![]() |
صفحات من التاريخ المنسي للعبيد المغاربة - العبيد وبيعة السلاطين العلويين
صفحات من التاريخ المنسي للعبيد المغاربة
العبيد وبيعة السلاطين العلويين الحديث عن تاريخ العبيد المغاربة يثير أكثر من شهية الفضول الصحفي، إنه تاريخ يمتد ويتصل بمساحات زمنية شاسعة ومثيرة حين تتداخل العديد من الأحداث السياسية والاجتماعية وأيضا الفنية، لتصبح في النهاية رافدا مميزا لهوية مكون أساسي من المكونات البشرية المغربية، من مرحلة النزوح والترحيل القسري حتى فترات الاندماج الفعلي والانصهار الاجتماعي. إنه فصل مثير ومشوق من أحداث التاريخ، نظرا لما لعبه العبيد من جيش البخاري من دور في تحديد لمسار الأشياء، خاصة فيما يتعلق بدورهم في متابعة الملوك وعزلهم. في هذه الفترة، انقسم جيش الدولة إلى قسمين متعاديين، جيش العرب من الودايا يقفون بجانب أهل فاس، وجيش عبيد البخاري مناصرين من قبل أهل مكناس، وهنا دخل المغرب عصر الفوضى، إذ يبايع هذا السلطان ثم يعزل ثم تعاد مبايعته أكثر من مرة وذلك حسب حسابات سياسية مزاجية وظرفية. وسنتبع مسار العبيد في هذه الفترة معتمدين أساسا على كتاب «تاريخ الضعيف الرباطي» في قراءة لا تتوخى حصر الأحداث بقدر ما تبغي تبيان الموقع الجديد لفئة العبيد بانخراطهم في قرار الدولة وتوجيهه. بعد أن فسدت العلاقة بين المولى عبد الله بن إسماعيل والعبيد، وبعدما فر من مكناسة إلى وادي نول، بويع السلطان أبو الحسن علي المعروف بالأعرج على يد العبيد وفي مقدمتهم «الجبار العنيد» (نعت للضعيف الرباطي)، سالم الدكالي (أحد كبار قواد العبيد الإسماعيلي، لعب دورا رئيسيا في الأحداث السياسية والعسكرية منذ سنة 1140ه، وكان ضد بيعة مولاي عبد الله وتزعم الثورة ضده. أفتى القاضي أبو عنان الشريف بقتله، وتم إعدامه في محرم عام 1149ه/ماي 1736م)، وكان السلطان أبي الحسن من أبناء المولى إسماعيل وأمه عائشة مباركة الرحمانية. وقد تبع سالم الدكالي في بيعته كل من رؤساء العبيد والفقهاء والأعيان، وبقي أميرا نحو عام وسبعة أشهر وواحدا وعشرين يوما، وكان الحكم والتصرف في شؤون الدولة كله لسالم الدكالي. وبويع المولى عبد الله مرة ثانية عام 1148ه وقتل في هذه المدة من حكمه رؤساء مشرع الرملة (مكان جمع فيه المولى إسماعيل عبيد البخاري وعائلاتهم في الغرب بالمحلة، ومنه يوزع العبيد على الحاميات ويرجعون إليه دوريا، وقد بلغ عدد العبيد المسجلين في هذه المحلة في آخر أيام المولى إسماعيل حسب الزياني 90 ألفا) وجعل كل واحد من أعيانهم في خنشة من الكتان وشد عليه شدا وثيقا ورماهم في وادي أم الربيع، ومن بينهم الباشا سالم الدكالي والقائد قدور العبدي وعلي الدكالي وأولاد الباشا سالم والقائد عبد الرحيم. وفي عام 1151ه، بويع السلطان المولى المستضيء بن المولى إسماعيل، وأخذ له البيعة على يد عبيد البخاري وتبعهم البعض من الناس، وبعثوا له البيعة إلى مقره من سجلماسة، فجد السير إلى حضرة مكناسة فدخلها، وجددت له البيعة بمحضر العلماء والفقهاء والشرفاء والأعيان. وفي عام 1152ه، خلع السلطان المولى المستضيء، باتفاق أصحاب الديوان من رؤساء الوصفان كالباشا بوعزة مول الشربيل (قائد عبيد البخاري بمشرع الرمل خلفا لفاتح الدكالي الذي تم عزله في أواخر شوال عام 1152ه) وجميع الجيش من أهل شيعته بعد أن اتفقوا على خلافة السلطان المولى عبد الله. هكذا أعيدت بيعة المولى عبد الله على يد الباشا بوعزة مول الشربيل، وذلك يوم الاثنين الخامس عشر من ذي القعدة عام 1152ه، وكان وقتها ببلاد السراغنة فوصلته البيعة هنا ووفدت عليه الوفود من حضرة مكناس وفاس، ووصل إليه الإشراف والفقهاء. ثم إن الباشا بوعزة مول الشربيل وجه جمعا عظيما من الجيش إلى ناحية السلطان المولى عبد الله، فلحقوا به عند قصبته ببلاد السراغنة وأقاموا معه إلى حين خروجهم إلى ناحية سيدي رحال. وبعد سنة وأربعة أشهر وأربعة عشر يوما، اتفق العبيد على خلعه. واستخلفه السلطان زين العابدين بن إسماعيل، وبويع بحضرة مكناسة الزيتون بمحضر رؤساء عبيد البخاري وأشراف المدينة وعلمائهم وأعيانهم، وتبعهم في ذلك أهل فاس وباقي القبائل عام 1154ه، فاستقر بمكناسة الزيتون لا يفعل شيئا إلا بمشورة العبيد أهل العيون، وإن فعل شيئا من غير إذنهم عاتبوه عليه وكان محجورا عندهم. يقول محمد الرباطي الملقب بالضعيف عن وضعية العبيد خلال هذه الفترة: «وكان من أمر عبيد مشرع الرملة لما بلغوا الغاية في الظلم والجور والبغي والفساد وعم جورهم جميع البلاد وتعجبوا في قوتهم وكثرتهم، صاروا يعبثون بالملوك... ينصبون هذا ويقتلون هذا، وكانوا يسيطرون بستين ألف فارس، إلى أن سلط الله عليهم الموت في الحروب والوقائع وتغيثوا لما عاد عليهم الدهر بالهول والغم والفزائع، فابتدأهم الوباء في هذه السنة فآل أمرهم إلى الوهن والضعف». وبعد الضغط الذي مارسه العبيد على السلطان زين العابدين، انقلبوا عليه وأعادوا تولية المولى عبد الله، وهي البيعة الرابعة له كسلطان، ويصف الضعيف الرباطي هذا الحدث كالآتي: «فلما رأى أهل الديوان ورؤساء الوصفات من عبيد مشرع الرملة أن دولة السلطان مولانا زين العابدين على قدر الحال ولم يجدوا عنده شيئا من المال، انقلبوا عليه بالمكر والحيل كعادتهم، رأوا أنه لا يصلح بهم فاتفقوا على عزله بعد أن أخذ في المملكة نحو الخمسة أشهر، وأرادوا تولية الإمام السلطان أمير المؤمنين مولانا عبد الله لما رأوا فيه من الجود والسخاء والنجدة والمروءة، فخلعوا السلطان مولانا زين العابدين من الخلافة وذلك في اليوم الثالث عشر من رمضان المعظم من عام 1154ه، فكانت دولته نحو الخمسة أشهر، وفي أيام دولته ابتدأ الوباء بالمحلة وكثر الموت في العبيد بمشرع الرملة حتى عاد أمرهم إلى الوهن...». وما هي إلا أشهر من مبايعته وطلب السماح والعفو من العبيد، حتى تراجعوا عن نصر المولى عبد الله واستخلفوه بأخيه المولى المستضيء الذي كان وقتها بمراكش، وهي البيعة الثانية لهذا السلطان الذي أخذها عن الباشا أحمد بن علي الريفي ومن معه من عبيد دكالة الذين بالرملة وتبعهم جميع العبيد وأعيان مكناسة وغيرهم من أهل فاس، وفي أول المحرم من سنة 1155ه، دخل السلطان المولى المستضيء مكناسة مع طائفة من العبيد. منقول |
العبيد يفقدون عناصر التأثير والضغط
الحديث عن تاريخ العبيد المغاربة يثير أكثر من شهية الفضول الصحفي، إنه تاريخ يمتد ويتصل بمساحات زمنية شاسعة ومثيرة حين تتداخل العديد من الأحداث السياسية والاجتماعية وأيضا الفنية، لتصبح في النهاية رافدا مميزا لهوية مكون أساسي من المكونات البشرية المغربية، من مرحلة النزوح والترحيل القسري حتى فترات الاندماج الفعلي والانصهار الاجتماعي. نعود إلى الضعيف الرباطي الذي نقل تحركات العبيد خلال فترة من حكم المولى المستضيء، نعيد نقلها هنا حتى يتسنى لنا فهم واستيعاب حجم وقوة سيطرتهم على نظام الدولة، يقول الرباطي: «وفي هذه السنة نهض جمع العبيد من مشرع الرملة لقبيلة سفيان وبني مالك، فهربوا منهم إلى ناحية البحر بقرب ضريح مولانا أبي سلهام فتبعتهم الجيوش وأوقعوا بهم وقعة هائلة، حتى كانوا يقتلون الناس في وسط القبة ولا يتركون الصغير ولا الكبير، ويشقون على بطون النساء ويجبدون الجنين ويضربونه بالسيف فتلطخت القبة بالدم ونهبوا أموالهم وسبوا نسائهم وأخذوا ما وجدوا عندهم وتركوهم حفاة عراة». ومباشرة بعد هذه الواقعة، جدد جيش العبيد خروجه إلى ناحية الفحص، فصاروا حتى وادي المخازن، وبعدما تجاوزه وجدوا أمامهم الباشا أحمد بن علي، وبعدما التقى الجمعان، كانت الهزيمة للعبيد بعدما أوقع بهم الباشا أحمد، وينقل الضعيف الرباطي هذا المشهد، إذ يذكر أن هذا الباشا قطع رؤوس العبيد وملأ منهم أربع «شوريات» في نحو 72 رأسا، وجاءت هذه المواجهة لما استعد العبيد لخلع المولى المستضيء. وكانت من نتائج ما قام به الباشا أحمد بن علي (صهر المولى المستضيء) في حق العبيد أن بايعوا مجددا أخاه المولى عبد الله وهي البيعة الخامسة، ودامت ولايته نحو عام ونصف، على أن يبايع بعد ذلك أهل سلا وقبائل بني حسن وفرقة من عبيد دكالة المولى المستضيء للمرة الثالثة، في حين تشبث أهل الرباط ببيعة المولى عبد الله. وبعد هذه الفترة، رحل العبيد من مشرع الرمل أوائل رمضان من عام 1159ه، حيث نزلوا وأقاموا مع السلطان المولى عبد الله في بيعته السابعة، وأصبحوا يطلبون منه الراتب كشكل من أشكال الابتزاز السياسي. واستمر الحال حتى سنة 1170ه، وهي السنة التي بدأ يضعف فيها المولى عبد الله، وظهر اسم الأمير سيدي محمد بن عبد الله، الذي بويع يوم وفاة والده في سنة 1171ه موافق 10 نونبر 1757م، وذلك بحضور وإجماع أهل فاس وغيرهم من الأشراف والعلماء والجيوش، وقال عنها الضعيف الرباطي أنها كانت بيعة عامة تامة مرضية كاملة الأوصاف سنية جامعة لجميع الأمور الشرعية ومحيطة بجميع مصالح الرعية. لقد استمرت الفوضى بأعلى جهاز الدولة حوالي 89 عاما هجريا، وتحولت معها عناصر القوة القديمة، ونعني طائفة العبيد التي بدأت تفقد الكثير من عناصر التأثير والضغط بسبب انحصارها الجغرافي، إذ لم يكن لها جذور وامتدادات قبائلية كالعرب، وأيضا بسبب عنفها وقوتها وقسوتها التي جعلتها منعزلة ومرفوضة في العديد من المناطق، وأخيرا لأن المغرب خرج من عهد التيه السياسي الذي تمثل في خلافة المولى إسماعيل، ودخل مع السلطان سيدي محمد بن عبد الله إلى فترة تأسيس الاستقرار لنظام الدولة. ورغم أن السلطان الجديد انتهج مسارا آخر مع العبيد بالنظر إلى حالهم وإعادة إسكانهم وكسوتهم والاعتناء بهم، إلا أنهم خرجوا عليه وأرادوا بيعة ابنه المولى يزيد، وهو الأمر الذي دفع سيدي محمد بن عبد الله إلى تفريق حوالي ثلاثة عشر آلاف من العبيد بالمراسي وبعث عبيد السوس إلى تارودانت، وعبيد حاحة والشبانات إلى الصويرة، وعبيد السراغنة وتادلا ودمنات إلى تيط، وعبيد دكالة إلى أزمور، وعبيد الشاوية إلى أنفا. ولن ينقل لنا التاريخ أخبارا كافية عن دور العبيد بعد وفاة السلطان سيدي محمد بن عبد الله (1204ه) على الأقل فيما كانوا يقومون به من أدوار بارزة في عزل ومبايعة السلاطين، وسينتقل المغرب مع هذه الفترة إلى نزاع قبائلي عربي بين المناصرين للمولى هشام وبين المولى يزيد الذي كان يتوفر في جيشه على حوالي 1500 من العبيد و450 من أوداية فاس و300 من البربر ومثلهم من الشراكة و400 من أولاد جامع و500 من بني حسن و500 من قبائل سفيان وابني مالك، ونحو الثلاثين من أهل سلا والرباط من البحرية والطبجية، في حين كان المولى هشام مناصرا من قبل القائد عبد الرحمن بناصر العبدي والحاج الهاشمي بن العروسي، اللذين بايعاه رفقة قبائل عبدة ودكالة والحوز ومراكش والرحامنة، وكان ذلك سنة 1206ه. وفي نفس السنة، سيبايع المولى سليمان على يد الودايا ورؤساء العبيد وأهل فاس، وسيدخل ما تبقى من جيش البخاري في طاعته، حتى إنهم امتثلوا لأمره بإلقاء القبض على أحد قوادهم الذي كان برتبة باشا في عهد المولى يزيد وهو محمد بن عبد المالك البخاري، ويحتفظ التاريخ كذلك بأن المولى سليمان ولى في عهده على مدينة الصويرة الحاج محمد بن عبد الصادق المسيجني وهو من عبيدها. بعد هذا المسار الحافل بتداخل الأحداث، سيتقلص دور العبيد المغاربة بالقياس على ما كانوا عليه، وسيقتصر دورهم مع من سيأتي من الملوك على أداء البيعة مع احتفاظ بعضهم على مراتب بالجيش النظامي المغربي، ذلك أن جيل جيش البخاري لم يعد له وجود، واستمر المنحدرون من نسله في شغل مناصب مختلفة في الخدمة السلطانية، وعن وضعهم ومآلهم مع السلطان المولى عبد الرحمن يقول الناصري: «..قصد (المولى عبد الرحمن) أولا مكناسة، فلما دنا منها، خرج العبيد إلى لقائه بالأعلام مرفوعة على العصي وكانوا جماعة يسيرة فقال لهم السلطان رحمه الله: أين جند البخاري فقالوا: هذه البركة التي أشأرتها الفتنة وعلى الله ثم عليك الخلف، فدخل السلطان رحمه الله مكناسة وتفقد بيت مالها فألقاه أنقى من الراحة، ووجد العبيد على غاية من القلة والخصاصة، حتى لقد باعوا الخيل والسلاح وأكلوا أثمانها، فأنعشهم وجدد رسمهم وقواهم بالخيل والسلاح والجاريات، حتى صلح أمرهم وذهب فقرهم». وسيستمر العبيد بعد ذلك كقوة عشائرية منغلقة ومهووسة بالسلطة والحكم، وسيحفظ التاريخ أسماء عائلات بخارية كانت لها حظوة السيطرة على مراكز جهاز الدولة المخزني، نذكر هنا أبا حماد الصدر الأعظم للمولى عبد العزيز وحاجب الحسن الأول، وهو أيضا سليل أسرة مخزنية، بداية بجده أحمد بن مبارك الذي كان أهم وصفان المولى سليمان، حتى ابنه (والد با احماد) أحمد بن مبارك الذي تربع على كرسي الحجابة في عهد السلطانيين سيدي محمد بن عبد الرحمان والمولى الحسن الأول. وكانت هذه العشائرية للعبيد تستمد قوتها في غالب الأحيان من حظوة اجتماعية أخرى، تمثلت في السلالات المتجددة والمنحدرة من داخل القصبات والقصور السلطانية التي ورثت نظام عيش مميز ومثقل بالتقاليد والأعراف المخزنية التي حافظوا عليها وانتظموا في خدمتها. ولا زال الأمر يحتاج هنا إلى مزيد من البحث والتقصي في حياة العبيد المغاربة والنبش في تقاليدهم، كالطبخ الذي برعوا فيه بحفاظهم على الهوية المغربية العريقة بكل مرجعيتها العربية الأندلسية والأمازيغية واليهودية، كذلك جانب اللباس الذي تميزوا وعرفوا به كلباس الوصفان المغاربة بالنسبة إلى عبيد المخزن، وأيضا لباس الأحرار منهم الذين يزينون ثيابهم بالودع، واشتهروا به كفنانين متجولين في القرى والمداشر والحواضر، وكان فن كناوة في ذلك فنا للعبيد المغاربة. |
جيش بُخارى في خدمة السلطان المولى اسماعيل
الحديث عن تاريخ العبيد المغاربة يثير أكثر من شهية الفضول الصحفي، إنه تاريخ يمتد ويتصل بمساحات زمنية شاسعة ومثيرة حين تتداخل العديد من الأحداث السياسية والاجتماعية وأيضا الفنية، لتصبح في النهاية رافدا مميزا لهوية مكون أساسي من المكونات البشرية المغربية، من مرحلة النزوح والترحيل القسري حتى فترات الاندماج الفعلي والانصهار الاجتماعي. قبل الحديث عن مآل العبيد المغاربة مع فترة حكم الدولة العلوية وبالضبط مع السلطان المولى إسماعيل، وجبت الإشارة إلى جهاد المولى علي الشريف في ناحية أكدج من بلاد السودان، وهو جهاد يبين الطبيعة التوسعية للسلاطين المغاربة التي لم تخرج عن نشر راية الإسلام واستلهام ثقافة الفتح كثقافة عربية إسلامية آنذاك. ويحتفظ التاريخ للسلطان المولى إسماعيل أنه كان نموذجا في حكم وتنظيم دولته، ومن أعماله إنشاء جيش نظامي بمواصفات جديدة، فمن جهة ألف جيشا بنظام خاص وهو الودايا الذي ينقسم بدوره إلى ثلاث أرحاء: رحى أهل السوس ومنهم أولاد جرار وأولاد مطاع وزرارة والشبانات وهم من عرب المعقل، ورحى المغافرة وهم من عرب الخلط، ورحى الودايا وهم من قبائل الحوز من عرب المعقل. ولم يكتف المولى إسماعيل بجيش نظامي عربي بل عمل على تأليف جيش خاص بالعبيد، وقد ساعده في ذلك كاتبه عمر بن قاسم المراكشي الشهير بعليليش، وكان والده كاتبا عند المنصور السعدي، وبقي في حوزته الكناش العبيدي الذي يضم أسماء العبيد الذين كانوا في خدمة المنصور الذهبي، فأمره المولى إسماعيل بتجميع ما يجده منهم ومن ذريتهم، خاصة وأن أغلبهم كانوا متفرقين بأحواز مراكش وبقبائل الدير. يقول الناصري: «... فأخذ عليليش يبحث عنهم بمراكش وينقر عن أنسابهم إلى أن جمع من بها منهم، ثم خرج إلى الدير فجمع من وجد به، ثم سار إلى قبائل الحوز فاستقصى من فيها حتى لم يترك بتلك القبائل كلها أسود، سواء كان مملوكا، أو حرطاني أو حرا أسود، واتسع الخرق وعسر الرتق فجمع في سنة واحدة ثلاثة آلاف رأس، منهم المتزوج والعزب ثم كتبهم في دفتر وبعث به إلى السلطان بمكناسة، فتصفحه السلطان وأعجبه ذلك فكتب إليه يأمره بشراء الإماء للعزاب منهم، ويدفع أثمان المماليك إلى ملاكهم ويكسوهم من أعشار مراكش، ويأتيه بهم إلى مكناسة...». وقد عمد المولى إسماعيل تكثيفا لجهود تجميع العبيد إلى مكاتبة عماله بالقبائل والمناطق وأمرهم بشراء العبيد من مختلف حواضر المغرب، مقابل عشرة مثاقيل للعبد، وكان مجموع ما اشتراه العمال حوالي ثلاثة آلاف، إضافة إلى ألفين جمعها محمد بن العياشي المكناسي كاتب المولى إسماعيل المكلف بتجميع العبيد من قبائل الغرب وبني حسن، هكذا كانت أولى طلعات العبيد المجمعين في حوالي ثمانية آلاف، أنزلها السلطان بمحلة مشرع الرملة بأحواز مكناسة، فسلحهم وكساهم وعين عليهم القواد. يقول الناصري: «... ثم ألزم السلطان قبائل تامسنا ودكالة أن يأتوا بعبيد المخزن الذين عندهم فلم يسعهم إلا الامتثال، فجمعوا كل عبد في بلادهم وزادوا بالشراء من عندهم، وأعطوهم الخيل والسلاح وكسوهم وبعثوا بهم إليه، فمن تامسنا ألفان، ومن دكالة ألفان، فألزمهم السلطان بوجه عروس من أحواز مكناسة إلى أن بنى قصبة آدخسان فانزل عبيد دكالة بها وأنزل عبيد تامسنا بزاوية أهل الدلاء». ونشير هنا إلى أن السلطان المولى إسماعيل قام بجهاد في صحراء سوس ووصل إلى شنكيط وتيشيت وغزا هذه البلاد حتى دخل بلاد السودان، ويذكر الناصري أن قبائل العرب هناك من أهل الساحل والقبلة ومن دليم وبربوش والمغافرة وودي مطاع وجرار وغيرهم من قبائل المعقل قد وفدوا عليه مؤدين الطاعة، وقد جلب المولى إسماعيل من هذه الغزوة ألفين من الحراطين بأولادهم فكساهم بمراكش وسلحهم. ويذكر الناصري أن عدد ما جمع من عسكر البخاري وصل إلى أربعة عشر ألفا، عشرة آلاف بمشرع الرملة وأربعة آلاف بآدخسان، ويبين صاحب «الاستقصا» لفظ الحرطاني، الذي معناه العتيق، وأصله الحر الثاني، كأن الحر الأصلي حر أول، وهذا العتيق حر ثان، ومع كثرة استعماله أصبح الحرطاني على ضرب من التخفيف. وعن سبب تسمية هذا الجيش بعبيد البخاري، فيضيف الناصري، أن المولى إسماعيل رحمه الله لما جمعهم وظفر بمراده بعصبيتهم... جمع أعيانهم وأحضر نسخة من صحيح البخاري وقال لهم: «أنا وأنتم عبيد لسنة رسول الله (ص) وشرعه المجموع في هذا الكتاب، فكل ما أمر به نفعله وكل ما نهى عنه نتركه وعليه نقاتل». هكذا، وبعد أن تملك المولى إسماعيل في قوته النظامية، قام بتفريق جيوشه في نواحي البلاد وبنى لذلك القلاع والقصبات ضمانا لاستقرار القبائل، وكانت أكبر تلك المراكز محلة مشرع الرمل قرب مكناسة، حيث يستقر معظم جنود جيش البخاري. وللإطلاع على حياة العبيد الذين وظفوا في جيش البخاري، وللاقتراب أكثر من طباعهم وأوضاعهم نورد هنا فصلا سماه الناصري «بيان تربية أولاد عبيد الديوان وكيفية تأديبهم» في الجزء السابع من «الاستقصا». يقول الناصري: «... جمهور عبيد البخاري كانوا بالمحلة من مشرع الرملة وأنهم تناسلوا بها وكثروا إلى الغاية، فلما كانت سنة 1100ه أمر السلطان رحمه الله أولئك العبيد أن يأتوه بأبنائهم وبناتهم من عشر سنين فما فوق، فلما قدموا عليه فرق البنات على عريفات داره، كل طائفة في قصر للتربية والتأديب، وفرق الأولاد على البنائين والنجارين وسائر أهل الحرفة للعمل والخدمة وسوق الحمير والتدرب على ركوبها، حتى إذا أكملوا سنة، نقلهم إلى سوق البغال الحاملة للآجر والزليج والقرمود والخشب ونحو ذلك، حتى إذا أكملوا سنة، نقلهم إلى خدمة المركز وضرب ألواح الطابية، حتى إذا أكملوا سنة، نقلهم إلى المرتبة الأولى في الجندية، فكساهم ودفع إليهم السلاح يتدربون به على الجندية وطرقها، حتى إذا أكملوا سنة، دفع إليهم الخيل يركبونها أعراء بلا سروج ويجرونها في الميدان للتمرس بها والتدرب على ركوبها، حتى إذا أكملوا سنة، وملكوا رؤوسها دفع إليهم السروج فيركبونها ويتعلمون الكر والفر والثقافة في المطاعنة والمراماة على صهواتها، حتى إذا أكملوا سنة بعد ذلك، صاروا في عداد الجند المقاتلة، فيخرج لهم السلطات البنات اللاتي قدمن معهم، ويزوج كل واحد من الأولاد واحدة من البنات، ويعطي الرجل عشرة مثاقيل مهر زوجته، ويعطي المرأة خمسة مثاقيل شورتها، ويولي عليهم واحدا من آبائهم الكبار، ويعطي ذلك القائد ما يبني به داره وما يبني به أخصاص أصحابه وهي المعروفة عندنا بالنواويل، ويبعث بهم إلى المحلة بعد أن يكتبوا في ديوان العسكر...». |
ليلة الدردبة أو منتهى فن عبيد كًناوة
الحديث عن تاريخ العبيد المغاربة يثير أكثر من شهية الفضول الصحفي، إنه تاريخ يمتد ويتصل بمساحات زمنية شاسعة ومثيرة حين تتداخل العديد من الأحداث السياسية والاجتماعية وأيضا الفنية، لتصبح في النهاية رافدا مميزا لهوية مكون أساسي من المكونات البشرية المغربية، من مرحلة النزوح والترحيل القسري حتى فترات الاندماج الفعلي والانصهار الاجتماعي. إن موضوع فن كناوة لم يحقق بعد لنفسه الاكتفاء المعرفي اللازم لدى المتلقي والباحث، ولم يتحقق بعد ذلك التراكم العلمي الكافي والمؤسس والمنطلق من منهجيات مختلفة، لعل في التقائها ما يكون دافعا إلى التقدم بنظرة نقدية تزيل اعتبارات الدونية في التعامل مع الموروث الفني المغربي. لقد تم التعامل إلى حد الآن مع موضوع فن كناوة بكثير من الاغتراب إزاء طبيعة وتاريخ ومسار هذا الفن، واكتفى عدد من القراءات بمحاكاة بعض الكتابات والأبحاث الأجنبية التي لم يكن يهمها في كناوة سوى شحنته الغرائبية التي تثير فضول سائحي الثقافة، ولبس هذا الفن بذلك طابعه الميثولوجي الذي غطى على عدد من الأسئلة المؤسسة للفهم والتحليل والدراسة. وإلى ذلك تعددت الأبحاث والمقالات التي لا تخرج عن هذه الطبيعة المغتربة عن الموضوع، فكثرت الفرضيات وتحولت الأساطير إلى حقائق مؤسسة، ودخل فن كناوة معهم إلى حلقة تيه تنعدم فيها المعطيات العلمية وتمتلئ مقابل ذلك بكثير من القياسات المغلوطة. تعقب آثار الفعل الاجتماعي لدى كناوة من خلال تتبع السيرورة التاريخية للعبيد المشكلين لجيش البوخاري هو اختيار منهجي له ما يبرره انطلاقا من ندرة المعطيات، وحتى نحصل على آثار اجتماعية أخرى في مجالات مختلفة سنكون اكتفينا باختيارنا هذا مع ما أمكننا من توضيحات وإفادات ومع ما يسر لنا من فهم وإعادة تركيب فهمنا بما يتلاءم مع ضرورات البحث والدراسة، وخلافا لما سبق نجد أنفسنا في انعزالية تكاد تكون قاتلة أمام عسر تفكيك جانب الفن عند كناوة بشكل يضعنا أمام الصورة الكاملة دون فراغات الظل الكثيرة ومتاهات التجريب عند قراءته ودراسته وتجميعه ثم تفكيكه. أجل إن الفن الكناوي هو فن وافد مع رافده البشري حافظ على خصائصه الأصلية الإفريقية، وحمل خصوصيات المغرب الثقافية والدينية، وأصبح فنا حاملا لمزاجين، الأول أفريقي والثاني مغربي بمرجعياته العربية والأمازيغية الإسلامية واليهودية، بهذا التصنيف نكون قد أوجدنا مكانا علميا لهذا الفن الحامل أيضا لجراحات الماضي وآلامه، موظفا إياها في حاجياته الفنية، خالقا بذلك فرجة تنفيسية، فيحقق احتياجاته الفرجوية في قالب درامي يعيد إنتاج المأساة ويمدها بأنفاسها الجمالية. أي الم: ألم الترحيل والتوظيف والاستعباد والاستغلال من حقول ومصانع السكر إلى الأشغال الشاقة والرعي والسخرة، وحتى بعدما أعيد الاعتبار إليهم مع السلطان المولى إسماعيل رزئوا في أرواحهم بعد زلزال ضرب مكناس سنة 1755، الذي وصفته المصادر التاريخية بالرهيب وكان العبيد فيه أبرز الضحايا... إنه ألم الانفصال عن الأصول، تماما كما حكى لنا التاريخ والأدب عن ترحيل الأفارقة السود إلى أمريكا، ومنه نقول إن الفن الكناوي هو «الجاز» المغربي في مرجعياته الدرامية والجمالية. يأتي فن كناوة إلينا ونحن نشتغل عليه مثقلا بطقوسية في الشكل والمعنى، تتقاطع فيه عوالم من مرجعيات أنثربولوجية مختلفة، في حضور الألوان والأباخير ووسائل تزيين الشكل والآلات، وما يرافق كل هذا في ما يسمونه بالليلة الكناوية، وهي المحطة الأم في مكونات هذا الفن، وأيضا لحظة الفرجة الطقوسية المغناة والممسرحة بكل امتياز. واليوم نحتاج إلى بناء قاعدة معرفية فنية مشتركة نحدد فيها المنطلقات، ونجعلها مفتوحة على اجتهادات تقدم الموضوع، وعلى هذا الأساس نتفق أن هذا الفن هو فن للعبيد المغاربة، نشأ وانطلق واستمر في مسار اجتماعي حافل بالأحداث، وهو بذلك فن وافد مع فئته البشرية، خصوصا في الشكل وبعض الإيقاعات وما تبقى من مصطلحات اللهجات الإفريقية في متنه الشعري، وهو أيضا فن مغربي عريق نشأ على التأثيرات الخارجية للمحيط الجديد في مراحل الاندماج والانصهار والتأثر الاجتماعي لفئة العبيد المغاربة. لذلك لم يكن من الممكن أن يتأسس هذا الفن بدون تأثيرات المحيط، ونعني بذلك الهوية والخصوصية المغربية التي اندمج فيها هؤلاء العبيد ولعبوا فيها أدوارا مهمة بإغنائها والاغتراف منها، وكان مفهوما أن نلمس داخل هذا الفن تقاطعات فنية مغربية أخرى مع حفاظه على الرائحة الإفريقية المؤسسة له في الشكل والغلاف الذي حمله هذا الغناء المغربي وهذه الإيقاعات المندمجة. وإلى يومنا هذا، لم تقدم كل القراءات التي تناولت هذا المجال أجوبة ومعطيات دقيقة وكافية عن أصول التسمية، ونحت أيضا نحو تسييج هذا التعريف بكثير من الفرضيات والاجتهادات الشخصية المؤقتة، فكناوة هي كنية للانتساب الجغرافي كان يطلقها التجار الأفارقة على أهل جيني أو كيني وهي مدينة مشهورة جنوب تنبكتو على حوض النيجر الذي يصب في خليج غينيا، وكانت في الماضي مملكة غينيا، واستعمل حسن الوزان هذه الكنية في وصفه لهذه المملكة، أما في «معلمة المدن والقبائل» نجد أن جانة هي تحريف لغانة، ومنها نسبة جانوي أو جنوي، حيث يقال عبيد جناوة أي سود اللون من أصل غاني، ذلك أن العديد من المؤرخين نقلوا أسماء بعض الممالك السودانية باختلاف في الكتابة والنطق مع أنهم كانوا يقصدون في غالب الأحيان نفس المنطقة أو المدينة. وقد أطلق المغاربة في القديم هذه الكنية، التي تحيل على انتماء جغرافي لمدينة جيني، على العديد من الفئات والمكونات البشرية للعبيد الوافدين، إذ نجد أن المؤرخ الضعيف الرباطي يشير في حديثه عن زوجات السلطان المولى إسماعيل إلى امرأة كناوية كان له معها ولدان هما عبد الله والطيب. وهذه الإحالة الجغرافية للاسم هي التي رافقت تسمية العبيد المغاربة الذين كانوا يشكلون فئة من المغنيين المتجولين في فترة نشأة فن كناوة حتى اقتعاده واستمراريته. لقد كان العبيد في تاريخهم بالمغرب فئة اجتماعية غير مالكة، وواضح من خلال مسارهم التاريخي أنهم كانوا في بدايتهم خاضعين لقرارات السلاطين غير مستقرين في مجال ترابي محدد، حتى انتقلوا مع فترة المولى إسماعيل بعد تجميعهم إلى حالة أهلتهم ليندمجوا في الحياة المغربية، وهنا مرحلة حاسمة في تاريخ فن كناوة، أسهمت في اقتعاد العلاقات الاجتماعية وحددت الملامح الأولى لما ستكون عليه هويتهم الفنية. وحمل بذلك فن كناوة هوية دينية متنوعة، كانت نتاج احتكاك العديد من العبيد بمزارات المغرب وصلحائه وصالحاته في فترة الركب أو التجوال عبر القرى والمداشر والحواضر التي انخرط فيها العبيد، بفعل عدم استقرارهم ومن أجل طلب الإحسان والصدقة مقابل أغان لا تخرج في غالبيتها عن مناجاة الخالق ومدح الرسول وذكر مناقب الأولياء والصالحين، وهذا النمط الغنائي لم يكن يقتصر على كناوة فحسب، بل عرفه المغرب مع نمط الساكن المنحدرة أصوله من القبائل العربية الهلالية البدوية، وامتاز أيضا بخاصية الركب والتجوال. وتماما كفن العيطة الذي نشأ ببراويل شعرية مغناة، وبعد فترة الركب التي عاشها كذلك، تم ضم هذه البراويل وتركيبها في فترة زمنية قديمة حتى أضحى على ما هو عليه اليوم، فإن فن كناوة، وفي حدود ما بحثنا فيه، انطلق في صورة مرددات شعرية مغناة يطلق عليها اسم «الملوك» يتم أداؤها من قبل فنانين متجولين، حتى أتت بعد ذلك مرحلة الاقتعاد والتركيب والتصنيف، فتم تجميع كل ذلك في أركان طقوسية تسمى «المحلات»، وهي أماكن مرجعية لعدد من التمظهرات المرتبطة بلون الغناء وأغراضه. |
دور العبيد في الصراع على الملك
الحديث عن تاريخ العبيد المغاربة يثير أكثر من شهية الفضول الصحفي، إنه تاريخ يمتد ويتصل بمساحات زمنية شاسعة ومثيرة حين تتداخل العديد من الأحداث السياسية والاجتماعية وأيضا الفنية، لتصبح في النهاية رافدا مميزا لهوية مكون أساسي من المكونات البشرية المغربية، من مرحلة النزوح والترحيل القسري حتى فترات الاندماج الفعلي والانصهار الاجتماعي. تشير أغلب المصادر التاريخية إلى أنه مع وفاة السلطان المولى إسماعيل (1727م) وصل مجموع جنود جيش البخاري إلى 150 ألفا، أكثرهم متمركز بمشرع الرمل، وبوفاته يكون هذا الجيش قد بسط نفوذه الاجتماعي على سهول سايس والغرب، وأيضا ضمن موقعا متقدما في تراتبية القصر الذي به كان مرجان الكبير البخاري قائدا لعبيد المشور السلطاني ومكلفا أيضا ببيوت المال. وقبل أن نختم فترة حكم المولى إسماعيل وما كان لهذه الفترة من دور دخل المغرب معها في تصور جديد لهياكل الدولة الاجتماعية والسياسية بإنشاء جيش العبيد الذي اعتاد مؤرخو المغرب وخاصة منهم الضعيف الرباطي وخالد الناصري نعتهم بجيش مرتزقة البخاري الذين سيصبحون بعد وفاة المولى إسماعيل أهم قوة عسكرية واجتماعية بالمغرب كان لها الدور البارز في حالة الفوضى وحروب النزاع على الملك من قبل ورثة عرش السلطان المولى إسماعيل. ومع سنة 1111ه/1699م، قام المولى إسماعيل بتقسيم نواحي المغرب على أولاده كخلفاء له ووفر لهم العسكر والمال، هكذا ولى ابنه المولى أحمد على تادلا ومعه حوالي 3000 من العبيد و1000 فاس، والمولى عبد الملك على درعة والمولى محمد العالم على السوس، والمولى المأمون على سجلماسة، والمولى زيدان على بلاد الشرق. وقد وصلت مملكة المولى إسماعيل إلى بسكرة في الجزائر، ومدد حدوده الجنوبية حتى تيكورارين بمشارق بلاد السودان، وعرف عنه بتعدد النساء اللائي بلغن خمسمائة امرأة فيهن الرقيق الأسود والترك والإسبان والإنجليز من غير نساء المغرب، وقد بلغ أولاده خمسمائة من البنين ومثلهم من البنات، وكلهم مدونون في ديوان بأسمائهم، ومتفرقين على نواحي المغرب تصلهم الصلات والرواتب. وكانت وفاة المولى إسماعيل يوم السبت 28 رجب سنة 1149 موافق فبراير 1727، ويكون بذلك تولى الحكم مدة أربع وخمسين سنة، أبرز ما قام به هو القضاء على الفتن وضمان استقرار المغرب وارتكازه على جيش نظامي من العبيد، اعتبر من قبل العديد من المؤرخين المغاربة والأجانب خطأ سياسيا أدى المغرب ثمنه بحالة التيه السياسي الذي دخلته الدولة بعد وفاته. وقد اعترض فقهاء المغرب إبان تجميع العبيد بأمر سلطاني على هذه العملية ورفض مجموعة من علماء فاس تسليم العبيد بعد كسوتهم وتسليحهم، وكان هذا الاعتراض الشرعي خاص بفئة العبيد الحراطين الذين كانوا مملكين بأموال عامة الناس، ولم يعترضوا على العبيد الذين اشتراهم السلطان بماله، ونذكر هنا الفقيه أبو محمد عبد السلام جسوس الذي امتنع عن الانضمام إلى فتوى العلماء بفاس تحلل تصرف السلطان، وهو ما جر عليه غضب السلطان الذي قرر عقابه واستصفاء كل أمواله وأموال ذريته وباع كل كتبه، ثم صار يطاف به في الأسواق وهو أسير. إن فترة السلطان العلوي المولى إسماعيل كانت جد دقيقة وحساسة في تطور الغناء الكناوي المغربي، باعتبار حالة الاستقرار ورد الاعتبار الذي عرفتهما هذه الفئة الاجتماعية، وهذا لا يعني أنهم لم يكونوا يوظفون تعابيرهم الفنية في حياتهم، بل على العكس فقد غنى الإنسان في لحظات حزنه كما في لحظات فرحه، إلا أن الأمر هنا يتعلق بتطور واتساع مجال ممارسة هذه التعبيرات الوافدة في فضاء اجتماعي أرحب ومساعد، مما مكن العبيد ومنهم كناوة من التعرف على معالم حياة جديدة بترفها السياسي والاجتماعي، حيث أضحوا طبقة مقربة ومفضلة عند السلطان فتقلدوا مناصب مخزنية داخل البلاطات، وتعلموا الطبخ والخياطة وحسن السلوك والمعاملة، وأصبحوا يشكلون درعا سياسيا بتكوينهم لعناصر جيش البخاري، ومن هذه المنطلقات نقدم وجهة نظرنا القابلة للنقاش من أنها فترة حساسة في تطور وتقعيد تعابيرهم الفنية، ومن ضمنها فن اكناوة الذي أخذ صورا متعددة الأبعاد من الوقع الديني والصوفي للمزارات حتى الإيقاعات الإفريقية الممزوجة بشيء من المحلية إلى التقاطعات الموسيقية مع نمط الساكن بحمولاته «الحمدوشية والعيساوية والحضارية» المهزوزة حتى الشكل والتظاهرة الجسدية الحاملين للرائحة الإفريقية بكل امتياز. إن هذه الحظوة الاجتماعية التي وصلت -كما وصف ذلك البريطاني بريتوايت- إلى حراسة شقق نساء السلطان من طرف عبيد سود مخصيين، لم تعمر طويلا نظرا لتقلب المسار السياسي في المغرب، إذ دخلوا في صدام مع المولى عبد الله (1757-1728) فضعفت قوتهم النظامية كجيش، وبالإضافة إلى أن سوء استعمالهم لسلطتهم جر عليهم ذلك غضب السلطان الذي كرس ولايته لمحاربتهم ودمر حيهم السكني بمكناس. مع فترة حكم سيدي محمد بن عبد الله سيكون لفئة العبيد نصيبها من رضى السلطان الجديد الذي أراد أن يتجاوز نتائج السياسة العسكرية لأبيه الذي تخلى عن عبيد البخاري فعمد إلى نشلهم من البؤس والشقاء، ونظر إلى حالهم ومكنهم من المآوي، وقدم لهم الرواتب، لكن رغم ذلك ناصروا ابنه السلطان المولى اليزيد بمكناس بينما سيدي محمد بن عبد الله بمراكش، وعن هذه الفترة نجد في المرجع التاريخي التالي من يوضح الأمر: «بعد رجوع السلطان إلى مكناس وإحكامه الوضع وسفر المولى يزيد إلى الحج بأمر أبيه.. اضطر عبيد البخاري إلى مغادرة مكناس نحو طنجة، حاملين معهم الأمتعة والسلاح ومكثوا هناك إلى أن سمح لهم السلطان بالتوجه نحو الجنوب سنة 1782، وعند وصولهم مشارف منطقة سوق الأربعاء حوصروا وتم تجريدهم من السلاح، وفرقوا ووزعوا فرادى على قبائل الغرب. وبهذا يكون الجيش العبيدي الذي أنشئ مائة سنة من قبل قد رجع إلى العبودية. ولم يتبق منهم سوى بضع كتائب موزعة على بعض المراسي الأطلسية، وأيضا حرس ملكي محدود ومكلف بالمصالح الخاصة للسلطان. واعتمد فيما بعد سيدي محمد بن عبد الله على خدمات بعض ما تبقى من جيش البخاري في تقوية ما اسماه ب»السقالات» التي أنشأها في نقط مختلفة على المحيط الأطلسي. ومع نهاية حكم سيدي محمد بن عبد الله، تكون ابتدأت نهاية مرحلة تجارة القوافل الإفريقية، تاركة المجال أمام التجارة الأوربية والسوق الأطلسية البحرية». إن تتبع المسار التاريخي لجيش البخاري هو تتبع لآثار فئة اجتماعية وافدة على المغرب طالها التهميش في المصادر والأبحاث والدراسات السوسيولوجية، ولم يستطع التاريخ أن ينقل لنا بشكل واف كل الجوانب المادية والنفسية لفئة اكناوة التي تهمنا والتي تدخل ضمن النسق العام البشري للعبيد السود، خلافا لما اهتم به المؤرخون في حالة دخول العناصر العربية الأولى لأرض المغرب الأقصى ولكل ما رافقته هذه الأحداث في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والدينية وحتى الثقافية، إن هذا المنهاج يمكننا من فهم السياق الذي حمل هذه الفئة ومكنها من لعب أدوار أساسية ساهمت بشكل بارز في تقعيد وترسيخ بنياتهم الفنية والجمالية. وسنختم هذه الفترة التاريخية الهامة بما ذهب إليه العديد من المؤرخين المغاربة والأجانب من اعتبار معسكر جيش البخاري بمشرع الرمل كان من أولى المدارس العسكرية التي عرفها التاريخ. وستكون بالتالي هذه الفترة للمولى إسماعيل فترة حاسمة بالنسبة إلى العبيد بتحكمهم في جهاز الدولة إلى درجة أصبح معها المغاربة يرددون مقولة شهيرة للولي الصالح سيدي عبد الرحمن بن مسعود (وهو من قبيلة امتوكة بأقصى السوس المغربي كان ينظم الكلام باللسان السوسي وشبه وقتها بسيدي عبد الرحمن المجذوب) يقول عن علاقة المولى إسماعيل بالعبيد: «الديوان والشوار عند أسمقال»، ويعني بأسمقال الحراطين بلسان السوسية. |
موضوع شيّق واكثر من رائع
سلمت يداك غاليتي على النقل تحيتي وتقديري لك |
الساعة الآن 12:12 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |