منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   النقد الأدبي والفني (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=107)
-   -   اعترافات الروائي الأردني الراحل مؤنس الرزاز (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=11574)

المُنـى 11 - 11 - 2010 02:55 AM

اعترافات الروائي الأردني الراحل مؤنس الرزاز
 
اعترافات الروائي الأردني الراحل مؤنس الرزاز


هيا صالح


يحيل مصطلح "السيرة الجوانية" الذي اتخذه الروائي الأردني الراحل مؤنس الرزاز عنواناً لسلسلة من نصوصه التي نشرتها مجلة "أفكار" التي تصدرها وزارة الثقافة الأردنية، خلال العام الأخير قبل رحيله، إلى الكشف عن بواطن الذات، وأغوارها السحيقة، بكل ما فيها من أحلام وأخيلة وكوابيس وهذيانات ومشاعر، وما يعتري الضمير من إحساس بالذنب تجاه أخطاء وخطايا ارتكبت في لحظات ضعف إنسانية، بما يجعل من "السيرة الجوانية" أقرب إلى البوح الصريح، والاعتراف والمكاشفة، من "السيرة" التي تركز غالباً على الأحداث والأوصاف خارج الذات، دون الإبحار في تيارها الصاخب، بمعنى أن الذات من الداخل في "السيرة الجوانية" هي متن، وما تبقى هامش، فيما الأمر في "السيرة" العادية على العكس من ذلك.
ولعل هذا الفرق الذي كان يعيه الرزاز هو الذي دفعه إلى كتابة "السيرة الجوانية" بما تنطوي عليه من مكاشفة جريئة بغية تطهير روحه مما علق بها من شوائب الدنيا، وهو يقول في سيرته الجوانية: "إلى أرسطو الذي ربط بين الإبداع والتطهير، أقرّ أن كتابة الاعترافات سلاح خطير، قادر على (تطهير) النفس والروح، وأعترف أنني لجأت إلى هذا السلاح عندما أدركت أن البحر من ورائي، وأتون المرائر من أمامي. أيامي تمر من تحتي مع سفن البردى، نحو مصيدة اليأس، كأنني (النسر الذي ينقض إلى قنصه) ومن فوقي سماء تسقط على رأسي كالصاعقة".
ويبدو واضحاً أن مؤنساً أخلص للسيرة الجوانية، مثلما أخلص للرواية، محافظاً على خصوصية كلٍّ منهما، رغم ما أقامه من اشتباك ومزج بينهما يجعل من رواياته سرداً لسيرتيه الذاتية والجوانية في آن، ويجعل من سيرتيه معاً رواية، إذا ما عيد النظر في بعض المواقع، وإجراء تعديلات وتشذيبات بسيطة على سيرته الجوانية، فقد كان مؤنس يكتب روايته مستعيناً بكم هائل من التفاصيل الواقعية، والأحداث التي مرت به، والشخصيات التي عرفها في محيطه، فضلاً عن أحلامه وكوابيسه ورؤاه في اليقظة التي تحضر في رواياته من دون أن يكون هناك سياق أو ترابط منطقي يجمعها، وكل ذلك حاضر أيضاً في اعترافاته أو "سيرته الجوانية" التي كان يكتبها مستثمراً عناصر الرواية المختلفة من أحداث، وشخوص، وتلاعب بالزمن، وفانتازيا، وسخرية سوداء، وهو يعترف بذلك في سيرته الجوانية، فيقول: "أين اختفت سخريتي السوداء التي عرفتها رواياتي، ألجأ إليها في كتابة اعترافاتي، فلا أعثر إلا على سراب تحته رمال وتراب".
وكأن الرزاز في سيرته الجوانية كان يكتب روايته الأخيرة، متخففاً من عبء ظَلَّ يقض مضجعه طوال حياته التي عاشها بوصفها رواية هي الأخرى، سطرتها الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية، لذلك ظهرت رواياته وكأنها صدى لحياة حافلة بالفانتازيا والعجائب.
لقد عاش مؤنس في كنف أسرة لم تعرف راحة البال، وظلت دائمة التنقل والترحال، وكان والده الدكتور منيف الرزاز مثقفاً وحزبياً (ثورياً)، زجّ بسبب مبادئه في أكثر من معتقل، وفُرضت عليه وعلى أسرته الإقامة الجبرية، وعانى من المطاردات والملاحقات التي كانت تستهدف حياته، وتزلزل السكينة والأمن في أسرته، ولذلك كان من الطبيعي أن تشكل هذه الظروف والأحداث جزءاً لا يستهان به من وعي مؤنس تجاه الحياة، وموقفه منها، والذي قاده فيما بعد إلى النظر إليها، لما فيها من مفارقات ولا عادية، بوصفها رواية، مثلما نظر للرواية بوصفها حياة.
فقد كشف الرزاز في سيرته الجوانية عن سمات موجودة في شخصيته تشبه، إلى حد كبير، تلك التي نلحظها في أبطال رواياته، فهم متقلبو المزاج، شديدو التوتر، ويبحثون دائماً عن الخلاص، وعن الحرية والعدالة الإنسانية، لكنهم يمنون بالهزائم والانكسارات لأسباب تتعلق بظروف سياسية تنعكس تأثيراتها على سيكولوجيتهم حيناً، ولأسباب اجتماعية ونفسية وثقافية حيناً آخر.
وكان أبطال مؤنس في رواياته شخصيات ذات تركيبة معقدة فيها "خير" يرتقي بها إلى مصاف القديسين، وفيها "شرّ" يهبط بها إلى الحضيض، فتبدو شياطين أو وحوشاً كاسرة، ولم يكن أمام مؤنس سوى أن يقبل هذا كله: تناقضه حين يجمع بين القديس والشيطان معاً، وفي آن، وربما عن رضا وطيب خاطر، وهو ما تكشفه سيرته الجوانية: "أنا رهيف شفيف حساس، وثائر متمرد يتمتع بحب أصدقائه، هذا الكيان كله مؤنس، الوحش والقديس، القرصان والفيلسوف، الغرائزي والمثالي، البطل والمشوّه، عليّ أن أتعلم قبولي كما أنا: إعاقاتي، وهباتي".
ويمكن للقارئ أن يتلمس جوانب من حياة مؤنس تكشف عنها سيرته الجوانية، تتقاطع مع شخصية "مختار" في رواية (حين تستيقظ الأحلام)، فاسم "مختار" يرمز إلى الاصطفاء، ويشي بأن صاحبه يحمل رسالة، أو خصوصية ما، أو قدرات تفوق قدرات الآخرين، وهو ما يؤكده مؤنس في سيرته الجوّانية: "وأتفكر اليوم في أواخر العام 2001، ترى لماذا قاومت أمراضي هذه المقاومة المستميتة؟ لماذا رفضت مغايرتي للأكثرية العادية، ومباينتي للغالبية السوية، ومفارقتي للتيار الطبيعي؟ لماذا تواطأت مع مؤسسات الانضباط في المجتمع.. ضد اختلافي وانزياحي؟ لماذا لم أقبلني كما خلقني الله؟ فأنا لست مجرد سكير ملتاث بالكآبة ومفتقد للتأقلم مع الدنيا. أنا بالإضافة إلى ما سبق، موهوب باركني الله بهبة الإبداع والخلق".
و"مختار" بطل الرواية، ينكب على قراءة الأدب -خصوصاً العالمي منه- بنهم، لأنه يتقن اللغة الإنجليزية جيداً (وكذا كان مؤنس)، و"مختار" يتنقّل بين صفحات الكتاب الذي يقرؤه ويعيش أحداثه كما لو كان أحد أبطاله (وهذا ما عُرِفَ عن مؤنس أيضاً).
وثمة نموذج آخر يتقاطع فيه الرزاز مع أبطاله هو نموذج "جمعة القفاري" في رواية (يوميات نكرة)، فمعاناة البطل بسبب انقطاع تواصله مع الآخرين، تدفعه إلى كتابة الروايات، فيكتب (مغامرات النعمان في عمان) التي يعيد فيها "القفاري" إنتاج شخصيته نفسها، مستثمراً ما يرمز إليه اسمه من قحط وجدب.
وحين تستبد العزلة والوحشة بـ"القفاري" يقرر الاعتكاف والزهد في متع الحياة، ويختار طريق التصوف، وهو الطريق الذي سلكه مؤنس في فترة من فترات حياته، يصفها في سيرته الجوانية، قائلاً: "كنت مع متصوفين راسخين، ومتصوفين ساذجين طيبين في بيت مجاور لدار القرآن في حي نزال، إنها جلسة الذكر الثانية، النور شحيح ذابل، والشيخ أمامنا، ونحن نسخّن: الله.. الله.. الله. تسربت من عيني دمعة حسبتها شاردة ضالة وحيدة خارج السرب، فإذا الدمعة تتقمص غيمة بكاء، وإذا الغيمة تتكاثر وتتوالد، بعلها برق رجاء، وذراريها جماهير مطر مالح يهدم السد الفاصل بين عالمي الجواني والخارجي".
ومثلما كان مؤنس حاضراً كبطل في رواياته، حضرت كذلك شخصيات عرفها، وعاش معها وعايشها من قرب كأبطال في الروايات، ففي رواية (اعترافات كاتم صوت) جسّد البطل شخصية الدكتور منيف الرزاز والد مؤنس، حيث يفرض الرفاق على "الدكتور مراد" بطل الرواية، الإقامة الجبرية غير آبهين أو مبالين بما قدمه للحزب من نضال وتضحية، وقد أثرت مسيرة الأب "منيف" والأحداث التي تعرض لها، في حياة الابن "مؤنس" التي يصورها في اعترافاته قائلاً: "بين (الوحدة) الأساسية في حياة أبي (السجون)، وما دار في فلكها من إقامات جبرية، ومطالبة بالإعدام والتشرد في المنافي من جهة، و(الوحدة) الرئيسية في مسار حياتي (مصحات الجنون) شجون مشتركة، وتباينات معاً".
كذلك امتلأت روايات الرزاز بشخصيات حقيقية أشار الروائي الراحل إلى أسمائها بالحروف الأولى منها، وتحدث عنها أيضاً في "السيرة الجوانية" كأفراد (الشلة) أو (العصابة الدامية) كما كان يحلو له أن يدعوها. يقول في سيرته الجوانية: ""يا عزرا تعالي... تشدني (سين) [ويقصد الروائية سميحة خريس] من كُمّ معطفي الثقيل كي لا أنجرف إليك. يشدني (هاء) [الكاتب هاشم غرايبة] و(سين) [الكاتب سعود قبيلات] الآخر و(ياء) [يوسف الحسبان] و(زين). كتيبة من المغفلين خدعتهم الدنيا ذات الكيد العظيم، فخالوها حياة".
وبالانتقال إلى جانب آخر من التأثير المتبادل بين ما كتبه الرزاز في "السيرة الجوانية" وبين ما كتبه في الرواية، نجد أنه وظف تقنيات الفانتازيا، والولوج إلى عالم الأحلام، والانطلاق في فضاء المتخيل، والتداخل بين الواقعي والأسطوري، في اعترافاته ورواياته على حد سواء، وإن كان حضور هذه السمات في الاعترافات يبدو أقل منه في الروايات. ففي سيرته الجوانية يسرد أحلاماً وكوابيس تراءت له في المنام: "هرع الناس يبحثون بين الأنقاض عن ناجين، والأرض ترتعش ببنيانها كأنها أصيبت بنوبة هستيرية، وانجابت ظلمة الليل فبدا النهار مرتخي المفاصل، خائر القوى".
واستدعى مؤنس في اعترافاته، كذلك، إزرا أو عزرا إلهة الموت والخلود، وأطلق اسمها على حالة التشزوفرينيا التي عانى كثيراً، دافعة إياه إلى حافة الموت، حتى أنه يقول في سيرته: "لعلي مريض بعبادة المرض".
وحضرت في اعترافات مؤنس اللغة المسجوعة التي تستعيد لغة المقامات العربية القديمة، والتي كان الرزاز شغوفاً بها في رواياته، خصوصاً في مواضع السخرية السوداء، ومثال ذلك قوله واصفاً حالته المرضية، والمصحات النفسية التي كان يخضع فيها للعلاج: "دخل المحارب مصحات الأمراض النفسية، كانت كآبته بكراً، وإدمانه نكراً".
ولم تبتعد اللغة في "السيرة الجوانية" عن التصوير والإيحاء والرمز، وإن كان الرزاز يميل في اعترافاته، أحياناً، إلى تبني لغة مباشرة وتقريرية، ربما ليتمكن من الإحاطة بالتفاصيل وجمعها في خيط واحد. يقول الرزاز في حوار أجراه معه الكاتب هاشم غرايبة، حين سُئل عن كتابة اعترافاته: "كان هذا النداء يطلب مني أن أفضح الحجاب الذي يجلل حقيقة حياتنا في الوطن العربي، هذا مشروع يتطلب جرأة عالية، وشجاعة أدبية لا تعرف التردد، وصدقاً مع الذات أولاً، لهذا وربما لأول مرة سوف أكتب عن دور النساء مثلاً في حياتي، وكيف كان ينظر جيلنا إلى قضية المرأة من خلال السياسة. هو مشروع غير تقليدي، وإذا كان من حقي أن أكشف حقائق تتعلق بي شخصياً فليس من حقي أن أكشف الحقائق التي تتعلق بالطرف الآخر، لذا فإن لغة المشروع الجديد أقرب إلى لغة النص منها إلى لغة الرواية".
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مؤنس الرزاز، قبل أن يسطر سيرته الجوّانية على الورق، قرأ مذكرات القديس أوغسطين، ثم "تهالك" على قراءة اعترافات جان جاك روسو، فسحره الأول، وألهمه الثاني، دافعَين إياه ليُدلي باعترافاته، وكأنما هو يسعى إلى تطهير روحه مما علق بها من خطايا. وقد دفعه الروائي جبرا إبراهيم جبرا، أستاذه في كلية الفلسفة بجامعة بغداد في العام 1976، إلى رفع الركام عن البركان الجواني الذي كان يغلي في داخله، وذلك عندما تحدث إليه عن ندرة كتب الاعترافات في المجتمع الشرقي الذي يمارس سلطة العادات والتقاليد، وباسمها يخنق الحريات ويضع الأدب في خندق المحذورات.
ومنذ ذلك الوقت، ظل هاجس كتابة الاعترافات يلاحق مؤنس الذي وإن تأخر في كتابة "سيرته الجوانية" على الصورة التي شاهدناها في العام الأخير قبل رحيله، بما يمكن إدراجه تحت مسمى "أدب الاعترافات"، إلا أن سيرتيه (البرانية والجوانية) معاً، ظلتا حاضرتين في رواياته بصورة أو بأخرى، حتى قرر أن يفرّغ سيرته الجوانية أخيراً على الورق، بوصفها رواية الحياة الأخيرة التي يكتبها، وها قد فعل.

أبو جمال 17 - 11 - 2010 11:14 PM

مشكور يا المنى ويعطيك العافيه

sad one 22 - 11 - 2010 02:24 AM

يسلمو المنى ولي عودة للاعترافات

هارب من البيت 25 - 11 - 2010 01:47 AM


أنا جيت 9 - 1 - 2011 11:36 PM

مجهود رائع وموضوع قيّم
استمتعت بتواجدي بصفحتك

بانتظار المزيد من هذا العطاء

لك مني ارقّ تحية وأعذبها

دمت بخير

سفير بلادي 10 - 1 - 2011 10:50 PM

طرحك في منتهي الروعه والفائده


في انتظار جديدك

ودمت بكل خير






الساعة الآن 06:22 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى