![]() |
النفس المفككة.. سيكولوجية السياسة الأميركية..
خلف سقوط الاتحاد السوفياتي فراغا عالميا جعل الولايات المتحدة اللاعب الرئيسي في العالم.بما اغرى رئيسها جورج بوش باطلاق مصطلح النظام العالمي الجديد لتأكيد سطوة الولايات المتحدة وجبروتها العسكري. الذي كرسته حرب الخليج الثانية. التي ذهب بعضهم لاعتبارها الحرب العالمية الثالثة. استنادا الى عدد الدول المشاركة فيها والى كمية الاسلحة المستخدمة خلالها. وعلى الرغم من الاحراجات الدبلوماسية والاخلاقية التي سببها قرار الحرب الاميركي فان الجبار الاميركي لم يتوقف عن الشكوى. وتركزت شكاويه على الامور التالية بصورة خاصة:
انه لايحظى بنفوذ سياسي يتناسب وتفوق قدراته العسكرية. بما يعكس عدم كفايته بالرغم من قدرته على جر دول عديدة الى تلك الحرب بضغوطات نفوذه وقوته الاقتصادية والعسكرية والسياسية. فقد كانت كل من فرنسا وروسيا تبذلان المستحيل من الجهود لمنع هذه الحرب. ليس فقط لاضرارها بمصالحهما ولكن ايضا لوعيهما ان هذه الحرب هي حاجة اميركية وليست ضرورة دولية او انسانية او غيرها. عداك عن حرج الدول العربية بالمشاركة في حرب اميركية ضد دولة عربية. خاصة بعد الرفض الاميركي لمحاولة ايجاد مخرج عربي للأزمة. انه يبحث عن عدو ولا يجده. حتى بدا الأمر وكأنه يطالب العالم بتقديم ضحية ليتسلى الجبار افتراسها وممارسة جبروته عليها. وفي غياب هذه الضحية راح الجبار يتسلى بالحروب الصغيرة وبالحصارات متعددة الدرجات ومعها تصنيف دول العالم الى تابعة ومارقة. وفي ذلك الاعلان عن عدم وجود حالة وسطية. انه يواجه عقبات في وجه عولمة نظامه القيمي الذي يرى الجبار الاميركي انه اثبت نجاحه ليصبح سيد العالم دون منازع. فاذا ما فشلت العولمة في مجموعة كبيرة من الدول المتعولمة والمستسلمة لشروط الأمركة رد الجبار هذا الفشل الى الفساد والتخلف في هذه الدول. وليس الى عدم صلاحية نظامه للعولمة. ان بعض تطبيقات العولمة تضر بالاقتصاديات الاميركية مما يعطي للجبار الحق بتجاوز العديد من قوانين السوق ومنظمة التجارة العالمية. لكن هذا الحق بالتراجع لايمتد الى اية دولة اخرى مهما بلغ شانها وقوتها العسكرية. حتى لو أدى الأمر الى معاناة شعبها من المجاعة كما حصل في روسيا. هذه هي باختصار المظالم الاميركية التي جعلت الولايات المتحدة تبرر تجاوزاتها لمبادئها الليبيرالية. لتخوض صراعات مثل حرب كوسوفو ولتفرض الحصار على مئات الملايين من البشر. بل انها اجبرت الاتحاد الاوروبي على اتخاذ الخطوات الكفيلة بالقضاء عليه وعلى امكانيات تطويره. وكان ذلك عبر التعديلات الاستراتيجية المدخلة على ميثاق حلف الناتو. والتي بدأت طلائعها مع اعلان بوش الأبن عن اصراره على مشروع "الدرع الصاروخي الاميركي" ولما يمضي شهر على دخوله البيت الابيض. هذه المظالم تقودنا الى السيكولوجيا والى الحديث عن العقل الجمعي المنتج لهذه السياسات والمواقف؟. ليصدمنا هذا السؤال بواقع التعددية الاميركي الذي يجعل من المجتمع الاميركي تجمعا اشبه بالموزاييك الذي يتطلب اولا السؤال عن المواد اللاصقة لاجزائه والجامعة بين جماعاته. وهو السؤال الأصعب!. فعلى الرغم من وجود جواب سهل وجاهز يتمثل بالوفرة الاقتصادية (متوسط الدخل الاميركي 35 الف دولار سنويا) فان الموضوعية تقتضي تحري اجوبة اخرى. فالوفرة المادية قد تكون المادة اللاصقة الأساسية للموزاييك البشري الأميركي. الا انها ليست الوحيدة فماذا عن بقية المواد؟ ان معرفة المواد اللاصقة الأخرى غير ممكنة بالنظر الى المجتمع الأميركي من الخارج. اذ ان هذا المجتمع يختلف بصورة كلية عندما ننظر اليه من داخله عنه عندما ننظر اليه من الخارج. ففي الداخل الأميركي رفاهية نفسية تضاعف الأثر اللاصق لتلك المادية. فالحرية الأميركية لاتقف عند حدود ممارسة القناعات الخاصة بل تتعداها الى التحرر من قيود الآخر لدرجة اللامبالاة به. وذلك على عكس المجتمعات التقليدية حيث يكون الفرد اسيرا لرأي الآخر ومقيدا بالنظم الرمزية للجماعة وقيمها. بما فيها تلك التي تتعارض مع قناعاته ورغباته. بما يجعل الفرد يحس احيانا بالاغتراب داخل جماعته. اما المجتمع الأميركي فيقدم للفرد حرية شخصية في حدودها القصوى. وهذا ما يعطي للمجتمع الأميركي قدراته التذويبية الفائقة. التي تصهر المزيج الأتني والثقافي الهائل التنوع في موزاييك المجتمع الأميركي. فاذا اردنا ان نعطي مثالا على اللامبالاة والتحرر من قيود الآخر فاننا نأخذ المقابلة التي اجريت مع الرئيس بوش الابن عندما كان مرشحا. ففي تلك المقابلة الشهيرة كان بوش نموذجا للمواطن الأميركي العادي الذي لايهتم بما لا يعنيه. ومن هنا فشله في الاجابة على اسئلة من بديهيات السياسة. وهو فشل فضائحي بالنسبة الى مرشح لرئاسة القطب العالمي الأوحد. ومن الامثلة ايضا ذلك الاحصاء الذي بين ان 80% من الأميركيين يعتقدون ان باكستان و ايران هي دول عربية! وقس عليه. في المقابل لابد من السؤال عن "الحنين الى الأصول" وهو حنين من طبيعة الجنس البشري. والجواب اختصارا هو ان عوامل انتصار البراغماتية الأميركية عقائديا والوفرة المادية وخمود القوميات كانت عوامل مذوبة كبتت هذا الحنين. الذي عاود ظهوره بقوة تتنامى مع تنامي انبعاث القوميات. وهو ردة الفعل الطبيعية امام خمود الايديولوجيات (ويقال سقوطها). وهذا ما يجعل دراسة المجتمع الأميركي الراهن اكثر تعقيدا. فهل نقسمه وفق انتماءاته العرقية والقومية؟ ام نتبع التقسيم البراغماتي الذي يصنف الناس في انماط وقوالب سلوكية بغض النظر عن شخصياتهم ولاوعيهم الفردي والجماعي؟. لذلك رأينا ان نبدأ هذا الكتاب بفصل بعنوان "التحليل النفسي للشخصية الأميركية" نخصصه لمحاولة تقديم الاجوبة على الموزاييك الأميركي وعن نموذج الأمة فاقدة التراث في كيفية تحديدها لمعايير الانتماء ومدى جدية هذا الانتماء. اما الفصل الثاني فهو مخصص لتعريف القاريء باللعبة السياسية الأميركية. وهي لعبة تجعلها البراغماتية (سياسة المنفعة والمصالح) لعبة بدون قواعد. ويحمل هذا الفصل عنوان "مدخل الى السياسة الأميركية". حيث نحاول ايجاد هذا المدخل عبر عرضنا لقراءات قائمة من اهم الكتب المتعلقة بالسياسة الأميركية. وهي عروض نقدية كنا قد نشرناها في قنوات اعلامية مختلفة. بالانتقال الى الفصل الثالث وعنوانه " فوضى النظام العالمي ونهاية العولمة" وفيه عرض للفوضى العالمية المنعكسة على سياسة الولايات المتحدة بفقدانها للتوجه ولاعتماد استراتيجية واضحة. وصولا" الى مخالفتها الصريحة لشروط العولمة وقوانينها. فهي تعادي العزلمة ان تعارضت مع مصالحها. اما الفصل الرابع فنخصصه لمحاولة تبين المتغيرات التي يحملها ووكر بوش معه الى السياسة الأميركية. ومدى مرونة رؤاه ومشاريعه للتكيف مع متغيرات اللحظة السياسية الاقتصادية الراهنة مضافا" اليها تركة كلينتون والتزاماته. ويحمل الفصل عنوان " الولايات المتحدة في عالم متغير". ونأتي الى الفصل الخامس الذي نركز فيه على العلاقات الأميركية-الصينية. حيث الصين تمثل مصدر الخطر المستقبلي على الولايات المتحدة. مما يجعل علاقات البلدين على درجة كبيرة من الأهمية والحساسية. لكن هذا التركيز لا يمكنه ان يكون بمعزل عن الاستراتيجية الاميركية في المنطقة المتاخمة للحدود الصينية. والتي يطيب لبريجنسكي تسميتها بالحزام الأوراسي. ويحمل هذا الفصل عنوان " الولايات المتحدة والحزام الأوراسي". حيث نعرض ايضا" للمواقف الاميركية من اليابان واستراليا واندونيسيا وروسيا. وننتقل الى العلاقات العربية-الأميركية في الفصل السادس وعنوانه " السياسة الأميركية في الشرق الأوسط". وفيه عرض للدور المركزي الذي يلعبه النفط في تحديد ابعاد هذه العلاقة. والاصرار الأميركي على السيطرة على النفط العربي كخطوة على طريق السيطرة العالمية. ولكن ماذا عن الداخل الأميركي؟ وكيف تبدو اميركا من الداخل؟ وما هو نوع التغيرات في الداخل الأميركي وفي اية الاتجاهات تسير؟ ...الخ من الأسئلة التي لايمكن تجاوزها في سياق الحديث عن سيكولوجية السياسة الأميركية. حيث رأينا في انتخابات العام 2000 خير نموذج لتجسيد هذه التغيرات. ويحمل هذا الفصل السابع عنوان "الولايات المتحدة من الداخل". وبذلك نكون قد وصلنا الى الموضوع الأهم والأكثر الحاحا وهو موضوع "مستقبل الولايات المتحدة الأميركية". اذ يبين علم المستقبليات ان الأمبراطوريات متعددة القوميات تموت موتا بطيئا و موجعا وجالبا للكوارث ومريقا للدماء. فهل تشذ الولايات المتحدة عن هذه القاعدة المستقبلية المتعارف عليها؟. ان المواطن الأميركي اليوم فاقد للتوجه. اذ يتنازعه الحنين للاصول ( الآريون الأميركيون واللوبي اليهودي والتجمعات العرقية والدينية المختلفة) ومتعة اللامبالاة والذوبان. مما افقد الموزاييك الأميركي دعم الوفرة المادية بنشوة الحرية الشخصية التي تبدت مثاليتها ولاواقعيتها في الزمن الصعب. حيث اشتكى الآريون من سيطرة اليهود على الحكومة الفيديرالية. وحيث اشتكى الزنوج من تدني دخلهم واستمرارية التمييز العنصري ضدهم. وحين اتهم ذوو الأصول العربية بانفجار اوكلاهوما وغيرها من المواقف التي غذت الحنين الى الأصول وهي في طريقها لالغاء متعة اللامبالاة بالآخر. هذا الالغاء الذي يترك الموزاييك الأميركي قائما على الوفرة المادية وحدها. وهكذا يتوضح تدريجيا عجز الذات الأميركية عن مكاملة وتركيب مجموعاتها الدينامية. اذ يزداد بروز عوامل الاختلاف بين هذه المجموعات حتى ينفجر مع أول أزمة قتصادية أميركية قادمة. وعندها ستتبدى الفوارق بين هذه المجموعات على الاصعدة المختلفة ( العرقية واللغوية والدينية والمذهبية والقومية ...الخ). حتى امكن القول ان انفجار اوكلاهوما وقبله حوادث ليتل روك ولوس انجلوس وبعدها حوادث سينسيناتي لم تكن سوى مظاهرين لبداية تفكك الذات الأميركية . على طريق تحويلها الى فتات من الأقليات المتنافرة. انها النفس الأميركية المفككة... منقول |
الساعة الآن 01:57 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب
جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى |