![]() |
فوائد التاريخ
فوائد التاريخ
لماذا ندرس التاريخ ؟!! و ما الفائدة منه ؟!! إننا نعلم أن وقائع التاريخ لا تتكرر , و لا يمكن الوصول إلى تعميمات تنظم الظواهر التاريخية و إلى قوانين عامة حتمية تحكم سير الحوادث جميعها . و مع ذلك فإن هناك ثمة فوائد ترتجي من دراسة التاريخ : - الفائدة التربوية : إن دراسة التاريخ تساعد على تنمية مدارك الإنسان و توسع أفقه و تمكنه من الوقوف على دائرة الحياة بكاملها بحيث يستطيع أن يضع الحاضر في موضعه الصحيح , ضمن مجرى الحياة الإنسانية كلها .. - الفائدة السياسية : يحاول بعض السياسيين في بلدان كثيرة أن يستخدموا التاريخ مادة لتوجيه النشء في المدارس توجيهاً سياسياً محدداً . فيتحول التاريخ بذلك من علم إلى أداة دعائية , لسياسة محددة أو أيديولوجية معينة . إلا ان التجارب قد دلت على " أن أكره الأشياء إلى نفوس الطلاب هي التي يتجرعهم إياها المعلم تجريعاً , و إلى أن العقائد و الأفكار التي يصبح التلاميذ أميل إلى الشك فيها بتقدم السن , هي بالدقة تلك التي فرضتها عليهم في طفولتهم سلطة قوية قاهرة " . من هنا فإن التاريخ إذا ما حول إلى تاريخ رسمي و أداة دعائية , فقد جاذبيته و أعطى في النهاية مردوداً عكسياً , عدا عن أنه يفقد صفته العلمية . إذن ما هي الفائدة السياسية للتاريخ : يقال (( التاريخ مدرسة السياسة )) , فمنه يتعلم السياسيون طرائق التفكير , و فيه مستودع التقاليد السياسية , و هو ذاكرة الشعوب , تستمد منه الشعوب , كما يستمد منه الأفراد , مختلف الخبرات . و قد قال هيوم D.Hume (1711 _ 1776 ) : " إذا تأملنا قصر حياة الإنسان و معرفتنا المحدودة , حتى بما يقع في زماننا , فلا شك أننا نشعر بأننا كنا نبقى أطفالاً في إدراكنا , لو لم يقيّض لنا هذا الإختراع , الذي يرجع بخبرتنا إلى جميع العصور الماضية , و إلى أقدم الأمم الخالية , و يجعلها تمدنا بأسباب التقدم في الحكمة, كما لو كانت تحت أنظارنا و أسماعنا " . - فائدة التاريخ في فهم الحاضر : لا يمكن أن نفهم قضايا العصر الراهن دون الرجوع إلى صفحات التاريخ لمعرفة جذورها , و كيف تكونت , و ما هي القوى المادية و المعنوية التي صاغتها . بل و لا يمكن فهم الأفكار و النظريات و العقائد و المذاهب , و التعامل معها دون الرجوع إلى جذورها و منشئها . و لا يمكن فهم مواقف القوى السياسية و الإجتماعية دون العودة إلى التاريخ . و لا يمكن فهم خصائص و شخصية أمة من الأمم دون الرجوع إلى التاريخ و دراسته و استيعابه .. صفات المؤرخ و لضمان علمية التاريخ يشترط في من يتصدى للإشتغال في مجاله أن يكون متصفاً بصفات معينة منها : - الصبر و المثابرة : فالبحث في مجال التاريخ يتطلب جهداً كبيراص متواصلاً , في التفتيش عن المادة التاريخية , المتمثلة بالوثائق المكتوبة و الآثار الغير مكتوبة , كما قد يتطلب اللجوء إلى السفر و الإنتقال إلى مواقع الأحداث التاريخية , و إلى المكتبات العامة و دور المخطوطات و المحفوظات و المتاحف , و غيرها من الاماكن التي يحتمل ان يبحث فيها على بعض ما يحتاجه الباحث من مادة تاريخية لإنجاز بحثه . ثم بعد ذلك لابد للباحث من قراءة المادة التاريخية بعد جمعها , و من نقدها و تمحيصها و الإشتغال بها وفقاً لخطوات منهج البحث , للخروج بالنتائج المرجوة منها , كل ذلك و ما يستغرقه من جهد و وقت قد يمتد اعواماً , لإنجاز بحث صغير , يجعل الصبر و المثابرة من الصفات الضرورية للباحث في مجال التاريخ , حتى لا يتوقف عن مواصلة البحث إذا ما اعترضه بعض المصاعب , مثل ندرة المصادر و ضعف الإمكانيات , أو انتزعته من بحثه مشاغل الحياة اليومية , أو صادف في المادة التاريخية غموضاً أو اختلاطاً و اضطراباً في المعلومات .. - الأمانة : فالوصول إلى نتائج صحيحة , لابد أن يتصف الباحث بصفة الأمانة , التي تحول دونه و دون الكذب و الإنتحال و التزوير و إخفاء الحقائق التي لا تناسب الرأي العام , و لا ترضي غرور المجتمع أو السلطان , و لا تنسجم مع مجمل الاتجاهات و القناعات و الأفكار السائدة .. - الشجاعة : و هي صفة على درجة عالية من الأهمية , و ترتبط إرتباطاً و ثيقاً بصفة الامانه الىنفة الذكر , إذ تمنح الباحث القدرة على مناصرة الحقيقة و الجهر بها مهما كانت مره , و تحمّل تبعة إبرازها دون خوف أو وجل , و دون مراعاة لما يمكن أن يجره ذلك عليه من غضب ذوي السلطان , سواء كانوا حكاماً أو أصحاب اتجاهات و مدارس فكرية أو مذاهب دينية أو أحزاب سياسية .. إلخ . - الموضوعية و عدم التحيز : إذ لا جدوى من كل الجهود التي يبذلها الباحث مالم يتصف – أي الباحث – بالموضوعية و عدم التحيز . فجهوده كلها تهدف إلى بلوغ الحقيقة , فإذا اتصف بعدم الموضوعية و بالتحيز و الإنسياق وراء هواه و ميوله و عواطفه , فغنه بذلك يفسد ثمرات جهوده كلها و ييحرف هذه الجهود عن الهدف الذي لابد أن تتجه إليه , و هو الوقوف على الحقيقة التاريخية و إبرازها , كما توصل إليها , بموضوعية و حيادية , مهما خالفت قناعاته و تصادمت مع عواطفه و ميوله و اتجاهاته أو اتجاهات الجماعة التي ينتمي إليها , سواء كانت شعباً أو عشيرة أو أسرة أو طائفة أو مذهباً أو حزباً . - التواضع و العزوف عن الشهرة و الزهد في المناصب : و هي صفات ضرورية تحمي الباحث و تقيه من شرور اللهث وراء الأضواء و التكالب على المناصب و الحرص على البروز , لما في ذلك من تبديد لوقته الثمين , من ناحية , و لما يمكن أن تفرضه عليه من تنازلات و من سلوك يتصف بالمحاباة و التزلف و التصنع , من ناحية أخرى . فيخرج بذلك عن إطار العلم و يعجز عن خدمة التاريخ خدمة منزهة .. - الملكة النقدية : فالتمتع بملكة النقد صفة لازمة للمؤرخ , الذي لا يتعامل مع موضوع مباشر يستطيع ملاحظته , بل يتعامل مع حدث مضى , من خلال ما روي عنه و ما خلفه من آثار و وثائق , قد يلحقها التحوير و التزوير و التشويه و الإختلاق . لهذا لابد للباحث من ان يتصف بالقدرة على النقد و تمييز الصحيح من الكاذب . و هذه الصفة تحول دون تسليم الباحث بكل ما يقرأ أو يسمع أو يرى من أثر . لانه إذا سلم بصحة كل ما يصل إليه من مادة تاريخية , فإن دوره كباحث يتلاشى و يصبح مجرد مقلد و مردد , دون إعمال العقل و استخدام النقد للوصول إلى الحقيقة . و يمكننا أن نقدر مدى أهمية هذه الصفة إذا ما عرفنا أن نقد الأصول التاريخية هو اهم خطوات منهج البحث التاريخي . - العقل المنظم : فالباحث لا يستطيع أن ينجز أي بحث علمي ما لم يكن متمتعاً بعقل منظم , قادراً على التمييز بين عناصر البحث و ترتيبها و تنسيقها و تحديد العلاقات بينها و استخلاص النتائج المنطقية منها . و الباحث في مجال التاريخ هو اكثر حاجة إلى عقل منظم يميز بين الحوادث و الوقائع , التي لم تعد ماثلة أمامه , بل يتخيلها من خلال الحقائق و المعلومات المتناثرة عنها بين يديه , فيعيد تركيبها , مرتبة , منسقة , مترابطة , منسجمة , ضمن سياق تاريخي منطقي سليم , محدداً علاقاتها و تفاعلاتها , و مثبتاً أسبابها و نتائجها , مميزاً بين ما اختلط و تشوش منها , محدداً أزمانها و أماكنها . و هذا النشاط العقلي المتعدد , لا يمكن أن ينجزه إلا باحث يتمتع بعقل منظم .. - التفهم و الإحساس و القدرة على التخيل : فالباحث في مجال التاريخ , ما لم يكن قادراً على تفهم مشاعر و أفكار و دوافع صانعي الظاحداث التاريخية , و ما لم يكن قادراص على تخيل ظروفهم تخيلاً يمكنه من الإنتقال , ذهنياً و نفسياً , إلى عصرهم , فيعيش معهم و يشاركهم في أدوارهم و يحس بأحاسيسهم , فإن أحكامه عليهم و أفعالهم ستكون أحكاماً قسرية , متسمة بعدم الموضوعيه , طابعها إسقاط القيم و الأحكام و الأفكار و التصورات و الظروف المعاصرة على إطار تاريخي مختلف في ظروف و قيمه و أحكامه و أفكاره و تصوراته . و في ذلك ابتعاد عن الحقيقة التاريخية , التي لا يمكن أن تدرك و تفهم إلا ضمن إطارها التاريخي و عصرها الذي وجدت فيه .. و بهذه الصفات , إضافة إلى استخدام المنهج التاريخي استخداماً سليماً و بالتزود بالمهارات و المعارف و العلوم المساعدة , يكتسب الجهد البحثي في حقل التاريخ صفته العلمية , و يصبح التاريخ علماً من العلوم , يختلف في منهجه عن مناهج العلوم الطبيعية من بعض الوجوه , و يتفق معها من وجوه أخرى , دون أن يلغي اختلافه عنها صفته العلمية , التي يكتسبها من كونه يمتلك منهجاً متدرج الخطوات واضح الهدف , يبدأ بالتساؤل , و ينتهي بإعطاء الإجابات العلمية المتسمة بالحياد و الموضوعية , المبنية على جهد بحثي منظم .. منهج البحث التاريخي إن معرفة الماضي توضح الحاضر , و قد تساعد على التنبؤ بالمستقبل . و لكن معرفة الماضي يمكن أن تكون عل صورتين : - معرفة قائمة على الوهم : و هي معرفة شائعة أساسها ما تتناقله الأجيال من روايات مشبعة بالخيال و المبالغات , عن حياة و أعمال أسلافها . و تكاد أن تكون هي المعرفة الشائعة بين الناس . فالشعوب كالأفراد , تسعى دائماً إلى تمجيد نفسها و تضخيم أعمالها و السكوت عن هزائمها و نكساتها , مما يفضي إلى وجود تاريخ مروي تتناقلة الأجيال , هو أقرب إلى الوهم منه إلى التاريخ . - معرفة قائمة على النقد و التحقيق , أي على استخدام المنهج التاريخي : و هذه هي المعرفة التاريخية العلمية المستندة إلى الدراسة المنهجية , المستخدمة لأدوات المنهج التاريخي , المتمثلة بالوثائق التاريخية , بصورها المختلفة , و نقدها و التحقق من صحتها و صحة المعلومات التاريخية , التي تحتوى عليها و هذه المعرفة الأخيرة القائمة على النقد و التحقيق , هي وحدها المعرفة التي يمكن أن تمدنا بفهم واضح للحاضر و إمكانية أفضل للتنبؤ بالمستقبل , استناداً إلى المعرفة الصحيحة المتوفرة عن الماضي التي يتم التوصل إليها باستخدام منهج البحث التاريخي . و يتميز منهج البحث التاريخي عن مناهج العلوم الطبيعية بكونه منهجاً استرجاعياً غير مباشر , ينطلق من الأثر الماثل في الحاضر نحو الحدث الذي وقع في الماضي و خلف هذا الأثر . في حين أن المنهج التجريبي – منهج العلوم الطبيعية – هو منهج مباشر , يتعامل – كما رأينا سابقاً – مع ظاهرة ماثلة أمامه . و لكن رغم هذا الإختلاف , فإن هناك اوجه إتفاق يكتسب المنهج التاريخي من خلالها , صفته العلمية , فالباحث في حقل علم من العلوم ينطلق من تساؤل حائر في الذهن , يسعى إلى الإجابة عليه عبر خطوات منظمة , متخلياً عن أي أحكام مسبقة أو هوى في النفس , قاصداً الوصول إلى الحقيقة , و لا شيء غيرها , متسلحاً بحس نقدي , فلا يسلم بشيء قبل التحقق من صحته . و ينطلق المنهج التجريبي من الملاحظة , فالفرضية , فالتأكد من الفرضية عن طريق التجربة , و تكرارها ضمن نفس الشروط , فالوصول إلى قانون يمكن تعميمه على الحالات و الظواهر المماثلة . و في حين يعمد الكيميائي إلى مختبره , فيدرس ظاهرة كيميائية ما , باتباع خطوات المنهج التجريبي معتمداً على التجربة و الإختبار , فإن الفلكي يعتمد على وسيلة مختلفة نوعاً ما . فهو يلجأ إلى المراقبة المباشرة المتصلة للظواهر الفلكية , التي لا يستطيع أن يتحكم في حركتها أو يكررها كلما أراد ذلك . أما المؤرخ فإنه لا يستطيع أن يجمع ناصر الحدث , كالكيميائي , و يحبس نفسه في المختبر , ليلاحظ و يجرب . و لا يستطيع أن يقف وراء منظار فلكي ليشاهد الواقعة التاريخية و يدرسها , إنه يتعامل مع واقعة تاريخية حدثت و انتهت و لم يعد بالإمكان مشاهدتها أو تكرار حدوثها . و لكن هذا لا يعني أن المؤرخ لا يستطيع أن يدرس الواقعة التاريخية وفق منهج منظم محدد الخطوات . فهو ينطلق أيضاً – شأنه في ذلك شأن الباحث في مجال الكيمياء أو الفيزياء أو الفلك ... إلخ . من تساؤل في الذهن , يسعى إلى الإجابة عليه باستخدام المنهج التاريخي . و كما أن لمناهج العلوم الطبيعية خطوات منظمة متدرجة , فإن لمنهج البحث التاريخي أيضاً خطواته المنظمة , المتدرجة , الموصلة إلى معرفة تاريخية , لا نتردد – إستناداً إلى علمية هذا المنهج – عن وصفها بصفة العلم . بل إن منهج البحث التاريخي هو أشبه ما يكون بمنهج علم الجيولوجيا , و هو أحد العلوم الطبيعية من حيث أن الجيولوجي يدرس الأرض كما هي الآن , و يحاول عبر منهج منظم أن يستعيد الماضي , ليعرف كيف صارت إلى حالتها الراهنة . و المؤرخ يدرس الأثر أو الآثار التي خلفها الحدث التاريخي , ليصل إلى الصورة التي حدث بها , بالقدر الذي يسمح به الآثار الباقية , مجيباً بذلك على التساؤل الحائر في ذهنة .. إن للتاريخ إذن منهجه المنظم , و هو منهج ينطلق من الأثر المتمثل بمخلفات الماضي و سجلاته , معتمداً على النقد و التحقيق للوصول إلى المعرفة التاريخية , متجرداً من الهوى و من الآراء و الأحكام المسبقة , واضعاً نصب عينيه الوقوف على الحقيقة , بقدر ما تسمح به المادة التاريخية المتوفرة له , و بقدر ما تمكنه قدرته كباحث , فإذا ما أخفق بعد هذا كله في بلوغ الحقيقة , فإن إخفاقة هذا لا ينفي أن جهده كان جهداًعلمياً منظماً , و لا يلغي صفة العلم عن الحقل الذي يعمل فيه , و هو حقل التاريخ . فالمنهج هو الذي يضفي على المعرفة صفة العلم لا مقدار اليقين الذي يتوفر لنتائج البحث .. يتبع .......... من كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور أحمد قايد الصايدي أستاذ التأريخ الحديث و المعاصر جامعة صنعاء |
موضوع التاريخ
حتى يكتمل فهمنا لمعنى التاريخ , لابد أن نلم بموضوعه . فإذا كان التاريخ هو أحداث الماضي من ناحية . و هو العلم الذي يدرس أحداث الماضي و يدونها من ناحية أخرى , فما هي أحداث الماضي التي نقصدها , و بمعنى آخر موضوع هذا العلم على وجه التحديد . لقد شهد الماضي أحداثاً كثيرة مختلفة . فهل تدخل كل أحداث الماضي ضمن موضوع علم التاريخ ؟. إن التاريخ بمعناه الواسع يهتم بما هو متغير عبر الزمان . و بما أن كل مظهر من مظاهر الكون يطرأ عليها التغيير فإننا يمكن ان نتحدث عن تواريخ كثيرة , تتناول الأرض و الحيوان و الفلك و الطب و الفلسفة و اللغة .... إلخ . و لكننا عندما نتحدث عن علم التاريخ فإننا نعني بذلك العلم الذي يقصر إهتمامه على الماضي البشري , أي على جزء من أجزاء الصيرورة الشاملة و هو الجزء الخاص بالإنسان .. و حتى الماضي البشري نفسه لا يدخل جميعه ضمن موضوع علم التاريخ . فتفرع الإنسان مثلاً إلى أجناس و العوامل التي أدت إلى هذا التفرع و المراحل التي قطعها , هي من اختصاص علم آخر , هو علم ( الأنثربولوجيا ) . لقد حصر علم التاريخ همه في دراسة الماضي البشري منذ بدأ الإنسان يستغل الطبيعة و ينتظم في مجتمع و يعبر عن نفسه بالكتابة . أما ما قبل ذلك فتتوزعه علوم أخرى كالأنثربولوجيا و الآثار و غيرهما . و هي علوم ذات علاقة وصلة وثيقة بعلم التاريخ – بطبيعة الحال – إذ تهدف جميعها إلى التعرف على الإنسان في مختلف مراحل تطوره . و إذا كان التاريخ زمنياً لا يتوغل بعيداً إلى ما يعرف بما قبل التاريخ , أي ما قبل اختراع الكتابة , و اقتصر على دراسة أحداث الماضي البشري , منذ اختراع الكتابة , فإنه قد ظل لوقت طويل يحصر همه في الوقائع الحربية و التقلبات السياسية . إلا انه قد أصبح الآن أكثر شمولاً فغدا يضم ضمن دائرة إهتمامه , الحياة البشرية في الماضي بمختلف مظاهرها الإقتصادية و الإجتماعية و الإعتقادية و الإبداعية , و التي لم تعد تعتبر أقل أهمية من الحروب و التغيرات السياسية بل و تفوقها من حيث أنها كثيراً ما تكون هي المحركة للحروب و الأحداث السياسية . و هكذا فإن موضوع التاريخ هو الماضي البشري , بجوانبه المختلفة : الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية و الإبداعية و الإعتقادية , منذ إختراع الكتابة و حتى العصر الراهن منهج البحث التاريخي إن معرفة الماضي توضح الحاضر , و قد تساعد على التنبؤ بالمستقبل . و لكن معرفة الماضي يمكن أن تكون عل صورتين : - معرفة قائمة على الوهم : و هي معرفة شائعة أساسها ما تتناقله الأجيال من روايات مشبعة بالخيال و المبالغات , عن حياة و أعمال أسلافها . و تكاد أن تكون هي المعرفة الشائعة بين الناس . فالشعوب كالأفراد , تسعى دائماً إلى تمجيد نفسها و تضخيم أعمالها و السكوت عن هزائمها و نكساتها , مما يفضي إلى وجود تاريخ مروي تتناقلة الأجيال , هو أقرب إلى الوهم منه إلى التاريخ . - معرفة قائمة على النقد و التحقيق , أي على استخدام المنهج التاريخي : و هذه هي المعرفة التاريخية العلمية المستندة إلى الدراسة المنهجية , المستخدمة لأدوات المنهج التاريخي , المتمثلة بالوثائق التاريخية , بصورها المختلفة , و نقدها و التحقق من صحتها و صحة المعلومات التاريخية , التي تحتوى عليها و هذه المعرفة الأخيرة القائمة على النقد و التحقيق , هي وحدها المعرفة التي يمكن أن تمدنا بفهم واضح للحاضر و إمكانية أفضل للتنبؤ بالمستقبل , استناداً إلى المعرفة الصحيحة المتوفرة عن الماضي التي يتم التوصل إليها باستخدام منهج البحث التاريخي . و يتميز منهج البحث التاريخي عن مناهج العلوم الطبيعية بكونه منهجاً استرجاعياً غير مباشر , ينطلق من الأثر الماثل في الحاضر نحو الحدث الذي وقع في الماضي و خلف هذا الأثر . في حين أن المنهج التجريبي – منهج العلوم الطبيعية – هو منهج مباشر , يتعامل – كما رأينا سابقاً – مع ظاهرة ماثلة أمامه . و لكن رغم هذا الإختلاف , فإن هناك اوجه إتفاق يكتسب المنهج التاريخي من خلالها , صفته العلمية , فالباحث في حقل علم من العلوم ينطلق من تساؤل حائر في الذهن , يسعى إلى الإجابة عليه عبر خطوات منظمة , متخلياً عن أي أحكام مسبقة أو هوى في النفس , قاصداً الوصول إلى الحقيقة , و لا شيء غيرها , متسلحاً بحس نقدي , فلا يسلم بشيء قبل التحقق من صحته . و ينطلق المنهج التجريبي من الملاحظة , فالفرضية , فالتأكد من الفرضية عن طريق التجربة , و تكرارها ضمن نفس الشروط , فالوصول إلى قانون يمكن تعميمه على الحالات و الظواهر المماثلة . و في حين يعمد الكيميائي إلى مختبره , فيدرس ظاهرة كيميائية ما , باتباع خطوات المنهج التجريبي معتمداً على التجربة و الإختبار , فإن الفلكي يعتمد على وسيلة مختلفة نوعاً ما . فهو يلجأ إلى المراقبة المباشرة المتصلة للظواهر الفلكية , التي لا يستطيع أن يتحكم في حركتها أو يكررها كلما أراد ذلك . أما المؤرخ فإنه لا يستطيع أن يجمع ناصر الحدث , كالكيميائي , و يحبس نفسه في المختبر , ليلاحظ و يجرب . و لا يستطيع أن يقف وراء منظار فلكي ليشاهد الواقعة التاريخية و يدرسها , إنه يتعامل مع واقعة تاريخية حدثت و انتهت و لم يعد بالإمكان مشاهدتها أو تكرار حدوثها . و لكن هذا لا يعني أن المؤرخ لا يستطيع أن يدرس الواقعة التاريخية وفق منهج منظم محدد الخطوات . فهو ينطلق أيضاً – شأنه في ذلك شأن الباحث في مجال الكيمياء أو الفيزياء أو الفلك ... إلخ . من تساؤل في الذهن , يسعى إلى الإجابة عليه باستخدام المنهج التاريخي . و كما أن لمناهج العلوم الطبيعية خطوات منظمة متدرجة , فإن لمنهج البحث التاريخي أيضاً خطواته المنظمة , المتدرجة , الموصلة إلى معرفة تاريخية , لا نتردد – إستناداً إلى علمية هذا المنهج – عن وصفها بصفة العلم . بل إن منهج البحث التاريخي هو أشبه ما يكون بمنهج علم الجيولوجيا , و هو أحد العلوم الطبيعية من حيث أن الجيولوجي يدرس الأرض كما هي الآن , و يحاول عبر منهج منظم أن يستعيد الماضي , ليعرف كيف صارت إلى حالتها الراهنة . و المؤرخ يدرس الأثر أو الآثار التي خلفها الحدث التاريخي , ليصل إلى الصورة التي حدث بها , بالقدر الذي يسمح به الآثار الباقية , مجيباً بذلك على التساؤل الحائر في ذهنة .. إن للتاريخ إذن منهجه المنظم , و هو منهج ينطلق من الأثر المتمثل بمخلفات الماضي و سجلاته , معتمداً على النقد و التحقيق للوصول إلى المعرفة التاريخية , متجرداً من الهوى و من الآراء و الأحكام المسبقة , واضعاً نصب عينيه الوقوف على الحقيقة , بقدر ما تسمح به المادة التاريخية المتوفرة له , و بقدر ما تمكنه قدرته كباحث , فإذا ما أخفق بعد هذا كله في بلوغ الحقيقة , فإن إخفاقة هذا لا ينفي أن جهده كان جهداًعلمياً منظماً , و لا يلغي صفة العلم عن الحقل الذي يعمل فيه , و هو حقل التاريخ . فالمنهج هو الذي يضفي على المعرفة صفة العلم لا مقدار اليقين الذي يتوفر لنتائج البحث .. |
مشكور اخي صائد ويعطيك الف عافية
على روعة الادراج سلمت اخي تحيات لك |
يعطيڪَ العافيه.. موفق بإختيارڪَ.. تسلم الايادي .. بـانتظار جديدڪَ.. |
بارك الله فيك على الطرح
لك مني كل تحية وتقدير جهود تستحق الشكر عليها بالفعل احترامي |
سلمت الايادي على نقل الموضوع الهادف واطلاعنا عليه
يعطيك العافية |
الساعة الآن 08:48 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |