منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   مواضيع ثقافية عامة (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=67)
-   -   فلسفة الولاء لجوزايا رويس (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=9263)

فسحة أمل 17 - 8 - 2010 02:08 AM

فلسفة الولاء لجوزايا رويس
 
فلسفة الولاء

تأليف: جوزايا رويس

ترجمة: احمد الأنصاري

مراجعة: حسن حنفي


الناشر: المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة/القاهرة

سنة نشر الترجمة: 2002

حجم الكتاب: 211 صفحات من القطع المتوسط. الطبعة الأولى


من هو المؤلف جوزايا رويس؟


فيلسوف أمريكي معاصر، ولد عام 1855 وتوفي عام 1916، من الهيجليين الجدد، ومن ممثلي المثالية المطلقة، من أهم مؤلفاته: الجانب الديني للفلسفة نشره عام 1885، وروح الفلسفة الحديثة نشره عام 1889، والعالم والفرد نشره عام 1901، وفلسفة الولاء (الكتاب الذي بين يدينا) نشره عام 1908، ومشكلة المسيحية نشره عام 1913.


المؤلف كان أستاذا محاضرا في جامعة (هارفارد) الأمريكية، ومادة الكتاب هي مجموعة محاضرات ألقاها أمام مجموعة من الأكاديميين في جامعة هارفارد وجامعة (ألينوي) تحت عنوان (مقدمة في الأخلاق وعلاقتها باهتمامات المدرسين).


أهمية عرض الكتاب


تمر منطقتنا العربية بحالة من الجدل الفكري، والنشاط الذي يتذبذب بين التطرف المطلق والمهادنة الخانعة تجاه ما يجري على أرضها من نشاطات سياسية ليست بعيدة عن مخططات مدروسة بعناية من قبل دوائر خارجية تريد استغلال حالة التمزق الفكري والسياسي بأسرع ما يمكن من الوقت، لتثبيت واقع يصبح من الصعب التخلص منه من قبل الأجيال القادمة.


وتتأثر النخب الثقافية بولاءات مختلفة، قسم منها له علاقة بالولاء للعشيرة أو الأسرة أو الطائفة أو الدين الخ، وتنعكس حالة ترتيب أهمية الولاء المحوري على الأداء الثقافي والسياسي في المنطقة. وإن الكتاب كمادة فلسفية سوف يؤشر على ما يساعد في تفهم ما يُقرأ من وقائع وأحداث.


أقسام الكتاب:


1ـ طبيعة الولاء والحاجة إليه.

2ـ المذهب الفردي.

3ـ الولاء للولاء.

4ـ الضمير.

5ـ علاقة بعض المشكلات الأمريكية بالولاء.

6ـ التدريب على الولاء.

7ـ الولاء، الحقيقة، الواقع.

8ـ الولاء والدين.

فسحة أمل 17 - 8 - 2010 02:09 AM

1ـ طبيعة الولاء والحاجة إليه.

دعنا، قبل أن نبدأ في صلب عنوان المحاضرة، أن نحاول أن نضع تعريفا أولياً للولاء حسب ما وضعه المؤلف (( إن الولاء هو التفاني الإرادي العملي المستمر، من قِبل فرد ما، تجاه قضية معينة. يعرف منها ما ينبغي أن يكون، وما ينبغي أن يقوم به من الأفعال. والولاء ضروري، لأنه يقضي على حالة التردد والحيرة الأخلاقية، ويحقق به الفرد الخير لنفسه... فالفرد لا يستمد خيره من الخارج، ولا يعرف واجبه منه، ودائما ما يلجأ الى الداخل، لاستشارة إرادته العاقلة)).

(1)


تعرض الدين والعلم والأخلاق الى معاول النقد باستمرار، والنقد الذي يأتي للمنظومة الخلقية لا يأتيها من العصاة والمارقين الذين لا يقيمون وزنا للمثل الأخلاقية فحسب، بل يأتي هذا النقد من قِبل أشخاص يطرحون أنفسهم كحريصين مخلصين للإنسانية. ففي حين تعتبر قوانين الملكية الشخصية من المسلمات التي يجب صيانتها واحترامها ببعديها القانوني والخلقي، نجد أن هناك من يعتبرها تخلو من المسحة الأخلاقية، فقد يكون الوارثون لملكيات في الأرض أو المال أو المؤسسات قد انتقلت لهم تلك الملكيات من أناس غاصبين أو مرتشين، أي من خلال طرق لا أخلاقية، فاعتبروا أن قانون حماية الملكية ( لا أخلاقي)، وهو ما ساد في القرون التي ازدهر فيها التفكير الاشتراكي، منذ نهاية القرن الثامن عشر حتى اليوم.


كما التقى الفكر الليبرالي مع الفكر الماركسي والوجودي على أنه لا يمكن اعتبار تقديس الروابط الأسرية واعتبارها من الفضائل، بل هي روابط لا قيمة لها.


إن الهجوم الكبير الذي وجهته النشاطات الفكرية على القيم الأخلاقية القديمة، وضع تلك القيم كمطلب أساسي عند تلك النشاطات لتجاوزها واعتبارها من التقاليد القديمة البغيضة، وهي بنظر أولئك المفكرين تعتبر أخلاقا زائفة.


(2)


إن مهمة الفلاسفة الحديثين هي الوقوف والتأمل أمام هذا النشاط الذي أفرزه نشاط المهاجمين للقواعد الخلقية القديمة، هذا النشاط الذي جعل العالم مرتبكا وحائرا أمام خيارين، إما التمسك بالأخلاق القديمة على ما هي، أو مسايرة التوجه الجديد بما فيه من فوضى تجعل العالم وكأنه بلا أخلاق.


لكن، بالمقابل (والحديث للمؤلف) فإن حافظات القواعد الخلقية وجدت في الكتب السماوية التي يعاد طباعتها كل عام كما كانت عليه قبل آلاف السنين، مما يجعلها لا تواكب ضرورات التغير الحضاري بشكل يجعلها ملائمة لهذا التغير المتسارع.


لذا يقع على الفلاسفة دور كبير في استنبات القيم الأخلاقية الفعالة التي تواكب العصر، ولا يعني هنا التوجه للقطيعة الكاملة مع الماضي، بل أخذ بذور فضيلة الماضي واستزراعها في بيئة جديدة تحتاجها.


(3)


يقول المؤلف: لقد استوحى عنوان كتابه (فلسفة الولاء) من قراءة كتاب كتبه عالم الأجناس (رودلف شتاين متز) بعنوان (فلسفة الحرب)، فوجد علاقة كبيرة بين إرادة الحرب و (الولاء)، ويضيف أنه لولا الولاء الشديد لاختفت الحروب، وأن الحرب توفر فرصة هامة ونادرة لتجديد الولاء.


ويحاول الكاتب الرد على من يعتبرون أن الولاء والانجرار وراء الحروب يعتبر نوعا من الضلال والضياع، فيقول: يكمن هذا النوع من الانحراف بالولاء الى تهدم القيم الأخلاقية السائدة التي تجعل من الحروب بحد ذاتها هدفا دون أن تكون من أجل الدفاع عن سيادة القيم الخلقية.


(4)


يحس المؤلف أنه أصبح غير مقنعٍ، فيعود الى تحديد مفهوم الولاء لدى الفرد، فيقول: يتصف الفرد بالولاء، أولا، إذا كان لديه القضية التي يتجه بولائه لها. وثانيا: عندما يهب نفسه لخدمتها طواعية. وثالثا: عندما يعبر عن هذا الإخلاص والتفاني للقضية، بطريقة عملية مقبولة، وبخدمة متواصلة وفعالة دائمة. ويضرب أمثلة على هذا النوع من الولاء، إخلاص المواطن لوطنه، واستعداده للتضحية بحياته من أجله. وإخلاص المؤمن لدينه. وتفاني قائد السفينة في تأدية وظيفته، إذا ما واجهت السفينة كارثة، لا يغادرها إلا بعد بذل قصارى جهده.


ويشير الكاتب الى الصفة الأولى بالولاء، وهي أن يكون للفرد قضية، فيقول: لم يحدد أن تكون تلك القضية خيرة أو شريرة، فهذا ليس مجال حديثه الآن.


(5)


يشعر كثير من الناس أنهم بحاجة للولاء، وأن الولاء مصدر خير لهم. ولكن إذا تساءلنا: لماذا يحتاج فرد ما للولاء؟ سيلاقي من يتلقى مثل هذا السؤال صعوبة كبيرة في الإجابة الفورية عليه. ويصمت ويضع بعض الخيارات: أنه ربما يحس أن الوطن أو الجماعة بحاجة إليه فلا بد من الولاء للوطن أو الجماعة! أو أن الوطن أو الجماعة لهم فضل عليه فلا بد له من تسديد هذا الدين الأخلاقي!


يقول الكاتب: أنه لن يجيب بوضوح عن دوافع الفرد للولاء لغيره في الوقت الحاضر، لكنه يكتفي بالقول بأن الفرد المحتاج للولاء يظن أن في ذلك خيرا له.


(6)


ما الذي نحيا من أجله؟ ما هو واجبنا؟ ما هو المثل الأعلى الحق للحياة؟ ما هو الفرق الحقيقي بين الصواب والخطأ؟ وما هو الخير الحق الذي نسعى إليه جميعا؟


سلسلة من الأسئلة طرحها الكاتب، وانتهى الى القول في إجاباتها التفصيلية أن تلك الإجابات تحددها قوى خارجة عن إرادة ذات الفرد، فتأتي من الأب والأم والمدرسة ومن دور العبادة، وستكون إجابة الفرد متأثرة بما أرادته القوى الخارجية، وينتهي الى القول بأن الله عز وجل هو مصدر الحقيقة المطلقة، وبقدر ما ينصاع الفرد لإرادة الله بقدر ما تكون نظرته حول الإجابة على تلك التساؤلات، وهنا يكون دور فهم المدرس لما فهمه أصلا من تلك الإجابات وفهم الأم والأب وكل سلطة خارجية لتلك الحقائق والقيم.


(7)


وهكذا، سنجد أنفسنا أمام موقف يتصف بالتناقض الظاهري ويمثل الموقف الأخلاقي لكل منا. فإذا أردت معرفة واجبي، لا بد أن أستشير إرادتي العاقلة. فأنا وحدي القادر أن أبين لنفسي لماذا أعتبر هذا أو ذاك واجبا لي.


وطبعا، بتنوع مصادر التأثير الخارجي للأفراد، وبقدر ما يتلقى الفرد من تلك المؤثرات وما يؤمن بها يصبح الولاء متفاوتا بين الأفراد حسب تفاوت فهمهم وإيمانهم بما تلقوه من تلك المؤثرات، فيصبح شخص ما بطلا، ويكون شخص ما خائنا.


(8)


في حالة إذعان الكائن الاجتماعي لمجتمعه وقيمه، فإن مهارات اجتماعية كثيرة سيكتسبها طوعيا مثل فن الحديث والمبارزة والقتال والتغلب على الآخرين في الحوار ومحاولاته المستمرة في توكيد ذاته المتفوقة (أو التي يريدها أن تتفوق على الآخرين). ويكون هنا فردا منضبطا اجتماعيا وبعيدا عن الفوضوية وعدم المبالاة.


وتعمل النكبات والحروب وأجواء التنمية عمل المحفز الكبير لاصطفاف الموالين حول قضية ما. وتخلق تلك الظروف جوا عاطفيا يعزز حب التوجه للولاء والتسابق في ترتيب درجة هذا الولاء للأفراد بالمجتمع.

فسحة أمل 17 - 8 - 2010 02:10 AM

2ـ المذهب الفردي.

يقول المؤلف: لقد صرحت بأن الولاء، أمرٌ خيرٌ للفرد، سواء كانت القضية جديرة أو غير جديرة بولائه، تماما مثل الحب، يظل المحب وفيا لمن يحب، بصرف النظر عن استحقاق محبوبه لهذا الحب أم لا.


ويضيف المؤلف: أن لكل فلسفة معترضين، وعلى الفيلسوف الانتباه لتلك الاعتراضات ولا يهملها، لأنه في الانتباه لها تكتمل وجهة نظره الفلسفية تجاه قضية ما.


لقد ذكر المؤلف حالة لاعتراض شاب روسي متحمس من أبناء المهاجرين الى الولايات المتحدة، عندما وجه للمؤلف سؤالا قال فيه: ( لقد كان الولاء في الماضي، من أهم نقاط ضعف الإنسانية، ومن أسباب الكوارث التي أصابتها. فلقد استغل الطغاة الولاء للسيطرة والتحكم في الآخرين. ثم أضاف الشاب: لقد سعدت ببعدنا عن صور الولاء وقضاياه. فما نريده لمستقبلنا هو التدريب على الحكم الفردي نريد الاستقلال والثقافة، ولا حاجة لنا بالولاء).


لقد اعتمد المؤلف، وقفة الشاب وتساؤله، قاعدة لأساس محاضرته ـ التي نحن في صددها ـ واعتبر استياء الشاب ابن المهاجر الروسي من الولاء، شكلاً آخرا من الولاء لقضية ربما لم يستطع التعبير عنها بشكل جيد.


إن الشاب يحتج على الولاء بصفته سلوكا يشبه سلوك العبيد يتسم بالاستسلام والطاعة العمياء لقائد يستثمر فكرة الولاء لصالحه. إذن فالشاب قد أعلن ولاءه لمعسكر الرافضين للخنوع لمراكز تتصرف بهم كعبيد.


(1)


يشير المؤلف الى حديث له مع أستاذ تربوي يشرف على مؤسسة تربوية كبرى، يطالبه ذلك الأستاذ أنه إذا التقى (المؤلف) بطلاب تلك المؤسسة أن يخبرهم بأن انتسابهم الى جمعيات سرية لا يعطيهم الحق بأعمال الشغب بدافع الولاء لتلك الجمعيات!. ثم صديقه التربوي: (بأن الولاء في مجتمعنا، عبارة عن عباءة، نغطي بها كثيراً من الرذائل. وأن ما يحتاجه هؤلاء الشباب، هو معرفة، أن لكل فرد واجبه الخاص، ولا بد من تنمية ضميره والإنصات لصوته، ولا ينبغي أن يعتبر الولاء سبباً يعفيه من المسئولية الفردية).


ويتابع المؤلف بذكر المثال تلو المثال، ليبين مسألة جوهر الاختلاف بين الولاء والتمتع بالحرية الفردية، فيذكر حالات المطالبة بتحرير المرأة في الغرب، وكيفية وصف تلك الدعوات بالتخلص من القيود التي تضفي صبغة مجتمعية عامة يراد من الثورة عليها تشتيت الولاء لها.


(2)


يعلن المؤلف إعجابه الشديد في حالة الولاء في اليابان التي أدت الى انتصار اليابان على الصين. وقد كتب البعض عن حالة الولاء في اليابان والعقيدة الأخلاقية (للبوشيدو) والتي أطلق عليها الكاتب (نتوبي) اسم (روح اليابان).


لم يفقد الياباني شعوره بالاعتداد الذاتي على الإطلاق. ولم يقبل الطغيان أبداً. وبالرغم من طاعته لرؤسائه، فإنه يشعر بالفخر لخدمتهم، ودائما ما كان يستغل تدريبه الراقي لتطبيق الميثاق المعقد للشرف، الذي تربى عليه تجاه مواطنته.


إن الولاء الياباني ليس مجرد أداة في يد الطغاة (رد على الشاب الروسي)، فلقد أدى الولاء الياباني الى تحقيق نوع من الوحدة لروح الأمة، والتي بالتالي تعطي اعتزازا لأبنائها.


(3)


في المذهب الفردي الأخلاقي، يرى المؤمن بهذا اللون من الفلسفة نفسه مركزا للعالم بدوائره الضيقة من أسرة أو جماعة أو حتى كون، فيتراءى له أنه مركز العالم وهذا الكون بفضائه وسماءه دوائر هائلة الاتساع تأخذ بعدها من الفرد نفسه كمركزٍ لها.


فكما يكون سكان سيبيريا أو أستراليا بعيدين (بالنسبة للفرد المتكلم أو المتأمل) فإن فضيلة عمل أو مردوده تكون أهميتها بالنسبة للفرد بالقدر الذي يتلقى الفرد نصيبا منه. فهذا مهم وهذا قليل الأهمية بالنسبة للفرد ومدى علاقته بتلك الأهمية.


(4)


هناك من يقول: إن هذا الأمر به (الخير) عندما يحقق له هذا الخير جانبا من السعادة، ولكن عندما لن يحقق له ذلك الجانب من السعادة، لا يعود يعنيه إن كان بالأمر (خير) أم لا.


يقول المؤلف: لو فكر أولئك المتبنون لتلك الفلسفة، أن انهماكهم بالبحث عن تلك السعادة لن يحقق لهم تلك السعادة، ولكنهم لو تسامحوا وعملوا من أجل تحقيق السعادة للآخرين سيشعرون بالسعادة الحقيقية.


إن الرغبة في امتلاك القوة الفردية (مال، صحة، عزوة) لا تشبع أبدا في صفة نهائية، وعندما يكون البحث عن امتلاكها محالا، فإنها تصبح عاملا من عوامل التعاسة للفرد.


يختم المؤلف محاضرته


لا يعني دفاعي عن الولاء بمعنى التفاني من قِبل ذات معينة لقضية معينة، أن أطالبك أو أفرض عليك الوفاء لقضية ما، فأنت إنسان مستقل في حكمك وقرارك الأخلاقي. وتستطيع أن ترفض الولاء كلية، إن كان ذلك مرادك. ولكن ما أود قوله، إنك إذا كان هذا موقفك، وإذا رفضت كلية تكريس حياتك لأي قضية، فإن قرارك بالاستقلال الخلقي، يظل قرارا فارغا.

فسحة أمل 17 - 8 - 2010 02:11 AM

الولاء للولاء

(1)


يستهل المؤلف قصة يعترف أنه يكررها أمام مستمعيه وطلابه في محاضراته، تدلل على موضوع الولاء للولاء. ويذكر أن تلك القصة لم تأخذ نصيبها في الدراسات الأخلاقية عبر التاريخ.


تقول القصة: أن الملك الإنجليزي شارل الأول أراد أن يعتقل بعض قيادات الأحزاب ـ الأعضاء في البرلمان الإنجليزي ـ عام 1642، فأرسل رئيس الحرس الخاص ليبلغ رئيس البرلمان بتلك الرغبة وطلب منه تنفيذها، كونه دستوريا هو المسئول عن هؤلاء الأعضاء. رفض رئيس البرلمان تنفيذ أوامر الملك كونه منتخبا ومفوضا من قبل البرلمان نفسه.


في اليوم الثاني حضر الملك مع حراسه الى مجلس البرلمان، ودخل وحده بعد أن أمرهم المكوث في الخارج، وخاطب رئيس البرلمان: السيد رئيس البرلمان، هل تلمح فلانا وفلانا (وعدد أسماءهم) لماذا لم تنفذ الأمر وتعتقلهم؟


أحس رئيس المجلس بالحرج الشديد فركع أمام الملك وقال: جلالة الملك أنا رئيس هذا المجلس ولذلك لا أرى ولا أتحدث إلا بما يأمر به المجلس، وأرجو وألتمس العفو من جلالتكم فتلك هي الإجابة الوحيدة المتاحة أمامي.


لقد شعر الملك بالانزعاج، ولكنه بنفس شعر أنه أمام حالة من تقاليد الشرف والنبل تفوق انزعاجه على هيبة جلالته.


تعليق:


أرى أن هذه الصورة من الولاء للولاء والمتعلقة بما يسمى (الشرف)، موجودة في مجتمعاتنا، فقبل أكثر من نصف قرن، دخل قاتل على شيخ أخذ صفته المعنوية ممن حوله من الأهالي واعترف الحكم (في ظل الاحتلال الفرنسي) بتلك الرئاسة الاجتماعية لذلك الشيخ، كما بارك الحاكم بعد زوال الاحتلال رئاسة ذلك الشيخ على منطقته. ورغم اعتراف القاتل بجريمته التي اقترفها بحق أحد الأهالي، فلم يسلم الشيخ القاتل للسلطات الحكومية، ولكنه احتفظ به.


دخل رجل من أهل المقتول خلسة الى منزل الشيخ فقتل القاتل، فما كان من الشيخ إلا أن قتل ذلك الرجل، وأتى الى قوم ليدخل في حمايتهم، وعندما ذكر لهم القصة، فقالوا له: يا شيخ قاتل وتم قتله على يد أقارب المقتول، فلماذا تعقد الأمور وتقتل من قتله؟ هنا صاح الشيخ قائلا عبارة لا زال أهل المنطقة يرددونها : (هنيئا لك يا من لا شرف لك!) .. إنه رجح الولاء للولاء، رغم اعتراف القاتل بجرمه، ولكنها الأعراف التي احتكم لها الشيخ.


(2)


تتعدد ولاءات الفرد في كل مكان، فهو يكن الولاء لأسرته وعشيرته ومهنته وأصحابه ووطنه ودينه وطائفته ومصلحته الاقتصادية الخ، وأسوأ ما يمر بالفرد عندما تتنازع أطراف ولاءه، فإن كان شريكه من طائفة دينية مختلفة، ويدب الصراع بين طائفتين، ستتمزق مشاعر الفرد في تحقيق الخير بولائه لكل من شريكه وأهل طائفته، وعندما تتساوى درجتا الولاء لدى الفرد، فلا يهتم بحجم الألم الذي يتعرض له أو الخسارة التي قد يتعرض لها نتيجة الصراع بين محوري الولاء، بقدر ما يتعرض له الولاء نفسه من خطر.


لنقرب ذلك بمثال قريب، في العدوان على غزة وحصارها كانت المعاناة شديدة في تأمين المواد الغذائية أو الماء أو فقدان أحد أفراد الأسرة، أو فقدان أحد أعضاء الجسم (باكتساب عاهة دائمة)، لكن تلك المعاناة لا تساوي شيئا أمام معاناة العيش في تهمة الخيانة. [ صراع بين الولاء لتأمين الراحة الفردية والأسرية مع الولاء لفكرة شرف الانتماء للوطن والرغبة القوية في الاستشهاد].


(3)


لا يقتصر الولاء على النبلاء والفرسان وأصحاب المبادئ والمفكرين والعقائديين، وإنما قد نصدفه عند أشخاص لا يفكرون بشهرة ولا يفكرون بجمع المال ولكنهم يفتخرون أنهم يتحركون لتحقيق الخير للآخرين، فقد نرى أمثالهم بين جامعي القمامة، أو الخبازين الذين لا يترددون في صنع الخبز حتى في العطلات الرسمية لعموم المواطنين، أو نجده عن سعاة البريد الذين يبذلون قصارى جهدهم لإيصال ما يحملون لأصحابه، أو نراه عند فتيان في مقتبل أعمارهم يتطوعون للاستشهاد في سبيل ما يؤمنون به من عقيدة.


لقد حسم كل هؤلاء أمورهم، عندما قدموا ولاءهم لما يؤمنون به على أنه خير للآخرين على كل شيء.


(4)


قد يعجز المصلحون الاجتماعيون، الذين يبشرون بالفضيلة على نشرها وتدعيمها بصورة عامة ظاهرة للناس، وذلك لأمرين: الأول قدرتهم المحدودة في الوصول لكل الناس، وضعف تأثيرهم، والثاني صعوبة وتعقيد الطبيعة الإنسانية، التي يحاولون إصلاحها أو تربيتها.


في حين يستطيع الإنسان الفرد، بالرغم من قدراته المحدودة، أن يخدم قضية الولاء بتركيز وتوجيه كل أفعاله الى الأفراد المحيطين به أو الدائرة الشخصية الخاصة به، وذلك من خلال وحي نفسه الذي هو بالحقيقة غير منفصل عن الفضاء المحيط به.


يقول الكاتب في هذا الخصوص: إذن لكي أحيا حياة الولاء للولاء، لا بد أن أختار أولاً، أنماط سلوك الولاء التي تتفق مع طبيعتي وتنبعث منها. ويعني ذلك أني في جانب من جوانب حياتي، سوف أحذو حذو الجاهل بالولاء. فأخدم القضايا التي يميل إليها مزاجي الطبيعي، وأختار الأصدقاء الذين أميل إليهم، وأخدم أسرتي ومجتمعي ودولتي، لأن ولائي لهم يشبع اهتمامي ومصلحتي.


وخدمة للولاء نفسه، قد يستغني عن ولاء عرضي اكتشف أنه يضر مصلحة الولاء الرئيسي، فيقول لقضية: " عزيزتي لا أستطيع حبك حباً شديدً فحبك لن يزيدني شرفاً*1


يذكر المؤلف أنماطا من مثل تقديم الولاء للولاء على غيره من المصالح، فيذكر قصة أحدهم كان يعمل مع شريك أكبر فطلب منه الشريك أن ينفذ خطة تدر عليهما ربحا كبيرا من المال، لكن فيها غش للناس، فبلغ عنه الدوائر الحكومية مفضلا عيشه بشرف الولاء للولاء على الاغتناء بطرق غير فاضلة.


يخلص الكاتب الى أن الولاء للولاء هو أساس كل قوانين الدول، ولكنه بالوقت نفسه هو أساس لكل أنواع الفضيلة بين الناس ليتعاملوا بإحسان فيما بينهم.


*1ـ اقتبسها المؤلف من قصيدة للشاعر (ريتشارد لوفلاس 1618ـ1658)

فسحة أمل 17 - 8 - 2010 02:12 AM

المحاضرة الرابعة

الضمير

يحاول المؤلف في بداية محاضرته هذه، التذكير بأن الهدف الرئيسي من تلك المحاضرات، هو تبسيط مفهومي الخير والواجب. يضع هذا الفيلسوف (ثنائيات) نواجهها يوميا في حياتنا الوجدانية، تكون ثنائياتها محيرة، وقد تكون متناقضة في نفس الوقت.


(1)

مصادر الأخلاق التقليدية عند البشر، مصادرها متعددة، منها: ما هو آتٍ من الديانات، ومنها ما هو آت من تراكم تراث أمة، من خلال قيمها وأعرافها وأمثالها وحِكَمِها. وليس بالضرورة أن تكون تلك المصادر متوافقة عند كل الأمم بقومياتها ودياناتها ومذاهبها، بل قد نجد أن أخلاق شعب يدين بديانة معينة تفرض عليه السلوك غير الودود وغير الأخلاقي تجاه شعب معين.


وقد نجد في تراث شعب وقيمه ما هو متناقض فيما بين عناصر ذلك التراث. (كن عادلا، ورحيما في نفس الوقت!) و (كن كريما، ولكن لا تنس حقوقك!) و (عِش من أجل الآخرين، ولكن حافظ على كرامتك وابحث عن حقوقك!) و (كن محبا للإنسانية ولكن لا تقبل الإهانة، ومستعدا لمحاربة أعداء وطنك!) و (لا تفكر في الغد كثيرا، ولكن عليك بالادخار للمستقبل!) و (اعتنِ بمصلحتك لأقصى درجة، ولكن كن مستعدا للتضحية بها!) و (أنكر ذاتك، ولكن لا تصل الى المرحلة التي يذكرك الآخرون بأنك نسيت نفسك!) و (كن معتدلا في كل شيء، ولكن لا اعتدال في الدفاع عن الحق!).


يحاول المؤلف تقديم تفسير (تصالحي) لتلك التناقضات، فيعيدها الى تقدير الفرد وفهمه لموضوع (الولاء للولاء). ويضرب بعض الأمثلة: فيقول في حالة توجيه شخص مهموم أو مخطئ، فإن الموجه قد يقدم نصائح أخلاقية (لا يلتزم بها هو شخصيا)، ولكن بمجرد أن تقفز تلك النصائح الأخلاقية فإنه يعني أن سيادتها على توجيه دفة الأخلاق لا يزال يعمل بشكل جيد.


ثم يضرب مثلا آخرا: أنه في حالة تقديم المساعدة لشخص ما لتحقيق السعادة له، فهي في شكلها المجرد تصنف مع الأعمال الخيرية الموجهة لخدمة الآخرين، لكنها من زاوية أخرى فهي تشجع هؤلاء على الكسل والكف عن البحث والاجتهاد في الخلاص مما هم فيه بجهودهم الذاتية. لكن، في حالة الامتناع عن تقديم مثل تلك المساعدة فإن الآخرين سيبحثون عنها عند طرف ثالث، بعد أن يكون الطرف الممتنع عن تقديم المساعدة قد تم تصنيفه مع البخلاء أو الأنانيين.


يدعو هنا، على تقديم المساعدة مع الارتقاء بالطرف الذي قُدمت له المساعدة لينهض بذاته قارنا تلك المساعدة بالقدر الذي يتقدم فيه نحو الولاء للمثل العليا.


هو هنا يخاطب فاعل الخير والملتزم بالولاء للولاء، فيقول: إذا كنت تحت إمرة قائد يفترض أنه نذر نفسه لخدمة الوطن (الولاء للوطن) واكتشفت أن هذا القائد خائنا للوطن، فعليك أن تمتنع أن تكون مواليا لذلك القائد، ولكن لا تمتنع عن إعلان ولائك للوطن وتمسكك بذلك الولاء.


(2)

يعود الكاتب لتفكيك التناقضات. مثلا: عندما يقال (كن عادلا وكن رحيما) بنفس الوقت، فهو خضوع لمبدأين خيرين العدل والرحمة. وعندما يُطالب الفرد بالاعتناء بذاته وفي نفس الوقت يُطالب في التضحية بنفسه فداء للآخرين، فعليه أن يعتني بنفسه جيدا، ولكن لتتوقف تلك العناية بالنفس عندما يتم تهديد الوطن وتكرس الجهود لحماية الوطن الذي يتفوق على النفس بمسألة الولاء. وهكذا تنبع معالم الضمير الذي ينشده الفيلسوف (جوزايا رويس).


(3)

يجتهد الفيلسوف في إيجاد علاقة عضوية بين (الولاء للولاء) وما يسمى ب(الضمير)، حيث يعتبر مسألة الضمير من المسائل المعقدة والصعبة والتي لم يهتد علماء الاجتماع والفلاسفة على تعريف واحد يتفقون عليه للضمير.


ما هو الضمير؟ قد نتفق جميعا على أن الكلمة تعني ملكة عقلية لدينا، تمكننا من إصدار أحكام صحيحة أو خاطئة، تجاه المسائل الأخلاقية التي تواجهنا. إذن فإن ضميري ينتمي الى عقلي، ويرشدني عن الصواب والخطأ في السلوك، كذلك قد يوافق على سلوكي بالرضا أو بالتأنيب [ضميري مرتاح، ضميري يؤنبني].


(4)

من الواضح أننا نتفق جميعا بالنسبة للطبيعة العامة للضمير ووظائفه، ولكن الاختلافات تبدأ بيننا، إذا طرحنا الأسئلة التالية: هل الضمير فطري؟ هل يُكتسب من التدريب؟ هل أوامره واحدة لكل الناس؟ أَيُعَدُ هِبة إلهية؟ أهو معصوم من الخطأ؟ أَيُعَدُ قوةُ منفصلة عن العقل؟ أم أنه ببساطة عبارة عن مجموعة من الأحكام الأخلاقية التي اكتسبناها من التدريب الاجتماعي، ومن التفكير، ومن الخبرة الشخصية بنتائج السلوك؟


قبل أن يجيب الفرد على تساؤله عن (ما هو الضمير؟) يتساءل عن من هو؟ وإن أراد الإجابة بشكل مفصل سيقول: أنا فلان الذي يعمل بالمجال الفلاني ويدعو لتحقيق الأهداف الفلانية، والذي يعارض الذين يعملون كذا الخ. أي أن يحدد في إجابته الأهداف التي يعيش من أجلها. فإن لم يكن له أهداف سيكون (نفساً) (كائنا) يعيش بدون شخصية ولن يكون بحاجة الى ولاء أو بحاجة الى ضمير.


(5)

إذن، سيكون بين الذات والضمير علاقة قوية، ولن تكتمل تلك العلاقة إلا بوجود الولاء للولاء. يضرب الكاتب مثلا: أنه إذا كانت وظيفة الفرد (قاضيا) وكان أمام قضية، ووجد نفسه أمام حالة انحياز لأحد طرفي القضية، فإنه سيستحضر مثله الأعلى الذي يطالبه بالتزام الحيادية المؤدية للعدل.


وهنا، يكون المثل الأعلى حاضرا، في التراث والآداب والقصص الشعبية، وسيقوم بدور المرشد لتوجيه الضمير.


(6)

من الحالات التي تعتبر معقدة في امتحان الضمير، هي تداخل الولاءات، مثلا تكون هناك امرأة شابة ناجحة في عملها التمريضي، وتقدم خدمات هائلة للمجتمع ويدر عليها العمل ربحا طيبا، وإن استمرت به تطور وضعها المالي والوظيفي. ولكن تحدث وفاة لأحد معيلي أسرتها، ولا بد من وجودها قرب الأطفال الصغار، فستكون أمام خيارات صعبة يمتحن فيها ضميرها.


هذه المسألة لا يُشترط فيها أن يكون صاحب الضمير الآمر، متعلما، أو مثقفا أو اطلع أصلا على موضوع الضمير وعلوم الاجتماع، فقد يتطوع فتى رأى والده يقترب من العجز لأن يترك الدراسة مبكرا ليؤمن تدريس أخوته الآخرين الذين يصغرونه في العمر. فولاءه لأسرته ولرسالة استشعرها خلق عنده ضميرا لم يوجهه عليه أحد. ( سيناقش المؤلف مسألة الضمير والدين في محاضرة أخرى).

فسحة أمل 17 - 8 - 2010 02:13 AM

المحاضرة الخامسة

بعض المشكلات الأمريكية وعلاقتها بالولاء

يقول المؤلف: عند عرض فلسفة الولاء في المحاضرات السابقة، حاولت التوفيق بين مفهوم الولاء، والفردية الأخلاقية العاقلة. لقد قلت لكل فيلسوف من أنصار النزعة الفردية في الأخلاق، إن الولاء هو الشيء الوحيد، الذي يحقق كل الأهداف والغايات العاقلة لمذهبك الفردي. فإن كنت تبغي وتسعى للحرية الحقة، ابحث عنها في الولاء. وإن كنت تسعى للتعبير الذاتي والروحانية، والاستقلال في الحكم الخلقي، فالولاء وحده القادر على تحقيق هذه الأشياء الخيرة.


(1)

افتتح المؤلف محاضرته بذلك الكلام، كونه قد واجه انتقادات شديدة حول مفهوم الولاء وأثره في تقييد حرية الفرد.


وقد جاء في تأكيده على أن الولاء للولاء هو ليس مقيدا للحرية إذا تذكرنا أن قانون الولاء الخلقي، كما يلي: (1) يجب عليك الولاء. (2) ولكي تحقق ذلك، عليك اختيار قضية معينة، أو نسق من القضايا، تجعل منها موضوعا خاصا لولائك، ويحدد مهمتك في الحياة. (3) ابدأ اختيار قضيتك الخاصة، بطريقة حاسمة، ثم عليك أن تظل محافظا عليها، ومخلصا لها. (4) والمبدأ العام للولاء، الذي تخضع له كل الاختيارات الخاصة للقضايا، يقول: " عليك أن تكون على ولاء للولاء".


ويقول (بما معناه) يستطيع الناس المهتمون بمعرفة ولاء شخص لقضية ما، عندما يستعرضون سلوكه في القول والعمل ومدى تطابق ذلك السلوك على ما نذر نفسه له.


(2)

يتطرق المؤلف لمسألة تواجه الأمريكيين، وهي كيف يمكن المحافظة على الولاء في ظل التعقيدات المحيطة بالوضع الأمريكي، هجرات واسعة من شعوب مختلفة يتوزع ولاء القادمين فيها الى ولاء لدولهم الأصلية بمعتقداتها وأحلامها وذكرياتها وبين ولائهم لأمريكا بتوسعها وتغير نظامها الاجتماعي المستمر.


ويذكر جانبين من المخاطر التي تتعلق بالولاء في أمريكا: الأول: أن الولاء ليس منتشرا بصورة كافية وواضحة بين المثل العليا الاجتماعية في أمريكا. فدائما ما يُترك لضمائر الناس، وسرائرهم الغامضة. فلا يتم توضيحه أو التأكيد عليه بصورة كافية. ويتجاهله الأدب الشعبي، أو في أفضل الحالات يُساء عرضه.


والثاني: يكمن في واقعة أنه، عندما يتم مدح الولاء والتأكيد على قيمته وأهميته، نادرا ما يتم فهم الولاء بمعنى الولاء للولاء الكلي، بل يُفهم على أنه أفضل من اللا ولاء! فالولاء الحقيقي هو الذي لا ينظر الى الآخر بكراهية بل بنظرة متساوية. ولا يهتم الولاء المستنير بالجيوش والأساطيل الكبرى، إلا إذا كانت تعزز مفهوم الولاء، وليس لإلحاق الأذى بالآخرين، فإن حدث ذلك فهذه قمة المصائب، فالولاء بنهاية المطاف هو لخدمة القضايا الإنسانية لا لتدميرها، هكذا يجب أن نتعلم مفهوم الولاء (الكلام للمؤلف).


(3)

إذا عزمتم على تعليم الولاء، طبقا لوجهة نظرنا، لمجموعة كبيرة من الناس، مثل أفراد المجتمع الأمريكي، وليس لفرد واحد أو لمجموعة ضيقة، فعليك القيام بثلاثة أمور (1) يجب أن تساعدهم على المحافظة على قدراتهم الجسدية والمادية والعقلية التي تُعد أشياء ضرورية لممارسة الولاء. (2) يجب توفير الفرص لولائهم، وذلك بالمشروعات الفكرية التي إذا ما تم الولاء لها، يستطيعون فيها تجنب الصراعات، وتربط ولائهم بالقيم الأخلاقية. (3) يجب أن تبين لهم بوضوح، أن الولاء للولاء أفضل الخيرات الإنسانية، وهو التاج الحقيقي لكل الولاءات.


نحن في أمريكا، وإن كنا نعتز بحضارتنا، علينا أن لا نتجاهل الحضارات الأخرى وولاء أبنائها لها.


(4)

يؤكد المؤلف هنا، أن الولاء للأسرة هو الأس الحقيقي لكل ولاء، ويأسف لما حل في المجتمع الأمريكي (هذا الكلام قبل الحرب العالمية الأولى) من تفكك للأسرة، وما تلاه من عدم القيام بواجب الأبناء تجاه والديهم، وإن ما أُطلق عليه تحرر الأسرة الحديثة، في ترك المجال للأبناء أن يختاروا زوجاتهم، جعل الزواج ليس بتلك الرابطة المقدسة التي تدوم، إن كل ذلك مهد لفقدان الأساس للولاء الحقيقي للمجتمع. وهو أصبح وكأنه الدافع القوي للانتحار الأخلاقي للفرد.


(5)

تحول السواد الأعظم من الشعب الأمريكي الى ولاء لمؤسسات اجتماعية وسياسية مختلفة، وأصبحت قوانين الولاء مختلفة عما كانت عليه في حال اعتبار الأسرة هي الوحدة الأساسية والطبيعية للولاء، فأصبحت تلك المؤسسات لا تعني بالجانب الأخلاقي بقدر ما تعني فيما تحقق من انتصارات مادية للمؤسسة وحتى لو كان على حساب المجتمع.


(6)

يعترف المؤلف في نهاية محاضرته، أنه من الصعوبة ترميم حالة الولاء في الولايات المتحدة، لأنها لم يحكمها ملك له رمزية وطنية، وإن الحروب التي خاضها الشعب الأمريكي، تختلف عن تلك الحروب التي خاضتها أممٌ مختلفة، فأمريكا ليس لها دين واحد أو مذهب ديني واحد تلتف حوله، وليس لها قضية واضحة تلتف حولها، وإن كل قضاياها قد تم اختراعها من قبل من يتحكمون بالرأي العام.


ومن هنا يعد الكاتب بتناول فكرة التدرب على الولاء بمحاضرة أخرى

فسحة أمل 17 - 8 - 2010 02:13 AM

المحاضرة السادسة

التدريب على الولاء


يتطرق الكاتب لاعتراضين كان قد تلقاهما بعد محاضرته السابقة، وهما يخصان إصرار الكاتب على استخدام مصطلح (الولاء)، بشكل ممل، في حين كان بالإمكان استخدام مصطلحات مثل: التفاني وتكريس الذات والوفاء والإخلاص الخ.


فيجيب: في حالة التفاني وتكريس الذات، فقد يكرس الفرد حياته لتحقيق السعادة لنفسه ويتفانى في ذلك، ولكن ذلك ليس ولاءً. والوفاء والإخلاص هو لمحة من لمحات الولاء ولكنه ليس هو، فقد يكون الصديق وفيا لصديقه ومخلصا له، كذلك يفعل الكلب مع صاحبه لكن ذلك لن يُعد ولاءً.


فالولاء بنظري (والحديث للمؤلف) هو التفاني الإرادي والعملي الكامل من ذات معينة لخدمة قضية ما. والقضية في حالة الولاء توحد حياة مجموعة من الأفراد المختلفين في حياة واحدة.


(1)


كيف يتم تدريب الأفراد على الولاء؟ قسم الحديث في هذا الأمر الى قسمين تدريب الصغار وتدريب الكبار على الولاء.


يقول المؤلف أن تدريب الصغار يُعد أصعب بكثير من تدريب الكبار، وأن إتقانه عند الصغار سيؤثر على قوة ولائهم عندما يكبرون. ويشترط أن تكون هناك صناعة تمهيدية لأسس الولاء، منها: القدرة على التصور والإدراك لأي قضية اجتماعية يُراد التفاف الجيل الجديد حولها، وأن يُدرب الفرد على الحسم واتخاذ القرار والالتزام والوفاء بالسير فيه، وهنا تُصنع الإرادة المتطورة للفرد، وأن تكون المناهج التربوية تتصف بالصبر لتنتقل بالفرد الى حالة التهيؤ للولاء في سن المراهقة.


لذا ينصح المؤلف التربويين بأن يبتعدوا عن العجلة في جعل التلاميذ الصغار يرددون عبارات لا يفهمونها بشكل جيد، فإن كان ذلك فقد ينقلب الى ردة بعد حدوث الوعي عند أولئك الأطفال. ويقرر هنا أنه لا يمكن خلق حالة الولاء إلا بعد سن المراهقة. وهنا يذكر أن تدريب الأطفال على تمثيل دور البطولة لأبطال تاريخيين، لا يجب أن يُنظر إليه نظرة نهائية، ولكنه يمهد نوعا ما في خلق الاستعداد للولاء، وذلك بأن يؤشر على شخوص قد يصلحوا أن يكونوا مثلا أعلى للأطفال بعد نضجهم.


وعلى المربين في المدارس، أن يحترموا وفاء الأطفال لبعضهم البعض، ولا يضغطوا عليهم ليصبحوا جواسيس على الآخرين، فهذا يدمر قاعدة تأسيس الولاء المستقبلي لدى الطفل.


(2)


في مرحلة المراهقة، تتسارع الخطى لتكوين الولاء الأولي، فتتكون الفرق الرياضية بالأحياء، وجماعات الأخوة (الشلل). وهنا يبرز دور الموجهين التربويين في تطوير تلك التمارين من الولاء نحو الولاء العام لأهداف فاضلة. فتعاون أولياء الأمور ومربي الصفوف، يحد من أن تتحول تلك الشلل لنشاط فاسد قد يضر بالمجتمع، فبدلا من أن يكتسب الفتى عادات تتعلق بتعاطي المخدرات والجنوح، فإنه بالإمكان جعل تلك الفرق تنخرط في أندية رياضية تجعل الفرد فيها يلتزم بقوانين اللعب وأخلاقياته، أو مراكز شباب تنمي المهارات الثقافية والكشفية وغيرها.


(3)


كيف يتم التدريب الفردي على الولاء؟

يُشترط أن يكون هناك ثلاثة عوامل لاكتمال موضوع الولاء في سن الرشد:

1ـ التأثير الشخصي لقادة المجموعات. فإن كان القائد يتمتع بمواصفات تعج بالفضيلة، فإنه سيصبح مثلا أعلى للأفراد الذين هم تحت قيادته. والعكس صحيح.


2ـ وجود قضية ذات قيمة عليا، وأطلق عليها المؤلف: (تعقيل القضية) أي جعل تلك القضايا التي يلتف حولها الأفراد مهضومة من عقولهم، وتتناسب مع القاعدة الخلقية المتبعة في المجتمع الأكبر. وقد تكون القضية التي تستدعي الولاء عادية في ظاهرها، كالاندفاع من أجل فوز فريق رياضي مثلا.


3ـ التدريب العملي الشاق والمتواصل، وعدم الاكتفاء بالرغبة في تحقيق مثل تلك الأهداف، فلذلك تكون الجيوش بتدريب جنودها المستمر في حالة أفضل من تلك الجيوش التي تكتفي بحب الوطن. وهذا ينسحب على فرق كرة القدم التي لا يتغيب لاعبوها عن التدريب. وهذا ينطبق على جمعيات الحفاظ على البيئة أو رعاية الأيتام الخ، حيث يتطلب الأمر منهم النشاط المستمر.


(4)


هناك قضايا يلتف حولها أناس، سماها المؤلف بالقضايا (الميئوس منها)، ورغم معرفة أصحابها أن تحقيقها شبه مستحيل، فإن تلك القضايا تبقى عائشة في نفوس المؤمنين بها مدى الحياة ويتم تناقلها من جيل لآخر، كقضايا استقلال قوميات أو طوائف تعيش في محيط أقوى وأوسع منها، (استقلال ايرلندا الشمالية عن المملكة المتحدة) (نمور التاميل في سيرلانكا) ( المسلمين في جنوب الفلبين) ( قضايا الأكراد في الدول التي يعيشون فيها) (استرجاع لواء الإسكندرونة السوري من تركيا) ( استقلال الأحواز ـ إيران) الخ.


لقد اختار المؤلف جزءا من قصيدة تمد أصحاب مثل تلك القضايا بالصمود:


إن كان الماضي قد رحل حزيناً

فهناك مستقبل لم يأتِ بعد

عليك أن تستعد له


(5)


يعود الكاتب للإشارة لبعض ما جاء في محاضرته، بالقول كيف نتعرف على القادة الذين يشدون غيرهم نحو الولاء. فيضع بعض صفاتهم، وكأنه يخاطب هنا من يريد أن يصبح قائداً لمجموعة موالية، أن يحترم ولاء خصومه لولائهم، ويدرب من يتبعونه على ذلك. أن لا يتعرض بسوء للموالين لقضايا إشاعة السلام والأمن بين الناس، بل يناصرهم ويمدهم بالعون، وأن لا يتعرض للغرباء الذين يعلنون ولائهم للمناطق التي أتوا منها، هكذا يكون القائد قائدا لمسألة الولاء الكلي المليء بالفضيلة.

فسحة أمل 17 - 8 - 2010 02:14 AM

المحاضرة السابعة

الولاء والحقيقة والواقع

ما يعطي تلك المحاضرات قيمتها التي هي عليها، هو ما كان يتبعه المؤلف من أسلوب يجعل من محاضراته وكأنها محاضرة واحدة متماسكة، فقد كان يتفقد ما تتعرض له محاضرته السابقة من انتقادات وتساؤلات، تطرح في الصحافة أو يراجعه من يعترض عليها في مكتبه أو من خلال المراسلات، ليجيب عن تلك التساؤلات في المحاضرة التالية.


ومن بين التساؤلات والاستنكارات للمحاضرات السابقة والتي سيذكرها في محاضرته التي بين يدينا، هي أن التركيز على الأخلاقيات دون الانتباه للواقع الذي يعيشه الفرد والمجتمع، سيكون ضربا من ضروب التخريف.


(1)

كتب له أحد أصدقائه يقول: إن الولاء ليس الغاية النهائية. أليس الولاء لكل الموضوعات المستحقة للولاء هو الواجب الأعلى الذي نسعى إليه؟ أليس التفاني هو موضوع ولائنا النهائي؟ أليس الجهد المصاحب لهذا الهدف هو الذي يضفي قيمة على أي بحث مخلص؟ أليس لنا الحق أن نسأل أنفسنا أو غيرنا عن سبب ولائهم؟


لقد فهم المؤلف من اعتراض صديقه أو تساؤله في رسالته على أن يريده أن يوضح علاقة الولاء بالواقع.


(2)

يتساءل المؤلف: ما هي حقيقة العالم، إذا كان الولاء نفسه خيرا حقيقيا، وليس مجرد وهم من الأوهام الإنسانية؟


إذا كان الولاء حقا، عبارة عن خدمة للقضايا. والقضية، حسب تعريفنا تربط حياة مجموعة من الأفراد في وحدة حياة واحدة. فإن الولاء إذا كان حقيقيا بالفعل، لا بد أن يربط النفوس الإنسانية في نوع من الوحدة الروحية الحقيقية. فهل تلك الوحدة موجودة بالفعل؟ وهل الإنسان إن اقتنع أنها غير موجودة، هل يبقى على ولاءه أم ستفتر همته؟


وهل يحقق الإنسان سعادته لأنه ملتزم بالولاء، من خلال اعتراف الآخرين بما هو عليه؟ أم أنه يحقق السعادة لأنه كان على ولاء بما يتوافق مع ذاته، وخدمة لكائن فردي أو جماعي لا يشترط أن يعلن إعجابه بولائه؟


يحسم المؤلف الإجابة عن تلك التساؤلات المعقدة، بقوله: إذا تيقن الفرد أن الروابط التي تجمعه بمن يعلن الولاء من أجلهم هي روابط روحية، فإن عزيمته لا تفتر وهمته لا تتهاوى. أما إذا كانت فكرة الولاء أسطورية لا تحقق للفرد إشباع شعوره بالسعادة، فسيتسلل الوهم الى نفس الفرد، ويصبح ولاءه وهما.


(3)

يقين، إيمان حقيقي، ولاء حقيقي، أي حقيقة؟ سواء كانت تلك الحقيقة علمية أم أخلاقية أم فلسفية أم روحية، فوقعها على الأفراد لا يكون بنفس الدرجة، ولا يكون تعريفها متفق عليه في كثير من التفاصيل.


فالمؤمن بالولاء الحقيقي، يحيا الحياة بواقعيتها ويؤمن بالخير الذي يتحقق من ولاءه، لكنه لا يستطيع جعل الآخرين أن يؤمنوا بنفس القدر الذي هو عليه من الإيمان.


لقد عرف الفيلسوف (وليام جيمس) الحقيقة في كتابه (البراجماتية) بأنها هي مطابقة الفكر مع الواقع. وعليه إذا كان لأحدنا فكرة مسبقة متكاملة عن شيء، وواجه ذلك الشيء فإن يحاكم ما يواجهه على ضوء تلك الفكرة أو المركب من الأفكار التي تجعله يقيم الشيء أنه حقيقي أم لا. وحتى تتطابق الصور التي يراها الناس مع أفكارهم، يفترض أن تكون أفكارهم متطابقة بكل تفاصيلها، حتى يستحق المجتمع أن يصنف أنه مجتمع (متوحد روحيا).


وهذا سيقودنا لمفهوم أو مصطلح (الصدق)، فالصدق يعامل كقيمة ينتفع بها الناس، فأي تبشير بفكرة لا تنفع الناس، لن يتبعها أحد، ولن يدفع بها ثمنا حتى لو كان ذلك الثمن منسوبا للولاء.


(4)

[ دعنا نحاول وضع مقاربة، لما يريد أن يقوله هذا الفيلسوف في محاضرته هذه، عن الصدق والحقيقة والولاء والواقع، حتى لا يبدو كأننا نقدم هذرا من كلام لا طائل منه. فلو آمن أحدنا بحزمة أفكار وطنية تخص الولاء للوطن والعمل وتقديم الخير للناس، وتلفت حوله ووجد الفساد مستشريا، ألا تساوره الشكوك بعبثية ولاءه؟] { هذه من عندنا لصناعة مقتربات الموضوع}


يقول المؤلف: إن أصحاب الولاء هم أقدر الناس جميعا، على التطلع الى أمل تحقيق نجاح حقيقي. فإن فشلوا كما يفشل الجميع. ولئن كانوا يعتمدون بصفة أساسية على خبرتهم الشخصية، إلا أنهم لا يهملون خبرات الآخرين، ويسعون الى تحقيق ما سماه الفيلسوف وليام جيمس ب (القيمة الفورية) أي تبجيل الناس لهم وتحقيقهم المنافع الشخصية، إنهم إن فعلوا ذلك ارتكس وتراجع مفهوم الولاء.


إن بقاء فكرة أن يموت البعض من أجل تحقيق هدفٍ سامٍ للآخرين، هي ما تبقي الآمال أمام الفضيلة لتنتصر على الرذيلة. هذا ما يحقق العدالة عندما يقسم الشهود على قول الحقيقة حتى لو كانت تلك الحقيقة تجلب لهم المتاعب.


إذن من العبث، أن يكتفي المرء بتعريف كل ما نقصده بالحقيقة، شعورنا ومشاعرنا الإنسانية بالمنفعة، أو بتحقيق مجموعة من الأهداف تفنى وينتهي تأثيرها بمجرد استخدامها. فأي هدف وأي موضوع منها، مجرد جزء، ونحن نريد بولائنا تحقيق الكل.


(5)

ماذا لو اكتشفنا في عينة من الوقت أن بحثنا عن الحقيقة كان مخلوطا بأفكارٍ خاطئة؟ وماذا لو كان ولائنا مستنداً على أفكارٍ مزيفة وغير حقيقية؟ هل يمكن أن نصل الى تلك الدرجة من محاسبة النفس؟


بالتأكيد، إن من يكون من أهل الولاء، لا بد وأن يكون منحازا لجانب من الحقيقة ولو كان جانبا واحدا، أي الانحياز للفضيلة التي تعم الجميع. لكن إذا كان الجميع يستنكرون عليه نمط ولاءه، فلا بد عندها أن يستمع ويتفكر بأهل الولاء من غير جماعته.


لقد شبه المؤلف (الفيلسوف) أهل الولاء (من البراغماتيين والذي يعتبر المؤلف أحدهم) لقضية ما، بالمؤسسة التجارية، التي يطالبها الدائنون بحقوقهم، وهي غير قادرة على تسديد تلك الديون، فعليها ـ بتلك الحالة ـ إعلان إفلاسها وتجيير موجوداتها للدائنين.


تعليق:

هذه أخلاقيات البراجماتيين (الذرائعيين) الذين يعتبرون النجاح هو المعيار الوحيد للحقيقة، لذلك يستند المؤلف الى ما قاله أستاذه (وليام جيمس 1842ـ 1910) والذي آمن بها بعد أن أوجدها زميله الفيلسوف (تشارلز بيرس 1839ـ 1914) وقد تسللت أفكارهم حتى أصبحت عماد الفلسفة الأمريكية المعاصرة. [اقتضى التنويه]

فسحة أمل 17 - 8 - 2010 02:15 AM

المحاضرة الثامنة (الأخيرة)

الولاء والدين

(1)

لقد سبق أن قلنا بصورة عامة بأن الولاء هو التفاني الإرادي والمستمر من فرد ما، تجاه قضية معينة. وعرفنا القضية بأنها شيء يوحد كثيراً من الحيوات الإنسانية في حياة واحدة. وكان مرادنا من وضع هذه التعريفات، هدفا عمليا أساساً. فلقد قََصَدَتْ فلسفتنا عن الولاء أن تكون فلسفة عملية، واستخدمنا تعريفاً، لمساعدتنا على كشف غاية الحياة، والخير الأعلى الذي تستطيع الكائنات الإنسانية تحقيقه لنفسها، ولقد وجدنا بالفعل أن هذا الخير يبدو متناقضاً. فلقد كان خيرا يتم من خلاله التضحية.


لا يتحقق الولاء بالتضحية فقط، إنما بالعمل الشاق المؤلم، ومن مرارة الهزيمة. فلقد أثبتت القضايا التي بدت خاسرة وميئوسا منها في التاريخ أنها أكثر القضايا خصوبة وحياة. وباختصار يتم التدريب على الولاء بوجود القادة الشخصيين وبتحويل قضايانا الى مثل عليا، هذه القضايا التي تتغذى على النكبة والبؤس، وتتوهج بالموت والتي تجعلها الهزائم أكثر وضوحا، والمثل الأعلى المرغوب.


إن خيرك الحقيقي، لا يمكن أن تحصل عليه أو يتحقق، في ظل خبرتك الإنسانية الحاضرة تحققا كاملا. وأفضل ما يمكن أن تحصل عليه يكمن في الاستسلام الذاتي وفي يقينك الذاتي بأن القضية التي سلمت لها نفسك قضية خيرة بالفعل، وإذا كانت قضيتك بالفعل قضية موجودة وواقعية وخيرها لا يستطيع فردٌ أو حتى مجموعة أفراد تحقيقه. فإن هذا الخير الخاص بالقضية يعد أساسا خيرا روحانيا، حتى وإن كان إنساني التجسد.


(2)

إن الذين يؤمنون بارتباط (الروحي) بمسألة (الولاء)، دائما يسألون عن كيف يصبح إيمانهم، إيمانا واضحا ويكون أقرب للبصيرة الواضحة؟


يحاول الكاتب (جوزايا رويس) أن يحل إشكالية البراجماتية الحديثة بجدوى ربطها بالروحي. فالفرد يرتبط بحلقات مهنية واجتماعية ومكانية وقومية وسياسية ويمكن أن يكون محرك ولاءه في كل حلقة له معنى واقعي ملموس، أما ربطه بالروحي فيبدو عند البراجماتيين لا يتصل بخبراتهم مباشرةً.


يقول: لا يعتبر العالم الواقعي، شيئا مستقلا عنا، إنه عالم محتوياته جاءت من طبيعة الخبرة، وبنائه يناسب ويصحح الضمان لتحقق أفعالنا الإيجابية وتكون كل طبيعته يمكن التعبير عنها وتفسيرها بالأفكار والنشاط العقلي، لكن هذا النشاط يختص بكل جزء من مكونات العالم الطبيعي، في حين تكون الروح أو النشاط الروحي معنيا بالكل المحتوي لتلك الأجزاء.


إن ذاكرة الفرد معرضة للخطأ عندما يحاول تقييم مسألة سابقة، وإن أراد التحقق منها باختبارات معينة، فإن تلك الاختبارات تكون هي الأخرى معرضة للخطأ، والفرد وهو يحاول ذلك سيكون مثل من يتيه في أحراش وأدغال لا يوجد بها معالم واضحة للمخارج، فقد يعيد ويكرر المرور من نفس المسالك التي سلكها حتى يهتدي للمخرج، وإن أراد شرح ذلك للآخرين أو أراد أن يتذكر محاولاته فإنه سيجد نفسه أمام قدرة محدودة ناقصة، وهنا تبرز الركون للروح، أو الإيمان بالغيب والدين وإرجاع رعايته كفرد من مجموع لقوة خارقة ترعاه وترعى الآخرين.


(3)

كان الدين دائماً، وفي أي صورة له، عبارة عن محاولة لتفسير عالم يتجاوز عالمنا الإنساني، ومحاولة للاستفادة من ذلك العالم، ولا يهمنا هنا عرض تاريخ الصورة البدائية والبسيطة للدين، وعلاقة الأخلاق بالدين بصورتها البدائية.


أن تحاول البشرية التوفيق بين العلم والدين، فهذا ممكن جدا، أما أن تحاول التوفيق بين الدين والأخلاق فلا يمكن ذلك إلا بجذب الاثنين معا نحو شواطئ محيط الزمان الغامض واللانهائي، ثم إغراقهما في أعماقه (وهو ما عمله البوذيون والمسيحيون)


يشير الكاتب الى الموروث العالمي: بأن الأخلاق تجعل من الفرد في أفضل الأحوال كائناً أو مواطناً مقبولاً، بينما الدين هو وحده القادر على تحقيق التوافق بين الفرد والعالَم الإنساني.


(4)

يحاول الكاتب إيجاز الخلاصة النهائية لنظريته، بأن الولاء هو تجسيد (للأبدي) في أفعالهم، فمن يضحي بروحه من أجل قضية معينة أعلن ولاءه لها، وهو مؤمن يريد مرضاة الله، ولا يريد أن يكافئه المجتمع الذي يعيش بينه عليها.


لكن، هل يمكن أن يعلن أشخاص غير متدينين ولاءهم لشيء ويضحوا بأرواحهم من أجله دون أن يكونوا مؤمنين بالحياة الأخرى؟


نعم، هذا ممكن، فالأبدي والخلود والأخلاق عند غير المتدينين لها أبعاد إنسانية مختلفة عن المتدينين الذين يربطون ولائهم برضا الله. وهم يرون أن الدين يفسد الأخلاق ويضر في تعامل الناس فيما بينهم، فقد يتناحر أبناء الديانات المختلفة راغبين في اختفاء غيرهم من أبناء الديانات أو الطوائف الأخرى، في حين من يقدم الأخلاق على الدين ينظر بعين إنسانية لكل البشر.


(5)

يتميز الولاء الديني عن غيره، بأنه أكثر مدعاة للصبر والمثابرة والجلد وإن كان مصدرا للحزن والآلام، فإن تلك الأحزان والآلام هي ما تضفي عليه تميزه وقدسيته.


وإن من يعلن ولاءه للدين، يحس بعدم عبثية حياته، ويقول لمن يشاركونه بالولاء اطمأنوا (أنا معكم حتى نهاية حياتي) بعكس الذي يعيش بلا (أي ولاء) الذي يحس بعدميته وعزلته ونفور الآخرين من أنانيته.


انتهى


الساعة الآن 08:02 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى