منتديات المُنى والأرب

بلوتارخُس

(نحو 46 - 120م)

بلوتارخُس Plutarchos فيلسوف وكاتب سيرة ومؤرخ يوناني ولد في مدينة خيرونيه Chaeronea بمقاطعة بويطية Boetia في وسط اليونان. ورث العلم والثقافة عن أبيه أرِستوبولوس Aristobulos الذي كان أيضاً فيلسوفاً ومؤرخاً. تكنّى مِستريوس أخذاً عن صديقه لوكيوس مِستريوس فلوروس Lucius Mestrius Florus الذي كان قنصلاً رومانياً. درس في أثينة الفلسفة والبلاغة والعلوم والرياضيات على يد الفيلسوف أمونيوس Ammonius وتنقل كثيراً في بلاد اليونان وآسيا الصغرى ومصر. شغل منصب القاضي الأول في مسقط رأسه، إضافة إلى مهام رسمية أخرى قادته إلى رومة التي أقام فيها عقداً من الزمن (69- 79م)، تعلّم خلاله اللاتينية من دون أن يتقنها، لانشغاله بأعماله وبتدريس الفلسفة، ثم عاد إلى خيرونية ليقيم فيها حتى وفاته.
كان لبلوتارخس علاقة وطيدة بالأباطرة الرومان تراجانوس Trajanus وابنه هدريانوس Hadrianus، ويقال إن الأول منحه لقب «قنصل» والثاني ولاية اليونان، كما كان على صلة بالأكاديميةفي أثينة، وأدار مدرسة كانت الفلسفة محور منهجها. أصبح عام95 كاهناً مدى الحياة لمعبد أبولون Apollon في دِلفي Delphi بعد عودة طقوس استقراء نبوءات الآلهة إلى الحياة الدينية الإغريقية.
كتب بلوتارخس مئتين وسبعة وعشرين مؤلفاً أدرجها أحد أبنائه في قائمة، إلا أن هذه القائمة لم تكن دقيقة علمياً فقد أغفلت العديد من مؤلفاته، وورد فيها بعض المؤلفات التي لم تصح نسبتها إليه. ولم يتمكن الباحثون من تحديد التسلسل الزمني لكتابات بلوتارخس، التي تعرض العديد منها للضياع والتعديل، ولم يتم جمعها إلا في القرن الحادي عشر الميلادي.
تقوم شهرة بلوتارخس على أهم مؤلفاته «السيَر المتوازية» Bioi Paralleloi و«الأخلاق» Ethika. ويبدو أنه كتب «السيرة» في أواخر حياته، وكان الإهداء فيه موجهاً إلى سوسيوس سينيكيو Sosius Senecio وهو أحد أصدقاء الامبراطور تراجانوس المقربين، واعتمد بناؤه على تقديم شخصيات من الحياة السياسية والمدنية والبطولية في أزواج متشابهة متلازمة، الأولى إغريقية والثانية رومانية، ثم مقارنتهما بهدف تنمية التفاهم والاحترام بين الحضارتين. وهذه الشخصيات هي نماذج سلوكية مثالية، كما يراها المؤلف، فيعرض ظروف حياتها وموتها وإنجازاتها، إضافة إلى تأملاته وآرائه الشخصية. فهو لم يتردد في إبداء إعجابه بملوك إسبرطة المنافسة لأثينة وفي تهجمه على المؤرخ هيرودوتس[ر] Herodotos الذي رأى بلوتارخس في تصويره لموطنه بويطية إجحافاً كبيراً. ولم يدّعِ بلوتارخس يوماً كتابة التاريخ، بل كان الهدف من «السيَر» الإمتاع والإصلاح كما شرح نيته في سيرة «الاسكندر» Alexander.
لم يبق من «السيَر» سوى اثنين وعشرين زوجاً، ومن جملة ما فُقد الزوج الأول: «إيبامِنونداس وسقيبيون» Epaminondas and Scpion إضافة إلى المقدمة. ومن السيَر المتبقية سيَر يوليوس قيصر ومرقُص أنطونيوس وكليوباترة وكوريولانوس، التي كانت المصدر الأول لمسرحيات شكسبير[ر] الرومانية، إضافة إلى سيَر أبطال الإغريق تِمستوكلس وأرِستيدِس وانتصارهم على الفرس في موقعة سلاميس Salamis البحرية عام480ق.م، وسيرة بريكلِس Prikles مؤسس الديمقراطية في عصر أثينة الذهبي. ويظهر في «السيَر» اطلاع بلوتارخس الواسع وإمكانياته البحثية الهائلة، إذ لابد أنه استغرق في جمعه للمعلومات سنوات عدة، فهو كثيراً ما وثّق مراجعه التي اقتطف منها، إلا أن عدم تمكنه من اللاتينية جعل شخصياته الرومانية أضعف من موازياتها الإغريقية.
أما كتابه «الأخلاق» فيقوم على أسلوب المحاورة الذي يتطور في أحيان كثيرة إلى مناجاة داخلية (مونولوج) monologue أو هجاء satire، ويتألف من مقالات تجاوز عددها الستين، تأثر فيها بلوتارخس بكتابات الهجّاء اليوناني مِنيبوس Menippos الذي عاش في القرن الثالث ق.م، تطرّق فيها إلى موضوعات شتى كالتعليم وعلم الأعراق والتنقيب والموسيقى والفلك والرياضيات والجغرافية والفيزياء وعلم النفس وفقه اللغة والأدب، منها ماهو أصيل ومنها منسوب إليه. وتعد المقالات المسماة «نصائح سياسية» Political Precepts ذات أهمية خاصة لتعريفها بالحياة السياسية في اليونان في ذلك الوقت. وتظهر أفكار المؤلف الرواقية في «إلى الحاكم الجاهل» To the Unlearned Ruler والدينية في «حول فشل نبوءات الآلهة» On the Failure of the Oracles و«حول إيزيس وأوزيريس» On Isis and Osiris و«مسائل يونانية ورومانية» Greek and Roman Questions. وتتناول بعض المقالات الأخرى في الأخلاق أموراً عملية مثل «حول تعليم الأطفال» On Education Children و«حول كبح جماح الغضب» On Restraining Anger و«وصايا زوجية» Conjugal Precepts و«حول القدر» On Fate و«حول الحسد والكراهية» On Envy and Hatred. و«الأخلاق» بسيط في أسلوبه، يستشهد فيه المؤلف دوماً بمقتطفات من الشعر اليوناني، وخاصة شعر يوربيدس[ر] والمسرحيين اليونان الآخرين، مما رفع من قيمته وزاد من أثره.
لاقى بلوتارخس التقدير خلال حياته وبعد وفاته، وقلّده من جاء بعده من الكتّاب، إلا أن شهرته بدأت تخبو في غربي الامبراطورية الرومانية اللاتيني واستمرت في شرقيها الإغريقي حيث ظل نفوذه مسيطراً على الثقافة البيزنطية ثلاثة قرون، وعادت مؤلفاته إلى الظهور في إيطالية مع بداية عصر النهضة[ر] فترجمت إلى اللاتينية في أوائل القرن السادس عشر، وترجمت «السيَر» إلى الفرنسية في عام 1559 على يد جاك آميو Jacques Amyot، إلا أن الكاتب الفرنسي الأكثر تأثراً بأسلوب بلوتارخس كان مونتيني[ر] في مقالاته التي كتبها بين عامي1580و1588 واستعان في تقديم شخصياته البطولية الكلاسيكية بأسلوب القَصص الذي ساد لاحقاً في عصر النهضة. وترجم توماس نورث Thomas North «السيَر» إلى الإنكليزية عام1579 عن الفرنسية في ما أسماه «سيَر نبلاء الإغريق والرومان»Lives of the Noble Grecians and Romans الذي أصبح المرجع الأول للكتّاب في بريطانية لقرن من الزمن، كما ظهرت طبعة «الأخلاق» كاملة باللغة الإنكليزية مترجمة عن اليونانية في عام1603.
كان المزيج بين السيرة والعبرة الأخلاقية في أعمال بلوتارخس السبب الرئيسي في نجاحها وتأثيرها في أدباء ومفكري عصر النهضة وعصر الاتباعية الجديدة[ر] Neo-Classicism، وألهم فكره وفلسفته رواد الثورة الفرنسية والأدباء والفلاسفة والموسيقيين الألمان. ويعزى نفوذه وشعبيته إلى تطرقه لخصائص إنسانية عامة مقترنة بالكثير من القصص، وإلى أسلوبه الواضح الذي كتبه بلغته أتيكية Attic (الأثينية الكلاسيكية) ملونة باليونانية المعاصرة له.
آمن بلوتارخس بسمو الحضارة الإغريقية، وبخلود الروح والتصوف والتوحيد، واستمد فكره وفلسفته من الرواقية[ر] والفيثاغورية[ر] والأبيقورية[ر]، إلا أن فلسفة أفلاطون[ر] كانت محور بلوتارخس الأساسي، مما جعله رائد الأفلاطونية الجديدة .

المرجع: الموسوعة العربية الميسرة