منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   مواضيع ثقافية عامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=67)
-   -   العقل العربي وإعادة التشكيل (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=9177)

ميارى 13 - 8 - 2010 12:29 AM

العقل العربي وإعادة التشكيل
 
تقديم بقلم عمر عبيد حسنه

الحمد لله الذي أنشأ الإنسان خلقاً آخر، متميزاً عن سائر الخلق ، كرمه بالعقل ، ومنحه حرية الاختيار، التي جعلته محلاً لسجود الملائكة المكرمين، وناط به حمل الأمانة، التي عجزت عنها السموات والأرض والجبال ، فأبت حملها، وأشفقت منها، لأنها لا تمتلك المؤهلات، من الحرية والاختيار ، وحملها الإنسان المخلوق الحر المختار، فكانت بالنسبة له، تكليفاً ومسؤولية ،وكان هذا التكليف ، تشريفاً، ومكانة، وأهلية لامتلاكه القدرة على اكتشاف السنن، والقوانين، والأسباب، سواء في ذلك السنن والقوانين التي تحكم الأنفس، وتسهم بالتشكيل الثقافي في إطار العلوم الاجتماعية والإنسانية، أو تلك التي تحكم الآفاق، في إطار العلوم المادية والتجريبية، حتى يتمكن من السيادة على الكون ، وتستخيره وفق منهج الله، وبذلك يتبين له الحق ، فيحمل الرسالة ، ويؤدي الأمانة، ويحسن القيام بمهمة الاستخلاف الإنساني ، ويحقق بذلك العبودية التي تمثل الغاية النهائية للحياة ، وعلة الخلق والتكليف، قال تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الجنَّ والإنسَ إلاَّ ليعبدون ) ( الذاريات:56 ) .

والصلاة والسلام على النبي الخاتم، المؤيد بالوحي ، المسدد، الذي جُعِل وحده محل القدوة والأسوة بقوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكّم في رَسُولِ اللهِ أُسوةٌ حَسنة ٌ ) (الأحزاب: 21 )، لأنه معصوم بالنبوة ، فلا قدوة بسواه ، ولا مرجعية لغير هديه ، الذي جعل العقل دليل الوحي ، محل استجابته ، وحرره من قيد الآبائية ، التي تشكل مرحلة التفكير الخرافي ، كما حرره من التفكير الخوارقي ، الذي يعفي الإنسان من مسؤوليته عن العمل، ويسلبه القدرة على التغيير، وتحقيق ما يهدف إليه ، بانتظار حدوث الخوارق ، والمعجزات المادية ، التي يمكن أن يكون لها محل من التفكير، في أطوار البشرية الأولى ، في مرحلة الطفولة العقلية ، البعيدة عن عطاء النبوة ؛ أما في طور الرشد البشري ، ومرحلة ختم النبوة ، فكان لا بد من اعتماد العقل ، لتجريد الوحي من إطار الزمان والمكان ، والاجتهاد في توليد الأحكام، لتحقيق صفة الخلود والامتداد ، فإذا كانت صفة الخاتمية تعني التوقف ، والانقطاع للوحي ، وكانت صفة الخلود تعني ، وتقتضي الامتداد ، المجرد عن حدود الزمان والمكان ، فإن العقل الذي هو محل الوحي والتكليف ، هو وسيلة الامتداد ، وتحقيق صفة الخلود ، في ضوء معطيات الوحي ، الذي يشكل للعقل مركز الرؤية ، ودليل العمل .. وبعد :

فهذا كتاب الأمة الخامس والثلاثون: (العقل العربي وإعادة التشـكيل )، للدكتور عبد الرحمن بن سليمان الطريري ،أستاذ علم النفس بكلية التربية ، جامعة الملك سعود، بالمملكة العربية السعودية ، في سلسلة (كتاب الأمة ) التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات ، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري ، والتحصين الثقافي ، وتجديد أمر الدين، وإعادة تشكيل مركز الرؤية، وبناء العقل المسلم المعاصر، في ضوء معطيات الوحي، وإخراج الأمة المعيار، وتبصيرها برسالتها ووظيفتها ، فــي تحقيق الشـهادة على الناس، والقيادة لهم إلى الخير ، من موقع الوسطية والاعتدال :

(وَكَذلِك جَعَلْنَاكُـمْ أُمةً وَسطاً لِتكُونوا شُهداءَ على الناس وَيكونَ الرسُولُ عَليكمْ شهِيداً ) ( البقرة : 143 ) ، وفك التحكم ، والارتهان الثقافي، والاستلاب الحضاري، ومعالجة أسباب التقليد، والتخاذل الفكري ، وفتح مجالات التفاكر ، والتشاور ، والحوار، والاجتهاد الفكري، في محاولــة الفاعلية، واسترداد الإرادة، وامتلاك القدرة على تحـريك العقل المســلم، واستعادة عافيته ، ليكتشف السنن الفاعلة في الأنفس والآفاق ، التي تمثل أقدار الله ، ويتمكن من تسخيرها ، وذلك بتحقيق المداخلة في مقدماتها للتحكم بنتائجها ، وامتلاك القدرة والبصارة للفرار من قدر إلى قدر ، ومغالبة قدر بقدر ، والتعامل مع تلك السنن الجارية، بعيداً عن التفكير الخوارقي والخرافي ، ذلك أن التعامل مع السنن الخارقة ، يجعل من خلق الكون والحياة عبثاً من العبث ، ويلحق بالعقل الإنساني الزراية ، وتشيع روح العطالة ، وانطفاء الفاعلية ، والهروب من المسؤولية، كما يشيع الكسل العقلي ، والإلقاء بالتبعة على الخارج ، ويعطل مهمة التكليف ، ومشروعية وعدالة الثواب والعقاب .

إن إعادة بناء الحاضر ، والاستشراف الصحيح لصناعة المستقبل، وتقويم واقع الأمة بتعاليم الكتاب والسنة، وتحديد مواطن الخلل والإصابة، التي تعيق النهوض، منوط إلى حد بعيد بقدرتنا على إعادة تشكيل مركز الرؤية، للعقل المسلم، ودراسة أسباب الإصابات التي لحقت به، ورسم سبيل الخروج به من الأزمة وتحقيق الانعتاق العقلي، والتحرر من أسر البيئة ، والمناخ الثقافي،الذي يحيط به، وإخراجه من تحكم الأبنية الفكرية المسبقة ، والعودة به إلى التزام القيم المعصومة في الكتاب والسنة، في معايرته للواقع ، وتنقيته للموارد الفكرية، التي تساهم في تشكيله، ذلك: أن العقل في نهاية المطاف، هو الذي ينتج ويولد عالم الأفكار، وهو الذي يتشكل بها، ومن ثم ينظر، ويبدع ، ويحكم على الأشياء، من خلالها .

ولعل من أهم ما يتميز به العقل المسلم دون غيره، هو امتلاكه المعايير والثوابت المعصومة، التي تحققت من خلال معرفة الوحي، والتي تشكل له مركز الرؤية والمرجعية، وتمنحه إمكانية القدرة على التصويب ، والتقويم، والمراجعة المستمرة، وتحصنه من كل محاولات الإلغاء، والاحتواء الثقافي .. تلك المعايير النبوية ، القادرة على حمايته وانتشاله ، لأنها ليست من وضعه، ولم تأت ابتداءاً ثمرة لبيئتة الثقافية .

وقضية إعادة التشكيل الثقافي، أو بناء الشاكلة الثقافية، التي يعمل عليها الإنسان

ويصدرعنها، في دراساته وعلاقاته وأهدافه، وحتى وسائله في كثير من الأحيان، يمكن أن تعتبر القضية الملحة، والأهم في جدول الأولويات، لأنها تمثل بنية عالم الأفكار، وهي من أخص خصائص الإنسان ، وهي القضية المستمرة استمرار الحياة، والمحتاجة دائماً للتعديل والتبديل، والإلغاء والإضافة، بما يمكن أن نطلق عليه مصطلح (الاجتهاد الفكري ) لتنزيل القيم على الواقع، وتقويم حياة الإنسان بها في ضوء الظروف المحيطة، والمشكلات الطارئة، والإمكانات المتاحة.

إن وضوح المنهج ، أو إعادة تشكيل مركز الرؤية، هو المنطلق الصحيح لتقويم الواقع، وإبصار كيفيات صناعة المستقبل ، ذلك أن الأزمة الحقيقية، أو الأزمة الأم التي يعاني منها العقل المعاصر، هي أزمة فكــر، أو أزمة شاكلة

ثقافية - إن صح التعبير - وذلك بسبب انسلاخه عن مرجعيته، وإن ما وراءها من الأزمات، يمكن أن تعتبر إلى حدِّ بعيد من أعراض، ومظاهر الأزمة الثقافية.. وعلى الرغم من اعترافنا أن الكثير من الأزمات، تعتبر عامل مؤثر وفعال في التشكيل الثقافي، لكن يبقى الإنسان هو المخلوق الحر المختار، القادر على التقويم، والمراجعة، والتصويب، والتجاوز، والتجدد ، والانفلات من المناخ الثقافي ، وخاصة إذا كان يمتلك- كعقل مسلم - القيم الثابتة، الخارجة عن وضعه، القادر على انتشاله، غير الخاضعة لأسر البيئة الثقافية، كما أسلفنا .

ذلك أن التغيير لا يتحقق ، والحضارة لا تُبعث - كما هو ملاحظ تاريخياً - إلاّ بالعقيدة الدينية ، والتعاليم النبوية (معارف الوحي ) .. فالحضارة ، كما يقول الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله: لا تظهر في أمة من الأمم، إلاّ في صورة وحي ، يهبط من السماء يكون للناس شرعة ومنهاجاً .. أو هي على الأقل - تقوم أسسها: في توجيه الناس نحو معبود غيبي ، بالمعنى العام .. فكأنما قُدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة، إلاّ حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية ، أو بعيداً عن حقيقته، إذ حينما يكتشف حقيقـة حياته كاملة

- وهذا لا يتحقق دون معارف الوحي - يكتشف معها أسمى معاني الأشياء، التي تشكل له مركز الرؤية، وتتفاعل مع عبقريته .

والقضية التي لا بد من إعادة طرحها : أن التوجه صوب عالم الأفكار، والبحث في مكونات العقل المسلم المعاصر، وموارده الثقافية، ومواريثه الفكرية، وكيفية التعامل معها، وواقع الإنتاج العقلي والمعرفي ، وطرح إشكالية هذا العقل، والبحث في إعادة التشكيل ، لإعادة الإنتاج المعرفي المأمول، في ضوء قيم الكتاب والسنة، لم يأخذ بعد البعد المطلوب، والاهتمام الكافي، والتقدير الدقيق، لدوره في عملية النهوض، والبناء الحضاري، وإنما هي ملحوظات، وإشارات، وإثارات، لم ترق إلى المستوى المأمول .

وذلك يعود إلى عدة أسباب، لعل من أهمها : الخلط بين وظيفة القيم الإسلامية، المعصومة في الكتاب والسنة، ودورها في تحديد المنطلقات، والأهداف، والأطر المرجعية، وتشكيل مركز الرؤية، وبين وظيفة العقل، وما ينتجه من أفكار تجسر العلاقة، وتحدث التفاعل، بين الإنسان والإسلام، وتجتهد في تنزيل القيم الإسلامية، على الواقع المعاش، من خلال إبداع البرنامج ، والوسائل ، الذي يجيء ثمرة الجمع بين فقه القيم، وفقه الواقع، ومن ثم تنزيل الإسلام على الواقع، وتقويم سلوك الناس به، والارتقاء بهذا الواقع في ضوء إستطاعاته ومشكلاته الحقيقية، ليتحقق بمنهج الله .

إن الخلط بين القيم الإسلامية، التي تشكل المنطلق، والهدف، ومركز الرؤية، وبين وظيفة العقل، والظن أن القيم التي تعتبر الموجهات الأساسية، تُغني عن وظيفة العقل، ودوره في إبداع البرامج، والأوعية الشرعية لحركة الأمة، انتهى بالكثير في العالم الإسلامي إلى الاسترخاء والكسل العقلي، والترهل الحضاري، وعدم الإدراك الكامل لدور العقل، وأهمية بنائه السليم ، ووسائله في تنزيل الإسلام على الواقع، وتحقيق الانفعال به ! فاقتصر نشاطهم الذهني ـ في أحسن الأحوال ـ على الشحن من التراث، والتفريغ على الواقع، دون القدرة على وضع الواقع وحاجاته الأساسية في موقعه الصحيح من مسيرة التراث التاريخية، ومدى قدرة التراث على الإجابة عن أسئلة الحاضر، والمساهمة بحل مشكلاته .أو مخاطبة الناس بعموميات القيم في الكتاب والسنة، دون إدراك دورهم في الكيفيات والآليات، والأوعية المطلوبة، التي لا بد من إبداعها للوصول إلى تحقيق مقاصد الدين التي ندعو إليها.

وقد تكون المشكلة: أننا في مشاريعنا للنهوض، ودعوتنا للتغيير والتجديد، ونقدنا للواقع نقتصر دائماً على طرح ما يجب أن يكون عليه الناس، ويرتقوا إليه بما يمكن أن نسميه (علم الأخلاق والأيديولوجيا )، بعيداً عن بحث وتحليل الواقع، ودراسة الأسباب والسنن المطردة، والمؤثرات والخصائص، التي صارت به، إلى ما هو عليه، فيما يمكن أن نسميه (علم المجتمع، أو العلوم الاجتماعية )، ومن ثم دراسة الكيفيات والأوعية والآليات، والمناهج التي لا بد منها، للارتقاء به، لما يجب أن يكون عليه، بما يمكن أن نسميه ( علم التربية، علم التنشئة )، الذي هو ميدان التشكيل وإعادة التشكيل دائماً .

إن خطاب الناس، بما يجب أن يكون، في ضوء القيم في الكتاب والسنة، بعيداً عن امتلاك القدرة على معرفة واقعهم تماماً، ومن ثم وضع الأوعية والوسائل، وتحديد المراحل بدقة، في ضوء الإمكانات المتاحة، والمتوفرة، والظروف المحيطة، هو تعطيل لدور العقل ، ووظيفته ، وتبسيط للأمور ، وعجز عن إدراك وسائل وآليات التغيير، ومراوحة بالموقع نفسه، وامتداد بالحاضر ليكون هو المستقبل، دون أي تغيير، أو ارتقاء بالموقع، ذلك أن الاقتصار على طرح شعارات لما يجب أن يكون، من الأمور السهلة، والمثيرة جماهيرياً، لكن الاجتهاد في وضع الخطط، وتحديد المراحل ، ورسم مناهج وآليات ، وسبل الخروج، تعتبر من المراكب الصعبة، والمهمات الشاقة، التي قد تقصر دونها الهمم ، إضافة إلى ما يمكن أن يترتب عليها، من احتمالات الخطأ في الاجتهاد، والفشل في تحقيق الهدف، الذي يتعارض مع عقلية إيثار السلامة، التي تقتضي الاستمرار في عملية الشحن، والتفريغ التراثي، دون القدرة على الإفادة من التراث، وتوظيفه للإجابة عن مشكلات الحاضر، حيث نقتصر على نقل أقوال الماضين ، بحيث نضمن البراءة لأنفسنا في كل حال .

ولعل ذلك بسبب من شيوع التعصب، والإرهاب الفكري، والاستبداد السياسي، في عصور التخلف، والتقليد، والمحاكاة، وتحوّل عمليات التفكير والاجتهاد ـ حتى المخطئ منها ـ من مجال الأجر والثواب ـ حيث لم يثبِ اللهُ على خطأ إلاّ في مجال الفكر والاجتهاد ـ إلى ساحة التأثم والذنب ..

هذا المناخ المشحون بالتوتر، والتخوف، والاستبداد الفكري والسياسي، عطل الكثير من العقول عن وظيفتها، وشل حركتها ونشاطها، وانتهى بها إلى مجالات التقليد، والتمذهب، والمحاكاة للنماذج السابقة، حتى ولو لم تستطع الإجابة عن مشكلات مستجدة في الواقع المعاصر، ولم يبق إلاّ لها القيم التاريخية .

صحيح أن ترك الحبل على الغارب، وفتح الباب على مصراعيه، في مجال الاجتهاد، مدعاة لأن يدخل ساحة الاجتهاد الفكري والفقهي، كل من هبّ ودبّ، مما يمكن أن يلحق آثاراً سلبية بنسيج الأمة الاجتماعي، وبنائها العقلي؛ لكن صحيح أيضاً أنه إذا توفرت أقدار من الحرية المطلوبة، فإن الكثير من الاجتهادات الفكرية والفقهية، سوف تسقط، لعدم صلاحيتها وصوابها، بحيث يتحصحص الحق، ولا يصح إلاّ الصحيح؛ وتبقى عصمة عموم الأمة، هي الضمانة الكفيلة بعدم التواطؤ على الخطأ والقبول به .

ولعل الكثيرمن فتاوى الأهواء، وفتاوى السلطة الظالمة، وفتاوى التسويغ للمواقف السياسية، التي تسقط يوميّا، ولا يعتدّ بها في الساحة الفكرية الإسلامية اليوم، يشكل دليلاً على مناعة الأمة الثقافية والفقهية، وعدم تواطئها على الخطأ، على الرغم مما تعاني، الأمر الذي يقتضي إتاحة المجالات الكاملة للعقل المسلم، للنظر والاجتهاد، ومنحه الحس بالأمن النفسي والفكري، والثواب على الخطأ الفكري والفقهي، لينطلق من عقاله، ويمارس وظيفته، ويتمزق على التفكير، والحوار، والمناقشة، والتحليل، والتركيب، والاستدلال، والاستقراء، والمقايسة، والمقارنة، والاستنتاج، ويمارس سائر العمليات العقلية التي بسطها القرآن، في الظروف كلها، ووفر لها المناخ المناسب، بطروحاته المتعددة ، ليحكم تنشئة العقل من خلال ذلك .

وحسبنا أن نؤكد أن العقل في الإسلام دليل الوحي، ووسيلة فهمه ونقله، ومحل تكليفه،وأن الوحي من بعض الوجوه، يمكن أن يُعتبر أحد مدارك العقل ومعارفه.

والحقيقة التي لا بد من الإشارة إليها، والتوقف عندها قليلاً، بما يسمح المجال، هي: أن الغزو الفكري لعالم المسلمين، لم يقتصر على الجانب الثقافي، وإنما تجاوزه إلى شيء من الغزو الديني ـ إن صح التعبير ـ وانتقال علل التدين، التي ابتليت بها الأمم السابقة، إلى المسلمين، الأمر الذي حذر منه القرآن بأكثر من مناسبة، وأكثر من أسلوب، وجعل السير في الأرض، والتوغل في تاريخ الأمم والشعوب السابقة، وما ذكر في القصص القرآني عن مجتمع الأنبياء، كنماذج، إنما كان ذلك للتبين والاهتداء إلى الطريق السليم، ولتحقيق الوقاية الحضارية، والثقافية، من علل التدين التي كانت سبباً في السقوط الحضاري للأمم السابقة .

ولا شك أن الأمة المسلمة التي لا تجتمع على الخطأ بعمومها ، استعصت على الغزو الديني ، وانتقال علل التدين من الأمم السابقة ، إليها بشكل عام ـ وهذا من لوازم حملها الرسالة الخاتمة ، إذ كيف يمكن أن يصحّ التكليف ، ويترتب الثواب والعقاب بنصوص محرّفة ؟ ـ إلاّ أن ذلك لم يمنع من بعض الإصابات التي لحقت بالتدين، وليس بالدين المعصوم، على أكثر من مستوى، فساهمت بمحاصرة العقل، وتشكيل عقلية التقليد الجماعي، كما شكلت عقبات كبرى في طريق الانطلاق الإسلامي، فوقعت الأمة بالتقليد والمحاكاة للأمم السابقة، الأمر الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم:( لتتبعن سنن الذين من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لا تبعتموهم ) قلنا يا رسول الله: آليهود والنصارى ؟ قال : ( فمن ؟ ) ( رواه مسلم ) .

ولعل من أخطر علل التدين، التي تسربت إلى المسلمين ، ذلك الصراع المفتعل بين الوحي، وبين العقل، أو بين الدين، وبين العقل، حيث تشكلت الكهانة الدينية الكنسية التي مارست الإرهاب الديني ، واحتكرت الفهم والتفسير ، والاجتهاد والتعليم، وجعلت الدين نقيض العلم ، والعقل، وجعلت من مقتضيات التدين الصحيح، إلغاء العقل وإغلاقه، ( فمن تفلسف فقد تزندق )، وكان شعارها: (أطفىء سراج عقلك واتبعني )، وحالت دون العقل ووظيفته في النظر والتفكير ، واكتشاف السنن والأسباب، وإدراك علة الخلق، ونسبت ذلك لإرادة الله، وكأن في الأمر تعارضاً، بين الأسباب التي أرادها الله، موصلة إلى النتائج، وبين إرادة الله ! وتسرب هذا البلاء، وهذه الثنائية، بين الوحي والعقل، إلى الفكر الإسلامي، واستنزفت منه هذه الجدليات، البعيدة عن طبيعة الإسلام وقيمه، ردحاً طويلاً، مزق نسيج الأمة الثقافي، وبعثر وحدتها الفكرية، وملأ حياتها بالفرق والاختلافات، بعيداً عن المواقع الفكرية المجدية؛ وبدل أن تترجم قيم ومبادىء الإسلام، إلى الأمم الأخرى ، لتخليصها من شقوتها، وما يمارس عليها من الإرهاب الديني، ومن ثم إلحاق الرحمة بها، ترجمت تلك الجدليات إلى الإسلام، وفُصّلت عليه، فأوى ذلك إلى لون من الانشطار الثقافي الرهيب، الذي لا يزال يفعل فعله في مناهجنا التعليمية إلى اليوم .

فالذين توجهوا صوب الوحي الإلهي، توجسوا في كل دعوة، لإحياء وظيفة العقل، واستعادة دوره في الاجتهاد، وتطبيق الإسلام على الواقع، من خلال الخلفيات الفكرية التاريخية، التي دخلت على الإسلام باسم العقل لإلغاء الشرع؛ وتخوفوا من أن الدعوة العقلية في حقيقتها يمكن أن تكون بديلاً عن الوحي ، ونقيضاً له، خاصة وأن كثيراً من دعاة إحياء وظيفة العقل ، نشأوا في مناخ الفصام الثقافي النصراني، بين العقل، والوحي ، ولم يكن للدين نصيب من فكرهم وسلوكهم .. وساهمت بهذا التشوه الثقافي، مناهج التعليم المزدوجة، إلى حد بعيد .

ولا يزال هذا الانشطار الثقافي، يستنزف الكثير من الطاقات الفكرية والعقلية في العالم الإسلامي، في معارك مفتعلة، بين الوحي ، والعقل، على الرغم من أن العقل في الإسلام سند الحقيقة الدينية ، ومحل الوحي ـ كما أسلفنا ـ وإذا أسقط العقل ، سقط الوحي والتكليف؛ وأن الوحي هو الإطار المرجعي الذي يمنح العقل القيم المعصومة، ولا تعارض - كما يقول الإمام ابن تيمية وغيره - في الإسلام: بين صحيح المقول، وصريح المنقول ، ذلك أن مصدر العقل والوحي هو الله، فلا يمكن أن يقع التناقض والتعارض، وأن أي تعارض معناه ضعف في سند المنقول، أو عجز وخطأ في كيفية الاستدلال . وعند احتمال التعارض، فإن حكم الوحي المعصوم مقدم على حكم العقل المظنون . ومع ذلك يأبى دعاة التغريب والعلمنة في العالم الإسلامي، إلاّ أن يجعلوا الوحي والغيب والدين ، نقيض العقل، والعلم اليقيني .

ولعل من أخطر القضايا في تشكيل العقل المسلم المعاصر أيضاً: هو الخلط بين معارف الوحي المعصومة، ومدارك العقل المظنونة، خاصة في إطار التعامل مع التراث، أو المواريث الثقافية بشكل عام، التي تعتبر ذاكرة الأمة، ومخزونها الثقافي، والمصدر والأساس في عملية التشكيل، وذلك بمحاولة نقل القدسية والعصمة، من قيم الكتاب والسنة، إلى الاجتهادات البشرية، التي لا تخرج في حقيقتها عن محاولات بشرية ، لتنزيل القيم على الواقع المعاش ، والاستجابة لمعالجة مشكلاته، في ضوء قيم الكتاب والسنة .. تلك الاجتهادات، التي يجري عليها الخطأ والصواب، والتي جاءت ثمرة لواقع معين، بمشكلاته ومعاناته، ليس بالضرورة أن تكون قادرة على حل مشكلات جميع العصور، مع اختلاف الزمان والمكان.. وبدل أن يكون التراث والفهوم السابقة من الموارد الخصبة، التي تغني العقل المسلم، وتمنحه قدرات إضافية، وتجارب فكرية، مختبرة ميدانياً، على التعامل مع قيم الكتاب والسنة، وتمكن من توليد الأحكام، والنظر الشامل، انقلبت عند بعضهم إلى آبائية ، وقيد مسبق يحول دون العقل وطلاقته، وحريته في النظر والاجتهاد، والعودة إلى الينابيع الأصلية في الكتاب والسنة .

وعلى الرغم من تعداد الاجتهادات، وتنوعها في العصر الواحد، حتى في اجتهاد خير القرون، فإن صوابية الاجتهاد، وإبداع الحلول لمشكلات عصر معين، لا يعني أبداّ امتداد صوابية، وصلاحية ذلك الاجتهاد لكل العصور، وإلا لكان اجتهاد العصر الأول، اجتهاد خير القرون، المشهود له، يكفي لكل العصو، ولا حاجة لاجتهاد المجتهدين على مر العصور ..

ونحن هنا لا ندعو لطرح الاجتهادات السابقة، والقفز من فوقها، والاغتراف المباشر من الكتاب والسنة، بمؤهل وبدون مؤهل، أثناء عملية إعادة تشكيل العقل المسلم، وإنما نقول: إنه لا بد من العودة من خلال التراث، بكل جوانبه، السلبية والإيجابية، لأنها اجتهادات اختبرت ميدانياً في مجال الخطأ والصواب، ونظرات في تنزيل قيم الإسلام على الواقع، وتقويم سلوكه بها، في العصور المختلفة، ذلك أن تجاوزها، والقفز من فوقها، ليس من المنهج، ولا العقل، ولا العلم، ولا الدين .

وقد تكون المشكلة في: عمليات الانتقاء من التراث والنظرة الأحادية، من جانب، ونقل القدسية وصفة الخلود من القيم المعصومة، إلى فهوم البشر واجتهاداتهم.. من جانب آخر، حيث يًخشى والحالة هذه، أن تصبح الفُهوم والاجتهادات البشرية، هي الحاكمة على القيم، والمفسرة لها، وبذلك نفتقد عواصم الفكر، والضابط المنهجي لمعارف العقل .

وقد وقع في هذه الإصابة الفكرية، بعض المفكرين، والفقهاء، حيث اعتبروا كل حديث، أو آية، ليست على ما عليه مذهبهم هي مؤولة، أو منسوخة، وهنا تقع الكارثة العقلية، وتنتكس عمليات العقل، وينمو العجز عن التجديد والتغيير، حيث تصبح البيئة الثقافية هي الحاكم والمقوم، ويبدأ التغيير والتنزيل للقيم على الواقع، والتفسير في ضوء معطيات التخلف والعجز، ويغلب فقه المخارج، وتسويغ الواقع، على فقه المقاصد، والارتقاء به ..

وبدل أن تكون قيم الكتاب والسنة هي المعايير الحاكمة على الواقع، تصير محكومة به، فيصبح لكل إنسان كتاب وسنة، بحسب تشكيله العقلي، ويشيع اتباع المتشابه، والاختلاف حوله، ويغيب فهم المحكم، والارتكاز إليه وتقع الكارثة الثقافية، ويستحيل بعد ذلك الانعتاق، أو الانفلات، من البيئة الثقافية المتحكمة، وتنشأ تفسيرات وقراءات لعقل التخلف، وعصر التخلف ، لتكريس التخلف. وهذا لم يقتصر على القيم المعصومة، وإنما يتجاوزها إلى قراءة التراث، والانتقاء منه لإضفاء المشروعية التراثية على الواقع، أو على خيرات معينة مسبقة.

ولعل من المشكلات، التي يعاني منها العقل المسلم المعاصر، أثناء محاولات إعادة التشكيل، في كيفية التعامل مع التراث التي أشرنا إلى جوانب منها ، وفي كيفية التعامل مع الوافد الأجنبي ، أيضاً، هي : ما يعانيه من الانشطار الثقافي، حيث لا بد من الاعتراف بأن واقع العقل في بلاد المسلمين، جعله يفتقد مركز الرؤية، والإطار المرجعي، ويفتقد المعيار.

فهل يُعرض الوافد على القيم في الكتاب والسنة، وما تولد عنها من التراث الإسلامي، وبذلك يتمكن من توظيف منتجات الحضارة، والتعامل معها في ضوء رؤية إسلامية، تفقه الشرع، وتفهم العصر ؟

أم تُعرض القيم والمواريث الثقافية على قيم الوافد الأجنبي الغالب وينتقى منها ما يوافقه، ليضفي على وجوده مشروعية تراثية، ويلغي أو يسقط ما عداه، وبذلك توظفه الحضارة الوافدة تماماً !

ولعل من الأمور الخطيرة أيضاً، ونحن بصدد إعادة التشكيل: التوهم بأن الإنتاج المادي، والعلوم التجريبية، وهي منتجات وعلوم بريئة ومجردة عن ثقافة أهلها ومنتجيها، وبالتالي فهي لا تشكل خطورة على المتعاملين معها، مع أن الحقيقة: أن الإنتاج المادي هو ثمرة للمكوّن الثقافي، وسبيل إليه، ذلك أن أي إنتاج مادي لا ينشأ في فراغ، وبدون خلفيات فكرية ، لذلك يمكننا القول: بأن أي إنتاج مادي لا بد أن يكون متشبعاً بثقافة المنتج، وهو بالتالي يشيع قيمها، بطبيعة استعماله في المجالات المتعددة، لأن الإنتاج المادي، وآفاق الارتقاء به، والتعامل معه، تغرس قيماً، وعلاقات اجتماعية، ومكونات نفسية، تتسق معه، وتتشكل به .. صحيح أن المخاطر المترتبة على العلوم والدراسات الإنسانية، هي الأخطر، لكن صحيح أيضاً أنه من الصعب وضع الحدود الفاصلة، بين الثقافة، التي تمنحها العلوم الإنسانية، ودورها في التشكيل، وبين ما تحمله العلوم والمنتجات التجريبية، من ثقافة منتجيها، ذلك أن الثقافة هي التي تنتج العلم، وتحدد أهدافه، وتبين وظيفته، وتضع فلسفته، التي لا تغيب، ولا تتخلف عنه.

ومن الأمور التي لا بد أن نعرض لها، ونحن بسبيل طرح قضية إعادة التشكيل الثقافي، للعقل المسلم المعاصر، قضية مصطلح الثوابت والمتغيرات، التي كثر الحديث عنها في الساحة الثقافية ، ومشاريع النهوض وحركات التجديد .. تلك المصطلحات التي قد تكون فكرتها مقبولة، ومرضية للجميع ابتداءًا، لأنها تمنح الأمة نوعاً من الارتياح، وعدم الارتياب بالمشاريع المطروحة، ولأنها بهذا الطرح تطمئن وتحافظ على ثوابتها، ومقوماتها، وجذورها، وكيانها الذاتي؛ لكن بمجرد أن نتجاوز طرح هذه التعميمات والمصطلحات كشعارات، إلى البحث في تحديد مضموناتها، ومفهوماتها، ومعاييرها، فعند ذلك كثيراً ما تختلف الفهوم، وتتباين الرؤى؛ وبدل أن تكون تلك الطروحات وسيلة تجمع واتفاق، تصبح أداة تفريق واختلاف.

والحقيقة التي نعتقد أنه لا يتنكر لها أحد ، هي أهمية وجود ثوابت ومرتكزات ثقافية للأمة، تمثل القسمات المشتركة لعقول أبنائها، أو هي ـ إن صحّ التعبير ـ جذور الشاكلة الثقافية، وأن تلك الثوابت هي عقل الأمة الجماعي، ونسيجها الثقافي .. وقد تنشأ المشكلة السياسية في ذلك، عندما تكون تلك القيم، أو الثوابت، من وضع الإنسان نفسه، المحكوم بمجموعة مؤثرات ذاتية ، وزمانية، ومكتسبات علمية ، نسبية، وبذلك تفتقد الصفة الأساسية للثبات والخلود، إضافة إلى افتقار إلى عنصر الارتكاز النفسي والعقلي ، الذي يضمن لها الاحترام، والقبول، ويحقق ما تحمله العلوم والمنتجات التجريبية، من ثقافة منتجيها، ذلك أن الثقافة هي التي تنتج العلم، وتحدد أهدافه، وتُبين وظيفته، وتضع فلسفته، التي لا تغيب، ولا تتخلف عنه.

ومن الأمور التي لا بد أن نعرض لها، ونحن في سبيل طرح قضية إعادة التشكيل الثقافي، للعقل المسلم المعاصر، قضية مصطلح الثوابت والمتغيرات، التي كثر الحديث عنها في الساحة الثقافية، ومشاريع النهوض وحركات التجديد .. تلك المصطلحات التي قد تكون فكرتها مقبولة، ومرضية للجميع ابتداءًا ، لأنها تمنح الأمة نوعاً من الارتياح، وعدم الارتياح بالمشاريع المطروحة، لأنها بهذا الطرح تطمئن وتحافظ على ثوابتها، ومقوماتها، وجذورها، وكيانها الذاتي؛ لكن بمجرد أن نتجاوز طرح هذه التعميمات والمصطلحات كشعارات، إلى البحث في تحديد مضموناتها، ومفهوماتها، ومعاييرها، فعند ذلك كثيراً ما تختلف الفهوم، وتتباين الرؤى؛ وبدل أن تكون تلك الطروحات وسيلة تجمع واتفاق، تصبح أداة تفريق واختلاف.

والحقيقة التي نعتقد أنه لا يتنكر لها أحد ، هي أهمية وجود ثوابت ومرتكزات ثقافية للأمة، تمثل القسمات المشتركة لعقول أبنائها ، أو هي ـ إن صح التعبير ـ جذور الشاكلة الثقافية، وأن تلك الثوابت هي عقل الأمة الجماعي، ونسيجها الثقافي.. وقد تنشأ المشكلة الأساسية في ذلك ، عندما تكون القيم ، أو الثوابت ، من وضع الإنسان، المحكوم بمجموعة مؤثرات ذاتية، وزمانية، ومكتسبات علمية، نسبية، وبذلك تفقد الصفة الأساسية للثباب والخلود، إضافة إلى افتقارها إلى عنصر الارتكاز النفسي والعقلي، الذي يضمن لها الاحترام، والقبول، ويحقق الالتزام بها.. فهي مرفوضة، لأنها من وضع البشر الذي يريد أن يتفضل ويمتاز عن الآخرين.. تلك المشكلة الأساسية التي نراها كثيراً ما حالت دون إيمان كثير من الناس بالأنبياء ، تحت دعوى أنهم بشر ، يريدون أن يتفضلوا على الناس ، ويمتازوا عليهم.

لذلك نرى أن هذه المسألة بحاجة إلى كثير من النظر، وتحرير القول فيها، لأن عملية الحسم فيها مطلوبة ابتداءًا ، وقبل أن نمارس أيَّ تشكيل ثقافي، أو إعادة التشكيل. ذلك أن الثوابت، إضافة إلى أنها تشكل القسمات المشتركة، والعقل الجماعي للأمة، فإنها تكّون الإطار المرجعي، ومركز الرؤية، ومؤشر الهداية للعقل، وتحقق له الإجابات الأساسية التي يعجز بطبيعة تكوينه عن الوصول إليها، والاطمئنان إلى نتائجها، إضافة إلى ما يمكن أن ينشأ من اختلاف العقول حولها.

وهذه الثوابت، بالصورة التي أتينا على ذكرها، لا تشكل قيداً، أو أنموذجاً مسبقاً، يحاصر العقل، ويحول دون الحرية والطلاقة الفكرية، بقدر ما تُشكل مركز رؤية، وعواصم تفكير معصومة، ذلك أنه لا يمكن لنا أن نتصور عقلاً، أو أية عمليات فكرية من مثل: الاستقراء، أو الاستنتاج، أو المقايسة، أو التحليل، أو التركيب، تنشأ في فراغ، بعيداً عن الأسس، والمقومات والمعايير، الفكرية، التي تشكل مقومات النظر إلى الأمور، وتمكَّن ـ كعناصر لا بد منها ـ للعملية العقلية.

والثوابت في العقل الإسلامي، هي معارف الوحي الثابتة بنصوص محكمة قطعية الثبوت، وقطعية الدلالة، ويبقى دور العقل: الاجتهاد في محل تنزيلها، وفهمها أمَّا ما وراءها من الظنيات، فيمكن أن تختلف فيها وجهات النظر الفكري، والفقهي، ولا ضير ..

فالقاعدة الثقافية المشتركة للتشكيل العقلي في الإسلام، هي: محكمات، وقطعيات العقيدة، والشريعة، والأخلاق، وهذا يمنح الثوابت في الإسلام الاستقرار الذي يعتبر من أهم الخصائص التي لا تتوفر لغيره، فهي ليست من وضع العقل، حتى تكون عرضة للاهتزاز، والإلغاء، والتعديل والتنكر لها، لأنها تمكن لتسلط الآخر، وإنما هي مستمدة من خالق الحياة والإنسان، العالم بكينونة خلقه، وما يصلحهم . إضافة إلى أنها تمنح المؤمن بها، الارتكاز إلى العقيدة والإيمان، الارتكاز إلى المقدس، الذي يضمن لها الاحترام والالتزام .

وقد يكون من نعم الله سبحانه على هذه الأمة ، صاحبة الرسالة الخاتمة، ومن لوازم ختم النبوة، واستمرار وخلود ثوابتها، أنه لم يسلط عليها عدوها تسليط استئصال وإلغاء، وهي التي حملت الرسالة الخاتمة، ونيطت بها القيادة الدينية للعالم، وإنما هي عقوبات ومؤدبات على المعاصي الفكرية والسلوكية، ومنبهات حضارية، لاستعادة العافية والنهوض من جديد ، لاستئناف المهمة الرسالية، لأن القيم المحفوظة لديها في الكتاب والسنة الصحيحة هي التي تشكل خميرة النهوض، والإمكان الحضاري والتشكيل الثقافي، والقدرة على إعادة التشكيل.

لذلك فقد يكون المطلوب، من الذين يستشعرون التحدي، ويدركون الواقع، الذي صارت إليه الأمور، من الانهدام الحضاري، الذي لحق بالأمة، ويبصرون مسافة التخلف، التي تتسع كل يوم، وحالة الاستنقاع، والركود الاجتماعي، وتكريس ذلك بنوع من التبعية الثقافية، وحمايته بضروب من الاستبداد السياسي، أن يدركوا أن تجديد أمر هذا الدين مرتبط أولاً، وقبل كل شيء، بإصلاح عالم الأفكار، وإعادة تشكيل العقل المسلم المعاصر، وتجديد مناهج التفكير، وتنقية الموارد الثقافية .

ولا شك أن التربية والتعليم، والتخصص، هو محور الارتكاز الأساس في الانطلاق، وعملية إعادة البناء، وصنع الشاكلة للمسلم المعاصر، الذي يفقه الدين، ويفهم العصر.. وعلى الرغم من موارد التشكيل الثقافي الكثيرة، يبقى التعليم والتربية هو المحضن والرحم، الذي تزرع فيه بذور ومستقبل الشخصية المطلوب تشكيلها، والذي تتخلق وتنمو فيه قابليات الإنسان، وتتكون شخصيته، وتُنمى مهارته، وتتشكل ثقافته ..

وتبقى المعاهد والمدارس والجامعات، هي مجتمعات المستقبل، فأي تخطيط، أو استشراف للمستقبل، أو تصور لإنسانه، ومجتمعه، أو رؤية لإنسان الغد، بعيداً عن بناء نماذجه، وأمثلته في المدارس، والمعاهد هو رسم بالفراغ، واستنبات البذور في الهواء، على الرغم من وجود المؤسسات الكثيرة التي تمارس عملية الضخ الثقافي، وتساهم بالتشكيل .. لذلك فليس عبثاً في تاريخ هداية الوحي،أن ينقل إلينا أنه في البدء كانت الكلمة، وليس عبثاً أيضاً أن تبدأ الرسالة الخاتمة بكلمة ( أقرأ )، كمنطلق لعملية التشكيل للإنسان، والمجتمع الجديد .

والحقيقة التي لا بد من التوقف عندها قليلاً؛ أن الضخ الإعلامي والثقافي العالمي، والقنوات الضخمة التي حققتها التكنولوجيا له، والذي تجاوز بها الحدود والسدود، والرقابات الرسمية، وبدأ يصب على رؤوس المسلمين، ويعيد تشكيلهم؛ إنَّ هذا الواقع، بمقدار ما يشكل للمسلم من إشكالية وعقبة، بمقدار ما يحقق له حلاً، ويمنحه قدرة تمكنه من إيصال الخطاب الإسلامي والقيام بمهمة البلاغ المبين، على المستوى العالمي.

وعلى الرغم من أن التوجه صوب دراسة واقع العقل المسلم، والتعرف على الصورة التي انتهى إليها على مختلف الأصعدة، ومحاولة إعادة التشكيل، وبناء مركز الرؤية في ضوء قيم الكتاب والسنة ، وتحقيق الوعي الحضاري، والتحصين الثقافي، أو صناعة الشاكلة الثقافية، كان ولا يزال، هو القضية الأساسية والمركزية، والتي تمحورت حولها الكتب التي صدرت في سلسلة " كتاب الأمة "، ووجهتها بشكل عام .. وعلى الرغم من التنبه المبكر

ـ نسبياً ـ للموضوع، الذي كنّا وما زلنا نعتبره من الأهمية بمكان، والكتابة إلى الأخ الدكتور عماد الدين خليل ، ليكون من أوائل المساهمين معنا في الموضوع لما نعلم من اهتماماته الفكرية المتنوعة، وتخصصه في التاريخ الذي يمنحه الرؤية والقدرة على اكتشاف المسار العام للعقل المسلم، وما لحق به من إصابات، وأسباب ذلك ، خلال مراحل المد والجزر، والسقوط والنهوض، وكان أن جاء " كتاب الأمة " الرابع:( نحو إعادة تشكيل العقل المسلم )، إسهامة بارزة في هذا الإطار، إلاّ أننا ما زلنا نعتقد أن إعادة التشكيل، والاستمرار في عملية المراجعة، والتقويم، والتسديد، والتصويب، يجب أن تبقى الهاجس الدائم، الذي ينمي الإحساس بالأزمة، ويوجه الجهد ،ويصنع القلق السوي ( المحرض الحضاري )، الذي يحمل الإنسان على الارتقاء والتسامي المستمر .

وإن ما حققناه إلى الآن، يمكن أن يكون خطوة على الطريق، وإشارة لأهمية القضية، واستدعاءً لها إلى ساحة الاهتمام وسم ملامحها العامة، ومحاولة لتحديد موضوعها الأساس .. أما وسائلها، وآلياتها، وإعادة بناء مناهجها، فلا يزال بحاجة إلى الكثير من الكتابات، والحوارات، والمناظرات، والندوات، والمفاكرات، حتى يتحدد إطار الموضوع، وتتبلور وسائل ومناهج البحث فيه والنظر فيه لأنه حتى الآن، ورغم الدخول في هذا الهم، والاهتمام، ما نزال في مرحلة التمهيد، وبناء المداخل، والمفاتيح الأساسية، ووضع اللبنات الفكرية، التي لا بد من استكمالها لبناء المنهج، على مستوى الداخل الإسلامي .

أما الآخرون المسكونون بالمناهج والأدوات الغربية، الذين يعيشون على الأرض الإسلامية، من تغريبيين وعلمانيين، الذين يمتلكون القدرة على الترجمة، والشحن من هناك ، والتفريغ هنا، ممن نُفتتن أحياناً بطروحاتهم، فلا تخرج طروحاتهم في الحقيقة عن أن تكون محاكاة للفكر الغربي المهيمن، في التوجه صوب نقد العقل الإسلامي، ليس فقط في الآلية والمنهج، وإنما في الأسلوب، والهدف، وحتى في اختيار العناوين للأعمال الفكرية.

ولعل الكتاب الذي نقدمه: ( العقل العربي وإعادة التشكيل )، للأخ الدكتور عبد الرحمن سليمان الطريري ، يعتبر من المعالم على الطريق، وإسهاماً نوعياً في إخراج الهم والإشكال الثقافي، من إطار التعميمات، والشعارات، إلى ميدان الاختصاص، واعتماد الوسائل العلمية، والأكاديمية، في التعريف والتحديد، والمقارنة، والاستقراء، والاستنتاج، والاستدلال من الواقع، كمختبر بشري، وميدان تجريبي، وبذلك يتقدم الموضوع خطوات، ويخرج من إطار التجريد ، البعيد عن تناول بعض العقول، إلى التجسيد ، والتدليل بالشواهد والوقائع. والله المستعان من قبل ومن بعد .

ميارى 13 - 8 - 2010 12:30 AM

تمهيد

الواقع الذي تعيشه الأمة واقع لا تحسد عليه، فعلى كل الأصعدة السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية التربوية، العسكرية، والنفسية ، يجد المرء تردياًً في الأوضاع، وانتكاساً ، ليس بعده انتكاس . وواقع مثل هذا الواقع ، يكون نقطة جذب وتساؤل ، حول الأسباب والعوامل التي أدت بالأمة إلى هذا الواقع المؤلم، والوضع السيء . فهل يا ترى يعود هذا الضعف إلى خلل أساسي في تكوين الأمة ومكوناتها، أم أنه عرض سيزول مع الوقت، وبزوال الأسباب ؟! .. إن من التساؤلات حول هذا الوضع، ما يقتضي الوقوف على الفرد المسلم ، ومحاولة تشخيصه بكامل مكوناته، فقد يكون الخلل واقع به، وما تعانيه الأمة يعود في الأساس إليه، فهو سبب المشكلة ومصدرها. ولا شك أن في هذا الطرح إشكالية كبيرة، ومجالاً للنقاش، فقد يقول قائل: إن الفرد ما هو إلاّ نتاج الأمة: فلو أن الأمة سليمة، وخالية من العيوب، لما كان هذا الفرد بهذه الصورة، وعلى هذه الحال من التردي . فالفرد بهذه الحال، مثل البذرة التي تضعها في داخل الأرض، فإن كانت هذه الأرض سبخة ومجدبة، فلن تنبت هذه البذرة، ولو قدر لها ونبتت، فلن تكون بحال جيدة، ولا بصورة طيبة، فهذه البيئة التي وضعت فيها هذه البذرة، بيئة لا تشجع على النماء، بل إنها ربما تهلك عناصر النماء الكامنة، وتدمرها عن بكرة أبيها، أو بما تشل صاحبها عن الحركة والنشاط والفاعلية، وتجعل صاحبها كمن هو في عداد الأموات .

ولو قدر لنا وقبلنا مثل الطرح، لأعطينا الفرد عذراً في تراخيه وكسله، وأوجدنا حسّـاً مفعماً بالإحباط والتثبيط، لأن الفرد سيتعلل بأن عناصر القوة غير موجودة في محيطه، وإن وجدت فهي ضعيفة، وعليه فهو لا يستطيع مواجهة التيار، حتى وإن وجد لديه الإحساس والطموح، وعناصر القوة الذاتية .

أما الطرح الآخر فهو يرى أن أساس المشكلة ولبها، يكمن في الفرد ذاته، فالأمة ما هي إلا جمع من الأفراد، فإن كان هذا الجمع صالحاً في ذاته، فاعلاً ونشطاً في محيطه ، كانت الأمة على حال طيبة ، وبصورة جيدة. أما إن كان هذا الجمع من الأفراد معتلاً في ذاته ، متراخياً في عمله ، فهذا بلا شك سينعكس على واقع أمته أيضاً .

إن تصور الإسلام للأمة قائم في الأساس على إدراك دور الفرد، وفاعليته، فلا يمكن أن تكون أمة بدون فرد أو أفراد.( إنَّ إِبْراهِيم كَانَ أُمةً قَانِتاً لِلِهِ حَنِيفاً وَلّمْ يَكُ مِنَ الْمشْرِكِينَ ) ( النحل : 120 )، ( وكَذَلكَ جَعلناكُمْ أُمةً وَسطاً لِتكونوا شُهَدَاءَ على النّاسِ ويكونَ الرَّسُولُ عَليكمْ شَهِيداً ) ( البقرة 143 ) ( كُنتم خَيرَ أُمةٍ أُخرِجت لِلناسِ تَأمُرًونَ بالمَعْروفِ وَتنهونَ عَنِ المُنكرِ )، إن فاعلية الأمة ، لا يمكن أن تتحقق، إلاّ من خلال فاعلية أفرادها ، ففاعلية الأفراد شرط أساسي في إحداث فاعلية الأمة، لأن الأمة ليست كائناً بذاتها، وإنما هي رمز لجمع، من الأفراد ولذا نجد القرآن يوجه في الأساس الأفراد للعمل والنشاط والحيوية( هُو الذي جَعَلَ لَكُــمُ الأرضَ ذَلُولاً فَامشوا في مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا من رِزْقِهِ وإليهِ النُّشُور ُ) (الملك : 15 ).

إن التداخل بين مفهوم الأمة والفرد، أو الأفراد، ليس تداخلاً نظرياً فحسب، بل هو تداخل عملي في الأساس، فالفرد لا يمكن أن يتجرد ومهاراتياً وعسكرياً، وكل أمر من أمور حياته. إن الفرد بما يحمله من مشاعر، وما يتمتع به من قدرات، وما يجيده من مهارات لغوية، ورياضية، وعسكرية، وحرفية .. إلخ هو في نهاية المطاف الشعلة الحقيقية والطاقة المحركة للمجتمع ، في كل أصعدته ، وفي كل جوانب الحياة فيه . إن عناية الأمم بأفرادها، يجب أن تنطلق في الأساس من أهمية الفرد بذاته،( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً )

( الإسراء: 70 ). ثم إن هذه العناية ستكون آثارها واضحة، على صعيد المجتمع، في كل مرافق الحياة الصناعية والزراعية والأمنية .. إلخ .

إن قوة الأمم، ونشاطها، وحيويتها، تقاس بما لها من تأثير على مجريات الأمور العالمية، وقدرتها على توجيه أحداث العالم، بما يتناسب مع منطلقات، ومعطيات ، ومصالح الأمة ، التي يراد الحكم على واقعها . وقد يزداد الأمر غموضاً والتباساً ، حينما تكون الأمة المراد الحكم على واقعها أمة ريادة وسيادة في الأساس، ولكنها لبعض الظروف، فقدت مثل هذه السيادة والريادة . وقد يزيد الأمرغموضاً أيضاً، حينما نعلم أن هذه الأمة فقدت توجيه ذاتها، بل والأدهى والأمر أنها أصبحت توجه من قبل الآخرين ، بل وربما تقمصت في بعض المجالات، وفي بعض الأحيان، شخصية غيرها من الأمم . مثل هذه الإشكالات التي نعرض لها في واقع بعض الأمم، تستدعي، بل تستوجب طرح السؤال تلو السؤال أل عن دور الفرد على صعيد قضايا أمته، في نشاطه وحيويته ، وهمته وفعاليته، وأخيراً عطائه. وإذا علمنا من مسؤوليته في بناء الأمة، والمساهمة في إصلاح وضعها، فدوره أساسي ومطلب جوهري، لكي تقوم الأمة بدورها في هذا الكون، وتضطلع بمسؤوليتها ، إلاَّ أنه في الوقت نفسه ، لا يمكن إرجاع الإخفاق كله للفرد ، ولومه عليه، فالفرد ككائن، يتأثر، بما حوله ، ويتطبع بطبائع محيطة إلا ما ندر. إن ما يسود داخل المجتمع من عادات، وتقاليد ، وأنشطة، سواء كانت ذات طابع سلبي، أو إيجابي ، تنعكس بدورها على الفرد، وتؤثر على سلوكه، ونظرته ، وتفاعله في محيطه ، ومع من هم حوله .

وعليه يمكن القول: إن الفرد نتاج بيئته . إن الأمة بقيمها ومبادئها وبأهدافها واقع، وقدر، يجب أن يلعب دوره المعهود والمطلوب في هذا الكون، كما أن الفرد بقدراته، واستعداداته، واستلهامه لما هو حوله، عنصر أساسي في معادلة البناء، التي يتطلع إليها البشر، وعليه لا يمكن الفصل بأي حال من الأحوال، بين الواقع الاجتماعي، وواقع الفرد .( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو يمجسانه ، أو ينصرانه ) ( كل منكم على ثغر من ثغور الإسلام، فليحم كل منكم ثغره ) نظرة متقدمة، وتلاحم لا مثيل له بين الفرد ومجتمعه. فما يسود في المجتمع ، يتجسد في ذات الفرد وينعكس على سلوكه ومشاعره، وتصرفاته، وفي نفس الحين، إن دور الفرد وفاعليته في مجتمعه مطلب أساسي وجوهري، فأهميته تتمثل في أنه على ثغر، أو على جهة من جهات الأمة، وعليه حماية ذلك الثغر ، أو تلك الجهة ، من أي أعتداء ، أو خدش ، قد تتعرض له ، من أي كائن كان، من الداخل أو الخارج، ولكن أني له ذلك، إذا لم يكن جاهزاً ومجهزاً نفسياً وبدنياً وعقلياً. أن الفرد ليس سلوكاً، وشعوراً وعاطفة، ومعرفة، فحسب، بل هو مجموع هذه العناصر، يضاف لها عنصر مهم أيضاً ألا وهو الجانب الاعتقادي، والذي يهيمن على كل هذه الأشياء، مع غيرها مما يمكن تصوره في النفس الإنسانية .

وحيث إن العقل يمثل حجراً أساساً بالنسبة للإنسان، إذ أنه يمثل منطلق التكليف، وعلى ضوء سلامته، أو سقمه، يكون التكليف أولاً يكون ، لذا فإن دراسة العقل الإنساني مهمة شاقة ، وصعبة، وتستوجب الأخذ في الاعتبار لمجموعة من الأمور، والعناصر، والاعتبارات، الداخلة في تكوين العقل، وصياغة ماهيته، فالعقيدة والثقافة والعادات والتقاليد، والنظام السياسي، والواقع الاجتماعي، والحالة المعيشية ، والخرافات السائدة في المجتمع، وغيرها، كلها أمور لها أهميتها في تشكيل العقل، وتحديد مكونات وبلورة وطريقة تقويمه للأشياء، والمتغيرات من حوله.

وإذا كانت دراسة هذه الأشياء واجبة، عند دراسة العقل البشري ، بشكل عام، فهي صحيحة عند دراسة وتحليل العقل العربي أيضاً، وقد يكون من الأمور الخاصة بالعقل العربي، ما يستوجب التوقف والتأمل الطويل، نظراً لخصوصيتها، ونقاء انتمائها للعقل العربي .

قد يتبادر إلى الأذهان سؤال مفاده: ما الأسباب والدواعي للبحث في موضوع العقل العربي؟ وللإجابة على مثل هذا السؤال، يلزم الإحالة للواقع، فحالة التشرذم، والتشتت، التي يحياها العالم العربي، من تعدد الأنظمة واصطناع الحدود، بين أقاليم العالم العربي، إلى جانب فقر وجهل الشعوب العربية، رغم تعدد وثراء المصادر الطبيعية، والتقوقع على الذات، وضياع الهوية وافتقاد الدور الريادي، على الصعيد العالمي، هذه كلها تحليل شواهد واقعية، تستوجب التأمل، والتبصر، في واقع العقل العربي لأنه هو الأحرى أن يلام على ما أصاب الأمة، وعليه يكون تحليل هذا العقل، ومعرفة إيجابياته وسلبياته، وكوامن القوة والضعف، منطلقاً سليماً، ومدخلاً طبيعياً، لأي محاولة من شأنها استعادة هذا العقل لرشده ووعيه، ومن ثم الانطلاق نحو مستقبل مشرق .

إن دراسةً وتحليلاً من هذا النوع، تستوجب وقوفاً على الماضي، وكذا الحاضر، كما تستوجب النظر بشمولية، لكل ما يمكن اعتباره عوامل داخلية، في تكوين العقل بالإضافة إلى استخلاص ما تؤدي إليه كل هذه المعطيات ، من نمط أو طريقة في التفكير، على أمل، أن يكون في هذا العمل جهداً تشخيصياً، يسهم كغيره من الأعمال، في مجال إعطاء صورة عن واقع العقل العربي، الذي نحن بصدد دراسته وتحليله . ولقد تمت الاستفادة الجزئية ، عند صياغة عنوان هذا الكتاب، من الدكتور عماد الدين خليل في كتابه: حول إعادة تشكيل العقل المسلم .


ميارى 13 - 8 - 2010 12:31 AM


مفهوم العقل :
في بداية الأمر يحسن بنا، ونحن نتناول العقل بالدراسة والتحليل، أن نعرّف العقل تعريفاً لغويّاً واصطلاحياً، حتى يلم القارىء بمفهوم العقل بشكل عام، ودلالته المعنية في هذا الكتاب .

لقد وردت لفظة عقل في المعجم الوسيط ، وبعدة تصريفات منها : عاقلة ، عقال ، عاقول ، عقول ، وغيرها. ومن المعاني الواردة ، قولهم : عقل عقلاً : أي أدرك الأشياء على حقيقتها، والغلام أدرك وميز، ويقال: ما فعلت هذا منذ عقلت. والعاقل هو الشخص المدرك. ومن المعاني ، أن العقل هو ما يقابل الغريزة، التي لا اختيار لها . ومنه قولهم : الإنسان حيوان عاقل . ومنها ما يكون به التفكير والاستدلال، وتركيب التصورات والتصديقات . كما أن من المعاني الواردة حول موضوع العقل ، أنه ما يتميز به الحسن من القبيح ، والخير من الشر ، والحق من الباطل . كما أن معنى القلب، والحصن، والملجأ، كلها من المعاني المعبرة عن العقل، في بعض الاستخدامات (1 ) .

أما معجم وبستر Webster فقد أورد معانٍ عدة لكلمة عقل ، تحت الكلمة الإنجليزية ، Mind ومن هذه المعاني: الذاكرة ، التذكر أو الاسترجاع . وقد تعني ما يفكر به الشخص، أو رأيه في موضوع من المواضيع . ومن المعاني الواردة: أنه يعني الإدراك، الشعور ، الانتباه ، الذكاء ، الملاحظة . وقد قصرت بعض التعريفات في هذا القاموس العقل: على ما يمكن التفكير به، أو إدراكه، مما يمكن تصنيفه على أنه جزء من الشعور، إلاّ أن تعريفاً آخر، يضيف الخبرة اللاشعورية، كعمل من أعمال العقل . والتعريف الشامل الذي ورد في قاموس وبستر هو طريقة ، وحالة، واتجاه للتفكير والشعور، الذي يكون عليه الفرد، وقد وردت معاني مثل الانتباه، الطاعة، الاهتمام، الملاحظة، الاعتراض، الكره، كمعان معبرة عن العقل .

أما المعاجم المتخصصة في التربية وعلم النفس، فتعريف المصطلح فيها يتشعب، بين الذكاء، والفهم، والقدرة العامة، والقدرات المتخصصة، بالإضافة إلى القدرات الشعورية واللاشعورية .

لقد أورد فاخر عاقل تعريفاً للعقل: على أنه مجموع السلوك الذكي، بما في ذلك التذكر، والتفكير، والإدراك . وكثيراً ما يستعمل مرادفاً للخبرة الشعورية(1 ).

في معجمه علم النفس، والتحليل النفسي، أورد الدكتور فرج طه: أن العقل يقصد به الذكاء، أو الذهن، ويستطرد، ويقول: فإن قلنا: إن فلاناً له عقل ممتاز، كنا نقصد بأنه على درجة عالية من الذكاء ، والفهم ، وإن قلنا : فلاناً ضعيف العقل ، فإننا نقصد أن ذكاءه قاصر وضعية، وإن قلنا: إن فلاناً مريض عقلياً، فإننا نقصد أنه مصاب بالجنون أو الذهان . ومن مشتقات كلمة العقل التي تناولتها المعاجم ، كلمة العقلانية ، ويعرفها فرج طه بقوله:( إنها موقف فكري، وسلوكي، تجاه قضايا الحياة الاجتماعية والمعرفة، وقضايا العلوم التطبيقية، ويتمثل في اعتبار العقل هو القيمة العليا في الحياة ، ومعيار كل شيء، ومصدر التوجيه في الحياة ، وأننا كأفراد يحكمنا نظام عقلي ، يقوم على مجموعة من المبادىء ، والمسلمات ، والقوانين الأولية ، التي تتفق عليها كل العقول السليمة ، وإن المبادىء، تتميز بالسمو، والارتفاع، فوق الجزئيات، وفوق اعتبار الزمان والمكان ) (1 ) .

في القرآن الكريم، لم ترد كلمة عقل، بصيغتها المباشرة هذ، ولكنها وردت بعدة صيغ منها عقلوه ، تعقلون ، يعقلون ، نعقل ، ويعقلها . وقد وردت فيما يقارب الخمسين موقعاً من القرآن الكريم ومعظمها تشير إلى التمييز بين الحق والباطل، وضرورة إدراك الحق والباطل، على حقيقتيهما ، وذلك خلال التفكير في ملكوت السماء والأرض ، ومخلوقات الله الأخرى . ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون َ ) ( البقرة : 242 ). ( والنجومُ مسخراتٌ بأمره . إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون )( النحل : 12 ) .

وإذا أخذنا مرادفات العقل الأخرى، التي تمت الإشارة إليها سابقاً، فإنا نجد القرآن ، قد تناولها من مثل : يتفكرون ، يتدبرون، والحكمة. وهذه بلا شك تؤكد الحاجة إلى الوعي والبصيرة ، فيما يتعامل معه الإنسان مما يحيط به .

تناول العلماء من المسلمين ، مفهوم العقل، وعلاقته بالشريعة وأوامرها، ونواهيها، ودوره في توجيه سلوك المسلم ، التوجيه السليم والسديد، وذلك من خلال إحاطته بمقتضيات الشريعة ومبادئها، بالإضافة إلى إدراك للكون، وما فيه من مخلوقات وموجودات . وقد ركز هؤلاء على الربط، بين العقل والقلب، حتى إن بعضهم يصنف العقل على أنه القلب ، وذلك لأن القلب هو الذي يميز بين الحق والباطل ، والخير والشر . يقول الغزالي : ( إن العقل يعني العلم ، بحقائق الأمور فيكون عبارة عن صفة العلم، الذي محله القلب ) أما المعنى الآخر الذي يراه الغزالي: فهو أنه:( المدرك للعلوم وأعني به القلب ) (1 ) .

ابن القيم تناول مفهوم العقل من خلال علاقته بالشريعة، وفي هذا الشأن يقول:(ليس في الشريعة شيء يخالف القياس، ولا في المنقول عن الصحابة، الذي لا يعلم لهم مخالف، وأن القياس الصحيح دائر مع أوامرهـا ونواهيها ، وجوداً وعدماً، كما أن المعقول الصحيح، دائر مع أخبارها وجوداً وعدماً، فلم يخبر الله رسوله بما يناقض صريح الفقهاء ولم يناقض الميزان والعدل ) (2 ).

ومن فلاسفة الإسلام، الذين تناولوا العقل بالتعريف ، ابن رشد، وابن سينا، حيث يعرفه الأول: بأنه قوة تجريد من شأنه أن ينتزع الصور من الهيولي، ويتصورها مفردة، على كنهها، لا ظاهرها، وهناك صوراً عديدة للعقل، منها العقل بالفعل، والعقل بالقوة، والعقل بالملكة. ابن سينا يعرف العقل القدسي: بأنه ( كالعقل الهيولاني ، يكون فيه شديد الاتصال بالعقل الفعال ، كان كل شيء من نفسه ) (3 ) . الحارث المحاسبي يعرف العقل : بأنه

( غريزة وضعها الله سبحانه وتعالى في أكثر خلقه ، لم يطلع عليها العباد ، بعضهم من بعض ، ولا اطلعوا عليها من أنفسهم ، برؤية ولا بحس ، ولا ذوق ، ولا طعم ، وإنما عرفهم الله إياها ) (1 ) .

هذا وقد وردت أقوال كثيرة حول العقل على ألسنة سلف هذه الأمة، ومنها قول معاوية: إن العقل عقلان عقل تجارب، وعقل فطرة. كذلك يروى قولهم: لا تنظروا إلى عقل الرجل في كلامه، ولكن انظروا إلى عقله في مخارج أموره. كذلك من الأقوال ما يربط بين العقل والحلم، وطول النظر، والتمعن، بالإضافة إلى التجارب، كمحك ، يصقل من خلاله العقل ، وينضج .

وأورد ابن الجوزي بعض الأقوال حول العقل، حيث ورد: أن بعضهم يعتبره قوة ، يفصل بها بين حقائق المعلومات، أما آخرون فيرون: أن العقل نوع من العلوم الضرورية، وهو العلم بجواز الجائزات ، واستحالة المستحيلات، ورأي ثالث يصف العقل: على أنه جسم شفاف . وقد سئل أعرابي عن العقل فقال: إنه لب اغتنمته بتجريب (2 ) .

علم النفس الحديث، في معالجته للعقل ، تأثر بالمدارس المختلفة التي يتبناها، وينتمي لها الباحثون، الذين تناولوا موضوع العقل. وقد انعكس ذلك بشكل واضح على الاتجاهات العامة، التي تحكم عملية التناول، فمن قائل بالوراثة، ومن قائل بالخبرة والاكتساب، وآخر يرى المزج بين الإثنين ، وذلك عند الحديث عن الذكاء ، الذي يعبر به عن العقل . وقد تعددت التفسيرات التي أخذ بها علماء النفس، لمفهوم الذكاء، الذي يعبر به عن العقل، فمن نظرة فلسفية بحتة، تعتمد مفهوم الاستعداد، كأساس لتفسير مفهوم الذكاء، وهذه النظرة استمرت ولفترة غير قصيرة مسيطرة على معظم الكتابات، وهي في أساسها تعود إلى مفهوم الارتباط ، والذي يقوم على ثلاثة قوانين أساسية هي : الاقتران ، التشابه ، والتضاد. وقد توالت تفسيرات علماء النفس للذكاء ، وقدم هربرت سبنسر المفهوم البيولوجي، حيث إن العقل يحوي جانبين أساسيين، وهما الجانب المعرفي، والجانب الوجداني ..

أما الجانب المعرفي: فهو ما يتضمن عمليات التحليل ، والتمييز، والتركيب، والتكامل، مما يؤدي في النهاية إلى حسن التكيف، بين الفرد وبيئته التي يوجد فيها ..

ويعتبر جان بياجيه أحد علماء النفس المحدثين ، الذين يتبنون وجهة النظر البيولوجية كأساس لتفسير الذكاء، وذلك من تأكيده على مفهوم التوافق من خلال عملية التمثيل والمواءمة. ويعني التمثيل : التغيرات التي تطرأ على بعض جوانب البيئة، أما المواءمة فتعني : التغيرات التي تطرأ على الكائن الحي نفسه، وهذه الأشياء تحدث لكي تتم عملية التوافق أو التكيّف بحد ذاتها ..

ويرى بياجيه: أنه يوجد بين عمليتي التمثيل والمواءمة، ما أسماه بالتراكيب العقلية Schemas وهي عبارة عن : ( تنظيمات تظهر خلال أداء الوظيفة، والتي يستدل عليها من المحتويات السلوكية المختلفة، والتي تحدد هذه التنظيمات طبيعتها ) (1 ).

ويؤكد بياجيه أن كل عملية عقلية تتضمن مجموعة من العلاقات والدلالات، كما أن كل صورة إجمالية، أو عامة، تتسق مع الصور الإجمالية . ولا شك أن مفهوم الدلالات، والصور الإجمالية، عند بياجيه ، يجب أن تثير الفضول فينا، حول ما تتضمنه البيئات، التي نتواجد فيها من مثيرات، يتعمد عرضها وبتكرار، وذلك بهدف إيجاد تكوين عقلي، من نوع معين، أو مطبوع بطابع خاص، يصعب تغييره فيما بعد، أو تحويله عن هذه الجبلة، التي هوعليها ..

وقد عني بعض علماء النفس بتفسير الذكاء، أو النشاط العقلي، من خلال النظرة الفسيولوجيه، ومن هؤلاء العلماء: لا شلي، وشرنجتون، اللذان يؤكدان على هرمية الوظائف العقلية، حيث يفترض أن المخ يعمل ككل، ولا يوجد جز من المخ يعمل منفصلاً عن باقي الأجزاء مما يمكن معه القول: بأن النشاط الكتلي للمخ، مشابه لمفهوم العامل العام(2 ) ومن الاجتهادات حول العقل، أو التنظيمات العقلية، ما قال به سبيرمان، والذي يرى أن النشاط العقلي يقوم في الأساس على عامل عام بالإضافة إلى عوامل نوعية متعددة، كل منها يخص مظهراً من مظاهر النشاط العقلي ..

أما ثورندايك، فينظر للذكاء على أساس، أنه مكون من أجزاء وعناصر دقيقة، ومنفصلة ، حيث يمثل كل عنصر أداء عقلياً مستقلاً عن غيره . وقد اختلف ثيرستون مع سبيرمان في بداية الأمر، حول طبيعة النشاط العقلي وقال: إن النشاط العقلي يقوم على ما أسماه بالقدرات الأولية، مثل القدرة المكانية، العددية، اللفظية، الإدراكية ، قدرة الاستدلال، والقدرة على التفكير الاستنباطي، وغيرها . إلاّ أنه في نهاية الأمر أخذ بمفهوم القدرة العامة، والذي يتكون مـن خلال القدرات ، أو العوامل الأولية، وبينجو جيلفورد منحى آخر، حين يرى أن النشاط العقلي، يقوم على ثلاث ركائز وهي: المحتوى ، العمليات ، والنواتج، وهذه الركائز تؤدي بدورها إلى إيجاد ما يزيد على 120 قدرة كمحصلة نهائية للنشاط العقلي .

وقد برز في التراث النفسي، مفهوم الذكاء الاجتماعي، والذي يعني: القدرة على فهم الرجال، والنساء، والفتيان ، والفتيات، والتحكم فيهم وإدارتهم، بحيث يؤدون بطريقة حكيمة في العلاقات الإنسانية(1 ) .

وقد التصق بمفهوم الذكاء الاجتماعي، مفاهيم أخرى، من مثل التعاطف والذي يعني: فهم الأحداث الإنسانية، والاجتماعية، والتفاعل معها، سواء بالإيجاب أو بالسـلب ، وهذا التفاعل يعتمد على ما يمكن أن يحدثه المثير الاجتماعي، من إثارة، فيما يترتب عليها من وعي حول طبيعة هذه المثيرات، مما يقود في نهاية المطاف إلى تحديد موقفنا نحن من هذه المثيرات، وردود أفعالنا نحوها.

ويرى برونر أن الذكاء الاجتماعي، من الممكن ، أن ينظر له من خلال ثلاثة إطارات أولها: الانفعالات كما تلاحظ، وثانيها سمات الشخصية كما تبدو من خلال الأداء المميز، أما الإطار الثالث: فهو ما يكونه الفرد من انطباعات، حول المثيرات التي يتعرض لها.

وعليه يمكن القول: إن الذكاء الاجتماعي، هو: قدرة على تذكر أو تجهيز المعلومات،

( تفكر ) عن الأشخاص الآخرين، فيما يتصل بتحركاتهم، وأفكارهم، ومشاعرهم، واتجاهاتهم، وسماتهم الشخصية (1 ). وهي قدرة لها أهمية قصوى، عند من يتعاملون مع الآخر مثل الأطباء، الساسة الإعلاميين ، المحامين .. إلخ.

وعليه يكون تعريفنا للعقل العربي: بأنه ما يحمله العقل العربي من آراء وأفكا، وتصورات، حول ذاته، وأمته ، وواقعه ، والعالم أجمع، وكل قضايا الحياة اليومية، ذات الطابع الفردي، أو الجماعي، مهما كانت الثقافة التي كونته، سواء أصلية أو مستوردة. بالإضافة إلى المبادىء والقواعد العقلية، التي توجه النشاط، والحركة، والفاعلية، سواء تم ذلك بشكل شعوري، أو لا شعوري.

ميارى 13 - 8 - 2010 12:33 AM

العقل والثقافة:

عند الحديث عن العقل كنشاط ذهني، يزاوله الفرد، يلزم الأم، أن يأخذ في الاعتبار الإطار الاجتماعي، وما فيه من عناصر ومكونات أو بالأحرى ثقافة وحضارة Culture ، وما يمكن أن تسهم به، هذه الحضارة أو الثقافة، في عملية صياغة وتكوين، عقول أفراد المجتمع، وفق صيغة، تكاد تكون واحدة لجميع الأفراد، ولا سيما في القواعد، والمبادئ، والأسس، التي يتم وفقها نشاط العقل، وتعامله مع ما يحيط به من متغيرات ومثيرات.

إن الأهمية التي يوليها بعض الباحثين للثقافة الاجتماعية، ودورها في صياغة العقل، أو الفكر العام، تصل إلى حد استخدام مصطلح البرمجة العقلية، مستعيرين هذا المصطلح من مفردات الحاسب الآلي، وبرامجه المتعددة .

إن مصادر ومنابع البرمجة العقلية، ترجع إلى البيئة الاجتماعية التي ينمو فيها الفرد، ومنها يتلقى، ويكون خبراته وتجاربه .

إن عملية البرمجة العقلية تبدأ من المنزل، وتشمل الشارع، الحي، المدرسة، الأقران، مكان العمل، ومن ثم المحيط الاجتماعي، بصورته الشاملة، أو العامة، بما فيها من وسائل إعلام، ومراكز ثقافية، واجتماعية كالمساجد والنوادي، المسارح، الجمعيات، وغيرها .

وعليه يمكن القول: إن الثقافات المختلفة، تمثل برامج عقلية مختلفة، في العمق والسطحية، وذلك لما تتمتع به كل ثقافة، من عناصر غنية أو فقيرة.

وما من شك في أن غنى وفقر هذه العناصر الثقافية، سينعكس على الطريقة، التي يفكر بها الأفراد، وكذا الطرق التي يعبرون بها عن مشاعرهم، بالإضافة إلى كيف يسلكون ، ويتصرفون في مواقف الحياة المختلفة، ولا غرابة في أن يكون ذلك واضحاً في مواقف الخوف، الغضب، الحب الفرح، الحزن، إقامة العلاقات مع الآخرين، ومن ثم التعبيرات عن الذات، بشكل عام .

يقول منتزبيرج Mintzberg في وصفه لعملية صياغة سلوك الأفراد، من خلال المنظمات التي يوجدون بها: ( تعمد المنظمات لصياغة وتوحيد سلوك الأفراد، وتقليل الاختلافات، وذلك من أجل تحقيق عملية التنبؤ، والتحكم والتنسيق، بين الأنشطة، ومن ثم ضمان ثبات السلوك على وتيرة واحدة ) (1 ).

إن ما يقوله منتزبيرج mintzberg موجه في الأساس للشركات والمؤسسات، ومنظمات العمل، إلاّ أن هذا الكلام، يصدق كثيراً على بعض المجتمعات، التي تعمد إلى إيجاد أفراد من نسخة واحدة، بهدف ضمان سلوك، وتفكير ومشاعر، من نوع معين، لا يمكن أن يحيد عنها أحد، ولعل ما حدث في الصين أثناء الثورة الاشتراكية، التي قادها ماوتسي تونغ، مثال على عملية تشكيل وصياغة الأفراد فكرياً، ومن ثم وجدانياً، وسلوكياً، كنتائج حتمية، لعملية التشكيل العقلي، التي تضطلع بها المؤسسات الرسمية للدولة في ذلك البلد، وتقوم بها دول أخرى في الوقت الحاضر.

هل يكفي أن نقول: إن الثقافة أو الحضارة لأي مجتمع، تعمل على صياغة العقل، وبنائه ؟ أم أن الأمر يستلزم معرفة معطيات الحضارة، التي لها نصيب الأسد في هذه العملية . لا شك أن بعض العناصر الثقافية لها دور مهم وبارز، إذا ما قورن بدور العناصر الأخرى، كما أن العناصر الثقافية، منها ما قد يكون واضحاً ومباشراً، ومنها ما قد يكون رمزياً .

إلاّ أن الواضح والرمزي من الثقافة ، يشكل في مجموعه وحدة، تؤدي هذا الأث، وتترك بصماتها واضحة على العقل البشري . لقد عبر أوفستد Ofstede عن التأثير بقوله: ( إنها أي الثقافة ، تؤثر على ممارساتنا اليومية، طريقة حياتنا، كيف ننمو، كيف ندير، كيف ندار، بالإضافة إلى النظريات التي نطورها، لتفسير تصرفاتنا وممارساتنا ) (1 ) .

ترى ما هي أوجه الحضارة، التي لها تأثير على عقولنا، وتصرفاتنا، بهذا الشكل، الذي وصفه أوفستد . إن الدين ، اللغة، العادات ، التقاليد، الآداب، الشعر، وكذا النظام السياسي، وما يحويه من تقاليد وممارسات، تمثل كلها عناصر مهمة وأساسية.

بعض الباحثين يصنف العالم إلى جزئين ، شرق وغرب ، وذلك حسب الثقافات والحضارات، التي تسود كل جزء من هذين الجزأين .إلاّ أن هذا التقسيم ، لا يقف عند هذا الحد بل هم يقولون: إن ثقافة الغرب أوجدت عقلاً تحليلياً، بينما الثقافة الشرقية أوجدت عقلاً تركيبياً ، وفي هذا التصنيف أمر خطير، أذ أنه يعيد التطور والنمو المادي والعلمي الذي يشهده العالم إلى الحضارة الغربية المعاصرة ، وكأن العلم وليد العصر الحاضر ، والأمر خلاف ذلك ، فالعلم نتاج جهود تراكمية، أسهمت به حضارات الشرق والغرب . كما أن هذا التقسيم، يتضمن مغالطة كبرى، ولا سيما في التعميم بهذا الشكل، شرق وغرب، فالشرق فيه حضارات متعددة ، وديانات مختلفة منها السماوي ، ومنها غير ذلك . كما أن الغرب ، وإن كان في مجمله ، يعود إلى الحضارة المسيحية، إلا أنه يوجد تفاوت بين أقطاره، أسهمت في إيجاد اللغات المختلفة، والآداب والعادات، والتقاليد النوعية، الخاصة بكل بلد . ويتمادى أصحاب هذا التصنيف الثنائي بقولهم: إن العلم قد يستفيد من العقل والتفكير التحليلي ، بينما التفكير التركيبي، قد يكون أثره بارزاً في مجال الإدارة، والسياسة، ويستدلون على ذلك؛ بالإدارة اليابانية الناجحة، وكيف أنها تعتبر نتاجاً للتفكير التركيبي، الذي يتمتع به اليابانيون .

ترى كيف تكون عناصر الثقافة المختلفة مؤثرة على بنية العقل ؟!. لو أخذنا الدين على سبيل المثال، لوجدنا أن الإسلام، يدعو إلى وحدانية التفكير، ويوجه العقل نحو شيء واحد، هو الله ، الذي هو مصدر الخلق، والرزق، وأهل العبادة . وما من شك، في أن مثل هذا التوجيه، سيكون من نتائجه قطع أسباب التشتت، والتذبذب الذهني، وكذا الصراع النفسي، الذي من الممكن أن يحياه الإنسان، إذا هو عاش في بيئة، يقوم دينها على تعدد الآلهة، وتنوعها . وقد عرض القرآن وضع أمم كثيرة، ومنها العرب قبل الإسلام، حيث كان تعدد الآلهة لديهم، يمثل وضعاً سائداً وقائماً في تلك الأمم، مما انعكس أثره على تفكير وعقول تلك الأمم. ( قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين . قال هل يسمعونكم إذ تدعون . أو ينفعونكم أو يضرون . قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) ( الشعراء: 71 ،72، 73،74 ).

وإذا كان هذا يبدو ، وكأنه يمثل وضعاً لأمم قديمة، فإن الوقت الحاضر، يزخر بأمم، تعددت فيها الآلهة، وتنوعت، حتى إن بعض هذه الأمم، اتخذ من الحيوان كالبقر والفئران آلهة له . وهذا بحد ذاته ، يشير إلى ما يمكن أن يكون عليه أفراد مثل هذه الديانات، من دونية وصغار، فإذا كان هذا هو حال الإله، الذي يتعبدونه ويجلونه . فمن باب أولى سيكون المتعبد في مرتبة أقل، من مرتبة معبوده، فكيف سيكون عليه الحال ، إذا كان المعبود حيواناً ؟!! .

إن أثر الدين كأحد المعطيات الحضارية، لا يقتصر على وحدة التفكير، واتجاهه، بل يتعدى إلى نوع المصطلحات، التي يفرضها على الناس، ودلالة المصطلحات، ففي البيئة الإسلامية، يفترض أن يكون لمصطلحات من مثل، الخلافة، البيعة، الشورى، الجهاد، البركة، الفقراء، المساكين المستضعفين، بيت مال المسلمين، الصدقة، التوكل، الزكاة، وغيرها كبير أثر، في تركيبة وتكوين عقلية الأفراد، سواء في المجال السياسي، أو في مجال العلاقات بين الأفراد، مع بعضهم بعضاً.

وليس الوقت ببعيد عن واقع بعض المجتمعات، التي كانت تسودها العقيدة الشيوعية ، أو الاشتراكية ، فمصطلحات من مثل : طبقة العمال، الفلاحين، البرجوازية، البروليتاريا، المزارع الجماعية، اللجنة المركزية، الصراع، حيث إن هذه المصطلحات، ما من شك أنها ساهمت في تشكيل تفكير وعقل كثير من الأفراد، مما انعكس أثره على العلاقات، بين الأفراد والأسر، وبشكل أوضح وأعم، بين الدول والشعوب .

اللغة كأحد ركائز الثقافة، أو الحضارة ، يتضح دورها في التأثير على البنية العقلية، من خلال علاقات اللغة، وحروفها، ومن خلال مفرداتها، وبيانها وآدابها ، وما يمكن، أن ينتج عنها، من قصص وشعر وفنون. اللغة الصينية على سبيل المثال، تحتاج إلى خمسة آلاف حرف، في حين أن بعض اللغات الأوروبية، إن لم يكن معظمها، لا يزيد عن ثلاثين حرفاً، واللغة العربية سبعة وعشرون حرفاً. ولا شك أن الحروف، تعمل في صياغة العقل، والتأثير عليه، سواء كان هذا التأثير سلباً، أم إيجاباً، وما يمكن أن يقال عن الحروف، والرموز، يقال عن مفردات مثل: الديموقراطية، الشورى، الكسل ، الحرية، التبعية، التي تعني الكثير، وتحمل في طياتها الكثير، من المعاني، والدلالات، ومن ثم سينعكس أثرها على الذهن، إما بالإثارة، أو التثبيط وهذا ينطبق على الجملة، وعلى القصيدة، وعلى القصة وكل فنون الأدب . لقد ثبت لعلماء اللغويات، أن بعض اللغات، لا يوجد منها كلمات لبعض المعاني، كما أن بعض الكلمات، قد تعني في لغة معنى مغايراً تماماً، للمعنى الذي تعنيه الكلمة نفسها، في لغة أخرى .

إن اللغة كأداة اتصال رئيسة بين الناس، يصاحبها الكثير من التعبيرات الانفعالية، والحركات الجسدية ، وكذا المضامين الفكرية ، التي تهم الفرد عند حديثه ، أو مخاطبته لآخرين، لأن اللغة قد تكون مدخلاً مهمّاً لمعرفة نوايا الفرد، أو ما يدور في ذهنه، وما يفكر في عمله، إن حرف العطف في اللغة العربية، قد يحدث اختلافاً كبيراً في المعنى، والدلالة ، فقد أقول فلان وفلان وهذا ويعني التزامن والتساوي، في الفرصة، ولكن المعنى يختلف، حينما أقول أو ثم، لأن أو هنا، تعني التخيير، بينما ثم، تعني الترتيب .

إن تأثير الثقافة ، لا يقتصر على عناصرها الواضحة، والمباشرة بل إن العناصر الرمزية، لها تأثير على العقل ، وبنيتة . علماً بأن الرموز من الممكن أن تكون كلمات، أو أشكال ورسومات، أو أي موضو، يحمل معنى خاصاً، يدركه، بل ويتفاعل معه الأفراد، الذين ينتمون لتلك الثقافة . والأمثلة على الرموز كثيرة، فالصليب ذو دلالة ومعنى للثقافة المسيحية، كما أن الهلال مرتبط بالثقافة الإسلامية، وكذا النجمة السداسية للثقافة اليهودية.

الألوان كذلك يصدق عليها الشيء نفسه، من حيث الرمزية، فاللون الأخضر، تستخدمه كثير من الدول الإسلامية، في أعلامها، كما أن اللون الأحمر، يعتبر أساسياً في العقيدة الشيوعية، أما الجُمل، والعبارات، فرمزيتها العقائدية أعمق وأوثق، فعبارة التوحيد: لا إله إلاّ الله، تشكل رمزاً متكاملاً للعقيدة الإسلامية، بصورة شاملة، كذلك عبارة:وحدة، حرية، اشتراكية، التي كانت ترفع كشعار لكثير من الحركات السياسية اليسارية، التي عصفت في العالم العربي، لفترة طويلة، وما زالت بقاياها موجودة حتى الآن .

ومع ما تمثله، أو تحمله الرموز الحضارية، من دلالات ومعان، فهي قد تحدث أحاسيس، ومشاعر، في نفوس الأفراد، الذين ينتمون لتلك الحضارة، كلما سنحت الفرصة لهم، بالتعامل مع هذه الرموز. وفي اختصار يمكن القول: إن العناصر الرمزية، من الممكن، أن تكون ذات معانٍ ودلالات لوحدها، إلا أنها في الغالب تمثل نظاماً رمزياً متكاملاً. إن الرموز الحضارية، قد يكون لها فعالية، وأثر بالغ، إذا دخلت هذه الرموز ضمن الإنتاج الحضاري، في القصص، الشعر، المسرح، الخطابة ، اللعاب والبرامج الإذاعية، والتلفزيونية، لأن هذه الأشياء، يتعرض لها الناس بشكل كبير ومتكرر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرموز قد تتعرض للتغير والتبدل، حسب ما يحدث للثقافة العامة، من تغير، وحسب ما يتعرض له المجتمع من تغيرات وظروف.

وحري بنا في هذا الصدد، أن نميز بين الثوابت الحضارية، ذات الاستمرارية، والاستقرار، والرسوخ، وتلك الأمور، التي قد تصنف على أنها قابلة للتغي، والتعديل حسب ما يستجد من ظروف على المجتمع ، كنتيجة للانفتاح على الحضارات الأخرى، والاتصال بها، ودخول أدابها وفنونها للمجتمع .

ومن الأمور ذات الاعتبار في الثقافات والحضارات، وهو وجود أفراد، من الممكن اعتبارهم أبطالاً، وقدوة، يقتدى بهم، لأنهم يمثلون ثقافة أو حضارة المجتمع، بل جوانبها وعناصرها .

ولهذا فالناس يأخذون منهم قدوة، يحتذى بها، ولا شك أن الأنبياء عليهم السلام، يحتلون القدوة، والأساس في الثقافات، التي تعتمد الديانات السماوية، رغم أن بعض المجتمعات، لم تعد تعطي ذلك الوزن لهذا الأمر، بل واقع بعض المجتمعات، يبرز أن بعض الممثلين، المهرجين، والقادة السياسيين، يمثلون القدوة والأسوة، لكثير من الأفراد في سلوكهم ، ومظهرهم، وحديثهم، ومأكلهم، ومراكبهم، بل وحتى المصطلحات التي يستخدمها هؤلاء الأفرا، مستقاة من هذه الرموز البشرية. فكم استحوذ كارل ماركس على عقول وألباب كثير من الناس، وانعكس ذلك على فكرهم، وتصرفاتهم ، وسلوكهم، وبشكل عام. وقد يكون القدوة أو البطل الاجتماعي، حياً أو ميتاً وقد يكون حقيقة أو خيالاً (1 )، فالبرامج الكرتونية مثل باتمان Batman وسنوبي Snoopy ، أصبحت تمثل قدوة يحاكيها الأطفال، أو الأفراد المشاهدين لها، في المجتمعات الغربية، ومن يسير في ركبها .

واقع بعض الثقافات، يؤكد أنها تعمد إلى إيجاد بطل اجتماعي، أو قومي، تحاط سيرته بهالة من البطولات، والقصص، والحكايات، التي تبين شجاعته، أو حكمته وذكاءه، بحيث يحكم هذا البطل على الناس عقولهم، ويكون قدوة لهم، في سيرته، ونمط حياته، وما ذلك إلا لتمكين الثقافة أو الحضارة في عقول الناس، وقلوبهم، ومن ثم التأثير على سلوكهم، من خلال هذا الرمز البطل .

من الأمور الثقافية الأخرى الطقوس، أو البروتكولات ، التي تمارس بها بعض الأمور وتؤدى، مثل طريقة التحية، والاحترام، لبعض الأفراد، أو أداء بعض الشعائر الدينية، والمناسبات، والاحتفالات الاجتماعية. فمثلاً قد يشترط للدخول، على شخص، لباس من نوع معين أو يشترط مخاطبته بأسلوب وبطريقة خاصة، تكون مستهلة بعبارات الثناء، والتبجيل، والمدح . وكما سبقت الإشارة، فإن مثل هذه الممارسات، تفرض على الناس، بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر، عن طريق الإيحاء، وباسم الأنظمة، حتى يأتي اليوم، الذي تكون فيه مثل هذه الممارسات، من البدهيات ، والأشياء التي لا يختلف على فرضيتها ووجوبها اثنان.

إن من العناصر، والمعطيات الحضارية، ذات التأثير على بنية العقل، القيم الاجتماعية، والقيم تعني: تفضيل الفرد لأمور، وأشياء، على أخرى، على أن يكون هذا التفضيل قائماً على مشاعر، وأحاسيس خاصة. القيم كما يقول علماء النفس : تكتسب تمامها في سن العاشرة ، بحيث يكون تغيير نظام القيم بعد هذه السن من الصعوبة بمكان . وبحكم أن معظم القيم، يتم اكتسابها في عمر مبكرة، من حياة الفـرد، تظل هذه القيم، تمارس دورها في حياة الأفراد بشكل لا شعوري . وعليه سيكون من الصعوبة ملاحظتها، بشكل مباشر، ولكن يمكن استنتاجها، من خلال الأفعال، والممارسات، التي يقوم بها الأفراد، في مختلف أنشطتهم الحياتية، وفي العادة يكون النظام القيمي قائماً على أشياء مثل: الخير والشر، طبيعي وغير طبيعي، قذر ونظيف، طيب وغير طيب، منطقي وغير منطقي .. إلخ .

ومن الأمور ذات العلاقة الوثيقة بالثقافة أو الحضارة، والتي تؤثر على بناء العقل، وتركيبته، العادات، والتقاليد، والأعراف. وكما هو معلوم، فالعادات، والتقاليد، والأعراف، أمور، وممارسات، يتوارثها الأجيال، ويأخذها الأبناء عن الآباء ، حتى تحظى هذه الممارسات بشيء من الاحترام والتقديس، من قبل أفراد المجتمع، بحيث يكون الخارج، أو المخالف لها شاذاً، وغير مقبول ، من قبل أفراد المجتمع الآخرين .

ومن الأمور التي قد تسير وفق العادات والتقاليد والأعراف، الضيافة، الزواج، رئاسة القبيلة، أو العشيرة، حل الخلافا ، والمنازعات، بين الأفراد والأسر، والتملك. ولا عجب في أن يجد الفرد بعض المجتماعت، تسير معظم أمورها وفق العادات والتقاليد والأعراف. علماً أنه قد لا يكون هناك سند شرعي، أو قانوني، لمثل هذه الأمور، ولكن لمجرد أن الأفراد درجوا على ممارستها، وورثوها ممن قبلهم، فهي أصبحت بمكان الحكم ، والأساس الفاصل في الأمور.

هذا وقد أورد جيرت أوفستد Geert H Ofstede تصنيفاً للثقافة، حيث يرى: أن الثقافة لها مستويات متعددة، فهناك الثقافة أو الحضارة الوطنية، أو العامة، التي تشمل كل أفراد المجتمع، وتصدق عليهم جميعاً، وهناك الثقافة الإقليمية، والتي تخص أقليماً بعينه، والثقافة العرقية، والتي تكون ملتصقة بفئة بشرية معينة ، وهناك الثقافة اللغوية، والتي تكون حسب اللغة أو اللهجة، التي يتحدث بها الأفراد .

كما أن هناك الثقافة الدينية، والتي تكون مشبعة برموز، ومصطلحات، وشعائر، عقيدة معينة، ومن التصنيفات أيضاً، الثقافة حسب الجنس، من حيث الذكور والإناث، فهناك ما يخص الذكور من لباس، وأمور اجتماعية، وأخرى تخص النساء . ومن تصنيفات الثقافة ثقافة الأجيال ، حيث نجد أن بعض الممارسات، وأنماط التفكير، تكون مقبولة، ومحببة، من قبل جيل مجتمع، بينما لا تكون كذلك في جيل آخر من المجتمع نفسه، وهذا يترتب عليه ما يسمى بصراع الأجيال، إذ أن ما يكون مقبولاً من قبل فرد كبير السن، قد يكون مرفوضاً من ابنه ، حيث المسافة والفارق الثقافي بينهما، يحدث مثل هذا الاختلاف والتفاوت.

ويلعب المستوى الاجتماعي والاقتصادي دوره في إيجاد ثقافة خاصة بأفراد كل مستوى، أو طبقة، حسب الوضع الاقتصادي، أو التربوي ، حيث تجد ثقافة نوعية، تختص بالأغنياء ، وأخرى تخص الفقراء، علماً أن هذا لا يعني بالضرورة الأفضلية، لأحدهما على الآخر في ثقافته .

ميارى 13 - 8 - 2010 12:34 AM

العقل العربي أم العقل الإسلامي:

قد يتساءل الفرد، لماذا نطرح العقل العربي كقضية، ولا نتوسع ونعمم، ونطرح العقل الإسلامي، بشكل عام ، كقضية، ومن ثم سيكون العقل العربي داخلاً بالضرورة ضمن هذا الوصف أو التعميم. ولعل من المناسب الإشارة في هذا المقام، إلى أن طرح العقل كقضية بشكل عام، وتخصيصه بالعقل العربي، ينطلق من بعض الاعتبارات الأساسية .

بادىء ذي بدء لو وجد عقل إسلامي بمفهومه الحقيقي، مستلهم للإسلام كتشريع، في جميع أمور الحياة، ومناحيها، وأنشطتها، لما كان هناك من داع، لإثارة موضوع العقل كقضية، لأن العقل في هذه الحالة، سيكون سويّاً وطبيعياً، يؤدي دوره في الحياة، بالشكل المطلوب. الأساس الثاني، الذي ننطلق منه، حين نقصر المناقشة على العقل العربي، هو الواقع الذي يحياه العالم العربي، بشكل عام، في أموره السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفرض الكامن وراء هذا الوضع السيء، يعود إلى الحال المتردية، والوضع المزري، من الناحية الثقافية، والمعرفية، أو بتعبير أدق: الوضع العقلي، والفكري، الذي يمر به الإنسان العربي.

وليس بخافٍ ما للإنسان العربي من دور في عالمه الإسلامي، إذا اضطلع بهذا الدور، وبهذه المهمة إلاّ أنه حينما يتخلى عنها، ويتراجع أو يكون في وضع لا يمكنه القيام بهذا الواجب فلا غرابة أن ينعكس ذلك على وضع العالم العربي، ومعه الإسلامي، من حيث التردي المعيشي والاجتماعي، والضعف السياسي، والعسكري، والتخبط الاقتصادي، والبلبلة الفكرية، والتمزق والتشتت للأمة بين أجزاء وفئات .

إن من مبررات التركيز على العقل العربي، أن رسالة الإسلام جاءت على ارض العرب، وبعث النبي العربي الأمي بين العرب، لا لتكون الرسالة لهم فقط، بل لتكون للناس عامة: (وما أرسلناك إلاّ كافةً للناس ِ ) ( سبأ : 28 ) .

وهكذا التكليف للرسول صلى الله عليه وسلم ، يقتضي من المسلمين العمل على نشر هذه الرسالة، وتبليغها أداءً للأمانة ، وقياماً بالمهمة، وذلك لأن العرب لو انغلقوا على أنفسهم، في الجزيرة العربية، في ذلك الوقت، أو فيما بعد، لما علم أحد بالإسلام، ولما تحققت عالمية الإسلام . وهذا التكليف، ليس للعرب كلهم، بل إن العرب من غير المسلمين، من يهود ونصارى، لا ينطبق عليهم، فهم خارج دائرة التكليف الذي لا يتحقق إلاّ بالإيمان بالإسلام أولاً. ومن خلال هذا المفهوم، نستبعد أن تكون رابطة العرق، أو القومية، بين العرب والنبي صلى الله عليه وسلم، هي أساس ومنطلق التكليف، بل إن هذه العلاقة لا اعتبار لها في الإسلام، حيث عبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، بقوله ( دعوها فإنها منتهية ) وهو يعني بذلك الانتصار للعصبية، والرابطة العرقية . إن الإنسان العربي المسلم على وجه الخصوص، تلازمه هذه الرسالة على مدى التاريخ، ودوره في الأمر رئيساً ومحورياً، وليس هامشياً كما يظن بعضهم . أما السبب الآخر من دواعي التركيز على العقل العربي، فهو أن اللغة العربية، والتي هي لسان العرب، هي لغة القرآن، وبها تنزَّل، ودوّن، وبها دوِّنت، ورويت السنة النبوية المطهرة . وهذا الأمر بحد ذاته، ليس باليسير، فدور العرب في هذه الحالة، يقتضي تعليم القرآن وتدريسه، وشرحه للناس، ةبيان معانيه، ومقاصده، ودلالاته ، وهذا ينطبق على السنة النبوية أيضاً.

إن هذه المهمة، لا يمكن أن يقوم بها أي فرد، بل إن العرب مرشحون لهذه المهمة، بحكم اكتسابهم اللغة العربية بالفطرة . يضاف إلى هذه العوامل، وجود مقدسات الإسلام، على أرض العرب، وهذا يجعل من أرض العرب قبلة، ومأوى للمسلمين، من كل أقطار الأرض للحج والزيارة . وفي هذه الحالة، سيكون الإنسان العربي، من يقوم بحق الضيافة لإخوانه المسلمين، ويقوم باستقبالهم ، مما يفرض عليه، أن يكون على مستوى من الوعي، والمعرفة، والإخاء، والمحبة. هذا وإن موقع العالم العربي، وما حباه الله به من ثروات طبيعية، يعطي الإنسان العربي قوة في هذا العالم، وتأثيراً يحسب له حسابه، إذا هو تمكن من استغلاله، وتوظيفه التوظيف السليم.

إن واقع العالم العربي، وما يعانيه من تشرذم، وضعف، وهوان، لم يأت من فراغ، بل هو نتيجة لواقع الإنسان، الذي يعيش عليه. فالإنسان العربي في عقله، وتفكيره، وفي ثقافته، وفي تكوينه النفسي، بشكل عام، أصبح ممزقاً وضعيفاً، في تكوينه العام، مما دفعه بعيداً عن موقع الصدارة والقيادة . ويكفي أن نقول: إن هذا الوضع ليس طبيعياً للإنسان العربي المسلم، إذ لديه من عناصر التأهيل القيادي ما فيه الكفاية، ولكنه فرط بها، أضاعها عبر سنوات من الضياع والتيهان الفكري. ولعل من أبرز سمات ضياع الإنسان العربي، على الصعيد الفكري، هو لهثه خلف تيارات فكرية وافدة باسم التجديد، والتحديث، والتطوي ، والتمدن، ولو تمعنا في هذه الحركات الفكرية، لوجدنا أنها تدار من قبل الأعداء، ولكنها تلبس زيّاً محلياً، حتى تكون مقبولة وغيرة منفره .

إن معظم هذه الحركات الفكرية، قد قدمها المنصرون، والاستعمار، الذي جثم على صدر العالم العربي، لفترة ليست بالقصيرة ، حيث أحدث خلالها الكثير من التغييرات في بنية الفكر والعقل عند الإنسان العربي، وشككه في ثوابته، ومعتقداته، مما أضعفها في نفسه ، وجعل منه عدوّاً لدوداً لعقيدته، دون أن يعلم بذلك في كثير من الأحيان. هـذا وقد ساهم كثير من العرب المسلمين، في حملة التضليل هذه، ممن انبهروا بالحضارة الغربية وأصبحوا يفكرون من خلالها، ولها إلا أنهم في الظاهرعرب ومسلمون .

إن الأقليات غير المسلمة القابعة في العالم العربي، لا يمكن أن يغفل أثرها، حيث كان لبعضهم ريادة إدخال الكثير من المتاهات الفكرية إلى العالم العربي، كالأحزاب الشيوعية والبعثية ، والقومية. حتى إن الرئيس اللبناني السابق بشير الجميّل، قال وبصريح العبارة في مقابلة له مع إحدى محطات التلفزيون الأمريكية حينما كان زائراً لتلك البلاد ـ عن المسيحيين في الشرق ـ : إننا نمثل حضارتكم وثقافتكم في منطقة الشرق الأوسط ، لذا عليكم دعمنا، ومساعدتنا، لنثبت هناك .

إن مثل هؤلاء الأفراد، الذين ينتمون لهذه الأقليات ، يخدمون انتماءاتهم الحقيقية، وهي الانتماءات العقائدية والفكرية، كما أنهم يخدمون مصالحهم الفئوية والشخصية، وذلك لإيجاد موطىء قدم لهم، إن لم يكن السيادة على الساحة الثقافية والفكرية، ومن ثم تكون لهم السيادة الاقتصادية، والاجتماعية ، والسياسية .

إن الملام في هذه الحالة هو الإنسان العربي المسلم ، الذي يمثل أغلبية على أرضه، ويكون تبعاً بل وخادماً لأفكار غريبة ، ودخيلة عليه، وعلى مجتمعه، وبيئته، ومن ثم يكون خادماً لفئات، وأقليات ، تعيش معه على هذه الأرض، بفضل كرمه، ومشاعره الإنسانية الفياضة.

إزاء هذه الحقائق، التي يعيشها الإنسان العربي، من حيث التيه، والضياع، واللهث وراء الأفكار المستوردة، بوعي أحياناً،وبدون وعي أحياناً أخرى، يجب الإشارة إلى أن ابتعاد الإنسان العربي عن عقيدته الإسلامية، كمنهج حياة، تفقده أهلية الريادة، التي اكتسبها بالحق التاريخي، وكذا بحق وجود المقدسات الإسلامية على أرضه، وهو بهذا الابتعاد، لا يختلف عن أي إنسان آخر، مهما كانت جنسيته، ومهما كانت قوميته، لأنه بابتعاده عن العقيدة يكون ابتعد عن روافد التأهيل القيادي.

إذاً الإنسان العربي لا يجمعه مع غيره من الناس، إلاّ العقيدة والفكر الإسلامي، فإذا افتقد هذا القاسم المشترك، يكون الفرد الذي افتقده، سواء كان عربياً، أو غير عربي، خارج دائرة الاهتمام والتكليف. ومن هذا المنطلق جاء التركيز على الإنسان العربي، لأننا نعتقد أنه لا يقوم بدوره الذي وكل به، كما يجب، وبالصورة المرتجاة.

ميارى 13 - 8 - 2010 12:36 AM

قنوات تشكيل العقل :

العقل الإنساني لأي عرق انتمى، وعلى أي أرض وجد، تلعب مجموعة من القنوات، دوراً رئيساً في تشكيله، وبنائه بغض النظر عن طبيعة هذا التشكيل، أو التكوين، أهو إيجابي، أم سلبي؟ وما من شك في أن هناك تفاوتاً نسبياً، بين البيئات الثقافية، والمناخ الاجتماعي، وهذا بدوره يلعب أثراً أساسياً وجوهرياً في عملية التشكيل، إلا أن إطلاق مصطلح البيئة الثقافية بهذا العموم، قد لا يؤدي المعنى المراد، وفي هذا الجزء سيتم التركيز على أبرز أهم القنوات، والأساليب، المستخدمة، سواء بشكل مقصود، أو بشكل عفوي، من قبل المجتمعات، والهيئات الرسمية الموكل لها مثل هذه العملية.

بادئ ذي بدء يمكن القول: إن المناخ الاجتماعي العام، أو البيئة العامة، في المجتمع، تلعب دوراً حاسماً في عملية تشكيل العقل. وهذا الأمر، يتضح من الفروق الواضحة، والمباشرة، التي توجد بين المجتمعات، فهذا مجتمع منفتح على العالم والآخرين، وآخر مجتمع مغلق على ذاته، ولا يقبل الآخرين، بل ويكرههم، ويمقتهم، كما أنه قد يوجد مجتمع تقليدي، يحافظ على تقاليده، وأسسه الثقافية، والحضارية، مهتم بها، يعني بتأصيلها، في ذوات أفراده، بينما يوجد مجتمع آخر متغير بسرعة، لا يعطي اهتماماً بأسسه الثقافية والحضارية، بل ويكون ناقماً عليها في كثير من الأحيان.

نسمع كثيراً عن أن المجتمع البريطاني، مجتمع محافظ، ماذا تعني العبارة؟! المقصود بهذه العبارة: أن المجتمع البريطاني، يعطي قيمة وقدراً، لمعطياته الثقافية والحضارية، محافظاً عليها، مفاخراً ومباه بها، أمام الآخرين، حتى لو كانت هذه الأسس غير مقبولة في نظر الآخرين. إذ أن أفراد المجتمع البريطاني، لا يعطون وزناً لنظرة الآخرين، نحو قيمهم، وعاداتهم، وتقاليدهم، بل يسعون لفرضها على الآخرين ، وتزيينها في عيونهم ، حتى يقلدوهم فيها ، ويسيروا بركبهم . وهذا بالطبع ليس مقصوراً على الإنجليز وحدهم، بل توجد مجتمعات أخرى، على هذا النحو. والطريف في بعض المجتمعات، أنها قد توصف بأنها محافظة، ولكن لو تم البحث والاستقصاء، لتبين أن أفراد المجتمع، يحافظون على أسسهم الحضارية على مضض، ودون قناعة تامة، بل ويفتقدون الاعتزاز بها، سيما عندما يواجهون الآخرين.

إن ما يهمنا هو التأكيد على المناخ الاجتماعي، أو الجو الاجتماعي العام، وما يسود فيه من ركود أو حركة، أو إثارة، وتفاعل، ونشاط عام، يسهم بشكل كبير في تشكيل عقل الأفراد، أو العقل الجماعي، أو الاجتماعي، كما في بعض التسميات.

إن الجو العام، يشمل مظاهر الحياة بشكل عام، الأسواق التجارية وعددها، وأوقات دوامها ، الأعمال الرسمية، والدوام اليومي للأجهزة الحكومية، والشركات والنوادي، والجمعيات، والنظام السياسي، والمنابر السياسية، الموجودة في البلد، والنقابات والإضرابات، وعلى سبيل المثال، كانت المجتمعات الاشتراكية، مغلقة على نفسها، وتحظر فيها الإضرابات بينما المجتمعات الرأسمالية، توصف بأنها منفتحة على الآخرين، وتلعب الإضرابات دوراً بارزاً في حياتها السياسية .

المناخ الاجتماعي قد يكون طوال أيام السنة على الوتيرة نفسها ، قد يكون وقتياً، مرتبطاً بمناسبات وأحداث بعينها، فمثلاً في المجتمعات الإسلامية، يكون المناخ الاجتماعي خلال شهر رمضان ، مختلفاً عن غيره، من شهور السنة، حيث تزيد، وتكثر النفقة، وقد يتحول الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل، ولا سيما في حركة الناس والأسواق . ولا شك أن الجو العام، سيعكس آثاره السلبية والإيجابية داخل عقول الناس .من حيث النشاط ، والهمة ، والحيوية، أو من حيث الكسل، والتواني والاتكال على غيره، وإضاعة الوقت وإهداره.

الأنظمة واللوائح أو التشريعات التي يتعامل بها الناس في حياتهم اليومية، لها قيمتها وفاعليتها في عقول الناس. حيث إن أهمية الأنظمة بشكل عام، هي تعويد الناس على النظام والانضباط، ومعرفة الحقوق والواجبات، وعليه يتم الأخذ والعطاء، والإثابة والمحاسبة.

إن شعر الناس، أن هذه الأنظمة محترمة بين الجميع ، ولها سيادتها ، وقيمتها، فهم سيترددون كثيراً في خرقها، بل إن احترامها سيكون هو السائد، أما إن شعروا، أنها مجرد صورة ، فهناك ستكون الفوضى هي البديل.

إن من الأنظمة ما يوجد ويعزز البيروقراطية والروتين ، ومنها ما يكون مرناً، ومحققاً لمصالح الأفراد، والمجتمع ، وهذا بدوره ينعكس على تكوين الأفراد العقلي، فلا غرابة أن تجد أفراداً من مجتمع ما، يوصفون بالصلابة، والتحجر النظامي، وحتى الفكري، وفي الوقت نفسه تجد أفراداً آخرين، هم أكثر مرونة، وسرعة في الفهم، والاستيعاب ، ذلك لأن مجتمعهم بأنظمته أوجد مثل هذه العقول.

إن من الأنظمة ما يكون موجهاً لخدمة المصلحة العامة، ومصلحة الأفراد، ومنها ما يكون موجهاً لخدمة فئة معينة، كي يتحقق له إذلال وتسخير الناس دونما وجه حق، من خلال هذه الأنظمة .

إن من الأنظمة مايمكن أن يضرب بها المثل لما يسمى : بالطلب أو المعروض ، الذي يتقدم به صاحب طلب ، أو حاجة ، من الاحتياجات ، إذ أن هذا الطلب ، كما يعمل به في العالم العربي ، يفترض أن يكون في مقدمته مدح ، وثناء ، وشكر ، وتبجيل ، لمن بيده قرار قضاء الأمر ، أو الحاجة المتقدم لها ، حتى إن الأمر، أصبح من الأمور الروتينية ، والمتقبلة . لدى الناس بكل فئاتهم، دونما استفسار أو تساؤل، حول الحاجة لمثل هذا الثناء والمديح. هذا الوضع في العالم العربي، يقابله وضع آخر في مجتمعات أخرى، حيث إن الحاجة، أو الأمر يقضى من خلال ما يسمى بالنموذج Application حيث توضع فيه المعلومات، ذات العلاقة بالأمر فقط، دونما مقدمة مدح وثناء .

أخيراً إن المناخ الاجتماعي العام، وكذا الأنظمة المعمول بها في المجتمع، من الممكن أن تكون عاملاً من عوامل الراحة والطمأنينة الموضوعية، أو قد يكون العكس، حيث الخوف، والرعب والاحترام المتصنع .

من قنوات تشكيل العقل ذات الأهمية، المدارس، إذ من خلالها توضع البذور الأساسية لطريقة التفكي، من حيث السطحية أو العمق، وكذا من حيث المنطقية والعملية، أو الذاتية والموضوعية كما أنه من خلال المدرسة، يتم اكتساب المعرفة والمعلومات وتكوين الاتجاهات ، نحو كثير من قضايا الحياة. يضاف إلى ذلك تكوين نظام قيمي، وصقل مهارات في بعض الجوانب .

إن المنهج المدرسي بما يحويه من معارف، ومعلومات، وصور، وأمثلة، وتمارين، يمثل حجراً أساسياً في الكيفية التي ينمو بها، ويشكل عقل الفرد. احتكاك الطالب بأستاذه وبزملائه، ووجوده في مناخ يعطيه حرية التعبير، والحركة، والتجريب، كلها أمور ذات أهمية بالغة عند الحديث عن البناء العقلي، فقد يحدث بناءً عقلياً سلبياً، أو مغايراً لما نريده، إذا لم نتمكن من خلق مناخ دراسي ملائم.

تعتبر وسائل الإعلام من أهم وأخطر القنوات، التي تشكل العقل، ولا فرق في ذلك بين الصحافة، والإذاعة، والتلفزيون، إذ أن جميعها ذات أثر كبير وقوي، ومؤثر، في صياغة الاتجاهات ، من حيث الحب ، والكره ، والبعد ، والقرب ، من قضايا، تعرض بشكل، أو بآخر، عبر وسائل الإعلام هذه. المادة الإعلامية تحوي القرآن، والأدب، والنثر، والحديث ، والأغاني .. إلخ . ويمكن من خلال هذه المواد التأثير على عقلية الفرد، وطريقة تفكيره. ولذا فقد أدركت بعض المجتمعات أهمية الإعلام ، فوظيفته توظيفاً سليماً ، يخدم أهداف المجتمع ، والأمة ، على المدى القريب والبعيد، في حين أن مجتمعات أخرى ، وظفته لإضاعة الناس، وتكريس سفاسف الأمور، في ذواتهم، مما نتج عنه مجتمعات مفقودة الهوية، وضائعة وسط هذا الموج المتلاطم من التيارات والمدارس الفكرية، وأصبح الإعلام في هذه المجتمعات أداة لإثارة الشهوات ، والغرائز، فمن شهوة الشراء، التي يتم إثارتها، بل وإحداثها من خلال الدعاية، إلى غريزة الجنس، التي يتم التلاعب بها وتوجيهها من خلال الأفلام والصور، والأغاني الهابطة .

لقد لعب الإعلام دوراً بارزاً في تسفية الأحلام، خلال العقود الماضية وما يزال. إذ أنه تم توظيفه، واستخدامه من قبل الأنظمة، لخدمة أغراضها، في حتى أصبح يعرض ما تريد هذه الأنظمة ، بغض النظر عن الحقيقة ، بل إنه كثير من الأحيان، يضرب ، صفحاً عن هذه الحقيقة، ويعرض الكثير من المتناقضات، مما أوجد شخصية ازدواجية، غير قادرة على تحديد اتجاهها الحقيقي في هذه الحياة، وغير مدركة للفرق بين الحق، والباطل ، والحق، والواجب، والخطأ ، والصواب، والضار، والنافع.

في المجتمعات الإسلامية، يفترض، أن يؤدي المسجد دوراً بارزاً، ومهمّاً في صياغة العقول، وبنائها عن طريق خطب الجمعة، والندوات، والمناقشات والدروس، الممكن عقدها في المساجد ، كما أن حضور المسجد بحد ذاته، يحدث الإخاء، ويجسد أواصر الرابطة العقائدية لدى الناس .

مما يسهم في الصياغة العقلية: الشائعات، والنكت، التي تطلق بين فينة وأخرى، سواء في الظروف العادية، أو الظروف الطارئة .

وقد تكون هذه الشائعات، والنكت، موجهة لشخص قيادي، أو حول أمر من أمور المعيشة، كزيادة في سعر سلعة، أو اختفائها من السوق، أو زيادة رواتب، أو مرض مسؤول، أو حرب وعدوان محتمل. وهذه الشائعات قد تثير البلبلة، والتوتر، والفزع ، داخل البلد ، كما أنها قد توحد الجبهة الداخلية، وتحدث شيئاً من الالتفاف والتلاحم، بين أبناء البلد. أما النكتة فهي أسلوب من أساليب السخرية والاستهزاء، وهي نوع من الانتقام ضد من تطلق حوله، إذ أنها تحدث شيئاً من السرور والراحة في نفوس مطلقيها، والمستمعين لها، وباختصار فهي صورة من صور التشفي، حين لا يكون بمقدور المجتمع تغيير وضع من الأوضاع، فيلجأ للنكتة، كي يستريح من خلالها، ولو لبعض الوقت، من عناء الحياة ومشاقها ومشاكلها.

النخبة في المجتمع لها دور في التأثير، لا سيما إذا تم إبراز هذه النخبة من خلال وسائل الإعلام. النخبة بسلوكها، طريقة تفكيرها، عاداتها، ملبسها، مركبها، طريقة حديثها، هواياتها، واهتماماتها تكون قدوة، يقتدي بها، من قبل عامة الناس .

ترى من هي هذه النخبة ؟

النخبة قد تكون علماء، وسياسيين، وأدباء، ومثقفين، وقد تكون من الفنانين، ونجوم الرياضة، وقد تكون من المنحرفين، أو المستقيمين فكرياً وسلوكياً. ومهما تكن النخبة، فأثرها واضح في التأثير على الآخرين، وجعلهم ينقادون وراءها، حتى إن بعض المصطلحات، أو الكلمات، التي يفوه بها أحد أفراد النخبة، تجدها تتلقف من قبل الآخرين، ويرددونها في مجالسهم وأحاديثهم، وهم بذلك يتقمصون شخصية ذلك الفرد، سواء تم ذلك بشكل شعوري، أو بشكل لا شعوري. وكما يقول المثل: الناس على دين ملوكهم . فقد يكون الملوك من الفنانين، أو الرياضيين،أو العلماء والمفكرين، وذلك حسب ما يعمد المجتمع إلى إبرازه، فقد يبرز ويلمع هذه الفئة ويهمل في الوقت نفسه فئات أخرى، هي الأولى بالاهتمام والرعاية.

يضاف إلى ما سبق ما يتوفر في المجتمع من كتب في الثقافة العامة أو في مجالات الاختصاص المختلفة ، فقد يعمد مجتمع إلى تضييق دائرة الكتاب، وحصره في أمور معينة، تحقق مصلحة فئة بعينها، ذلك أن دخول كتب أخرى، ومن نوع آخر ، قد يفتح أذهان الناس، ويثير في أذهانهم الكثير من التساؤلات، حول أوضاع المجتمع بصفة عامة، أو وضعه في قضية من القضايا. ومن أجل التحكم في الكتاب، أو سوق الكتاب بشكل أدق، توضع أنظمة وعراقيل ، تحد من انتشاره، وتسويقه، بل وحتى دخوله إلى المجتمع، حتى أصبحت بعض الكتب في بعض المجتمعات ، تصنف على أنها من الممنوعات .

الندوات العامة ، والمؤتمرات ، تؤدي هي أيضاً دورها في تكوين وتشكيل العقل، وكلما كان المجتمع يعج بمثل هذه الأشياء، كلما كان ذلك مدعاة للإثارة ، والتنشيط الذهني، وكلما افتقد مثل هذه الأنشطة ، كلما حل الركود وساد الجمود، والتبلد، وأصبح الناس بمثابة الآلة، يسيرون وفق عمل ونشاط روتيني، لا يبعث الإبداع والإنتاج والتجديد. بل يولد السأم والتراجع والتقهقر الفكري.

ميارى 13 - 8 - 2010 12:37 AM

العقل العربي قبل الإسلام :

لقد سبق وأن أكدنا، أن المقصود بالعقل، هو الكيفية في الأداء والنشاط، الذي يبذله الفكر الإنساني، نتيجة ما يتوفر له من معارف، ومعلومات، ونتيجة ما يتكون فيه من مبادىء ، وقواعد، تشكل في مجموعها المنظومة العقلية للفرد. وخلال السياق السابق، تم التأكيد على أن بنية العقل، وهيئته لا تأتي من فراغ، بل هي متأثرة سلباً، وإيجاباً، بما يحيط بها من مؤثرات ومشكلات ثقافية وحضارية، فإذا كانت هذه المؤثرات والعناصر الحضارية والثقافية غنية، وجيدة، فسيكون المردود الارتفاع بمستوى العقل، وجعله على مستوى الأحداث والتحديات أما إن كانت العناصر والمؤثرات الحضارية، فقيرة، ورديئة، فحتماً ستكون النتيجة، انحطاط مستوى العقل وضياعه .

العقل العربي كغيره من العقول البشرية، يصدق عليه ما يصدق عليها فهو يتأثر بما يحيط به، من ثقافة، وحضارة، سواء على المستوى المحلي، أو المستوى العالمي، ولكي نتعرف على واقع العقل العربي قبل الإسلام، يتطلب الأمر،أن نحلل، ونشرح، الفترة التاريخية تلك، لنرى ما أهم ميزاتها الثقافية والحضارية، ولكي نقف على أبرز ملامحها، وقنوات الثقافة السائدة، والموجودة في تلك الفترة. ماذا نعني بالعقل العربي ؟

يفرق لالاند Lalande بين نوعين من العقل، الأول هو العقل الفاعل أو المكّون، ويعني به: النشاط الذهني، الذي يمارسه الإنسان، وهذا النوع من العقل، يتوفر لكل بني آدم، عدا الحالات الشاذة، أو حالات التخلف العقلي. أما النوع الثاني، فهو العقل السائد ، وهو يعني مجموعة القواعد والمبادىء، التي تقدمها الثقافة العربية، للمنتمين إليها، كأساس لاكتساب المعرفة، أو هو باختصار: النظام المعرفي(1 ).

لكي تتم عملية التشخيص بشكل موضوعي، يحتاج الأمر تحديد معالم الثقافة العربية، التي أسهمت في تشكيل، وتكوين العقل العربي .

إن واقع الإنسان العربي، لا يمكن فصله عن واقع بلاده الجزيرة العربية في ذلك الوقت، فأهم ما يميزها أنها صحراء قاحلة، نادرة الماء شديدة الحرارة في صيفها، وباردة في الشتاء، يقطنها العرب، وهم في حركة دائبة وراء الماء والكلأ . ارتباطاتهم العالمية محدودة ، بحكم انعدام وسائل المواصلات، والاتصالات الحديثة. الجمل والخيل، هو أساس حركة المواصلات، والغنم من أساسيات الثروة الحيوانية، بل الثروة العامة. التجارة أسلوب حياتي، ولكن ليس لكل الناس(لإيلاف قريشٍ . إلافهم رحلة الشّتاءِ والصيفِ )

( قريش:1،2 ).

إذا كان هذا هو الواقع البيئي، المحيط بالإنسان العربي، كيف هو واقعه العقائدي. لقد ذكر القرآن حال العرب العقائدي قبل الإسلام، حيث إن الجزيرة العربية، كانت تعج بالأصنام، والأوثان، التي تعبد، ويتقرب من خلالها إلى الله (ما تعبدونَ من دُونهِ إِلاَّ أَسماءً سميتموهَا أنتم وآباؤكُمْ ) ( يوسف : 40 ) ، ( قالوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لها عَكِفِين َ ) (الشعراء: 71 ).

وإذا كان عرب الجاهلية يؤمنون بوجود الله، فإنهم يبررون عبادتهم للأصنام والأوثان، من أجل تقريبهم من الله،( ما نَعْبُدهم إلاَّ لِيُقَربونَا إلى اللهِ زُلْفى ) (الزمر:3 ). إذن الانحراف، العقائدي متأصل في عرب الجاهلية قبل الإسلام، وهو بلا شك قد أثر على سلوكهم، وتصرفاتهم، وبنائهم العقلي، في نظرتهم للحياة، وفي علاقاتهم بعضهم بعضاً، ومع الآخرين.

الانتماء عند العربي في تلك الحقبة التاريخية، كان قائماً على الانتماء للقبيلة والعشيرة، القبلية في نسبها، في مرعاها، في موقعها، وفي مصالحها، وعلاقاتها مع غيرها.

لقد وجدت في الجزيرة العربية، وفيما حولها، قبائل عربية كثيرة، منها قريش، الخزرج، الأوس، تميم قحطان .. إلخ . ومن هذا الانتماء القبلي ، تشكل الانتماء المحدود بحدود هذه القبيلة، ولا غير، ومنه تحدث النشوة والافتخار.

إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا

وإنا نورد الرايات بيضاً ونصدرهن حمراً قد روينا

إن لشيخ القبيلة، وعاداتها ، وتقاليدها، وأعرافها، ومصالحها، وعلاقاتها مع الآخرين، نفوذ كبير، وتحدث سطوة في نفوس أفرادها، بحيث لا يخالفونها، فإن حدث مثل ذلك، يصنف المخالف بالخارج على القبيلة، وقد ينفى منها ويطرد. إن علاقة الفرد بالآخرين تتم من خلال علاقة قبيلته بالآخرين، وقوتها وضعفها ومكانتها.

نريد بني الحيفان إن دماءهم شفاء وما وإلى زبيد وجمعا(1 ).

إن ندرة المصادر الطبيعية، وقساوة المناخ، لا يمكن فصلها عن عناصر التشكيل، لعقلية الإنسان العربي، في تلك المرحلة، من التاريخ، وكما يقول المثل: لكل امرئ من دهره ما تعودا، فإن اعتاد القساوة والخشونة، فهو بلا شك، سيكون قادراً على مواجهة الظروف من هذا النوع، أما إن هو اعتاد الترف والميوعة، فهو كذلك سيضعف أمام المواقف والأزمات.

لا يمكن أن يفصل بين الإنسان العربي، في تكوينه العقلي، وبين لغته. من الإنصات الواعي والمتدبر، إلى هذه اللغة العربية (الفصحى )، التي هي لغة الإنسان، الح، المبين عن الصدق، وعن الحق، بما في كلماته وحيويه عباراته، وإيقاع صوته، يبدأ التعرف على من هو ( العربي ) (2 ).

لقد تجسدت حيوية اللغة العربية، في نتاج الإنسان العربي الفكري، فيما قبل الإسلام، تجسدت في الشعر، والأدب، والقصص، وفي الأمثال، والحكم، فوجدت لأجل ذلك، بعض المراكز، والمنتديات الثقافية، كما في سوق عكاظ، والمجنة، والمربد، حيث يلتقي الشعراء، ويتحاورون ويتداولون الشعر، على أن ذلك لا يعني أن المناخ الاجتماعي العام هو مناخ ثقافي، ثري،( فبدون سابقة، ولا تمهيد ، نلتقي فجأة بفترة المعلقات وغيرها، من الشعر الفطري في مضمونه، بينما هو من حيث الشكل في غاية الأناقة ، وفي لغة، هي منذ البداية تفوق في بدائعها أكثر أنواع الكلام عمقاً، وثقافة ، وبألوان الحصافة في النقد الأدبي وفي البيان، شبيهة بما تجده في أشد عصور الإنسانية إعمالاً للفكر ) (1 ).

ذلك الواقع الذي عاشه الإنسان العربي، في تلك الفترة عقائدياً، اقتصادياً ، بيئياً، اجتماعياً، وثقافياً، كان له دور بارز وحاسم في تشكيل عقل الفرد، بصورة متناسبة طردياً مع ذلك الواقع .

ترى ما أهم صفات وملامح العقل العربي في تلك الفترة ؟! من الناحية السياسية، يمكن أن يقال: إن عقلية التشرذم ، والفرقة ، هي السائدة ، إذ لم يكن يوجد كيان سياسي موحد، بل إن كل قبيلة وعشيرة تفرض سيادتها على أرضها، وأفرادها، وكذا الضعفاء من القبائل الأخرى. وإذا حدث ووجد فكر وحس وحدوي، فهو محصور في دائرة ضيقة جداً، ألا وهي دائرة القبيلة ، أو العشيرة، حيث من خلال هذا الانتماء يكتسب الفرد قوته، ويمارس سلطته ونشاطه، ويبرز كفاءته القتالية، ويعبر عن بلاغته وبيانه وشعره، ومن خلال هذا الانتماء المحدود، حدثت داحس والغبراء، وتقابـل العرب على الماء والمرعى، وعلى أبسط الأمور، سفكت الدماء، وتكرس التشرذم والتفكك .

ونحن أناس لا توسط بيننا ******* لنا الصدر دون العالمين أو القبر

هذا كان واقع الحال في العقل السياسي العربي، ومنه استمد الإنسان العربي بعض الشمائل والخصائص، الحسنة والسيئة، فلقد وجدت خصال جيدة، من مثل الكرم، الشجاعة، روح الفداء، الإقدام ، النخوة، حماية الجار، الغيرة على المحارم، الصبر، وتجشم الصعوبات بالإضافة إلى خصال سيئة، كالصراع، والتنافس وضيق الأفق المحدود بحدود القبيلة والعشيرة .

يدعون عنترة والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم

وقال شاعر آخر :

فمن يأتينا أو يعترض بسبيلنا يجد أثراً دعساً وسخلاً موضعا

الواقع البيئي والاجتماعي، الذي عاشه الإنسان العربي، كرس مجموعة من المبادئ والمثل، التي وجهت تفكير وسلوك فرد تلك الحقبة، وبما يتناسب مع معطياتها وظروفها .

فواحدة أن لا أبيت بغرة إذا ما سوام الحي حولي تضوعا

وثانية أن لا أصمت كلبنا إذا نزل الأضياف حرصاً لنودعا

وثالثة أن لا تفزع جارتي إذا كان جار القوم فيهم مفزعـا

ورابعة أن لا أحجل قدرنا على لحمها حين الشتاءً لنشبعا(1 ).

الواقع العقائدي في تلك الفترة والمتمثل في انتشار الأصنام والأوثان. ترك أثره في بنية التفكير، المتمثل في التبعية والاقتداء بالغير، حتى ولو كان على ضلال، ودونما محاولة لأعمال العقل، من أجل معرفة الحقيقة. فما اعتاد عليه الأدباء والأجداد، يعتبر أمراً مقدساً، لا يمكن التفريط به، ولا يمكن السماح لأي كائن ومن كان، أن يمسه ويتعرض له( إِنَّا وَجَدْنَا أَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتدُونَ ) (الزخرف: 23 ) ، (أتنهانا أن نعبد ما يعبد أباؤنا ) (هود :62 ).

إن المباهاة والكبرياء، القائمة على الانتماء العرقي، والواقع الاقتصادي، تمثل خصلة من الخصال المتجسدة في ذات الإنسان العربي، فهو نفسه من خلال قبيلته، ونفوذها، ومركزها، ومن خلال مستواه الاقتصادي، والمعاشي، ولذا كانت النظرة، والتقويم لمن آمن، وأسلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، في بداية الأمر، قائمة على أساس أنهم من ضعاف القوم، وأدناهم منزلة، ولذا كانوا يكررون عبارة إنما اتبعه ضعاف القوم.

باختصار يمكن القول: إن المنظومة المعرفية والثقافية والمتوفرة للإنسان العربي، في ذلك الوقت، كانت بحدود البيئة، المجتمع، القبيلة، ندرة الموارد، تفشي الأمية، وسيادة التعبير الشفهي، وافتقاد التدوين، وكل هذه العناصر مجتمعة، أوجدت قواعد ومبادئ التفكي، والمستوى العقلي ، والذي لم يكن له ليبدع خارج إطار الشعر، والقصص، والأساطير،والأمثال والحكم، بالإضافة إلى سجايا السلوك العام، المعبر عن الانتماء، والكرم، والشجاعة .

بافتقاد الإطار المرجعي، المتضمن لأيديولوجيا متكاملة شاملة لكل مناحي الحياة السياسية، والاقتصادية، الأسرية، الفكرية، والاعتقادية، بالإضافة إلى معرفة أبستمولوجية مستمدة من الواقع والمتغيرات الحياتية، وجد العقل العربي بالصورة التي أشرنا إليها، دون أن يكون له أثر ملموس في واقع حياته، ودون أن يكون له تأثير على الأمم من حوله .

وقد وصف الجاحظ العقل العربي بقوله:( وكل شيء عند العرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليس هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر، ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف ، وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلاّ أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود، الذي يقصد، فتأتيه المعاني أرسالاً وتنثال الألفاظ انتثالاً.. وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، لم يحفظوا إلاّ ماعلق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهـــم، من غير تكلف، ولا قصد، ولا تحفظ، ولا طلب ) (1 ) .

ويورد الجابري قولاً للشهر ستاني يصف فيه العقل العربي بقوله:( إن العرب والهنود أكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيات والحقائق، واستعمال الأمور الروحانية، أما العجم ( الروم والفرس ) فأكثر ميلهم إلى تقرير طبائــع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيات والكميات، واستعمال الأمور الجسمانية ) (2 ).

ويعلق الجابري على هذه العبارة بقوله: تقرير خواص الأشياء معناه التعامل مع الشيء، من خلال صفاته، وخصائصه المميزة له، عن غيره،لا من خلال طبيعته ، أي ما يشكل قوامه الداخلي. ويضيف فيقول: إن كلمة طبائع، تعني في المصطلح القديم نظام السببية الثابت، والتركيب الماهوي للشي (1 ) .

باختصار: إن العقل العربي قبل الإسلام عاش مفتقداً الأسس التي تكسبه قوة البناء، والمثيرات التي تحدث فيه الإثارة الضرورية، والخبرة التي تصقله ، وتجعله على مستوى التحديات المحيطة به، لم يكن العقل العربي بذلك العمق، ولا بذلك التعقيد، بل كان أقرب ما يكون إلى البساطة والسذاجة والسطحية، وهذا الوصف، يجب ألا يلغي، وينسخ بعض الخصائص، التي أقرها الإسلام واستبقاها كجزء من النظام الجديد.

غيداء 13 - 8 - 2010 12:39 AM

شكرا غاليتى ميارى... بارك الله فيك .. اختيارك للموضوعات والبحوث اختيار مفيد

ميارى 13 - 8 - 2010 12:39 AM

العقل العربي بعد الإسلام :

أخذاً في الاعتبار الواقع، الذي كان عليه العقل العربي، قبل الإسلام، وما اتصف به من ضياع، وشتات، وتمزق، وتخلف عقائدي، ومادي، بالإضافة إلى الانحراف في السلوك، والممارسات، وأخذاً في الاعتبار لطبيعة العقل، والكيفية التي يتشكل بها أو من خلالها، والتي تتطلب معرفة ووعياً حقيقيين، وأساساً وقواعد ثابتة، ومنهجاً محدداً واضحاً، وإطاراً مرجعياً، متكاملاً، وشاملاً، وبيئة اجتماعية وثقافية نشطة، بالإضافة إلى وجدان حي، قادر على استلهام المعرفة، والتفاعل معها، وتحويلها، إلى سلوك وفعل منتج.

لقد كانت مهمة الإسلام،أبعد من أن تقتصر على جانب واحد من الإنسان العربي، بل إن المهمة أشمل وأوفى، حيث جاء الإسلام ليهز هذا الكيان البشري، ومن خلال أهم ما فيه.. من خلال عقله ، ومن خلال وجدانه، وذلك لكي يغير سلوكه، ويوجه تصرفاته. كان على الإسلام أن يحدث هزة عنيفة ، وقوية، في داخل الإنسان، تجعله يعود لذاته، ليراجعها، ويتعرف على مكامن الخطأ فيها، ويعود لبيئته وما يحيط به من واقع ، ويتبصر به ويحلله، ويستخرج الاستنتاجات، ويكتشف القوانين والسنن. لكي يحدث هذا التحول ، كان لا بد من نسف كثير من المسلمات السائدة، واستبدالها بمسلمات جديدة، ومتناقضة تماماً مع المسلمات السابقة، وما أصعب مثل هذا التحول والتبدل، على النفس الإنسانية الضالة .

ولقد كان المدخل الطبيعي، الذي تتم من خلاله هذه التحولات، هو العقل، بما يزود به من معرفة، وبما يرسخ به من مبادئ ومفاهيم، وبما ينتج عن ذلك من اتجاهات وسلوك. وقد عني الإسلام بهذا المدخل، لأهمية العقل، بالنسبة للإنسان، فهو الذي يوجه النشاط والحركة الإنسانية، وهو الذي يبني، ويهدم، وهو الذي يؤلف، ويفرق، وهو الذي يبدع، أو يخمل، ويكسل، وغني عن التأكيد، أن الإسلام بنظرته هذه، ينظر نظرة شمولية، تجمع بين العقل، والوجدان، والسلوك، حتى إن التعبير عن هذه الأشياء، ليتداخل في بعض الأحيان، وذلك لأنه من الناحية العملية، ومن ناحية مصلحة الإنسان نفسه، في حياته الدنيا والآخرة، يجب ألا يفصل بينهما، فما قيمة المعرفة إذا كانت معرفة منحرفة وضالة ؟!

ما قيمة العلم، الذي يقود الإنسان إلى التردي والهاوية ؟! وما قيمة الاختراع الذي يدمر به الإنسان ذاته، وحياته وكوكبه ؟! وما قيمة الشعر أو القصة، أو المسرحية، التي تثير الغرائز، وتهيجها؟! ولنا في واقع حياتنا المعاصرة، الكثير من الأمثلة فكم من المال والوقت والجهد الذي بذل في صناعة أسلحة التدمير الشامل ؟! ومن الذي صنعها ؟! الإنسان نفسه، وهو الذي يدعو لتدميرها الآن، في الوقت الذي يعاني فيه أناس آخرون من الجوع، والفقر، والجهل، والمرض، وحتى البلدان التي تصنع هذه الأشياء، يتسكع أبناؤها، ويقطنون الشوارع، والأزقات، ومحطات الميترو. ما قيمة الأدب والثقافة، التي تولد العداوات، وتثير الحزازات ؟! وما قيمة الإعلام، الذي يولد الاتجاهات السلبية، والاحتقار للآخرين ؟!

هذه النظرة الشمولية، تحقق في نهاية المطاف، ضبط وحسن توجه الإنسان، في فكره، ومشاعره، وسلوكه، وهذا هو ما يريده الإسلام للإنسان على هذه الأرض.

( والسر ـ والله أعلم ـ في إغفال ذكر العقل بلفظه، كأداة لمستوى معين، من الإدراك، وإضافة ذلك الإدراك إلى القلب، هو ألا يفهم أن المراد، من عقل الأشياء، مجرد الوقوف بها عند الجانب التجريبي، والعملي الجاف، دون التجاوز إلى مجالي الانفعال والوجدان، اللذين هما من الحركات القلبية، إذا الوقوف بالأشياء عند مرحلة المعرفة المجردة، ليس مراد الدين فقط، وإنما يراد مع الإدراك لها، التعاطف معها، وغمرها بدفء الإحساس، وحرارة الوجدان ) (1 ) .

لسنا بحاجة أن نثبت عناية الإسلام بالعقل، فالنصوص التي وردت حوله وكما سبقت الإشارة ـ في القرآن الكريم كثيرة، وكذا في السنة النبوية المطهرة .

ترى مع هذه المنزلة الرفيعة، التي يحتلها العقل في الإسلام، كيف تعامل الإسلام مع العقل العربي في أول الأمر؟ وما الأهداف التي قاده إليها ؟ وما القواعد والمبادئ التي رسخها فيه ؟ وما المنظومة المعرفية التي قدمها له ؟ ومن ثم، ما الأسس الفكرية والعقلية التي أحدثها فيه وأصبحت تمثل منظومة عقلية متكاملة للإنسان العربي، يفكر من خلالها ويهتدي بثوابتها، ويسير ويسلك وفق منهجها ؟ .

لإحداث التغيير في بنية عقل الإنسان العربي، بدأ الإسلام من العقيدة وذلك بطرح التساؤلات على هذا العقل، حول طبيعة الإله، أو الآلهة، التي يعبدها، وقيمتها، وجدواها، من أجل إثارة الشك والريبة حولها، ولكي يعرفها على حقيقتها. ( ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) (الأنبياء: 52 ). وإذا كان هذا الخطاب القرآني، يحكي موقف إبراهيم من أبيه، وقومه، فهو يمثل واقع العرب أيضاً، وهذا دأب القرآن، حيث يحكي واقع الأمم الأخرى، لأخذ العبرة منها. والموقف نفسه وقفه الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث بدأ يسأل قومه، وعشيرته، حول آلهتهم، التي كانوا يعلقونها على الكعبة المشرفة. ويستمر القرآن في إثارة التساؤلات، حول هذه الآلهة وطبيعتها: ( قال بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون )(الأنبياء: 63 ) . سؤال منطقي يوجهه القرآن، من أجل أن يلفت العقل إلى واقع هذه الأصنام، والتي لا تعدو كونها جماداً، لا تنطق ولا تتحرك. هذا وقد خاطب القرآن العقل البشري من خلال المنفعة والمصلحة، ولذا عاب على من سبق، بسؤال استنكاري حين قال:( قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم )

( الأنبياء:66 ). وبعد هذه التساؤلات ، التي تفضح واقع الآلهة ، وطبيعتها، يقود الإنسان إلى مواجهته بحقيقة حتميبة، إذا هو استمر في غيه وضلاله ، حيث يبصره إلى أن مآله ومصيره هو النار: ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون )

( الأنبياء : 98 ) .

ويضيف الإسلام بعداً جديداً، في تركيبة العقل العربي، حيث يحدد العلاقات في هذا الكون، وأنه ـ أي الله ـ هو الذي تعود إليه جميع هذه الأشياء، وهو خالقها، ( له ما في السماوات وما في الأرض ) (البقرة :255 ) .( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ً)

(ص :27 ).( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ) ( الأنبياء :16 ) .

ثم يتناول الإنسان نفسه، ويعرفه بحقيقة خلقه، ومادته، التي خلق منها، والهدف من خلقه، وجعلـــه على الأرض:(ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طينٍ ) (المؤمنون: 12 ) . ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) ( البقرة: 21 ) .

وحيث إن الخلل الاعتقادي ، الذي يعانيه الإنسان العربي، مرده وبشكل كبير، إلى طريقة التفكير السائدة، في ذلك الوقت، والقائمة على التقليد، ولا سيما تقليد الاباء، والأجداد، دون محاولة لإعمال العقل ، وتوظيفه التوظيف السليم، والسديد، لكتشاف الحقيقة، في الكون، واكتشاف واقع الآلهة المعبودة، لذا ركز الإسلام في في الطرق على هذا الجانب ، والتأكيد على أن هذا الخلل الاعتقاد، مرده التقليد، والتقليد الأعمى، ولا غيره، ولم يأت من تفكير ، وتمحيص عقلي .(قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ) ( الأعراف:70 ).

( أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ) (هود : 87 ).

(فإنه ما من خطوة في تاريخ البشرية، حررت العقل وكرمته ووصفته في موقعه الصحيح، كهذه الخطوة: تحويل التوجه الإنساني من التعدد إلى الوحدة، ومن عبادة العباد، إلى عبادة الله وحده، ومن عشق الحجارة والأصنام والتماثيل والأوثان، إلى محبة الحق، الذي لا تلمسه الأيدي ولا تراه العيون.. ككسر للحاجز المادي، باتجاه الغيب، وتمكين للعقل من التحقق بقناعات، تعلو على معطيات الحس القريب ) (1 ) .

وإذا كانت العبودية، أياً كانت، موجهة له، تمثل سلطاناً مهيمناً على العقل، والوجدان، مما يترتب عليه تحريك المشاعر، والعواطف وتحديد نشاط العقل، ضمن حدود ومسارات معينة، فإن عبودية الإنسان لأخيه الإنسان، تمثل شكلاً ممقوتاً من قبل الإسلام. ولكي ينتشل الإنسان العربي من الحضيض الآسن، الذي يتقوقع داخله، في حدود القبيلة، والعشيرة، وماءها ومرعاها، ونفوذ شيخها، بيّن الإسلام أن الرسالة والعقيدة الجديدة، رسالة عالمية، تتخطى الحدود الضيقة، إلى أفق رحب، ومجال أوسع: ( وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً ) (سبأ: 28 ).

(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ( النساء:59 ). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا طاعة في معصية الله ، إنما الطاعة في المعروف ) (2 ).

إن سلامة الاعتقاد والتصور شرط أساس لضمان العطاء والفاعلية، وبناء مجتمع على أسس جديدة، من العدل، والإخاء، والأمان، لأن العقل البشري لا ينتج، حين يكون صاحبه في تيه وضياع اعتقادي، ( ولن يقدر عقل مهما أوتي من فطنة، أن يعمل، ويبدع، ويعطي، وهو يتخبط في التيه، ويكبل بالأغلال ) (1 ) .

الهزة العنيفة الثانية، التي أحدثها الإسلام في العقل العربي، هي في صميم العلم والمعرفة، المتواجدة لديه، وإزاء هذه القضية، من الممكن أن نطرح بعض التساؤلات، منها: ما مصدر العلم والمعرفة ؟ وما نوع وطبيعة المعرفة، التي يجب الحصول عليها؟ وكيف أثار الإسلام هذه القضية في النفوس العربية الجاهلية، والمحدودة الثقافة، في ذلك الوقت؟

لكي يحدث الإسلام هذه الآثار الذهنية، أخذ يطرق، وبشكل متكرر وقوي، على أهمية العلم، وفي الوقت نفسه، يشير إلى أدواته ومقتضياته . العلم يحتاج أن يقرأ الإنسان، وإذا قرأ يفهم، يتدبر يعي، يستوعب، ويستخلص الحكم. العلم يحتاج القلم، والكتاب ويحتاج الجهد والمثابرة، ( اقرأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الإِنسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمِ الإِنسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )(العلق:1-5 ) .

وكجزء من الإثارة العقلية الإيجابية، أو الحوافزية، والتدعيم العقلي الإيجابي، يشيد القرآن بالعلماء، وأهميتهم، وانهم لا يمكن مقارنتهم بالجهلة:( قل هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنمَا يَتًذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ )( الزمر:9 ).

(ومن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقْد أُوتِي خَيْراً كثيراً )( البقرة : 269 ).( إِنمَا يَخْشى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ )( فاطر: 28 ).

(وَالرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِه كُلٌ مِنْ عِْند رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الألَباب ِ)

( آل عمران :7 ).

وبعد هذه الإثارة العقلية، حول العلم والعلماء، والتعلم، يلزم الإشارة إلى أن العلم المطلوب ليس عبثيّاً، لا فائدة منه، ولا قيمة له، بل إن المعرفة المرتجاة، والمطلوب السعي وراءها، هي المعرفة الدالة على وجود الله وعظمته، وخلقه لهذا الكون، وتصرفه فيه، المعرفة التي تؤدي إلى اليقين، لا إلى الشك، والاضطراب العقائدي. معرفة تؤصل التوحيد والشفافية الإيمانية. كذلك يوجه الإسلام الإنسان إلى اكتساب المعرفة الشرعية، التي تبين له الحلال والحرام، تبين له العلاقة الزوجية والأسرية والاجتماعية والسياسية. معرفة تضع أسس الاقتصاد والبناء والنمو . معرفة تؤدي إلى الرفاهية والخير والسعادة. ولا شك أن رفاهية الإنسان في دنياه، تقتضي علمه ومعرفته في القوانين والسنن الكونية في الرياح، المياه، التربة، النجوم، الزراعة، الصناعة.. إلخ .

وهذه تحتاج إلى علم ومعرفة، واستقصاء لخواص وطبيعة هذه الأشياء:(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ) (القصص:77 ). وكما في حديث تأبير نخل المدينة: (أنتم أعلم بأمور دنياكم ).

إذن الإسلام لم يوصد الباب، أمام المعرفة المفيدة النافعة للإنسان، بل شجع، وحث على طلبها.( بل إن نسيج القرآن الكريم نفسه، ومعطياته المعجزة، من بدئها حتى منتهاها في مجال العقيدة، والتشريع، والسلوك، والحقائق العلمية، تمثل نسقاً من المعطيات المعرفية، كانت كفيلة بمجرد التعامل المخلص الذكي المتبصر معها، أن تهز عقل الإنسان، وأن تفجر ينابيعه، وطاقاته، وأن تخلق في تركيبه خاصية التشوق المعرفي، لكل ما يحيط به من مظاهر ووقائع ) (1 ) .

وفي محاولة لإيضاح الأصول المعرفية في الإسلام، يرى كارم غنيم: أنها ثلاثة جمعت في قوله تعالى:( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منيرٍ )

( لقمان: 20 ).

فالعلم، والهدى، والكتاب المنير، ثلاثتها هي الطريق إلى المعرفة الحقة في الإسلام، ويفسر المفسرون العلم بالعلم الضروري، علم الفطرة، والطبع والغريزة، ويفسرون الهدى بالاستدلال والنظر، الذي يهدي إلى المعرفة، والكتاب المنير بالوحي. ويبرز كارم غنيم أن أصول المعرفة في الإسلام بالوحي:

1- العلم العقلي المبني على الدليل والبرهان .

2- العلم الفطري المركوز في طبائع الناس كافة.

3- الوحي الإلهي الداعي إلى الدين والإيمان والمثل والقيم الحضارية(2 ) .

ونود التأكيد، على أن السنة النبوية المطهرة ، جزء رئيس من هذه الأصول :

( وما ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وحي يوحى ) ( النجم: 3،4 ) . كما أن المعرفة الناتجة عن الاجتهاد الفقهي، من قبل العلماء المعتبرين، يمثل رافداً من روافد المعرفة، المكونة للعقل.

وفي تناوله للنظام المعرفي، الذي يتشكل في العقل، يرى الجابري: أنه يعني جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات ، تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما ، بنيتها اللا شعورية(1 ). وعلى هذا الأساس يرى الجابري: أن هناك ثلاثة أنظمة معرفية في الثقافة العربية الإسلامية ، وهذه الأنظمة هي : النظام العرفاني، والنظام البياني ، والنظام البرهاني.

لحدوث هذا التحول العقلي الكبير، من الجهل إلى العلم ، ومن الضلالة إلى البصيرة، والهدى، ومن التخمين إلى اليقين، كان للإسلام أن يضع منهجاً سليماً، تتم من خلاله عملية التحول هذه، ويرى عماد الدين خليل: أن المنهج الإسلامي، يأخذ ثلاثة اتجاهات: هي السببية، القانون التاريخي، والمنهج الحسي التجريبي. والسببية تعني البحث في الأسباب، التي تكمن وراء الظواهر والحوادث الاجتماعية، والطبيعية، وعدم الاقتصار على النظرة السطحية البسيطة، بل لا بد من العمق والربط بين الأجزاء، والنظرة إليها ككل متكامل، إذ بدون النظرة التركيبية، لن يكون بمقدرة الإنسان معرفة الحقائق بل إن إحدى طرائق القرآن المنبثقة عبر سوره ومقاطعه من أقصاها إلى أقصاها، هي التأكيد على ضرورة اعتماد هذه الرؤية السببية للظواهر والأشياء، من أجل الوصول إلى معجزة الخلق، ووحدانية الخالق سبحانه.. إذ بدون هذه القدرة على الربط بين الأسباب والمسببات، فإن العقل المؤمن، لن يكون قادراً على التحقق بالقناعات الكافية(1 ) . ولنا في قصة إبراهيم حينما طلب رؤية الله، فرأى القمر، ثم الشمس، فأفلتا، أكبر دليل على ضرورة استعمال العقل، وعدم الاقتصار على الظواهر، كما تبدو في ظاهرها، بل لا بد من الاستقصاء والتمحيص في كل الأمور.

الاتجاه الثاني، هو القانونية التاريخية، ونعني بها: القوانين والنواميس الكونية، التي تحكم سير المجتمعات والأمم، فهي كغيرها من مخلوقات الله، لا تسير بغير هدى وفوضى ، بل إنها تسير وفق أنظمة، تحكم قوتها، وضعفها، وجودها، وفناءها،(وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) ( الحجرات: 13 ). حيث يتم التعارف من خلال الزواج، اللغة ، المصالح، المبادئ.. وغيرها .

ومن سنن الله في المجتمعات، أن تأتي أمة، وتفنى أمة أخرى ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) ( آل عمران : 140 ) . كما أن تغيير واقع المجتمعات ، لا يتم اعتباطاً، وبدون أسباب، سواء كان هذا التغيير إيجابياً أو سلبياً. إذ يتم وفق مقتضيات معينة،( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )( الرعد:11 ). وقد عرض القرآن الكريم قصص كثيرة من الأمم السابقة، مثل : عاد ، وقارون، فرعون، قوم صالح ، قوم لوط، وقوم هود .. إلخ ، ليوجه العقل للبحث في الأسباب، التي أدت إلى محق هذه الأمم وهلاكها. ولنا في تاريخنا المعاصر الكبير، من العبر الكثيرة، التي تعبر عن واقع بعض المجتمعات.

الاتجاه الثالث في المنهج الإسلامي، يقوم على الحس والتجريب، حيث إن الإنسان أمده الله، ومنحه مجموعة من الحواس القادرة على الإدراك، والملاحظة، والمتابعة، والتفاعل، مع ما يحيط بها، من ظروف ومتغيرات. مادية، واجتماعية، ونفسية. إن حواس الإنسان السمعية، البصرية، الشمية، الذوقية، اللمسية، تمكن الإنسان من إدراك المتغيرات، والتعرف عليها، وقد أكد القرآن في مواضع كثيرة، إلى ضرورة الاستفادة من هذه الحواس، من خلال إطلاقها في هذا الكون الفسيح للإدراك، ومن ثم التبصر والاعتبار.( و لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ً ) ( الإسراء: 36 ).

وفي موضع آخر يقول جل شأنه: ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت . وإلى السماء كيف رُفعت وإلى الجبال كيف نُصبت. وإلى الأرض كيف سُــطحت )(الغاشية: 17ـ 20 ).

في تحليله للعقل العربي، مقارناً بالعقل اليوناني الغربي، يرى الجابري: أن النظام المعرفي للعقل الغربي، يقوم على ثلاثة عناصر هي: الإنسان. الله ، الطبيعة. إلا أن العلاقة الرئيسة تكون بين العقل والطبيعة مع الغياب النسبي لفكرة الله، وذلك في العقل الغربي. حيث يكون دور فكرة الله، من أجل تبرير وإضفاء المصداقية على المعرفة والقوانين، التي يكتشفها العقل في الطبيعة. أما في العقل العربي: فالعلاقة بين الله والعقل، حيث إن الله يمثل مصدر المعرفة، التي يحصل عليها العقل، وهذا سيترتب عليه غياب الطبيعة(1 ).!

حسب قول الجابري .. هذا الطرح يحتوي على مغالطة كبيرة، فالأمر يحتاج إلى التفصيل في نوع المعرفة. فالمعرفة الغيبية، لاشك شك أن مصدرها هو الله سبحانه، والبشر يتلقونها من الله، وذلك من خلال الوحي والرسول. أما المعرفة الخاصة بالقوانين والسنن الكونية والطبيعية فإن الله يدعونا، وكما سبقت الإشارة، إلى التمعن، النظر، والتبصر، واستخدام الحواس، وإعمال العقل لمعرفتها، والخروج بحقائق حولها. وعليه سيكون غياب الطبيعة في النظام المعرفي الإسلامي، أمر غير وارد، وهذا خلاف ما يراه الجابري.

ترى بعد هذه الهزات العنيفة، التي أحدثها الإسلام في العقل العربي والتي تناولت ثوابت أساسية، لم يكن يخطر على بال أمرىء تغييرها، كيف سيكون عليه العقل العربي، بعد هذه التحولات ؟ وما أهم الملامح التي تميزه ؟.

إن ملامح هذا التحول تتمثل في أمور شتى، ومتعددة، ومنها على سبيل الأمثلة لا الحصر، عقلية الوحدة، ونقصد الأمة، بمفهومها الرحب والواسع، لا وحدة القبيلة فقط، وحدة المسلمين أين ما كانوا، وكيفما كانوا في ألوانهم، وألسنتهم، وأوضاعهم الاقتصادية، والاجتماعية. لا يفرقهم لون ولا جنس،ولا لسان، ولا طبقة.( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا )( آل عمران:103 ).

وينبثق عن هذه الميزة، ميزات أخرى على صعيد العقل، فيما يتعلق بأموه الاجتماعية. فالمسلمون مطالبون بالعمل الجماعي،(المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا )

( المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضواً تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ). ومن ملامح هذا العقل، عقلية الإيثار والتعاون،( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )( الحشر:9 ) .

الإسلام ثبت في عقل الإنسان العربي، دعامة مهمة وأساسية، وهي حب العمل، والحض عليه:( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون )( التوبة 105 ).

ومن الأمور التي نسفها الإسلام في تركيبة العقل العربي، التقليد والسير على ما سار عليه الآباء والأجداد، حتى ولو كان على غير هدى، ولذا عاب الإسلام على العرب، تقليدهم لآبائهم: ( وإذا قيل لهم تعالو إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون )( المائدة: 104 ).

وفي هذا الإطار يؤكد الإسلام على التثبت واليقين، ونبذ الظن كاسأس للعلم والمعرفة،

( وإنّ الظنّ لا يُغني من الحق شيئاً )( النجم:28 ) ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأٍ فتبينوا )( الحجرات:6 ) .

كما يأتي في سياق سلامة المعرفة ، استبدال الحكم القائم على الحق والنظرة الموضوعية ، بالنزعة الذاتية ، والهوى في الحكم على الأشياء،( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم )( المائدة:49 ) .

ومن الثوابت التي أكدها الإسلام وأصلها ، في عقل الإنسان المسلم الجهد الفردي، والنشاط والحيوية والذاتية، حتى لا يكون الإنسان عالة على غيره.( بل الإنسان على نفسه بصيرة )

( القيامة:14 ) .

إن مجمل هذه القواعد والمبادئ، تؤكد أن الإسلام ، أراد أن يوجد عقلاً جديداً، في منظمو ته المعرفية، وفي أسلوب وطريقة تفكيره، ومن ثم في عطائه وإبداعه. عقل يتفاعل ويستلهم، يتلقى الثقافة والحضارة، ويفهمها ويستوعبها، ومن ثم يحرك فيها ويبدع وينجز، وعليه لن يكون هناك مجال للجمود والخمول، وهذا هو بالفعل ما حدث في عقل الإنسان العربي، حين تمكن في بداية الأمر من الاستضاءة بإشراقات المعرفة الإسلامية .

ميارى 13 - 8 - 2010 12:42 AM

العقل العربي : نظرة تحليلية على الصعيد العالمي

عند الحديث عن تحليل العقل العربي على الصعيد العالمي، يلزم الإشارة إلى أن عملية التحليل هذه، لن تقوم على مقياس من مقاييس الذكاء، أو القدرات العقلية، مثل اختيار وكسلر للذكاء، أو اختيار استانفرد ـ بينه للذكاء، وغيرها من الاختبارات، التي اعتاد علماء النفس على استخدامها، من أجل تحديد مستويات الذكاء بشكل عام، أو تحديد نوع القدرات، ومستوياتها لدى فرد، أو مجموعة من الأفراد.

إن عملية التحليل هذه، ستكون من خلال الأداء العام للعقل العربي، من حيث نشاطه وفعاليته، ودوره في تكوين، وصياغة الحضارة العالمية الراهنة، وتأثيره،عليها وعلى مجرياتها. فعالية عقل الأمة، بالإمكان أن تكون آثارها ومعالمها واضحة، من خلال سيادة لغة الأمة، وانتشارها، وهيمنتها، على كل مرافق وأنشطة الحياة. فعالية عقل الأمة، تكون واضحة من خلال التأثير على الأنظمة، واللوائح، والقواعد، والأصول المعمول بها، في المنظمات والهيئات الدولية، وفي العلاقات العالمية. فعالية الأمة من خلال بناء الأخلاق والمبادئ وسيادتها، وتأثيرها على سلوك أفراد الأمة، وتعاملهم مع بعضهم بعضا. فعالية العقل، تكون من خلال الإبداع، والابتكار تقنيناً. وفعالية العقل، تكون من خلال نشاط ثقافي، وأدبي، واضح وملموس، وأخيراً، يمكن القول: إن فعالية العقل، تكون من خلال وضع لمسات مميزة، على النظام والمشروع العالمي. من خلال هذه الملامح التي ذكرناها، يمكن الحكم على فعالية العقل العربي، وذلك عند تقييمه، أو مقارنته بغيره من العقول البشرية أو الأممية.

ما يجب تأكيده في هذا المقام، هو أن الحكم على العقل العربي، لن يكون من خلال الحكم على فرد بعينه، أو أبناء بلد بعينه، ولكن من خلال الأداء العام، لمجموع الأمة، في كل قطر وفي كل مكان.

أسئلة كثيرة، قد تكون عوناً في توجيه القارىء إزاء هذه القضية. هل الأمة في مجموعها لها ما يميزها عن غيرها، في الأخلاق، والسلوك، وفي المظهر العام؟. هل الأمة في مجموعها لديها الثقة في ذاتها ، وفي حضارتها وثقافتها؟ هل الأمة تعمل بشكل جيد، في مختلف الأنشطة الحياتية؟ هل الأمة قادرة، على أن تكون نداً لغيرها، في الإنتاج والعمران؟ هل الأمة تتصرف، من موقع الشعور بالمسؤولية العالمية المنوطة بها؟ وهل الأمة تتعامل مع غيرها بكل عزة وإباء وشمم ؟.

للإجابة على هذه الأسئلة ، يلزم الإشارة إلى أن عقل النخبة في الأمة، سيكون هو المدخل الطبيعي لمعرفة واقع العقل العربي، بشكل عام، وذلك لأن عقل النخبة، يناط به في الغالب، أو يعطي الحق، في توجيه الأمة سياسياً، وثقافياً، وحضارياً، عقل النخبة ، يتمثل في رجال السياسة، رجال الإعلام المقروء ، والمسموع منه، والمرئي ،رجال الفكر، والثقافة، ورجال التربية. من خلال هؤلاء جميعاً، وما يقدمونه عبر القنوات المختلفة، تتم صياغة العقل العام، ويتم توجيهه وفق توجهات ومصالح معينة. بالقدر الذي يتمتع به هؤلاء، من حرص وإخلاص، ونزاهة، وفطنة، وبعد نظر، يكوّن العقل العام، ويتشكل. وإذا حدث خلاف ذلك، سيكُون شكل العقل، ذا طابع سلبي، وباتجاه عكسي، لما تتطلبه المرحلة وتستوجبه المسؤولية.

النفس الإنسانية بشكل عام، يغلب عليها طابع التقليد، والإقتداء، ولا سيما إذا كان المقتدى به، ذا مكانة وشأن، في مجتمعه، أو ذا قوة ونفوذ، كأن تكون دولة من الدول، لها مثل هذا الشيء، على الصعيد العالمي، فتكون بذلك قدوة ومثالاً، يحتذى من قبل الدول الأخرى.وعلى هذا الأساس، نجد أن الضعيف يقلد القوي، والصغير، يحتذي حذو الكبير، والمغلوب ينقاد وراء الغالب. العرب لا يمكن استثناؤكم من هذه القاعدة كبشر، إلا أنه يمكن تجاوز هذه القاعدة، عند توفر المنهج السليم، في التربية، والتنشئة، والإعداد والتثقيف.

( ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب، في ملبسه ، ومركبه، وسلاحه، في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله، وانظر في ذلك، الأبناء مع آبائهم، كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم، وانظر إلى كل قطر من الأقطار، كيف يغلب على أهله زي الحامية، وجند السلطان، في الأكثر، لأنهم الغالبون لهم، حتى إنه إذا كانت أمة، تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير ) (1 ).

ومع تراكم الهزائم على العرب، في العصر الحديث، بدءًا بتقسيم العالم العربي، بين الدول الاستعمارية، وانتهاءً باحتلال فلسطين، ومن ثم اغتصابها من قبل اليهود، بالإضافة إلى النكسات الاقتصادية، والسياسية، التي مني بها العالم العربي، كل هذه الأمور جعلت الإنسان العربي، مهيئاً نفسيّاً للتشرذم، والتحطم، والشعور بالدونية، والتخلف، ومن ثم الانقياد خلف قوى الاستعمار، التي جثمت على بلاده لفترة من الزمن، ليست بالقصيرة.

نتيجة لهذا الوضع، وجد مناخ، يمكن من خلاله أن يكون الإنسان العربي هدفاً، تتم صياغة عقله وفكره، بما يخدم أهداف أعدائه، ممثلين بقوى الاستعمار والاحتكار. وقد وجدت أساليب متعددة لتحقيق هذا الهدف، والأول يتمثل في إيجاد جيش من المستشرقين، هيئت له كل الظروف والإمكانيات، التي تساعد أفراده على أن يجوب العالم العربي، ويقتضي آثاره، ونفائسه، ويدرس، ويحلل شعوبه، وتقاليده. وليت هذه الدراسة والتحليل، تكون موضوعية، وتجلية للحقيقة، بل إن المستشرقين، يدسون السم في العسل، كما يقال، من خلال بث الأفكار الغربية، وتشويه الأحداث، وتعسف النصوص، بهدف زعزعة الثقة لدى الإنسان العربي، في مقوماته الحضارية، والثقافية، وقد أثمرت هذه الجهود في إيجاد أفراد متخصصين في كل أجزاء العالم العربي، من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، يجوبون الصحارى، وينزلون الأودية، ويتسلقون أعالي الجبال، بهدف أن يكون منطلق معرفة، تخدم أهدافهم التي حددوها من قبل.كما أن الجهود أثمرت عن لإيجاد المؤتمرات المتخصصة، التي تعالج، وتناقش كل ما تمكن المستشرقون من سرقته، من كنوز وآثار، ووثائق، وكتب ثمينة .

ومع الجهل المطبق، الذي كان يمر به العالم العربي، بالإضافة إلى الاستعمار، الذي أحكم قبضته، تفنن المستشرقون في تزييف، وتشويه الحقائق، بل واختلاق معرفة جديدة، وبعيدة كل البعد عن الواقع، والموضوعية، بغرض خدمة الأحكام والأهداف، التي حدودها هم ودولهم مسبقاً، وبذلك أصبحت كتب المستشرقين ، ومقالاتهم، وتحقيقاتهم، مرجعاً أساسياً، يعود إليه المثقفون العرب، بل ويعتمدون عليه كل الاعتماد، لاعتقادهم بموضوعية، ونزاهة هؤلاء المستشرقين.

وللبرهنة على الدور، الذي لعبه الاستشراق والمستشرقون في العالم العربي، والعالم الإسلامي، يكفي أن نشير إلى بعض النتائج، التي توصل إليها إدوارد سعيد، في كتابه الاستشراق، حيث يقول: ( إن الاستشراق كان في نهاية المطاف رؤية سياسية للواقع، رؤية روجت بنيتها للفرق بين المألوف: ( أوروبا، الغرب )، وبين الغريب، ( الشرق، المشرق ). وبمعنى آخر فقد طُرحت هذه الرؤية أولاً، ثم خدمت .. (1 ) حول منهج المستشرقين يقول: (وندر أن كان المستشرقون على اهتمام بشيء سوى البرهان على سلامة هذه (الحقائق ) البالية، والتي كانوا يعتقدونها مسبقاً ) (2 ).

وحول العلاقة الوثيقة بين الاستشراق، وحكومات الاستعمار، يقول:(فإن الاستشراق يمكن أن يناقش، ويحلل، بوصفه المؤسسة المشتركة، للتعامل مع الشرق، بإصدار تحليلات حوله، وإجازة الآراء فيه ، وإقرارها بوصفه وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه ) (1 ) .

وإذا كانت صياغة العقل وتشكيله، تتم من خلال قنوات، عير أساليب مختلفة، كما سبقت الإثارة، فقد أثمرت الجهود الاستشراقية ، في إيجاد، مؤسسات ، وأفراد يخدمون الفكر الاستشراقي، في العالم العربي، مما أنتج في النهاية عقلاً تابعاً، يفتقد الاستقلال والرؤية المتميزة، ( يمكن اعتبار التلاؤم المتبادل بين الطبقة المفكرة، والإمبريالية الجديدة، أحد الانتصارات الخاصة للاستشراق ، فالعالم العربي اليوم كوكب، تابع فكريّاً، وسياسياً، وثقافياً، للولايات المتحدة .. ) (2 ) .

يضاف إلى الجهد الاستشراقي ، جهود مجموعة النخبة في العالم العربي، والتي أشرنا إلى أنها تمثل الساسة والمفكرين والمثقفين العرب، والذين وقعوا في الشرك، الذي نصب لهم، إما خدمة لمصالح ذاتية وأسرية، أو حزبية، بحتة أو لغفلة وجهالة. وقد بدأت جهود هذه النخبة مع بداية البعثات العلمية، لبعض الطلاب العرب إلى أوروبا، كفرنسا، وبريطانيا، وأخيراً الولايات المتحدة الأمريكية. حيث نتج عن هذه البعثات، عودة مجموعة من الطلاب، وهم يحملون الكثير من الأفكار، والآراء الغربية، والتي درسوها، وتشبثوا بها، في مدارس الغرب وجامعاته. وبعد عودة هؤلاء أخذوا على عاتقهم عملية نشر هذه الأفكار، والآراء بين أوساط المثقفين العرب، وأصبحت تؤلف فيها الكتب، وتحتل أعمدة الصحف والمجلات، مما جعلها تحتل الساحة الثقافية، والفكرية، في العالم العربي. وترتب على هذا الوضع، أن أصبح لا يمكن اعتبار الفرد مثقفاً، إلاّ إذا تشبع، وتنّور، بهذه الأفكار، والآراء الوافدة.

لقد توغل هؤلاء الأفراد في المؤسسات العلمية، والثقافية، والإعلامية، وأصبحوا يوجهون الثقافة، والرأي العام، بما يتناسب مع معطياتهم الفكرية، والثقافية، التي اكتسبوها في الغرب. بعض النخب الحاكمة في العالم العربي، سواء كانت حزبية، عسكرية، أو عائلية، أسهمت بدورها في تجهيل الإنسان العربي، وتشكيل عقله، بما يتناسب ويخدم مصالحها، وذلك من خلال إمداده بالمعلومات المشوهة، حول عقيدته، ومن خلال عمليات غسل المخ المستمرة، والمكثفة، والتي استهدفت العقيدة، والمبادئ، والقيم، والمثل، واللغة، والأخلاق والسلوك.

لقد عبر جمال سلطان عن الوضع الذي آل إليه العقل العربي كنتيجة لجهود النخبة في العالم العربي بقوله:( إن حركة التنوير العلماني ـ بعد مجهودات أكثر من نصف قرن ـ كان جل ما حققته في المجتمع العربي، أن شطرت عقله قسمين، دونما قدرة على توجيه العقل إلى معاركه المصيرية، ضد قوى الشر والاستكبار، التي كانت تحيط به من كل جانب، ودونما قدرة على تحقيق دفع علمي، حضاري، ملموس، يغفر لها هذا التخريب في عقل الأمة، والفتنة في صفوف نخبتها المثقفة )(1 ).

ويعزو جمال سلطان السبب إلى الانطلاقة، حيث إن حركة التنوير العلمانية، انطلقت من وضعية الانبهار الحاد بأوروبا، فانكبت هذه النخبة، على دراسة التجربة الأوروبية، ليس من خلال التقنية، بالعالم العقلي لدى هذه النخبة، وهذا بالطبع على حساب الإسلام، وعالمه الثقافي، والعالم العربي الإسلامي، في واقعه وحاضره وماضيه، مما أوصل هذه النخبة إلى حالة الاغتراب، مما جعل أوروبا في عقولهم على أساس أنها المثل الكامل، الذي يجب احتذاؤه، والسير خلفه، فكمال أي فكرة، أو نقصها، يكون من خلال بعدها، أو قربها من التجربة الأوروبية(1 ) .

ماذا نتج عن هذه الجهود المكثفة والمتعددة القنوات؟ للإجابة على هذا السؤال، يلزم تحليل العقل العربي، كما يبدو من ممارساته، ونشاطه على الصعيد الدولي، في مجالات متعددة أكاديمية، لغوية، أيديولوجية، سياسية، وفكرية .

على الصعيد العقائدي الأيديولوجي، نجد أن العقل العربي، تأثر كثيراً بهذه الجهود، التي وجهت للتشكيك بعقيدته، ورسالته الإسلامية ، حتى أصبح من المثقفين العرب، من يردد، ما يردده المستشرقون، من شبهات، حول القرآن والحديث النبوي، وشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم .

ويصور أحمد غراب هذه الجهود بقوله: ( فهي تجنح دائماً إلى الحط من قدر الإسلام ، وتشويه صورته، وإصدار أحكام، وتعميمات تحقيرية عنه، بهدف تنصير المسلمين، ومحاولة ردتهم عنه، وذلك والتنظيم والإدارة والمناهج العلمية، بل من خلال المناخ الثقافي، وجذوره التاريخية، مما ترتب عليه استبدال العالم العقلي الأوروبي بوسائل عديدة منها:الدعوة إلى تطوير الإسلام ، وإلى التغريب والحداثة، وإلى العلمانية، والقومية، وإلى الحوار بين الحضارات، والتقارب بين الأديان ) (1 ) .

والمستعرض لواقع العالم العربي، يجد أنه يعج بالكثير من العقائد، والأيديولوجيات، التي وجهت علاقاته، وارتباطاته، لفترة ليست باليسيرة، مما جعل التيهان، والضياع العقائدي، سمة واضحة، حتى أصبح الإنسان العربي، يلهج تارة باسم الاشتراكية، وتارة أخرى باسم القومية، وثالثة باسم الرأسمالية، لقد فقد هويته العقائدية، ولم يعد لها وجود سوى الاسم فقط، ولكن دون المضمون والمحتوى، وأصبح نصيبه اللهث وراء السراب دون جدوى .

على الصعيد الأكاديمي أصبح العربي، ومن خلال مؤسساته الأكاديمية، مستهلكاً للنظريات الغربية والشرقية في السلوك والاجتماع، والطبيعة، والرياضيات، وفي كل علم وفن، ولم يعد له أي إسهام يذكر في مجال ابتكار، وإبداع، وتطوير النظريات، والنظم والقوانين العلمية. إن عملية الاجترار، أصبحت منظراً مألوفاً، بل ومحموداً في كثير من الأحيان، لأن الخروج عن هذه العملية، يعتبر تطرفاً، وتعصباً، بل وتحجراً، لا يقبله العلم. في علم النفس على سبيل المثال، توزع المتخصصون بين مدارسه المختلفة، فهذا تحليلي المنهج، وآخر سلوكي، وثالث شرطي، ورابع جشتلطي إلى آخر القائمة . حتى إن المنظور الغربي، أصبح هو المنظور المعهود، والمعتبر، وما سواه يصنف بأنه غير علمي، ويفتقد المنهجية. وفي علم الاجتماع، وتكون المجتمعات والعلاقات الاجتماعية، وخصائص المجتمعات، أصبح المعيار الغربي، والنظريات الغربية، هي الأساس، والإطار، الذي يحكم خلاله على تطوير المجتمع، وتخلفه، دونما اعتبار لأسس وثوابت المجتمع المراد الحكم عليه.

على الصعيد السياسي، تحول العقل العربي ممثلاً في نخبته السياسية ومن ورائها النخبة الإعلامية والمثقفة تابعاً للمعسكر الشرقي أو المعسكر الغربي،(طبعاً سقوط قبل الكتلة الشرقية ) حتى إن العرب انقسموا في ولائهم السياسي ، إلى الاتحاد السوفييتي، وكتلته الشرقية، وإلى أمريكا، والكتلة الغربية المسيحية اليهودية.

ووفق هذا التقسيم والولاء، أصبح العربي يدافع عن الاشتراكية، أكثر من دفاع أصحاب الاشتراكية أنفسهم، ويدافع عن الرأسمالية، أكثر من دفاع أهل الرأسمالية، حتى بعضهم أصبح يطبق القيم والمبادىء الاشتراكية على ذاته، وفي سلوكه، ومعاملاته ، وهذا الوضع ينطبق على من يتمثلون الرأسمالية منهجاً حياتياً ، فقد ارتسمت آثار هذا المنهج على كل تصرفاتهم ، وسلوكهم، ولكي تتم عملية التحويل العقلي هذه، كان لا بد للقوى المستفيدة، ومعها مجموعات النخبة، التي تنخدع بها الشعوب، أن تصنع مشروعاً متكاملاً، ينفذ من خلاله كل الألاعيب، والعبث بالمشاعر، والأحاسيس ، مما جعل من السهل إثارة الأحقاد، والتناقضات الإقليمية، والعشائرية، والطائفية، والقبلية، وحتى اللغوية. وذلك بهدف ترسيخ، وبناء عقل قائم على استشعار الفتنة، والحقد، والكراهية، للإخوة والأقارب والجيران(إن إخضاع الشعوب العربية للرأسمالية العالمية، يقتضي اليوم بالدرجة الأولى، إخضاع طبقاتها الشعبية المتماسكة للرأسمالية المحلية، وللبرجوازية التابعة. وهذا الإخضاع، كي يكون مطلقاً ونهائياً، لا يكتفي ـ كما كان في المرحلة السابقة ـ بالقمع السياسي، وحرمان الشعب من التنظيم، أو العمل المستقل السياسي، ولكن أيضاً وأساساً بالقمع الفكري، والتحطيم العقلي، الذي تقوم به الدعاية الدائمة الوحيدة الجانب ، واحتكار الإعلام، والنخبة المثقفة التي باعت نفسها، كما يقوم به أدب غث منحط، وفن استلابي جنسي، أو تجاري رخيص. إن ما نحن بصدد رؤيته اليوم، هو تحطيم عقلي ، بعد التحطيم المادي الاقتصادي. وهذا التحطيم هدفه نزع الجماهير من كل نظام القيم التاريخي، ومن شعورها بالكرامة والعزة، والاستقلال عن السلطة ، وحرية التفكير، واحترام الإنسان، واحترام القيم من عدالة، ومساواة، وتضامن جماعي. إنه زرع عقلية أنانية، حقيرة، منحطة، مادية، تضع كل فرد من أفراد الشعب في وجه أخيه، وتجعله عدواً له. وستكون هذه العقلية القاعدة الفكرية الضرورية، لهيمنة طبقة ونظام اجتماعي، قائم على النهب، والسرقة، والغش، والاختلاس، والأنانية، وعبادة المصلحة الفردية والمادة ) (1 ).

هذا الارتماء في أحضان القوى الكبرى، ترتب عليه إحداث عقل عاجز سياسياً، من أن يتصور حل مشاكله بنفسه، ولذا فعليه طلب العون والمساعدة من غيره لحلها، حتى إن المرء ليعجب، حين يرى تصريحات المسؤولين العرب، وهم يناشدون أمريكا أو بريطانيا أو الاتحاد السوفييتي (سابقا ) التدخل لحل المشكلة الفلانية، أو للضغط على إسرائيل، لإيقاف المستعمرات في الضفة الغربية وهكذا..

لقد ترتب على عقلية التبعية، التي أصلت لدى الإنسان العربي، اتكالية مخزية، فغيرنا يتحدث عنا وعن قضايانا، وغيرنا يفكر بالنيابة ، وغيرنا هو الذي يعيد الحقوق المسلوبة، بهذه الصورة المعكوسة، أصبح حال وواقع العقل العربي. المتتبع لقضية فلسطين على سبيل المثال، يتضح له سذاجة ، وسطحية التعامل السياسي ، من قبل النخبة السياسية، وأتباعها . إن أهم ما يميز العقل السياسي العربي إزاء هذه القضية، هو اكتسابه سمة التنازل ، وقصر النظر . رفض العرب عام 1948 قرار هيئة الأمم تقسيم فلسطين ،إلى دولتين، عربية، ويهودية، وحجة الرفض آنذاك هي تحرير فلسطين، ويستمر مسلسل التنازل عاماً، بعد عام، حتى أصبح العمل، والحديث الآن، يعمل على تهيئة العقل العربي، لقبول دولة إسرائيل الكبرى، من الفرات إلى النيل، بل إن الأمر ليتعدى ذلك، حين تتحدث صحافة الببغاء، عن أن مستقبل الحرب بين العرب وإسرائيل، سيكون على مصادر المياه، والثروات الطبيعية، من بترول وذهب .. إلخ .

نقلة عقلية خطيرة، هذا الذي يروض من خلاله العقل العربي، لا ليقر، ويقبل إسرائيل فقط، بل ليشعر بالسعادة، والغبطة والفرح، حين تكون مصادر المياه، التي يشرب منها، ثرواته الطبيعية، التي يعيش عليها، في مأمن من إسرائيل. هكذا يكون الإيحاء بضرورة قبول إسرائيل وكما يقول المثل:(اضربه بالموت يقر بالشهادة )، هذا هو الأسلوب الأمثل، لتجهيل العقل العربي سياسياً، وابتزارزه من قبل أبناء جلدته. وفق هذا البناء العقلي، تكون الخلاصة: إنه لا حاجة من محاربة إسرائيل، وليس هناك قضية ، تستدعي ذلك، ولكن الأمر يستوجب الاعتراف بأبناء العم ، وهذا ما عبر عنه مسؤول عربي كبير، حين قال: التطبيع مع إسرائيل، يعتمد على وقف بناء المستوطنات. إذن القضية في نظر نخبة التجهيل، وقنواته، ليست دولة إسرائيل، فدولة إسرائيل أمر قائم، يجب قبوله، والترحيب به، ولكن القضية في نظر هؤلاء، هي فقط عدم التوسع والامتداد . وفق عقلية التنازلات، التي حدثت، يمكن الحديث مستقبلاً عن مستعمرات يهودية، تقام في أقصى حدود المشرق العربي، أو في أقصى الحدود الغربية للعالم العربي، طالما أن العقل العربي، أصبح يستسيغ، وينظر بعين الرضا، لهذه الأطروحات، وما الذي يمنع حدوث مثل ذلك، لأن الاستعراض التاريخي، لتعامل العقل العربي، من خلال النخبة السياسية، أثبت انتهاءه إلى لا شيء، بل وإضاعة كل شيء جملةً وتفصيلاً.

غريب أمر العقل العربي ممثلاً في نخبته السياسية، والإعلامية، والمثقفة، حين يجعل الغرب قبلته، وقدرته ، ومرجعه في توجيهاته، وتوجهاته السياسية، لكن يرفض، أن يقتدي بالغرب، حين يكون الدين، أساس النظام السياسي للدولة، أو لحزب من الأحزاب، الأحزاب السياسية في أوروبا، تقوم على أساس ديني، سواء أعلن ذلك في مسماه، أو وضع ضمن برامجها، وسياستها، والأمثلة كثيرة مثل: الحزب المسيحي الديموقراطي، في ألمانيا، والحزب المسيحي الديموقراطي في إيطاليا، وغيرها كثير، في أمريكا تعلن الدولة أنها علمانية، ولكن الحقيقة خلاف ذلك، الأحزاب قائمة على مبادىء وقيم من الدين المسيحي، واليهودية، ورئيس الدولة، يقسم على الإنجيل .. إلخ، لكن لماذا يا ترى الأمر يختلف عند النخبة في العالم العربي ؟ الأحزاب لا يمكن أن تقوم على أساس عقائدي إسلامي، ويجب محاربة مثل هذا التوجه، وتشويه سمعة من ينادي به، أو يسعى له، فهو يدعو للفتنة، والتفرقة، بين البلد الواحد، لكن لا مانع من قيام حزب عقائدي، قائم على الاشتراكية، أو القومية، لأن مثل هذه الأحزاب، لو حكمت، فستكون النتيجة ضياع الأمة، ودمارها، وهذا أمر محمود في نظر هؤلاء .

لقد تميز العقل العربي من خلال النخبة السياسية، والإعلامية، بالاندفاع، وعدم التروي وإصدار الأحكام ، دون تحليل العناصر، والمتغيرات، الداخلة في تكوين الموضوع المراد الحكم عليه. فما أن يصدر تصريح بسيط، أو يحدث فعل هامشي، من قائد، أو دولة، من الدول الكبرى، حتى تبادر النخبة السياسية والإعلامية، بتناول ذلك التصريح، أو الفعل بالثناء، والتجميد، والتهليل، مما يوحي بأن مشاكل الأمة، ستحل بطرفة عين، طالما صرح ذلك المسؤول، أو فعل شيئاً ما.

الأمثلة على هذا الشيء كثيرة، فالصحافة العربية، والسياسيون العرب، يعطون التصريحات الأمريكية إزاء قضية فلسطين، أكثر مما تحتمل، ويتفاءلون بها، وهي بعيدة عن ذلك, كم رأينا من العناوين التي تقول: القرار الأمريكي، يضع إسرائيل في الزاوية الضيقة، وتصريح الرئيس الأمريكي، يجبر إسرائيل على التخلي عن سياسة الاستيطان، وأمريكا عازمة على إجبار إسرائيل على الجلوس على مائدة المفاوضات، وقبول الأرض مقابل السلام. حقّاً أصدق ما يقال في مثل هذه التصريحات أنه جهد عقلي استهلاكي، سطحي، وساذج.

مثال آخر على السطحية، برز من خلال ردود الفعل العربية الرسمية، حين تم تعيين وزير الدولة للشؤون الخارجية المصري بطرس غالي، أميناً عامّاً لهيئة الأمم المتحدة خلفاً لبير يز دي كويلار. لقد صورت ردود الفعل، تلك الأمر على أنه انتصار للعرب، وتقدم تحمد عليه الدول، التي ساهمت في فوزه، نسوا أن بطرس غالي هو أحد مهندسي اتفاقيات كامب ديفيد(1 ) .

الصديق غالي باشر مهمته بحماس، حيث دعى بعد انتصار المجاهدين الأفغان وسيطرتهم على مدينة مزار شريف إلى ضرورة عقد مؤتمر عاجل لمواجهة الأخطار التي يواجهها ذلك البلد على حد قوله. طبعاً انتصار المجاهدين يمثل خطراً، لكن احتلال بلد آخر، واغتصاب عصابة إجرام لبلد آخر، يمثل حقاً مشروعاً، تعقد من أجله الاتفاقيات في نظر الصديق غالي. كذلك نقلت عنه وسائل الإعلام ، دعوته لتضافر الجهود لمواجهة الأخطار التي يواجهها السودان، طبعاً حينما بدأت قوات الحكومة السودانية، تنتصر على متمردي جون قرنق. بالإضافة إلى تصريحه حول القرار 242 بأنه غير ملزم لإسرائيل !! ومن الأمثلة التي تكشف واقع العقل العربي، والمتميز بالسطحية، إن لم يكن العقم أحياناً، حالة التفاؤل، والترقب، المخزي، حينما تقترب مواعيد ألعوبة الانتخابات الإسرائيلية ، فهذا الفريق يمتدح حزب العمل ، وآخر كان يعلق آمالاً على سقوط بيجن، وثالث يراهن على هزيمة إسحاق شامير، ورابع يعلق آماله على الأحزاب الدينية، وهكذا تتضح معالم العقل العربي، الذي يفقد الرؤية الشمولية، القائمة على المبادىء، والمستخدمة لاستراتيجية طويلة المدى، واضحة المعالم، أما الانتخابات الأمريكية، فهي الترياق الشافي، لكل العلل والأمراض العربية، وما على العرب إلا الانتظار ليفوز الحزب الجمهوري أو الديموقراطي، أو ليكسب المرشح الفلاني، وهكذا يكون العقل العربي، طوال هذه المدة مشلول الحركة، فاقد القدرة على التفكير، والتصرف، لأن نتائج الانتخابات الأمريكية هي التي ستحسم الأمر.

وضع مأساوي، وصورة قاتمة، ونتائج وخيمة، في حين أن العقل العربي منذ عشرات السنين، وهو يتفرج على مسرحية سقوط حكومة الليكود ، لصالح حكومة العمال الإسرائيلية، أو انسحاب حزب شاس، من الائتلاف ، وهكذا يعيش العقل العربي، داخل هذه الدوامة، حتى تتهيأ ظروف إفاقته ووعيه ، واستعادته لرشده .

مجال آخر من المجالات التي يمكن من خلالها الحكم على العقل العربي، هو الحركة الفكرية الثقافية، السائدة في العالم العربي، فهذه الحركة من الممكن استخدامها كمحك ، نقيس من خلاله فعالية العقل العربي، ووعيه، بالإضافة إلى منظومته الفكرية الثقافية المتكاملة.

إن أهم ما أفرزته الحركة الفكرية، والثقافية، هو موقف العقل العربي من مجموعة من المفاهيم، مثل العلمانية، التطور، الحداثة، الحرية، الأصولية، الديمقراطية، الرأسمالية، الشعر الحر، مقابل العمودي، واللغة العربية الفصحى، مقابل العامية.. وهكذا.

لقد عمد مجموعة من المثقفين والمفكرين العرب، على اعتبار أن النهضة التي تشهدها أوروبا، تعود إلى الفصل بين الدين والدولة، لأنهم يعتقدون: أن الدين يمثل حجر عقبة في وجه التقدم والتطور. ولذا أكدوا خلال إنتاجهم الفكري، والثقافي، على ضرورة علمنة كل شيء ، حنى يتم تطور العالم العربي. وفي زعمهم أن عزل الدين، وإبعاده عن واقع الحياة، سيحول العالم العربي إلى عالم قوي، منتج، مزدهر بالمعرفة والتقنية، وند صنديد، لكل القوى المتربصة به . وقد نسي هذا الفريق، أو تناسى، أن علمانية أوروبا المزعومة، ما هي إلا أكذوبة وهرطقة (وقد ولدت الحداثة الفكرية في أوروبا، إلى حد كبير على قاعدة القيم، والمفاهيم، والمخيلة، والأهداف، والمطالب الروحية والاجتماعية، التي حددتها من قبل الثقافة المسيحية والغربية عامة، حتى إن بعض المحللين، قد وصفوا فلسفة هيجل، بأنها إعادة صياغة ، وتخريج، في ثوب حديث وعلماني، للمسيحية، وهذا يعني أخيراً، أن للثقافة تاريخاً لدى كل مجتمع، وأن من غيرالممكن حذف التاريخ، بجرة قلم، باسم عقلانية كونية قياسية، إن العقلانية هي مسألة ثقافة، لا مسألة علم، بل إن عقلانية كل جماعة ، أو بالأحرى كل حضارة، هي التي تحدد للعلم مقامه، ودوره، وحدود علمه، وآفاق تطوره ) (1 ) .

في نظر هؤلاء عندما يتم تحطيم الدين، ودوره في المجتمع، وقصره على المناسبات والمساجد، والجوامع، يكون بمقدور المجتمع العربي النهوض والتطور، وعلى هذه المعزوفة، عاش الإنسان العربي حالماً، بل ومستغرقاً في أحلامه، ولعقود طويلة، آملاً في حدوث الحركة، التي تجعله في مصاف الدول المتقدمة، علمياً، وتقنياً وقد كان حصاد هذه العقود فوضى فكرية، وتمزق، وتشرذم، وصراعات، وكيانات، لا نظير لها من حيث العدد.

إن الضياع والتيه هو سمة المرحلة الماضية، وما تزال آثارها باقية، وستظل تلاحق الأجيال القادمة.(لم ينجم التغيير الفكري عن استثمارعقيدة جديدة، ولكنه نجم عن نزع كل عقيدة، ومنظومة قيم، من الحياة الاجتماعية. وهكذا ظهرت العملية الثقافية التحديثية، كقطيعة لا كارتباط جديد، وكتجريد للإنسان من تربية، لا إعادة تربية، ونشر للجهل، لا محو لأمية. وإذا كان استثمار العقيدة الليبرالية، قد أدى إلى تحرير العقل، كمرحلة أولى في طريق بناء منظومة قيم، وتواصل ثقافية جديدة في الغرب، فإن التغيير الفكري، القائم على تحطيم العقيدة التقليدية، وتفكيك منظومة القيم القديمة، واللغة، وعلاقات التواصل والمفاهيم معاً. لم ينجب إلا الانسحاق، وفقدان التوازن والاستلاب للعرب ). (1)

مفهوم التطور، أو التحديث استنزف كثير من الجهود، من قبل المفكرين والمثقفين، حتى إن رؤيتهم للتحديث، أصبحت تعني التخلي عن كل قديم، ولو كان مفيداً، مقابل الأخذ بكل جديد، ولو كان غير ذي فائدة. التحديث في نظر هؤلاء يعني امتلاك أساليب الراحة في المنزل، والمركب، والمكتب، اكتساب أدوات التقنية، لا غير دون أن يكون هناك إطار ثقافي، يحكم ويوجه هذه العملية،حتى ولو أفضى ذلك إلى إهمال الصناعات الوطنية، والمحلية،أو حتى محاربتها، أو كسادها، وهذا هو ما حدث بالفعل. لقد أصبح لهم الهم الأكبر للناس اقتناء الصناعات الأجنبية، دون أخذ الاعتبار، بما يترتب عليها من إفساد لسلوكهم، وأذواقهم، وحتى أخلاقهم.

قد يستغرب بعضهم، كيف أن المصنوعات تفسد السلوك، والأخلاق، فهذا قد لا يكون متصوراً، ولبيان ذلك، لا بد من الإشارة، إلى أن معظم الصناعات، تكون الآثار الحضارية والثقافية واضحة البصمات عليها، فالمصنوعة تحمل رمزاً، أو معنى حضارياً، لمجتمع آخر، ودخول هذه الصناعة، لمجتمع آخر سيحدث شيئاً من الولع، والافتتان، بهذا المعنى، أو الرمز، الذي حمله هذه الصناعة أو تلك. على سبيل المثال: يباع في بعض الأسواق العربية، قمصان تحمل شارة الشذوذ الجنسي، وقمصان أخرى، تحمل شارة العروض الجنسية للذكور Play boy هل تتوقع، أن تمر مثل هذه العلاقات، دون إحداث أي أثر ؟! لا نعتقد ذلك، فالأمر سيكون واضحاً، ولا سيما عند الشباب والمراهقين، ومن هم على شاكلتهم، وحتى إن لم يحدث مثل هذا التأثر الأخلاقي، والسلوكي، فيكفي أن يتحول الأفراد، والمجتمع إلى مستهلكين للسلع، وللثقافة الأجنبية ، دونما إبداع ، أو إنتاج من قبلهم، ويكفي أن نعلم أن مشتقات البترول، لم تتمكن كثير من الدول العربية حتى الآن، من تصنيعها، وإنتاجها، وما تزال تصدر البترول كمادة خام، ثم بدورها، تقوم باستيراد مشتقات البترول من الدول التي صدرت لها البترول كمادة خام، وهذا يتم رغم قدم الدول العربية في إنتاج البترول، وتاريخها الطويل في ذلك.

أما على المستوى الاجتماعي، فإن لانتشار مفهوم الحداثة، وتوسيع نفوذه علاقة وثيقة بازدهار الطبقات الوسطى، وبشكل خاص الريفية، أو الصاعدة من أصول ريفية، أو بدوية، والتي أعطاها تعاظم الريع النفطي، دفعة قوية مكنها من استيراد الحداثة، كموضوعات استهلاك جاهزة، منعزلة عن التاريخ، وعن ثقافة، عالمية كانت، أم محلية، فهي بهذا المعنى، التعبير البسيط عن التقدم الاستهلاكي.. والتي يقف تاريخها ، وأفقها الاجتماعي، عند تحسين مستوى المعيشة، والاستزادة من الأجهزة الألكترونية والكهربائية (1 ) .

النتيجة الحتمية التي وصل إليها العقل العربي، هي تحوله إلى عقل استهلاكي، غير آبه بماذا يستهلك، وما لا يستهلك، وما يحتاج وما لا يحتاج، ولعل أكبر شاهد على ذلك، هو تلك العوائد المالية الضخمة، التي حصلت عليها الدول العربية، من جراء استنزاف كميات كبيرة من ثروتها الطبيعية، خلال السنوات الماضية، والتي صرفت على أمور استهلاكية، بحتة، كالحفلات، وأدوات الزينة، وأقواس النصر المزيف، والمأكل، والمراكب الفخمة. مما ترتب عليه إهمال كثير من المرافق الأساسية، والقطاعات الإنتاجية.

اللغة العربية، وآدابها، وفنونها، هي أيضاً من الأهداف، التي وجهت نحوها الكثير من الجهود، بغرض الإساءة لها، وتشويه صورتها، في أذهان أبنائها. إن أول ضربة وجهت لهذه اللغة هي أنها لغة جامدة، غير مرنة، لا يمكن استخدامها، كلغة علمية حديثة، حيث لا متسع، ولا مجال فيها للعلوم الحديثة، ومصطلحاتها، ومفرداتها، ففي نظر بعضهم، أن اللغة العربية، تعجز عن استيعاب العلوم، والفنون، ولذا لا يمكن الاعتماد عليها، كلغة تعليم وتدريس، وتأليف، وتوثيق، فيكفي التخاطب بها، في أمور الحياة اليومية . لقد نسي هؤلاء المخدعون،أن اللغة العربية، كانت في يوم من الأيام اللغة العالمية الأولى، بها يدرس، وبها يكتب، وبها تدون المعاهدات، والمواثيق، وبها تؤلف الكتب. اللغة العربية بمرونتها، واشتقاقاتها ، تمكن الباحثون ، والدارسون من إيجاد المصطلحات، والمفردات، لكل علم جديد ، وفن حين توفرت العزيمة، ووجدت القناعة، بقيمة اللغة ، وثرائها.

إن الحرب المعلنة على اللغة العربية، اتخذت أشكالاً عدة، فمن قائل بصعوبة اللغة العربية الفصحى، ويرى إحلال العامية مكانها، كي يسهل الحديث والكتابة. ومن قائل بضرورة كتابة العربية بأحرف لاتينية، ومن منادٍ بضرورة الاستبدال الكلي. لقد نجح أعداء اللغة العربية إلى حدِّ كبير، في إبعاد اللغة العربية عن ساحة العلم ، والمعرفة، وذلك حين يعتمد التدريس في كثير من الجامعات على اللغة الإنجليزية، أو الفرنسية، أو غيرها، بحجة أن المصطلحات العلمية، لا تتوفر في اللغة العربية، وبحجة أنه لا يوجد كتب، ومؤلفات في اللغة العربية، وما إلى ذلك من الحجج الواهية .

كثير من الدول العربية تنص في سياستها المعلنة، على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، ولكن الواقع يقول خلاف ذلك، فهذه الدول تدرس جامعاتها معظم المواد، عدا مواد الدراسات الإسلامية، واللغة العربية، في لغات غير العربية، وتتم المراسلات، وأعمال الشركات والبنوك، في لغة غير العربية، ووسائل الإعلام الرسمية، من صحافة، وإذاعة، وتلفزيون، تجدها تستخدم لغة أخرى، أو أكثر بجانب العربية، بحجة أن الأجانب الموجودين في البلد، لا بد من مخاطبتهم بلغة غير العربية .

روح انهزامية لا نظير لها. لماذا لم يقل الأمريكان، والفرنسيون، والبريطانيون، الشيء نفسه، بل قالوا، ويقولون: من أراد أن يأتي لبلادنا فليتعلم لغتنا. بقي أن نذكر أن اللغة العبرية، كانت لغة ميتة، إلى ما قبل قيام الكيان الصهيوني، ومن ثم أصبحت لغة علمية يدرس، ويؤلف ويتخاطب من خلالها.

إشكالية المصطلح:

قضية أخرى ذات أهمية قصوى وهي: إشكالية المصطلح، والدلالة، التي يحملها.

عند الحديث عن المصطلح، وإشكاليته، نشير إلي فئة النخبة، من سياسين، وإعلاميين، ومثقفين، وكيف أن كل هؤلاء يأخذون المصطلح، ويستخدمونه دون محاولة لفهمه، وفهم المقاصد الكامنة وراءه . لقد رسخ في أذهاننا الكثير من المصطلحات، دون وعي منا، وإدراك للدلالات والمعاني الحقيقية، والمضامين الشعورية، واللاشعورية ، التي تحملها، مثل هذه المصطلحات، فعلى سبيل المثال يستخدم مصطلح الشرق، كمقابل للغرب لا كمصطلح جغرافي، ولكن كمصطلح سياسي، للدلالة على تكوينات اجتماعية وثقافية، ولو تمعنا بدقة، ماذا نجد في الشرق، وماذا نجد في الغرب، من حيث التكوين الثقافي والحضاري، لا شك أن بعدنا عن ساحة العراك الثقافي، يجعلنا نأخذ المصطلحات، دون أن نبالي بدلالاتها، ومضامينها، وإلا ما الذي يمنع من أن نطرح العالم المسيحي، مقابل العالم الإسلامي. ويبرر مثل هذا الطرح أن الله صنف العالم بناء على الاختلاف العقائدي، ولم يصنفهم، وفق مواقعهم الجغرافية. يضاف إلى ذلك، أن التصنيف بناء على الإسلام والمسيحية، سيكون أكثر إثارة وحافزية، لأبناء الملة الواحدة، كي يتحدوا ويتكاتفوا ويلتفوا حول بعضهم، كما أن إطلاق مصطلح الشرق، بهذا العموم، فيه فئات أخرى غير مسلمة، تقطن شرق الكرة الأرضية، وهذا فيه إضاعة للمفهوم العقائدي .

مصطلح آخر طرحته الدوائر الغربية، وتلقفناه دون وعي وإدراك حقيقي للمغزى، الذي يكمن وراءه. كثيراً ما نسمع مصطلح قضية الشرق الأوسط، للدلالة على قضية فلسطين، لا شك أن الخبث، والذكاء، يفوح وراء المصطلح، فقضية الشرق الأوسط، قد تكون مرتبطة في الوقت الحاضر بقضية، فلسطين ولكنها مع الزمن تنفصل عنها، فقضية الشرق الأوسط فيها عمومية، قد تكون أي مشكلة من المشاكل الأخرى، التي تقع في المنطقة، أو ما حولها، ولكن قضية فلسطين فيها وضوح ومباشرة. ولذا نجد السياسيين العرب، والإعلام العربي، بدأ يحذف من قاموسه قضية فلسطين، ويستخدم بدلاً منها، مصطلح قضية الشرق الأوسط، وكما قلنا: مع الزمن تخرج قضية فلسطين من الشعور، إلى اللا شعور، ومع الوقت، تنسى في عالم اللا شعور، وتتحول إلى تافه، لا قيمة له على الإطلاق، وهذا ما يريده الأعداء، ولذا نجدهم يقولون: إنه لا يوجد أصلاً قضية اسمها قضية فلسطين، فكل الذي يوجد مسألة لاجئين. إذاً المسألة الجوهرية، وهي سرقة الأرض، والمقدسات، لا وجود لها، ولا مبرر للحديث عنها. كما أن في مصطلح الشرق الأوسط، بعداً آخر، وهو ضرب الوحدة العربية، على المستوى الذهني، وبشكل غير مباشر، فلو قلنا: قضية فلسطين، لكانت الصورة الذهنية لفلسطين، ومن حولها العالم العربي، وبكن حينما نقول: الشرق الأوسط، فهنا تفتيت للعالم العربي، وتمزيق له، بالإضافة إلى اتساع الدائرة الذهنية، خارج العالم العربي، لتشمل هذا العنصر الغريب، وهذا السرطان (إسرائيل ) دون وعي وإدراك، لمثل هذا المأزق الذهني، التربوي، السياسي، والجغرافي، والحضاري أيضاً.

النظام الدولي الجديد، مصطلح حديث، وغريب، في الوقت نفسه، قدمته الدول الغربية، وفي مقدمتها أمريكا للعالم، ولنا نحن العرب على وجه الخصوص، حرصاً منها على حقوق الإنسان والحرية، وحفاظاً منها على القيم الإنسانية الخالدة، والغريب في هذا النظام الدولي الجديد، أنه يستثني العرب من جني الثمار، المحتمل ترتبها عليه، إلا أنهم ملزمون بمراعاة النظام، وتحمل نفقات، وتبعات إجراءات فرضه. هذه فلسطين الجريحة، وأهلها الثكالى، يعانون من ظلم اليهود، والعالم الغربي لهم، ولكن النظام الدولي الجديد لا يطبق عليهم، فهم أناس خارج دائرة النظام الدولي، حيث إنه وضع في الأساس لخدمة المصالح الغربية، والأمريكية بالذات. النظام الدولي الجديد، بدأ مع أزمة الخليج، وطبق على العراق، ومن ثم على ليبيا ، وبعد أزمة الخليج حدثت أحداث جسام في حق المسلمين في بورما، وفي جمهورية البوسنة والهرسك، إلا أن قاموس النظام الدولي الجديد، لا يوجد به مصطلح المسلمين، ولا حتى يحتمل إمكانية إدخال هذا المصطلح فيه، ما يهمنا في طرح مصطلح النظام الدولي الجديد، أنه قدم لنا على صحن من سراب، وبدأنا نستخدمه كسياسيين، وإعلاميين، ومثقفين، دون أن نعي معناه، ولم نكلف أنفسنا لمعرفة مقاصده، ومضامينه. هل نخسر شيئاً لو طرحنا بعض الأسئلة قبل أن ننجرف كالإمعاة وراء كل ناعق ؟! ماذا نخسر لو سألنا : ماذا يقصد بالنظام الدولي الجديد ؟! ما أهم ملامح النظام الدولي الجديد ؟ ما الأسس والمنطلقات التي ينطلق منها النظام الدولي الجديد ؟ ما الفلسفة والأيديولوجية التي تحكم النظام الدولي الجديد، وتوجهه ؟! ما الأهداف والمقاصد التي يتوخاها النظام الدولي الجديد؟! من يشمل النظام الدولي الجديد، ومن لا يشمل من شعوب العالم ومجتمعاته ؟. من القائم على تطبيق النظام الدولي الجديد ؟. متى يمكن فرض النظام الدولي الجديد، ومتى لا يمكن تطبيقه ؟ أين موقعنا من النظام الدولي الجديد ؟ وهل كان لنا دور في تكوينه وإنشائه؟

هذه مجموعة من الأسئلة حول النظام الدولي الجديد، تكشف لنا حجم مأساة العقل العربي، ممثلاً في نخبته، والتي دأبت على تلقف الأشياء والأمور دون وعي، ودون أن يبذل جهد، يستهدف من خلاله معرفة الأمور على حقيقتها، وكشفها للأمة، دون خداع أو تلبيس. وهذا للأسف خلاف الواقع، فالواقع يقول: إن العقل العربي، كما يتعامل معه من قبل نخبته، وبما هو ذو بعد عالمي، أصبح سلة مهملات، يرمى فيها كل نفايات العالم، دون جهد للغربلة، والتنقية، كما أن العقل العربي أصبح مجال تسفيه، وسخرية للآخرين، يتندرون به وبتصرفاته.

مجمل القول حول العقل العربي بعد هذا التحليل من خلال الأمثلة التي عرضناها: أنه أشبه ما يكون في غيبوبة، ولا سيما في القضايا ذات الطابع الدولي، أو العالمي، حيث لم يعد بمقدوره معالجة أموره بالصورة الواجبة، والمرتجاة ، كما أنه لم يعد فاعلاً، بالصورة التي تؤهله، بأخذ زمام المبادرة، ومباشرة الأمور بنفسه، دون اعتماد، أو اتكاء، على غيره كي يحلوا له مشاكله.

وهذا يتأكد من خلال ضعف الدور والفعالية في تقديم مشروعه الحضاري للعالم، كما يفعل غيره، ممن هم أقل تأهيلاً وقدراً، بالإضافة إلى تقاعسه، وضعفه، وتردده، في المحافل الدولية، في تقديم أفكاره، ووجهات نظرة، والدفاع عنها، مما جعل الآخرين يتعاملون مع العقل العربي بكل جرأة، وأحياناً كثيرة بصفاقة، ووقاحة، وتحقير، لم يشهد التاريخ له مثيلاً.


الساعة الآن 11:02 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى