منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   لكي لا ننسى .. (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=256)
-   -   مذكرات حصار الشهيد القائد ياسر عرفات :: (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=15415)

عاشق البندقيه 25 - 4 - 2011 08:44 AM

مذكرات حصار الشهيد القائد ياسر عرفات ::
 
تجربة الموت مثيرة بكل تفاصيلها ، لكن أن تنتظر قدومه في كل لحظة فهذا ما كان الجديد في تجربتي ... تستحضرك كل التفاصيل الصغيرة والدقيقة التي لم يسبق لك أن تذكرتها .وكأن دوي الانفجارات يذهب بك بعيدا إلى عالم استحضرته عنوة .



لم أكن مقاتلا حتى أفكر في كيفية التصويب نحو الهدف المتربص بي .. لكني كنت متسلحا بقلم لم يتسن له بعد أن يخط ما يدور في هذه اللحظة المجنونة التي لم أستوعبها بعد .. أدركت في أعماقي أن الموت قادم لا محالة .. وداعا عاهد .. وداعا سارة .. وداعا أحمد ورامي .. وداعا أيتها الزوجة وأيها الأم العظيمة .. وداعا لكل تلك الذكريات التي عشتها معك أيتها الشقيق ماجد .. كلمات الوداع التي بعثها قلبي إلى أحبتي أفزعتني للحظة .. لكني استجمعت كل ما لدى من قوة داخلية لأترجم ما تعلمته من شعبي لمواجهة الموت بشجاعة .. عندها سأحلق عاليا لأُبعث للحياة مجددا .



ما دفعني لولوج تجربة (الموت) هذه ليست الفضولية المتصلة بخصال الانسان كائنا من كان ، بل كان الواجب المهني الذي يقتضي وبالضرورة التواجد في قلب الحدث الساخن ، تغطية الحدث وأن لا تقتصر هذه التغطية على مجرد محادثة هاتفية أو مجرد رسالة ، بل نقلا حقيقيا وعن قرب لما يجري من خلال معايشته .



كان هناك إحساس مسبق لدي بأن الحكومة الإسرائيلية تحضر لضربة شاملة للفلسطينيين يكون هدفها الأساس الرئيس ياسر عرفات وقيادته هذه المرة ،لكن الرياح لا تسير بما تشتهي السفن ، فكانت الهواتف معطلة في مقر الرئيس عرفات ، ووضعت قوات الاحتلال شبكة تشويش على الهاتف النقال (الجوال الفلسطيني) الأمر الذي منعني من التواصل مع عملي ، واستعضت عن نقل الخبر بكتابة تجربة الحصار اليومية ، لأكون شاهدا حيا على هذه التجربة الفريدة .



ليلة ما قبل الاجتياح



التوتر والترقب يسودان الشوارع في رام الله والبيرة .. وازدحام في الأسواق ، وإقبال شديد على شراء المواد التموينية ، والجميع يتحدث عن ضربة إسرائيلية ، فقد كانت التصريحات الإسرائيلية المتتالية والصادرة عن المسئولين الإسرائيليين وخاصة من رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون تتوعد بتوجيه ضربة ماحقة للفلسطينيين ردا على العملية الأستشهادية التي نفذتها كتائب عز الدين القسام في نتانيا وأسفرت عن مقتل أكثر من (28) إسرائيليا .



هذه التهديدات ألقت بظلال ثقيلة على الفلسطينيين في كل مكان ، وعلى الفور كانت مقار قوات الأمن العام الفلسطيني مستنفرة حيث قامت بعملية إخلاء تحسبا من غارت يشنها الطيران الإسرائيلي .



الفلسطينيون وبحدسهم الخاص توقعوا أن تكون الضربة الإسرائيلية موجهته إلى رام الله والبيرة العاصمة المؤقتة للفلسطينيين بهد ف الإطاحة بالحلم الفلسطيني .



جميع المواقع تم إخلاؤها باستثناء مقر الرئيس ياسر عرفات الذي ظل فيه مع حرسه الخاص ، ليواجهوا فيما بعد أزمة جديدة كغيرها من الأزمات التي عاشها عرفات في بيروت وغيرها من المواقع .



مساء الخميس 28 / 3 وبعد مكالمة ساخنة جرت بين الرئيس عرفات ووزير الخارجية الأميركي كولن باول ، عقد الرئيس عرفات مؤتمرا صحفيا على عجل أعلن خلاله مجددا استعداده للعمل على وقف إطلاق النار مع الجانب الإسرائيلي ، وتحدث في المؤتمر مطولا عن تمسكه ببنود تفاهمات تينت الأمنية بترابطها مع توصيات ميتشل والأفق السياسي ، وكرر رفضه الخروج عن بنود تينت أو الاستسلام للطروحات الإسرائيلية .



كان واضحا أن إعلان الرئيس عرفات وبالصيغة التي طرحها لوقف إطلاق النار هو لامتصاص رد الفعل الإسرائيلية ، إلا أن تصريحات الانتقام الإسرائيلية تواصلت ولم تعر إنتباها لاعلان الرئيس عرفات هذا.



رجعت إلى المنزل بعد المؤتمر ، وبدأت أستعد لما قد تأتي به الساعات القادمة .

عاشق البندقيه 25 - 4 - 2011 08:45 AM



فجر الجمعة 29 / 3

كانت الأحوال الجوية عاصفة ، فالأمطار تنهمر بغزارة والضباب الكثيف يلف المدينتين ، وهدوء مشوب بالحذر لا يبدده سوي نباح الكلاب الضاله . تناولت الهاتف لتحدث مع أبو (يمن) مدير غرفة المخابرات العامة في رام الله لأعرف عن تحركات قوات الاحتلال والحشود الجديدة على محاور مدينتين رام الله والبيرة ، أبلغني عن حشود جديدة وصلت بالمئات للدبابات الإسرائيلية .

كان تقدير القيادة العسكرية الفلسطينية أن تتم اجتياح المدينتين من محور الأرسال في المدخل الشمالي لمدينة رام الله لمحاصرة نقر الرئيس عرفات ، وبالفعل كانت التعليمات الصادرة من قيادة الأمن العام الفلسطيني لمختلف الوحدات القتالية بتوزيع قواها في مختلف المحاور ، وشملت التعليمات أيضا التمركز في عدد من البنايات المرتفعة لشل حركة تقدم الدبابات الإسرائيلية .

في الساعة الثالثة والنصف فجرا بدأ هدير الدبابات الإسرائيلية يسمع عن بعد في أكثر من محور ، وأخذ هذا الهدير يزداد وضوحا مع كل دقيقة تمر . سارعت في الخروج من المنزل للتوجه إلى مقر الرئاسة .

الحالة الجوية العاصفة لم تمنعني من زيادة عداد السرعة إلى أقصى حد ممكن ، فالوضع لا يسمح لي بالتباطؤ ، كنت وسط الشارع الرئيسي المؤدي مقر الرئيس ورأيت القذائف المدفعية الإسرائيلية تتطاير من أمام ناظري ، وفي الطريق بدأت تظهر حشود قوات الأمن العام الفلسطيني التي كانت تستعد لخوض غمار معركة جديدة من المواجهة .

أمام بوابة مقر الرئيس عرفات توقفت تعرف على هويتي أحد حراس الرئيس ، وأدخلني على عجل للمقر الذي كان يعج بالحركة أيضا .

دقائق قليلة وأذا بمئات الدبابات تتقدم من محوري الهاشمية جنوب البيرة ، وبتونيا مرورا بحي عين مصباح غرب رام الله . وسبق تقدم الدبابات دخول وحدات خاصة إسرائيلية لاكتشاف الطريق أمام عملية التوغل . ومع ذلك اعترضتها قوات من الاستخبارات العسكرية الفلسطينية اشتبكت معها في حي عين مصباح ، لكن المعلومات التي وصلت إلى مقر الرئيس عبر جهاز اللاسلكي من قوات الأمن الوطني أن الاشتباك كان مع قوات صديقة الأمر الذي شوش وحدادات الاستخبارات العسكرية الفلسطينية .
وأمام التقدير الخاطئ والقاصر عن وجهة التوغل الإسرائيلي ، استدعت القيادة على عجل القوات التي كانت ترابط في ميدان المنارة وسط رام الله وتلك القريبة من مقر الرئاسة للمرابطة في محيط الرئاسة ، حيث بدأت الدبابات الإسرائيلية بالاقتراب متجنبة المحاور الرئيسة التي توصل إلى المدينتين .
وما أن اقتربت الساعة من الخامسة والنصف صباحا حتى بدأت فوهات المدافع بقصف بوابات الرئاسة والأسوار المحيطة بالمقر . كان حرس الرئيس الخاص وقوات أمن الرئاسة الـ(17) خلف الأسوار يستبسلون في الدفاع لصد التقدم الإسرائيلي نحو المقر .

إلا أن المعركة غير المتكافئة دفعت بالجميع للتراجع أمام فوهات المدافع الإسرائيلية .

في تلك الأثناء تمكنت دبابات الاحتلال من هدم الأسوار الغربية للمقر ، اخترقت مبني الاستخبارات الذي يقع في مقدمة المدخل الغربي للرئاسة ، وفي الوقت ذاته بدأت هذه الدبابات بهدم البوابة الشرقية . وتمكنت من دخول مبنى المخابرات العامة الذي يقع في مقدمة البوابة الشرقية وقصفته بصورة عنيفة وكأنها تحقق انتقاما خاصا لهذا المبني ومن يتواجد فيه .

عندما اقتربت قوات الاحتلال من مبنى المخابرات العامة نزل الرئيس عرفات من مكتبه في الطابق الثالث إلى الطابق الثاني واختار إحدى الغرف مقرا له ، ولتكون أيضا غرفة العمليات التي تدار فيها معركة الوجود الفلسطيني .

في تلك الأثناء كانت البوابة الداخلية للمقر تشهد معركة شرسة بين حرس الرئيس وقوات أمن الرئاسة الـ(17) وبين قوات الاحتلال المدعومة بالدبابات والمجنزرات ، إلا أن المتاريس المصفحة التي وضعها حرس الرئيس في مقدمة البوابة لم تصمد ، حيث استشهد في خلال الدقائق الأولى من الأشتباك مع قوات الاحتلال الضابط شاهر أبو شرار وأصيب أكثر من 18 جنديا وضابطا من حرس الرئيس الخاص .

أمام حجم الهجوم الإسرائيلي بدأ حرس الرئيس ومغاوير قوات أمن الرئاسة الـ(17) بالانتشار وأخذ مواقع جديدة لهم داخل مقر الرئاسة والذي هو مؤسس على شكل مستطيل تتواجد فيه مقار الأمن الوطني والمخابرات العامة وقوات أمن الرئاسة الـ(17) ومقر المحافظ بالإضافة إلى مقر الرئيس عرفات بشكل متصل .

أمام القصف المتواصل استطاعت قوات الاحتلال من إحداث ثغرات في مبني المخابرات حيث تمكنت من النفاذ إلى داخل مبني المخابرات ، وأصبحت الجهة الشرقية لمبنى الرئيس عرفات محتلة تماما ، ولا يفصله عن غرف الرئيس سوي حائط ، بدأت التهديدات تزداد والوضع أكثر خطورة مع محاولات التقدم لقوات الاحتلال من جهة مقر المحافظة التي يتواجد بداخلها مغاوير قوات الـ(17) الذين شكلوا رأس حربه في معركة الدفاع عن حياة الرئيس عرفات ، المعركة بدأت تشتد وتتصاعد وجها لوجه ومن غرفة لأخرى ، فجنود الاحتلال أخذوا يتواجدون في غرف قوات الأمن الوطني وبدأوا بالوصول والاقتراب إلى مقر المحافظة عبر البوابة الرئيسة ومن الفتحات الداخلية للغرف .

في هذه اللحظة قرأ جميع من في المقر الفاتحة وتلو الشهادة ... الرصاص بدأ ينهمر كالمطر باتجاه قوات الاحتلال من كافة المحاور لصدهم من التقدم أكثر . وبالفعل بعد أكثر من ساعة ونصف من المواجهة داخل غرف المحافظة استطاع المغاوير من صد جنود الاحتلال .

كان خوف المقاتلين ينبع أساسا من وجود باب خلفي يربط بين مقر الرئيس ومقر المحافظ ، ويمكن لجنود الاحتلال السيطرة عليه وبالتالي تضيق مساحة مقر الرئيس .

صعدت إلى الطابق الثاني حيث يتواجد الرئيس عرفات الذي لم يغمض له جفن طوال الليلة الأولي من الاقتحام والحصار . فالقذائف المدفعية تتساقط على مقره وزخات الرصاص تنهمر من كل صوب وحدب


عاشق البندقيه 25 - 4 - 2011 08:45 AM

الحلقة الثانية
الرئيس ياسر عرفات أخذ يتفحص عيون المحاصرين المتواجدين معه في الطابق الثاني، وكأنه يرى فيها عالما آخر غير الذي يعيش فيه من قصف مدفعي، أو لعله كان يجرى في هذه اللحظات عملية اختبار لمن تمالك شجاعته في هذه الفترة العصيبة التي يداهم فيها الموت الجميع من كل اتجاه وزاوية، لا أعرف حقا ماذا كان يبحث عنه الرئيس في هذه اللحظة، لكني كنت متأكدا أنه يحث الجميع بنظراته الثاقبة على الصبر والثبات.

اليوم الثاني للحصار ـ 30/3

واصل الرئيس عرفات سيره في الممر الضيق وهو ممسك بجهاز الاتصال اللاسلكي، وقد لجأ لوسيلة الاتصال هذه بعد أن قطعت الاتصالات الأرضية والخلوية بالخارج، الأمر الذي شكل أزمة حقيقية للرئيس عرفات، فهو غير قادر على أن يجرى اتصالاته مع القادة والزعماء العرب والغربيين لحثهم على الضغط على شارون لوقف العدوان على مقره وعلى الشعب الفلسطيني.

اقترح العميد توفيق الطيراوي مدير المخابرات العامة الفلسطينية في الضفة الغربية أن تكون وسيلة الاتصالات مع الخارج هي جهاز الاتصالات اللاسلكي ، حيث يتصل الرئيس بالمسئولين الفلسطينيين وبعد ذلك تنقل رسائله إلى دول العالم عبر عدد من المسئولين الفلسطينيين. وبالفعل اتصل الرئيس عرفات مع الطيب عبد الرحيم أمين عام الرئاسة، وصائب عريقات وزير الحكم المحلي، وياسر عبد ربه وزير الثقافة والاعلام، وبمدير المخابرات العامة اللواء أمين الهندي الذي أراد منه نقل رسالة عاجلة إلى المسئولين العرب والغربيين والأميركيين لإطلاعهم على حقيقة الوضع في مقر الرئاسة.

الرئيس عرفات الوضع خطير جدا، القصف من كل اتجاه على المبنى، المطلوب تحرك جدي الآن وفي هذه اللحظات لوقف محاولات الاقتحام.

ما أنهى الرئيس عرفات مكالمته اللاسلكية حتى عرج للغرفة التي أتواجد بها وهي مقابل غرفته مباشرة، طلب منا القيام بوضع خزانة المكتب على النافذة الوحيدة للغرفة، كما طلب من المدنيين العاملين في مقر الرئاسة بأن نبقى منبطحين على الأرض خوفا على سلامتنا من الإصابة بالرصاص الإسرائيلي الذي يأتي من كل اتجاه.

ورغم تشجيع الرئيس عرفات لنا، فان الجميع نطق بالشهادة استعدادا للموت القادم، فالانفجارات كان دويها يتصاعد ويتلاحق.

وفي أثناء الصمت القاتل الذي ساد ممر الطابق الثاني كان الرائد وليد عبدو من حرس الرئيس الخاص يتلقى مكالمة خاصة من أحد أخواله بواسطة جهاز لاسلكي وبادره الرائد وليد بكلمة (سامحني، سامحني يا خالي) حتى أن طلب المسامحة وصل مسامع الرئيس عرفات، كلمات المسامحة كان لها وقع خاص لم نسمعه من قبل، بل تأكد الجميع أنها تخرج من شفاه من وضع نصب عينيه الشهادة، وفي هذه الأثناء كان الضابط وليد حمد يخط بيده الثابتة على جدار الممر كلمة (أهلا بروائح الجنة). ومضت الدقائق ثقيلة وبطيئة أمام القصف المتواصل.

في اليوم الثاني استطاعت قوات الاحتلال الإسرائيلي الدخول إلى شبكة الاتصالات اللاسلكية الخاصة بحرس الرئيس، وبدأنا نسمع عبر الأجهزة اللاسلكية ضباط الاحتلال الإسرائيلي يتحدثون إلى المحاصرين يطالبونهم بالاستسلام وأن قوات الاحتلال ستتعامل مع الحرس باحترام إذا ما سلموا أنفسهم. فيما يرد أحد حراس الرئيس عليهم بالقول (اذهب إلى الجحيم... أنتم من يجب أن يسلموا أنفسهم ويرحلوا من هنا... فيما أجاب الرائد سهيل عيسى من قوات أمن الرئاسة الـ(17) بقوله أنتم من دخلتم رام الله، وعليكم أن تفكروا كيف ستخرجون منها أحياء... ولا تخلو المهاتفة اللاسلكية من بعض الشتائم والسباب الموجهة للإسرائيليين.

انهمك الرئيس عرفات بتفقد وتفحص غرف المقر، وفي الأثناء يطلب من بعض الحرس أخذ الراحة والاسترخاء ليتمكنوا من المناوبة والقيام بواجباتهم فيما بعد، لكن دوي المدافع أخذ يشتد ويمنع الجميع من النوم.

لم أصدق أبدا أن خيوط الشمس الذهبية قد بدأت تخترق الشقوق التي أحدثتها القذائف في المبنى، أذكر أن غفوت وأنا أجلس القرفصاء من شدة الإرهاق الذي أصابني

عاشق البندقيه 25 - 4 - 2011 08:46 AM



السبت ـ اليوم الثالث للحصار ـ 31/3

الشعور بالخطر يتعاظم مع كل دقيقة تمر، ومحاولات الاقتحام لمبنى الرئاسة، ونفدت المياه وكميات التموين في المقر، وما زاد الطين بلة ان إمكانية الذهاب إلى المراحيض أصبحت غير واردة بالحسبان، فكل خطوة غير محسوبة ستكلفك حياتك.

وطوال اليوم الثالث من الحصار كانت قوات الاحتلال تعزز من تواجدها في محيط مقر الرئاسة وتواصل محاولات اقتحامها لمقر الرئاسة عبر فتح المزيد من الثغرات الداخلية في المباني الملاصقة لمقر الرئيس عرفات، فيما قامت قوات الاحتلال بعمليات تمشيط واسعة بداخل المباني التي استطاعت الوصول إليها خوفا من وجود جيوب للمقاومة.

ومع ساعات المساء هدأت حدة القصف ثم توقف كليا، وتناهى إلى مسامعنا طلب قوات الاحتلال عبر مكبرات الصوت من المحافظ مصطفى عيسى أبو فراس محافظ رام الله والبيرة، والذي كان محاصرا مع الرئيس عرفات الخروج إليهم للتفاهم كما قالوا.

نزل إليهم وكان بانتظاره في مرآب الرئيس عرفات قائد اللواء الإسرائيلي العسكري الذي احتل مقر الرئاسة، وضابط استخبارات كبير والعقيد أبو (عمري) مسئول الارتباط العسكري الإسرائيلي، حيث طلبوا من المحافظ أبو فراس إبلاغ الرئيس عرفات رسالة مفادها أن لديهم قرارا باقتحام مقر الرئيس عرفات لأخذ المطلوبين بداخله. رد عليهم المحافظ أنه وبحكم الاتفاقات الموقعة بين الجانبين لا يمكنكم الدخول إلى مقر الرئاسة، قاطعه قائد الحملة العسكرية الإسرائيلي بقوله لا توجد اتفاقات فما كان على المحافظ سوى القول أنه سينقل الرسالة إلى الرئيس عرفات، وذهب دون أن يرجع إليهم وعقب المحافظ أبو فراس على تلك المحادثة مع القادة العسكريين بقوله ان لديهم إصرارا على إذلال الفلسطينيين.

كان الإسرائيليون قد قطعوا الاتصال بمسئول الارتباط العسكري الفلسطيني العميد ربحي عرفات الذي تواجد أيضا داخل الحصار مع الرئيس عرفات، وكان مهمة العميد عرفات الاتصال والتنسيق مع الجانب الإسرائيلي في حال نشبت خلافات ومواجهات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، إلا أن الحكومة الإسرائيلية قررت ألغاء مهمة الارتباط العسكري بين الجانبين، وأعادت ما يسمى بالإدارة المدنية التي كان يعمل بها فترة الاحتلال الإسرائيلي الأولى منذ عام 1969.

الأمر الذي يؤكد أن إسرائيل ألغت عمليا السلطة الفلسطينية بأجهزتها التي أفرزتها اتفاقية أوسلو وبقية الاتفاقات المبرمة بين الجانبين.

وأصبحت تتعامل مع السلطة الفلسطينية بأنها سلطة خاضعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأن رموز السلطة الفلسطينية يجب من الآن فصاعدا أن تتعامل مع الأدوات الاحتلالية وليس تلك الأدوات والأجهزة التي أفرزتها الاتفاقات.

نصف الساعة التي خرج بها المحافظ مصطفى عيسى كانت تعني دهرا للبعض، فهي ستحدد ملامح المعركة القادمة... ومع عودة المحافظ ارتفعت حالة الاستنفار في صفوف الجميع.

يبدو أن عدم رد المحافظ على رسالة الإسرائيليين أغاظهم، فاقترب جنود الاحتلال إلى بوابات مقر الرئيس الداخلية بحماية الدبابات وبدأوا بطرق الأبواب المؤدية إلى مقر الرئيس عرفات عندها أيقن الجميع أن الاقتحام وشيك.

في هذه اللحظة ارتفع صوت الرئيس عرفات عاليا خلال اتصاله مع صائب عريقات بواسطة اللاسلكي طالبا منه سرعة التحرك واجراء الاتصالات مع الأطراف الدولية والعربية لابلاغهم بما يجرى على الأرض وما يمكن أن تشهده اللحظات القادمة من ارتكاب مجازر حقيقية، فأجاب صائب (ما أسمعت لو ناديت حيا، ولكن لا حياة لمن تنادى) فرد الرئيس هذه مؤامرة. أيضا كان على وسيلة الاتصال الأخرى أمين عام الرئاسة الطيب عبد الرحيم الذي طلب منه ذات الشيء. دقائق معدودة وهو يرد على أسئلة الطيب عبد الرحيم وعريقات ويقول هم أي الإسرائيليون يكذبون... يكذبون، ها هي محاولات الاقتحام تتكرر. أكدوا أي للأطراف الدولية والعربية أكدوا لهم الحقيقة بأن قوات الاحتلال تواصل بكل قواها اقتحام المقر.

كان وزير الحرب الإسرائيلي يتحدث مع الأطراف الدولية وحتى العربية أن قوات جيشه توقفت عن عمليات قصف المقر.

وبينما كان صوت الرئيس عرفات يرتفع كانت القلوب تزداد خفقانا، والشفاه تتمتم بآيات من الذكر الحكيم والشهادة لا تفارق شفاه الجميع.

في هذه الأجواء القاتمة كان البعض منا يهمس في أُذن الآخر عن سيناريوهات مختلفة لاقتحام المقر.. ويبدو أن مخيلة المحاصر تكون عادة أكثر تفتحا وتحملا من التخيلات التي لا حد أو مدى لها. لكن لحظة الموت بدأت بالاقتراب رويدا رويدا، تشعر بها وتتحسسها كما تتحسس أطرافك.

كنت أحسد أحد العاملين في نقليات الرئيس عرفات ويدعى محمد النمر الذي واجه أزمة الموت بنوم عميق طوال ثلاثة أيام متتالية، فلا دوي القذائف ولا أزيز الرصاص أيقظه، ولا تكدس المتواجدين داخل الغرفة... نعم أجزم أنه كان يمارس بوعي تام رياضة اليوغا التي تدخله عالمه الخاص.

هذا الوضع دفع بالمهندس باسل للقول يبدو أننا في يوم واحد دخلت عليه الفصول الأربعة مرة واحدة فالنيران المشتعلة التي أحدثتها القذائف المدفعية غيرت معالم المكان والزمان.

الثلاثة أيام الأولى من الحصار كانت قاسية بكل تفاصيلها، لكني حسمت أمري وتوكلت على الله العلي القدير بأن الشهادة هي مطلب كل مؤمن محتسب، هذا الشعور أدخل الطمأنينة لنفسي، ولم اعد بقذائف المدافع وأزيز الرصاص، ولكني تألمت كثيرا لوالدتي التي شعرت بألمها وحزنها، لكني كنت متأكدا أن صلواتها ودعاءها الدائمين ستحميني من بربرية الاحتلال.

كانت مشكلة جميع من في المقر وعددهم نحو (300) هي نفاد السجائر، كنت أحمل معي أربع علب وقت حضوري إلى المقر، وكان الشاب خالد الحلو يتبرع باستمرار بسجائره ولكن سرعان ما نفدت أيضا عشنا تجربة الحرمان مرة أخرى ليس فقط للسجائر وانما للطعام أيضا وتجددت آلام الأمعاء الخاوية.

فرح غير اعتيادي في مقر الرئاسة

تفاجأ جميع من في المقر بوجود تجمع كبير من الأجانب أمام البوابة الشرقية الخارجية للرئاسة، عصر اليوم الثالث للحصار.. وهم يرفعون اللافتات ويرددون الهتافات بصوت مرتفع حتى أن صداه وصل للرئيس عرفات، اطلق جنود الاحتلال النار فوق رؤوسهم في محاولة منهم لردعهم لكنهم لم يرتدعوا وواصلوا تقدمهم إلى أن باتوا قريبين من البوابة الداخلية التي كانت محصنة بالمتاريس، استعد حرس الرئيس لاستقبال هؤلاء الأجانب الذين جاؤوا على غفلة من أمرهم وفتحوا فسحة في التحصينات من أجل إتاحة المجال لمرورهم، وبالفعل قدموا إلى المقر وسط تصفيق حار وابتهاج من في داخل المقر، وعلى الفور صعد جميعهم إلى داخل غرفة الرئيس عرفات الذي استقبلهم بحفاوة، وأكد لهم أن خطوتهم هذه تعبير عن الضمير الحي للذين يرفضون همجية الاحتلال الإسرائيلي التي تمارس أبشع الأساليب ضد الفلسطينيين ومن أعمال قتل وتدمير ومجازر مماثلة لصبرا وشاتيلا.

كان وفد الأجانب الذين تمكنوا من دخول مقر الرئيس المحاصر ينضم إلى لجنة الحماية الشعبية الدولية ويتشكل من عدة جنسيات، وأيضا من عرب جزائريين ومغاربة يحملون جنسيات فرنسية.

مسئولة الوفد كانت كلوديا لويوستيك فرنسية الجنسية، تعمل مدرسة للغة الفرنسية في نابلس.
قالت لـ(الوطن) لحظة سماعي لما يجري في رام الله والبيرة المحاصرتين وامكانية ارتكاب مجزرة حقيقية إذا ما حاولت قوات الاحتلال اقتحام مقر الرئيس عرفات قررت التوجه إلى رام الله بأي ثمن.
قالت كلوديا ان أعضاء الوفد يحملون قناعات بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون هو مجرم حرب قديم، ويريد تدمير الشعب الفلسطيني، واتفق أعضاء الوفد مع كلوديا بأن لا سلام مع شارون وحكومته.

يعتقد أعضاء الوفد أن الصمود الفلسطيني يعزز من صمودهم في دائرة الصراع الجاري حاليا ضد العولمة، والتي تريد الولايات المتحدة الأميركية من خلال العولمة إحكام سيطرتها على العالم. وأكدت كلوديا أن الفلسطينيين ومعهم الوفد المتضامن سيكسبون الحرب، وأن الاسرائيليين هم الخاسرون في النهاية. وقاطعت الحديث الدائر نتايا غولان يهودية تحمل الجنسية الكندية ومتزوجة من فلسطيني من نابلس، وقالت لشبكة فلسطين الاخبارية أريد أن يعيش أولادي بسلام، ولكن في ظل اختلال المفاهيم والكيل بمكيالين من قبل الولايات المتحدة الأميركية، أشك أن يستطيع أولادي أن يعيشوا بسلام بسلام في وطنهم... شارون وبوش ينظران للدم اليهودي بأنه دم ثمين، أما الدم الفلسطيني فما زال رخيصا وفق معتقدهما.

رفض أعضاء الوفد الأجنبي الأربعون أن يعاملوا كضيوف مميزين لدى المحاصرين، بل تطوعوا لكل الأعمال الروتينية التي يقوم بها الحرس من أعمال نظافة وغيرها حتى أن بعض المتطوعات مثل كلوديا قامت بمحاولة طبخ ما تبقى من وجبات .لقد جلبوا معهم بعض علب الحلوى وقاموا بتوزيعها على المقاتلين، وفي ساعات الليل يتوزع أعضاء الوفد على جميع غرف الرئاسة لجعل أنفسهم دروعا بشرية أمام هجمات قوات الاحتلال المحتملة.

جوليا الألمانية كانت فتاة تكره العنف بجميع أشكاله، ومن أنشط أعضاء الوفد، كنا نشاهدها وهي تمزق قميصها لتضميد جراح أحد المصابين، كانوا كخلية نحل، فهذا البروفيسور جرار ابن الستين يواصل ليله بنهار في كتابة التقارير التي تكشف نازية الاحتلال، ولم يكل من كتابة الفظائع الإسرائيلية طوال أيام الحصار رغم الاعياء الذي بدا على جسده النحيل المرهق.

وللأسف الشديد لم يمض على المغربي محمد بن بركة والذي يحمل الجنسية المغربية سوى يومين حتى علم من القنصلية الفرنسية بموت والده، كان مشهدا مؤثرا عندما اصطف الحرس وقاموا بتقديم واجب العزاء له. لم يطلب من القنصلية الفرنسية ان تخرجه من مقر الرئيس المحاصر بل فضل البقاء مع الرئيس عرفات رغم فاجعته بموت والده.

رغم الحزن في الوفد الأجنبي كان هناك مناسبة سعيدة لأحدهم، حيث احتفل نيكلسون بول 55 ـ من اقليم الباسك في أسبانيا ـ بعيد ميلاده في إحدى غرف الرئاسة، وكان سعيدا بحفلة عيد الميلاد المتواضعة، وكمفاجأة لضيوف الحفل حمل صينية صغيرة تحتوي على بعض قطع الحلاوة والبندورة بديلا عن قطع الكيك. وأشعل شمعة ثم اطفأها مع تمنيات الجميع بعيد ميلاد سعيد، وكان مشهدا مؤثرا عندما قام العميد توفيق الطيراوي مدير المخابرات العامة في الضفة الغربية بإهداء بول ميدالية بيت لحم (2000) والعلم الفلسطيني، وبعد ذلك تناولوا الصور التذكارية لهذا الحفل الغريب.


عاشق البندقيه 25 - 4 - 2011 08:47 AM

السبت ـ اليوم الثالث للحصار ـ 31/3

الشعور بالخطر يتعاظم مع كل دقيقة تمر، ومحاولات الاقتحام لمبنى الرئاسة، ونفدت المياه وكميات التموين في المقر، وما زاد الطين بلة ان إمكانية الذهاب إلى المراحيض أصبحت غير واردة بالحسبان، فكل خطوة غير محسوبة ستكلفك حياتك.

وطوال اليوم الثالث من الحصار كانت قوات الاحتلال تعزز من تواجدها في محيط مقر الرئاسة وتواصل محاولات اقتحامها لمقر الرئاسة عبر فتح المزيد من الثغرات الداخلية في المباني الملاصقة لمقر الرئيس عرفات، فيما قامت قوات الاحتلال بعمليات تمشيط واسعة بداخل المباني التي استطاعت الوصول إليها خوفا من وجود جيوب للمقاومة.

ومع ساعات المساء هدأت حدة القصف ثم توقف كليا، وتناهى إلى مسامعنا طلب قوات الاحتلال عبر مكبرات الصوت من المحافظ مصطفى عيسى أبو فراس محافظ رام الله والبيرة، والذي كان محاصرا مع الرئيس عرفات الخروج إليهم للتفاهم كما قالوا.

نزل إليهم وكان بانتظاره في مرآب الرئيس عرفات قائد اللواء الإسرائيلي العسكري الذي احتل مقر الرئاسة، وضابط استخبارات كبير والعقيد أبو (عمري) مسئول الارتباط العسكري الإسرائيلي، حيث طلبوا من المحافظ أبو فراس إبلاغ الرئيس عرفات رسالة مفادها أن لديهم قرارا باقتحام مقر الرئيس عرفات لأخذ المطلوبين بداخله. رد عليهم المحافظ أنه وبحكم الاتفاقات الموقعة بين الجانبين لا يمكنكم الدخول إلى مقر الرئاسة، قاطعه قائد الحملة العسكرية الإسرائيلي بقوله لا توجد اتفاقات فما كان على المحافظ سوى القول أنه سينقل الرسالة إلى الرئيس عرفات، وذهب دون أن يرجع إليهم وعقب المحافظ أبو فراس على تلك المحادثة مع القادة العسكريين بقوله ان لديهم إصرارا على إذلال الفلسطينيين.

كان الإسرائيليون قد قطعوا الاتصال بمسئول الارتباط العسكري الفلسطيني العميد ربحي عرفات الذي تواجد أيضا داخل الحصار مع الرئيس عرفات، وكان مهمة العميد عرفات الاتصال والتنسيق مع الجانب الإسرائيلي في حال نشبت خلافات ومواجهات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، إلا أن الحكومة الإسرائيلية قررت ألغاء مهمة الارتباط العسكري بين الجانبين، وأعادت ما يسمى بالإدارة المدنية التي كان يعمل بها فترة الاحتلال الإسرائيلي الأولى منذ عام 1969.

الأمر الذي يؤكد أن إسرائيل ألغت عمليا السلطة الفلسطينية بأجهزتها التي أفرزتها اتفاقية أوسلو وبقية الاتفاقات المبرمة بين الجانبين.

وأصبحت تتعامل مع السلطة الفلسطينية بأنها سلطة خاضعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأن رموز السلطة الفلسطينية يجب من الآن فصاعدا أن تتعامل مع الأدوات الاحتلالية وليس تلك الأدوات والأجهزة التي أفرزتها الاتفاقات.

نصف الساعة التي خرج بها المحافظ مصطفى عيسى كانت تعني دهرا للبعض، فهي ستحدد ملامح المعركة القادمة... ومع عودة المحافظ ارتفعت حالة الاستنفار في صفوف الجميع.

يبدو أن عدم رد المحافظ على رسالة الإسرائيليين أغاظهم، فاقترب جنود الاحتلال إلى بوابات مقر الرئيس الداخلية بحماية الدبابات وبدأوا بطرق الأبواب المؤدية إلى مقر الرئيس عرفات عندها أيقن الجميع أن الاقتحام وشيك.

في هذه اللحظة ارتفع صوت الرئيس عرفات عاليا خلال اتصاله مع صائب عريقات بواسطة اللاسلكي طالبا منه سرعة التحرك واجراء الاتصالات مع الأطراف الدولية والعربية لابلاغهم بما يجرى على الأرض وما يمكن أن تشهده اللحظات القادمة من ارتكاب مجازر حقيقية، فأجاب صائب (ما أسمعت لو ناديت حيا، ولكن لا حياة لمن تنادى) فرد الرئيس هذه مؤامرة. أيضا كان على وسيلة الاتصال الأخرى أمين عام الرئاسة الطيب عبد الرحيم الذي طلب منه ذات الشيء. دقائق معدودة وهو يرد على أسئلة الطيب عبد الرحيم وعريقات ويقول هم أي الإسرائيليون يكذبون... يكذبون، ها هي محاولات الاقتحام تتكرر. أكدوا أي للأطراف الدولية والعربية أكدوا لهم الحقيقة بأن قوات الاحتلال تواصل بكل قواها اقتحام المقر.

كان وزير الحرب الإسرائيلي يتحدث مع الأطراف الدولية وحتى العربية أن قوات جيشه توقفت عن عمليات قصف المقر.

وبينما كان صوت الرئيس عرفات يرتفع كانت القلوب تزداد خفقانا، والشفاه تتمتم بآيات من الذكر الحكيم والشهادة لا تفارق شفاه الجميع.

في هذه الأجواء القاتمة كان البعض منا يهمس في أُذن الآخر عن سيناريوهات مختلفة لاقتحام المقر.. ويبدو أن مخيلة المحاصر تكون عادة أكثر تفتحا وتحملا من التخيلات التي لا حد أو مدى لها. لكن لحظة الموت بدأت بالاقتراب رويدا رويدا، تشعر بها وتتحسسها كما تتحسس أطرافك.

كنت أحسد أحد العاملين في نقليات الرئيس عرفات ويدعى محمد النمر الذي واجه أزمة الموت بنوم عميق طوال ثلاثة أيام متتالية، فلا دوي القذائف ولا أزيز الرصاص أيقظه، ولا تكدس المتواجدين داخل الغرفة... نعم أجزم أنه كان يمارس بوعي تام رياضة اليوغا التي تدخله عالمه الخاص.

هذا الوضع دفع بالمهندس باسل للقول يبدو أننا في يوم واحد دخلت عليه الفصول الأربعة مرة واحدة فالنيران المشتعلة التي أحدثتها القذائف المدفعية غيرت معالم المكان والزمان.

الثلاثة أيام الأولى من الحصار كانت قاسية بكل تفاصيلها، لكني حسمت أمري وتوكلت على الله العلي القدير بأن الشهادة هي مطلب كل مؤمن محتسب، هذا الشعور أدخل الطمأنينة لنفسي، ولم اعد بقذائف المدافع وأزيز الرصاص، ولكني تألمت كثيرا لوالدتي التي شعرت بألمها وحزنها، لكني كنت متأكدا أن صلواتها ودعاءها الدائمين ستحميني من بربرية الاحتلال.

كانت مشكلة جميع من في المقر وعددهم نحو (300) هي نفاد السجائر، كنت أحمل معي أربع علب وقت حضوري إلى المقر، وكان الشاب خالد الحلو يتبرع باستمرار بسجائره ولكن سرعان ما نفدت أيضا عشنا تجربة الحرمان مرة أخرى ليس فقط للسجائر وانما للطعام أيضا وتجددت آلام الأمعاء الخاوية.

فرح غير اعتيادي في مقر الرئاسة

تفاجأ جميع من في المقر بوجود تجمع كبير من الأجانب أمام البوابة الشرقية الخارجية للرئاسة، عصر اليوم الثالث للحصار.. وهم يرفعون اللافتات ويرددون الهتافات بصوت مرتفع حتى أن صداه وصل للرئيس عرفات، اطلق جنود الاحتلال النار فوق رؤوسهم في محاولة منهم لردعهم لكنهم لم يرتدعوا وواصلوا تقدمهم إلى أن باتوا قريبين من البوابة الداخلية التي كانت محصنة بالمتاريس، استعد حرس الرئيس لاستقبال هؤلاء الأجانب الذين جاؤوا على غفلة من أمرهم وفتحوا فسحة في التحصينات من أجل إتاحة المجال لمرورهم، وبالفعل قدموا إلى المقر وسط تصفيق حار وابتهاج من في داخل المقر، وعلى الفور صعد جميعهم إلى داخل غرفة الرئيس عرفات الذي استقبلهم بحفاوة، وأكد لهم أن خطوتهم هذه تعبير عن الضمير الحي للذين يرفضون همجية الاحتلال الإسرائيلي التي تمارس أبشع الأساليب ضد الفلسطينيين ومن أعمال قتل وتدمير ومجازر مماثلة لصبرا وشاتيلا.

كان وفد الأجانب الذين تمكنوا من دخول مقر الرئيس المحاصر ينضم إلى لجنة الحماية الشعبية الدولية ويتشكل من عدة جنسيات، وأيضا من عرب جزائريين ومغاربة يحملون جنسيات فرنسية.

مسئولة الوفد كانت كلوديا لويوستيك فرنسية الجنسية، تعمل مدرسة للغة الفرنسية في نابلس.
قالت لـ(الوطن) لحظة سماعي لما يجري في رام الله والبيرة المحاصرتين وامكانية ارتكاب مجزرة حقيقية إذا ما حاولت قوات الاحتلال اقتحام مقر الرئيس عرفات قررت التوجه إلى رام الله بأي ثمن.
قالت كلوديا ان أعضاء الوفد يحملون قناعات بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون هو مجرم حرب قديم، ويريد تدمير الشعب الفلسطيني، واتفق أعضاء الوفد مع كلوديا بأن لا سلام مع شارون وحكومته.

يعتقد أعضاء الوفد أن الصمود الفلسطيني يعزز من صمودهم في دائرة الصراع الجاري حاليا ضد العولمة، والتي تريد الولايات المتحدة الأميركية من خلال العولمة إحكام سيطرتها على العالم. وأكدت كلوديا أن الفلسطينيين ومعهم الوفد المتضامن سيكسبون الحرب، وأن الاسرائيليين هم الخاسرون في النهاية. وقاطعت الحديث الدائر نتايا غولان يهودية تحمل الجنسية الكندية ومتزوجة من فلسطيني من نابلس، وقالت لشبكة فلسطين الاخبارية أريد أن يعيش أولادي بسلام، ولكن في ظل اختلال المفاهيم والكيل بمكيالين من قبل الولايات المتحدة الأميركية، أشك أن يستطيع أولادي أن يعيشوا بسلام بسلام في وطنهم... شارون وبوش ينظران للدم اليهودي بأنه دم ثمين، أما الدم الفلسطيني فما زال رخيصا وفق معتقدهما.

رفض أعضاء الوفد الأجنبي الأربعون أن يعاملوا كضيوف مميزين لدى المحاصرين، بل تطوعوا لكل الأعمال الروتينية التي يقوم بها الحرس من أعمال نظافة وغيرها حتى أن بعض المتطوعات مثل كلوديا قامت بمحاولة طبخ ما تبقى من وجبات .لقد جلبوا معهم بعض علب الحلوى وقاموا بتوزيعها على المقاتلين، وفي ساعات الليل يتوزع أعضاء الوفد على جميع غرف الرئاسة لجعل أنفسهم دروعا بشرية أمام هجمات قوات الاحتلال المحتملة.

جوليا الألمانية كانت فتاة تكره العنف بجميع أشكاله، ومن أنشط أعضاء الوفد، كنا نشاهدها وهي تمزق قميصها لتضميد جراح أحد المصابين، كانوا كخلية نحل، فهذا البروفيسور جرار ابن الستين يواصل ليله بنهار في كتابة التقارير التي تكشف نازية الاحتلال، ولم يكل من كتابة الفظائع الإسرائيلية طوال أيام الحصار رغم الاعياء الذي بدا على جسده النحيل المرهق.

وللأسف الشديد لم يمض على المغربي محمد بن بركة والذي يحمل الجنسية المغربية سوى يومين حتى علم من القنصلية الفرنسية بموت والده، كان مشهدا مؤثرا عندما اصطف الحرس وقاموا بتقديم واجب العزاء له. لم يطلب من القنصلية الفرنسية ان تخرجه من مقر الرئيس المحاصر بل فضل البقاء مع الرئيس عرفات رغم فاجعته بموت والده.

رغم الحزن في الوفد الأجنبي كان هناك مناسبة سعيدة لأحدهم، حيث احتفل نيكلسون بول 55 ـ من اقليم الباسك في أسبانيا ـ بعيد ميلاده في إحدى غرف الرئاسة، وكان سعيدا بحفلة عيد الميلاد المتواضعة، وكمفاجأة لضيوف الحفل حمل صينية صغيرة تحتوي على بعض قطع الحلاوة والبندورة بديلا عن قطع الكيك. وأشعل شمعة ثم اطفأها مع تمنيات الجميع بعيد ميلاد سعيد، وكان مشهدا مؤثرا عندما قام العميد توفيق الطيراوي مدير المخابرات العامة في الضفة الغربية بإهداء بول ميدالية بيت لحم (2000) والعلم الفلسطيني، وبعد ذلك تناولوا الصور التذكارية لهذا الحفل الغريب.


عاشق البندقيه 25 - 4 - 2011 08:47 AM

فرح غير اعتيادي في مقر الرئاسة

تفاجأ جميع من في المقر بوجود تجمع كبير من الأجانب أمام البوابة الشرقية الخارجية للرئاسة، عصر اليوم الثالث للحصار.. وهم يرفعون اللافتات ويرددون الهتافات بصوت مرتفع حتى أن صداه وصل للرئيس عرفات، اطلق جنود الاحتلال النار فوق رؤوسهم في محاولة منهم لردعهم لكنهم لم يرتدعوا وواصلوا تقدمهم إلى أن باتوا قريبين من البوابة الداخلية التي كانت محصنة بالمتاريس، استعد حرس الرئيس لاستقبال هؤلاء الأجانب الذين جاؤوا على غفلة من أمرهم وفتحوا فسحة في التحصينات من أجل إتاحة المجال لمرورهم، وبالفعل قدموا إلى المقر وسط تصفيق حار وابتهاج من في داخل المقر، وعلى الفور صعد جميعهم إلى داخل غرفة الرئيس عرفات الذي استقبلهم بحفاوة، وأكد لهم أن خطوتهم هذه تعبير عن الضمير الحي للذين يرفضون همجية الاحتلال الإسرائيلي التي تمارس أبشع الأساليب ضد الفلسطينيين ومن أعمال قتل وتدمير ومجازر مماثلة لصبرا وشاتيلا.

كان وفد الأجانب الذين تمكنوا من دخول مقر الرئيس المحاصر ينضم إلى لجنة الحماية الشعبية الدولية ويتشكل من عدة جنسيات، وأيضا من عرب جزائريين ومغاربة يحملون جنسيات فرنسية.

مسئولة الوفد كانت كلوديا لويوستيك فرنسية الجنسية، تعمل مدرسة للغة الفرنسية في نابلس.
قالت لـ(الوطن) لحظة سماعي لما يجري في رام الله والبيرة المحاصرتين وامكانية ارتكاب مجزرة حقيقية إذا ما حاولت قوات الاحتلال اقتحام مقر الرئيس عرفات قررت التوجه إلى رام الله بأي ثمن.
قالت كلوديا ان أعضاء الوفد يحملون قناعات بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون هو مجرم حرب قديم، ويريد تدمير الشعب الفلسطيني، واتفق أعضاء الوفد مع كلوديا بأن لا سلام مع شارون وحكومته.

يعتقد أعضاء الوفد أن الصمود الفلسطيني يعزز من صمودهم في دائرة الصراع الجاري حاليا ضد العولمة، والتي تريد الولايات المتحدة الأميركية من خلال العولمة إحكام سيطرتها على العالم. وأكدت كلوديا أن الفلسطينيين ومعهم الوفد المتضامن سيكسبون الحرب، وأن الاسرائيليين هم الخاسرون في النهاية. وقاطعت الحديث الدائر نتايا غولان يهودية تحمل الجنسية الكندية ومتزوجة من فلسطيني من نابلس، وقالت لشبكة فلسطين الاخبارية أريد أن يعيش أولادي بسلام، ولكن في ظل اختلال المفاهيم والكيل بمكيالين من قبل الولايات المتحدة الأميركية، أشك أن يستطيع أولادي أن يعيشوا بسلام بسلام في وطنهم... شارون وبوش ينظران للدم اليهودي بأنه دم ثمين، أما الدم الفلسطيني فما زال رخيصا وفق معتقدهما.

رفض أعضاء الوفد الأجنبي الأربعون أن يعاملوا كضيوف مميزين لدى المحاصرين، بل تطوعوا لكل الأعمال الروتينية التي يقوم بها الحرس من أعمال نظافة وغيرها حتى أن بعض المتطوعات مثل كلوديا قامت بمحاولة طبخ ما تبقى من وجبات .لقد جلبوا معهم بعض علب الحلوى وقاموا بتوزيعها على المقاتلين، وفي ساعات الليل يتوزع أعضاء الوفد على جميع غرف الرئاسة لجعل أنفسهم دروعا بشرية أمام هجمات قوات الاحتلال المحتملة.


عاشق البندقيه 25 - 4 - 2011 08:48 AM

جوليا الألمانية كانت فتاة تكره العنف بجميع أشكاله، ومن أنشط أعضاء الوفد، كنا نشاهدها وهي تمزق قميصها لتضميد جراح أحد المصابين، كانوا كخلية نحل، فهذا البروفيسور جرار ابن الستين يواصل ليله بنهار في كتابة التقارير التي تكشف نازية الاحتلال، ولم يكل من كتابة الفظائع الإسرائيلية طوال أيام الحصار رغم الاعياء الذي بدا على جسده النحيل المرهق.

وللأسف الشديد لم يمض على المغربي محمد بن بركة والذي يحمل الجنسية المغربية سوى يومين حتى علم من القنصلية الفرنسية بموت والده، كان مشهدا مؤثرا عندما اصطف الحرس وقاموا بتقديم واجب العزاء له. لم يطلب من القنصلية الفرنسية ان تخرجه من مقر الرئيس المحاصر بل فضل البقاء مع الرئيس عرفات رغم فاجعته بموت والده.

رغم الحزن في الوفد الأجنبي كان هناك مناسبة سعيدة لأحدهم، حيث احتفل نيكلسون بول 55 ـ من اقليم الباسك في أسبانيا ـ بعيد ميلاده في إحدى غرف الرئاسة، وكان سعيدا بحفلة عيد الميلاد المتواضعة، وكمفاجأة لضيوف الحفل حمل صينية صغيرة تحتوي على بعض قطع الحلاوة والبندورة بديلا عن قطع الكيك. وأشعل شمعة ثم اطفأها مع تمنيات الجميع بعيد ميلاد سعيد، وكان مشهدا مؤثرا عندما قام العميد توفيق الطيراوي مدير المخابرات العامة في الضفة الغربية بإهداء بول ميدالية بيت لحم (2000) والعلم الفلسطيني، وبعد ذلك تناولوا الصور التذكارية لهذا الحفل الغريب



عاشق البندقيه 25 - 4 - 2011 08:49 AM

الحلقة الثالثة

عانى المحاصرون أوضاعا صعبة جراء النقص الشديد في الماء والغذاء في اليوم الرابع للحصار، ورفضت قوات الاحتلال السماح لسيارات الصليب الأحمر بإدخال مواد التموين وعبوات المياه .

ومنذ اليوم الأول من الحصار تم تدمير شبكة المياه والاستيلاء على مستودعات التموين والتي كانت قد تم تخزين الطعام فيها قبل يوم واحد من الحصار .

واكتفى جميع المحاصرين على رشفات قليلة من المياه وعلى كسرات الخبز الجافة وقطعة صغيرة من الجبنة الصفراء.

شعر الرئيس عرفات بمدى العطش والجوع الذي ألم بالمحاصرين ، فبدأ يكثف من لقاءاته مع الحرس والمحاصرين لحثهم على التحمل والصبر .ولتفويت الفرصة على قوات الاحتلال وإغاظتهم بهذا الصمود .

بدأ محافظ رام الله والبيرة مصطفى عيسى أبو فراس يكثف اتصالاته عبر الأجهزة المتوفرة من اللاسلكي والهواتف الإسرائيلية الاتصال بالصليب الأحمر لإدخال التموين للمحاصرين والدعوة إلى إصلاح شبكة المياه المدمرة .ولكن هذه الاتصالات لم تثمر بعد ... والجميع ينتظر . وبات الوصول إلى رشفة الماء منالا صعبا ، وان توفرت للبعض فـانهم يمتنعون عن تناولها لإتاحة الفرصة لمن هو بحاجة لتلك الرشفة أكثر ليطفئ ظمأه .

في هذه الأجواء الصعبة بدأت أيضا تواجه المحاصرين مشكلة جدية وهي امكانية تفشى الأمراض خاصة في ظل تراكم القاذورات والأوساخ والروائح غير الصحية التي أخذت تظهر في الحمامات الرئاسية لكثرة العدد الموجود . الأمر الذي أثار رعبا حقيقيا بين المحاصرين .

وأكد الطبيب عمر دقة الطبيب الخاص للرئيس عرفات أن عدم وصول المياه للمقر في هذه اللحظات يعني تفشى الوباء والأمراض ، خاصة أن بعض المحاصرين أصيبوا بحالات إسهال شديد، عدا عن حالات القمل ، وكانت هناك خشية من أن تصل الأمور للإصابة بالقمل والكوليرا.

ولم تقتصر المعاناة على النظافة لعدم وجود المياه بل ومن قلة الأدوية خاصة تلك المضادة لمرض الكزاز ، وتزداد هذه الخشية في وجود عدد كبير من المصابين داخل مقر الرئاسة لم يتم نقلهم إلى المستشفيات خشية من أن تخطفهم قوات الاحتلال كما فعلت مع المصاب أسامة الياسيني الذي فقد إحدى عينيه ومع ذلك ورغم آلامه اقتادته إلى السجن بدلا من المستشفى .

أمام هذه الأوضاع الصعبة قرر عدد من المغاوير خوض مغامرة خطيرة بكل مقاييسها ، فقد تسللوا من الطابق الثالث من جناح قاعة المؤتمرات إلى الطابق الأول ، وفتحوا إحدى النوافذ المطلة على أحد المستودعات التي تسيطر عليها قوات الاحتلال ، ورغم الاحتمال الكبير من قوع المجابهة مع قوات الاحتلال أو الوقوع في كمائنهم ، فقد أصروا على إحضار عبوات المياه من المستودع بعد ان تأكدوا من مدير مكتب الرئيس عماد النحاس من مكان وجودها ، وفعلا تقدموا باتجاه المستودع بخفة ورشاقة ومارسوا التضليل للوصول للموقع ، وبعد أقل من عشر دقائق كانوا يحملون عبوات المياه ويدخلونها من النوافذ . شعروا بنصرهم الذي حققوه وارتاح جميع المحاصرين ، وأصر الجميع أن تكون رشفات المياه الاولى هي من نصيب هؤلاء المغاوير. مغامرة كادت ان تؤدى بحياتهم ، لكنها كانت تستحق فقد بلغ العطش أشده .



عاشق البندقيه 25 - 4 - 2011 08:50 AM

صاروخ لاو داخل غرفة مجلس الوزراء

لأول مرة أشعر بخوف حقيقي في الحصار ، فقد صعدت إلى الطابق الثالث بعد أن بدأت أشعر بضيق التنفس في الطابق الثاني لكثرة التحصينات التي أدخلت عليه ولإغلاق جميع المنافذ التي تتيح بإدخال الأكسجين ، صعدت لأتنفس رغم خطورة ذلك ، وبينما كنت أسير في الممر الذي يؤدي إلى مكتب الرئيس عرفات وقاعة مجلس الوزراء كان يجلس في الممر العقيد محمود ضمره أبو عوض مسئول قوات امن الرئاسة الـ(17) الذي تبادلت معه أطراف الحديث وعزمني على فنجان قهوة وهي تعتبر في هذه الظروف عزيمة ملوكية ، وبينما كنا نتحدث فإذا بانفجار ضخم يقع بداخل قاعة مجلس الوزراء مصدره صاروخ لاو محمول من جندي إسرائيلي ، حملني انفجار الصاروخ مع الكرسي الذي كنت جالسا عليه وأنا ممسك بفنجان القهوة ، لم أصب بأذى فقد حماني الجدار الذي كنت أستند عليه ، وأصيب أربعة من قوات أمن الرئاسة كانوا يتواجدون داخل القاعة بجروح بليغة .

كان قصف قاعة مجلس الوزراء ردا مقصودا على قوات أمن الرئاسة الـ(17) التي ترابط في هذه المنطقة من مقر الرئيس ، والتي خاضت معركة عنيفة مع قوات الاحتلال بقيادة أبو عوض تمكنت فيها من استعادة مقر المحافظة والذي احتل بعد رابع محاولة اقتحام من قبل قوات الاحتلال .

اعتبر العقيد أبو عوض احتلال مقر المحافظة خطوة خطيرة يجب الرد عليها ، وبدأت المعركة صباح اليوم التاسع للحصار عندما دهمت مجموعة من المغاوير الباب الفاصل بين المحافظة ومقر الرئيس وسط إطلاق كثيف للنيران وإلقاء عبوات ناسفة شديدة الانفجار . وفي أقل من دقيقة استطاعت مجموعة المغاوير من التسلل عبر البوابة التي احترقت كليا ، وواصلت إطلاقها النار على جنود الاحتلال الذين تقهقروا وبدأوا بالنزول إلى درج المحافظة في هذه اللحظة ألقى المغاوير عددا من القنابل الناسفة على جنود الاحتلال مما أوقع خسائر حقيقية بين قتلى ومصابين لم تعترف بها قوات الاحتلال . قام المغاوير بتمشيط المنطقة واستولوا على جميع مقر المحافظة .

لم يكتف الشبل يوسف من قوات أمن الرئاسة بتواجده داخل مقر المحافظة ، بل أراد الوصول إلى ما هو أبعد من ذلك ، فدخل في الثغرة التي فتحتها قوات الاحتلال عبر الحائط الفاصل بين المحافظة ومقر قوات الأمن الوطني ، واصطدم خلال تسلله بجنود الاحتلال الذين أطلقوا عليه القذائف المحمولة ، وكانت ردة فعله بأن بادر بفتح وابلا من الرصاص وهو مختف وراء الأبواب مما أدى إلى جرح عدد منهم بجروح . ورجع الشبل يوسف فرحا لقيامه بهذه المغامرة القاسية .
كان عدد من المغاوير مهتمين بعد تحرير مقر المحافظة بجمع مواد التموين التي كانت تتواجد في المقر وهي عبارة عن ثلاثة من أكياس الأرز وبعض عبوات المياه وبعض الأغطية والمرطبات ، فكانت هناك فرحتان الأولى بالسيطرة على المحافظة ، والثانية بما حصلوا عليه من تموين .

بعد المعركة عدت إلى ذات المكان في الممر بين قاعة مجلس الوزراء وغرفة الرئيس عرفات ، وجلست مرة أخرى بجانب العقيد أبو عوض وهو المطلوب بشدة لقوات الاحتلال ، نعم كان قائدا للمعركة ، وصلبا في تحديه لقوات الاحتلال ، تحدى الحصار وأخترق التحصينات التي أقامتها قوات الاحتلال ، وأطلق قذائف (البى سفن)، وشكل رأس حربة في معركة الوجود الفلسطيني في مقر الرئاسة ، أحبه المقاتلون وجعلوه قدوتهم ، وحاولوا تعلم عدم رهبة الموت والاقدام عليه بابتسامة... ببساطة أرادوا تشرب مسلكياته البطولية.. فهذا القائد ينام مع مقاتليه ويأكل معهم .. ويقوم بواجب الحراسة كأي جندي عادي ، لا يتذمر ولا يعرف سوى الاقدام .

لقد اختير أبو عوض لأن يكون داخل مقر الرئاسة وليس خارجه ، مع ان إمكانياته في الخارج توفر له فرصة ليكون أشد انقضاضا على قوات الاحتلال ومع ذلك بقي مقاتلا عنيدا .

قال أبو عوض لـ(الوطن) وهو ينفث سيجارته ، حاولت قوات الاحتلال اقتحام المقر عدة مرات ، لكنهم لم ينجحوا أمام التصدي البطولي لقواتنا ، وكانت تدور المعارك الشرسة من غرفة إلى غرفة .
بادرته بالسؤال عن سبب إسناد المهام الخطرة في حماية مقر الرئيس لقوات أمن الرئاسة الـ(17) ، قال أبو عوض قوات الـ(17) هي القوة التنفيذية لحماية الرئيس عرفات ، ورجالها مدربون ومتمرسون في القتال .

وتابع أبو عوض قوله نحن جاهزون للقتال ، فاما أن نكون شهداء أو أحرارا ( النار ولا العار ) . وبرر أبو عوض سرعة وصول دبابات الاحتلال إلى مقر الرئاسة بتأكيده أن الحملة العسكرية الإسرائيلية لم يسبق لها مثيل ، حيث اقتحمت رام الله والبيرة أكثر من (500) دبابة . ولم تكن لدى القوات الفلسطينية أسلحة ثقيلة تواجه هذا الكم من الدبابات .

ومع ذلك أوضح أبو عوض أن إسرائيل ستكون مهددة في عمقها إذا ما حاولوا المس بحياة الرئيس ياسر عرفات .

العقيد أبو عوض الذي كان يمضى ليله متنقلا من سيارة إلى أخرى خشية من قيام مروحيات الأباتشي من اغتياله ، أوقف ترحاله القسري وبدا أكثر راحة ببقائه محاصرا.



عاشق البندقيه 25 - 4 - 2011 08:51 AM

الحلقة الرابعة:

كان النقيب سعيد اللحام المسئول عن أمن احدى القاعات التي يتواجد بها المحاصرون، يحاول جاهدا توزيع بعض كميات الطعام القليلة التي تأتي كمخصص للقاعة، ومهما كان عادلا في التوزيع فان الكميات القليلة تجعله يخوض صراعا مريرا في جعل الجميع قانعين بعدالة توزيعه.

وجبة أو وجبتان توزع على المحاصرين من معلبات أو قطعة جبن صفراء لكي تكون كافية لصمود المحاصر.

دفع الجوع الذي يحس به المحاصر للحديث عن الموائد العامرة وعن صيد الغزلان مثلما كان يفعل باصر عبد اللطيف في دير السودان (قرية غرب رام الله).

الضجة التي تحدثها عملية التوزيع سرعان ما تنتهي عند أول استنفار يطلبه مسئول الأمن في مقر الرئاسة والذي يأتي عادة عقب أي تحرك لقوات الاحتلال الإسرائيلي في مقر الرئاسة.

ويقطع الصمت العقيد جهاد الغول أحد مسئولي أمن الرئيس عرفات ليسأل عن نظارة طبية.. العقيد الغول عادة ما يتجول في قاعات مقر الرئيس عرفات ليطلع على الأوضاع عن كثب وليتحقق من سير الحراسة، وتحركات قوات الاحتلال، فيما إذا كانت هذه التحركات تستحق إعلان استنفار أم لا.
للعقيد الغول حكايات قد يكون بعضها خياليا إلا أنها تعكس ما يواجهه الفلسطيني في ثورته وشتاته.
كان العقيد الغول مع الرئيس عرفات في حصاره في بيروت وطرابلس، وكان معه عندما سقطت طائرته في الصحراء الليبية في 7/4/1992، وكان من بين الذين كتبت لهم حياة جديدة.
يتحدث مع هذا المقاتل أو ذاك عن الجاهزية والاستعداد.

آه من الوجع والألم والقهر، أراه غير قادر على تحريك جسده المنهك والهزل.. يتألم بشدة عندما تداهمه نوبة ألم جديدة.. يرتفع صوته الضعيف طالبا من الله أن يترفق به ويريحه من عذابه. رجوته أن لا يفعل ذلك، خالد أبو شاويش المقعد حاليا جراء اصابته بتسع رصاصات من عيار (250) في ظهره وبطنه ويده. كان أبو شاويش (30 عاما) قد اشتبك مع قوات الاحتلال الإسرائيلي عند توغلها في رام الله في شهر (10) من العام الماضي، حيث اشتبك مع هذه القوات في محيط مستشفى خالد بمنطقة الإرسال في رام الله.

توغل خالد خلف خطوط العدو إلا أن دبابتين حاصرته وأطلقت النار عليه بغزارة وذلك عندما شخصته بأن الموجود في المكان هو خالد أبو شاويش المطلوب حيا أو ميتا لقوات الاحتلال.

فتحت هذه القوات النار بغزارة عليه، وظنت أنه استشهد، وللمفارقة الغريبة أن من قام بإنقاذه هي الفدائية وفاء الإدريسي، والتي كانت تزوره فيما بعد في المستشفى وهي تحمل بطاقات الزهور.
أخضع خالد لسلسلة من العمليات الجراحية المعقدة جراء اصابته الخطيرة، ومع ذلك بقي مقعدا.
ُحمل خالد على عجل إلى مقر الرئيس، خوفا من قيام قوات الاحتلال من اختطافه من داخل مستشفى الرعاية الطبية الذي كان يرقد بداخله، وبالفعل علمنا أن قوات الاحتلال اقتحمت المستشفى بعد ساعة واحدة من اجتياحها لرام الله.

كان رئيس أركان جيش الاحتلال شاؤول موفاز أطلق عليه لقب (رامبو فلسطين) بسبب البندقية التي يحملها والتي مصدرها إسرائيلي وهي من طراز (أم 18) والتي تستطيع إطلاق قذائف الأنيرجا، وكانت قوات الاحتلال وأجهزة أمنها تتهمه بأنه كان يعمل ضمن خلية تقود كتائب شهداء الأقصى الجناح العسكرى لفتح، وتتكون هذه الخلية المسئولة من قائدها الشهيد أحمد غندور والذي استشهد خلال عملية اغتيال وتصفية تعرض لها في ظروف ما زالت غامضة، والشهيد مهند حلاوة والذي استشهد خلال قصف مروحيات الأباتشي لسيارته التي كان يقودها يوم 8/2/ 2002 وسط رام الله.

وخالد الذي تعرض أيضا لمحاولتي اغتيال وتصفية، وكانت الأولى في جنين خلال مطاردة مروحيات الأباتشي له، أما المحاولة الثانية له فكانت خلال اطلاق صاروخ أرض ـ أرض من مستعمرة بساجوت باتجاه سيارة كان يستقلها مع الشهيد مهند أبو حلاوة وسط مدينة البيرة.ونجا فيها أبو شاويش، فيما أصيب أبو حلوة بجروح وحروق.

أطلق الإسرائيليون على خليتهم بأنها الخلية الأخطر لأنها تتجول في المدن الفلسطينية وتتميز بالجراءة الفائقة والعمل المتقن.

خالد يفتح دفتر يومياته.. ويبتسم.. فهو لا يجد من العناوين المدونة فيها إلا أسماء الشهداء.. وبقي هو بانتظار الموت القادم الذي يعرف موعده ولا مكانه.. فهل سيكون لقاؤه مع ربه في مقر الرئيس عرفات هذه الليلة أو غدا.. هو لا يعرف ولا أحد منا يعرف أيضا متى سيكون موعده مع الموت.
عمل خالد في سجن جنيد في نابلس، وبدلا من يكون سجانا لرفاق السلاح من حركتي الجهاد الاسلامي وحماس متن علاقاته معهم وخلق تعاونا جهاديا مع الشهداء إياد الحردان ومحمد بشارات، وأنور حمران، وابراهيم بني عودة.

وكانت قوات الاحتلال في حينها اتهمت الشاويش وقوات أمن الرئاسة الـ(17) بأنهم ينسجون العلاقات مع حركتي الجهاد الإسلامي وحماس ويفتحون قنوات اتصال مع الأجنحة العسكرية للحركتين واستخدام قادتهم في العمليات العسكرية الجهادية.

يغمض عينيه وهو مستلق على فرشة بسيطة وكأنه يغوص إلى داخلها يستعرض شريط ذكرياته الحافلة بالمغامرات البطولية والمعاناة، لكن نوبات الألم المتلاحقة تخرجه من صفاء ذهنه المتوقد ليرجع مجددا لألمه المبرح.

ذات ليلة وعندما كان الرئيس عرفات يتفقد غرف الرئاسة كان خالد نائما، فانحنى الرئيس بجسده إلى خالد ليطبع قبلة على جبينه، واستدعى الأطباء ليطمئن على وضعه الصحي.

خالد حتى مع اصابته وشلله كان يمارس دوره القيادي في كتائب شهداء الأقصى، كانت دارين أبو حجلة وقت ما فجرت العبوة الناسفة على جسدها عند الحاجز العسكري المقام بالقرب من مستعمرة مودعين على الهاتف الخلوي مع خالد، قالت له لقد تجمع أكثر من عشرة جنود عند السيارة الفرصة مؤاتية، ولم يسمع بعدها سوى صوت الانفجار.

مشاريع الشهداء كانوا بجانبه يعتنون به ويخففون عنه ألمه الدائم.

أزحت وجهي قليلا لأرى قصة أخرى تروى ذات البطولة والفداء في رجال وصبية ينتظرون لقاء ربهم وهم شامخو الرؤوس.



الساعة الآن 04:45 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى