![]() |
الارتقاء بالعربية في وسائل الإعلام
تأليف : نور الدين بلبيل
مقدمة بقلم : عمر عبيد حسنه الحمد لله الذي جعل معجزة الرسالة الخاتمة الخالدة كتابًا وقرآنًا، وبدأ الوحي بقوله تعالى: {أقرأ }، بحيث تعتبر القراءة والتعلم والتعليم هي مفتاح الدين الجديد، وسبيل الحضارة الإنسانية التي انتهي إليها عطاء الـحضارات السابـقة، وتــحققت فـيها أصـول النـبوات جمـيعًا، من لدن آدم عليه السلام.. قال الله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } (الشورى:13). والـقراءة التي أمر بها الله في وحيه الـخاتـم قـراءة قاصدة، واضحة الأهداف، منضبطة المقاصد، إنها قراءة باسم الله الأكرم: {اقرأ وربك الأكرم } (العلق:3)، القراءة الـمستصحبة لـمنهج الله وأوامره، والمزودة بنعمه وفضله وكرمه في غرس قابلية التعلم والتعليم عند الإنسان، وتلك من أكبر النعم الإنسانية التي تقتضي الشكر ووضع النعمة حيث أراد المنعم، وبذلك وجهت الرحلة العلمية ومكتشفاتها وإنتاجها لصالح الإنسان، وضبطت الشاكلة الثقافية بوجهة الخير والصلاح. والصلاة والسلام على المبعوث في الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آيات الله، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.. الذي توقفت أميته وأمية المؤمنين به عن الاستمرار عند بوابة الدين الجديد، وبدأت رحلة العلم والتعلم والهداية، كما توقف الضلال والتضليل الثقافي والسياسي والعقدي لقومه والناس جميعًا.. وبعد: فهذا كتاب الأمة الرابع والثمانون "الارتقاء بالعربية في وسائل الإعلام" للأستاذ نور الدين بليبل، في سلسلة "كتاب الأمة"، الذي يصدر عن مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمـة في إعادة بناء الشاكـلة الثـقافـية، أو التشكيل الثقافي المؤصل بالمرجعية الشرعية، والمؤسس على هداية الوحي في تحديد الوجهة، واجتهاد العقل وإعمال الفكر في إبداع الوسائل والبرامج القادرة على تجسيد تلك الشاكلة في مجالات الحياة وأنشطتها جميعًا، لتكون بمثابة الروح السارية في حركة الحياة، والنسغ الضامن لاستمرار العطاء، أو بتعبير آخر: امتداد العمل على الشاكلة التي جاء بها الوحي وبيّنها الشرع، حيث إن العمل والحركة إنما هو في الحقيقة ثمرة لهذه الشاكلة، واستجابة لها، قال تـعالـى: {قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً } (الإسراء:84) وهذه الشاكلة التي تتعامل مع الحياة بكل معطياتها وتطوراتها ومتغيراتها وميادينها المتنوعة، لابد أن تكون خاضعة باستمرار للاختبار والتقويم والمراجعة والمثقافة والمفاكرة والمعايرة، والتطوير في الوسائل، وإعادة النظر، لتكون مؤهلة للتجدد والتجديد واستيعاب المتغيرات، وإبداع الوسائل الملائمة لكيفية التعامل معها. ولعلنا نقول هنا: بأن اللغة هي من أهم أدوات التشكيل الثقافي، بل من أهم عوامل تشكيل الأمم، إن لم نقل أهمها، ذلك أنها وعاء الفكر وأداة التعبير والتواصل والتفاهم بين الناس، توثق صلاتهم، وتقوي روابطهم، وتبني ثقافتهم، وتشد وحدة اللحمة بينهم، وهي مستودع ذخائر الأمة ومخزونها الثقافي وتراثها، الذي يجسر بين حاضرها وماضيها، ويصل حاضرها بمستقبلها، ويحدد قسمات شخصيتها وملامح هويتها.. إنها الوطن الثقافي الذي يصنع الوجدان، ويحرك التفكير، ويترجم الأحاسيس، ويغير السلوك، ويسهل تبادل المعارف وتلقي العلوم.. وهي المسبار الحقيقي لإدراك أغــوار الشخــصية وميـولها واتـجاهاتها، وتـحديد أهدافـها، فكثيرًا ما يقال: "تكلم حتى أراك ". كما أن كيفية اختيار الألفاظ وأدوات التوصيل والتواصل يؤثر في بناء الملكة العقلية والقدرة التفكيرية، حتى يقال عن الحكيم: "لسانه من وراء عقله "، ويقال: "الأسلوب هو الشخص "، كما يقال عن الشخص الخفيف الباهت المهزوز: "فلان يلقي الكلام على عواهنه ". ولا نرى أنفسنا بحاجة إلى التأكيد على علاقة التعبير بالتفكير ودوره في بناء العقل، وتنظيم المحاكمات العقلية وإسعاف العقل، وتزويده بالأوعية المطلوبة لنشاطه، وإغنائه بمجموعة مفردات خصبة ومرنة تحول دون انحباس المعاني أو ابتسارها، وتمنح العقل الرحابة والانطلاق في التفكير في فضاء من طلاقة التعبير، لذلك يقال: "من تكلم بلسان قوم فكر بعقلهم ". ونظرًا لأهمية اللغة ورسالتها ودورها، الذي أتينا على طرف منه، نشأت حولها علوم ودراسات متعددة من مثل: علم اللسانيات، وعلم اللغة المقارن، وفقه اللغة، والأجناس الأدبية في النثر والشعر والرواية والمقالة والقصة، وسائر الأجناس الأدبية الأخرى، إضافة إلى النقد الأدبي، الشريك الرئيس في البناء اللغوي الذي تمحور حول الأساليب والمناسبات وطرق الأداء، وعلم القواعد أو النحو، لصون اللغة وحمايتها والامتداد بها بشكل سليم، وعلم الصرف الذي يبحث في أصول اللغة وأوزانها، والاشتقاق والتركيب والمزج والنحت، الذي يكسب اللغة المرونة، ويمكنها من القدرة على الاستجابة للتطورات والمتغيرات الاجتماعية، وعلم القراءات، والتجويد، علم مخارج الحروف...الخ. ولعل في مقدمة هذه العلوم جميعًا، أو ثمرة هذه العلوم جميعًا، يأتي علم البلاغة بفروعها الثلاثة: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع. والبلاغة في أبسط مدلولاتها: هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ذلك أنه لكل مقام مقال، أو لكل حال ما يناسبه من الكلام، أو من توفر مواصفات خاصة للخطاب، لذلك فدراسة الحال، بكل مكوناته، واستيعابه، ومن ثم اختيار الألفاظ والأسلوب المناسبين اللذين يحققان الهدف، ليس بالأمر الهيّن.. فإذا لم تراع البلاغة أو مقتضى الحال في الحديث، فقد تتحول اللغة وسوء اختيار ألفاظها وأسلوبها إلى سبيل فتنة وانتكاس، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو سيد البلغاء: "حدِّثوا الناسَ بما يعرفون، أَتُحِبُونَ أن يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُه " (أخرجه البخاري)، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تَبلُغه عقولُهم إلا كان لبعضهم فتنة " (أخرجه مسلم)، وورد التحذير من سحر القول وزخرفه الذي قد يغيِّب الحقائق ويزيفها، ويقلب الحق باطلاً والباطل حقًا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا " (أخرجه البخاري)، و"إن من الشعر لحكمة " (أخرجه ابن ماجه). فإذا كانت اللغة بهذه القدرة الخارقة في التأثير والتشكيل الثقافي، أو بناء الشاكلة الثقافية، التي تعتبر الموجه لرؤية الإنسان والمنطلق لحركته وتعامله مع الناس ومواصلته مع تاريخه، أي بناء وجهته في الاتجاهات جميعًا، الماضي والحاضر والمستقبل، كانت العامل الأهم في تشكيل الأمة وتفاهمها وتواصلها، وكانت من القلاع الأولى والحصون الثقافية والاجتماعية والتراثية المستهدفة، ذلك أن استهدافها يعطل نمط تفكير الأمة ، ويلغي عقلها ويطمس شخصيتها، ويعبث بثقافتها، ويقطع أوصالها، ويجفف ينابيعها، ويجتث جذورها، ويتركها في مهب الريح، وعلى الأخص عندما تكون اللغة لغة العقيدة والقيم، والثقافة والحضارة، والعلم والتعليم، والعبادة، كاللغة العربية. وقد لا يتسع المجال هنا لاستقصاء الأساليب والأدوات والمكائد والمحاولات المستمرة التي استهدفت العربية -ذلك أن الاستقصاء بطبيعة الحال يكاد يكون مستحيلاً، لتجدد الوسائل والأساليب والمحاولات وتعددها- وإنما هي محاولة لاستقراء بعض النماذج المطروحة على الساحة في هذا المجال، وليس آخرها على كل حال قضية الـحداثة، ومحـاولتها هدم الـمعمار اللغوي، وتجاوز بناء الـجملة ودلالة المصطلح، وكسر الأوزان الشعرية، والدعوة إلى إلغاء قواعد اللغة بنحوها وصرفها، وإنتاج ذلك الخليط الهجين من المفردات والتراكيب، وتغميض العبارات والألفاظ بضرب من القول والكتابة هو أشبه بالهذيان، الذي يضيع الملامح ويلغي القسمات، ويقيم أنماطًا لغوية وهلوسات عقلية متداخلة، لا طعم لها ولا لون ولا رائحة ولا معنى، وإنما هي نوع من الرسم بالفراغ ومن الفراغ للصور المشوهة الأقرب إلى الذاتية والباطنية، التي تؤدي إلى الانكفاء على الذات أو القراءة بأبجدية خاصة، لا تؤهل لبناء ثقافة أو أمة، ولا تسهم بتفاهم، ولا توثق صـلة، ولا تؤدي إلى تواصل أو تبادل معرفي أو فكري، إنـما هي هلوسات فكرية -كما أسلفنا- تقذف إلى الضياع، وتؤدي إلى القطيعة المعرفية. وليس أقل خطورة أمـر الـمفاضـلة، أو محاولة التمييز بين اللغة الفصحى واللغة العامية، أو بين الفصحى واللهجات المحلية، واعتبار العامية هي اللغة الأكثر سلاسة وانسيابًا، والأيسر في التفاهم والتعارف، وأن الفصحى بنحوها وصرفها ومخارج حروفها هي لغة صعبة معقدة في تعلمها وتعليمها، لذلك أصبحت معزولة عن الحياة، محنطة في المعاجم والكتب القديمة، فاقدة للقدرة على الإرسال لصعوبة تعلمها والإحاطة بها، وفاقدة الأهلية في الاستقبال لعدم الإمكانية على استقبال ألفاظها المتجهمة وإدراك معانيها الغريبة على الأذن، البعيدة التناول، ذلك أن وظيفة اللغة في نظرهم تقتصر على تحقيق التوصيل والتفاهم بين المرسل والمتلقي، ومادام هذا التفاهم يتم بسهولة ويسر فلا داعي للتعنت والتنطع والتقعر في اختيار الألفاظ، وإنهاك العقل في المحافظة على بنائها ورصفها، وإثقال الأذن باستئناسها، فاللغة كائن حي ينمو ويشيخ ويموت، فالفصحى في نظرهم أصبحت في عداد الموتى!! فلماذا المحاولات اليائسة لبعثها وإحيائها؟! وقد تكون الإشكالية الكبيرة في هذه النظرة السطحية والساذجة والمحزنة لقضية اللغة ودورها في التشكيل الثقافي، غياب الإدراك لأثر التعبير في التفكير، ودور اللغة في التواصل مع التراث والتاريخ والعقيدة، ورسالتها في وحدة الأمة وتماسكها واستقرارها وامتدادها، وتحقيقها للتواصل بين الأجيال، واحتفاظها بذاكرة الأمة ومخزونها الثقافي، وما إلى ذلك من الأبعاد الكثيرة التي يصعب استقصاؤها والإحاطة بها في هذه العجالة. ذلك أن الاعتراف بالعامية وتسيدها هو محاولة مكشوفة لإقامة الحواجز بين الأمة وكتابها، مصدر عقيدتها ومعرفتها وفكرها، وتحقيق القطيعة الكاملة مع التراث، والعجز عن فهمه وإدراكه والإفادة منه، لأن العامية ستبتعد عن الفصحى شيئًا فشيئًا وستغادرها نهائيًا، وتنشأ فيها عاميات لا تتوقف. يضاف إلى ذلك أن موضوع العامية سيؤدي إلى سيادة لهجات وعاميات متعددة سوف تقيم حواجز في داخل الأمة، وتمزقها، وتحول دون تفاهمها وتماسكها، وتقضي على ماضيها، لأن التراث والتاريخ يصبحا منطقة حرامًا بالنسبة للعامية، بحاجة إلى ترجمة، كما أنها تقضي على وحدة الأمة، وتمزق حاضرها، وتقيم حواجز نفسية أمام الفصحى، ولا تصلح لأن تكون لغة علم وحضارة، لأنها لغة جهل وأمية ومحاكاة صوتية. والحقيقة التي لا مراء فيها، أن الأمية هي طريق انتشار العامية وشيوعها وامتدادها، وأن السبيل لمحاصرتها واسترداد هوية الأمة اللغوية والثقافية هو القضاء على الأمية ومحوها، ومحاولة تطوير وسائل وأساليب العربية وإشاعتها، والتدريب عليها، وإبراز قدرتها على استيعاب جميع الحالات والتحولات الإنسانية، وامتلاك القدرة على التعبير عنها، وإدراك وظيفة اللغة ودورها في حياة الأمة، والتواصل لأجيالها، وكونها إحدى القلاع الثقافية. والذي لا شك فيه أن انتشار العامية لم يأت من فراغ، وإنما امتد في فراغ لم يملأه دعاة الفصحى.. فلماذا انتشرت العامية؟ وهل السبب كله كامن في العامل الخارجي، أم أن القابلية لانتشارها سبقت انتشارها، وهيأت له؟ ذلك أن اللغة الفصحى لسبب أو لآخر انحسرت في زوايا تعليمية معزولة ومعاجم ومجامع لغوية رضيت لنفسها الانزواء والسير خلف المجتمع، وليس أمامه، وأصبح كل همها النظر في بعض المصطلحات والألفاظ المعاصرة لإقرارها، والتفتيش عن مسوغات لغوية لها، أو الاقتصار على توجيه النقد للأخطاء اللغوية بعيدًا عن الإنتاج الإعلامي والثقافي السليم. أما امتلاك القدرة على استيعاب تطور المجتمعات، وتنوع مجالاتها، وما تستدعي من توليد وتسييد مصطلحات ومفردات وخطاب يشكل أوعية للسانها ومجالاً رحبًا لتفكيرها وإبداعها، فلم يتوفر إلا بالأقدار البسيطة أو الفردية، إذا أحسنا الظن. وقد لا يسوغ لنا العتب على لغة الإعلام، وقد لحقت الإصابات البالغة بلغة التعليم، معقل العربية وحصنها المنيع، حيث بدأ من عندها الخلل والإصابات البالغة للغة، وأصبح حال اللغة في مجال التعليم،كما يصورها أحد الحمس الذي قفز إلى المحراب واعظًا، بدون مؤهل، وقال: "ظهر الفساد في البرُ والبحرُ "، فرد أحد الحاضرين: "وفي المحراب ". لقد أصيبت الفصحى في محرابها، وأدى ذلك إلى انعزالها بشكل طبيعي، فأصبحت دروس العربية تدرس بالعامية، وتحولت دراسة العربية من دراسة النحو والصرف والبلاغة والقواعد وسلامة الألفاظ إلى التمركز حول الأجناس الأدبية فقط، التي قد تمر في المراحل الدراسـية الـمتعددة بدون ضوابط لغوية، حتى إن الكثير من أصحاب الشهادات العالية أو العليا، من المتخصصين بالأدب العربي، لا يستطيع أن يقيم لسانه ولا قلمه بجملة صحيحة. ولا بد من الاعتراف أن من أسباب الإصابة الذي سمح بامتداد العامية والوصول إلى حالة الانشطار الثقافي، الذي نعاني منه بسبب الانشطار اللغوي، تحوّل الوسائل التي وضعت لحماية العربية والمحافظة عليها إلى غايات بحد ذاتها، فكثيرًا ما تتوقف عندها الجهود، دون النظر في دراسة الأحوال وتطوير مواصفات الخطاب وطرائق التعليم بحسب ذلك الحال.. حتى تلك الوسائل لم تتطور دراساتها وأدوات توصيلها والتدريب عليها، وإنما بقيت على حالها، على الرغم من تطور التقنيات التربوية والتعليمية، فكادت تتحول إلى معوق وحاجز يحول دون الإقبال على اللغة، تعلمًا وتعليمًا وتخصصًا، حتى كادت بعض هذه الوسائل أن تنقرض من الساحة التعليمية والتربوية، وتنحسر في بعض الزوايا المعزولة. إن تحوّل الوسائل إلى غايات، قلب المعادلة التعليمية والتربوية.. فالعالم جميعه يقرأ ليتعلم، أما نحن فنتعلم لنقرأ، وقد نفني عمرنا في تعلم كيفية القراءة وضوابطها دون أن يبقى في العمر بقية لنقرأ وننتج.. ونحن هنا لا نقلل من هذه الجهود العظيمة التي حفظت اللغة وحمتها، وحالت دون تمييعها وإخراجها عن أصولها باسم تطورها، لكن الذي ندعو إليه أن تبقى الجهود ضمن المساحات المضبوطة النسب، وأن تتركز على تطوير تعلمها من جانب، ومن جانب آخر صرف الكثير من الجهود لتحقيق الغايات والبحث في مواصفات الخطاب بحسب المطلوب، ليكون قادرًا، بما يستخدم من مفردات ومصطلحات وأساليب، على توصيل ما يريد، تعلمًا وتعليمًا وإعلامًا، مرئيًا ومسموعًا ومكتوبًا. ولعل من الإشكاليات الكبيرة في إطار اللغة العربية اليوم، تعلمًا وتعليمًا وإعلامًا ونموًا وقيامًا بدورها في التشكيل الثقافي، ذي الموارد والمعارف المتعددة، هي محاولة النظر إليها والتعامل معها على أنها تفتقر إلى المصطلحات العلمية والمراجع العلمية، التي يحتاجها الدارس والباحث، لذلك فهي لا تخرج عن كونها لغة دين وممارسة عبادة معزولة عن المجالات العلمية، حيث لامفر لنا اليوم من الإقرار بالازدواج اللغوي بين لغة العلم ولغة الدين، لغة المعهد ولغة المعبد، بحيث تُخْرَج العربية من المدارس والمعاهد والجامعات ومراكز البحوث والدراسات والمخابر والمكتبات وتنزوي في المساجد والمعابد، شأنها في ذلك شأن اللغة السريانية القديمة، التي باتت لا تخرج عن أصوات يرددها الكاهن، وقد يعلمها أو لا يعلمها، لا هو ولا المستمعون. وفي تقديري أن هذا ليس ذنب اللغة وقدرتها على استيعاب العلوم والفنون وإبداع المصطلحات، وإنما ذنب الأمة المتخاذلة المتخلفة، العاجزة عن الامتداد والنمو العلمي، الأمر الذي انتهى بها إلى العيش على موائد (الآخر )، الذي لابد أن تأكل طعامه وتستهلك أشياءه وتتكلم بلسانه، وتفكر بعقله، وتعفي نفسها من الـمسـؤولـية، وبـذلك تساهم بإخراج لغتها من الحياة، لأن اللغة كائن ينمو مع الأمة، ويتوقف ويتضاءل حال موتها أو سباتها.. ولولا القرآن وكتاتيبه ومراكز تحفيظه ومتابعة تلاوته في العبادات اليومية -وتلاوته عبادة - لخرجت اللغة العربية من الواقع تمامًا. والحقيقة التي لابد من الإشارة إليها، أن العربية تتميز عن سائر اللغات بأنها ولدت كاملة، كما يقرر الكثير من علماء اللسانيات، وأنها بمفرداتها الزاخرة، ومترادفاتها القادرة على التعبير عن الأحاسيس والحالات الدقيقة والمتجاورة المعاني، وقدرتها على التصريف والاشتقاق، مؤهلة لأن تكون لغة العلم الإنساني بدقائقه وصياغة مصطلحاته. بل لعلنا نقول: إن عبقرية اللغة تتمثل في قدرتها على احتواء وتحديد التعاريف والمصطلحات المتنوعة في العلوم الإنسانية أكثر بكثير من اللغات الأخرى التي أمكنها التعبير عن المصطلحات والــتعاريف والـمـبتـكرات في العـلـوم التـجريـبية، لأنـها فــي النهايـة لا تخرج عن تسميات ورموز جامدة، بل وحروف ترمز إلى عناصرها. إن هذا المدخل الخطير في التفريق بين لغة العلم ولغة الدين، كإحدى المحاولات لمحاصرة العربية، وإبعادها عن المدارس والمعاهد والمخابر ومراكز البحوث، وتركها للمعابد والعبادات، والتمييز بين لغة العلم ولغة الدين، سوف يؤدي بالعربية إلى العزلة التامة عن حياة الناس، وعن استعمالاتهم اليومية لها، ويسهم بغياب التحدي الذي يستفز الأمة للدفاع عن لغتها طالما هي ماتزال لغة العقيدة والعبادة. كما ينتج عن هذا التفريق أيضًا أن التكلم بغير العربية يشكل انقطاعًا عن المخزون الثقافي والعلوم الأساسية.. وأخطر من ذلك، أنه يقود إلى التفكير بعقل من نتكلم بلسانهم، حيث لا تنكر العلاقة بين التفكير والتعبير -كما أسلفنا- ذلك أن الانتهاء إلى (الآخر ) في الـمرجع والكتاب والمنهج في عملية التعلم والتعليم، هو ارتهان ثقافي يتجاوز الانشطار، وينتهي بالأمة لأن تبقى دائمًا في مقاعد التلاميذ (للآخر ). ولابد من الإشارة إلى أن الجهود البسيطة والمحدودة في مجال تعريب العلوم ومناهج التعليم والمصطلحات العلمية، واعتماد العربية في تعليم العلوم التجريبية، دليل على قدرة العربية، وشاهد إدانة للعدول عنها، ذلك أن أعداء العربية مايزالون يطاردون ويحاصرون تلك الجهود لحمل الدول والمؤسسات والجامعات التي تدرس العلوم بالعربية للعدول عنها واللحاق (بالآخر ). ولعل من الإصابات الخطيرة أيضًا، التي تتركز حول العربية ومحاصرتها، الكلام الطويل العريض على صعوبة كتابتها، وصعوبة حروفها ورسمها وشكلها، وقواعدها ونحوها وصرفها، وأن الوسائل والتقنيات الحديثة جاءت كلها بالحروف اللاتينية، وأن الدخول إلى عالم "الإنترنت " و"الكمبيوتر " والطباعة وتقنياتها يتطلب إبدال الحرف اللاتيني بالعربي.. وفعلاً نجحت المؤامرة وتحولت بعض الشعوب الإسلامية إلى العدول عن الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني في لغاتها المحلية، فشكل ذلك قطيعة كاملة مع تراثها ومخزونها وتاريخها وصلاتها بالعربية والقرآن، والانتهاء إلى (الآخر )، باسم الحاجة للتعامل مع التقنيات، والعجيب الغريب أن ذلك لم ينطبق إلا على العربية. أما الصينية مثلاً، بكل تشعباتها وتضاريسها، واليابانية بكل تعقيداتها، فلم تعان من الإصابة نفسها!! وحتى العبرية، اللغة التي كانت منقرضة، لم تعان من تلك الإصابة، لأن وراءها أمة تدرك أهمية اللغة ودورها في التشكيل الثقافي لعقل الأمة ووجدانها وهويتها ومواطنتها وتواصلها وامتدادها. ولا شك عندنا أن نصيب العربية من الاستهداف كان كثيرًا وكثيرًا جدًا، ذلك أن العربية لغة العقيدة والعبادة والنص السماوي الخالد المعطاء، والتراث التاريخي والمخزون الثقافي، ووعاء ذاكرة الأمة، أو هي ذاكرة الأمة وأداتها الرئيسة في التشكيل الثقافي.. فهي لغة الدين، ولغة العلم، ولغة التربية، ولغة الإعلام والبلاغ لرسالة النبوة، فأية محاولة لزحزحتها عن مواقعها إلـغاء للأمـة الـمسلمة، التي لم تـتشكل بعـوامل جغـرافية أو لـونيـة أو جنسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وإنما تشكلت من خلال كتاب، وانطلقت من خلال {اقر }، فكان كتابها معجزة بيانية تربوية إعلامية، وهي أمة العلم والفكر والقيم. إن الارتقاء اللغوي منوط إلى حدٍ بعيد بالتطلع إلى محاكاة أسلوب المعجزة البيانية (القرآن )، وتلمس جوانب الإعجاز البياني الإعلامي فيه، وإدراك تنوع مواصفات خطابه بحسب المقامات والمحال التي يعرض لها. إن هذا التطلع يمكن أن يمنحنا أقدارًا من إمكان توليد مواصفات لخطابنا تتناسب مع محله ومقامه ومناسبته وأهدافه.. قال سبحانه وتعالى: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ... } (الإسراء:89) لذلك لابد أن نجيب، في العملية الإعلامية وغيرها من المجالات المتعددة، عن السؤال الكبير: "لماذا؟" فنحدد نوايانا ونوضح أهدافنا من العمل الإعلامي أو أي عمل آخر، ومن ثم نصل إلى السؤال: "كيف؟ " فنضع الخطط والبرامج، ونحدد الوسائل والأدوات التي تحقق أهدافنا، في ضوء إمكاناتنا والواقع الذي نتعامل معه، ومن ثم تحديد الإجابة عن "متى؟" وذلك لاختيار الزمن المناسب لأداء العمل. ولا يفوتنا هـنا أن نذكر أن الإعلام اليوم أصبح مؤسسة تتـعامل مـع حـياة كامـلة، بكل مـا تعــني هـذه الكلمة، فهو مؤسـسة اقتصـاديـة لا تقتصر على أخبار نقل أسواق المال والأعمال والأسهم والشركات والتجارات والصناعات والمبتكرات، وترصد الأسعار والأسواق، وتقـوم بالإعـلان الـمغري بالاستهلاك، وتروج للسلع الـمتنوعة، وإنـما تتجاوز ذلك إلى الدراسات والتحليلات والاستشراف المستقبلي، وإقامة الندوات، واستضافة الخبراء، إلى درجة يمكن معها أن نقول: إن الإعلام أصبح صناعة اقتصادية ثقيلة، ومدرسة اقتصادية ذات تعليم مستمر، فالذي يملك الإعلام يملك التحكم بالأسواق والإنتاج والثقافة العالية، التي تحول دون المخاطرات المالية وتبصر احتمالات المستقبل. وكذلك الشأن في المجال الاجتماعي، بكل تفرعاته ومجالاته، وعلومه، ومعلوماته، وأنماطه. والإعلام، أولاً وقبل كل شيء، يعتبر من أهم مؤسسات التشكيل الثقافي، ولا نجافي الحقيقة إن قلنا: بأن جميع مصادر التشكيل الثقافي على تنوعها أصبحت بحوزة الإعلام، حيث إنه أصبح يغطي كل الجوانب الإنسانية، ويشكل نظرة الإنسان، ويمنحه المعيار الذي ينظر منه إلى الأشياء، بل يدربه على ذلك، ويقدم له النتائج، فهو يقرأ له، ويكتب له، ويروي له، ويبيع له، ويشتري له، ويخترق شخصيته القائمة، ويساهم بصنع شخصيته المستقبلية، إلى درجة أصبح يمكن معها التنبوء بردود الأفعال الممكنة، ووضع الحلول والأوعية المطلوبة لحركتها مسبقًا. وليس أمر الإعلام كمؤسسة تربوية تعليمية بأقل شأنًا، ذلك أن الإعلام أصبح، بما أتاح من وسائل متنوعة، يغطي قطاعات واسعة وعريضة من المواطنين، باهتماماتهم واختصاصاتهم وأعمارهم، ابتداءًا من عالم الطـفولة وانـتهاء بحـالات الشيخــوخة، لـذلك فالفاقد للوسيلة الإعلامية أصبح اليوم كالفاقد لحاسة من حواسه، فهو أشبه بالمعاق. إن هذا الاستحواذ على الناس جميعًا، في مختلف ثقافاتهم ومواقعهم وأماكنهم، أمر يصعب تغطيته بوسائل وبرامج التعليم النظامي، سواء من حيث المساحة أو الوقت، أو الأدوات، أو التقنيات، أو السويات المتنوعة، أو المواد المقررة والوجبات المطلوبة، حيث يقدم الإعلام اليوم الثقافة والتوجيه والترفيه والمعلومة، إضافة إلى أنه يتميز بالاستمرار وتراكم التأثير، والتنوع، والتطوير، والابتكار للوسائل التي لا تتوقف . فالإعلام تعليم دائم ومستمر، ولكل الأجيال، من الأطفال وبناء خيالهم العلمي، والشيوخ، والذكور والإناث، إضافة إلى امتلاكه، من خلال الوكالات وشبكة المراسلين من مواقع الأحداث، القدرات الخارقة في الحصول على المعلومة، والوصول إلى المتخصص في الأمر المطلوب، وإبداعه للوسائل التعليمية المتميزة، وحسن استخدامها من الصوت واللون والصورة واللغة والظلال والديكور... حيث حول الإعلام بإمكاناته الهائلة ورحابته ووسائله غرف التعليم التقلـيدي، بسبورتـها وأقـلامها ومـقاعدها وكتـابها ووسائـلها، إلـى ما يشبه المعتقلات التي لا يصدق التلميذ متى يخرج منها ليقعد دون إحساس بالزمن إلى التلفزيون أو "الإنترنت " أو "الكمبيوتر ". والذين يحاولون استشراف المستقبل يتوقعون أن يتم الإعداد والاستـعـداد لتقنـية الوسـائل التعليمـية وتأمـيـن الاتـصال عـن بـعـد بما يغني عن الذهاب إلى المدرسة، وإنما تأتي بالمدرسة والمدرس والوسائل إليه في مقعده أمامها. أما الشأن الإعلامي ودوره في السياسة والمغالبة الحضارية، فحدث ولا حرج، فالمعلومة وتوصيلها باتت اليوم هي السلاح الأكثر فاعلية ومضاءًا، فهي أشبه بالسلاح الكاتم للصوت.. إنها حقبة المعلومة المرنة، أو حقبة الإعلام.. لقد تحولت الأمم من معلومة السلطة إلى سلطة المعلومة. فإذا كان للمسألة الإعلامية هذه الأبعاد والآفاق والقدرة العجيبة على الاختراق لمجالات الحياة جميعًا، فإنها تتطلب أن تتحول إليها وتصب فيها جميع الجهود.. ولا نأتي بجديد إن قلنا: إن الإعلام اليوم هو ثمرة للعلوم جميعًا، ليس العلوم الإنسانية والاجتماعية فحسب، بل والعلوم التقنية والتجريبية.. وهو محصلة لشعب المعرفة جميعًا، من علم اللغة، والاجتماع، والتاريخ، والنفس، والإنسان، والتربية، والتعليم ...الخ. إن العلوم جميعًا تتضافر اليوم لإنجاز إعلام مؤثر، فالعالم بعد اختزال الزمان والمكان والمسافات، أصبح دولة إعلامية واحدة، أو قرية إعلامية، والدول الجغرافية أصبحت أحياء وحارات في هذه القرية.. ومن هنا ندرك لماذا كانت معجزة الرسالة الخاتمة معجزة إعلامية بيانية مجردة عن ظروف الزمان والمكان. فالتكليف الشرعي -فيما نرى- ليس بأداء العبادات من صلاة وصيـام وزكاة وحـج فقـط، وإنـما الارتـقاء بوسـائلنا النـافذة والـمؤثرة، لتكون بـمستوى الإسـلام والعصر، لتبلغ الإسلام وتظهره، وبذلك ندخل حلبة الـمغالبة الحضارية، أو المدافعة الحضارية، والحوار الـحضاري، والـدعـوة إلى كلـمة سـواء، بأدواتـها المناسبة وتخصصاتها المطلوبة. ولـعـل اللغـة تـمثـل فـي نهايـة الـمطـاف، سواء كانت منـطـوقـة أو متكوبة أو مسموعة، الوعاء الإعلامي الأهم، على الرغم من أهمية الوسائل الأخرى.. وقد بلغت لغات الإعلام عند الأمم اليوم شأوًا بعيدًا وشأنًا مؤثرًا باختيار الأصوات الملائمة، والنبرات المؤثرة، والصورالأخاذة، والمصطلحات المأنوسة، والوجه المناسب، والشخصية الملائمة، فلكل وعاء إعلامي مواصفات في التحرير والإخراج والأداء، والصورة والصوت، والديكور، والتقديم، واللباس، وحركات الوجه والحواس، التي تمثل وسائل اتصال غير مسموعة. وتخضع العملية الإعلامية الـجادة دائمًا لعمـليات مـراجـعـة وتقويـم وتطوير، وتـجديد وتنويع، ودراسة جدوى، وقياس الجدوى، من متخصصين في شعب المعرفة جميعًا، وتنفق عليها الأموال الطائلة لبناء إمبراطوريتها المعاصرة. فإذا كانت اللغـة عقيمـة متكلـفـة غـير مـأنـوسـة وغـير ملائـمة، فلا تنتج سوى القيم التعبيرية القاصرة والبائسة والمعقدة التي تتحول إلى قبور للمعاني، لا تلبث أن تنقرض وتخلي المكان لغيرها. لقد نجح الإعلام، وفي كل يوم يحقق نجاحات إضافية في توظيف التقنية الحديثة في خدمة الثقافة السياسية والاجتماعية والـحضارية وتـحديث المـجتمعات، وفــق منهجه وأهــدافه ورؤيـتـه في التحديث، التي قد تـؤدي إلى الاســتلاب الـحضاري للأمـم العاجزة والمتخاذلة. إن شمولية القضية الإعلامية للمجالات الحياتية جميعًا، إلى جانب نقل الأخبار، وترجمتها للحياة اليومية، وتسجيلها للتاريخ المعاصر، سوف تكون له نتائج وتداعيات على المستويات كافة. فإذا كانت العملية الإعلامية بهذه الخطورة، وكانت اللغة هي أداتها ووعاؤها، وكانت العربية وعاء المعجزة الإعلامية البيانية، فأين دور العـربـية فــي وسـائل الإعـلام الــيـوم، والوصول إلى الآفـاق الـحياتية الـمتعددة؟ إن الوضع المحزن يتمثل في أن اللغة العامية، لغة الجهل، تتقدم، والفصحى، لغة العلم والتاريخ والتراث والحضارة، تتراجع إلى المعاجم، وأن أساليب تعليمها باتت لا تشجع بل قد تنفر.. والـمشكلة الأساس في كيفية الارتقاء بالعربية في وسائل الإعلام، ولا نعني بالارتقاء بها مجرد رصد وإحصاء الأخطاء على الإعلامي ومحاولة تصويبها. ومـا أزال أذكر بهـذه الـمناسبة ما سمعته من بعض الباحثين من أن أحد الأدباء الكبار عندما ألقى محاضرة في بلاد الـمغرب العربـي، أحصى عليه طالب من دارسي علوم الآله (علوم اللغة ) حوالي سبعة عشر خطأً لغوياً، ومن ثم غاب هذا المحصي ولم يسمع أحد به بعد المحاضرة، وقدم ذلك الأديب الكبير مساهمات أدبية في مجال الأدب الجاهلي والإسلامي و السيرة والمقالة ما نعلمه جميعًا. إن المجامع وكليات اللغة العربية لا تزال تسير خلف الإعلام، تتعقبه بكسر همزة أو بفتحها، أو بتعريب مصطلح شائع، وتبذل الجهود الكبيرة للإبقاء على الوسائل القديمة لتعليم العربية، وكأن وسائل تعليم العربية وطرقها القديـمة مقـدسة لا تمس، لذلك فهي تـحول دون الارتقاء إلى وسائل معاصرة في تعليم اللغة، أو على الأقل الإفادة من (الآخر )، في ميدان التنافس والمدافعة اللغوية والحضارية، الذي يفرد لكل فن إعلامي وعلمي لغة وأسلوبًا ومصطلحات، بل لقد بات يسوق علينا مصطلحاته ومفاهيمه . وقد يكون من المفيد الإشارة والإشادة بوجهة مجمع اللغة العربية في دمشق، حيث عقد ندوة في تشرين الثاني 1998م، تحت عنوان: "اللغة العربية والإعلام "، عرض فيها لواقع اللغة العربية في وسائل الإعلام المتعددة من مكتوبة ومسموعة ومرئية، شارك فيها مجموعة من الخبراء والعلماء، في اللغة، والأكاديميين، وأصحاب التجارب السابقة والإعلاميين. ولقد حاولت الندوة توصيف المشكلة، أو أزمة العربية في وسائل الإعلام، وبحث سبل العلاج، وانتهت إلى مجموعة توصيات يمكن أن تعتبر نقطة انطلاق لمزيد من التفكير، والتنظير، والمثقافة، والمعالمة، إن صح التعبير. ولا شك أن محاولة المجمع المرابطة في المواقع اللغوية الفاعلة والمؤثرة يعتبر جهدًا مقدورًا يثير الاقتداء. ولعل إلقاء نظرة على بعض عناوين المساهمات المطروحة في الندوة، يمنح قدرًا من إبصار المشكلة والرؤية التشخيصية لها، الأمر الذي يعتبر أول الطريق للعلاج والتصويب. ومن العناوين البارزة في الندوة: الإعلام وتنمية الملكة اللغوية، اللغة العربية والإعلام المرئي والمسموع (مقترحات في سبل العلاج والتنمية )، سلطان العربية في مضمار الإعلام، واقع اللغة العربية في الإعلام المسموع والمرئي، اللغة العربية والإعلام المسموع والمرئي، خير الكلام في لغة الإعلام، العربية والقنوات الفضائية، الفصحى ضرورة العصر، دور العربية في مواكبة المصطلح الأجنبي في الإعلام... ونشرت وقائع الندوة وأعمالها في جزأين من المجلد الرابع والسبعين من مجلة المجمع، تاريخ ربيع الأول 1420هـ (تموز-يوليو-1999م )و جمادى الآخرة 1420هـ (تشرين الأول -أكتوبر-1999م ). وهذا التوجه ليس جديدًا على مجمع اللغة العربية بدمشق، فقد سبق له أن أصدر مجموعة معاجم في المصطلحات العلمية والطبية، الأمر الذي ساهم بالمسيرة التعليمية، وعلى الأخص تعليم العلوم التجريبية من طب وهندسة... الخ، باللغة العربية. كما أقام المجمع ندوة أخرى تصب في الموضوع نفسه تحت عنوان: حول منهجية موحدة لوضع المصطلح. وبهذه المناسبة لا يفوتنا أن نذكر أن من بوادر اليقظة اللغوية والثقافية والمعرفية أيضًا، التوجه صوب المصطلح كخيار لغوي وسمة حضارية، والبحث في منهجية التعامل معه ، حيث عقدت ندوة في المغرب، أو دورة علمية تدريبية للباحثين في التراث العربي الإسلامي، قام عليها معهد الدراسات الـمصطلحية في جـامـعـة سيدي محمد ابن عبد الله الفاسي والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، وشاركت فيها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، عرض فيها لمفهوم المنهجية، ومفهوم التراث، ومنهجية خدمة التراث، وتوظيف التراث، وتدريس النص التراثي، ونشرت أعمالها في مؤلف خاص صدر عن معهد الدراسات المصطلحية والمعهد العالمي للفكر الإسلامي. لقد بيّن أصحاب الخبرات الطويلة، في البحث اللغوي واللساني وتعليم العربية، أن أفضل طريقة لتعليم اللغة وأيسرها وأقربها إلى مسايرة الطبيعة هو خلق بيئة سماعية، تنطق فيها العربية الفصيحة بمفرداتها وتراكيبها وعباراتها الثرية المضامين والدلالات.. يقول الدكتور إبراهيم مصطفى وزملاؤه (تحرير النحو العربي، دار المعارف، مصر، 1958م ): إن أفضل طريقة لتعليم اللغة وأيسرها وأقربها إلى مسايرة الطبيعة، هي أن نستمع إليها فنطيل الاستماع، ونحاول التحدث بها فنكثر المحاولة، ونكل إلى موهبة المحاكاة أن تؤدي عملها في تطويع اللغة وتملكها، وتيسير التصرف بها، وتلك سنة الحياة في اكتساب الأطفال لغاتهم من غير معاناة ولا إكراه ولا مشقة، فلو استطعنا أن نصنع هذه البيئة التي تنطلق فيها الألسن بلغة فصيحة صحيحة، نستمعها فتنطبع في نفوسنا، ونحاكيها فتجري بها ألسنتنا، إذًا لملكنا اللغة من أيسر طرقها، ولمهد لنا كل صعب في طريقها. ونعتقد أنه بإمكان وسائل الإعلام المتنوعة أن تكون معلمة للغة أيضًا، وذلك بإسهامها في إيجاد هذه البيئة السماعية الفصيحة.. وبإمكان هذه البيئة، بيئة السماع والمشاهدة، إذا ما أحسن استثمارها وتوظيفها، أن تجعل اللغة العربية الفصيحة المعاصرة الميسرة السهلة لغة الإعلام، في كل فعالياته ومجالاته وبرامجه. فالإعلام إذا كان بالمستوى المطلوب، لغة وأداءً، يصبح مدرسة لتعليم اللغة.. ذلك أنه مع استمرار السماع ينضج الأسلوب والطريقة في الذهن، فتتولد المقدرة على المحاكاة، فيبدأ الإنسان في استخدام اللغة السليمة في حاجاته وأغراضه وأفكاره. وهذا يعني أن وسائل الإعلام قادرة على تنمية الملكة اللغوية عند المتلقي، مما سوف يؤدي إلى الارتقاء بالإعلام نفسه، والتحول من لغة الأمية والجهل "العامية " إلى لغة العلم والحضارة "الفصحى"، والارتقاء بالأداء، وبناء القاعدة اللغوية والثقافية المشتركة، الفصحى، وبذلك يشكل الإعلام، بكل عطائه، موقعًا مساندًا للعملية التعليمية والتربوية، ولا يتحول إلى وسيلة استلاب ثقافي متقدمة في داخل الأمة وجسرًا لنقل (الآخر ) بكل أحماله المقترنة بالكلمة والصورة. ولابد من الانتباه إلى التعبير بسائر أدواته، فالتعبير بالصورة سبيل إلى التعبير بالكلمة، ذلك أن الجمهور العام يستهلك الصورة الإعلامية أكثر من قدرته على استهلاك معانيها، ومن ثم ينتقل ذهنيًا ولسانيًا من المجسد إلى المجرد. وبعد، فهذا الكتاب يمكن أن يعتبر إلى حد بعيد، محاولة لطرح الموضوع واستدعائه إلى ساحة الاهتمام، حسبها أنها لفتت النظر إلى قضية على غاية من الأهمية والخطورة، وهي لغة الإعلام، أو واقع العربية في وسائل الإعلام وسبل الارتقاء بها. ذلك أن الإشكالية الكبيرة -فيما نرى- ليست باحتلال العامية الكثير من وسائل الإعلام، أو اللحن بالعربية وإشاعة اللحن في ألسنة وعقول المتلقين فقط -ولقد بدأت العامية بالتراجع أمام ارتفاع نسبة التعليم وانحسار الأمية- وإنما الإشكالية الأساس أيضًا هي في اختيار المفردات اللغوية، والأسلوب المناسب، لأنواع الأوعية الإعلامية، من مقروءة ومسموعة ومرئية، ولطبيعة المادة الإعلامية، وفنون التعبير من خبر وتقرير واستطلاع ومقابلة وحوار وتعليق ...الخ، وطبيعة المضامين الإعلامية، حيث يمتد الإعلام اليوم ليغطي جميع جوانب الحياة والمساحات الإنسانية. فهناك الإعلام السياسي، والإعلام الاقتصادي، والإعلام الرياضي، والإعلام الثقافي، والإعلام الأدبي، والإعلام العلمي والطبي، والإعلام الاجتماعي... الخ، ولكلٍ من هذه الأجناس الإعلامية خصائصه ومتطلباته المعرفية، ومفرداته، ومصطلحاته اللغوية والعلمية، وأساليبه المؤثرة، التي تجمع بين مواصفات الخطاب العام والخطاب النوعي في آن واحد. واللغة العربية، بما تمتلك من الإمكان والتنوع، والمترادفات، التي تشترك في معنى واحد، وتتمايز في الوقت نفسه لاختصاص كل مفردة بمعان خاصة بها، تلك الخصوصيات التي قد تغيب في مراحل العجز والتخلف اللغوي فلا تدرك الفروق اللغوية، مؤهلة لتغطية هذه المساحات جميعًا.. ولو كنا في مستوى لغتنا وتقنيات عصرنا، لاستشعرنا بالواجب نحو اكتشاف آفاق للامتداد بثقافتنا وعقيدتنا ورؤيتنا الحضارية. فالإشكالية ليست في استعمال العامية وفشو اللحن اللغوي فقط - كما أسلفنا - لأن هذا أمر قد يكون بسيط المعالجة، وإنما تلك الإشكالية المركبة ذات أبعاد أخرى، لابد أن تتوفر عليها مجموعة اختصاصات معرفية -واللغوية في مقدمتها - للنظر فيها، وتطوير الأدوات لتتوازى مع تطور الإعلام، وبذلك يكون الإعلامي معلَّمًا ومعلِّمًا في الوقت نفسه. والله الموفق. |
استهلال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فلقد أرخى الإعلام سدوله على الحياة المعاصرة، وأضحى يتبوأ مكانة مهمة لدى إنسان اليوم، إذ أصبح يشارك -وبقوة- في تعميم الدرايات والخبرات، وأنماط العيش، والأنباء، وينشرها عبر الآفاق، وعلى أوسع نطاق، وأسرع وقت، مما أتاح للأفكار والمعارف أن تمتد بجذورها عميقًا في أمصار تبعد كثيرًا عن موطنها الأول. وتعد وسائل الإعلام والاتصال -في الوقت الراهن- من الأدوات المثلى لفرض ديمومة هيمنة الحضارات القوية، ولغات أقوامها، وأسلوب حياتهم، فهي تمتلك قدرات هائلة شديدة التنوع، تمكنها من إحداث التأثيرات المنشودة. ومن المعلوم أن داخل كل عملية إعلام تشكل اللغة المستخدمة، وطريقة توظيفها، الركيزة الأساس لنجاح أو فشل السياق الاتصالي، وذلك باعتبارها الوسيلة الأكثر تأهيلاً لتبليغ الأفكار والانفعالات والرغبات والتصورات والقيم. في عصر العولمة الذي نلج ساحاته مرغمين، غير مخيرين، يبرز الصراع اللغوي جلياً، حيث يحتل السعي من أجل الذات، والمنافحة من أجل مواكبة مستجدات الدهر الراكضة، صدارة المواجهات. ومن نافلة القول: إن العولمة الثقافية، هي في حقيقة الأمر تؤسس لهيمنة ثقافة الأمم الأكثر تقدمًا وتصنيعًا، وترضي تجارهم في المقام الأول، كما تغذي روح التسلية المفرطة لدى الناس كافة، وكذلك تسعى لصنع بديل حضاري ذي قوة يبتز التعدد الثقافي واللغوي. من أجل ذلك كله، تكتسي مسألة النهوض باللغة العربية وتأكيد وجودها أهمية قصوى، ويمكن أن يتم عبر المؤسسة التعليمية، والمجامع اللغوية، بيد أن المؤسسات الإعلامية، تتبوأ الريادة في هذا المجال، لأنها ببساطة الأكثر اتصالاً بالناس، والأكثر ملازمة لهم، والأكثر عدة وعددًا. لا أخفي، أن نشر قائمة اللغات التي ستزول خلال هذا القرن، حرض فيّ رغبة البحث عن دور الإعلام في النهوض باللغة العربية، بنوع من التوسع والتركيز، غير أن الأمر من ناحية الاهتمام والبحث والتدريس، يعود إلى ما قبل ذلك بسنوات عدة، ولاعتبارات كثيرة، من أهمها ما يأتي: -غيرتي العارمة على لغتنا العربية، التي هي لسان القرآن الكريم، وعنوان ووعاء حضارتنا. - الأسلوب السيئ الذي تكتب أو تذاع به النصوص بالعربية في وسائل إعلامنا. - أثر اللغة الإعلامية، في إثراء الزاد اللغوي للناس. - جعل اللغة العربية للصحفيين ذلولاً، وعلى الرغم من ذلك لم يمشوا في مناكبها. إن من المتعارف عليه، أن اللغة الإعلامية ترتكز على وتدين اثنين: الأول يخص فن التحرير على ضوء الجنس الإعلامي (الخبر، الافتتاحية، التعليق، الاستطلاع، التحقيق ) والوسيلة الإعلامية (صحيفة، إذاعة، تلفاز ). والثاني: يتصل بطبيعة وخصائص اللغة المستخدمة في العملية الاتصالية.. وعلى الرغم من ذلك، يجري -أحيانًا- توظيفها مع الإخلال بأصولها وقواعدها الثابتة، وعدم المحافظة على سلامتها. ربما يتساءل سائل: كيف السبيل إلى ترقية اللغة العربية بواسطة الإعلام؟ من الجلي أن الإجابة قد تأخذ شكل صيغ عدة يقتضيها الحال، وقد عرضتها على النحو التالي: إن لغة الإعلام، على الرغم من خصوصيتها وتميزها عن أنواع النثر اليومي، إلا أن وسطيتها -أي موقعها بين النثر العلمي والأدبي ولغة الحديث اليومي- تمنحها قوة الاستخدام، وحسن التبليغ، وشساعة الانتشار، وطول الملازمة. ومن نافلة القول: إن لغة الإعلام تتراوح بين النصوص الموغلة في البساطة (الخبر، التقرير ) والنصوص الأشد تعقيدًا (التحقيق، الحديث الصحفي )، حيث تتيح بذلك الفرصة للباحث الكبير والتلميذ الغض، للنهل من نبعها وانتقاء أنسب أساليبها. وهكذا يمكن للإعلام أن يخدم اللغة العربية، ويرقيها بطرق شتى، من ذلك مثلاً: صقل لسان جمهورها وتهذيبه، من خلال ترقية اللهجات العامية والتأسيس للغة مشتركة موحدة، وهنا يمكن للإذاعة والتلفاز أن يلعبا دورًا لا يستهان به في هذا المجال. وكذلك يشكل تعامل وسائل الإعلام مع المصطلحات الجديدة أهمية قصوى في حياة الأمة العلمية والثقافية، إذ أن عملية توظيف المصطلح الحديث الوافد، أضحت تثير جدلاً محتدمًا بين أنصار تأكيد الذات وزمرة الانفتاح الكلي على مستجدات العصر. والصحافة من خلال توظيفها للمصطلحات، تعمل على خدمة هذا الطرف أو ذاك. هذه الدراسة لم تتوقف عند تخوم ظاهرة الإعلام واللغة، بل حاولت الغوص في التفاصيل، واقتراح جملة من الحلول للأوضاع القائمة، وذلك من أجل المساهمة الفعالة في الأخذ بالأسباب لترقية العربية، وجعلها اللغة الأولى على مستوى الحديث اليومي والنصوص المكتوبة. كما أفردت الدراسة حيزًا مهمًا من مادتها لفنيات الكتابة الصحفية وفق المعايير العالمية، وذلك من أجل إثارة الانتباه إلى ضرورة التحكم الجيد في فنون التبليغ والبيان والإقناع، لتحقيق الأهداف المتوخاة كافة. ولا أختم دون الإشارة إلى أن الأسلوب الصحفي، هو شأن الإعلاميين وأهل اللغة معًا، إذ لا يمكن أن نتوقع نتائج ذوات بال، إذا ترك الأمر للمحاولات الفردية، التي تعوزها الصلابة في كثير من الأحيان. والله نسأل أن يوفقنا إلى الخير والسداد، ويهيء لنا من أمرنا رشدًا. |
اللغة والاتصال
تضطلع حواسنا كلها بمهمات اتصالية مع بيئتنا، في حين تعطي اللغة لعملية الاتصال بعدًا آخر، وتثريه ثراءً كبيرًا، وعلى الـخصوص أن "الاتـصال هــو النشـاط الأساسي للإنسان، ومعظم ما نقوم به في حياتنا اليومية إن هو إلا مظاهر مختلفة لما نعنيه "بالاتصال" الذي يحدد بدوره معالم الشخصية الإنسانية، من خلال ممارستها الاتصالية "(1). وقد مر الاتصال الإنساني بمراحل شهد خلالها تطورات بارزة، انتقلت معها العملية الاتصالية من الإشارات البسيطة إلى التكنولوجيات الجبارة، التي يقول بشأنها السيد مارشال ماك لوهان في مؤلفه understanding media المترجم إلى الفرنسية تحت عنوان: pour comprendre media إن تكنولوجيات الاتصال التي تشكل محيطنا، هي امتدادات لأجهزتنا العضوية، وجهازنا العصبي، وهي موجهة للرفع من قوة وسرعة تلك الأجهزة... وتعتبر اللغة من أقدم الظواهر الاجتماعية، حيث تقوم بعملية الاتصال في المجتمع، من خلال التعبير عن الأفكار بواسطة الأصوات الكلامية المؤتلفة في كلمات.. وكما يرى "إدوارد سابير " فإن "اللغة وسيلة إنسانية خالصة، وغير غريزية إطلاقًا، لتوصيل الأفكار والانفعالات والرغبات عن طريق نظام من الرموز التي تصدر بطريقة إرادية "، بل إن "جيفوتز " يرى أن للغة ثلاث وظائف هي: 1- أنها وسيلة للتواصل. 2- أنها عون آلي للتفيكر. 3- أنها وسيلة للتسجيل وللرجوع إلى ما سجل(1). إن تطور اللغة هو الذي جعل الاتصال الإنساني قويًا على نحو خاص، وجعل الجنس البشري يتفوق على عالم الحيوان.. وهو تطور، من حيث الاتساع والعمق المحتملين اللذين أضفاهما على مضمون الاتصال، وكذلك بالنسبة إلى ما كفله من دقة وتفصيل في التعبير(2). والواقع أنه لا توجد حقًا حدود لتنوع وبراعة أساليب الاتصال التي استخدمها البشر، فقد تطورت أشكال الاتصال، ومحتويات وسائله المستخدمة، كما تنوعت باستمرار. وقد ظهرت لغات مختلفة، نتيجة لعدم وجود صلات بين شعوب المناطق المتباعدة.. ولكنها ظهرت بصفة خاصة لأن المجتمعات ذات التقاليد الثقافية والاقتصادية والأخلاقية المتمايزة، احتاجت إلى مجموعة خاصة من المفردات اللغوية، وإلى أنماط لغوية معينة (1). لكن اختلاف ألسنة الناس كما جاء في قول الله سبحانه وتعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم في ذلك لآيات للعالمين } (الروم:22)، يدل بقوة على أن الأمر مقرر في السماء لحكمة لا يعلمها إلا الله، في حين لعب السياق التاريخي لكل لغة دورًا مهمًا في بلورتها وتطورها. وقد سعى الـجنس البشري عبر التاريخ إلى تـحسين القدرة على تلقي واستيعاب المعلومات عن البيئات المحيطة به، كما سعى في الوقت نفسه إلى زيادة سرعة ووضوح وتنوع أساليب أفراده في بث المعلومات (1). وتضفي الكتابة صفة الدوام على الكلمة المنطوقة.. وفي قديم الزمان تم تسجيل القوانين والقواعد الخاصة بطقوس الاحتفالات والشعائر -التي صممت لتعبر عن الجماعة، وتكفل استمراريتها- على ألواح من الصلصال، أو على أحجار منحوتة، أو في لفائف الرّقّ التي تعمر طويلاً، وقد كان لتطور الكتابة فضل في الحفاظ على أهم الرسائل المحملة بالرموز(2). وقد تستخدم اللغة للتعبير عن المعارف والأحداث بدقة ووضوح باعتبارها لغة معرفية، تستخدم في الرياضيات والعلوم الهندسية والتطبيقية، وقد تستخدم لإثارة العواطف والانفعالات في نفوس الناس، أو في نفس الشخص ذاته، عندما يعيش في عالم أحلام اليقظة، لا سيما في الأوقات التـي يكلم فيها نفسه أو دميته، وفي تلك الـحالة يلـجأ الشـخص إلـى الرموز، وهذه الرموز إما أن تكون معرفية تـؤدي إلـى "معلومات" أو غير معرفية تؤدي إلى "انفعالات غامضة وأوهام "(1). وفي ميدان الإعلام، فإن لغة الصحافة وفنونها، هي أساس لكل إنشاء وفن إعلامي آخر، والصورة شريكة الكلمة في أكثر الوسائل، وإن تنوعت بين ثابتة "الصحافة " ومتحركة وناطقة "سينما وتلفاز ".. ومتلقي الرسالة جمهور واسع، وإن اختلفت إلى حد ما نوعيته(2). وتكتسي اللغة المبثوثة عبر وسائل الإعلام الحديثة طابعًا خاصًا، يقتضي كما يقول ماكلوهان: لزوم التوافق بين طبيعة المرسلة الإعلامية والوسيلة الإعلامية، وهذا لا يعني البتة عدم وجود خصائص مشتركة بين المرسلات الإعلامية المختلفة. |
مرونة العربية ذخيرة للإعلاميين
تستمد اللغة مقوماتها من فكر وحضارة أقوامها، ولكل لغة سياقها التاريخي، ومنابعها الفكرية الخاصة بها، وقواعدها النحوية والصرفية الضابطة لها.. ويمثل اللسان في الأمة القاسم المشترك في كيانها، والمعبر الأمين عن حقيقتها الدينية والحضارية والإبداعية. وفي هذا السياق، تعتبر اللغة العربية وعاء ومحضن ضميرنا، وتعكس منحنيات تفكيرنا واجتهادنا أو خمولنا. كما تعتبر أقوى أداة للتعبير عن ديننا، وعبقريتنا وهويتنا. لسان القرآن ومهاده: تتميز اللغة العربية عن غيرها من اللغات السامية، بأنها لسان القرآن الكريم، الذي منحها قوة على قوة، ومتن بنيانها، وهي اليوم أغنى لغة في العالم في مفرداتها، ودقة تعبيرها، وهي أصبر وأجلد لغة على كيد أعدائها. يقول العالم اللغوي إرنست رينان ernest reanan إن اللغـة العـربية بدأت فجـأة على غاية الكمال، وأن هذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب تفسيره، وقد انتشرت هذه اللغة سلسة أي سلاسة، غنية أي غنى، كاملة لم يدخل عليها منذ ذلك العـهد إلـى يومـنا هـذا أي تعديل مهم، فليـس لها طـفولــة ولا شيخوخة، إذ ظهرت أول مرة تامة مستحكمة. وينظر الشيخ محمد الغزالي (1) إلى اللغة العربية من منظار ديني، حيث كتب يقول: "فلغة الرسالة الخالدة، يجب أن تتبوأ مكانة رفيعة لدى أصحابها، ولدى الناس أجمعين، فإن الله باختياره هذه اللغة وعاء لوحيه الباقي على الزمان، قد أعلى قدرها وميزها على سواها ". ويقول أيضًا: "والواقع أن اللغة العربية مهاد القرآن الكريم وسياجه، فإذا تضعضعت وأقصيت عن أن تكون لغة التخاطب والأداء ولغة العلم والحضارة أوشك القرآن نفسه أن يوضع في المتاحف "(2). والقرآن كتاب يجـب أن ينـظر إلـيه كل عربـي عـلى أنـه منـهج اللغة الأعلى الذي أصفى مناهلها وأعذب مـواردها (...)، وهو فـي اللغة العربيـة تاج أدبـها وقامـوس لغـتها، ومـظـهر بلاغـتها، فلا عجب إذا ما أَذْعَنَ البلغاء الفصحاء لإعجاز القرآن طوعًا أو كرهًا، حتى أصبحت لغته هي أصح وأدق الأصول اللغوية والبيانية، وصارت هي المقياس والميزان لكل ما يراد للاستشهاد على صحة عربيته من نصوص الأدب الجاهلي(1). وتتيح لغة القرآن للإعلام المكتوب بالعربية أسباب استقامة أسلوبه، لأنها تتسم بمزايا جمالية وبلاغية، لا تتوفر في أي لغة أخرى، فالأسلوب القرآني يوافق الكلام لمقتضى الحال، ويناسب المقام، ويعتمد الإيجاز البالغ، بدون أن يخل بالـمقصود، ويستخدم الإطناب غير الممل، والتراكيب الشديدة التنوع .. وإن تدبر رجل الإعلام لغة القرآن، لا يصقل أسلوبه فحسب، بل يكسبه الأدوات التعبيرية الملائمة لكل حال ولكل حدث... لقد أبدع الشيخ محمد الغزالي، وهو يصف الأسلوب القرآني: "...ومع رفعة المصدر الذي تحس أن القرآن جاء منه، إحساسك بأن هذا الشيء أتى من بعيد، فإنك ما تلبث أن تشعر بأن الكلام نفسه قريب من طبيعـتك، متجـاوب مع فـطرتك، صـريح في مـكاشفـتك، بـما لك وما عليك، متلطف في إقناعك، فما تجد بدًا من انقيادك لأدلته، وانفساح صدرك لتقبله ". سمات اللغة العربية: يشير الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه "فقه اللغة " إلى أن اللغة العربية تتوافر على عاملين، لم يتوافرا لغيرها من اللغات السامية: لقد احتفظت العربية بأكبر قدر من مقومات اللسان السامي الأول، وبقي فيها من تراث هذا اللسان ما تجردت منه أخواتها السامية، فتميزت عنها بفضل ذلك بخواص كثيرة، يرجع أهمها إلى الأمور الآتية: 1- أنها أكثر أخواتها احتفاظًا بالأصوات السامية.. 2- أنها أوسع أخواتها جميعًا، وأدقها في قواعد النحو والصرف.. 3- أنها أوسع أخواتها ثروة في أصول الكلمات والمفردات.. اللغة العربية، تتميز بغزارة في مفرداتها، ودقة في قواعدها، وسمو ومرونة في أساليبها، وثروة في آدابها وتراثها، وقدرة الإبانة عن مختلف نواحي التفكير والوجدان ، ومن تلك السمات نذكر ما يأتي(1): 1- أن فـي اللغـة العـربية من الـمقومات والدقة الصارمة والأسس ما يخولها لأن تكون قادرة على أخذ مكانها الصحيح في هذا العصر. 2- الألفاظ العربية هي أوزان موسيقية، والكلمات ذات الوزن الموسيقي الواحد لها دلالة معنوية محددة. 3- اللغة العربية هي اللغة الحية الوحيدة في العالم، التي بقيت دون تغيير في كلماتها ونحوها وتراكيبها منذ أربعة عشر قرنًا مضت. 4- إن اللغة العربية فيها من القواعد الرصينة والأساليب البلاغية ما يضبط الدلالة على المعاني الكثيرة المعتادة. 5- معظم مشتقاتها تقبل التصريف، إلا فيما ندر منها، وهذا يجعلها في طوع أهلها أكثر من غيرها، ويجعلها أيضًا أكثر تلبية لحاجة المتكلمين. ولعل من أخص ما ميز اللغة العربية استعمالها الدقيق للفظ، حتى أن هذه الدقة في الاستعمال اللغوي قد عنيت بها كثير من كتب اللغة قديمًا، فأسست بذلك منهجًا في الدرس اللغوي(1). ومن ضروب الدقـة ما يظـهر فـي اقـتران الألفـاظ بعضها بـبعض، فقد خصص العرب ألفاظًا لألفاظ، وقرنـوا كلمات بأخرى، ولم يقرونها بغيرها، ولو كان المعنى واحدًا، فقد قالوا في وصف شدة الشيء: - ريح عاصف - برد قارس - حر لافح وفي الوصف بالامتلاء: - كأس دهاق - بحر طام - نهر طافح - واد زاخر - فلك مشحون - مجلس غاص. يقول الدكتور محمد المبارك رحمه الله في مؤلفه (فقه اللغة ): "إن دقة التعبير والتخصيص، سبيل من سبل الفكر العلمي الواضح المحدد، تحتاج إليه كل أمة في تربية أبنائها على التفكير الواضح الدقيق، الذي يعدهم للعمل والبحث العلمي ". والتخصيص اللغوي، والدقة في التعبير، أمور لا بد منها للصحفي لوصف دقائق الأشياء، وإبراز خصوصياتها وطبيعتها الـمتميزة، وكذلك للتعبير عن الـمشاعر والعواطـف والانفـعالات، والألـوان فـي شتى صورها.. يقول الأستاذ محمد مراح(1): لقد وجدنا المصطلحات الآتية: (في كتاب التربية البدنية ) كرة القدم: (ضربة مرمى - ضربة جزاء - ضربة البداية )، ومن الجدير بالذكر أن هذه المصطلحات، قد وردت على أحد المـجامع اللغـويـة العربـيـة، فاسـتـقر الــرأي فـيها على استبدالها كالآتي: (ركلة هدف، ركلة العقوبة، ركلة البداية )، والملاحظ استبدال (ضربة ) -بـ (ركلة )، ومرد هذا الاستبدال دقة الاستعمال اللغوي، وقد ورد في "الصحاح للجواهري ": "الركل: الضرب بالرجل الواحدة ". إننا الآن ندفع ثمن ما أصاب لغتنا العربية إبان عصور الانحطاط، الحقبة الاستعمارية، وإذا نحن لم نجتهد ونكد لاستدراك الأمر، فإن الأجيال القادمة ستصلهم لغتنا -بدون شك - وهي في أسوأ حال. وكما يقول الدكتور محمد المبارك في كتابه (خصائص العربية ): "إن العربية قد أصيبت في عصور الانحطاط بمرض العموم، والغموض، والإبهام، كنتيجة لافتقاد وظيفتها الهادفة في هذه العصور، فضاعت الفروق الدقيقة بين الألفاظ المتقاربة، فغدت مترادفة، وكثر استعمال الألفاظ في المعاني المجازية وصرفت عن معانيها الأصيلة، فضاع الفكر بين الحقيقة والخيال، وزالت الخصائص المميزة والفروق الفاصلة، وأصبح لكل موضوع مهما تكرر قوالب من اللغة ثابته، وأداة اللفظ لا تتغير، وتعابير مصوغة لكل مناسبة أو موضوع، تنقل وتلصق كلما تكررت تلك المناسبة، أو عرض ذلك الموضوع: وصف حديقة، أو تعزية صديق، أو التعبير عن فرح، أو طرب، لم يتغير الكلام، أيًا كانت تلك الحديقة، وفي أي بلد، وأيًا كانت مناسبة التعزية أو الفرح، وفي ذلك قتل لخصائص اللغة العربية ومزاياها الإعلامية، من إبراز المقومات والمزايا الخاصة والدقائق الخفية ". ونحن اليوم أحوج مانكون إلى بعث اللفظ الدقيق من لغتنا، وإحياء الفروق بين الألفاظ، لتكون لدينا لغة تصلح أن تكون أداة للإعلام العربي في مواجهة التقدم الهائل، وانطلاق وسائل الاتصال بالجماهير(1). إن العربية التي قال عنها أحد أعلام الفكر الإسلامي: إنها اللغة التي لا يحيط بها علمًا إلا نبي، لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تكون أداة عرقلة للتعبير الصحفي، فهي تحتمل قوة الوصف، وغور الإحساس، وشدة التنوع، ودقة المقصد، وأصالة الشيء. ومن الأكيد أن الصحفي الذي يكون زاده اللغوي ضحلاً، سينتج -بلا ريب - نصوصًا مشوهة، تنقصها الصلابة والدقة وقوة التعبير، وقد نعيب لغتنا والعيب فينا.. وهكذا، فإن اللغة العربية جعلت للصحفيين ذلولا فما عليهم إلا المشي في مناكبها. |
الأسلوب مسؤولية الإعلاميين واللغويين يرتبط الأسلوب الصحفي بالمعلومة أشد الارتباط وبالواقع الحي الملموس، وبجرد اللحظة عند تشكلها، الأمر الذي يجعل بعضهم ينعت الصحفي "بـمؤرخ اللحظة "، والأسلوب الصحفي بـ"الأدب العاجل ". يقول الدكتور نصر الدين العياضي في كتابه (مساءلة الإعلام ): لم تظهر لغة النص الصحفي بين عشية وضحاها، بل تطورت بعد سنوات من الممارسة التي صقلتها الوقائع الآتية: ارتقاء المستوى الثقافي للجمهور، وملموسية المواضيع التي تتناولها الصحافة، والوجود الفعلي والحقيقي للوقائع والأماكن والأشخاص، وكذلك المردود الآني الذي ينتظر أن تحققه الصحافة. يقول النقاد: إن النثر الصحفي يقف في منتصف الطريق بين النثر الفني، أي لغة الأدب، وبين النثر العادي، أي لغة التخاطب اليومي، له من النثر العادي ألفته وسهولته وشعبيته، وله من الأدب حظه من التفكير ،وحظه من عذوبة التعبير، ولعله انطلاقًا من ذلك المفهوم للنثر العلمي، أطلق بعض أساتذة الصحافة على لغة الصحافة، بأنها الأدب العاجل (1). ويجمع الباحثون الإعلاميون على أن لغة الإعلام تتمثل أساسًا في إشارات منطوقة أو مكتوبة أو مصورة، تمر من خلالها الرسالة الإعلامية إلى الجمهور، حيث لا يتم الإعلام الكامل، إلا إذا وجد رجل الإعلام اللغة التي يقتضيها الحال للتعبير عن طبيعة المعلومات والأفكار أو المشاهد والأحداث. وبما أن القائمين على العملية الاتصالية في وسائل الإعلام المختلفة، يسعون لكي تدرك رسائلهم أكبر عدد من الناس، فقد حرصوا على أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار في الممارسة. علاوة على ذلك، فاللغة الإعلامية مطالبة بملاءمة عباراتها مع طبيعة الأحداث المعالَجة (بفتح اللام ).. فمن الجلي أن أسلوب نقل المعلومة من مختبر البحث، يختلف عن رصد حشد من الناس، ويختلف عن وصف مأساة إنسانية، كما يختلف عن التعبير عن جدل فكري، وأيضًا عن وصف مؤمن في لحظة تعبده وخشوعه، وبذلك يمكننا نعت اللغة الإعلامية بأنها لغة كل شيء. وبما أن اللغة الإعلامية مسخرة للاضطلاع بتلك المهام كافة، فإن أدواتها التعبيرية والفنية ينبغي أن تستجيب لمقتضيات التنوع، وكذلك لخصوصيات الوسيلة الإعلامية. خصائص الأسلوب الصحفي: تتميز اللغة الإعلامية بسمات شتى، وهي تختلف - بطبيعة الحال، عن لغات العلوم والدرايات المتعمقة، لأنها تتجاوز مخاطبة الفئات المتخصصة إلى الجمهور الواسع، ذي المستويات المتفاوتة. وإذا كانت اللغة الإعلامية تحرص على مراعاة القواعد اللغوية المصطلح عليها، فإنها تحاول كذلك أن تحرص على خصائص أخرى في الأسلوب، وهي البساطة، والإيجاز، والوضوح، والنفاذ المباشر، والتأكد، والأصالة، والجلاء، والاختصار، والصحة(1). ويدعو أساتذة الصحافة الكتّابَ إلى استخدام الألفاظ المألوفة، توخيًا للفهم، وتجنب الألفاظ العلمية والاصطلاحية النادرة، بيد أنه إذا اقتضت الضرورة ذلك، فينبغي شرحها، وإعطاء المفهوم الحقيقي لها، والتوسل بالتفسير والتبسيط، في تعميق المفاهيم الأصلية، وإشاعتها على أوسع نطاق، بين الجماهير. ومن بين المهمات الأساس للصحفي تحويل أكثر الموضوعات غموضًا أو علمية إلى جمل عربية بسيطة أسلوباً، ومفهومة معنى. لقد كان كبار الأدباء حين يكتبون في الصحافة، لا يستعملون المفردات والجمل التي لا يدرك معناها الجمهور، الذي يتوجهون إليه، ويجعلون من أسلوبهم همزة الوصل، بين الحقائق العلمية والأدب الرفيع ومستوى فهم القراء. يلخص الصحفي الأمريكي الذائع الصيت جوزيف بولتزر الأسلوب الصحفي في نصيحته للصحفيين المبتدئين قائلاً: "اكتبوا الجمل القصيرة، التي تتجه رأسًا للحدث، فتبين ماذا جرى وأين، اذكروا أسماء الأشخاص، التواريخ والأماكن "(1).. ويلخصه الكاتب والصحفي القدير أرنست همنغواي، في هذه النصيحة العملية: "استعمل الجمل القصيرة، واستعمل الفقرات القصيرة، أكتب بلغة قوية، ولا تنس الكتابة بسلاسة، كن إيجابيًا، وليس سلبيًا "(2). ويسدي الباحث الإعلامي الإنجليزي ماكس جنثر نصيحته الآتية إلى الصحفيين الجدد قائلاً: "إنه على الكاتب توخي الوضوح، وتجنب التكرار الممل، والصيغ المبتذلة، والكليشهات التي سبق ترديدها، والإقلال من الاقتباسات.. ". وضمن هذا النسق من الأفكار، تنبغي الإشارة إلى الأخطار الكامنة وراء استمرار بعض الصحفيين في توظيف القوالب الجاهزة، بدون وعي، وبلا تبصر، الأمر الذي قد يوحي للقارئ، أو المستمع، بأنه أمام لغة جامدة، فاقدة للحيوية والابتكار والتجديد. يقول الإعلامي الفرنسي فيليب غايار: "إن الخاصية الأساسية للكتابة الصحافية هي سلامة اللغة "، ويعدد بعض ملامح هذه السلامة في: الكتابة الإملائية الصحيحة، معرفة تطبيق قواعد الصرف والنحو، حسن اختيار المفردات، والتنقيط المناسب.. ويرى كل من كورتيس ماكدوغال والفريد كرويل، أن من أهم سمات الكتابة الصحفية، هو: إيجاز الجملة والفقرات، الجمل المباشرة، الأفعال والأسماء القوية، الاستعمال الصحيح لقواعد اللغة. إن دعوة الكتاب المرموقين إلى احترام قواعد الكتابة (النحوية والصرفية ) السليمة، يؤكد بأن من الخطر المحدق باللغات، الكتابات الصحـفية التي تتم فـي غالب الأحيان خارج القواعد الصحيحة للغة، مما يغرس في المتلقين روح عدم التقيد بالكتابة السليمة، وازدراء قيودها. يتحدث السيد برنارفوريان في كتابه: (الصحافة في المجتمع الحديث ) عن سلطة اللغة الإعلامية على قرائها قائلاً: "فالصحيفة التي تلتزم بمبدأ التنازل للقراء، وصولاً إلى اجتذابهم، وتداول المواد الإعلامية دون كبير عناء، لا يمكنها أن تغفل حقها في فرض بعض المواقف الإنشائية والأسلوبية والموضوعية الضرورية، حتى ولو أدى ذلك إلى تنفير بعض القراء وامتعاضهم.. ". واللغة العربية -اليوم - في أمس الحاجة إلى هذا الصنف من الصحفيين الذين يرتقون بأسلوب كتاباتهم الصحفية إلى المستوى الذي يساهم في تطوير كتابات القراء، ويعزز أساليبهم، وينميها، وفق الأصول الصحيحة لكتابة اللغة العربية. اللغة الصحفية ولسان الأمة: إن اللغة الصحفية تأخذ الكثير من سماتها من طبيعة لسان قومها ذاته، وهكذا فإن الطريقة التي نتحدث بها عن الأشياء تختلف من ثقافة إلى أخرى، وعلى سبيل المثال، فإن بعضهم في أمريكا اللاتينية، يميلون فيما يبدو إلى اللغة المبالغ في زخرفتها في القصص الإخبارية، وهم على استعداد لقراءة ما يكتبه الصحفي، أو الكاتب، لأسباب أسلوبية، بل إن بعض الكتاب في أمريكا اللاتينية، يشعرون بأن استخدام نفس الكلمة مرتين في حالة وجود مرادف لها، يمثل جريمة ضد الأسلوب(1). وتؤثر اللغة الإعلامية في تصورات الناس، وفي استجلاء حقيقة الأحداث والأشياء، وفي إغناء الرصيد المعرفي واللغوي للجمهور.. ومن أجل ذلك، فإنه من سوء التدبير بمكان أن يترك لمن هب ودب أمر استخدام الأسلوب الصحفي أنى شاء. يتساءل الباحث الاجتماعي الجزائري الدكتور عبد الله شريط قائلاً: "نعم، إن لغة الصحافة اليوم ربما حققت شوطًا في هذا الغرض، وإن بقي من بين فصحائنا من يتعالى عن استعمال لغة الصحافة استكبارًا أجوفًا، ولكن ألا يكون من العجيب أن نترك أمرًا خطيرًا كهذا لا يبحثه علماء الاجتماع، ولا علماء اللغة، ولا علماء المجامع اللغوية، ويبقى لمبادرات الصحفيين، وهم على ما هم عليه من ضعف المستوى في المواد العلمية، وفي المادة اللغوية، وفي معرفة مشكلات المجتمع جميعًا، معرفة معمقة "؟! ثم يردف قائلاً: "إنـنا بوصـفنا عـلماء الاجتماع، ليس من شأننا، ولا من اختصاصنا أن نتولى نحن تبسيط قواعد اللغة، وحذف ما فيها من حشو، وابتكار أساليب جديدة في تعليمها وكتـابتها، ولـكن من شـأننا ومـن اختـصاصنا أن نـطـالب علـمـاء اللـغة بذلك "(1). وما يجب التنبيه إليه هنا، أن الأسلوب الصحفي، ينبغي أن يكون هادفًا في صياغته، وملمًا بمقاصده.. وكما يقول محمد حسنين هيكل: فإن الكلمة الإنشائية تزول، وتبقى الكلمة التي تعكس واقعًا هو جزء من تصور الناس؟! وفي ظل هذا الواقع المعقد جدًا، لا ينبغي إثقال كاهل الصحفي بنصيب مفرط من المسؤولية، فيما يتعلق بالأسلوب، لأن المجتمع الذي ينشط في كنفه الصحفي، يؤثر بدوره في أسلوبه، ومن ذلك مثلاً: الأسلوب الذي يصرح به الأشخاص النافذون في المجتمع، والأسلوب الذي تصاغ به الخطب، والأسلوب المعتمد في المؤسسات التعليمية، والأسلوب الذي يتجاذب به الناس أطراف الحديث في حياتهم اليومية. وأحيانًا تتم "تنقية " اللغة التي يستخدمها بعض الشخصيات الرسمية، أو من يكتبون رسائل إلى المحررين، وذلك بواسطة المحررين للتخلص مما بتلك الرسائل أو التصريحات من أخطاء لغوية، أو ألفاظ سوقية.. وعملية "التنقية " التي تتم ليست بالضرورة لحماية مصدر الأخبار، فعادة ما يكون التبرير لها هو أن التعليق الذي ذكره المصدر، يصبح أكثر وضوحًا، وأقرب إلى فهم القارئ، أو أن الجمهور سوف يعترض بشدة على الألفاظ المستخدمة في الأصل(1). بعث الروح في المخزون اللغوي: وفي خضم التحولات الجارية اليوم على كل المستويات، يجد الأسلوب الصحفي نفسه أمام تحدي مواكبة المستجدات. فاللغـة مؤسسة قارة، أما الحقيقة فهي سيرورة ديناميكية، فالواقع يتغير "بسرعة " أما اللغة فتتغير بوتيرة أقل، بالـمقارنة، وهي لا تتجاوب إذًا مع ما يحدث في الواقع إلا بعد حين(2). قد يعمد الصحفيون عن قصد، أو غير قصد، إلى جعل عبارات أكثر تداولاً دون غيرها.. وفي حياة الناس، يقع الأمر نفسه، حيث يظل كم هائل من الألفاظ نائمًا في ثنايا القواميس والمؤلفات الجادة، ينتظر من يوقظه من سباته. فمثلاً، يتراوح عدد الألفاظ في اللغة الإنجليزية ما بين 500 و600 ألف كلمة، وهذا المـخزون اللغوي، لا يستغل إلا في ما تيسر مـنه، ذلك أن الأفراد لا يستـخـدمــون في مسـار الـمــحادثة اليومـية إلا حوالي 5000كلمة، وتحتوي القصة أو الرواية ما يقارب 10000 كلمة (1). إن الاستعـمـال الـخاطــئ لـلـغـة، سـواء أكان داخـل وسـائـل الإعــلام، أم خارجها، يعطل فكر أهله، ويشل قدرات الناس الذهنية، ويفسد لسانهم. وعندما تمر المجتمعات بفترات سيئة في تاريخها، ينعكس ذلك على لغة الإعلام، لأن الواقع بشذوذه وتشابكه وتعقيده عندما ينعكس في الإعلام لابد أن تبدو صورة الشذوذ والتشابك والتعقيد في اللغة المستخدمة أيضًا(2). |
لغة المشاهدة والمحادثة
يعرف معجم مصطلحات الإعلام (1) الكتابة للإذاعة بأنها: "الكـتابة باللغـة الـتي يستعملها الناس عـادة، والتـي تتـمـيز بالإيـجاز، والوضوح، لإثارة اهتمام عامة الناس، كما تكتب للحديث، لا للقراءة ". وكما يقول "أدوين واكين " في كتابه "مقدمة إلى وسائل الاتصال": فإنه في حالة الراديو، تحل الأذن محل العين، ونرتد إلى الكلمة المنطوقة. صحيح أن جميع العبارات المذاعة، تقرأ من نصوص مكتوبة، ولكنها معدة بحيث يصغي إليها الجمهور، وليست معدة للقراءة، وإذ يتلقى المستمع الرسائل الـمذاعة، فإنـها لا تلبث أن تنقضي سريعًا، وتزول بمجرد سماعها. فالكلام المنطوق -على نقيض المطبوع- لابد له من أداء مهمة الاتصال من اللحظة الأولى، فالكلام حـين يكتب، ويدون، يـمكن قراءتـه، وإعـادة قراءته، أما حين ينطق به فهو يتلاشى ". ويقول الأستاذ فيرنون أ.ستون(1): "لعلك تجد في كتابة الأخبار للراديو أو التلفزيون تغييرًا عن الكتابة للصحف، فالنسخة التي تكتب خصيصًا للإذاعة،تتطلب التعبير الذي قد يكون طبيعيًا بالنسبة لك، أقصد أسلوب الكلام اليومي المعتاد، ونحن نتعلم الكلام قبل أن نتعلم الكتابة، ونتكلم أكثر كثيرًا مما نكتب خلال عملية التفاهم اليومي مع غيرنا من أبناء المجتمع.. غير أن الكلمة غالبًا ما تفقد طبيعتها عندما يفكر الكاتب في الأعمدة المحدودة المساحة، والقواعد الصحفية المتخلفة عن عهد غابر، بينما يفكر الكاتب الذي يكتب للإذاعة والتلفزيون -بدلاً من ذلك- في الكيفية التي سيكون عليها وقع الكلمات، وتكويناتها، على أذن المستمع.. والقاعدة هي أن تنطق الأخبار وأنت تكتبها ". تتميز لغة الإذاعة بالوضوح، والاقتصاد، والسلاسة، حتى يمكن أن تصل إلى الجمهور من المستمعين في وضوح يساعد على الفهم والمشاركة في تتبع المضمون.. ومن جهة أخرى كان على هذه اللغة المذاعة أن تراعي أن من أصول الإلقاء الإذاعي تقدير القيمة الصوتية للألفاظ، والتدقيق في استخدامها، وفي معرفة وقعها الحقيقي على الأذن.. وفي ذلك كله، ما يتجه بهذه اللغة المذاعة إلى الاقتصاد في عدد الألفاظ، والاقتصار على القدر المطلوب لتحقيق الفهم والمشاركة(1). ويتمثل الأسلوب الإذاعي، بالمقارنة مع البلاغة المكتوبة، في شخصية الإذاعي، في بنية جملته، واختيار ألفاظه.. في نبرات صوته.. في إلقائه، وخفة النكتة، والبشاشة التي تصدر من كلمته وابتسامته (عبر الميكروفون )(2). ملاءمة العربية للأسلوب الإذاعي: لا يختلف اثنان في أن اللغة العربية تعتبر من أهم اللغات العالمية ملاءمة للأسلوب الإذاعي، فقد شكل الشعر العربي النموذج الأمثل في جدلية المشافهة، وكما يقول الشاعر: "والأذن تعشق قبل العين أحيانًا ".. كذلك يتيح ثراء اللغة العربية للصحفي الإذاعي بأن يعرض مادته، وفق الأسلوب الأكثر سحرًا ووضوحًا، يقول الأستاذ "بيثر ويليت "، أحد رواد الأخبار الإذاعية في الولايات المتحدة الأمريكية: "إن المستمع يستنجد بخياله الخاص، لتصوير المنظر، والمخبر الإذاعي الممتاز هو الذي يستطيع أن يصور المنظر بنفس الدقة والإتقان اللذين يلتزمهما المصور، فعلى المخبر الإذاعي أن يرسم بالكلمات صورًا حية ". ويسعى رؤساء التحرير في محطات الإذاعة والتلفزيون في العالم بصفة مستمرة إلى مراجعة المادة الإخبارية، حيث يكون اختيارهم للكلمات مقصودًا، وقائمًا على دراسة دقيقة لطبيعة اللغة المستخدمة، والإطار الدلالي للألفاظ، أو مدى ما تحدثه من تأثير. لقد كان الإعلامي الأمريكي "أودين نيومان "، بمحطة إن بي سي، ينكب على النصوص المكتوبة، يحذف العبارات المبتذلة المستهلكة والكلمات الزائدة (الحشو )، بهدف الوصول إلى أسلوب مقبول مصقول (سلس ) . وتتكون المادة الإعلامية الإذاعية عمومًا من عدة عناصر، وهي الكلمة الـمنطوقة، والمؤثرات الصوتية، والموسيقى، والحضور الإنساني المباشر. ويشترط في اللغة المنطوقة، أن تتسم بالشمول، والسرعة، والمباشرة، والواقعية، وأن تستخدم أقل عدد ممكن من الألفاظ، للتعبير عن أكبر عدد ممكن من الأشياء، في وضوح وبساطة، وإيجاز، وتأثير(1). هناك فروق جوهرية بين الكتابة للعين، والكتابة للأذن، فمعالجة الخبر الإذاعي، تتطلب الأخذ باللغة السهلة المبسطة، والاعتماد المباشر على أسلوب التخاطب والحوار(2). يقول مؤلفا كتاب (3) (L,information radiotelevise ) هناك حدود لما يقوله صحافيو الإذاعة والتلفزيون، وأن غالبية هذه الحدود مفروضة، ليست بالقانون ولكن بالوقت وبالقدرة على اجتذاب الجمهور.. وتـحديات الوقت تفرض على الأخبار الـمذاعة والـمتلفزة، قيدين هامين: أولاً: إن صحافيي الصحافة المنطوقة، مجبرون على اختصار أخبارهم، بحيث لا يمكنهم التطرق إلى كل مواضيع الأحداث، التي تتناولها الصحافة المكتوبة، ثم إن تحقيقاتهم لا تتضمن الكثير من التفاصيل، كما هو الشأن في الصحافة المكتوبة.. ويتمثل القيد الثاني في: صعوبة الوصول إلى أحسن نتيجة من خلال حصر وضغط الكتابة.. ومن هنا فإن الجمهور لا يمكنه الحصول على أكبر قدر من المعلومات انطلاقًا من الاستطلاع الإذاعي، أو التلفزيون، أي من خلال استطلاع مكتوب بطول قصير جدًا. ويسدي الباحث الإعلامي الأمريكي "فيرنون " نصيحته الآتية إلى الصحافي العامل بالإذاعة، الذي يستخدم برقيات وكالات الأنباء، أو تقارير الصحف: لاتنقل كالببغاء أي قصة إخبارية في برقيات وكالات الأنباء، أو الصحف، ولكن اقرأ الموضوع بطريقتك الخاصة، وقصها بكلماتك أنت، دون أن تستخدم النسخة -المصدر- إلا كمادة خام فحسب، ولعل كثيرًا مما يدعى (نسخًا أعيد تحريرها )، ليس في الواقع أكثر من مقتطفات (أعيد نسخها ). إن العربية باستطاعتها التأقلم مع أي أسلوب إذاعي أو تلفزيوني، نـظرًا لـثراء مـفرداتـها وتنـوعها، وقــوة تـعبيرهـا، وصـدى كلماتها، وما نلاحظه -اليوم - من قصور في اللغة المذاعة عندنا، يعود إلى الصحفيين أنفسهم، الذين لا يتحكمون في اللغة، أو في فنيات الكتابة، التي يقتضيها الاتصال الإذاعي الناجح. والأكثر فظاعة في الأمر أن هناك من يجعل من اللغة العربية كبش فداء لنقائص الصحفيين، ويوصمها ظلمًا وزورًا بعيوب هي بريئة منها. هذا الواقع يفرض على القائمين على الوسائل السمعية البصرية، الناطقة بالعربية، ألا يتركوا أمر الأسلوب للصحفي وحده، لأنه من النادر أن تجد صحفيين إذاعيين يكتبون نصوصًا لا تحتاج إلى مراجعة وتصويب وصقل. قام أحد أعضاء مجمع اللغة العربية بسوريا، بدراسة خمس نشرات من نشرات الإذاعة السورية، خلال يناير1983م، ثم قدم نقدًا للغة الخبر الإعلامي قائلاً: "إن الخبر أول ما يقصده قارئ الصحيفة، أو المستمع إلى الإذاعة، فوجب أن تكون العناية به صوغًا وأداء، من حيث سلامة لغته، وجودة أدائه.. وإذا كان لكل فن بلاغته فبلاغة الخبر هي في سرعة وعي القارئ أو السامع دون عناء، باللفظ السهل الموجز، الخالي من التزويق، أو التفخيم، أو الابتذال، وألا يثقل الخبر بالعواطف السلبية، أو الإيجابية "(1). ويضيف قائلاً: "تُعنى الـجملة العربية بالـحدث قبل المـحدث، لذلك كـثيراً ما يتصدرها الفعل، وحين تقوم أغراض بلاغية تدعو إلى العناية بالمـحدث أولاً، فإنهـم يقدمـونه، وهــذا طـبعًا غـير وارد في الأخبار. وقد كثر الخروج على هذه البدهية في الأخبار، فكثيرًا ما نسمع في نشرة الأخبار "الرفيق فلان... [وبعد ثماني كلمات] يقول في جريدة النهار... ولو بدأ بالفعل "قال الرفيق فلان في جريدة النهار" لكان أقرب إلى طبيعة العربية "(1). بناء القصة الخبرية في الإذاعة: ليس ثمة بديل للأسلوب المباشر للجملة، ولبناء القصة الخبرية.. وعندما تكون القصة الخبرية مكتملة في ذهنك، فينبغي عليك عندئذ أن تحكيها بطريقة مباشرة، وعليك أن تتجنب استخدام الجمل الاعتراضية، أو شبه الجملة في بداية الجملة (...)، وينبغي أن تجذب المقدمة (مقدمة الخبر ) الاهتمام إلى العنصر الرئيس في القصة الخبرية، ولا ينبغي أن تـحشوها بحـقائق عديدة، ولا تحاول حشد العناصر الخمسة وهي: (من، أين، متى، لماذا، كيف ) في المقدمة، لأنك بذلك تفقد أذن المستمع، عن طريق تحميله بما لا يطيق(2). إن الخبر المذاع كتب ليسمع، ولهذا فإن صياغة أخبار الإذاعة تتجه إلى إحداث الأثر السريع، بالعرض المباشر، والكلمات المؤثرة، والجمل القصيرة المقتضبة، والفقرات القصيرة، والكلمات المنتقاة بعناية.. ويوضع الخبر الإذاعي والتلفزيوني إذن في أقصر صيغة، ليؤدي المعنى في أقصر وقت، فالمطلوب لهذا الخبر مباشرة أكثر، وتركيزًا أعمق، وبساطة أوضح. وبدوره، فإن الخبر التلفزيوني أقصر من الخبر الإذاعي، إذ أن الصورة تكمل الخبر.. وهناك قاعدة عامة للخبر التلفزيوني، هي أنه ما دامت الصورة تكمل الخبر، فلا يجوز إذن أن يتعرض للتفاصيل، حتى لا يوزع انتباه المشاهد بين الصوت والصورة، ومن الأهمية ربط الرواية بالصورة، أي أن تسير الكلمة المذاعة جنبًا إلى جنب مع الصور المرئية(1). إن للكلام في الصورة الفيلمية مهمة التوضيح، وإتمام المعاني، وبخاصة في الأفلام الإخبارية الوثائقية، أو التربوية، أو التاريخية، وفي مجمل الأفلام الأخرى الموجهة إلى طبقة معينة من الناس، تتمتع بقدرة متوسطة على الاستيعاب والإدراك والتفسير.. إن تصوير إعصار ضرب إحدى الولايات الأمريكية، لا يعطي محصلته الإخبارية إذا لم يشر فيه إلى المكان والزمان ومقدار الخسائر المادية وعدد الضحايا ومسار الريح ونتائجها المرتقبة... الخ(1). وبما أن الإعلام السمعي البصري، يشكل المصدر الأساس للإعلام والـمعرفة في المـجتمع ذي الأمـيـة والفئات المتمدرسة، التي لا تتقن العربية، وتتنوع فيه اللهجات، فإنه يمكن أن تُستغل الإذاعة والتلفزيون من أجل تعزيز الرصيد اللغوي للأفراد، ومنحهم الفرصة لاستيعاب الألفاظ الجديدة، ونطقها النطق السليم. وتشير دراسات لغوية عديدة إلى أن لغة تلاميذ المراحل الأولى من التعليم هي مزيج مما يسمعونه في الإذاعة والتلفزيون، وفي الحديث اليومي، وكذلك في المؤسسة التعليمية، وبذلك لم تعد المدرسة تحتكر عملية إثراء الرصيد اللغوي للتلميذ. وهذا الواقع يفرض على القائمين على المؤسسات الإعلامية السمعية البصرية أن يحرصوا أشد الحرص، عند استخدامهم العبارات، والألفاظ في تبليغ الأخبار والمعلومات. الوسيلة والأسلوب: وهكذا، فبالإضافة إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أثر الوسيلة الإعلامية في صوغ الأساليب، ينبغي أن يوجه الاهتمام إلى اللغة ذاتها.. وفي هذا السياق نرى ضرورة ما يأتي: 1- الحرص على سلامة اللغة، واحترام قواعد النحو والصرف. 2- محاولة توظيف من العامية، الألفاظ التي هي من أصل اللغة العربية والتي بدأ يأفل استخدامها. 3- العمل على إدخال كلمات من صلب اللغة العربية، ووضعها في جمل، من أجل توليف الاستئناس بها، وجعل المستمع يعي سياق توظيفها التوظيف السليم. يعمل بعض الإعلاميين -اليوم - على إغراق لغة الإعلام المسموع في التبسيط الشديد، بحجـة مسايرة التـطـورات الـجارية في المـجالات كافة، بـما فيها تطـور اللغة، غير أنه -في اعتقادي- من الـخطأ مجـاراة مثل هــذه الأفــكار الـتي ستفضـي إلـى تغـذيـة روح الرفض للألفاظ الفصيحة، والألفاظ القرآنية بالـخصوص، لأنها -كما يزعمون- ليست من طبيعة العصر.. ومن هذا المنطلق أرى أن استخدام أحد صحفي إذاعة عالـمية للفظ {في يوم ذي مسغبة}، للتعبير عن المجاعة والفقر في الصومال، قد أتاح للغة القرآن سبيل ذيوعها، كما أحيا لفظها. وكذلك يمكن استخدام عبارة: (وضعت الحرب أوزارها )، إذا كنا بصدد الحديث عن نهاية حرب من الحروب. إذن، فإن التزاوج بين الألفاظ القديمة والحديثة في اللغة المذاعة أمر من الأهمية بمكان، بشرط أن يتم وفق رؤية واضحة وتوظيف واع. كما تعتبر لغة الإعلانات المذاعة، خادمًا قويًا لإثراء لغة المستمعين، حيث تلقنهم عبارات وجملاً ترن في رؤوسهم كلما شاهدوا منتجًا من المنتجات معروضًا سواء في الشاشة، أو في الواقع. كان على اللغة المذاعة، أن تراعي أن من أصول الإلقاء الإذاعي تقدير القيمة الصوتية للألفاظ، والتدقيق في استخدامها، وفي معرفة وقعها الحقيقي على الأذن، وفي ذلك كله ما يتجه بهذه اللغة المذاعة إلى الاقتصاد في عدد الألفاظ، والاقتصار على القدر المطلوب، لتحقيق الفهم والمشاركة(1). إن لغة الإذاعة هي اللغة المنطوقة المجهورة، التي نتوسل بها في الإعلام وصوغ العالم على النحو الذي يجعلها قسمة شائعة بين أفراد المجتمع جميعًا(1). تعلم فن المحادثة: ولئن كانت الصحافة قد دفعت باللغة المشتركة خطوات واسعة إلى الأمام على النحو المتقدم، فإن الإذاعة، وهي صحافة مسموعة، ستكون عظيمة الأثر في زيادة الثروة اللغوية بين عامة الشعب، وفي توحيد نطق المفردات، وفي التقريب بين اللهجات، وليس من المستبعد أن تنجح في إحلال الفصحى المبسطة محل العامية السائدة، ومن ثم تصبح رموزًا صوتية، بالنسبة إلى كاتب أنباء الإذاعة، بدلاً من أن تتخذ شكل رموز بصرية(2). إن الإذاعة والتلفزيون، يمكنهما خدمة اللغة العربية بالأنباء والحصص الترفيهية والعلمية، والرياضية، والفيلم، والمسرحية... ويـمكنهما أيضًا أن يكونا بمثابة الدرس التطبيقي أو المسرح، فـي الـتـعـامل مـع اللـغـة العربيـة، توظـيفًا، ونطـقًا، وإبـداعًا، وإحـياءً أو تجديدًا. وكذلك يمكنهما أن ينجحا في توحيد العاميات، في لغة مشتركة، لا تفرط في اللفظ القديم، ولا تجاري كل جديد حديث، ولكن تكون بين ذلك قوامًا. ويقترح الباحث الجزائري الحاج صالح، تنظيم دورات تدريبية للمذيعين، وكل الذين يشافهون الجمهور، من خلال الإذاعة والتلفزيون، لتدريبهم على التمييز بين الأداء الاسترسالي، الذي يجب أن تكون عليه المائدة المستديرة والمناقشات غير الأكاديمية، وكذلك لغة المسرح، والأفلام، التي تحتل واقع الحياة، كما يعوَّد المذيعون على استعمال الرصيد اللغوي العربي حتى تتوحد اللغة. |
الصيغ التعبيرية في الكتابة الصحفية
تتكون الصحافة المكتوبة من قوالب تحريرية، أجناس أو أنواع، يضطلـع كـل نـوع منـها بوظائف معينة، ويعتمد صيغًا تعبيرية تتلاءم وفنياته. وعلى العموم تعكس الأنواع الصحفية "..." الواقع بشكل مباشر وواضح وسهل، كما تفسر الوقائع والأحداث والظواهر والتطورات، وتتضمن أيضًا التقويم والتحليل والرأي، والتفسير.. وتشتمل هذه القوالب التعبيرية على: الخبر: ويستعمل لنقل معلومات عن أحداث جديدة. التقرير: ويستخدم لنقل معلومات من خلال عنصر ذاتي (شاهد عيان ). الافتتاحية: وتقدم رأي الوسيلة الإعلامية حول حدث ما. التعليق: ويقـدم وجهة نـظر محـددة ورأي واضـح حـول حدث ما (ماوراء الحدث ). الاستطلاع: ويصور الحياة الإنسانية. التحقيق: ويشرح ويحلل ظاهرة أو مشكلة، أو أحداث، ويقدم الحلول بشأنها. الـمقال: وهو رؤية يقدمها كاتب معين لظواهر وأحداث يختارها. الـحديث: محاورة مسؤول، أو مختص... لشرح وإيضاح قضية ما. صياغة الأجناس الصحفية: كما رأينا في الفصل السابق، فإن اللغة العربية جعلت للصحفيين أرضًا ذلولاً، إذا مشوا في مناكبها، وتمكنوا من أساليبها، في التقرير، والبلاغة، استطاعوا صوغ كل الأجناس الصحفية، وفق خصائصها وأسلوبها وفنياتها. يقول الكاتب أدوين واكين: "الاتصال المدون المكتوب، يختلف عن الاتصال الشفوي اختلافًا كبيرًا، لأن الـكتابة تـجري وفقًا لأساليب منتظمة حسنة الترتيب.. فهناك فعل، وفاعل، ومفعول به، وهناك عبارة، ثم فقرة، ثم فصل، أي أن الأمر يسير بترتيب منطقي، نظامي، متسق، تمامًا كما يتحرك القطار على قضبان لا يحيد عنها ". لغة الخبر... الأسئلة الستة: لغة الخبر(1)، الخبر في جوهره، هو الجواب عن الاستفهامات الستة: ماذا - من - متى - أين- لماذا - كيف، والتي يتغير موقعها من خبر إلى خبر. إن كتابة الخبر الصحفي، لم تخضع لتطور تقنيات السرد والحكي فقط، بل خضعت إلى مجموعة من الاعتبارات، التي ساهمت بهذا الـقدر أو ذاك فـي ظهـور أشـكال وتقنيات جــديـدة فـي كتابة الـخبر الصحفي(2)، حيث لا يـمـكن أن نـروي مـا جـرى، وما حدث، في قالب خبر صحفي، بنفس الطريقة العفوية، التي تروى بها السير والملاحم، وبنفس الإطناب والتسلسل، الذي يكتب، أو تقص به القصص الأدبية، التي تجعل القارئ، أو المستمع، لا يعرف حقيقة ما ينقل إليه، إلا عند نهاية القراءة، أو الاستماع، ولا يدري أين هو الأساسي من الثانوي في القصة، لأنها متداخلة بدون تميز ولا موازنة(3). وهناك من يلخص بناء الخبر على النحو التالي: فعل - فاعل - مفعول به أو نعت، وهو ما يجعله يحافظ على أصالة اللغة العربية. إن الأصل في اللغة العـربية هو البدء بالفعل، ولا يقدم الاسم، إلا إذا كان هناك سبب بلاغي يقتضي ذلك، فعبارة: "خرج محمد " جملة تقريرية، أما محمد خرج، فالغرض منها هو تأكيد أن محمد هو الذي خرج، وليس عليًا(1). يجب أن تكون لغة الخبر بسيطة، وواضحة، ودقيقة، ولا يتم ذلك إلا من خلال استخدام الكلمات القصيرة المألوفة بدلاً من الكلمات الغريبة، وتجنب المبالغة في الوصف، أو في التخصيص، وتجنب استعمال الألفاظ التي تحمل معنيين، أو تنطوي على تفاخر لفظي، والاستغناء كلما أمكن عن أدوات التعريف، وحروف العطف، والتكوين، وظروف الزمان والمكان، التي لا داعي لها، واختصار الجمل الطويلة، وتفادي التكرار والاستطراد(2). وأثناء صياغة الخبر ينبغي مراعاة الأمور الآتية: 1- أن تعرض عناصر الخبر في فقرات قصيرة وواضحة. 2- أن تكون الجمل قصيرة. 3- أن تستعمل كل جملة عنصرًا مستقلاً عن الكل. 4- أن تعالج كل فقرة جزءًا مستقلاً عن الكل. 5- أن يتميز العنصر الرئيس من العنصر الثانوي في كل خبر. إن الخبر هو شاهد على الحدث، لكنه ليس شاهدًا اعتباطياً، يقول ما رآه فقط.. الصحفي هو شاهد حي، وانتقائي حي، لأن عليه أن يبحث عن العناصر التي لا تأتي من تلقاء نفسها، وانتقائي لأنه يختار ما يهم الجمهور(1). يرتكز الخبر على فعل، أو عدة أفعال، ولقد أتاحت الصحافة الفرصة لبعض الأفعال دون أخرى لكي تنتشر ويعمم تداولها.. وقد يوظف الصحفيون عن جهل، فعلين أو ثلاثة أو أكثر لنفس المعنى، وقد يستخدمون أفعال المواقف والرأي بصيغة التأكيد والحسم، ومن ذلك مثلاً: أفعال تستخدم لنفس المعنى خطأ: طالب - دعا - ناشد- التمس. أفعال تتعلق برأي وليس حقيقة راسخة، وتستخدم بصيغة التأكيد: أكد - لاحظ- أشار- أوضح- شدد- اعترف. أفعال تتعلق بموقف، ويوظفها الصحافيون أنى شاؤوا: ندد - شجب- حذر - شدد على.. تعهد. اعتماد التعقيد بدل التبسيط - كقولهم: - قام بزيارة (الأنسب زار). - أشرف على تدشين (دشن). إن من الأكيد أن الدقة فـي توظـيف الأفـعال، سـواء كانـت أفعال النشاط، أو الرأي، أو المواقف، تساعد الـمتلقين على وضعها في سياقـاتها الطبـيعية، وتبين الفروق الكامنة بين فعل وآخر .. واللغة العربية من اللغات التي تضمن هذا الأمر بقوة، إن روعي فيها أمر الدقة. لغة التقرير ... الهرم المعتدل: لغة التقرير(1): التقرير الصحفي هو نوع صحفي قائم بذاته، يكتب بطريقة معاكسة للخبر الصحفي (...)، أي يكتب بطريقة الهرم المعتدل (...) أي أن تضم مقدمة التقرير الصحفي مدخلاً، أو مطلعًا، يمهد لموضوع التقرير، بأن يتناول زاوية معينة من زوايا الموضوع، يختارها الكاتب بعناية، وهذا المدخل أو التمهيد، لا يضم خلاصة الموضوع، أو أهم حقائقه، وإنما يضم فقط مطلعًا أو مدخلاً منطقيًا، يتوسل به الكاتب إلى شرح موضوع التقرير، بحيث يضم جسم التقرير التفاصيل، والشواهد، والصور الحية للموضوع، ليصل بذا الكاتب في النهاية إلى خاتمة التقرير الصحفي، وهي التي يكشف فيها عن نتائج أو خلاصة ما توصل إليه، أو يقدم لنا أهم نتيجة أو حقيقة وصل إليها في موضوع التقرير(1). التقرير الصحفي، لا يصلح له إلا الأسلوب البسيط الواضح، والجمل القصيرة، وجمع أكبر كمية من الحقائق والمعلومات، في أقل قدر ممكن من الكلمات، وهو في ذلك لا يعتني بما كتب في الموضوع من أبحاث ودراسات وتقارير، ولا يعنيه أن يسجل كل الحقائق بالأرقام، أو يدعمها بالبيانات والإحصائيات والرسوم(2). هذا النوع الصحفي يمكنه أن يكون أداة دعم للأشخاص الذين يكتبون تقارير في شتى المجالات والتخصصات، ويمكن الاستفادة منه، لا سيما فيما يتعلق باللغة المستخدمة، وكذلك بكيفية ترتيب الأفكار وعرضها. لغة الافتتاحية... قوة الإقناع: لغة الافتتاحية(1): تستمد مادتها الأولى من باب المنطق القوي السليم، والحجة الدامغة المقنعة، والبساطة في العرض، والأسلوب الجميل، والقوة في التعبير عن الرأي، وهناك من يرى بأنه على كاتب الافتتاحية أن يتوسل بكل حيلة من حيل الكتابة لكي يجتذب اهتمام القارئ، ويستأثر به. ويحرص الإعلاميون الكبار، على مسألة الدقة في توظيف اللغة، أثناء كتابة النصوص الإعلامية، التي هدفها الإقناع والتأثير.. وفي نفس السياق، يحذر مؤلفو كتاب (وسائل الإعلام والمجتمع الحديث ) كتّاب الافتتاحيات من تضييع وقتهم، ووقت القراء، في تقديم قضية من القضايا بطريقة القصة الخبرية، وإلصاق في نهايتها فقرة من المدح، أو قدح الشخصية الرئيسة للقضية، فإذا كان لدى القارئ أي استقلال فكري، فإنه سوف يجد أن مثل هذه الافتتاحية لا تعني شيئًا بالنسبة إليه، وإذا ما أثرت فيه عبارة، أو رأي سطحي، فإن أسباب هذا التأثير تكون واهية، نتيجة جملة قالها الكاتب. إن لغة الافتتاحية، بقدر ما يجب أن تكون مقنعة، ومدعمة بالحجج، والأدلة الضرورية، ينبغي أن تكون سهلة وبسيطة، وذات أسلوب يتلاءم وطبيعة قراء الصحيفة، الذين تختلف مستوياتهم الثقافية. إذن تمكن لغة الافتتاحية القراء، من تبني وجهة نظر الصحيفة، وذلك في حالة تمكن كتابها من العربية، وتوظيفها بشكل أخاذ، ومؤثر ومقنع، وقد أكد رسولنا صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة بقوله: "إن من البيان لسحرًا " (أخرجه البخاري). لغة التعليق... ما وراء الأحداث: لغة التعليق(1): التعليق يجعل للأحداث التي تنشرها الجريدة معـنى ومغزى، ويكسبها رائحة وطعمًا، وهو فوق هذا وذاك، يتحكم في نظـرة القـراء إلـى هذه الأحداث، فمرة يحكم التعليق على بعـض الأخـبار بأنها تافهـة، وأخـرى يحـكم عـلـى بعضها بأنـه خـطير، وتـارة يصفها بأنها حوادث عابرة، وأخرى يصفها بأنها مقدمات لأزمة حادة(1). على كاتب التعليق أن يتذكر، أنه ليس مـخبرًا، وأنـه لا يعـظ ولا يصدر تعليمات إلى القراء، ومن ثم فإن الهدف هو الفهم الكامل والواضح للأخبار وما وراء الأخبار (...) وعليه ألا يتوقف عند حد تقديم المعلومات الشارحة وإنما يخلط بين الخبر وبين المعلومات الرامية إلى التفسير من جهة، وبين رأيه من جهة أخرى، وإلا أصبح مقاله تفسيرًا، وليس تعليقًا(2). يدعو المعلقون المرموقون إلى تجنب استعمال عدد كبير من التصريحات أو الخطب، أو استعمال الحجج، التي لا تفضي إلى توضيح القضية الأساسية بحيث يقتضي أن يوضع في الحسبان، بأنه في التعليق، ينبغي أن يركز الصحفي على مسألة أساسية واحدة، وأن يعبر عن وجه نظر أكيدة، أو عن حجة منطقية في شكل وجيز، وهذا يسمح للمعلق بأن يؤدي المهمات التي تعتبر عمليًا مستحيلة في ميادين أخرى كالأدب مثلاً(1). ويجب أن يوضع في البال أن المعلق لا يمتلك إلا سطورًا قليلة، يقدم من خلالها تعليقًا واضحًا ومختصرًا.. ومن المعلوم أيضًا بأن الإكثار من الكلمات الغريبة، أو التعابير الفنية الصعبة، تجعل التعليق نصًا غير سليم، وتجرده من رونقه وجدته، وأحيانًا من البيان السليم.. ومن الجلي أن التعليق الذي لا يقرأ هو تعليق عديم الجدوى، وأن اللغة التي تفتقر إلى الدقة أو السلاسة، وإلى الحجة الدامغة والمنطقية، التي قد تعوض -نتيجة سوء التحكم في الموضوع المعالج- بكلام يستمد من هنا وهناك عشوائيًا، تجعل التعليق يحيد عن الهدف الذي أنجز من أجله، ويخلق التعليق بذلك لدى القارئ نوعًا من الاضطراب الفكري، وسوء الفهم، وبالتالي عدم تقدير الأحداث حق قدرها. إن النص الصحفي الموجه للتعليق على الأحداث، يستند إلى لغة محكمة لا تحتمل سوء التوظيف، وتأبى سوء فهم الأحداث، وهنا يمنحنا النص القرآني الأنموذج الأمثل، حين يحذرنا من اقتفاء أثر ما لا نعلم: {ولا تقف ما ليس لك به علم } (الاسراء:36). كم يدعونا إلى العلم الصحيح، من أجل ضبط تعاملنا مع الأحداث، {نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } (الأنعام:143). لغة المقال... تعميم المعارف وتيسير فهمها: لغة المقال(1): إن إلقاء نظرة على صفحات الجرائد والمجلات الـمعاصرة في العالم، تـجعلنا نكتشف بأن المقال يحتل مكانة ثابتة لا تعوض، فالإنسان اليوم اعتاد انتظار مقالات الكتاب المرموقين. إن فن، أو موهبة صاحب المقال تبدأ في الوقت الذي يكون فيه الموضوع الذي اختاره يثير اهتمام القارئ بالفعل. وإن التحكم في اللغة وخفاياها تسمح للكاتب الماهر، بتقديم وعرض جميع أفكاره بوضوح، وتسمية الأشياء بأسمائها، ووصف الأشياء أو الحياة بطرق جذابة، وأسلوب دقيق، ومفاهيم بسيطة، وكلمات غير غامضة، وهنا يكمن إبداع الكاتب(2). يسهم المقال في إغناء المـحصول اللغوي للقارئ، بما يرد في ثناياه من مصطلحات، وتعابير، ومفاهيم، وبيان مدلولاتها، لتيسير استيعابها، ووضعها في سياقها الصحيح. وكما يقول الدكتور الصادق العماري(1): "يجب ألا ننسى أن المقالة العلمية، ليست بحوثًا في ميادينها، لأنها لا توجه إلى المتخصصين، ثم إنها محدودة من حيث الحجم، ومن حيث الموضوع، إذ ليست ذات عمق لتغوص في نظريات وقضايا دقيقة، ولكن غايتها أن يتناول كتابها الـموضوع برفـق، ويكتفوا بـما هو أقرب إلى الفهم، والاهتمام العام، وعدم الاستغراق في الـمنهجية الصارمة، والمعادلات والرموز العلمية، أو الأسلوب العلمي الصرف المـختزل الصارم الدقيق الذي لا يفهمه إلا أهل الاختصاص ". إن عمل المقال ليس تعليم الفرد ما لم يعلم، وإنما هو إعداده لكشف الحقائق المحيطة به، كما يحول أكثر الموضوعات تعقيدًا وغموضًا إلى جمل بسيطة مفهومة . يحتل المقال بشتى ضروبه -اليوم- مكانة مهمة في بحوث الدارسين والطلبة وأعمال المسؤولين، ومن أجل ذلك ينبغي على كتّاب المقالات أن يتحكموا في الموضوعات المطروقة، وفي اللغة، وفــي أسـلوب عرض أفكارهم، وخـاصة أن الـقارئ الـعارف والـملـم لا يغفر أي غلطة، سواء من ناحية صدق الـمعلومات، أو دقة الألفاظ، أو بناء المقال. وهكذا يـمكن للمقال العلمـي، أو الأدبـي، أو الفنـي، أن يرقى بقوة اللغة العربية، لأنه يقدم العلوم الحديثة، والآراء الجديدة من أصحابها مباشرة، وفور حدوثها، ويـمكن الحصول عليه بيسر واضح، خاصة من خلال الفاكس أو "الإنترنت "، كما تعتبر المقالات من النصوص الأكثر اعتمادًا وعلى نطاق واسع في التعليم بكل أطواره في العالم. وما يزيد في منح الأهمية الكبيرة للمقالة -اليوم- في الصحافة هو الـحاجة الـمتزايدة إليها، لأنها تعمم المعارف النافعة، بلغة ميسرة، سهلة الفهم وتساير مستجدات العصر المتسمة بالعلمية والتطور المذهل. لغة ا لاستطلاع... دعم للتعبير الإنشائي: لغة الاستطلاع(1): لقد اقترن تاريخ ظهور الاستطلاع بنصوص الكتاب الذين وصفوا الطبيعة المحيطة بهم، و الناس الذين كانوا يقاسمونهم الحياة.. ومن أجل ذلك، هناك من يدمج الرحالين ضمن كتاب الاستطلاع، لكونهم قد طافوا عبر عدد من البلاد والأماكن، ورجعوا بوصف لما رأوه، وما لبسوا من أثواب وذاقوا من الأطعمة. إن دخول رجال الأدب في ميدان الاستطلاع، قد مارس بعد الحرب العالمية الأولى تأثيرًا كبيرًا على الطابع الفني للاستطلاع، حيث لم يعد هذا النوع الصحفي، مجرد وصف سطحي، بل تطور في شكل أدبي وحوار وقصة بكيفية تهم الإنسان(2). الاستطلاع المعاصر، ليس مجرد تسجيل سطحي للواقع الحي ولكنه جواب لجملة من الاستفسارات المعقدة المتعلقة بحياتنا، وفي هذه الحالة، فإن تجربة الكاتب الحياتية، ومؤهلاته المهنية، وزاده اللغوي، وإلمامه بالموضوعات المعالجة، تلعب دورًا مهمًا في إنتاج استطلاع ناجح. إن المهمة الأساسية لكاتب الاستطلاع، هو مشاهدته لما يجري حوله من أحداث، وما يقال من كلام، ثم يسجل انطباعاته عن كل هذه الأشياء.. وعمله الأصلي، يتمثل وقتئذ في: النظر - السمع - الفهم- التسجيل، القرار. وهـكـذا، إذا خــانت اللـغة الـكاتـب، أو إذا لم يـشـعـر الــقـارئ أو المستمع بالمكان، وبالأحداث، والناس، أي بالبعد الدرامي الإنساني، الذي يتضمنه كل حدث، يفقد الاستطلاع الصبغة الإنسانية، ويكون ميتًا يشتم من خلاله رائحة التقرير الإداري. وللغة العربية باع طويل في ميدان الوصف، يتجلى ذلك بقوة وكمال في النص القرآني، عند وصف الجنة والنار، وبعض المظاهر والأشياء، كما يتجلى في آثار الرحالين والشعراء، الذين جسدوا الواقع أحسن تجسيد. يمكن للغة الاستطلاع، أن تشكل رافدًا معرفيًا وأسلوبيًا مهمًا للتلميذ، وهو يجس الواقع في محاولاته في التعبير الإنشائي، وهو يصف حركة المرور والريف والبحر، والاحتفالات، وملامح الإنسان. وهكذا، فإن نقل ما تمت مشاهدته والاستماع إليه والإحساس به، كلها عمليات تتطلب من الصحفي، أن يكون مزودًا بلغة ثرية بالمعاني الضرورية لرصد هذه الإحساسات الثلاثة، وأما إذا عجزت لغة الصحفي عن وصف ما رصدته حاسة من الحواس، فإن نقله للواقع الحي المتعدد المشهد، سيكون بدون شك مبتورًا ومختلاً، وغير ذي رونق وجاذبية. إذن، فإن لغة الاستطلاع، يجب أن تكون تنبض بالحيوية والنشاط، أي تجعل الواقع من خلال القراءة، أو الاستماع، أو المشاهدة، يتحرك من جديد كأنه يعاد تمثيله(1). لغة التحقيق... الخمسة أساليب الأساسية: لغة التحقيق(2): التحقيق الصحفي، يحتوي على عناصر الخبر، والتعليق والمقال، والحديث الصحفي، والتقرير، والاستطلاع، والدراسة، ولكنه يستوعب هذه العناصر كافة، ويهضمها ويتمثلها ليشكل لنفسه بذلك طابعًا مميزًا بخاصيته، وشخصيته المستقلة(3). إن صياغة التحقيق، هي عبارة عن عملية بناء متكامل، يشمل اللغة التي تحمل دلالات ورموزًا، يعلم القارئ من خلالها بالمشكلة أو الظاهرة، ويشمل أيضًا تسلسل تقديم وجهات النظر المـختلفة، كما يحتوي على الترتيب المنطقي للحجج والأدلة. وتنقسم صياغة التحقيق الصحفي إلى خمسة أساليب أساسية: 1- أسلوب العرض: ويتميز بالبساطة والجاذبية، ويستخدم عندما يكون التحقيق متضمنًا لكمية هائلة من المعلومات والمواقف. 2- الأسلوب القصصي: ويتميز بالإثارة والحيوية والرشاقة، وغالبًا ما يستخدم في التحقيقات التي تدور حول قضايا تغـطي فـترة زمنية طويلة، أو تشمل مناطق عديدة، أو تتعلق بأطراف مختلفة. 3- الأسلوب الوصفي: يتسم هذا الأسلوب بوجود قدر معين من الوصف المباشر للمكان أو للأشخاص، ويستخدم عادة في التحقيقات التي تهدف في المقام الأول إلى التعريف بأمر ما، أو منطقة ما، أو فئة اجتماعية معينة، وهو أسلوب شائع جدًا وخاصة في المجلات. 4- أسلوب الحديث: وهو يعتمد أساسًا على آراء شخصية واحدة أو عدة شخصيات، بحيث تكون هذه الآراء هي الهيكل، والعمود الفقري للتحقيق، وأثناء عرض هذا الحديث، أو هذه الآراء يقوم الصحفي بتقديم معلومات ووقائع. 5- الأسلوب المختلط: وهو أسلوب عام، لا يتقيد بنمط معين، بل يأخذ من الأساليب السالفة الذكر وفق ما يقتضيه الحال وطبيعة التحقيق ذاته، وهذا النوع من الأساليب يتطلب مهارة لخلق بنية متماسكة للتحقيق الصحفي. إن التحقيق الصحفي، لا يحتمل العرض المبني على العموميات والأسلوب الإنشائي، واستعمال الشعارات، لأنه باختصار يرمي إلى الغوص بعيدًا لمعرفة الأسباب، والتنقيب ليس فقط لتشخيص المشكلة، بل بغرض وضع الحلول العملية الملائمة لها. إن حجم المعلومات، التي يتلقاها الصحفي المحقق، وجودة التحليل، ودقة الاستنتاج، وصلابة الحلول، وحسن توظيف اللغة، كلها أمور ضرورية لنجاح تحقيقه. لغة الحديث... دراسة طرق التفكير الإنساني: لغة الحديث الصحفي(1): يعتقد بعضهم عن جهل وعدم دراية بأنه ليس هناك أسهل من طرح الأسئلة على شخص، وتدوين ردوده، لكنه في الحقيقة هو أعقد من ذلك، وليس كما يبدو لأول وهلة. وعلى العموم يرتبط الحديث الصحفي ببعض قيم المعرفة، حيث يفترض أن يكون الصحفي مستعدًا تمام الاستعداد، وأن يكون ملمًا بالموضوع الذي ستدور حوله المقابلة، وأن يتحكم جيداً في اللغة الخاصة بالموضوع المعالج (اقتصاد- طب - سياسة - تكنولوجيا ). وقد عرف الحديث الصحفي تحولات عديدة في بنائه، فقد انتقل من مجرد خبر بسيط، ليصبح بمثابة دراسة لطرق التفكير الإنساني، وكشف خفايا الأفراد وأفكارهم ومعتقداتهم، ومزاجهم، كما أضحى منهج بحث مهم من أجل استجلاء الحقيقة. ومن المعلوم أن الكيفية الحية للانتقال من النقل البسيط للخبر إلى التطرق للجو العام، الذي يجري فيه الحديث، وإلى عناصره، وكذلك التركيز على خبايا حياة الإنسان، كل هذه المواصفات تظهر جلية لأصحاب الأحاديث المرموقين(1). لقد أثبتت الأبحاث الإعلامية، أن القارئ العادي يتأثر بحديث الشخصيات البارزة في مجتمعه، أو في العالم، أكثر مما يتأثر بكتابات أو أبحاث عن نفس الموضوعات، كما أن القارئ يقترب من فهم القضايا المعقدة من خلال الحوار مع شخصية مهمة، أكثر من أي طريقة صحفية أخرى، وتبرز في الحديث الصحفي عبقرية، وفطنة، وثقافة الصحفي في الحصول على المعلومات التي يرى أنها تلبي رغبة القراء، وتجيب على تساؤلاتهم. ومن الواضح أن كيفية طرح الأسئلة، وأسلوب صياغتها يؤثران بشكل كبير على مضمون وعلى لغة الحديث الصحفي، وهكذا فإن الصحفي الـذي يطـرح أسـئلة سـهلة تـؤدي إلـى الإجـابة بنعم أو بلا، أو بنسبة، لا يمكنه أن يتوقع إلا أجوبة بسيطة، أي من نوع الأسئلة. إذن تشكل لغة الصحافة المكتوبة - اليوم- الإطار الأسلوبي الأكثر توظيفًا واستخدامًا للكثير من الناس. فهي -أي الصحافة- التي تمنح للفظ ما القوة، والتأكيد، والانتشار، والذيوع، من خلال الإكثار من استخدامه، وتضع غيره عن قصد أو غير قصد في طي النسيان. ومن الواضح أن للصحفيين العاملين في الصحافة المكتوبة دورًا مهمًا لأنهم هم الذين يحددون طريقة عرض المعلومات، وطريقة وصف العالم المحيط بنا، وكيفيات السعي لإدراك الحقيقة، والإنباء عن أخبار الناس، وكل ذلك عبر لغة يجد القراء أنفسهم مرغمين على الاستئناس بها، وفي غالب الأحيان توظيفها في حياتهم المهنية، أو عند قيامهم بنشر المعرفة والدرايات في أشكالها المختلفة. تقتضي الصحافة المعاصرة أن يكون ممتهنها ملمًا بفنيات تحرير أجناسها المختلفة، ومتحكمًا بشكل معمق في اللغة المستخدمة، وكذلك واعيًا للأخطار التي قد تنجم عن المعالجات الصحفية العارضة والسطحية، والتوظيفات غير السليمة للأساليب والألفاظ، وانتهاكات القواعد النحوية والصرفية. |
العامية كمدخل للفصحى
يستخدم الناس اللهجات العامية في أحاديثهم اليومية أكثر من استخدامهم للفصحى، وهم يتحـدثـون في الـمـجتـمع الواحد لهجات شتى... وجاءت اللهجات كما قيدتها كتب التراث اللغوي في تسميات مـثل الكشلـشة، العنـعـنة، والفحفحـة، والثـلـثلة، والتضـجع، والعجعجة... ولقد استعمل العرب العامية للدلالة على مستوى اللغة العربية الـذي يـستعمله سـواد الـناس وعـامتهم فـي التـعبير عن أغراضهم، وما العامية في رأيهم إلا الوجه الآخر للفصحى محرفًا قليلاً أو كثيرًا على ألسن الناس ونطقهم. ففي القديم كانت الفروق بين اللهجات تكاد تقتصر على الخصائص النطقية والعادات الصوتية، وما عرض له اللغويون القدامى من أمثلة تخالف اللغة الموحدة المطردة في الفصاحة كان قليلاً (1). علاقة العامية بالفصحى: لم تكن نظرة علمائنا إلى اللهجات مقرونة بالريبة والتخوف بقدر ما كانت مشوبة بالاستنكار وعدم الرضا، ولهذا صنفوا اللهجات في أدنى مراتب الفصاحة، لا خارجها، ووصفوها بالمذمومة والقبيحة والرديئة والمرغوب عنها (1). وعلى الرغم من أن العامية لا تعتمد على قواعد ثابتة، ومنها كثير مشتق من لغات الأعاجم، فإن المشتغلين بالدراسات اللغوية يؤكدون أن اللهجات العامية حافظت على ثروة هائلة من الألفاظ الفصيحة المهملة عند الكتاب والأدباء والمصطلحات العربية الصحيحة التي استنبـطت أيام ازدهـار الـمدنية ولم يضمها معجم ولا سجلها أحد من علماء اللغة إلا في القليل النادر(2). وعلى سبيل المثال، تحتوي العامية الجزائرية على عدد هام من ألفاظ القرآن الكريم، ويتم توظيفها وفق السياقات التي وردت في كتاب الله عز وجل.. وفي ذلك نذكر ما يأتي(3): \ نقول: غاظه الشيء، ويستعمل هذا اللفظ عندما يفقد المرء شيئًا عزيزًا عليه، أو يمنى بخسارة لم يكن يريدها، أو يخونه شخص ما كان يثق فيه.. قال الله تعالى: {وإذا خلو عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } (آل عمران:119) . ونقول: فرّط (بتشديد الراء ) في الشيء، بمعنى قصر فيه وضيعه وبدده، وتستخدم خاصة عندما يهاجر الشخص ولا يسأل عن والديه أو أهله.. قال الله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء } (الأنعام: 38) . ونـقول: تـاه فــلان، بـمعنى ضـل الطريق وسـار متـحـيـرًا.. قال تعالى:{ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } (المائدة:26). ونقول: هذا الطفل اليوم ما به خانس؟؟ عندما يكون منزو وعليه علامات الخوف والترقب، ويكون ذلك عادة عندما يقوم بعمل يعـلـم أنـه ســوف يغـضب والديه إذا علموه، كتكسير أثاث البـيـت، أو عراك، قال تعالى: { قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس } (الناس:1-4). ونقول أيضًا: "أرض سائبة، وصوف منفوشة، ويحنث، وبرئ المريض، وغشي، والملة، والبنان، أي أصبع الرجل "، وغيرها كثير. مخاطر الدعوة إلى العامية: إن اللغة العربية في الوقت الراهن قد انتشرت انتشارًا واسعًا مس جميع الميادين والحقول، لكن هذا الاتساع جرى في كثير من الأحيان على حساب مقومات شخصيتها، فبدت للملاحظ أنها لغة عربية في حروفها، وفي بعض ألفاظها، بينما في معظم استعمالاتها وتركيبها اتسمت بالاعوجاج والانحراف عن طبيعتها اللفظية ودلالاتها المعنوية، الأمر الذي أخرجها من اللغة الواحدة إلى اللهجات المتعددة التي تشتمل على خليط من الكلمات الأجنبية (الدخيلة ) ومن الألفاظ العربية المنحرفة عن الصيغ الأصيلة(1). إن الدعوة إلى العامية تمتد بجذورها في التاريخ، وقد لعب المستشرقون دورًا بالغ الخطورة والأثر، وكان أول من دعا إلى التحول من الفصحى إلى العامية الـمستشرق الألماني ولهام سميث، الذي كان مديرًا لدار الكتب المصرية خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي. لقد أدرك علماء الغرب الترابط الوثيق بين اللغة العربية والدين الإسلامي وعرفوا أن الإسلام لا يفهم إلا بها، وأنها ركن جوهري من القرآن الكريم (...) فأخذوا يوجهون السهام إليها، وبذلوا الجهود الكبيرة لإضعافها وتدميرها وإبعاد المسلمين عنها، وصرفهم عن الفصحى التي تؤدى بها(1). لقد أخذوا يروجون للغة العامية واللهجات الإقليمية المحلية لتكون لغة التخاطب والكتابة والآداب والفنون والمعاملات، وكان ذلك أسلوبًا من أساليب إضعاف اللغة العربية وإهمالها، وكان أيضًا جزءًا من المؤامرة عليها(2). يتحدث الشيخ محمد الغزالي بمرارة جلية عن المـحاولات الرامية لضرب اللغـة الـعـربية وإضـعافـها والتمكين للهجات، حيث يقول(3): "لا أزال أذكر أيامًا كان يتكلم الأزهريون فيها باللغة الفصحى ". فوضع الاستعمار خطته كي يجعل من كلامهم "بالنحو " مثار السخرية ومبعث الهزء في كل مجلس. ونجح الاستعمار في إبعاد الفصحى عن لغة التخاطب ليستأنف إبعادها عن لغة التأليف والإذاعة. ثم يروي حادثة وقعت له نفسه قائلاً: "أطلعني أحد الأصدقاء على مجلة أسبوعية أخرجت لسانها لي لأني أنطق الجيم جيمًا والقاف بلغة العرب؟؟ للقاف والجيم رنين يرتطم بقفاه كأنه صفعة مزعجة؟؟ إن الغريب ليس إفلاح الاستعمار في خلق هذا المخنث المسخ، ولكن الغريب أن يتسلل هذا المسخ إلى وسائل الإعلام ليكون له حق توجيه الجماهير.. توجيهها إلى أين؟ إلى مواطن الخزي والندامة، مواطن الارتداد والنكوص... " استعمال العامية في وسائل الإعلام أضر بلغة القرآن: إن من أكبر العوامل الضارة باللغة العربية وبمستقبلها وحتى بمستقبل الوحدة العربية استعمال اللهجات المحلية في السينما والمسرح وفي الإذاعة والتلفزة، إذ يجمع بين البلاد العربية لغة القرآن، والعدول عنها إلى اللهجات المحلية هو خصم لهذه الوحدة، وقد قال أحد الأدباء: "الذين ينادون بإحلال العامية لسهولتها محل الفصحى لصعوبتها هم أشبه بمن ينادون بتعميم الجهل لأنه سهل وإلغاء العلم لأنه صعب المنال "(1). يقول الدكتور مسعود بوبو(1): "ينبغي لنا ألا يغيب عن بالنا أن الظاهرة اللهجية لا تقف عند النطق كما كان الحال قديمًا، بل تتعداه إلى الكتابة المرئية واضحة على "شاشات التلفزيون".. والكتابة اللهجية تنطوي على الخطأ الإملائي والخطأ النحوي، ورؤيتها على هذه الصورة المتكررة يرسخها في أذهان أجيالنا قبل معرفتهم السلامة اللغوية، وهذا يجعل من العسير محوها من أذهانهم ". ثم يقارن بين عوائق فهم اللغة الفصحى واللهجات العامية حيث يخلص إلى القول: "وليس صحيحًا ما يقال عن وجود عوائق تحول دون فهم ما يؤدى باللغة الفصحى، بل العوائق دون فهم اللهجات أكثر وأشـد ضـررًا، فالفـصحـى موحـدة يفهمها الـجميع، أو السواد الأعظم من العرب المتعلمين، في حين يصعب على الجميع - متعلمين وغير متعلمين- الإحاطة باللهجات العربية على اختلاف مواصفاتها ومناطقها ". وفي السياق نفسه يقول الأستاذ محي الدين عبد الحليم(2): فإذا استعرضنا برامج التلفزيون أو الإذاعة في معظم البلاد العربية لوجدنا أن نسبة ما تبثه بالعامية تزيد عما تبثه بالفصحى، ولا سيما في الأعمال الدرامية والمنوعات التي يندر فيها استعمال الفصيح من اللغة بحجة أن وسائل الإعلام تخاطب الجمهور ككل.. وكون هذا الجمهور ذو ثقافات متباينة، ونتيجة للابتذال واستخدام الألفاظ والكلمات الهابطة من طرف الإعلاميين، وعدم الحفاظ على الحد الأدنى من الأصول والقواعد اللغوية، أدى إلى الاستخفاف بقواعد اللغة العربية، كما أدى ذلك إلى الترويج إلى السوقية وشيوع الكلمات والمصطلحات غير اللائقة. إن بعض خصوم العربية يختفون وراء الدعوة إلى تيسير التعبير بها وتسهيله، والتيسير عندهم يعني التخلي عن قواعدها وعن الأساليب الصحيحة في التعبير عنها، وعن أساليبها الصحيحة في التعبير بها، ويمكن أن نلمس هذا في وسائل الإعلام وأساليب الإشهار، إذ نادرًا ما نقرأ كلامًا عربيًا صحيحًا فيما تكتبه الصحف والمجلات أو فيما تذيعه مختلف وسائل الإعلام وهؤلاء الذين يفضلون استعمال التعابير البسيطة غير الصحيحة يغيب عنهم أن المعاني مرتبطة بقوالب صيغها وحالات إعرابها، لأنها في الحقيقة لغة اشتقاقية معربة.. ومعنى أنها اشتقاقيه: أن معاني ألفاظها تتغير كلما تغيرت قوالب صيغها، ومعنى أنها معربة: أن معظم معانيها الإعرابية تتغير كلما تغيرت وظائفها في التركيب(1). أما اليوم، فأمر اللهجات يثير المخاوف، ويؤرق الغيارى على العربيـة العريقـة، ويقـلق كل مـن يستـشرف بـتـدبر وأناة آثارها المفزعة في المستقبل، ذلك أن اللهجات العربية بتنوعها تبدو بحق كأنها حرب معلنة على العربية الفصحى من محطات التلفزة.. وخطر هذه اللهجات يجيئ من كونها تتعدى المظاهر الصوتية، إذ تتضمن كلمات أجنبية دخيلة ومصطلحات ومسميات مرتجلة بغير خبرة بخصائص اللغة العربية، يسوقها معدون أو مذيعون على نحو مغرق في التسرع ومراعاة الشائع محليًا، أو في مرعاة أذواق الناطقين بها وحدهم، وأحيانًا يمعنون في المحلية فيتحدثون بلهجة منطقة بعينها من هذا القطر أو ذاك، وأحيانًا تبدو اللهجة متأثرة ببقايا اللغة التي كانت رائجة على ألسنة المستعمرين ، ممن كان لهم وجود في كثير من مناطق الوطن العربي قديمًا وحديثًا، أو تبدو متأثرة بألفاظ سقيمة لا مكان لها في مستويات الفصاحة المرتضاة(2). ويرى بعض الباحثين أن تغليب العامية في بعض وسائل الإعلام كان سببًا من أسباب أزمة اللغة العربية المعاصرة، وذلك لأن وسائل الإعلام تخاطب الجماهير العريضة والمستويات الثقافية المتباينة وتؤثر فيها تأثيرًا نافذًا.. وحجة بعض وسائل الإعلام في استخدام العامية أنها تـحاول إرضـاء كل الأذواق، وأنها تتوجه إلى فئات غفيرة من غير المتعلمين(1). إن من ينتصرون للعامية بلهجاتها،أو يتحمسون لها بحجة مراعاة الأميين، أو محدودي المعرفة، إنما يفعلون ذلك وكأنهم ينتصرون للمزيد من التخلف والجهل، أو كأنهم يستمرئون الانحطاط(2). ضبط التعامل مع العامية: ننهي هذا الفصل بتقديم مقترحات قد تضبط عملية التعامل مع العامية في وسائل الإعلام المحلية، حيث نرى: - إن العامية في حياة الأمم واقع لا يمكن نكرانه، أو القفز عليه، فهي في جميع الحالات تمثل جزءًا من شخصيتنا، بسلبياتها وإيجابياتها، ومع ذلك ينبغي لنا أن نؤكد حقيقة هامة، وهي أن العامية لا يمكن اعتبارها رافدًا يغني العربية، بل قد تشوه حقيقتها، وتقوّض أعمدتها وأصولها. - والعامية من الناحية الاتصالية قد تؤدي دورًا محدودًا جدًا، فقد تؤدي وظيفتها الخاصة بالفهم في حدود المنطقة التي تلهج بها، بيد أنه يتقلص دورها كلما ابتعدنا عن موطن اللهجة، وحتى محاولات فهمها يظل صعب المنال، في حين إذا تعلق الأمر بالعربية الفصحى، فالقواميس التي وجدت لهذا الغرض، يمكن أن تقدم خدمات جليلة لمن يريد فهمها أو التعمق فيها. ويجب التنبيه أيضًا إلى أن تهذيب وصقل العامية أو ترقيتها لا ينبغي أن يتم إلا من لدن خبير بأسرار اللهجة واللغة الفصحى، كما يجب أن يوضع في البال ضرورة التوحيد اللغوي للأمة في كل مسعى. - وإذا كانت العامية تستمد ألفاظها من ينابيع لا حصر لها، وإذا كانت وسائل الإعلام السمعية البصرية تشكل المصدر الأساس لتداول الألفاظ والمفردات، فمن الأنفع استغلال هذه الوسائل - كل واحدة حسب طبيعتها- من أجل تزويد الناس برصيد لغوي جديد يساهم في ترقية لهجاتهم، أو يصحح نطقهم للألفاظ العامية ذات الأصول العربية. |
المصطلحات بين الخصوصية والعالمية
يعرف اللغويون التعبير الاصطلاحي بأنه: عنصر أو تركيب لغوي خاص بمجموعة لغوية معينة، ليس له مقابل شكلي دقيق في الترجمة إلى اللغات الأخرى. ويرون أيضًا أن الاصطلاحات والترجمة لا تملك مقابلاً شكلياً دقيقًا في الترجمة إلى اللغات الأخرى.. فالاصطلاحات إذًا تشكل إحدى الصعوبات التي يصطدم بها المترجمون في الواقع، والترجمة الحرفية هنا غير مقبولة. - إما لأنها تنتج نصًا لا معنى له، أو لا احترام للنحو فيه. - أو لأنها تقود إلى تحويل كامل للمعنى. - أو لأنها تؤدي إلى تغيير في مستوى اللغة "يخون" الفكرة الأصلية. المصطلح يحمل قيم قومه: والترجمة، كما يعرفها "مالينويسكي" هي إعادة خلق اللغة الأصلية إلى لغة ليست مختلفة تمام الاختلاف.. ومن هنا فإن الترجمة ليست استبدال كلمة بأخرى، بل هي في الواقع ترجمة سياقات برمتها(1). وليس المقصود بهذا النقل الآلي من اللغات الأجنبية إلى العربية، وإنما هو نقل المقومات المدنية الحديثة ومشخصاتها إلى اللغة العربية، لكي تتغلغل في النسيج الفكري للأمة(1). والترجمة ليست ضرورة حضارية للدول المتخلفة فحسب، وإنـما لها أهميتها القصوى للدول المتقدمة أيضًا التي تحرص على معرفة ما أحرزته الدول المنافسة لها في الميادين المختلفة.. يقول الأستاذ محمد الفاسي، عضومجمع اللغة العربية بالرياض(2): "إن العلوم والتقنيات بلغت اليوم مبلغًا مذهلاً من التقدم، إذ العلوم أخذت تتقدم وتتوسع، والنظم السياسية والفضائية والإدارة تتطور، والصنائع تنمو وتترقى، وكل هذا استلزم إحداث الآلاف بل مئات الآلاف من الألفاظ والاصطلاحات للتعبير عنه، في الوقت الذي بقيت لغتنا على ما كانت عليه لما جمدت القرائح ووقف الفكر العربي عن الاختراع والإبداع.. بل زاد المسألة تراجعًا وتأخرًا أن المثقفين في أكثر البلاد العربية، بإقبالهم في أول اتصال بالحضارة الحديثة على اللغات الأجنبية والثقافات الغربية، أهملوا تراثهم اللغوي، وقلت المعرفة بدقائق اللغة وبمصطلحات العلوم والفنون، التي كانت بلغت درجة عالية في الدقة والاتساع، فأُهملت تلك الثروة العظيمة، وبقيت مخبأة في طيات الموسوعات والمؤلفات المختلفة، المخطوط منها والمطبوعة ". ويعمد بعض المهتمين بوضع المصطلحات العلمية إلى اللفظ الأعجمي وينقلونه على علاته بحروف عربية، معتمدين على ادعاءٍ باطل ومغالطة لا أصل لها من الصحة، وهي أن هذه الألفاظ عالمية دولية، تستعمل في كل البلاد(1). تجارب في التعامل مع المصطلحات الوافدة: يشيد الأستاذ محمد الفاسي بالتجربة الألمانية في التعامل مع المصطلحات الوافدة، وكتب في هذا الشأن يقول(2): وإذا كانت اللغات اللاتينية واللغة الإنجليزية... تستعمل ألفاظًا متقاربة متشابهة، فإن باقي الشعوب لها ألفاظها الخاصة المنبثقة عن عبقريتها وخصائصها الذاتية، ولنضرب لذلك مثلاً بلغة أوروبية كان يعمها هذا الشمول، لو كان حقًا أن المصطلحات العلمية هي عالمية، ولكنها في الواقع تستعمل ألفاظ جرمانية بحتة، لنأخذ أربع كلمات عالمية وهي: تليفون، وتلـفزة، وجغرافية، وبترول، فـنرى أن الألـمان لا يستعملون واحدة من هذه الكلمات، وإنما يقولون: للتليفون : feerns precher : أي التكلم البعيد. والتلفزة: feernsehen: أي الرؤية البعيدة. والجغرافية:erdkrin de : أي معرفة الأرض. والبترول: erdol: أي زيت الأرض. وهذا رغم كون لغتهم من فصيلة اللغات الهندية الأوروبية، وهي شقيقة اللغات اللاتينية والإنجليزية. يرى "فيخته " أن الألمان بمحافظتهم على أصالتهم، أي لغتهم الأصلية، التي بقيت متعلقة بجذورها، أمة، بينما الشعوب الجرمانية الأخرى التي هي من أصل واحد والشعب الألماني، ولكنها تخلت عن اللغة الأصلية أو خلطتها بلغات أخرى، ليست إلا قبائل، جرمانية حقًا، كالأمة الألمانية، ولكنها تبقى قبائل وأشتاتًا وليست أمة مثلها؟؟(1). المصطلحات ولغة الأمة: ففي شتى بلدان العالم يسعى الغيورون على اللغات الوطنية لتأكيد أصالتها من خلال التعامل مع الـمصطلحات الأجـنبـية وفـق ما يقتضيه حال لغتهم، والبحث عما يقابله في اللغة الأصلية أولاً. وهكذا، أثناء زيارة لألبانيا -ذاك البلد الصغير- أعلمني مرافقي ونحن على متن السيارة، أن الحصة الإذاعية الجاري بثها، هي الآن بصدد الحديث عن مسألة الكلمات الدخيلة، وأنهم يسعون لاستبدالها بالألفاظ والكلمات ذات الأصل المحلي، حفاظًا على لغتهم من الذوبان في لغات أمم التكنولوجيا الحديثة. وفي فرنسا -مثلاً- توجد عشرات الهيئات الرسمية والخاصة تقوم بالمحافظة على اللغة الفرنسية، وإبعاد الكلمات الدخيلة التي غزتها هذه السنين الأخيرة، خصوصًا الإنجليزية، حتى أطلق أحد الأساتذة الفرنسيين المشهورين وهو الأستاذ Etiemble عـلى لغـة فرنـسا فـي الوقت الـحاضر لفظ "الفرانكلية le frenglais" ، أي الفرنسية الممزوجة بالإنجليزية.. وعلى رأس هذه المؤسسات المجمع الفرنسي، الذي لا يدخل في قاموسه إلا ما كان سليمًا من حيث الأصل الفرنسي، وموافقًا للذوق والأساليب الفرنسية(1). إن غيرة الألمان والفرنسيين والألبان العارمة وغيرهم على لغتهم، يقابله -للأسف- عن وعي أو غير وعي، نوع من التهاون من العرب على لغتهم، حيث أصبحنا نجد في بعض الأحيان الشيء الواحد نطلق عليه تسميات عدة، ومن ذلك مثلاً : في مصر يقولون بندول الساعة لكلمة pendulum ، وفي العراق "رقاص"، وفي سوريا "نواس "، وفي الأردن "خطار "، فينبغي أن تختار الدول العربية ترجمة واحدة للمصطلح الواحد. وأمام هذا الطوفان الجارف من التكنولوجيا الحديثة والاختراعات التي تمس شتى مناحي الحياة، يجد الإعلاميون العرب أنفسهم أمام الأمر الواقع، فهم -هنا- ونتيجة لمقتضيات النقل السريع للأحداث الوافدة من كل أصقاع المعمورة، قد يجبرون على استخدام المصطلح كما ورد، أو يبحثون عن أقرب معنى له. إن آلاف الألفاظ والتراكيب التي لا نعرف لها واضعًا ولا صانعًا أصبحت من صميم اللغة العربية وثروتها الواسعة، التي لا تعرف حدًا، هي من عمل رجال الصحافة وابتكارهم، إما بالترجمة من اللغات الأجنبية، وإما باستعمال المجاز والاستعارة وتوسعًا في دلالات الكلمات، وإما بالوضع الموحي الذي يجيئ عفو الخاطر ويكون مطابقًا للقواعد وأحكام اللغة من اشتقاق وتعريب وغيرهما(1). وقــد يرى بعـض الـمهتـميـن أن كـثرة الاشتــقاق تفـسد اللـغـة، أو تؤدي إلى تسممها، ويذهب الدكتور حسن ظاظا أستاذ علم اللغة إلى القول: إن اللغة تستطيع أن تستوعب حتى 40% من الأسماء الحديثة، وحتى 10% من الأفعال، وحتى 2% من الحروف، ولكنها بعد هذه النسب تتعرض للتسمم(2). وتعتبر الترجمة من أخطر التحـديـات الـتي تواجـه العـربية، حيث تعتمد أغلبية وسائل الإعلام على الطرق البالية، وبالتالي لا يمكن التجاوب مع التقنيات الجديدة والمعطيات العصرية، وبهذا فـهي تعتمد على الـمصادر الأجنبية في الحصول على المعلومات ونقل التصنيفات والتعريفات التي تقدمها لنا المصادر الأجنبية دون تبصر. ويـمكن أن تصاحب المصطلحات الأجنبية القيم الإخبارية لأصحابها، وتفسيراتهم للأحداث، والتي تعكس انتماءاتهم الحضارية والمذهبية.. ومن أجل ذلك ينبغي الحذر عند ترجمة المصطلحات الوافدة من عند الشعوب الأخرى. وفي هذا السياق، يقول الأستاذ أكرم محمود قنوص(1): "إن الأسماء العربية للمخترعات لا تلغي الأسماء الأجنبية، وإنما تدفعها إلى الدرجة الثانية، فيتقدم عليها مصطلح لغتنا، وهو حق لنا ولكل أمة أن تسمي الأشياء بلغتها لا بلغة غيرها من البشر.. حتى تدخل وعي أبنائها ". ونختتم هذا الفصل ببعض الملاحظات التي نرمي من خلالها إلى ترشيد عمليات التعامل مع الترجمة والاصطلاحات الأجنبية، وذلك حتى يتسنى للغة العربية أن تساير مستجدات العصر، وفي الوقت ذاته لا تتخلى عن مقوماتها التي تتميز بها: - تحوي اللغات الأجنبية عشرات من الكلمات والمصطلحات التي تتقارب في معانيها وتتفاوت في دلالتها، ومن الملاحظ أن المراجع الأجنبية كثيرًا ما تستعمل الكلمة الواحدة لأكثر من معنى ومدلول، وعلى سبيل المثال نأخذ كلمة : Fort مدينة منيعة: Ville Forte صوت جوهري: Voix Forte مقدار كبير: Forte Dose نظر ثاقب: Des Yeux Forte كيل واف: Mesure Forte عنيد: Forte tete ورق كثيف: Papier Fort أسلوب بليغ: Style Fort - ومن حسن حظ العربية أنها غنية جدًا بالمترادفات، وأنها من أغنى لغات الأرض بالمدلولات والألفاظ والأقيسة، وكانت الطريقة الوحيدة هي جمع هذه الأشياء وتسليط الأضواء عليها، واستنباط المدلولات الحقيقية لها، والغوص في المعاجم لاستخراج الكلمة الملائمة، وتعميم الاستعمال والتزامه(1). - ومن الطبيعي أن تصاحب عملية التعريب سلبيات كثيرة يـمكن معالـجتها بالدراسـة والتقـويـم، وإيجـاد الـحلـول الـمناسـبة لها في حينه.. أما الاكتفاء بالحديث عن السلبيات من غير بدء خطوات جادة نحو التنفيذ، فإنه لا طائل منه غير تثبيط الهمم، وتوسيع الهوة الـموجودة بيـن الأمـة وحـضارة العصـر، لأن كل يوم يـمر يشهد ابتكارات واختراعات جديدة في شتى العلوم، يواكبها طـوفـان يزيـدها تعـقيدًا، ويـسلب الأمـة وسيـلة مـن أهـم وسـائلها، ألا وهي لغتها، لمقاومة ما تعرضه العولمة من تحديات حضارية تهدد هويتها وكيانها(2). - أما الأعلام الأجنبية، كأسماء الأشخاص وأسماء الأدوية وأسماء البلدان، فهذه لا مندوحة في قبولها بألفاظها، ولا مجـال للاعـتراض عليها لعـدم إمـكان ترجمتها.. والمحذور الخطير في الأمر ما يفعله ترديد المفردات الدخيلة في المكتوبات العربية، وتداولها على الأسماع، وتهيئة الجو المناسب لها حتى تنتشر وتتمكن بين الجماهير العربية، ويصير الدخيل هو الأصل، إذ تتقبله الألسن وتنسجم معه الأفكار، ومن شأن هذا الأمر أن يعبد الطريق أمام موجات جديدة من المفردات الأجنبية العديدة، التي يراد لها أن تغزو لغتنا العربية(1). - لقد كان لغياب التنسيق على مستوى المؤسسات الإعلامية والعلمية ومجامع اللغة العربية في مجال الترجمة الأثر السيء، حيث أدى إلى تكرار الجهود، وإهدار الأموال فيما لا طائل منه، كما أدى إلى شيوع ظاهرة تعدد المصطلح العربي المقابل للمصطلح الأجنبي، وبالتالي خلق التشتت اللغوي بين الناطقين بالعربية. ونرى هنا أهمية إنشاء خلية ترجمة على مستوى المجالس ومجامع اللغة العربية، من مهامها الأساس متابعة المصطلحات الجديدة على مستوى وسائل الإعلام العربية، وتزويدها باللفظ العربي المقابل، ومناشدتها لتوظيفه واستخدامه. |
من نتائج اعتماد العربية في الإعلام
لاحظ الباحثون عددًا من الآثار الناجمة عن استخدامات اللغة في وسائل الإعلام بشتى ضروبها، وتتجلى هذه الآثار على الخصوص في الجوانب السلوكية والنفسية والتربوية، والنظرة إلى الأشياء، والتفكير... ومن ذلك أن اللغة تؤثر في الشعب المتكلم بها تأثيرًا لا حد له، يمتد إلى تفكيره وإرادته وعواطفه وتصوراته، وإلى أعماق أعماقه، وأن جميع تصرفاته تصبح مشروطة بهذا التأثير ومتكيفة به(1). وكما يقول أدوين واكين: "فإن جميع وسائل الاتصال بالجماهير الواسعة الحاشدة لتضطلع على نحو أو آخر بوظيفتين هما: تكوين الرأي العام وإعلامه، كما أنها تسلي وتبيع (السلع التي يعلن عنها فيها). وهاتان الوظيفتان تؤديان بصفة مستمرة، وبطريقة مباشرة وغير مباشرة.. " وتشير دراسات استشراقية إلى أن الألفية الجارية ستشهد اتساع نطاق تداول لغات، وأفول أخرى أو اندثارها، وقد يلعب عامل الحرص على اللغات وترقيتها، وزيادة الناطقين بها،والمستخدمين لها، دورًا بالغ الأهمية من أجل ضمان ديمومتها. إن اللغة من أهم مؤسسات كل أمة.. ولغتنا العربية فيها مقدساتنا وتراثنا العظيم وتاريخنا (...) وعلينا أن نرعاها، ونسعى دائمًا إلى تحديثها، وتبسيط صعابها، والارتقاء بها، لأنها أقوى الروابط.. فهي توحد الفكر والعاطفة والثقافة والتاريخ، وهي دعامة المستقبل الواحد والمصير المشترك(1). وإنه مما لا شك فيه أن الإعلام المعاصر من أهم عوامل التطور اللغوي.. والذي لا شك فيه أيضًا، أن التزام القائمين على الإعلام بقواعد الدقة، من شأنه أن يضبط هذا التطور، وأن يضعه في مجراه، فيصبح مثل النهر تدفقًا ونماءً(2). خلق الذوق اللغوي: ومن الضرورة بمكان أن ينتبه رجال الإعلام إلى أنهم يخلقون الذوق اللغوي، ويفرضون الصواب، الذي قد يبدو في أول أمره ثقيلاً، لكنه مع الوقت يصبح مقبولاً وشائعًا(3). إن لغة الإعلام لا تثري زادنا اللغوي فحسب، بل تمنحنا تصورًا لطبيعة الأشياء، وحقيقة محيطنا، وأصوب السلوكات وأكثرها تطابقًا مع قيمنا ومثلنا.. وعلى سبيل المثال، إذا استعمل الإعلام اللفظ العفيف والدقيق، فقد يقتفي آثاره الناس، بيد أنه إذا أحاطنا بكلمات الفسق والسوء والبذاءة، فمن المتوقع أن يتم استخدامها من قبل الجمهور، فاللغة الإعلامية تصبح جزءًا من حياة المجتمع. إن الأسلوب الذي تستخدمه وسائل الإعلام قد يتأثر به الجمهور، ولكن بدرجات متفاوتة، وفي هذا الشأن لاحظ عدد من أساتذة اللغة العربية على تلامذتهم استخدامهم للصيغ والقوالب والعبارات التي يوظفها الصحفيون في كتاباتهم. وبما أن وسائل الإعلام هي أسبق الوسائل في معالجة الموضوعات الآنية، فإنها لا تعمل فقط على تداول المصطلح الجديد والتعبير عن الواقع، بل تسهم كذلك في صياغة نمط التفكير وتفسير الأحداث وإصدار الأحكام بشأنها. ويعترف الباحثون بأن كلاً من الإعلام والتعليم يهدف إلى تغيير سلوك الفرد، فبينما يرمي التعليم إلى التأثير في سلوك التلاميذ بهدف تغييره، فإن الإعلام يسعى إلى التأثير في سلوك الجماهير بهدف تغييره أيضًا. وكثيرًا ما نرى أطفالنا يرددون الجمل والكلمات والصيغ اللغوية التي يلتقطونها من الإعلانات التجارية، ويقلدونها في حديثهم، ويحاكون طريقة تلفظها.. غير أن الطفل يكتسب في هذا المجال معارف كثيرة، وينمو ذوقه وقدراته الخيالية، وترتقي مهاراته اللغوية بشكل واضح، ويثرى محصوله من مفردات لغة الإعلان، أو يزيد هذا المحصول نماء وتنوعًا. فوسائل الإعلام تعادل المدرسة بالنسبة لأعداد لا حصر لها من الرجال والنساء الذين حرموا من التعليم، حتى ولو لم يستطيعوا أن يحصلوا منها إلا على العناصر التي يتسم مغزاها بأقل قدر من الثراء، ومضمونها بأكبر قدر من البساطة(1). ولما كان تمكين الأفراد من التفاعل ومن إيصال المعلومات يندرج في عداد المهام الرئيسة للإعلام والاتصال، فقد ذهب المشتركون في المؤتمر الدولي الحكومي للسياسات الإعلامية في إفريقيا بيا وندي (الكاميرون )، في يوليو 1980م، إلى الإقرار بأن استخدام اللغة الأصلية أو الوطنية يعد وسيلة من أنجع الوسائل لتأكيد الذاتية الثقافية، فاللغة من المقومات التي تجعل للإنسان ذاتيته، أي انتماءه إلى جماعة معينة من الناس، وذلك بالإضافة إلى دورها في تيسير تحصيل المعارف، كما أن استخدام اللغة الأصلية أو الوطنية يمكن من إضفاء مزيدٍ من الفعالية على عملية المشاركة(1). لذلك فإن لغة الإعلام يمكنها أن تحقق أهدافًا عدة، وأن تحدث آثارًا جمة.. ومن أجل ذلك يجب أن ترتبط السياسات اللغوية لوسائل الإعلام الوطنية بخدمة قضايا الهوية، وتأكيد الذات اللغوية، وتوسيع نطاق استخدام العربية وفق الرؤية التي مفادها أن اللغة هي مطية للأفكار، وأسلوب هام في التفكير والتصور . |
الساعة الآن 01:33 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |