![]() |
المدن المنسيّة والجبال الكلسيّة في شمال سورية
المدن المنسيّة والجبال الكلسيّة في شمال سورية بقلم : الدكتور علي القيّم
من يزور محافظة ادلب، ومدنها المنسيّة البالغ عددها نحو /700/ موقع أثري، يدرك جيداً أنه كان هناك حضارات رائعة وتقاليد وعادات وطرز معمارية مثيرة للإعجاب والدهشة.. مازالت آثارها وبقاياها تثير الذكريات والأفكار، وأن هناك من صنع في هذه المنطقة من سورية سماء من الأرض ومن الحجر. -------------------------------------------------------------- تمتاز هذه المنطقة التي تقع شمال سورية بجبالها الكلسية البيضاء، لذلك أُطلق عليها مدن الكتلة الكلسية، وتمتد من الشمال إلى الجنوب بطول /140/ كم، ومحورها من مدينتي كورش «النبي هوري» وأفاميا، بعرض يتراوح بين (20 إلى 40) كم، يحدّها شرقاً طريق حماة، حلب اعزاز، وغرباً وادي نهر عفرين ونهر العاصي وتقسم هذه المنطقة إلى ثلاثة أقسام: - القسم الشمالي: يضم جبل سمعان. - القسم الأوسط: يضم جبال باريشا والأعلى والدويلة والوسطاني. - القسم الجنوبي: يضم جبل الزاوية، ويتألف من كتلتين يفصل بينهما وادٍ قامت فيه مدينة البارة. لقد بدأ الاستقرار والاستيطان في هذه المنطقة منذ القرون الأولى للميلاد، وبلغت قمة تطورها وازدهارها مع انتشار الديانة المسيحية بين القرنين الرابع والسادس الميلاديين، فشهدت البلاد حركة عمرانية كبيرة عمّت جميع المناطق والقرى وقد قام العديد من الرحالة وعلماء الآثار برصد بقايا آثار هذه المدن والمواقع ونشروا عنها كتابات في غاية الأهمية، نعتقد أن أبرزها كان كتاب العالم الروسي «جورج تشالنكو» (1978 -1905) م (القرى الأثرية في شمال سورية) ويقع في ثلاثة أجزاء، تضم دراسات عن قلعة القديس سمعان العمودي - البارة - قاطوره - الرويحة - جبل الشيخ بركات - برج حيدر - الأتارب - النبي هوري «كورش، عين دارا - ترمانين - دير حسان - سرجيلا - كفر لانا وغيرها.. كما قام «تشالنكو» بتكليف من المعهد الفرنسي لآثار الشرق الأدنى، برسم عدد كبير من تصاميم الأطلال، وبالتحضير لنشر عدد من الدراسات التي لم تصدر منها إلا دراسة واحدة كاملة، وهي دراسته الضخمة حول «الكنائس السورية المنبرية» وهنا لا بد من الإشارة إلى أعمال «جورج تات» و«جان بيار سوديني» الأستاذ في جامعة باريس الأولى، ومجموعات البحث الأثرية المتعددة الاختصاصات التي عمدت من خلال تنويعات منهجية في العمل إلى الإحاطة بالمرتفعات الكلسية والمدن المنسيّة من مختلف نواحيها العمرانية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية. داحس تعد آثار داحس في جبل باريشا، إحدى أكبر قرى هذه المنطقة، التي تمثل فيها جميع الحقب التاريخية، وخاصة في القرن الخامس الميلادي، حيث شهدت نهضة تجارية تمثلت فيها ببعض مظاهر التنظيم العمراني، وسوق تجاري له أروقة ومقصورات رائعة البناء والزخارف، وبقايا أبنية جميلة ظلت مسكونة حتى بداية القرن العاشر الميلادي. أعمال الكشف الأثري امتدت لتشمل دارة رومانية أطلق عليها اسم «البازيليكة» ويعود تاريخها إلى القرن الثاني للميلاد. وتم فتح ورشات تنقيب وكشف وترميم في مجمّع كنيسة مارسمعان العمودي، حيث كان هناك مجمّع ضخم تبلغ مساحته نحو /12,000/ متر مربع، وقد أُقيم ما بين سنتي 476) و (471 ميلادي حول العمود الذي كان يعيش عليه القديس سمعان، ومنذ القرن السادس أُحيط المجمّع بتصوينة وكانت تربطه بقرية دير سمعان طريق مقدسة، تقوم على جانبيها الدكاكين ويقطعها قوس نصر في منتصفها، وكان المدخل يفضي إلى ساحة أولى مجهّزة بعدد من خزانات المياه الضخمة، وعلى طرفها الشرقي فندق أقامه فنانو المنطقة، وعبر سلسلة من القناطر المزدوجة التي كانت تقوم على طرف الفندق الشرقي، كانت جماهير الحجاج تتدفق نحو الساحة الرئيسية، التي كانت المنشآت الدينية تحيط بها من الشرق ومن الغرب، وتنفتح في جهتها الشمالية بوابة ضخمة تفضي إلى المشهد المصلّب المؤلف من أربعة أسواق بازيليكية، متصالبة يقوم في وسطها بناء مثمّن الشكل.. أما تصميم «البازيليكية» فكان يظهر ميلاً باتجاه الشمال وكان يزين جدار محرابها الخارجي طوابق من الأعمدة، وعند الزاوية الجنوبية الشرقية، كان موقع الدير وكنيسته الخاصة به، وتحيط أقسامه فسحة صغيرة، وقد جرى تحصين المجمّع بعد اخضاعه لتعديلات عديدة في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي. زخارف هندسية من أبرز ما يلفت النظر في الهندسة الدينية والمدنية في المرتفعات الكلسية والمدن المنسيّة، المكانة التي تحتلها الزخارف فيها، فبالإضافة إلى أهميتها على صعيد تطور أشكالها وعلى صعيد الرموز التي تحملها، فإن لتلك الزخارف دورها فيما توفره من معطيات تاريخية ومن معلومات حول صانعيها، ولهذه الزخارف نماذج عديدة أهمها: ما يسمى المقولبات المستوحاة من النماذج الكلاسيكية والمزينة أحياناً ببعض الأفاريز، والشكل الآخر الذي يتمثل بالأشكال المنفردة التي تشكل المدوّرات أغلبيتها وقد شهدت الفترة الممتدة من أواسط القرن الرابع الميلادي إلى بدايات القرن السابع الميلادي، إقامة عدد كبير من الكنائس التي تتوزع بشكل غير متساوٍ بين المناطق، حيث نجد أن عدداً من القرى تحتوي على كنيسة واحدة، في حين أن قرى أخرى تحتوي على كنيستين أو ثلاث، معظمها من الكنائس ذات السوق الواحدة والواجهات الوافرة الزخارف. كانت الزخارف في القرن الرابع الميلادي مقتصرة على سواكف الأبواب، وعلى أساور الأقواس وتيجان الأعمدة وعتبات الهياكل، وما إن بدأ القرن الخامس الميلادي، حتى أخذ المهندس السوري الجوّال «قيريس» يطبع الكنائس التي أقامها في عدد من قرى جبل باريشا بطابعه الخاص، كما تدل على ذلك الكتابات المؤرخة التي تحمل اسمه، وكان «قيريس» يطوّر في أشكال الزخرف النباتي الكلاسيكي، من أفاريز أوراق الأكانت إلى النخيلات إلى الوريقات المتداخلة، إلى الجدائل المزدوجة، وقد ظلّت الصيغ التي أطلقها في العمارة السورية، تسود أكثر من قرنين من الزمن.. غير أن توافد الصناع من مختلف أنحاء بلاد الشام إلى هذه المنطقة سبب عودة الزخم الهندسي، والزخرفي إلى المرتفعات الكلسية بأسرها، وقد تزينت واجهات العمائر بالمقولبات التي كانت تحيط بالنوافذ والأقواس المحمولة، وحلّت الأشكال الهندسية محل الأشكال النباتية بصورة تدريجية، وعادت الغصون العنبيّة إلى الظهور في القرن السادس الميلادي على هيئة سلسلة من الوريقات المثلثة البارزة، بحيث لم يبق من غصون «الأكانت» إلا الضلوع، ومن بين أشهر كنائس النصف الأول من القرن السادس الميلادي، كنائس قلب لوزة، والكنيسة الشرقية في «باقيرحا» التي بنيت سنة /546/ م وكنيسة دير سيتا، وكنيسة «بابيستا» وكنيسة السيدة في الشيخ سليمان. وتميزت زخارف النصف الثاني من القرن السادس الميلادي بدمج تيارات زخرفية متعددة، وتمثلت تلك النزعة في كنيسة بحيو الشرقية. وفي كفر كيلا وكنيسة خربة تيزين، وفي كنيسة الثالوث في دار قيتا بمقولباتها الهندسية... إن هذا التنوع والغنى في الزخارف لم يكن إلا دلائل ملموسة عن تنامي ازدهار المنطقة التي شهدت نوعاً من أنواع الحدة الثقافية المنفتحة على الخصائص الاقليمية والمحلية، وعلى التأثيرات الخارجية... النمو السكاني والاقتصادي لقد تبين من الدراسات العديدة التي تمت في المرتفعات الكلسية والمدن المنسّية أن المنطقة مرّت بمرحلتين متتاليتين من النمو السكاني والاقتصادي بدأت أولاهما في القرن الأول الميلادي، وتطورت في القرن الثاني الميلادي، إلى أن توقفت في أواسط القرن الثالث عندما عمّت الشرق موجة الطاعون المعروف باسم «وباء قبريانوس».. أما المرحلة الثانية فقد بدأت في أواسط القرن الرابع بين (340 و 350) م وتوقفت في أواسط القرن السادس بين (540 و 550) م واختلفت مدّتها بحسب المناطق، وقد شهدت المنطقة تطوراً كميّاً تمثل بازدياد عدد بيوتها وسكانها، تبعه في القرن الخامس تطور نوعي تمثل باعتماد تقنيات بنائىة باهظة وتنوع في الزخارف، وتبين أن أساس هذا الغنى يعود إلى ازدياد في المحاصيل الزراعية التي سمحت بقيام التجارة مع المدن والمناطق المجاورة مثل: انطاكية واللاذقية وسلوقية وحلب وقنسرين.. في أواسط القرن السادس الميلادي توقف النمو السكاني في المنطقة بسبب الازدياد الذي طرأ على أعداد السكان بشكل فاق قدرة التربة الزراعية، ما أدى إلى هجرة واسعة منها وإلى تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وكان النسيان الذي نرجو ألا يستمر طويلاً في هذه المنطقة التي تعدّ من أغنى مناطق العالم روعة وغنى بآثارها وزخارفها وأوابدها الجميلة التي يمكن أن تشكّل السياحة الثقافية والدينية أحد أهم عناصر عودة الحياة إليها. |
|
بلا عنـوان شكرا لك على ما نقلت لنا ... بكلّ صراحة لأوّل مرّة أسمع بها بورك فيك أن جعلتنا نستفيد .. احتراماتي أخوك ناجي |
|
طرحك في منتهي الروعه والفائده كل الشكر و التقدير لك على جهودك ودمت بكل خير |
الساعة الآن 05:00 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |