منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   واحة الأدب والشعر العربي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=199)
-   -   اوراق السنونو (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=16416)

المفتش كرمبو 28 - 5 - 2011 01:36 PM

اوراق السنونو
 
  • في خريف العام 1961 حكمت محكمة الرصافة في بغداد، على شقيقي الأكبر، بالسجن ثلاث سنوات، بتهمة الدفاع عن "السلم في كوردستان". كان عمري، يوم ذاك، أقلَّ من عشر سنوات، لكنني أتذكر كيف كانت أمي تندب حظها العاثر وتولول أثناء صلاة المغرب وهي تردد بصوت خافت: اللهمَّ انصر عبد الواحد والأكراد على الحكومة.
    وعبد الواحد هو شقيقي، الذي حكمت عليه محكمة الرصافة بالسجن لأنه كان من المشاركين في الحملة، التي نظمها الحزب الشيوعي العراقي للتضامن مع الشعب الكوردي، تحت شعار (السلم في كوردستان).
    في بداية كل شهر كنا، أمي وأنا وأحياناً بعض أخوتي، نذهب لزيارة عبد الواحد في معتقل الفضيلية القريب من قناة الجيش شرق بغداد، ونأخذ له معنا، في كل مرة، صرراً محشوة بالفواكه والتمر والخبز، مع صفرطاس من أربع طبقات مليئاً بالرز العنبر والباميا والفاصوليا اليابسة، المطبوخة باللحم. نفترش مع أخي جانباً من ساحة المعتقل، الفسيحة المبلطة بالإسفلت، يحيط بنا، من كل جانب، بقية المعتقلين وزوارهم، مع حشد من الأطفال والصبيان، الذين يجلسون بين أهاليهم بكل تهذيب، خوفاً من رجال الشرطة الذين يشرفون، من أسوار المعتقل العالية، وهم يصوبون بنادقهم نحونا.
    كنتُ اسأل أخي عبد الواحد، السؤال ذاته، كلما زرناه في معتقل الفضيلية (ماذا فعلت حتى حبسوك؟) وكان يجيبني بابتسامة عابرة وهو يربت على كتفي: (عندما تكبر ستعرف لماذا حبسوني).
    بعد ثلاث سنوات كبرتُ قليلاً لكن أخي عبد الواحد لم يخرج من السجن كما كان متوقعاً بل أصبحت زياراتنا له في المعتقل صعبة ومتباعدة، وعندما سألت أمي، يوماً، عن السبب، لم تجبني بل أشاحت بوجهها عني وبكت وهي تولول: اللهّم انصر عبد الواحد والأكراد على البعثيين.
    بعد أن خرج عبد الواحد من السجن، في خريف العام 1968 كان البعثيون قد جاءوا إلى السلطة وذهبوا، ثم جاءوا مرة ثانية. وكنتُ كبرتُ بما يكفي لمعرفة الأجوبة المطلوبة عن تلك الأسئلة الطفولية، لكن أخي عبد الواحد كان قد تهدم جسداً وروحاً ولم يعد في وارد أن يخبرني لماذا حبسوه كل هذه السنوات لمجرد أنه كان يدافع عن السلم في كوردستان. ومع أنه كان قد طلّق السياسة، منذ خروجه من السجن، طلقة بائنة، وانهمك بتدبير لقمة العيش لنصف دزينة من بناته الصغيرات، إلا أن

المفتش كرمبو 28 - 5 - 2011 01:39 PM

- 3 -
  • ذلك لم يوقف مضايقات الحكومة له ولم يبدد شكوكها، التي ظلت تحوم حوله، لمجرد أنه أطلق على ولده البكر اسم (سلام) وبقي يحتفظ بشاربه الستاليني الغليظ، الذي كان يميز الشيوعيين العراقيين عن سواهم من خلق الله.
    في ربيع العام 1972 سألني المحقق في مديرية الأمن العامة، عن النشاط السياسي لعائلتي، وعندما علم بإن أخي الأكبر كان مسجوناً بتهمة الدفاع عن الأكراد وكوردستان، مد يده إلى أذني وعقصها بقسوة وهو يردد بسخرية: أهل العمارة وين وأهل سليمانية وين؟ وعندما أتذكر اليوم، بعد ثلاثين سنة، عقصة ضابط الأمن تلك، أشعر بألم في أذني اليسرى، مثلما أشعر بالتقزز من روح التعصب والحقد والتعالي، التي كانت تعاملنا بها نحن والأكراد، حكومات الأوباش تلك.
    بعد انتهاء جلسة التحقيق، التي حفلت بالإهانات والضرب والركل، أعادوني إلى قاعة المعتقل، وكنتُ حزيناً ومهزوماً، فكان (كاكه حسن) أول من استقبلني عند الباب الحديدي. أخذ بيدي إلى زاوية القاعة وراح يمسح الكدمات في وجهي بقماشة مبلولة بالماء.
    كان (كاكة حسن) معتقلاً في قصر النهاية قبل أن يأتوا به إلى الأمن العامة، إثر إغلاق ذلك القصر المشؤوم، بعد وقوع ما يسمى بـ (مؤامرة ناظم كزار) مدير الأمن العام، وادعاء النظام بأنه لم يكن على دراية بالجرائم التي كانت ترتكب فيه. وحين وزعوا سجناء القصر على المعتقلات الأخرى، كانت حصتنا نحو عشرة معتقلين، كان من بينهم (كاكه حسن) أستاذ الجغرافيا في إحدى ثانويات أربيل. عندما جاءوا به من قصر النهاية بقي (كاكه حسن) أياماً عدة مرتاباً بمن حوله، لا ينطق بحرف ولا يكلم أحداً، جرّاء حالة الخوف والاعتياد على الصمت. فقد قال لي يوماً، بعدما انفكت عقدة لسنه، أنه بقي سنة كاملة، يقبع في زنزانة ضيقة ومظلمة، لم ينطق خلالها كلمة واحدة ولم يرَ بشراً، حتى تحوّل الصمت لديه إلى ما يشبه العادة أو المرض. وعندما نجحنا، أنا وصديق آخر، في فك عقدة لسانه وإعادته إلى حالته الطبيعية، شعرنا، بعد أيام، بالندم على فعلتنا تلك لأننا لم نستطع، بعد ذلك، إيقاف (كاكه حسن) عن الكلام لا في الليل ولا في النهار. وخلال شهرين تقريباً، درست على يد (كاكه حسن) كل صغيرة وكبيرة عن حياة الشعب الكوردي ونضالا ته وتضحياته وعاداته وتقاليده وقصصه وحكاياته، بما في ذلك تلك القصة المدهشة عن رحلة الملاّ مصطفى البارزاني، إثر

المفتش كرمبو 28 - 5 - 2011 01:39 PM

- 4 -
  • انهيار جمهورية مهاباد في العام 1946 هو وخمسمائة من رفاقه ومقاتليه، من حدود إيران حتى حدود الاتحاد السوفييتي، مشياً على الأقدام في عز الشتاء والبرد والأمطار والثلوج والقحط والجوع والعطش. الشيء الوحيد الذي لم يستطع (كاكه حسن) تعليمي إياه، هو اللغة الكوردية، فقد كنا، يوم ذاك، نعتقد أن لغة المستقبل، التي يجب أن نتعلمها قبل أية لغة أخرى، هي الروسية، أو السوفيتية، أي لغة الاشتراكية والشيوعية، التي ستعم العالم، من أقصاه إلى أقصاه، بين ليلة وضحاها، لكننا للأسف سرعان ما خُذلنا، ليس باللغة وحدها إنما بالاتحاد السوفييتي نفسه وبالاشتراكية التي كنا نأمل بانتصارها غداً.
    عندما أُطلق سراحي من معتقل الأمن العامة بقي (كاكه حسن) هناك. ولا أزال أتذكر كيف ودعني وهو يضحك ويبكي في آن واحد، وكانت وصيته لي، قبل أن يقبّلني على جبيني: أرجوك أذهب إلى كوردستان كي تتأكد أن ما يربط الأكراد بالعرب أقوى من دعايات الحكومة.
    انتظرت ثلاث سنوات أخرى قبل أن أذهب إلى كوردستان لألبي، متأخراً، دعوة صديقي (كاكه حسن) الذي لم أره بعد ذلك أبداً، وعندما ذهبت إلى هناك تأكدت من كل كلمة قالها لي، لا عن وفاء الأكراد وكرمهم وسماحتهم واحترامهم للآخرين فقط، بل وعن مظالم الحكومات التي تكبدوها طوال عقود، وعن روح العداء والتعصب، التي كان يضمرها لهم رجال تلك الحكومات. ففي صيف العام 1975 (وكان القتال في الشمال قد اندلع مجدداً بعد توقيع صدام حسين اتفاقية الجزائر مع شاه إيران، وهي الاتفاقية التي سمحت للحكومة في بغداد، باجتياح وسحق الحركة الكوردية مقابل التنازل عن أجزاء من شط العرب لإيران) نظّمت وزارة الدفاع في بغداد رحلة لمجموعة من الصحفيين العراقيين والعرب، لزيارة ما كانت تسميه، حينذاك، بـ "المناطق المحررة في شمال الوطن" وهي عبارة تشي بإحداثيات حرب بين بلد وآخر، أو بين دولة ودولة أخرى، في حين كان الأمر يتعلق بحرب إبادة تشنها السلطة المركزية القومية (العراقية) ضد الشعب العراقي (الكوردي) في الشمال.
    كان بصحبتي، في تلك الرحلة، الصديق الكاتب زهير الجزائري، عندما دعانا قائد الفرقة الثامنة المرابطة في أربيل، الجنرال إسماعيل حمو، لرؤية الأسرى الأكراد، ممن كانوا يسمون بـ "العائدين إلى الصف الوطني" وهي عبارة أخرى ملطفة لكنها أكثر سفالة من سابقتها، فعلى

المفتش كرمبو 28 - 5 - 2011 01:42 PM

- 5 -
  • خلاف "الوضع الإنساني" الذي وعدنا الجنرال حمو برؤيته، كان مشهد أولئك "العائدين" أشبه بمشهد العبيد في فيلم ( سبارتكوس) الشهير.
    كانوا شبه عراة معصوبي العيون ومقيدين بسلاسل الحديد إلى أوتاد مغروسة في الأرض، معفرين بالطين والدماء والتراب، بعضهم يئن من جراح بليغة وبعضهم الآخر يتوسل الحصول على شربة ماء.
    حين كان الجنرال حمو يشرح لنا كيف استطاع ضباطه وجنوده الأشاوس، اصطياد هذه الأجساد البشرية المتهاوية والمشرفة على الموت، في أية لحظة، من الجوع والعطش والإذلال، شعرت بالاشمئزاز والقرف، وتصورت ذلك الجنرال (الذي قال لنا يومها، أن صدام حسين شخصياً استدعاه من بيته خصيصاً لمعالجة التمرد الكوردي) وكأنه خنزير في بزة جنرال، فقلت، حينها، لزميلي زهير: مبروك لنا هذه الانتصارات العظيمة.. ثم خرجنا سوية نبحث عن خمارة نطفىء فيها غضبنا واشمئزازنا.
    في الطريق، من أربيل إلى منطقة حرير، حيث حُشرت السيارات التي تنقل الصحفيين، وسط عربات ومدرعات قافلة عسكرية كانت متوجهة إلى هناك، شاهدنا، بأسى وألم، نتائج وآثار البطولات التي اجترحها مبعوث صدام، الجنرال إسماعيل حمو لـ "معالجة" التمرد الكوردي، فعلى طول ذلك الطريق المقفر، كنا نرى بالعين المجردة، عشرات القرى والقصبات والبيوت والمزارع والبساتين وهي تحترق عن بكرة أبيها، أو وهي رماد تنبعث منه بقايا دخان الحرائق، يومها فقط، عرفت، على وجه الدقة، معنى ذلك المصطلح المشؤوم (سياسة الأرض المحروقة) تلك السياسة التي لا تستهدف تدمير حياة البشر فقط، بل وكذلك تدمير سبل استعادة هذه الحياة.
    وقد يكون من سوء حظ الجنرال حمو (الذي كان يتباهى أمامنا، طوال السهرة التي أقامها للصحفيين وسط معسكر الفرقة الثامنة، بقيام ضباطه وجنوده الأشاوس بإعادة "حرث" أراضي شمال العراق و "تنظيفها" من جيوب التمرد) أن صادفنا ما يؤكد قوة البشر المؤمنين والمتشبثين بحقهم في الحياة، في إزاء قوى التدمير مهما كان جبروتها. فقد استطاع مقاتل كوردي واحد فقط، كان يتمترس في قلب كهف معلق على قمة جبل حرير، أن يبعثر قافلتنا العسكرية على جانبي الطريق، وأن يوقف تحركها ساعة كاملة، ولم تتمكن القافلة من مواصلة سيرها إلا بعد قدوم

المفتش كرمبو 28 - 5 - 2011 01:42 PM

- 6 -
  • طائرة حربية حكومية قامت بقصف الكهف لإسكات بندقية المقاتل الكوردي.
    بعد نحو عشرين سنة من ذلك التاريخ، وبعد أن كانت الحروب والأحداث والكوارث التي عاشتها كوردستان، قد جعلت من ارتكابات الجنرال إسماعيل حمو، تبدو كذكرى عابرة في حياة الأكراد، مقارنة بما ارتكبه الجنرالات الجدد من ممارسات دموية فاقت التصور وبلغت حدود حرق القرى والبشر بالأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً، ذهبت إلى كوردستان مرة ثانية. لكن هذه المرة لم تكن كسابقتها لسببين أساسيين، أو لهما أنني لم أذهب إلى "الشمال الحبيب" كما كنا نحرص على تسميته، من بغداد إنما ذهبت إليه من منفاي، الذي كان قد بلغ سن الرشد وصار عبئا ثقيلاً على الجسد والروح، ولذلك كانت عودتي إلى "أرض الوطن " أشبه بعودة الابن الضائع لحضن أمه. وثانيهما أن كوردستان كانت قد تخففت من أعباء المظالم وتخلصت من سطوة جنرالات السلطة المركزية ونزهاتهم الدموية في وديانها وسهولها وجبالها، ولهذا أيضاً كان عليّ، قبل أن أذهب، أن أستعد لزيارة من نوع آخر هو خليط من ذكريات مريرة موشاة بحنين منكسر لأرض وهواء وصداقات وتاريخ وصبوات وأحلام، ذرتها رياح الحروب والاستبداد والطغيان وجولات الاقتتال والتدمير الذاتي، مثلما كان استعداداً لفرح غامر بلقاء غير مرتقب مع وجوه برقت وانطفأت في زحمة الأيام والسنين فاستحالت ملامحها الأليفة إلى مجرد أطياف تتلا مع في الذاكرة. كان أول تلك الوجوه، الذي ترآى لي على صفحة النهر وأنا أقطعه في قارب، متوجهاً الى الضفة الحبيبة، ضفة العراق وكوردستان، كان وجه أخي عبد الواحد، ذلك الذي علمني الأبجدية الأولى في أخّوة العرب والأكراد ومصيرهما المشترك، عندما خسر سنيناً عزيزة من شبابه في ظلمة الدهاليز دفاعاً عن السلام في ربوع كورستان، ثم خسر مستقبله من جراء ذلك، قبل أن يخسر حياته كلها من جراء الفاقة والعوز والمرض والفقدان وتكالب المحن والشدائد، في عراق كان يمكن أن يصبح قبلة الدول في الغنى والرفاهية والاستقرار لو توفرت له حكومة عاقلة تؤمن بحق البشر في الحياة ولا تسرقها منهم لأتفه الأسباب. ومن بين تلك الوجوه أيضاً، كان وجه (كاكه حسن) وهو يودعني بقبلة حارة على جبيني، عندما تركته معتقلاً في مديرية الأمن العامة، تلاحقني وصيته العزيزة: اذهب إلى كوردستان لكي تكتشف أن روابط الأخوة بين


المفتش كرمبو 28 - 5 - 2011 01:43 PM

- 7 -
  • الكورد والعرب أقوى من دعاية الحكومة.. وها أنذا أنفّذ وصية كاكه حسن ولكن لا لكي أكتشف تلك الروابط، فقد كنت اكتشفتها منذ سنين، وإنما لكي أؤكد تلك الروابط واساهم، قدر استطاعتي، في تعزيزها، ولهذا فقد كنت، قبل أن أذهب إلى كوردستان، قد أنجزت قصتي عن رحلة السنونو، رحلة مهاباد، حلم الكورد الأزلي، رحلة الموت والولادة معاً، رحلة احتراق وانبثاق الطائر الخالد، طائر الفنيق، الذي تمثل الشعوب في دأبها وإصرارها على الإنعتاق وابتداع المستحيل من أجل الحياة الحرة الكريمة، مثلما تمثلته الشعوب في احتراقه وانبثاقه من بين الرماد. طائر السنونو ومساره الأبدي في الذهاب والإياب، كان هديتي لذكرى أخي عبد الواحد، ولوجه صديقي كاكه حسن، ولمئوية الزعيم الراحل الملا مصطفى البارزاني.
    ج . ح
    اللاذقية/عين البيضا
    خريف 2002



الساعة الآن 06:34 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى