدلةً بذلك حجاباً كثيفاً لا سبيل إلى اختراقه بينه وبين دنيا الناس ) وكان ذلك المعين هو تلك الأم التي لم تكن لتبخل على ولدها بكل ما يريد , وقد عبَّر الشاعر عن مشقة الأم وآلامها حينما قال :
العيش ماضٍ فأكرم والديك به
والأم أولى بإكرام وإحسانِ
وحسبها الحمل والإرضاع تدفعه
أمران بالفضل نالا كل إحسانِ




موقفه من المرأة خاصة :
يقول الدكتور عفيف عبد الرحمن : " الواقع الذي ينطق به شعره أنه كان يتحرق شوقاً إلى الجنس الآخر , سواء اعتبرنا أشعاره معاناة حقيقية أم هي من مخزون اللاشعور , وإذا كان هذا هو الواقع فلِمَ أحجم عن الاتصال بالمرأة والاقتران بها مع أن الكثيرين ممن هم في مثل مصابه كبشار بن برد مثلا تزوجوا وتمتعوا رغم فقد بصرهم ؟!
لا بد إذن أن يكون في مزاج الشاعر ونفسيته ما يمنعه من الزواج والاتصال بعالم المرأة ومعاناة التجربة معاناة حقيقية .
إما أن تكون حساسية الشاعر وحياؤه حالا دون أن يفرض نفسه على شريكة حياة له يكون هو عبئا ثقيلاً عليها , وإما أنه أصابه منها أذى فمنعه كبرياؤه من ذكر هذا الأذى , وإما أن يكون قد أدرك أن الحاجة للمرأة هي المعاناة في هذه الحياة وهذا ما حققته له أمه , وعندما ماتت أمه كانت قد تقدمت به السن .
وإما أن يكون قد رأى أن هناك تعارضا بين طموحه وأسفاره وبين الزواج , ولعل سببا بعيداً وهو أن الشاعر قد يكون ذا مذهبٍ فلسفيٍّ يُحرِّم الزواج , واقتنع بعقمه وجعله يصرِّح بعدم رغبته في تكرار المأساة :
هذا جناه أبي عليَّ
وما جنيتُ على أحد

فالمعري كان نتيجة خطأ والده ولن يقع هو في نفس الخطأ . وفي امتناعه عن الزواج ما يجعلنا " نرى جانباً من تشاؤمه الأسود الذي ضرب ظلماته على حياته وجميع أفكاره
(2) وقد هاجم فكرة الزواج والنسل في شعره كثيرا :
فليت حواء عقيما غدت
لا تلد الناس ولا تحبل
(1)


موقفه من المرأة عامة :
ولعلنا نزداد عجباً حين نعرض لموقفين متناقضين للمعري , أولهما موقفه من أمه خاصة , والثاني موقفه من المرأة عامة والذي يتلخص في أن المرأة مصدر كل شر , ولعله كان يُصدر رأيه عن المرأة عامة وبالنظر إلى وضع المرأة في عصره وأثرها وفسادها , وخلاصة رأيه فيها :

أشْدُدْ يدَيْكَ بما أقـو ...... لُ، فقَولُ بعضِ النّاسِ دُرُّ
لا تَدنُوَنّ مِنَ النّسـا ...... ءِ، فإنّ غِبّ الأرْيِ مُرّ
والباءُ مثلُ البَاء، تَخـ ...... ـفِضُ للدّناءَةِ أوْ تَجُرّ
سَلِّ الفؤادَ عن الـحَيا ...... ةِ، فإنّها شَــرٌّ وشُرّ
قدْ نلتَ منها ما كَفا ...... كَ، فما ظفِرْتَ بما يَسُرّ
صَدَفَ الطّبيبُ عن الطّعا ...... مِ، وقال: مأكلُهُ يَضُرّ

وربما كان لما يسمعه عن فساد المرأة نتيجة الاختلاط أثر في إبعاده عن التفكير في أمر الاقتران بها , إذْ كيف يتسنى له ملازمتها ومراقبتها ومجاراتها في المجتمع وهو الشاعر الضرير . ومن يدري فلعلهن كن ينفرن منه :
ولا يدنين من رجل ضريرٍ
يلقنهن آيا محكمات

وهو ينكر عليهن حتى تعبدهن , فتعبدهن للغواية أيضاً :
وليس عكوفهن على المصلَّى ...... أماناً عن غوارٍ مجرمات
و قد بلغ به الأمر حداً جعله ينهى عن تعليمهن :
سهامُ إن عرفن كتاب لسنٍ ...... رجعن بما يسوءُ مسمَّمَاتِ
وقد غالى المعري في وصف فسادهن وسوء الظن بهن :
إذا بلغ الوليد لديك عشراً ...... فلا يدخل على الحرم الوليدُ
ألا إن النساء حبال غيٍّ ...... بهن يُضَيَّعُ الشرف التليدُ


عزوفه عن الزواج :
ونرجح أن آراء المعري في المرأة والزواج والنسل تؤكد وجود عقدة الشك عند المعري في المرأة , وعلى وجه التحديد في امرأة عصره . وإذا كان يشك فيها من جميع الوجوه فكيف يقترن بها !؟ وكيف يُسلم أمره إليها وهو الرجل الضرير ؟!
ولئن حرَّم الشاعر على نفسه الزواج لظروفه الخاصة فإنه لم يحرِّمه على غيره , لكنه اشترط شروطا معينة .
وهو لا يستقرُّ على رأي بالنسبة للزواج , فهو ينصح الفتى بعدم الزواج , وينصح الفتاة بالزواج :
واطلب لبنتك زوجا كي يراعيها .... وخوِّف ابنك من نسلٍ و تزويج
فكيف يتم هذا ؟!
ونراه يتراجع عن رأيه في وجوب عقم المرأة فيرى أنه لا بأس من وجود أولاد شريطة توفر الخير فيهم :
خير النساء اللواتي لا يلدن لكم .... فإن ولدن فخير النسل ما نفعا
وأكثر النسل يشقى الوالدان به .... فليته كان عن آبائه دفعا

و قد اختلط عليه الأمر فأصبحت العفيفة في نظره كالعاهرة :
ولقد تشابه في الظواهر مولد ..... حِلُّ النكاح ومولد بعهار
وأنكر الطهر في هذا العالم وبخاصة بين النساء :
أ يوجد في الورى نفر طهارى ...... أم الأقوام كلهم رجوس
بنات العم تأباها النصارى ...... وبالأخوات أعرست المجوس

وذهب بعضهم
(3) إلى أن المعري رأى الشقاء يأتي من النسل, فلسفياً فيما يتعلق بالمنسول, واجتماعياً فيما يتعلق بالناسل, أما المنسول فإن والده سيأتي به إلى دار شقاء وعذاب. و أما الناسل فيلقى العذاب والشقاء من أولاده أنفسهم ويسبب أولاده أذى في جسمه وفي ماله وفي جاهه.
والآن وبعد كل الذي عرضت أستطيع أن أرد سبب عزوفه عن الزواج إلى عوامل ثلاثة : أولها, ظرفه الخاص وفقد بصره. وثانيها, وضع المرأة في ذلك العصر و اتضاح تلك الصور عنده مما جعله ينفر منها. و ثالثها, فلسفته العامة عن الحياة والموت والكون وتأصل طبيعة الشر ورغبته في وضع حد لتلك الحياة الفاسدة بمنع النسل, والمرأة مكون أساسي للمجتمع.
ومع ذلك يبقى العامل الأول أهم العوامل الثلاثة وأكثرها فعالية في منع الشاعر من الإقدام على الزواج إذا كسبب حسي. ولكن إن نظرنا إلى طريقة تفكير و نظرية متبنَّاة كانت تملأ رأسه فإن السبب الفعال هو الثالث ( فلسفته العامة ) والتي اتضحت و بشدة في ديوانه " اللزوميات " والذي نظمه في المرحلة الثانية من حياته ( مرحلة العزلة ).


هل هو عدو للمرأة ؟!

يوقعنا تناقض المعري ما بين حبه لأمه واحترامه الشديد لها وامتنانه لرعايتها له , وبين كرهه الشديد للمرأة و نفوره منها والتحذير منها , في حيرة تجعلنا نتساءل عن هذا التناقض والتضاد في التفكير .. هل هذه طبيعة الفلاسفة أن يخرجوا بنظرية ما ليناقضوها بعد ذلك بأخرى ؟! أم أن المعري كان دقيقا في فلسفته إلى حد يورثنا العجب و الغرابة ؟!
لعلي أجد أن المعري لم يَكُنْ يُكِنُّ للمرأة مشاعر خالصة من كره أو عداوة .. بل إن هجمته العنيفة لم تكن على شخصها هي لمجرد كونها امرأة .. وإنما هي الهجمة الغيورة على حالتها التي سادت في الزمن الذي كان هو فيه معها.. ولا أجدني مبالِغة إن قلت إنه كان يحب المرأة لدرجة أنه ضاق لحالها .. وطفق يكتب عنها عله يضع أمامها المرآة لترى نفسها فتغير من وضعها.. أما مكانة أمه فكانت محفوظة عنده .. ولا أظنه كان يقذف أمه بما كان يقذف به غيرها .. إلا أنه كان معمماً حالة الفساد متناسيا صلاحا لا بد موجود .. كما أن أمه ليست من ذلك العصر الذي كان يصور المرأة فيه .. وربما هذا التعميم الذي وقع فيه المعري كان لازمة من لوازم هذا الشاعر .. إذ كان يرى الأمور في كل أحوالها أعظم مما هي فيه في الحقيقة .. ربما لأن الفلسفة ريشته التي يمسكها .. أو لأنه كان متشائما حقا حد أنه نسي أن يرصد الخير والصلاح .. ولم يعد يرى فيما حوله إلا السواد والظلمة .. مدَّعيا أنه بعزلته وشعره وفلسفته يكتب ما يعين البشر على الخروج من مدارات العمي والضلال ..



المُنـى 3 - 2 - 2010 12:45 AM

http://reemah999.jeeran.com/%D9%8A%D...9%85%D9%88.gif

http://www.bahrainevents.com/forum/i...1133970155.gif

B-happy 3 - 2 - 2010 04:44 PM

http://photos.azyya.com/store/up2/081118024240Kc33.gif


الساعة الآن 01:30 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى