منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   واحة الأدب والشعر العربي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=199)
-   -   شعر الشّبابْ ـــ أيمن أبو شعر (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=24529)

hakimnexen 13 - 5 - 2012 10:35 PM

شعر الشّبابْ ـــ أيمن أبو شعر
 



شعر الشّبابْ ـــ أيمن أبو شعر
نشط الحديث عن الحركة الشعرية الشابة في الآونة الأخيرة، وفتحت حوارات كثيرة، تحولت أحياناً إلى إطلاق النار على مجمل الحركة الشعرية الشابة، غير أن الدراسة المنهجية لشعر الشباب ما زالت مفقودة، وما نشر حولها كان مجرد وجهات نظر تحمل طابع التخصيص حيناً والتعميم حيناً آخر. كما اتجه بعض الزملاء المتحمسين ـ بطيبة ـ إلى إطلاق أحكام مبرمة لنسف جذور هذه الحركة، ونفي صفة الشاعرية عنها. ولكن الدارس للعديد من قصائد الشباب سيجد ما يساعد على دراسة تحليلية منهجية.. وربما تناولت قصائد شبان لم يتجاوزوا سن المراهقة كثيراً، وأخرى لمن تجاوزوا مرحلة الشباب قليلاً، معتمداً على صفات مشتركة تشكل إلى حد كبير سمات هذه الحركة الشعرية.‏
بين الرؤية الشعرية المعاصرة، وضباب التصوير الأجوف‏
عملية الرؤية الشعرية المتفردة، هي الملاحظة الأولى التي تبرز لدارس أدب الشباب، إذ فيها من الجدة بقدر ما فيها من الافتعال. ويبدو أن لفظتي المعاصرة والشمولية العالمية قد فتكتا بخيال الشعراء الشباب أو كادت، فسقطت بذلك قيم فنية كثيرة من خلال محاولاتهم للحصول على أحدث فنية للصورة، فالرؤية ليست وقفاً على الشعراء، إذ قد تمر في مخيلة الطفل صور قد لا يحلم بها أكبر شاعر، إلا أن الطفل أو الإنسان العادي، يعجز عن نقل هذه الصور ـ التي تحدث مثلاً في حالة خوف ـ وعكس ذلك ما يحدث لدى معظم الشعراء الشباب، عندما يستجلبون الصورة قسراً لتعبر عن حالة، ولا يحاولون إلا نادراً رصد رؤية حقيقية وتصويرها... وبافتعال الرؤية تتكشف ضحالة الممارسة، ويتبعثر المدلول ولا يبقى من الشاعرية سوى ملامح منهوكة، متناثرة، في مدلول الألفاظ ـ لا الصور..‏
... ترسم الريح عبر الفضاء الفسيح‏
لعبة الضوء والمسافة‏
بين رمل الشواطئ والجزر المغربة‏
لحظة يستريح المسافر‏
ومض من البرق يعيا... يطوح...‏
هذا المطلع الذي بدأ به عماد جنيدي قصيدته "أنا خبير ببلادي" ـ(1) ـ يؤكد تحليله افتعال الرؤية من خلال انعدام المدلول، وليس عماد جنيدي (الشاب الذي يحاول بطموح تثبيت اسمه بين فرسان الكلمة) مسؤولاً كل المسؤولية عن ذلك، إنها النتيجة المتوقعة لمركزية الأدب والسيطرة على النشر.. وحصره، خلال أزمنة مضت، في فئات محددة ساهمت ـ غير قاصدة ـ في تضليل هذا الجيل إذ اختارت بديلاً عن القديم.. المبهم والشاذ، ونشرت للشباب قصائد الغموض والتهويم حتى خيل إلى الكثرة أنها الوسيلة الأولى للنشر... فنحن في هذا المقطع أمام فقه اللغة إذ الحروف وحدها، مجردة من المعنى، وكذلك الألفاظ في الشعر... قد تحمل معانيها كمفردات ثم تتنافر وتسقط كتصوير إن لم تكن الرؤية الحقيقية ناظماً لها.. وإلا فما معنى سوق كل هذه الألفاظ (الريح، الفضاء، الضوء، المسافة، الرمل، الشواطئ، البرق).. ما يؤكد ذلك تصويره الإطاحة بالبرق بعد إعيائه، وإسناده الفعل إلى البرق ذاته مما أفقد هذه الاستعارة القدرة على التوصيل والتعبير... ولا بد قبل الانتقال إلى شاعر آخر من الإشارة إلى أنني لا أقيم الشعراء أنفسهم، وإنما أحاول التدليل على محاور سلبية مشتركة لديهم.. أو إعطاء الرأي حولها دون تناول للإيجابيات إلا من مقام المقارنة.. ودون إسهاب.‏
وإذا انتقلنا إلى الشاعر ممدوح سكاف الذي مضى عليه ردح من الزمن في صناعة الشعر، لوجدنا ملامح هذه الظاهرة ذاتها بعض الأحايين رغم وضوح القدرة الفنية، وتبلورها لديه، فهو في معظم قصائده يعرف ما يقول، وينقل قيمة جمالية جيدة في أطر مظللة واعية، غير أنه يسقط أحياناً في حبائل المعاصرة، مستخدماً استعارات توغل في الضبابية من حين لآخر..‏
"الحزن الصديدي المصفى، الطيف السديم، الضياء المعصفر، الطقس المجوسي"(2) ـ فالقصيدة من حيث بنائها العام تحمل قدرة فنية واضحة، إلا أن افتعال الصور في هذه المقاطع قتل حالة الإيحاء الشعري، فسقطت الرؤية في حومة الصنعة.‏
إن عملية افتعال الرؤية وإلصاق الصور بعالم الوحي المعاصر أخذ بالامتداد ليشكلا شبه ظاهرة لا تخلو من خطورة على المواهب التي تحاول تلمس الطريق نحو أدب معاصر، ففي قصيدة "مقاطع تحلم بالضوء" لمروان صقر (3) ـ يطالعنا هذا المقطع:‏
الليل يعرش في الشطآن وحوشاً ضارية‏
...... والرمل عجوز‏
تقرأ في كف الموج المتخاذل أشعاراً مبهمة‏
تستسلم للنفي الكلمات اللهفه‏
نغمض أعيننا الغجرية خوف دخول الصحراء..‏
المحروقة فيها‏
فاجأنا العشق البحري تلوناً عند أفول الشمس...... الخ...‏
ويبدو أن مروان كان مستسلماً لرؤياه حين رسم البحر معرشاً على الشطآن كالوحوش الضارية، ثم ظللها بتصويره للرمل، قد بدت تعرجاته كأخاديد في وجه عجوز.. مطلع شعري متماسك أما الذي حدث بعد ذلك، فقفزة غير متوقعة "ودون أي رابط" ـ سوى اللون ـ "البحر ـ الموج ـ" لقراءة الأشعار المهملة في كف الموج، ثم حشر للفظات الإيقاعية، النفي الكلمات، اللهفة، من هنا دخل في باب الافتعال ثم قفز مرة أخرى ليستريح في بهوه.. داخل الصحراء، وضاع مرة أخرى في استخدامه "للعشق البحري". إن الرؤية المعاصرة هي رؤية قبل كل شيء، والذي يمكن أن يتغير هو عالم الرؤية لا الإحساس بها وقد يختلط المقياس، لكن المردود الخاطئ واحد، أو متقارب على الأقل، في أن يفتعل الشاعر الرؤية، ويحاول تصويرها بكثير من الحذق والفنية، أو أن يعيش حالة شاعرية حقيقية، ثم يفسدها في أسلوب نقلها عبر استعارات دخيلة، يحشوها ما استطاع من الإبهام والتعميم، فتضيع بذلك ملامح الرؤية الحقيقية التي مر بها... وقد يخفف الإيقاع الموسيقى من هذا المثلب بشكل أو بآخر، إلا أنه يبدو واضحاً أكثر من القصائد التي تتلعثم فيها العبارات النثرية، ففي قصيدة لا يأتي إلا في الربيع(4) ـ لجلال خير بك، نرى الظاهرة نفسها.. إذ ليس كل ما خالف القديم معاصراً، يقول جلال خير بك:‏
الشمس في ثلاجة‏
الأعصاب سلك لتمرير الهوى‏

hakimnexen 13 - 5 - 2012 10:38 PM

الصورة الأولى وإن كانت واضحة الدلالة، فإنها قد استهلكت في المقالات الصحفية كتعبير عن اللامبالاة حيناً، وعن فقدان الأمل حيناً آخر... لكن الذي يستوقف هو الصورة الثانية. إن الشاعر حين يرسم أي صورة مهما تكن غريبة لا بد أن تحاسب وفق مستواها الفني. صحيح أن الفن هو التفكير بصور(5) ولكن ذلك لا يعني أن أية فكرة أو صورة هما فن حقيقي، ومن الخطأ التصور أن استخدام المفردات والتسميات المعاصرة كفيل بخلق القصيدة المعاصرة. وهذه الظاهرة ليست وليدة المصادفة. إنها نتيجة طبيعية لجو أدبي عاشه الشعراء الشباب في سن التلقي بعيداً عن استقاء ثقافة شعرية عربية قديمة.. فخرجوا بمنظور أن كل قديم رديء، واقتصروا على الإقبال على الثقافات المعاصرة ناسين أن ما من جذع دون تربة، فسقطوا في عدم التوازن بين استحضار الصورة، والتعبير عنها، ذاك أنه من الضروري جداً الانفتاح على الأدب المعاصر والعالمي، ولكن من الضروري أيضاً امتلاك الأسلوب المعبر.. لتتم عملية الإيصال بين الأدب والقارئ.. وإن كانت هذه الظاهرة لم تتبلور بعد كتيار شامل في أدب الشباب، إلا أنها آخذة بالانتشار، مهددة بتمييع حركة أدبية لها وجودها الحقيقي الذي يحتاج إلى رعاية إيجابية، وفهم عميق للدور الملقى على هؤلاء الشباب، باعتبارهم كوادر الطليعة الأدبية المقبلة. وإن كانت التجربة لم تمنح النضج أبعاده بعد... فهي في برزخ بين الانحدار والصعود في ملكة التعبير عن الرؤية الشاعرية، أو الانغماس في الصنعة للإيهام بالإشراق والوحي...‏
فقدان الاتساق المعنوي والوحدة اللونية‏
الملاحظة الثانية الملفتة للنظر، هي فقدان التجانس في عالم الصورة، في العديد من القصائد وبالتالي فقدان التسلسل في البناء التشكيلي للقصيدة "أعني البناء الهرموني ـ وليس على الإطلاق التسلسل الكلاسيكي" ـ وانعدام الروح اللونية الواحدة، وهذه الملاحظة متعلقة إلى حد كبير بالملاحظة الأولى، فمن الطبيعي أن يتشتت الشاعر حين يفتعل رؤياه، لأنه يحاول إيهام القارئ بالحالة، أو أنه أفسد الحالة التي يعيشها فعلاً في بحثه عن الاستعارات والأغراب، وكما ذكرت فإن هذه الملاحظة عامة متفشية ولكنها ليست مطلقة.. إلا أن كثرتها تتزايد لتشكل ما يشبه الظاهرة..‏
.. فقد يبتدئ الشاعر بتصوير البحر كتعبير عن الثورة مثلاً، لكنه يمزج هذا التصوير بما يساعد على الأغراب في التعبير، كالقوافل والديدان، والعفاريت، فيختلط الأمر على القارئ، ويتساءل من جديد أي معنى إذن رمى إليه الشاعر بصورة البحر، وما الذي يقصد، من استحضار صورة الديدان، أو القوافل...... الخ... ولا يقف الأمر عند هذا الحد ففي انتقاله من صورة إلى أخرى يسقط من حسابه أهمية الترابط اللوني في التعبير، ويقفز كالبهلوان المبتدئ الذي يود التدرب في منتصف الحبل فوراً فلا هو يجيد السير عليه.. ولا هو يجيد التدرب.. فيتساءل الجمهور أهو بهلوان فنان يمثل هذا الدور في اختلال التوازن أم هو ضحية.. إن الانتقال من صورة إلى أخرى، لا يعني الانتقال من عالم الصورة إلى عالم آخر، إلا إذا كانت القصيدة ذاتها تتطلب هذا التكنيك، فالشاعر حين يدخلنا في البحر، ثم يستخدم مفردات، الصحراء، والأثير والسلالم.. وأمير المؤمنين، والصفات الجسدية، يدفع القارئ خطوة نحو الضياع، ولا يلبث أن يشتته تماماً حين ينتقل فجأة إلى كوكب الزهرة، ثم إلى أحداق العنكبوت، ومنها إلى أبي ذر الغفاري، أو مدينة طيبة، لقد استطاعت الفوضى، أن تصبح ملكة بعد تغلبها على زيوس ـ (6) وما كنا ننتظر تحطيم صنم العبادة ـ فقد إذ أن التحطيم وحده غير كاف، وغير مجد، إذا لم يكن البديل مقنعاً... ومن المؤسف أن يكون أحد الأسباب، الاستسلام لرغبة النشر الجامحة، كالجائع الذي يلتهم الطعام قبل نضجه، ففي قصيدة "وجه العالم منديل حداد"(7) لخضر عكاري نرى هذا التخبط في بعض المقاطع، مما ينسف الرابط المعنوي والانتقال غير الواعي الذي يمزق الوحدة اللونية رغم نضج الإيقاع الشعري لديه في هذه القصيدة:‏
أتوهم فيك عيوناً‏
تعرف لون الحزن‏
وصوتك يعرفني شيئاً آخر‏
في أرصفة الوله... الجوع... الموت..‏
فأعيل لعينيك شفاهاً... هجرتها القُبل الهمجية‏
أبحر فيك غريقاً يبحث عن نهد يؤكل بالناب‏
وبالخنجر أرسم خارطة الشرف‏
اختطف العار حواراً في مزرعة اللهفة..‏
ويستمر هذا المقطع في التنقل، مُدخِلاً الشاعر في الجسد النائم، في التابوت، ثم نلمح النبض وقد أزهر وحصد غيره، ثم نكشف أن غيره هو ذاته الأخرى، ثم يتحول ثعباناً، ثم طفلاً يفطم وتصير المحبوبة بعد ذلك مطراً ثم نزيفاً وأغنية.... الخ...‏
إن فقدان الاتساق المعنوي واضح في تلك القصيدة، فالشاعر حر في طريقة تقديمه المعنى المنشود بالصور التي يريدها.. ولكن تحميل الصور معان لا تمت إليها بصلة، لا يبرر للشاعر ما اختار على افتراض أن القارئ سيدرك ما يدور بخلده... إذ لا بد من قاسم مشترك أعظم بين المدلول الذي رمى إليه، والمدلول العام المتداول، فحين يستحضر صورة الذئب ـ مثلاً ـ لا يمكن للقارئ إلا أن يتخيل الخبث، والمكر، وصورة الطفل لا يمكن أن تعطي إلا تخيل البراءة والطهارة، إلا إذا سخر الشاعر السياق لقلب المفهوم، وهذا الأسلوب شائع معروف في رسم المفارقات..‏
... بدأ خضر عكاري في المقطع السابق بتوهم العيون التي تحس عمق المشاعر الإنسانية إلا أنه انتقل لطرح سبب باهت، ألحقه بنتيجة غير متجانسة، فما علة أن يعيل "أو أن يعير. إذا كان خطأ مطبعياً" شفاها لعينيها، هجرتها القبل الهمجية، ثم إبحاره غريقاً. فعلى الرغم من تناقض هذه الصور فهي بعيدة عن اللوحة اللونية، فقد حاول وضع خطوط الصورة، في الأرصفة التي تمارس الوله، والجوع، والموت، دون استكمال هذا اللون ليحدد المعنى على الأقل، قبل الانتقال للإيجاز بحثاً عن نهد يؤكل بالناب، وبالتالي الانتقال الثالث للاستعارة التي يصور فيها اللهفة وقد غدت مزرعة، ففي هذا المقطع يتضح فقدان الاتساق المعنوي، حيث يطرح الشاعر تعميمات حسية، ومعنوية متنافرة، ويتضح أيضاً تبعثر الوحدة اللونية في ربط الصور بعضها ببعض...‏
ويتفاوت ظهور هذه الملاحظة في قصائد مجموعة كبيرة من الشعراء الشباب. وإن تخلص بعضهم منها فذلك غير قياسي كما هو الحال عند عادل أديب آغا... الذي غرقت قصائد كثيرة له في هذه الظاهرة، بينما نجت قصيدته "أيها الغريب"(8) بأسلوب يدل على فهم للصورة الشعرية، وعلى فنية في الاتساق المعنوي والوحدة اللونية.‏
يكبر الدمع.. يصبح مهراً يخب‏
بصحراء قلب حزين‏
يكبر الدمع.. يغرق كل العيون‏
هكذا قال جرح الحبيبة في الصدر‏
حين انحنيت على النهد‏
أغمضت عيني‏
أحلم بالدفء‏
أزرع وجهي... وأغمره بالسنين‏

hakimnexen 13 - 5 - 2012 10:40 PM

فهو حين يحول الدمع مهراً، يجانس بين خلفيتين لهاتين اللفظتين، "الدمع" الذي يرمز للأسى والهوان وقسوة الاضطهاد، وبين المهر رمز الرفض والانطلاق. فالدمع حين يكبر في هذه الصورة لا يصبح نهراً ـ مثلاً ـ ولكنه مهر. إذن فهو مستوعب للعلاقة المعنوية، لا الحسية وهو بالتالي واع لخلفية العملية الفنية، الاضطهاد، لا بد أن يفجر الثورة، أما الوحدة اللونية في الصورة فقد بدت من خلال التدرج في ذات اللون، المهر الذي رفض، يخبُّ في الصحراء التي عشش فيها الحزن، إنها عملية التخلق من خلال الواقع.. وإذا حاولنا تلمس الظلال اللونية للمعاني لوجدناها في البناء الهرموني للقصيدة، "الدمع ـ الحزن.." ـ "المهر ـ الصحراء" ـ "الدمع.. الجرح".. "الصدر، الانحناء على النهد..". "إغماض العين ـ الحلم"..‏ أما الشاعر الشاب نزار عدرا فقد تقدم خطوات ملحوظة في طريق التخلص من عقم هاتين الظاهرتين بعد أن تخبط فترة من الزمن بين الاتجاه نحو تعميق الوحدة اللونية وصلابة العمود الفقري للمعنى في رصد الرؤية الشعرية وبين الأغراب والتشتت في البحث عن الاستعارات والصور القسرية، ففي قصيدته "الصرخة العاشرة"(9) يعزف بهمس شاعري، على أوتار الألم الإنساني من خلال تعبير وجداني وحس موسيقي داخلي..‏ أيوصد بابك والحزن فيه وشاح‏ أتيتك أقرع بابك.. لا توصديه..‏ فصوتي رياح‏ الشاعر في هذا المطلع تخلص من التشتت المعنوي رغم عزفه على صوت خاص متفرد، فهناك رابط خفي بين تساؤله الذي يحمل معنى الاستنكار من إيصاد الباب وبين مقدمة لم يذكرها، ولكنه يجعلنا نسلم بها، وهي تعايشه مع الحزن، لذا استهجن أن توصد الباب بوجهه، طالما أن الرابط الأساسي بينهما وشاح الحزن الذي يلفهما معاً.. وهو مغرم بتصوير الريح في معظم قصائده، على أنه استطاع أن يلبس الريح في هذا المقطع ثوب العويل. من خلال السياق. والمقام حزن، حزين يطرق باب حزينة، للهجرة مع صوته.. الذي يحمل الريح المهاجرة..‏ ويبدو أن القصيدة بمجملها قد جاءت إثر معاناة صادقة، مما جعلها تحافظ على وحدتها اللونية فالعري في القصيدة يصور توق الحبيبة للانطلاق. والحرية. والسيوف والرماح أبواب جارحة، لا بد أن يمر منها التواقون للانعتاق والحرية. وحين يحول الشاعر الريح مرة أخرى إلى الموت، يهتز الاتساق المعنوي، وإن حافظ على الوحدة اللونية، حيث يظلل الريح بالغبار.‏ أيوصد بابك.. والموت حولك ريح‏ وفيك تلوى الغبار‏ إنها بداية تلون الحبيبة من خلال فقدان الثقة إذ لا يلبث أن ينهي الشك بمضمون الحبيبة إلى أن يعلنه صراحة:‏ ترومين درب التوجع‏ عند التوجع يسكن دربي‏ ودربك فيه اشتهار‏ إن مزجه لحالة الحبيبة النفسية مع مشاعره الوجدانية، قلل من قوة النداء الروحي الذي تضج به القصيدة، وأفقدها شيئاً من روعتها إلا أن استمرار الوحدة اللونية أنقذها من الانحدار وأوصل إيحاء المعاني، فعالم القصيدة اللوني ظل متجانساً.. "الحزن ـ الباب الموصود.." "الريح ـ الغبار" "السيوف ـ الرماح ـ الفرسان" "الاشتهار ـ التهيج" "الموت ـ التوابيت ـ الجثث الراقدة".‏ إن محاولة التفرد التي يسعى إليها الشعراء الشباب. هي ذاتها التي تدفعهم إلى التقليد اللا واعي، فحين انفجرت الحركة الابتداعية الرومانتية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، اتخذت شعاراً لها قول أحد الشعراء: "لم أخلق على شاكلة أي امرئ في الوجود، وإذا لم أكن أفضل فأنا على الأقل مختلف"(10) إلا أنها بالنتيجة، ساهمت في خلق نتاج متشابه، والحال عند الشعراء، لا يبتعد كثيراً عن ذلك، فهم في محاولاتهم للتفرد، إنما يصدرون عن بيئة واحدة، وثقافات متشابهة،

hakimnexen 13 - 5 - 2012 10:41 PM

إن الشعر ذات كاملة، وكائن خلاق.. ليس له زمان، ولا مكان، ولكنه ابن الزمان والمكان، وإن لم يكن الشعر إنساناً فهو إنسان الإنسان للرصد والإحساس والنقل، إنه انعكاس عن واقع محدد لرؤية مطلقة.. "فالشاعر ليس نوم ليل، وقيام نهار وسيراً على قائمتين. إنه مدينة حقيقية لها وجود واقعي"(11) ـ ولكن الشعر أيضاً وقبل كل شيء عملية فنية لها حيز إبداعي، ثم إنه يعبر عن تراث حقيقي ومقياس حضاري لا يستهان بهما، وإن كنا لن نتقوقع في علوم البلاغة العربية القديمة، فنحن على الأقل مطالبون بتطوير المعايير الذوقية لا بترسيخ بديل لا يمت للذوق العام القديم ولا المعاصر بأية صلة... ولو أننا حاولنا استقراء الأذواق العامة، لوجدناها أنى كانت، انعكاساً للبيئة، ثقافياً واقتصادياً، وعلى هذا الأساس يجب أن يتطور المقياس الذوقي نحو الأفضل، ويتشذب الطرح ا لشعري.. بغض النظر عن المضمون المطروح فيه... ولكن ما الذي حدث... لقد تبنى العديد من الشعراء الشباب باسم التجديد، وباسم الثورة على الشكل والمضمون، أشكالاً شعرية، فيها الجدة والابتكار أحياناً وفيها الابتذال والإسفاف وحتى السوقية، أيضاً.. ويبدو أن المدرسة الدادائية، التي ماتت وارعوت بظهور المدرسة السريالية، وجدت لها محبذين ناشطين، في عدد من الشعراء الشباب، والحالة العامة متقاربة، فالدادائية كانت رفضاً سلبياً لواقع الحرب واضطهاد الإنسان. وكان في باريس شعلة خالدة ترمز لضحايا الحرب، ممجدة بطولاتهم، فكان موقف الدادائيين منها، أن بال "جان بيير دوبريه" على هذه الشعلة وأطفأها... بينما كان لينين ورفاقه في زوريخ، في نفس الوقت يخططون للثورة(12) والحالة العامة في المنطقة تعاني إلى حد كبير، الإحساس ذاته بالاضطهاد والقهر. وفقدان القيم البشرية.. لكن الحل في الموقف الذي اتخذه لينين ورفاقه.. وليس في موقف دوبريه... وإن كان الابتذال، والإسفاف، والسوقية لدى شعرائنا الشباب، لم تصل إلى هذا الحد، إلا أنها ظاهرة مستنكرة لا تبررها دعوى المعاصرة... فنحن نلمح في كثير من القصائد تبني ألفاظ بذيئة وسوقية، ومعان شاذة، وتركيب متنافر، ورسم للصور المقززة.. فأحد الدواوين الذي صدر منذ سنوات كان مليئاً بروث البقرة، والأحذية، والبصاق، والتبول، وكانت صوره مبعثرة بين التقيؤ والتعري بمعناه الحرفي، وديوان آخر لشاب حاول الاعتماد على اللمحة الخاطفة والإيجاز المكثف الموحي إلا أنه سقط في السوقية باسم المعاصرة وتناثرت مناديل "الكلينكس" بين أوراق ديوانه. ولم يتورع بعض الشعراء غير الشباب عن دس بعض الألفاظ السوقية في قصائدهم حتى أن أحدهم يتباهى بإظهار الشتائم البذيئة الصريحة تماماً مخدوعاً بتصفيق الجمهور الذي يرى في الشتائم أحياناً ما ينفس عنه أن ذلك كله ساعد الشباب في الانسياق نحو حشو قصائدهم إما بالشتائم الرخيصة.. أو بالصور الشاذة المتنافرة والمقززة أحياناً.. ففي قصيدة الصباح على شاطئ المدينة(13) لعماد جنيدي.. يفاجئنا هذا المقطع.‏
آه للمدينة‏ آه للقرى الضائعة‏ فوق تلك السفوح البعيدة‏ آه للرفاق الحيارى الذين لم يجرحوا‏ دمل المدينة‏ ليتهم أمسكوا بذيول النهار...‏

hakimnexen 13 - 5 - 2012 10:43 PM

رنين حلو في انسياب التوجع المتأمل الوثوب.. مع مشاركة الأحزان، والتأسف على واقع أليم، مما يشكل بعض الظلال للوحة شعرية رومانسية.. إلا أننا لا نملك إلا أن نحتار حين يفسد هذا المقطع الجميل بعبارته "دمل المدينة".. إن مدلول اللفظة في الرمز، لا ينفي مدلوله الأول وإن عمق الآخر.. ومحاولة رسم المفاسد والعفن الأخلاقي لا يبرر حشر هذه الصورة المقززة، فعملية التقبل عند القارئ مزدوجة بالنسبة للمعنى، والشكل الذي يؤدي المعنى، فعبد الوهاب البياتي يستحضر صورة قد تدل على ما هو أكثر عفناً في الحياة المدنية.. إلا أنه لا يقزز القارئ.. بل يشعره بمرارة التجربة وعمقها:‏
أيها النهر الخرافي الذي يرضع أثداء المدينة‏ حاملاً أوساخها نحو البحار‏ والخيول الميتة‏ وحطام العربات(14)‏ إن رغبة الشباب في السير نحو شكل معاصر للشعر، رغبة إيجابية ضرورية، ولكن كثيراً ما تسقط إمكانية الحصول على الشكل المعاصر بسقوط الإمكانية الثقافية الضحلة أو بفقدان المعايير الذوقية وقد تبرز محاولات ما.. ذات طابع تجريبي.. لا يمكن تقييم مداها الآن..(15) من حيث القيمة الفنية سلباً أو إيجاباً.. كما جرت بعض المحاولات التجديدية في الشكل العروضي، إذ حاول الشاعر الشاب نزيه أبو عفش استخلاص أسلوب عروضي، يوسع مدى التفعيلة خلال إمكانية الانتقال من تفعيلة إلى أخرى، في تجزيء التفعيلة الواحدة، "مستفعلن = فافاعلن، فإذا توقفنا عند (فا) وهذا ممكن أساساً صار لدينا الشكل التالي. فاعلن فا أي ـ فاعلاتن.."(16)...‏ ... وإذا عدنا لتركيب الصورة الشعرية المعاصرة لدى الشعراء الشباب، لوجدنا خط انحدار واضح للمعايير الذوقية، ذلك أن فنية المضمون من حيث تخلق الصورة وغرابتها، هي التي تستهوي أكثر الشعراء الشباب، دون تقييم الثوب اللفظي الذي تسكنه، فمحمود علي السعيد في قصيدته "الأرض"(17) المؤلفة من أربعة مقاطع، يحاول اللجوء إلى التصوير الشمولي، مستخدماً الإيقاع الداخلي في وحدة المقطع.. لكنه يسقط أيضاً في فقدان المعايير الذوقية لصياغة الصورة الشعرية:‏ قضبان السجن المتقيئ في وجهك يا شجر اللوم تحدق‏ شزراً أن ترقى قامات الخيل العربية فوق الجدران..‏ يتفلت من بين ضلوع الأرض المهجرة جذر يعشق ثغر المطلق‏ قمراً ينمو فيه غصوناً، تصدأ أغنية الريح عليها فيشب حريق‏ العشب البري، ونفتح وجنات الأطفال...‏ إن القصيدة بمجملها أشبه بترتيلات صوفية في انتظار المطلق الثوري، من خلال مخاض الألم وشبق الرغبة في التوثب، لكنها في التركيب العشوائي للصورة بعيداً عن المعيار الذوقي للبناء الشعري فقدت أيضاً الاتساق المعنوي والوحدة اللونية، فالقصيدة اعتمدت التركيب في الصور لا في الصورة الواحدة ويُثبت في الوقت ذاته على أساس المقاطع مما أفشل أسلوب التركيب المتلاحق لأنها لم تعط في الأساس، إشارة البدء نحو مضمون محدد، بل سارت نحو التصوير الشمولي ومن هنا جاء فقدان الذوق التصويري المفرد "قضبان السجن المتقيئ" "والتقيؤ في وجه شجر اللوم وتبعثر الألوان المشتقة منها الصور، أعطى القصيدة طابع الهذيان بعيداً عن الإشراق، الذي ربما كان يقصد إليه، ذاك أن الهدف غداً في أسلوب القصيدة، دون النظر لما يمكن أن تقدمه من قيمة جمالية معبرة،.. والرغبة في إعطاء شكل جديد للقصيدة أخذت تتزايد حتى تكاد تكون هدفاً بحد ذاتها... وقد نلمح في التجارب الشعرية الغربية، بعض هذه الملامح، ولكنها مع ذلك في حيز التقييم تدفعك لتقبل شكل ورفض آخر اعتماداً على المعايير الذوقية، كالقصيدة المرئية أو الملموسة، والتي تعود في جذورها إلى المدرسة السريالية، التي حاولت التزاوج بين الرسم والشعر، وعالم الحلم، فالشاعر الإنكليزي "ايان هاملتون منلاي" حاول إعطاء شكل شعري جديد، من خلال التخيل في تعميق الحس والمشاهدة، فأخذ يصف الأحرف بشكل موح ليعمق مشاركة القارئ في استيحاء الصورة:‏ شراع sail‏ شـراع s a i l‏ شــراع s a i l‏ بحـــار... S a i l o r...‏

hakimnexen 13 - 5 - 2012 10:45 PM

ن هذه المحاولة الطريفة، للإيغال في مدلول الشراع وتقريبه من ذهن القارئ المشاهد. كأنما القارب يقترب من الموج حتى نتمكن من رؤية البحار... يظل في حيز التجريب غير مناف للذوق لا في اللفظ. لا في التركيب. ولا في عالم الصورة، وهذا التجديد وإن كان لنا الخيار في رفضه أو قبوله.. فهو غير مقزز باسم التجديد فنحن إذا انتقلنا إلى شاعر غربي آخر، هو "ريتشارد هولزنبك"(18) لوجدناه يحشو قصيدته بمثانة الخنزير، وكلس الصودا، واللحم المخلل، والأصوات العشوائية.‏
وإن لم يصل الشعراء الشباب إلى هذا القدر تماماً، فإنه من المستحسن لفت النظر إلى بعض التعابير السوقية، والمنافية للذوقية الفنية والتي يكون من شأنها أحياناً أن تشوه قصائد جميلة.. ومبدعة.. ففي قصيدة "قراءات شرقية في فناجين القهوة" لعدنان شاهين(19).. تتماوج موسيقا شعرية. وتتحقق الوحدة اللونية والاتساق المعنوي، بشكل جيد وبفنية متماسكة؛ إلا أنه لا يلبث أن يورد مثل هذه التعابير "سأجعل عقلي حذائي".. "سأترك لحية وأمشي أطوف" في الصورة الأولى محاولة لرصد تناقضات الواقع الذي لا يقبل المنطق أنها صورة غير متناسبة في المعيار الذوقي، ودفقات القصيدة التي تبلغ ذروة التعبير أحياناً كما في قوله:‏
ساعة جسمي يصير صليباً‏
يزين صدر البيوت‏
سأعرف كيف تغازل نار الحريق حرير‏
التخوت ومن في التخوت..‏
تبلور الحس الطبقي هنأ آخذ بناصية الشعر.. أما عبارته "سأجعل عقلي حذائي" فمنحاه الشكل المعاصر غير الجمالي كذلك في قوله ـ سأترك لحية " كتعبير عن العدمية استخدام عامي جاء نابياً في قصيدة متماسكة، من هذا الخط البياني، المتشابه، نلمح أن العشوائية لا التلقائية هي التي تقود الصور والألفاظ، لدى معظم الشعراء الشباب مما يجعلهم يسقطون في معظم الأحيان بين بحثهم عن الشكل المعاصر، وفقدان المعايير الذوقية السليمة.‏

الاتجاه الثوري غير المدروس والالتزام الذي بدأ يفقد مدلوله‏
إن الجو الفكري الذي هيمن في هذا القرن متشعب، ومعقد، خاصة وأنه يحوي حدثين كبيرين هما الحرب العالمية الأولى والثانية اللتين حولتا حوالي خمسة وثلاثين مليون إنسان، إلى جثث هامدة، وخلقتا بالتالي معسكرين، متمايزين، المعسكر الاشتراكي، والمعسكر الرأسمالي ـ إلا أن هاتين الحربين أسهمتا بخلق جو من الخيبة والتشاؤم انعكست في الأدب والفكر، فانبثقت أو انتشرت وترسخت فلسفات عديدة، مادية ـ روحية ـ مثالية ـ شكلية وجودية ـ وضعية.. كذلك انتشرت فلسفة الأمريكي وليم جيمس "البراغماتية" الذرائعية... وبينما اتجه المعسكر الاشتراكي بفضل الفلسفة المادية العلمية، للتفاؤل من جديد في بناء عالم أفضل. ظل التشاؤم في المعسكر الرأسمالي مسيطراً خاصة، من خلال الإحساس بفقدان القيم الإنسانية والشعور بالزوال والفناء... فاتجه معظم الإنتاج الأدبي، نحو إطلاق العنان للموهبة كما تريد وبسط المعاني التي يختارها الفنان على المحسوسات في محاولة لابتداع قيم جديدة بعد أن دخلت حتى النسبية في المجال الأدبي.. وتوجت هذه المخاضات، بحركة الشبان الغاضبين، في بريطانيا في الخمسينات، حيث رفضت هذه الحركة كل ما هو رسمي، ومتعارف عليه.. وكان من أبرز أدبائها.. "جون أوزبورن"(20) في حين اتجه الرفض في الواقعية الاشتراكية صوب الثورية مرسخاً لأنه يواكب ويدعم عملية تهديم يعقبها بناء حقيقي.. لصالح الإنسان..‏
وكانت المنطقة العربية ذات ظروف موضوعية مختلفة إلى حد ما.. فلم تكن مسرحاً مباشراً للحربية، إلا أنها عايشتهما وقامت بعض معاركهما على أرضها، كما أنها تأثرت بشكل مباشر من نتائجهما: الظروف التي عاشتها المنطقة العربية، في هذا القرن، ظروف قهر إرادة واضطهاد، لذا كان من الطبيعي إثر ذلك أن يتجه الأدب نحو نوع خاص من الثورية في مطلع هذا القرن وهو حفز الشعور للخلاص من الاستعمار... ثم يتنامى بعد الاستقلال نحو التزام ثوري، يحمل طابع الواقعية والدفع نحو البناء.‏
على أن الأدب الثوري الكلاسيكي، كان في حيز المضمون، أقرب إلى التأثير الحقيقي في الجماهير التي كتب من أجلها، من حيث كونه شعراً تحريضياً، أما الآن فقد اختلف الحال بشكل سريع وخطير، فلم يعد معظم الشعراء الشباب يحفلون بما يمكن أن يؤدي إليه شعرهم. لقد استأثر بلب معظمهم التجديد ورفض كل ما يمت للقديم بصلة حتى اعتبر في بعض الأحيان، مجرد فهم الشعر مسبة ومثلباً، إلا أنهم ما زالوا يصرون أن هذا الشكل الضبابي، أدب ثوري وملتزم ناسين.. أو متناسين أن الإيصال هو الخطوة الأولى في الشعر الثوري

hakimnexen 13 - 5 - 2012 10:46 PM

... لقد تحول شعر الشباب إلى ما يشبه الطلاسم أحياناً، وظلت التسمية الثورية، كيافطة عريضة في أي دراسة لهذه القصائد. ومن المؤسف فعلاً أن هذه الظاهرة، لا تحمل مبررات واقعية من حيث الجو العام، كما ذكرت في توطئة هذا القسم بالنسبة للعالم الرأسمالي.. بقدر ما تحمل من حب التقليد، والمجاراة، والرغبة التواقة لما هو جديد.. والمؤسف أكثر أن بعض الشعراء من الرواد ساهموا بشكل كبير في ترسيخ هذا الأسلوب، حتى أن معظم القصائد أصبحت مشتركة بين الشعراء والنقاد الذين يسعون إلى تحليل أعمال كهذه مفسرين ما رمى إليه الشاعر وما لم يخطر على باله.. وبقي اسم الشعراء الرواد كشعراء ملتزمين ثوريين.. مما خدع جيل الشعراء الشباب فبدأ معظمهم من خلال هذه المعميات.. ولا أدري على هذا الأساس أين يصلون... ولعل من المهم طرح الأسئلة التالية في المرحلة الراهنة:‏ لمن ولماذا يكتب الشعر؟ وكيف نصف عملاً ما.. بالالتزام والثورية؟‏ أول ما يمكن أن يلاحظه من يحاول الإجابة هو التشتت الفكري، فالمناهج التعليمية لم تزل قاصرة، والشاب يجد نفسه ضائعاً بين بحران من الكتب، في محاولته لتثقيف نفسه خارج المنهاج المقرر، وبذلك تضيع الخطوة الأولى لديه في مفهوم الثورية والالتزام، ويسارع في مرحلة العطاء عاكساً هذا التشتت الفكري، ففي قصيدة "عتاب على رصيف الوطن"(21) للشاعر الشاب وفيق خنسه.. خطوط شاعرية، تحدد طريقاً غير مرئي، إلا أنه ثوري ملتزم، متدفق حيوية ونبضاً وحزناً وثورة، ولكن ما الذي حدث في تكوين المضمون، هذه المرة؟ إن عدم الفهم الصحيح للواقع الطبقي جعل وفيق خنسه مشتت الاتجاه، فما إن حاول إبراز الحقد الطبقي السليم، حتى غالبه التسرع في التصوير فأبرز الحقد الإقليمي ومشاعر الريف تجاه المدينة دون وعي للتغير في الظروف الموضوعية لهذه المشاعر:‏ كل واحات القرى اللاتي عرفناها أمامي سنبله‏ في عيون الفقراء‏ أنضجتها سيرة البؤس على حب دمشق‏ ليس فيهم واحد يعرف شارات المرور‏ ليس فيهم واحد يألف ضوء الكهرباء‏ إنما يا سوسن الرمل إذا جاعت دمشق‏ يبذلون القمح والزيتون والدخان‏ كي تحيا‏ ويبقى حبهم مقتسماً بين جيوب الأغنياء‏ إن القصيدة في تدفقها الشعري، خط بياني مرتفع الحرارة، لعنفوان الرفض، ولكن الفهم الطبقي لديه، خالطه ترسب الروح الإقليمية، ناسياً شيئين أساسيين: أولاً أن الشكل الصحي للثورة يكمن في نقل المدينة إلى الريف، وهي النقطة التي كان بإمكانه الاستفادة منها في مثل هذه القصيدة، ثانياً، أن في دمشق فقراء أيضاً لا يعرفون شارات المرور إلا من خلال وقوفهم أمام ممر المشاة، في انتظار عبور السيارات المتخمة.. وهؤلاء غالبية فالأحياء الغنية في دمشق معروفة وهي قليلة العدد، أما الأحياء الشعبية الأخرى فهي فقيرة كالقرى التي درج سكانها على حياة الاكتفاء الذاتي.. كما أنه غير مدرك لطبيعة التركيب الاجتماعي المستحدث باستمرار، مما جعل طرحه متأخراً وفي غير محله.. ذاك أن منحى الحياة الاستثمارية تغير وتغيرت معه طبيعة الجو السياسي، الذي كان يسيطر عليه الأغنياء من أبناء المدن. ما يغفر لوفيق خنسه تشتته، خاتمته التي كان يجب أن تهيمن على المضمون أساساً "لا فرق بين الفقراء".‏ الملاحظة الثانية هي: "إن الإحساسات بالنسبة إلى المادي المذهب.. صورة عن الحقيقة النهائية التي هي وحدها موضوعية"(22).. من هنا يمكن أن نتخذ مقياساً آخر لعملية الخلق الملتزم. ولا يعني ذلك أبداً اعتماد التصوير الجاف، فتجربة الإنسان متعددة الجوانب، تمتد من ممارساته اليومية، وحتى من الأساطير القديمة، لكن انعكاسها في ذاته مقياس لتقديمها كأدب ثوري يمكن أن يعطي شيئاً للجماهير.. ومن مطالعة معظم قصائد الشباب نجد أن عدداً منهم قد غرق في الطوباوية في التصوير الفكري، بل ذهب بعضهم أبعد من ذلك، في تخبطه الفكري، وينعكس ذلك في نتاجه فمحمد درويش مثلاً، بدأ يخسر شاعريته في محاولته للانتقال من الحس البدائي، إلى الوجودية، بل إنه يحاول تصنع اعتناق الوجودية لأنه ربما لم يدرك أن الوجودية ذاتها تقف موقفاً إيجابياً من الالتزام(23) وقد وصل الأمر ببعض الشعراء الشباب إلى أنهم بدوا طريقهم نحو دخول أبراج زجاجية وشرانق ذاتية، قائلين أن على الجمهور الصعود إلينا، ناسفين بذلك أي جسر للعلاقة بين أدبهم، والالتزام... صحيح "أننا نعيش في عصر المخترعات العلمية... ونحن بحاجة إلى مخترعات لغوية جديدة لتساير كل هذا التغيير"(24) ولكن علينا أن نستوعب كلمة "ساير". ليكون الالتزام عام هذه الشاكلة مجدياً، فقد وصل التجاوز لدى بعض الشعراء الشباب في رسم الصورة حداً يشعر فيه القارئ أن القصيدة التي يقرأها لا تعنيه في شيء، فأين يكمن الالتزام إذن؟ في قصيدة "نعوة على جدار قبر"(25) لعمر صبري كتمتو.. الذي تجاوز سن الشباب، وما زال مفتقداً للتجربة الشعرية الصحيحة. اشتق الشاعر الصور من عالم متناقض أساساً في ذاته فكان التمايز واضحاً في السياق بين اللفظية الغنائية والسقطات الغائمة ثم المباشرية والتقريرية نهاية القصيدة ليحاول جلبها إلى واقع الالتزام..‏ ولست في متاهة الزمان‏ سوى مدان، عابر، جبان‏ وإذا انتقلنا إلى الأجواء النفسية التي هي مركز الإحساس الشعري لدى الشعراء الشباب، لهالنا الجو الاجتماعي المريض الذي يعيشونه في التملق المتبادل والفوقيات غير المتوقعة من شباب في مقتبل العمر، فالغرور، الصاعق ظاهرة واضحة لدى الكثيرين، ودخلت الشرذمات ساحة تجمعهم في شلل تتجمع في أماكن عامة عديدة ليتبادلوا الثناء، وألقاب العبقرية، والإشراق، والإعجاز، مقنعين أنفسهم أنهم أكبر من أن يقيموا بل وصل بهم الحد إلى الاستهتار العلني بكل شعراء الطليعة العالميين مثل إلوار وناظم حكمت وغيرهما.

hakimnexen 13 - 5 - 2012 11:08 PM

والحقيقة أن ثمة أصوات شعرية واعدة فعلاً ظهرت في أواخر الستينات، وأوائل السبعينات، إلا أن مراكز القوة والمحاور الأدبية، كانت في طور التثبت والحيازة على دور الريادة، وكان على معظم هذه الأسماء الشابة، أن تأخذ دور الحواريين، إذا أرادت المتابعة، فابتعدت أسماء لديها الموهبة وشجع فيمن تشجع من لا يملك من الشعر أبجديته وصارت بعض القصائد تنسج على ما يتناسب وذوق المسؤول عن صفحة الأدب في هذه المجلة أو تلك الصحيفة، فعاد الافتعال، وسقط الالتزام من جديد، وتميع الطرح الثوري بتشتت الصور المصنوعة وفق أذواق مسؤولي النشر.. ففاروق عبود في قصيدته "الحطام" يجيء بصور شعرية جيدة، ولكنها متناثرة بين صور وعبارات مبهمة واضحة التصنع، وكأنما كان في ذهنه مسبقاً خوف الاتهام بالمباشرية والتقريرية، فتحولت قصيدته عن مدلولها الملتزم، ودخلت في حلقة مفرغة من الألوان والتعابير....‏ يحاصرني البرد الرعب، والأعين الجارحة‏ وصوتك ينأى مع الريح.. أطعنه، في دمي يتقافز خوفاً أباركه... الخ...‏ ... وبحضور بعض جلسات الشعراء الشباب، يتضح الأمر أكثر، فهنا استخدام التعابير والمصطلحات الجاهزة مقياس للإعجاب، يضاف إلى ذلك إبراز الشذوذ في التصرفات، وممارسة التشرد، والمباهاة، بالعربدة والسكر وحتى ادعاء الجنون.. كثير منهم يملك طاقات حقيقية... لا تحتاج إلا إلى خطوة في الطريق الصحيح.. الشعراء الشباب بحاجة ماسة إلى رعاية تنأى بها عما هم فيه للاستفادة بشكل حقيقي من إمكانياتهم التي يهدر أغلبها في غير موضعه... تلك ملاحظات أعتقد أنها تشمل العدد الأكبر من شعرائنا الشباب وإن كانت لا تستغرق الحركة الشعرية الشابة بمجملها.‏ (1) جريدة الثورة ـ العدد 3054 دمشق.‏ (2) جريدة الثورة ـ العدد 3067 دمشق.‏ (3) الأسبوع الثقافي ـ الثورة العدد 3115 دمشق.‏ (4) البعث ـ العدد 3141 دمشق.‏ (5) بيلنسكي.‏ (6) هراقليطس.‏ (7) صوت المعلمين ـ العدد (11) ـ 1973 دمشق.‏ (8) البعث ـ العدد 3111 دمشق.‏ (9) صوت المعلمين ـ العدد (8) 1972 دمشق.‏ (10) حسام الخطيب ـ "الأدب الأوربي تطوره ونشأة مذاهبه".‏ (11) عبد الوهاب البياتي ـ "تجربتي الشعرية" ص72.‏ (12) الدادائية علي الشوط ص6.‏ (13) البعث ـ العدد 3090 ـ دمشق.‏ (14) "الكتابة على الطين" عبد الوهاب البياتي ص74.‏ (15) قمت شخصياً بمحاولة إيجاد شكل جديد في "قصيدة وثائقية بعد خروجها من الرقابة" البعث 11/6/1973 إلا أنها هوجمت بشدة في "البعث" و"الثورة" ومجلة "الطليعة" ومجلة "الرسالة الكويتية" ـ كذلك قدمت قصيدة "البحر والقرصان" التي تعتمد على الضوء ـ والحركة والمؤشرات الصوتية ـ في أمسية أقامها اتحاد الكتاب في صالة سينما الحمراء، إلا أن أحداً لم يكتب عنها بعد.‏ (16) البعث ـ العدد 3122 ـ دمشق.‏ (17) البعث ـ العدد 3141 ـ دمشق.‏ (18) الدادائية علي الشوط ص126.‏ (19) الثورة ـ العدد 3054 ـ دمشق.‏ (20) "الأدب الأوربي تطوره ونشأة مذاهبه".‏ (21) الثورة ـ العدد 3073 ـ دمشق.‏ (22) لينين "المادية والنقد التجريبي".‏ (23) جان بول سارتر "الأدب؟"‏ (24) روبرت يونك ـ روائي ألماني.‏ (25) (الطليعة) السورية144.‏


مجلة الموقف الأدبي :
العدد 2 حزيران 1974
=============================================

جمال جرار 14 - 5 - 2012 12:52 AM


أبو جمال 14 - 5 - 2012 11:16 AM

مجهود رائع وموضوع قيّم
استمتعت بتواجدي بصفحتك
بانتظار المزيد من هذا العطاء
لك مني ارقّ تحية وأعذبها
دمت بخير


الساعة الآن 08:49 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى