منتديات المُنى والأرب

منتديات المُنى والأرب (http://www.arabna312.com//index.php)
-   القسم الإسلامي (http://www.arabna312.com//forumdisplay.php?f=21)
-   -   المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي (http://www.arabna312.com//showthread.php?t=9395)

ميارى 23 - 8 - 2010 04:45 AM

المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي
 
الدكتور عبد العظيم محمود الديب

ولد في إحدى قرى مصر بمحافظة الغربية سنة 1929م.
· حفظ القرآن الكريم بكتاب القرية، ثم أتم تعليمه
بالأزهر، وكلية دار العلوم - جامعة القاهرة.
· وجه جل اهتمامه لدراسة التراث الإسلامي، الذي يرى أنه
هو الأساس الذي لا أساس سواء لبناء ثقافتنا.
· له العديد من المؤلفات والبحوث في مختلف جوانب
الفكر الإسلامي.
· معني بمكتبة إمام الحرمين الجويني، وأخرج منها:
(البرهان) و (الغياثي) و (الدرة المضيئة).
· يرى أن الشرط الأهم من الشروط الغائبة لنهضتنا، هو
إعادة قراءة التاريخ الإسلامي، والدراسة العلمية الواعية
لدّوْرتنا الحضارية.
· أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة –
جامعة قطر، ومدير مركز بحوث السيرة والسنة بها
بالنيابة.

ميارى 23 - 8 - 2010 04:48 AM

تقديم بقلم : عمر عبيد حسنه

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأنزل القرآن مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، وبدأ الوحي بالكلمة: اقرأ، وجعل الجهاد الفكري، أو المجاهدة بالقرآن، وبناء الشوكة الفكرية هي أعلى أنواع الجهاد وأسماها، لأن الساحة الفكرية هي ميدان المعركة الحقيقي بين الإسلام وخصومه قال تعالى: ((فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً)) [الفرقان:52].
واعتبر الحوار والمناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن الطريق الأمثل لنشر الدعوة ونصرها، وتحقيق الاقتناع الذي يتشكل في الأعماق، فيولد الإيمان، الذي لا يمكن أن يفرض بالإكراه.
والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي كانت سيرته وقيادته أنموذجاً لدولة الفكرة دولة الشورى السياسية، والعدالة الاجتماعية، والحرية الإنسانية، وكان كل مطلبه إيصال الفكرة وكلمة الحق: "خلوا بيني وبين الناس"، وكان كل جهد الكفار الحيلولة دون وصول كلمة الحق إلى آذانهم والشغب عليها، لأنها ستهزمهم: "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون" [فصلت:16]. .
وبعد:
فهذا كتاب الأمة السابع والعشرون: "المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي" للدكتور عبد العظيم الديب، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والمعلومات، برئاسة المحاكم الشرعية، والشؤون الدينية، بدولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري، والتحصين الثقافي، وإعادة بناء الشخصية المسلمة، وترميم عالم الأفكار، وتنقية الموارد الثقافية، وامتلاك القدرة على الاجتهاد، وإيجاد الأوعية الفكرية لحركة الأمة، وتنزيل الإسلام على واقع الناس، وتقويم سلوكهم به، بعد أن افتقدت تلك الشخصية الكثير من فعاليتها، ومنهجيتها، وصوابها، وانحسر شهودها الحضاري، وعجزت عن التعامل مع قيم الكتاب والسنة، وانتهت إلى التقليد الجماعي، والتخاذل الفكري، سواءً أكان هذا التقليد في الهروب إلى ملاجئ التراث الذي لا يخرج في النهاية عن أن يكون اجتهادات بشرية قابلة للخطأ والصواب، على أحسن الأحوال، جاء ثمرة لمشكلات العصر الذي نشأت فيه – كنوع من التعويض عن مركب النقص، وحماية الذات، وأخذ جرعات من الاعتزاز والفخر بالتاريخ وإنجاز الأجداد، أم كان باللجوء إلى استيراد البديل الأسهل من الخارج الإسلامي، ومحاولة إيجاد الحلول في أوعية الآخرين الفكرية.
ولا شك أن الاستشراق كان ولا يزال يشكل الجذور الحقيقية، التي تقدم المدد للتنصير والاستعمار، والعمالة الثقافية، ويغذي عملية الصراع الفكري، ويشكل المناخ الملائم لفرض السيطرة الاستعمارية على الشرق الإسلامي، وإخضاع شعوبه، فالاستشراق هو المنجم، والمصنع الفكري، الذي يمد المنصرين والمستعمرين، وأدوات الغزو الفكري، بالمواد التي يسوقونها في العالم الإسلامي، لتحطيم عقيدته، وتخريب عالم أفكاره، والقضاء على شخصية الحضارة التاريخية.
لقد تطورت الوسائل، وتعددت طرق المواجهة الثقافية الحديثة، ويكفي أن نشير إلى أن مراكز البحوث والدراسات، سواءً أكانت مستقلة، أم أقساماً للدراسات الشرقية في الجامعات العلمية، وما يوضع تحت تصرفها من الإمكانات المادية، أو المبتكرات العلمية، والاختصاصات الدراسية، تمثل الصور الأحدث في تطور الاستشراق، حيث تمكّن أصحاب القرار من الاطلاع والرصد لما يجري في العالم يومياً.
ففي القارة الأمريكية وحدها حوالي عشرة آلاف مركز للبحوث والدراسات، القسم الكبير منها متخصص بشؤون العالم الإسلامي. . وظيفة هذه المراكز: تتبع ورصد كل ما يجري في العالم ومن ثم دراسته وتحليله، مقارناً مع أصوله التراثية التاريخية، ومنابعه العقائدية، ثم مناقشة ذلك مع صانعي القرار، لتبنى على أساسه الخطط وتوضع الاستراتيجيات الثقافية والسياسية، وتحدد وسائل التنفيذ.
لقد أصبح كل شيء خاضعاً للدراسة والتحليل، ولعل المختبرات التي تخضع لها القضايا الفكرية والثقافية، وجميع الدراسات الإنسانية اليوم، توازي المختبرات التي تخضع لها العلوم التجريبية، إن لم تكن أكثر دقة واهتماماً، حيث لم يعد مجال للكسالى والنيام، والمتخاذلين والأغبياء في عالم المجدين الأذكياء.
لقد اكتفينا نحن مسلمي اليوم بمواقف الرفض والإدانة، للاستشراق والتنصير، اكتفينا بالانتصار، والانحياز العاطفي للإسلام، وخطبنا كثيراً وانفعلنا أكثر، ولم تعْلُ إلا أصواتنا، ولا نزال نحذر من الغارة على العالم الإسلامي، القادمة من الشرق والغرب، ومن المخططات الصهيونية الماكرة والصليبية الحاقدة، لقد أصبح ذلك يشكل عندنا مناخاً ثقافياً، وإرثاً فكرياً، وطريقاً أمثل للوصول إلى المناصب والزعامات، دون أن تكون عندنا القدرة على إنضاج بحث ذي قيمة في الموضوع، أو إيجاد خطة أو وسيلة مدروسة في المواجهة، أو محاولة جادة لتقديم البديل الصحيح للسيل الفكري والثقافي، والإعلامي، والأكاديمي، القادم من هناك، إلا من رحم الله من جهود فردية تمثل إضاءات، كما أنها تمثل في الوقت نفسه إدانات لهذا الفراغ، والادعاء، والعجز، والتخاذل الفكري.
إننا لا نزال في مرحلة العجز عن تمثل تراثنا بشكل صحيح، ومن ثم القدرة على غربلته وفحصه، والإفادة من العقلية المنهجية، التي أنتجته، والقدرة على إنتاج فكري معاصر يوازيه، من خلال الاهتداء بالقيم المحفوظة في الكتاب والسنة، حيث لا يزال بعضنا يصر حتى اليوم على نقل القدسية من الكتاب والسنة المعصومين، إلى أقوال واجتهادات البشر الفقهية والفكرية، وفعلهم التاريخي، وبذلك يلغي عقله تماماً، ويسقط في فخاخ التقليد الجماعي، ويقف أمام هذا التراث للتبرك والمفاخرة، دون أن تكون لديه القدرة على العودة إلى الينابيع التي استمد منها، فينتج تراثاً معاصراً، قادراً على قراءة مشكلات العصر، وتقديم الحلول الشرعية لحركة الحياة، ويفكر بوسائل تنزيل الإسلام على الواقع وتقويم الواقع به.
والمظهر الآخر للعجز نفسه يتمثل في فريق آخر، يحاول القفز من فوق الفهوم السابقة، والتراث الفقهي والفكري، ضارباً عرض الحائط هكذا بحكم عام، وعامي في الوقت نفسه، بكل الإنتاج الفكري، والحضاري الإسلامي، بدعوى التناول المباشر من الكتاب والسنة، دون امتلاك القدرة على ذلك. فكيف يمكننا - وهذا موقعنا وواقعنا - أن نمتلك الشوكة الفكرية، التي تمكننا من النزول إلى معركة الصراع الحضاري الفكري، ونأمل أن نحقق فيها انتصارات للإسلام والمسلمين؟
وقد نلاحظ هنا أن الكثير منا لا يزال مولعاً بالمعارك القديمة، التي انتهت بأصحابها وأهدافها وأسلحتها وزمانها، ومع ذلك فهو يصر على دخول المعركة المنتهية، ويستنزف طاقاته، وطاقات من يستمعون إليه فيها، ويحاول أن يحقق انتصارات في الفراغ، بعد أن تطورت المعركة، وتطورت أسلحتها، وتغير أشخاصها، وتبدلت ساحاتها، وبلغت أبعاداً وأمداء تفعل فينا فعلها، لكننا سوف لا ننتبه إليها إلا بعد فوات الأوان، ولا ندخل ساحتها إلا بعد أن تكون قد أدت أغراضها، وحققت أهدافها.
لقد دخلنا المعارك القديمة، ولا نزال ندخلها، وننشغل بها، على حساب الحاضر وما يدور فيه، والمستقبل وما يخطط له، ويمكننا هنا أن نقول: بأننا سوّقنا لأفكار المستشرقين عن حسن نية، وعملقنا أشخاصهم، دون حسابات دقيقة للآثار السلبية على أكثر من صعيد، لما يترتب على ذلك، وكأننا لكثرة ما نبدي ونعيد في هذه الموضوعات، ونكتب ونخطب، نوحي أننا ما زلنا دون مرحلة النصر، أو على أحسن الأحوال، لانزال نعاني من آثار الهزيمة الفكرية التي تعيش في أعماقنا، إلى جانب ما يمكن أن تورثه تلك المعارك من قدرة الخصم على التحكم بمسار تفكيرنا، ونشاطنا العقلي، لأنه يكفي أن يلقي إلينا ببعض التشكيكات، ليستثيرنا ويحول جهودنا وطاقاتنا إلى تلك المواقع الدفاعية، فينفرد هو بالتخطيط لتحقيق أهدافه، وكلما حاولنا أن ننتبه، ينتقل بنا من مشكلة إلى أخرى. فنبقى دائماً في مجال رد الفعل، ونعجز دائماً عن الفعل، ذلك أن رد الفعل يملكنا، بينما نحن الذين نملك الفعل.. وسوف تبقى هذه المواقف الدفاعية، والأفكار الدفاعية، على حساب البناء الداخلي، والإنجاز الأهم. ونحن هنا لا نقول: بأن الدفاعات غير مطلوبة، والحراسات لا قيمة لها، وإنما الذي نريد أن نوضحه: أنها عند الأمم التي تبصر مهامها تماماً، وتدرك مشكلاتها حقيقة، تقدر بقدرها.
ولنا في منهج القرآن خير دليل. . فلو أن القرآن الكريم استجاب لكل تمحلات الكافرين وشكوكهم وشبههم، لكانت آياته جميعها تمثل رد الفعل، والاستجابة لطلبات الكافرين، ولما تفرغ لبناء أمة، وإنجاز حضارة. . والذي نلمحه من منهج القرآن في ذلك، أنه طرح من الحقائق والأدلة ما يكفي لمن يريد الاستدلال، والذي لا يستدل بما طرحه من آيات وأدلة، فلن يستدل، فالمشكلة لم تعد في الدليل، وإنما بعناد المستدل الذي لا بد من تجاوزه، إلى مرحلة البناء المرصوص، بحيث لا يوجد بعد ذلك مداخل وفراغات يملؤها الأعداء.
ومن جانب آخر، فلعل الأساليب الدفاعية، أو الأفكار الدفاعية تشكل نوعاً من الراحة النفسية، لأنها في النهاية تعني فيما تعني إعفاء النفس من المسؤولية وإيجاد الذريعة لها عن عملية البناء، والواجب الحضاري المطلوب والغائب.
فإذا كان الكثير منا، على مستوى الأفراد، والمعاهد، والمؤسسات الأكاديمية، لا يزال يعيش على مائدة المستشرقين، لفقر المكتبة الإسلامية للكثير من الموضوعات التي سبقنا إليها في مراحل السبات العميق، وإذا كان مناهج النقد والتحليل، وقواعد التحقيق، ووسائل قراءة المخطوطات، من ابتكارهم، ووضعهم، فلا بد أن يصدق فينا قوله تعالى: ((فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)) [إبراهيم:22] إلى حد بعيد.
وإذا تجاوزنا جهود علمائنا الأقدمين، في تدوين السنة من خلال وسائل عصرهم، وتأسيس ضوابط النقل الثقافي، وقواعد الجرح والتعديل، وتأصيل علم مصطلح الحديث، الذي حفظ لنا السنة، والذي كان من عطاء منهج القرآن في الحفظ والتدويل للوحي، فإننا لا نكاد نرى اليوم فيما وراء الشرح والاختصار، سوى النقل لجهود السابقين من الخطوط اليدوية إلى حروف الطباعة. فقد اقتصر عمل معظم المشتغلين بالحديث والسنة عندنا على تحقيق بعض الأحاديث تضعيفاً وتقوية، لإثبات حكم فقهي أو إبطاله، أو إثبات سنة، في مواجهة بدعة، وهذا العمل على أهميته وضرورته يبقى جهداً فكرياً فردياً دون سوية البعد المطلوب، الذي يمكّن من الانتفاع بكنوز الميراث الثقافي.
والذي ينظر اليوم إلى دوائر المعارف، والموسوعات التي شكلت لإنجاز الفقه الإسلامي بشكل عصري، يمكّن من الإفادة منه، أو إلى مراكز بحوث السيرة والسنة، في أكثر من بلد إسلامي، وما وضع تحت تصرفها من الإمكانات، ومضيّ السنين الطويلة وهي لا تزال دون إنجاز يذكر، في الوقت الذي نرى أنفسنا مضطرين إلى الرجوع والنظر في موسوعة المستشرقين "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث" للتعرف على ما نريده، على الرغم من رأينا فيهم؛ يدرك خطورة التخاذل الفكري، وخطورة الادعاء والتفاخر، والفراغ الرهيب، الذي مكن المستشرقين وغيرهم من احتلال عقولنا واستلابنا الحضاري.
وليست مجامع اللغة العربية، التي تحبس نفسها اليوم في مجادلات عقيمة على حساب الإنتاج المطلوب في معركة التعريب والمعاجم، بأحسن حالاً من موسوعات الفقه، ومراكز السيرة والسنة. وحسبنا أن نقول: بأننا إلى اليوم لم ننتج معجماً للغة، يناسب ابن العصر الحاضر من خلال تقدم وسائل الطباعة والفهرسة والألوان، ولا نزال إذا أردنا أن نفتش عن معنى لفظة نضطر لتجريدها إلى مادتها الأصلية، وتحديد الباب والفصل، ومن ثم الرجوع إلى المعجم، بعد هذه الرحلة المضنية، التي قد يعزف المثقف معها عن الرجوع إلى المعاجم، في الوقت الذي تطورت خدمة اللغات ووسائل تعليمها ومعاجمها، إلى درجة مذهلة، بل يمكن أن نقول: إننا كنا الأقدر على نقد المعاجم العربية التي وضعتها المؤسسات التبشيرية – مثل المنجد للأب لويس معلوف والأكثر عجزاً في وضع معجم مناسب، ولا يزال الكثير منا في المدرس والمعاهد يرجع إلى المنجد على كره منه حيث يفرض وجوده، لأنه الأيسر.
لقد نجحت العقلية الأوروبية الاستشراقية، في فرض شكليتها وآليتها على التحقيق، والتقويم، والنقد، والسيطرة على مصادر التراث العربي الإسلامي. . وعن طريق الاستشراق والمستشرقين، بادرت إلى التحقيق والطبع والنشر لمجموعة من أكبر وأهم المصادر التراثية. وعلى الرغم من أن بعض الدراسات كانت تقترب من صفة النزاهة والحياد، إلا أنها في النهاية، وبكل المقاييس تبقى مظهراً من مظاهر الاحتواء الثقافي.
لقد نجحت العقلية الأوروبية – كما أسلفنا – في فرض شكلية معينة من التحقيق والتقويم ومناهج النقد، ويمكن القول: بأن معظم الكتابات العربية المعالجة للتراث، قد سارت على هذا النهج في التاريخ والأدب وغيره، ولم تتجاوزه إلا في القليل النادر، وانتهت إلى إيجاد ركائز عربية معبرة عنها، ومتبنية لوجهة نظرها، ومدافعة عن المواقع الثقافية التي احتلتها. . حتى في الجامعات، والمؤسسات العلمية، لا يزال الخضوع والاحتكام للقوالب الفكرية، التي اكتسبها بعض المثقفين العرب من الجامعات الأوروبية. لقد ارتهنوا للمنهج والمصدر في آن واحد.
صحيح أن الاستشراق خرج من المناخ الثقافي للاهوت الغربي بكل مكوناته، وتأسس واستمر ضمن إطار المناخ الاستعماري، وبدأ خطواته الأولى باتجاه العقل الأوروبي، ليحول بينه وبين اعتناق الإسلام، لذلك جاءت معظم الدراسات والكتابات باللغات الأوروبية، ولمخاطبة أبنائها، وجاء جل هذه الدراسات، إن لم نقل كلها، محكومة بدوافعها وأهدافها بعيدة عن التزام الموضوعية والعلمية، لأن التزام الموضوعية سوف يفوت غرضها، ذلك أن التزام الموضوعية، سيكون بلا شك في صالح الإسلام، بوصفه دين الله الحق، البعيد عن مواضعات البشر وأخطائهم وتأثراتهم.
وهنا قضية لا بد أن نتنبه لها، لأنها قد تغيب عن أذهان كثير منا، ممن يعرضون لموضوع الاستشراق بشكل خاص، أو القضايا الفكرية والثقافية بشكل عام، وهي أن الإنتاج الفكري - والاستشراق بعض منه - هو في الحقيقة يمثل الوليد الطبيعي والشرعي للثقافة التي تنتجه ويربى في مناخها، فالمفكر هو إلى حد بعيد رهين الثقافة التي ينشأ فيها، وليس وليداً للموضوع المدروس، أو المطروح، باعتباره صاحب الحق الأول في الاهتمام والدراسة.
لذلك لا يستطيع أي مستشرق أن يتناول موضوعاته دون أن يخضع للقوالب والحدود الفكرية والعلمية، المفروضة عليه مسبقاً، بسبب من ثقافته التي يصعب عليه الانفلات منها.
لذلك قد يكون من الصعوبة بمكان وضع حدود فاصلة وواضحة بين الاستشراق، والتبشير، والاستعمار.
والذين يجهدون أنفسهم في التفريق، بين الاستشراق، والتبشير، والاستعمار، ليقيموا بذلك الجسور الثقافية الغربية إلى الداخل الإسلامي، كالذين حاولوا – ولا يزالون – إيجاد الفوارق، بين الصهيونية واليهودية، وكم تكون مأساتنا كبيرة إذا اكتشفنا أن هذا التفريق في النهاية ليس من اختراعنا واكتشافنا، وإنما هو من جملة الفخاخ الثقافية التي نقع فيها.
نعود إلى القول: بأن الاستشراق بدأ خطواته الأولى باتجاه العقل الأوروبي ليحول بينه وبين اعتناق الإسلام، فكانت الترجمات الأوروبية المبكرة للقرآن الكريم، والسيرة، ومن ثم بدأت الدراسات التاريخية والاجتماعية والتراثية بعامة، في المعاهد والجامعات والمراكز العلمية، التي أنشئت لتخريج القناصل والسفراء، والكتبة، والجواسيس ، لتأمين مصالح بلادهم، وتوفير المعلومات عن بلاد العالم الإسلامي، وإقامة مراكز لدراسة هذه المعلومات، وتحليلها، لتكون بمثابة دليل للاستعمار، في شعاب الشرق وأوديته، من أجل فرض السيطرة الاستعمارية عليه، وإخضاع شعوبه، وإذلالها، وارتهانها للثقافة الغربية، والوصول بها إلى مرحلة العمالة الثقافية.. لذلك، لم يقتصر الاستشراق على مخاطبة العقل الأوروبي، كما لم تقتصر كتابات المستشرقين ودراساتهم على حماية الأوروبي من اعتناق الدين الإسلامي، وإن كان ذلك هو الهدف الأول، وإنما تجاوزت إلى محاولة إلغاء النسق الفكري الإسلامي، ومحاولة تشكيل العقل المسلم، وفق النسق الغربي الأوروبي، وإنجاب تلامذة من أبناء العالم الإسلامي، لممارسة هذا الدور والتقدم باتجاه الجامعات والمعاهد ومراكز الدراسات، والإعلام، والتربية في العالم الإسلامي، لجعل الفكر الغربي والنسق الغربي هو المنهج، والمرجع، والمصدر، والكتاب، والمدرس في كثير من الأحيان.
لذلك نرى أن علماء الاجتماع، والنفس، والتربية، هم الذين يمثلون الصورة الأحدث للمستشرقين، في الوقت الذي يمارس فيه الخبراء الذين يُستوردون إلى عالمنا، التسويق الثقافي.. فالصورة التي ترسمها وسائل الإعلام اليوم، والقرارات التي يتخذها أصحاب السلطان، التي تخص العالم الإسلامي، هي من صناعة علماء الاجتماع وتسويق الخبراء.
لقد تطورت أهداف وأساليب الاستشراق تطوراً مذهلاً، وإن كان الكثير منا لا يزال مصراً على المرابطة في المواقع القديمة والمحاربة في المعارك المنتهية، التي مضى عليها أكثر من نصف قرن على أحسن الأحوال، والخروج من الزمان والمكان. كذلك، فالقول بأن المستشرقين يكتبون لأبناء جلدتهم، إن صدق هذا، فإنه يصدق على مرحلة البدايات الاستشراقية التي ما نزال نقف عندها، أما تعميمه على كل إنتاج المستشرقين ففيه الكثير من المجازفة.
لقد اهتم المستشرقون بالتشكيل الثقافي للأمة المسلمة في ضوء رؤية معينة، وخطة مدروسة، لذلك ولجوا جميع الميادين، وحاولوا الوصول والتحكم بالموارد الثقافية كلها، وبحثوا ونقبوا وأثبتوا وجهة نظرهم، وتفسيرهم، في الكثير من القضايا المعرفية، إلى درجة يمكن معها القول: بأن الاستشراق استطاع أن يملي على الكثير منا وجهة نظره، في مجالات متعددة، بشكل أو بآخر، وإن كان مدى التأثير يختلف من شخص إلى آخر.
لقد كتبوا في الأدب، واللغة، والتاريخ، والثقافة، في محاولة لبناء الذهنية الإسلامية وفق النمط الغربي، من خلال المناهج ومصادر الدراسة، ومراجع البحوث، في الجامعات والمدارس، ومن خلال عملية الابتعاث والتلمذة على أيدي أساتذة الأقسام العربية والدراسات الشرقية، في الجامعات الأوروبية والأمريكية، لذلك نرى الكثير من المثقفين، لا يدركون أنفسهم إلا من خلال رؤية الآخرين، فلم يعد في وسع الكثير منهم أن يكتب عن التراث، والتاريخ، والأدب، دون الرجوع إلى كتابات المستشرقين، وأصبحت الموارد الفكرية الخارجية هي التي تصنع الثقافة الداخلية، أو أصبح الخارج هو الذي يتحكم بالداخل الإسلامي، بسبب من مركب النقص، وعقدة تفوق الآخر، الأمر الذي يؤدي إلى الاستلاب الحضاري، وذلك بتسليط نمط الحياة والعلاقات الاجتماعية الغربية، وصولاً إلى السيطرة الفكرية الكاملة.
ولما كان هذا الاستلاب يمكن أن يكون من المنبهات والاستفزازات الحضارية، خاصة بالنسبة لأمة تمتلك شخصية حضارية تاريخية، ولا تزال تحتفظ بخميرة الإمكان الحضاري، عدل المستشرقون بأساليبهم المتطورة، عن الطرح المباشر، إلى محاولة تحييد الإسلام عن واقع الحياة، والدعوة إلى العلمانية.
ولما اكتشف مدلول مصطلح العلمانية، وأنه كلمة حق أريد بها باطل، وأنها تعني فيما تعني: اللادينية، وإسقاط الأديان من البناء الحضاري والثقافي للأمة، كان لا بد من التفتيش عن البديل، فطرح مصطلح العقلنة والعقلانية، إذ كيف لا يقبل المصطلح والإسلام دين العقل!؟ ولما سقط، طرح فصل الدين عن الدولة، في العالم الإسلامي. . كان البديل جاهزاً أيضاً: إن المطلوب اليوم هو فصل الدين عن السياسة أو عدم تسييس الدين.
وللوصول إلى إعادة التشكيل الثقافي، وفق النمط الغربي، كان لا بد أيضاً من إلغاء عملية التواصل الفكري والثقافي بين الأجيال، ومحاولة فصل الحاضر عن الميراث الثقافي، وذلك بالتقليل من قيمته، والقيام بعملية التقطيع والتجزيء، أو قراءته بأبجدية النسق الغربي، وتفسيره تفسيراً مذهبياً، لا تفسيراً منهجياً من خلال قيمه التي صدر عنها، أو القيام بعملية الانتقاء من التراث الفكري، والأدبي، للمواضع التي تهز ثقة المسلم بتراثه، والاقتصار على إبراز النقاط السود، والتضخيم لحركات الرفض والخروج، والعناية بفكرها وطروحاتها، أو بمحاولة محاصرة اللغة العربية، التي تعتبر من أهم أدوات التوصيل والنقل التراثي، وذلك بتسييد العامية، والتشجيع عليها، إلى درجة الكتابة بها، وإلغاء الحرف العربي من لغات شعوب العالم الإسلامي، الذي يشكل حلقة التواصل الأساسية مع الموروث الثقافي والحضاري، لقطع الجيل عن ماضيه، وعزل اللغة العربية عن المعاهد، والمدارس، والجامعات، وتدريس العلوم باللغات الأوروبية، في محاولة ماكرة للتفريق بين لغة العلم – وهي طبعاً الأوروبية لأنها لغة المنجزات العلمية الحديثة في الهندسة، والطب، والعلوم، والحاسبات الإلكترونية، فالكتب المدرسية والمصادر والمراجع لا تتحقق إلا بها! - وبين لغة الدين، وهي العربية التي يجب أن تحاصر في المساجد والمعابد وأداء المناسك والشعائر! وترسيب القناعة بأن العربية هي من أسباب التخلف العلمي في العالم الإسلامي، وحتى تتم التنمية ويحصل النهوض لا بد من لغة للمعهد، هي الأوروبية، وأخرى للمعبد، وهي العربية، وبذلك تكون الأوروبية لغة العلم، وتنتهي العربية إلى ألفاظ عبادية نفتقد معانيها شيئا فشيئاً، لقلة الاستعمال، وتنزوي في المعابد، شأنها شأن اللغات القديمة كالسريانية وغيرها، التي اقتصرت في نهاية المطاف على رجال الدين وبعض زوار المعابد الذين يرددونها بلا فهم ولا إدراك. والمشكلة أن هذه المحاولة الماكرة بدأت تتسرب إلى رأس كثير من الذين يشغلون مناصب مؤثرة في صنع القرار التربوي، والسياسي، في العالم الإسلامي. ولعلها في مغرب العالم الإسلامي أكثر وضوحاً وبروزاً منها في مشرقه.
وأكتفي في هذا المجال بالإشارة إلى أسبوع المحاضرات الذي نظمه المستشرقون المقيمون في تونس في معهد قرطاج التبشيري منذ سنة 1907م، وأصدروا فيه بيان موت اللغة العربية، والذي أعلن أن الشعوب المغربية لا يمكن لها أن تحقق التقدم، إلا من خلال تخليها عن اللغة العربية، واعتناق الفرنسية، كوسيلة للثقافة والحضارة والعلم. هذا من جانب ومن جانب آخر نرى المحاولات المستميتة لإحياء اللهجات واللغات القديمة، التي توشك على الانقراض، ومحاولة إحلالها محل العربية، وإقامة كراسي في الجامعات والمعاهد الأوروبية لإحيائها، وتقديم رسائل الماجستير والدكتوراه في دراساتها، ومحاولة وضع معاجم لها، ولعل قسم دراسات اللغة البربرية الذي أقامته فرنسا في السوربون مؤخراً خير شاهد لذلك، فالعربية لا تصلح لغة العلم، أما اللغات المنقرضة التي تم إحياؤها لمحاربة العربية وإثارة النعرات الإقليمية، التي تمزق عالم المسلمين، فتقام لها المراكز وتؤسس لها المعاهد، وتوضع لها المعاجم!
يضاف إلى ذلك تشجيع النماذج والأعمال الفكرية التي تسير وفق النمط الغربي، أو تحاكي مناهج الغرب، وتغادر أصولها المنهجية، ونسقها الثقافي، باسم الحداثة والتجديد، والتخلص من قواعد اللغة، التي تحبس انطلاق المعاني، وعمود الشعر التقليدي الذي يحول دون الدفقة الشعورية، والترويج لأصحاب هذا اللون من الإنتاج الفكري، واعتبارهم طلائع التحرر والتقدم والتنوير.
والحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها، أن إنتاج المستشرقين الذي يملأ الساحة الفكرية والأكاديمية اليوم، ويشكل المرجع والمصدر والمنهج، جاء ثمرة لغيابنا العلمي، وتخاذلنا الثقافي، ومواجهتنا العابثة التي لم تكلفنا شيئاً. . اكتفينا بالجلد، والإدانة، والتفاخر، والتعالي بالأصوات، والخطب الحماسية، بينما انصرف المستشرقون للإنجاز والإنتاج، والتصنيع الفكري، والتسويق في بلادنا الخالية من إنتاجنا. . فنحن نحاول أن نغطي عجزنا بإلقاء التبعة على الآخرين، وبقيت أنظارنا موجهة إلى الخارج، دون أن ننظر، ولو مرة واحدة، إلى الداخل الذي استدعى ذلك الخارج ومكن له.
لقد نشر المستشرقون، وحققوا عدداً ضخماً من المؤلفات العربية، لا تزال مرجعاً للباحثين والدارسين من الأوروبيين، والعرب أنفسهم.. ولم يكتفوا بالتحقيق والنشر لأمهات الكتب، في السيرة، والتاريخ، وعلوم القرآن، والتراجم، والملل والنحل، والنحو، والتفسير، بل تجاوزوا ذلك إلى التأليف في الدراسات العربية والإسلامية، حتى بلغ عدد ما ألفوه في قرن ونصف - منذ أوائل القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين – ستين ألف كتاب في التاريخ والشريعة، والفلسفة، والتصوف، وتاريخ الأدب، واللغة العربية.
ولا يزال تاريخ الأدب العربي "لكارل بروكلمان"، مرجعاً لا يستغني عنه أي باحث في الدراسات العربية والإسلامية!
ولا يقتصر هذا الكتاب على الأدب العربي، وفقه اللغة، بل يشمل كل ما كُتب باللغة العربية، من المدونات الإسلامية، فهو سجل للمصنفات العربية، المخطوط منها والمطبوع. وقد عمل به المؤلف نصف قرن تقريبا.
ولا بد أن نشير هنا أيضاً إلى الأطلس الجغرافي التاريخي، للشرقين الأدنى والأوسط، الذي هو قيد الإعداد الآن، ويتوفر على إنجازه مجموعة من المستشرقين في ألمانيا الاتحادية، ويشمل الأقطار الممتدة من السودان غرباً، إلى أفغانستان شرقاً، ومن جنوب بلاد العرب، إلى البحر الأسود في الشمال، وخرائطه لا تتناول المواضع الجغرافية والتاريخية بالمعنى التقليدي، بل تتجاوز إلى مواضع لم يسبق لأحد أن تناولها في الأطالس، مثل: المدارس الفقهية، والفتن السياسية، وبعض مظاهر الاتصال، وأماكن العبادة، وتوزيع السكان.. وسوف ينتهي في أواسط التسعينيات.
ولا يتسع المجال في هذه العجالة، للتفصيل، في مجال الدراسات المتعددة الأخرى، والمعاجم، والترجمات، من العربية إلى اللغات الأوروبية. . فماذا فعلنا نحن إذا ما قيس إنتاجنا لتراثنا بإنتاجهم لتراثنا!؟ إننا مازلنا نستغرق طاقاتنا كلها في التهجم على الآخرين دون إنتاج مقدور.
ويضاف إلى ذلك: إصدار أكثر من خمسمائة مجلة تتعلق بالاستشراق، وثلاثمائة أخرى متخصصة به، إلى جانب ذلك العدد الهائل من الكتب والأبحاث، والدراسات، والمقالات، التي تصب على رأس أبناء المسلمين، سواءً عن طريق الترجمة، أو التمدرس على اللغات الأصلية للمستشرقين، وفي مؤسساتهم، ومعاهدهم، أو ما يمكن أن يتم عن طريق الابتعاث العشوائي، غير المخطط، أو المبرمج، من عمليات التأثير والنقل الثقافي، وإيجاد المعابر والجسور للوصول إلى المعاهد، والجامعات، والمناصب المؤثرة في العالم الإسلامي، ووقوعه في دائرة التحكم والاحتواء الثقافي.
ونحن هنا في العالم الإسلامي لا نقتصر على الابتعاث العشوائي إلى جامعات ومعاهد الغرب، بدون أن نزود الطالب بدليل فكري، ومقياس ثقافي لكيفية التعامل مع ثقافة الغرب، وإنتاجه الفكري، بل نصر على تكريس حالة التخلف، والتخاذل الثقافي، أمام الآخرين. وبدل أن نقيم ندوات ومؤتمرات تُطرح من خلالها مشكلات المبتعثين العلمية، والفكرية، والثقافية، ونكون على إدراك مسبق بما تقدمه مراكز البحوث والدراسات والجامعات، ومراكز الإعلام هناك، ونفتش له على المتخصصين، القادرين على معالجته، ومناقشته مع الطلبة، والمبتعثين، وتبصيرهم بدوافعه، وأهدافه، ومنطلقاته، وأغواره، وكيفية التعامل معه، وكيفية الإفادة من إيجابياته؛ نقيم مؤتمرات لاتحادات الطلبة، ونحمل إليها مشكلاتنا، وقضايانا، وخلافاتنا في العالم الإسلامي، وإن لم توجد خلافات معاصرة، نستنجد بالتاريخ ليمدنا بمشكلات فكرية، وعقيدية، مضت بخيرها وشرها، وقد لا يكون الطلبة سمعوا بها من قبل، فنصبها فوق رؤوسهم، لنمزق وحدتهم ونكرس خصوماتهم، ونفرق جمعهم، ونحضّرهم، شئنا أم أبينا، ليكونوا ضحايا الاستشراق والغزو الثقافي.
والذي يراجع قوائم الخطباء، والمتحدثين، في تلك المؤتمرات من سنوات، يراهم هم أنفسهم، يصلحون لكل المناسبات، وكل الموضوعات، وكل المواسم، وقد لا يرى بجوار ذلك، ندوة متخصصة بحاجات المبتعثين الأصلية، ونوعية دراساتهم، واهتماماتهم، والمستقبل الذي نعدهم له، ونطلبه منهم، إلا ما رحم الله.
فمتى نرتقي بندواتنا ومؤتمراتنا، ونبصر الساحة الثقافية والفكرية، التي يخضع لها هؤلاء الطلبة، ونرسل لهم المتخصصين في العالم الإسلامي، يلتقون بهم ويعالجون قضاياهم العلمية والثقافية؟ فذلك أجدى من أن يبقى كياننا الفكري قائماً على مهاجمة الآخرين، دون أن نقدم البديل، وفي تلك الحال سوف ينتهي هجومنا إلى مصلحة الآخرين.
وهنا قضية قد يكون من المفيد أن نعرض لها، ونحن بسبيل الكلام عن بعض ملامح التحكم الفكري، والاحتواء الثقافي، الذي يمارسه الاستشراق، في المعاهد والجامعات، والأطر الأكاديمية، والغزو الفكري، في نطاق الإعلام والتشكيل الثقافي، وهي قضية اللغة بشكل عام.
فمما لا شك فيه أن اللغة أمر كسبي، بمقدور كل إنسان أن يتعلمها ويبدع فيها، والواقع يؤيد ذلك، ويؤكده، على مستوى اللغات جميعاً. ولو أخذنا ما يهمنا هنا، اللغة العربية، لأمكننا القول:
إن الكثر من أئمة، اللغة بصرفها، ونحوها، وفقهها، هم من الأعاجم، الذين أسلموا وتعلموا العربية، ولسنا بحاجة هنا، لذكر أولئك الأئمة، فالذي يمتلك حداً أدنى من الثقافة، أو يستخدم القدر الأقل من المراجع اللغوية، سيراهم موجودين أمامه باستمرار.. ولا أدري، إذا افترضنا أن اللغة لا يمكن معرفتها، وإدراك أسرارها إلا من أبنائها، ماذا سيكون موقفنا من الخطاب القرآني العالمي، الذي يتوقف فهمه على معرفة اللغة العربية، وإدراك معهود العرب بالخطاب؟ وكيف يمكن أن يتم التكليف، وتبنى أمة مسلمة - واللغة من أهم عوامل التفاهم والتواصل وبناء الثقافة، وصياغة الشعور، وترتيب التفكير - إذا قررنا أن اللغة وقف على أبنائها فقط؟ وما مصير المكتبة اللغوية، التي تعتبر مصدرنا، إذا أسقطناها بسبب أن مؤلفيها من غير العرب؟
لذلك نعتقد أن القول: بأن اللغة لا يدرك أسرارها إلا أبناؤها فيه الكثير من التجاوز، ومناقضة الحقائق الواقعة. . ولو أن إدراك اللغة على غير العرب مستحيل، لكان الخطاب القرآني تكليفاً بما لا يطاق، وهذا مستحيل شرعاً وعقلاً.
وقضية أخرى نرى من الضروري التنبه إليها أيضاً، وهي قضية الثقافة الذاتية للأمة.. فالأمر الذي لا بد من إيضاحه ابتداءً: أن الثقافة الإسلامية هي ثقافة عالمية، وأن الخطاب القرآني، أو الخطاب الإسلامي، الذي يشكلها خطاب عالمي، وأن الحضارة الإسلامية جاءت ثمرة لمساهمات عالمية لكثير من الشعوب والأمم، وكانت نتيجة للخطاب الإسلامي، يصعب تقطيعها، وفرز ألوانها القومية، فهي إنسانية في دعوتها، وهدفها، ومنطقها، وإنتاجها، وإن كانت قاعدتها البشرية الأولى من العرب. .
لذلك فالتجاوز أكثر من اللازم في التأكيد على الخصوصية الثقافية، يخشى أن يؤدي إلى نزع صفة العالمية ومحاصرتها، ويغلق الطرق أمام انسلاك، ومساهمة الشعوب البشرية الأخرى فيها، وتعطيل التبادل المعرفي، باسم التخوف من الغزو الفكري. وبذلك نعين الأعداء على الانتصار علينا.
أما النظر إلى موضوع التاريخ الإسلامي واعتباره هو الإسلام فأمر محل نظر.. فالمعروف أن مصدر التشريع في الإسلام هو القرآن الكريم، وبيانه السنة النبوية، وهو الحاكم على فعل البشر بالخطأ أو الصواب، وأن التاريخ الإسلامي لا يخرج عن اجتهادات بشرية في تنزيل القيم على الواقع، أو في تحويل القيم إلى فعل، قد تخطئ وقد تصيب، مثله مثل أي اجتهاد بشري فكري، أو فقهي آخر.. فاعتبار التاريخ الإسلامي هو الدين، وهو مصدر التشريع والأحكام، فيه الكثير من المجازفة.. فالتاريخ الذي هو وعاء الحياة الإسلامية العملية، في استجابتها للقيم الواردة في الكتاب والسنة، هو محل العبرة والعظة والدرس، وفيه من السلبيات والإصابات، التي كان فيها عدول عن القيم، ما يجب تجنبه، وفيه من الإنجازات العظيمة، المتسقة مع القيم، ما يجب الاهتداء والاعتزاز به.. وتبقى القيم هي الضابط، وهي الحاكم، على تصرفات البشر ومسالكهم.. وحبنا للتاريخ، وانتصارنا له، لا يجوز أن يجعلنا نتجاوز هذه الحقيقة. وكم ستكون الخطورة كبيرة إذا لم نضبط التاريخ، ونحكم عليه بالقيم، من التفسيرات والإسقاطات التاريخية، التي يحاول أعداء الإسلام توظيف التاريخ لها اليوم، وكم ستكون الخطورة أكبر، إذا أصبح التاريخ ديناً، وتفسيره ملزماً، واعتبر النص والفعل التاريخي، كالنص الإلهي.
وقد يكون الدافع لذلك كله، غياب روح النقد، والخوف من الاعتراف بالخطأ، الذي ما يزال يشكل المناخ العقلي المغشوش لكثير منا، ذلك أن هذا المناخ هو السبب وراء سقوطنا في الفخاخ المنصوبة لعقولنا، بأيد ماهرة من المستشرقين، الذين أدركوا ذلك فأتقنوا فن المديح، الإشادة بحضارتنا وتاريخنا، الأمر الذي حرك مكامن الفخر فينا، وساهم بحالة الاسترخاء، والسبات العام، والاكتفاء بإنجاز الآباء والأجداد، وأدى إلى شلل الأجهزة الفكرية، عن معالجة الحاضر، واستشراف المستقبل، فأصبح حالنا كما يقول الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله: شبيه بحال ذلك الفقير الذي لا يجد ما يسد به الرمق اليوم، عندما نتحدث له عن الثروة الطائلة التي كانت لآبائه وأجداده، إننا بذلك الحديث نأتيه بنصيب من التسلية عن متاعبه بوسيلة مخدر، يعزل فكره مؤقتاً، وضميره عن الشعور بها، إننا قطعاً لا نشفيها، فكذلك لا تشفى أمراض مجتمع بذكر أمجاد ماضيه.
كان هذا حال المستشرقين المداحين الذين قصوا علينا تلك النشوات التي تخامر عقولنا، حتى تتعلق عيوننا على صورة سامرة لماض مترف.
وكثيراً ما كان المديح أو حتى إعلان اعتناق الإسلام، مدخلاً، ووسيلة تعتبر الأخطر للدخول علينا، وتخريب ثقافتنا من الداخل، لأن المديح حال بيننا وبين البصارة الصحيحة للأمور، وعطل فينا أجهزة الاستقبال، والفحص، والاختبار تحت عنوان: الخير ما شهدت به الأعداء.
لقد عطل فينا هذا الشعار الاستجابة للمنبهات الحضارية إلى حد بعيد، وقبلنا من المداحين كل شيء تقريباً.. ولعل إصابات المداحين، كانت هي الأخطر في النهاية، خاصة عندما نكتشف أن دخولهم في الإسلام كان ممراً إلينا، وليس حقيقة.
ونستطيع القول: بأن الحملات الاستشراقية بعامة، لم تتمكن من القضاء على ثقافتنا، وإن ألحقت بها بعض الإصابات، التي يمكن اعتبارها من قبيل الأذى ((لن يضروكم إلا أذى)) [آل عمران:111]، وأن معظمها كان إلى حدٍ بعيد أشبه بالمنبهات الحضارية.. ورب ضارة نافعة.
إن عمليات الاستشراق والتغريب، لم تستسلم، ولم تلق السلاح.. لكن لما أعياها السعي، فبدل أن تقر بفساد نظرياتها، وطروحاتها، وعدم إمكانية القبول لها في العالم الإسلامي، تحاول اليوم أن تعتبر، أن المشكلة والعلة في بنية العقل المسلم أصلاً، لتأتي على البنيان الإسلامي من القواعد، وترسب في النفوس، أن السبب في التخلف، والعجز، والتخاذل الثقافي، وعدم القدرة على الإبداع، وقبول الفكر الغربي، هو في بنية هذا العقل، وتكونه، وميراثه الثقافي.
فهو عقل مولع بالجزئية، وعاجز عن النظرة الكلية للأشياء، وهو عاطفي يحب الإثارة والانفعال، ويعجز عن الفعل، وهو محكوم أيضا بموروث ثقافي، لا يستطيع الفكاك منه، فهو لا يفكر بطلاقة، وحرية، لأنه محكوم بوحي مسبق، وهو يقوم على منهج التفكير الاستنتاجي، ويعجز عن التفكير الاستقرائي، وهو معجب بالمنهج البياني، وعاجز عن المنهج البرهاني، وهو يخلط بين الواقع المعاش، والمثال الخيالي، وصاحبه يحب الثأر، ويغرق في الملذات!
وأن الإسلام الذي يكوّن هذا العقل، هو دين أمر ونهي، وزجر وكبت للحرية، وإلغاء للاجتهاد، الأمر الذي أدى به إلى التقليد وفقدان الشخصية، والقدرة على الإبداع، وأن العنصر العربي مادة الإسلام الأولى، عنصر متخلف بفطرته، وطبيعته الجنسية، والمناخية، وأن دور العلماء المسلمين تاريخيا اقتصر على النقل لميراث الحضارات الأخرى، وأن علاج الأمة المسلمة، سوف لا يتحقق، إلا بإعادة بنية العقل العربي وفق الأنموذج الغربي.
لذلك رأينا الكثير من الدراسات اليوم لخريجي المدرسة الاستشراقية تتجه إلى طروحات، من مثل: بنية العقل العربي، ونقد العقل العربي، وخطاب إلى العقل العربي. . . . إلخ، وأن أول ما نلاحظ أن منهج النقد يتم طبقاً لآليات ومعايير وطروحات الفكر الغربي، وينطلق غالباً من الترسبات التي تركها الاستشراق في ضحاياه، لذلك نراها تتخبط كثيراً في الخلط بين العقل كآلة للتفكير، وبين الإنتاج الفكري لذلك العقل.
وقد يلفت انتباهنا أحياناً بعض القضايا التي يطرحونها، لكن لا نلبث أن نطلع عليها في مصادرها الاستشراقية، فنتأكد من جديد أن هؤلاء التلامذة لا تخرج مهمتهم عن الشحن من هناك، والتفريغ هنا. لذلك نراهم يخطئون في أبسط القضايا، إنهم يخطئون حتى في الأسماء العربية الواضحة، لأنهم يقرءونها قراءة أعجمية استشراقية، ولا نرى هنا أننا بحاجة إلى إيراد الأمثلة.
وخلاصة القول في هذا الأمر: إن مناهجنا في المعالجة لا يزال يعوزها الكثير من التأصيل، والتخطيط والتقويم، ودراسة الجدوى، وطبيعة التناول ومساحته، والتنبه إلى مخاطر المستشرقين الذين يمدحون الإسلام، ويحركون غرائز الزهو والافتخار عند المسلمين تجاه الماضي، ليتسللوا من خلالها، وهذا هو الأخطر لأنهم يساهمون بحالة الخدر العام، من أولئك المستنفرين، الذين يستثيرون فينا غرائز الدفاع عن النفس، وحماية الذات، ذلك أن المديح إنما يكون في كثير من الأحيان تحويلاً إلى الماضي، والاستغراق فيه على حساب مشكلات الحاضر، واستشراف آفاق المستقبل.
صحيح أن الماضي هو الذي يدعم التماسك الثقافي، ويشكل الجذور التي تحول دون الاقتلاع، إلا أن هذا الماضي بالرغم مما قدم في إطار تحقيق الذات، وضمان تماسكها، كاد ينقلب الاقتصار عليه إلى ظاهرة مرضية، تحبس الإنسان في ملاجئها، وتحول بينه وبين النهوض، وذلك عندما يصبح الاستغراق في التشبث بالماضي صارفاً للإنسان عن صناعة حاضره ومعالجة مشكلاته، والتفكير في مستقبله.
وحتى نكون في مستوى الحوار الفكري، والتبادل المعرفي، ونوقف فعلاً الغزو الفكري، والإغراق الاستشراقي، لا بد لنا بدل البكاء على الأطلال، والاكتفاء بجرعات الفخر والاعتزاز بالماضي، أن نكون أيضاً قادرين على امتلاك الشوكة الفكرية، أن نكون قادرين على الإنتاج الفعلي، لمواد ثقافية تمثل ثقافتنا، وتأتي استجابة لها، وتغري الناس بها، وبذلك وحده نكون في مستوى الحوار، والتبادل المعرفي.. فالمواجهة لا تكون بإدانة الآخرين، والنظر إلى الخارج دائماً، وإنما تبدأ حقيقة من النظر إلى الداخل.. أولاً لملء الفراغ، بعمل بنائي مستمر، وتحصين الذات، وتسليحها بالمقاييس الثقافية السليمة، وإنتاج مناهج، وآليات للفهم، تأتي وليداً شرعيًّا لثقافتنا.



ذلك أن المناهج وآليات الفهم، التي تحكم الكثير من جامعاتنا، ومعاهدنا، لا تزال من صناعة الفكر الغربي، انتهت إلينا بسبب التخاذل الفكري الذي نعيشه. . وتلك المناهج هي ثمرة لتشكيل ثقافي معين، تصنعه وتُصْنع به، غير منفكة عنه. . لذلك فمن الصعب نقلها واستخدامها في إنتاج ثقافي آخر، والاطمئنان عندها إلى نتائج الفكر.
وبعد:
فإن الكتاب الذي نقدمه اليوم في السلسلة للأخ الدكتور عبد العظيم الديب حول المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي، والذي تعقب فيه بعض المستشرقين في واحد من أهم مجالات التراث الإسلامي، في التاريخ وهو المجال الأخطر، فقدم نماذج لفساد المنهج، وسوء المقصد، وهو أحد المهتمين بالتاريخ رغم اختصاصه في الفقه وأصوله، بل لعل اختصاصه بالأصول هو الذي منحه القدرة على الكلام في المنهج، ومكنه من هذا التتبع والتعقب الذي يحتاج إلى الكثير من الدأب والصبر والتدبر، ذلك أن التدليل على فساد المنهج، يغني عن متابعة النواتج الفكرية وينزع عنها صفة العلمية والحياد بشكل عام.
وإذا كان كتاب الأمة الخامس الذي بحث فيه الدكتور محمود حمدي زقزوق: "الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري" يمكن أن يصنف في إطار التنظير، فإن كتاب الدكتور عبد العظيم الذي يقدم النماذج العملية في إطار التاريخ، يعتبر ضميمة مكملة لا بد منها، نسأل الله أن ينفع بها، ويجزي مؤلفه خير الجزاء هو حسبنا ونعم الوكيل.



ميارى 23 - 8 - 2010 04:50 AM

المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، ((يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تُقاته ولا تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون)) [آل عمران:102] ((يا أيُّها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم مِّن نفسٍ واحدة وخًلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتّقوا الله الذي تساءلون به، والأرحام، إنَّ الله كان عليكم رقيباً)) [النساء:1] ((يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يُطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)) [الأحزاب:70].
اللهم إنا نبرأ إليك من حولنا وقوتنا، ونلوذ بحولك وقوتك، سبحانك، لا حول ولا قوة إلا بك. اللهم إنا نعوذ بك من الخطأ والخطل، والخلل والزلل، وسيء القول والعمل. ونسألك سبحانك أن تعيننا على إخلاص القلب وسلامة القصد، وأن تجعل عملنا وقولنا خالصا لوجهك، نقيا مقبولاً. آمين.
ونصلي ونسلم على صفوتك من خلقك، وخاتم رسلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه الأبرار الطاهرين.
وبعد. . . . .
لقد شغل أمر المستشرقين مساحة عريضة، من الخريطة الفكرية لأمتنا، وكثرت البحوث المتعلقة بالاستشراق والمستشرقين، وتنوعت ما بين تعريف بهم، وتأريخ لحركتهم ورجالهم، وما بين ترجمة لأعمالهم وبحوثهم، وتمجيد لها وإشادة بها، وما بين ردّ عليهم، وتصويب لأخطائهم..
ولكن البحث الذي نتقدم به اليوم يختلف عن كل ذلك، حيث جعلنا كل همنا وكدنا عرض أعمال المستشرقين على ميزان المنهج العلمي، وقياسها بقواعده وأصوله، لنرى مدى وفائهم والتزامهم بهذه القواعد والأصول، لم نلتفت إلى تصحيح أخطاء، أو الرد على تزييف، أو تصويب تحريف، إلا بمقدار ما يكون لازماً لبيان موضع الخلل في المنهج، وخيانته، وأن الصواب كان أمامه، ولكنه حاد عن المنهج، فبعد عنه، أو بالأحرى تعمد ترك المنهج، لكيلا يصل إلى صواب لا يريده!!
ولقد التزمت في هذا البحث، أن يكون مؤيداً بالأدلة والبراهين الناطقة بما نقول، فلا نذكر أي لون من الخلل في المنهج، إلا ونضرب له مثالاً من كتاباتهم، وأبحاثهم، واعتمدنا في ذلك على أعمال مستشرقين كبار، ممن عرف بالقدرة العلمية، بل واشتهر بالنزاهة والتجرد.
فنحن إذا لا نناقش جزئيات، ولا نصوب أخطاء - وإن جاء ذلك عرضاً - فقد قام بذلك كثير من الكرام الكاتبين، والأساتذة الباحثين.
بل نحن نقول: كفى هذا. ونردد مع الإمام الجليل ابن العربي في العواصم من القواصم: "لا نُذهب الزمان في مماشاة الجهال، فإن ذلك أمرُ لا آخر له".
فإذا ثبت أن أعمال هؤلاء المستشرقين، لا يصح أن تسمى علماً، ولا يمكن أن تسمى بحثاً، ولا قيمة لها في ميزان المنهج العلمي، ولا ثقل لها في كفته إذا ثبت هذا فأي جدوى لمناقشتها، أو تصويبها؟ وكفى ما كان.
بل نحن نتطلع إلى إسقاط هذه الأعمال، من قوائم المصادر والمراجع، للأبحاث العلمية الجادة، والأطروحات بالدراسات العليا.
كما نرفض منهجيًّا أن يعتمد الباحث على المصادر الثانوية، ونطالبه بالرجوع إلى المصادر والمراجع الأصيلة، فكذلك ينبغي أن نرفض اعتماد هذه الأعمال الاستشراقية مصادر ومراجع، يتكئ الباحث على الحقائق التي يأخذها منها، ويبني عليها نتائجه.
وبدهي أننا لا نقول بعدم قراءة أعمال المستشرقين، فلم يدر هذا بخلدنا، فليقرأ من شاء، ولكن نضعها موضعها، فلا نتخذها مرجعاً ومصدراً، إذا ثبت ألا ثقة بما تنتهي إليه من نتائج، أو تصدره من أحكام.
وبذلك ننفض أيدينا من هذه القضية، ولا نقول مع الكرام القائلين بإنشاء الأقسام والمراكز بالجامعات لدراسة أعمال المستشرقين، "فنذهب الزمان في مماشاة الجهال".
وإذا بدا هذا لوناً من التشدد، فدعونا نتساءل: لمن نصوب أعمال المستشرقين ثم كم من الزمن يلزم لذلك؟ ثم كم مجلدا يمكن أن تكفى لذلك؟
إن المستشرقين لا يكتبون لنا، وإنما يكتبون للمثقف الغربي، فهل إذا قمنا بتصويب أعمالهم، ونشرناها في لغاتهم، سيقرأها المثقف الأوروبي، ويسمع لنا، ويأخذ عنا، ويترك بني قومه؟
أعتقد أن الأمر أوضح من أن يجاب عليه!!
ثم إذا كانت أعمال المستشرقين تقدر بنحو ستين ألف بحث، فكيف نحاصر كل هذا الطوفان؟
لقد غبرنا زمناً، وقضينا عمراً، وأعمال المستشرقين مثل جبل المغناطيس، تجذبنا إليها جذبا، وتأسرنا أسراً، وتجعلنا ندور في فلكها، وأعتقد أنه آن الأوان، وشب عمرو عن الطوق، فإذا أردنا أن نخاطب المثقف الغربي، فعلينا أن ندرس أقرب السبل، وأنجع الوسائل للوصول إليه، وتبلك هي الغاية التي تستحق أن نحتشد لها، ونحكم تدبيرها.
والله الكريم نسأل أن يجعل عملنا وقولنا خالصاً لوجهه الكريم، ودائماً وأبداً نبرأ من حولنا وقوتنا، ونلوذ بحوله سبحانه وقوته، فلا حول ولا قوة إلا به جل علاه. وهو نعم المولى ونعم النصير.

الدكتور عبد العظيم محمود الديب.

ميارى 23 - 8 - 2010 04:51 AM

إلى المستغربين:

من هنا من داخل الموقع الفكري، والحصن الثقافي الذي ما زال مهددا من داخله يجيء كلامنا موجها إلى (المستغربين) لا إلى المستشرقين، إلى جماعة من أبناء أمتنا، ينطقون لغتنا، ويتكلمون بلساننا، ولهم ملامحنا وسمتنا، ولكن قلوبهم غير قلوبنا، فقد استلبوا حضاريا وثقافيا، وسقطوا في أسر الحضارة الغازية)(2).
فإلى هؤلاء نتوجه بكلامنا.
نؤكد ذلك حتى لا يقول قائل: ألم تفرغوا من المستشرقين بعد؟ أما زلتم مشغولين ( بسبّ وشتم المستشرقين؟ إنكم ما زلتم تبددون الجهود، وتضيعون الأوقات، في الحديث عن ا لمستشرقين، والأولى أن تبذلوا جهودكم فيما ينفع من بحث مشكلات أمتكم وقضاياها. . . .. )
لا يقولن ذلك قائل، فنحن لا يعنينا أمر المستشرقين، وإنما مأساتنا في (المستغربين) الذين ما زالوا – رغم كل ما انكشف من خبأ المستشرقين ومستورهم – يحملون أفكارهم ويعيشون بمفاهيمهم، وهؤلاء (المستغربون) هم الذين ورّثهم الاستعمار – قبل أن يرحل عنا – قيادة الفكر، والتثقيف، والإعلام، جيلاً بعد جيل، ومكن لهم من وسائل القيادة وسلطانها.
هؤلاء (المستغربون) هم مأساتنا، هؤلاء الذين ديدنهم (الاستخفاف) بتراث أمتنا، بتراث كامل متكامل، بلا سبب، وبلا بحث وبلا نظر(3). . . وأبشع من ذلك هذا الإرهاب الثقافي الذي يمارسونه بلا هوادة ولا رحمة، هذا الإرهاب الذين جعل ألفاظ (القديم) و(الجديد)، و (التقليد)و(التجديد)، و(التخلف)و(التقدم)، و (الجمود) و (التحرر)، و (ثقافة الماضي) و (ثقافة العصر) – سياطا ملهبة: بعضها سياط حث وتخويف لمن أطاع وأتى، وبعضها سياط عذاب لمن خالف وأبى(4).
من أجل هذا نكتب عن المستشرقين، وفساد مناهج المستشرقين، لا أملاً في أن يثوب هؤلاء (المستغربون)، أو تنقشع عنهم الغشاوة، فهم (سادة) و (قادة) وأصحاب (جاه) و (سلطان) (وطيلسان) ألفوا أن يسمع لهم الناس، ويطيعوا، وأن يوجهوا الفكر والرأي، فكيف يسمعون أو يقرءون؟؟.
وإنما الأمل في ناشئة من أبناء أمتنا، مازالوا يتحسسون طريقهم، عسى ألا يفتنوا بما افتتن به بعض (الأساتذة الكبار) فمن حق هذا الجيل الناشئ ، وهذا النبت البازغ، أن نبصره بقضية أمتنا، حتى يعرف خبأها، ويدرك سرها، فلا تخدعه عن نفسه وحقيقته تلك (الصفوة) التي (انبهرت) بالغرب، (فاندحرت) وظنت هذا الاندحار هو الرقي بعينه، فراحت لأكثر من قرن ونصف تجذب أمتنا وراءها، ولولا أصالة راسخة، وقوة ذاتية في هذه الأمة، لمسخت كما مسخ هؤلاء (المستغربون) ولكن شاء الله أن تستعصي أمتنا على المسخ والتشويه فغداً – إن شاء الله – تعلو رايتها وتحمل رسالتها، رسالة السماء، إلى كل فجاج الأرض تحقيقا لوعد الله، ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم .

ميارى 23 - 8 - 2010 04:52 AM

أهداف المستشرقين :

تقدر الأبحاث والكتب التي كتبها (المستشرقون) عن الإسلام، في الفترة من مطلع القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، بنحو 60000 ستين ألف كتاب. فلم كل هذا الاهتمام؟؟ لم كل هذا العناء؟؟ ستون ألف بحث وكتاب، تاريخ الإسلام، وعقائده، ومذاهبه، وفقهه، وسيرة نبيه.. إلخ.. لم كل هذا؟!!.
إن الاستشراق يرمي من وراء ذلك إلى غايتين:
أولاهما - حماية الإنسان الغربي من أن يرى نور الإسلام، فيؤمن به، ويحمل رايته، ويجاهد في سبيله، كما كان من المسيحيين في الشام، ومصر، والشمال الإفريقي، وأسبانيا، من قبل، حين دخل الإسلام هذه الأصقاع، فدخل أهلها في دين الله أفواجا، وصاروا من دعاة هذا الدين الحنيف، وحماته والمنافحين عنه.
(بل أعجب من ذلك أيضاً أن دخلوا في العربية دخولا غريباً، وصار لسانهم لسانها، بل أعجب من ذلك أيضاً، أن خرج من أصلابهم كثرة كاثرة من العلماء الكبار، الذين يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم(5)).
كانت هذه غاية الاستشراق منذ نشأته، محاولة تبشيع صورة الإسلام وأهله، حتى لا يتتابع من بقي من رعايا الكنيسة على الدخول في الإسلام مثلما فعل أضرابهم من أهل الشام ومصر والشمال الإفريقي، والأندلس.
كان هذا الفزع يسوق حركة الاستشراق منذ نشأته، ويوجهه لتعبئة أتباع الكنيسة، ورعاياها، وتجييشهم، ووضعهم تحت السلاح دائماً.
وثانيتهما(6): (الغاية الثانية للاستشراق) هي معرفة الشرق، ودراسته، أرضه، ومياهه وطقسه، وجباله وأنهاره، وزروعه وثماره، وأهله، ورجاله، وعلمه وعلمائه ودينه، وعقائده، وعاداته، وتقاليده، ولغاته و. . . . و. . . . كل ذلك لكي يعرف كيف يصل إليه ، فقد ظلت دار الإسلام مرهوبة مخوفة، لم تستطع الصليبية المقهورة أن تحاول – مجرد محاولة – اختراقها لعدة قرون، وكانت المناوشات، والاحتكاكات على الثغور والأطراف تحسم دائماً لصالح الإسلام والمسلمين. . ولما حاولت الصليبية بجحافلها الغاشمة اختراق ديار الإسلام في مطلع القرن السادس الهجري، رجعت بعد نحو قرنين (489-690هـ) من الزمان مقهورة مدحورة.
ولكنها ما فتئت تدبر وتقدر، وتحاول الالتفاف حول ديار الإسلام، لما استعصى عليها اختراقها، وكان الاستشراق هو رائدها الذي يرتاد لها الطريق.
(كان المستشرقون جند المسيحية الشمالية، الذين وهبوا أنفسهم للجهاد الأكبر، ورضوا لأنفسهم أن يظلوا مغمورين، في حياة بدأت تموج بالحركة، والغني والصيت الذائع، وحبسوا أنفسهم بين الجدران المختبئة وراء أكداس من الكتب، مكتوبة بلسان غير لسان أممهم التي ينتمون إليها، وفي قلوبهم كل اللهيب الممضي، الذي في قلب أوربة والذي أحدثته فجيعة سقوط القسطنطينية في حوزة الإسلام)(7).
ومن هؤلاء كان جيش من أهل الخبرة بكل ما في دار ا لإسلام قديماً، وما هو كائن فيها حديثاً، من دقيق العلوم عند خاصة المسلمين، إلى خفي أحوال المسلمين، من عاداتهم، ومعايشهم، وطرائق أفكارهم، وخصائص حياتهم، إلى علم وثيق بشأن دولهم وأقاليمهم. وبلدانهم التي تغطي أكبر رقعة من الأرض.
وهم قد جمعوا كل ذلك، وعكفوا عليه، وتأملوه، ودرسوه، ونظموه ورتبوه بعناية فائقة، وبهمة وجلد وتنبه ونفاذ بصر.
فكل دارس منهم مأمون عند كل أوروبي، من أول طبقة الرهبان، والساسة إلى آخر رجل من جماهير الناس – مأمون على ما يقوله، مصدق فيما يقوله . . . . . متصف بصفتين لا بد منهما حتى يكون مأموناً مصدقاً: (الصفة الأولى: أن في قلبه كل الحمية التي أثارها الصراع بين المسيحية المحصورة في الشمال، وبين دار الإسلام الممتنعة على الاختراق. .
(الصفة الثانية): أن في صميم قلبه كل ما تحمله قلوب خاصة الأوروبيين وعامتهم وملوكهم، وسوقتهم، من الأحلام البهية والأشواق الملتهبة إلى حيازة كل ما في دار الإسلام، من كنوز العلم والثروة والرفاهية والحضارة(8). . . . .
هكذا كان من عمل المستشرقين، ارتياد ديار الإسلام و(معرفتها) و (التعريف بها) حتى يضمن للزحف الصليبي الجديد أن يسير على هدى وبصيرة.
وإذا كنا نقول هذا استنتاجاً صحيحاً، من قراءة الوقائع والأحداث ومما تنطق به جولات الصراع الذي دار ويدور – بين الصليبية، وديار الإسلام، إذا كنا نقول هذا استملاءًا من لسان الحال، حال التاريخ القريب والبعيد، فقد صدقه المستشرقون أنفسهم، وقالوه بلسان المقال، فهذا هو المستشرق الأمريكي (روبرت بين) يقول في مقدمة كتابه (السيف المقدس): إن لدينا أسبابا قوية لدراسة العرب، والتعرف على طريقتهم، فقد غزوا الدنيا كلها من قبل، وقد يفعلونها مرة ثانية، إن النار التي أشعلها محمد لا تزال تشتعل بقوة، وهناك ألف سبب للاعتقاد بأنها شعلة غير قابلة للانطفاء)(9).
وبهذه الصراحة أو أشد منها - إذا كان هناك أشد منها – يأتي قول الأمير (كايتاني) ذلك الأمير الإيطالي الذي (جهز على نفقته الخاصة ثلاث قوافل، لترتاد مناطق الفتح الإسلامي، وترسمها جغرافيا وطبوغرافيا، وجمع كل الدوريات والأخبار الواردة عن حركة الفتح في اللغات القديمة. . واستخلص تاريخ الفتح في تسعة مجلدات ضخمة بعنوان (حوليات الإسلام) بلغ بها سنة أربعين هجرية.. قال هذا الأمير الذي استهلك كل ثروته الطائلة في هذه الأبحاث، حتى أفلس تماما، قال في مقدمة كتابه (حوليات الإسلام) هذه : إنه إنما يريد بهذا العمل أن يفهم سرّ المصيبة الإسلامية التي انتزعت من الدين المسيحي ملايين من الأتباع في شتى أنحاء الأرض، ما يزالون حتى اليوم يؤمنون برسالة محمد، ويدينون به نبيًّا ورسولاً)(10).
فهو بهذا يعلن عن هدفه بغاية الصراحة والوضوح: (أن يفهم سر المصيبة الإسلامية) أي سر الإسلام،. ومصدر قوته.
ويكتب المستشرق الألماني (باول شمتز) كتاباً يتناول فيه عناصر القوة الكامنة في العالم الإسلامي، والإسلام، فيسمي هذا الكتاب (الإسلام قوة الغد العالمية) فلماذا كتب هذا الكتاب، وقام بهذه الدراسة؟، إنه لا يتورع أن يعلن صراحة وبدون مواربة عن هدفه،الذي هو تبصير أوروبا الغافلة عن هذه القوة التي هي (صوت نذير لأوروبا، وهتاف يجوب آفاقها، يدعو إلى التجمع التساند و الأوروبي لمواجهة هذا العملاق، الذي بدأ يصحو، وينفض النوم عن عينيه، فهل يسمع أحد؟.. هل من مجيب؟) بهذه العبارة التي ختمها بذلك النداء الصارخ، ينهي (شمتز) كتابه، والكتاب كله تحكمه هذه الروح.
ولذلك حق للناشر الألماني أن يقول عن هذا الكتاب (إنه يوضح الخطر المتوهج الذي يمر عليه الإنسان في أوروبا بكل بساطة، وفي غير اكتراث فأصحاب الإيمان بالإسلام يقفون اليوم "1936م قبيل الحرب العالمية الثانية" في جبهة موحدة معادية للغرب.. وهذا الكتاب، هو نداء وتحذير يجب أن يلقى الاحترام الجدي من أجل مصالح الغرب وحدها"(11).
ويكرر هذا المعنى نفسه (ألبير شاميدور) في كتابه (حمراء غرناطة) فيقول بعد أن تحدث عن عظمة الآثار الإسلامية في غرناطة: (.. إن هذا العربي الذكي الشجاع الذي استطاع أن يجمع علم العالم في مائة عام، كما استطاع أن يفتح نصف العالم أيضا في مائة عام، قد ترك لنا في (حمراء غرناطة) آثار علمه وفنه.
(إن هذا العربي الذي نام نوما عميقا مئات السنين، قد استيقظ وأخذ ينادي العالم: "ها أنذا أعود إلى الحياة".. فمن يدري قد يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الفرنج مهددة بالعرب، فيهبطون من السماء لغزو العالم مرة ثانية).
ثم يقول: (لست أدعي النبوة، لكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة، لا تقوى الذرة ولا الصواريخ على وقف تيارها).
ثم ينادي صارخا: (أبيدوا أشباح العرب في "الحمراء".. أبيدوها قبل أن تبعث)!!! ثم يبالغ في الإنذار والتخويف فيقول: (هيهات أن نستطيع إلى ذلك سبيلاً)(12)!!.
هكذا بكل وضوح يكشف القومُ عن أهدافهم، ولكن جماعة منا – عفا الله عنهم – ما زالوا حتى يومنا هذا، بل لحظتنا هذه، يصفون هذه الأعمال بأنها (علمية)، (أكاديمية)، (فكرية)… إلخ ويدبجون في الثناء عليها المقالات والكتب ويلقنون أجيالنا الناشئة ذلك.
ولعل ما يفصل بيننا وبين قومنا في هذه القضية هو قول (روجيه جارودي) ذلك الفيلسوف، الذي كان زعيم المذهب الوجودي ومفسر طلاسم سارتر ضمير العصر على حد قول (فلاسفتنا) (العظام) – والذي كان مرشحا لزعامة الحزب الشيوعي، قال: (لم يكن الاستشراق حركة نزيهة منذ البداية، إذ كان الهدف منه تنفيذ مشروع يرمي إلى إدخال المسلمين في النصرانية)(13).

ميارى 23 - 8 - 2010 04:53 AM

حول تطور الدراسات الاستشراقية :
بعض بني جلدتنا حينما نضع أمامهم هذه النصوص الناطقة بأهداف المستشرقين، الشاهدة على بعدهم عن العلم والبحث، ومجافاتهم روح (الأكاديمية) والمنهج، يقول: (ما لكم تتشبثون بهذه العبارات، وتقفون عند هذه الأخبار ولا تتجاوزونها؟؟ إن ذلك كان في القرن التاسع عشر، وقبل القرن التاسع عشر، كان في أيام الاستعمار، وطغيان الاستعمار، كان في أيام الصراع المحتدم، بين الشرق والغرب أما منذ مطلع القرن العشرين، فقد تطورت الدراسات الاستشراقية، وصارت (علمية) (منهجية) تبحث عن العلم المجرد، لذات العلم، والمعرفة، وانتهى عهد التهجم على الإسلام: نبيّه، وقرآنه، ورجاله، وعقائده، وحضارته، لقد صارت الدراسات الاستشراقية آية في النزاهة، وقدوة في الالتزام بالمنهج العلمي، والإخلاص للبحث والتجرد للحقيقة !!!……كذا يقولون!!!.
وقد يكون هذا الكلام صحيحا في بعضه، أعني أن أبحاث الاستشراق خلت من السب والشتم، والتقبيح، والتشنيع على الإسلام، وأهله، فذلك صحيح في جملته، ولكن ذلك لم يكن بسبب التزام الاستشراق بالمنهج العلمي، وقواعد البحث الأكاديمي، ولكن لسبب آخر، سنعرض له فيما بعد، أما المنهج العلمي الصحيح، والتجرد للبحث وخدمة الحقيقة فما زال – وسيظل - الاستشراق بعيداً عنها، لأسباب كثيرة بعضها راجع لطبيعة الاستشراق، وهدفه، ونشأته، وبعضها راجعٌ لعجز طبعي فطري، في هؤلاء الأعاجم يحول بينهم وبين امتلاك وسائل البحث في العلوم الإسلامية، وأدواته.
ونستطيع ببساطة ويسر، أن نُحيل هؤلاء، إلى ما عرضناه من شهادات المستشرقين وأقوالهم بألسنتهم، وهم من المعاصرين، في قرننا العشرين هذا، بل منهم من عاش إلى قريب من أيامنا هذه. وإن لم يكف ما تقدم، فنضع أمام أعينهم، ما كتبه الدكتور (جلوور) في كتابه: تقدم التبشير العالمي، الذي نشره سنة 1960م، قال: (إن سيف محمد و والقرآن أشد عدو، وأكبر معاند للحضارة والحرية والحق، ومن أخطر العوامل الهدامة التي اطلع عليها العالم إلى الآن)، وقال أيضاً: (القرآن خليط عجيب من الحقائق والخرافات، ومن الشرائع والأساطير، كما هو مزيج غريب للأغلاط التاريخية، والأوهام الفاسدة، وفوق ذلك هو غامض جدًا، لا يمكن أن يفهمه أحد إلا بتفسير خاص له).
ثم ينتقد شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: (كان محمد صلى الله عليه وسلم حاكماً مطلقاً، وكان يعتقد أن من حق الملك على الشعب، أن يتبع هواه ويعمل ما يشاء، وكان مجبولاً على هذه الفكرة، فقد كان عازماً، على أن يقطع عنق كل من لا يوافقه في هواه، أما جيشه العربي، فكان يتعطش للتهديد والتغلب، وقد أرشدهم رسولهم أن يقتلوا كل من يرفض اتباعهم، ويبعد عن طريقهم)(14).
ولعل تعبير المستشرق (ليوبولد فايس) الذي أسلم وتسمى باسم (محمد أسد) عن أزمة الأوروبي تجاه الإسلام، وأزمة المستشرق بصفة خاصة – هو أوضح تعبير، وأدقة حيث جاء من واقع الخبرة، والممارسة العريضة العميقة لكتابات المستشرقين، قال: (… لا تجد موقف الأوروبي تجاه الإسلام، موقف كره في غير مبالاة فحسب، كما هو الحال في موقفه من سائر الأديان والثقافات، بل هو كره عميق الجذور، يقوم في الأكثر على صدود من التعصب الشديد، وهذا الكره ليس عقليا فحسب، ولكنه يصطبغ أيضاً بصبغة عاطفية قوية…. إن الأوروبي لا يحتفظ تجاه الإسلام بموقف عقلي متزن، مبني على التفكير، بل حالما يتجه إلى الإسلام يختل التوازن، ويأخذ الميل العاطفي بالتسرب، حتى إن أبرز المستشرقين جعلوا من أنفسهم فريسة التحزب، غير العلمي في كتاباتهم عن الإسلام.
ويظهر في جميع بحوثهم على الأكثر كما لو أن الإسلام، لا يمكن أن يعالج على أنه موضوعُ بحت في البحث العلمي، بل على أنه متهم يقف أمام قضاته، إن بعض المستشرقين يمثلون دور المدعي العام، الذي يحاول إثبات الجريمة، وبعضهم يقوم مقام المحامي في الدفاع، فهو مع اقتناعه شخصيا بإجرام موكله، لا يستطيع أكثر من أن يطلب له مع شيء من الفتور، اعتبار الأسباب المخففة).
ثم يقول بعد ذلك مبيناً أن الإسلام وحده، دون الثقافات الأجنبية المختلفة، وقفت منه الدراسات الغربية هذا الموقف: (أمّا فيما يتعلق بالإسلام، فإن الاحتقار التقليدي أخذ يتسلل في شكل تحزب غير معقول إلى بحوثهم العلمية، وبقي هذا الخليج الذي حفره التاريخ بين أوروبا والعالم الإسلامي، غير معقود فوقه بجسر، ثم أصبح احتقار الإسلام جزءاً أساسيًّا من التفكير الأوروبي.
والواقع أن المستشرقين في الأعصر الحديثة كانوا مبشرين نصارى يعملون في البلاد الإسلامية، وكانت الصورة المشوهة التي اصطنعوها عن تعاليم الإسلام وتاريخه، مدبرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوروبيين من (الوثنيين) غير أن هذا الالتواء العقلي، قد استمر مع أن علوم الاستشراق قد تحررت من نفوذ التبشير، ولم يبق لعلوم الاستشراق هذا عذر من حمية دينية جاهلية تسيء توجيهها، أما تحامل المستشرقين على الإسلام، فغريزة موروثة وخاصة طبيعية، تقوم على المؤثرات التي خلفتها الحروب الصليبية، بكل ما لها من ذيول في عقول الأوروبيين الأولين)(15).
هكذا أصبح تحامل المستشرقين على الإسلام موروثة، وخاصة طبيعية، تزول المؤثرات، والدوافع، والأسباب، ولا تزول هذه الغريزة، فكيف يقال: إن الدراسات الاستشراقية قد تطورت؟؟.

ميارى 23 - 8 - 2010 04:54 AM

لمن يكتب المستشرقون ؟
لم نكن بحاجة إلى هذا العناء، وتناول هذا الموضوع – موضوع المستشرقين وأعمال المستشرقين – أصلاً، لو أن بني قومنا عرفوا لمن يكتب المستشرقون، لو أن المثقف المسلم، وصاحب القلم المسلم، ورجل الفكر المسلم، عرفوا لمن يكتب المستشرقون، لو وقفوا من هذه الأعمال الاستشراقية الموقف الصحيح، فتركوها لمن كتبت له.
لم يكن المستشرقون – في تقديري – يتوجهون بهذه الأعمال، وبهذه البحوث كلها إلا إلى المثقف الغربي، يخافون عليه، ويحصنونه، من أن يقع في إسار الإسلام، دينًا وفكراً وحضارة، كأنّ الاستشراق – بهذه الأعمال – يريد أن يضرب ستاراً كثيفاً، من التشويش، والتشويه، بين المثقف الأوروبي وبين الإسلام.
كانت الصليبية الأوروبية – والاستشراق لسانها – تخشى أن يملأ نور الإسلام، قلوب المسيحيين الأوروبيين، كما ملأ قلوب المسيحيين، في الشام، وفي مصر، وفي الشمال الإفريقي، وفي الأندلس، فدخل المسيحيون في كل هذه الأصقاع (طائعين مختارين) في نور الإسلام، وتكلموا لغة القرآن، وحملوا رايته، وجاهدوا في سبيله، وقاتلوا أعداءه.
كانت المسيحية الأوروبية في فزع فازع، وكان أحبار الكنيسة، ورهبانها يخشون أن يصل نور الإسلام إلى أوروبا، فيبدد ظلام الكنيسة، ويحطم سلطانها ويحرم رجالها غنائمهم، ومن هنا عمد المستشرقون – وهم لسان الكنيسة – إلى هاتيك الدراسات، ليجعلوها عصابة على عيون أبناء الكنيسة ورعاياها. كما أوضحنا ذلك في صفحات سابقة.
ومن هنا نجدهم في كتاباتهم الأولى، يكتفون بالسب والشتم، في الإسلام وفي رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم – وتنزه عما قالوا – واختلاق الأكاذيب عن المسلمين، ونظام حياتهم ومجتمعاتهم، ثم تطورت هذه الدراسات رويداً رويداً فبعد أن كانت في أول أمرها فجة ساذجة، صارت تتجه إلى الترتيب والتنسيق والاستدلال، وأخذت في التعميق، وارتداء ثوب البحث، وطيلسان الأكاديمية، ولكنها ظلت وفّيه لهدفها الأول، لم تنسه ولم تتخل عنه، وهو تحصين الإنسان الأوروبي، ضد الإسلام.
ويظن بعضٌ من أبناء أمتي حين يرون هذا التغيّر، أن هذا تطور في الدراسات الاستشراقية، وتغيير للأهداف، وتنازل عن الأحقاد، وأن القوم ثابوا إلى الإنصاف، فكفوا عن السب والشتم، والتقبيح، ومالوا إلى العلمية، والتزموا بالموضوعية.
ولكن الواقع أنه ليس في الأمر، موضوعية، ولا منهجية، ولا اعتدال، ولا استقامة وإنما كان هذا التغير، أو التطور في الأساليب فقط، وكان تغيير الأساليب ضرورة أملتها الظروف وواقع الحال، كان لا بد من تغيير الأساليب لتتلاءم وتتواءم مع المواطن الأوروبي المسيحي نفسه – المخاطب أصلاً بالدراسات الاستشراقية – فحيثما كان العصر عصر أمّية وجهالة، وهمجية، كان يكفيهم أن يكتبوا لهم سبا وشتمًا، في الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، وفي المسلمين، حتى يقبحوه ويشوهوه، في أعينهم، وينفروهم منه، أما مع التطور والاستنارة، ومعرفة هؤلاء الأوروبيين بالمسلمين والإسلام، نتيجة للاحتكاك في القتال، والتجارة والانتقال، فكان لا بد من أن يغير هؤلاء أساليبهم، حتى تنطلي على عقول الأجيال الجديدة، وكان تغيير الأساليب يتلاءم ويتواءم مع درجة معرفة هؤلاء عن الإسلام والمسلمين.
كان هذا هو تفسيرنا للتطور (المزعوم) للاستشراق، قلناه من واقع الاستقراء لأحداث التاريخ، ولأدوار الصراع المرير – الذي لم ينقطع بين الصليبية والإسلام، ومن واقع ما رأيناه، في أبحاثهم، من التواء بالمنهج، وطمس للحقائق.
ثم بعد ذلك قرأناه صريحا، مكشوفا في كلام المستشرق الإنجليزي المعاصر (مونتجومري وات) وهو يتحدث عن (مآخذ أخلاقية مزعومة ) ادعاها الغربيون في كتاباتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: (ليس بين كبار رجال العالم رجل كثر شانئوه كمحمد (صلى الله عليه وسلم ) ومن الصعب(16) فهم السبب الذي دعا إلى ذلك، فقد كان الإسلام خلال قرون عدة العدو الأكبر للمسيحية)(17)، ولم تكن المسيحية في الحقيقة على اتصال مباشر بأية دولة أخرى منظمة توازي الإسلام في القوة، فلقد هوجمت الإمبراطورية البيزنطية، بعد أن فقدت مقاطعاتها في سورية ومصر، وآسيا الصغرى، بينما كانت أوروبا الغربية مهددة في أسبانيا وصقلية.
وأخذت الدعاية الكبرى في العصور الوسطى – حتى قبل أن توحد الحرب الصليبية اهتمام المسيحيين حول طرد العرب من الأرض المقدسة – تعمل على إقرار فكرة (العدو الأكبر) في الأذهان، ولو كانت تلك الدعاية خالية من كل موضوعية.
وأصبح محمد (أمير الظلمات) حتى إذا ما حل القرن الحادي عشر، كان للأفكار الخرافية المتعلقة بالإسلام والمسلمين، والقائمة في أذهان الصليبيين، تأثير يؤسف له.
فلقد أُنذر الصليبيون بأن ينتظروا أسوأ الأمور من الأعداء.. ولما وجدوا بين هؤلاء الأعداء كثيرا من المحاربين الفرسان، شعروا بالريبة من السلطات الدينية المسيحية.
ولهذا حاول بطرس الراهب أن يعالج هذا الوضع بإذاعة معلومات أصدق عن محمد والديانة التي يدعو إليها.
وقد حدث تطور كبير في هذا السبيل، ولا سيما منذ قرنين من الزمن، وإن ظل كثير من الأوهام عالقاً في الأذهان(18).
فها هو يكشف عن سر هذا التطور: "وجدوا (أي الصليبيين) بين هؤلاء الأعداء (أي المسلمين) كثيراً من المحاربين الفرسان (أي النبلاء والأبطال) فشعروا بالريبة من السلطات الدينية المسيحية، (هكذا اطلع مسيحو أوروبا أثناء الحرب الصليبية، على صورة المسلمين ، غير الصورة التي صورها لهم رهبانهم (المستشرقون) فحاول بطرس الراهب (من قواد الحروب الصليبية ومشعلي أوارها) أن يعالج هذا الوضع، (الشعور بالريبة من السلطات الدينية المسيحية) بإذاعة معلومات أصدق عن محمد (صلى الله عليه وسلم ) والديانة التي يدعو إليها".
وبعد ذلك، ومع ذلك، نجد من (الأساتذة الكبار) من يبشر فينا بتطور الدراسات الاستشراقية، والتزامها بالمنهج، وأصول البحث، وتجردها ونزاهتها.

ميارى 23 - 8 - 2010 04:55 AM

المستشرقون لا يكتبون لنا :
قلنا: إن الاستشراق بأبحاثه وأعماله (كلها) موجه إلى المواطن الأوروبي نعم للمواطن الأوروبي ، فما كان المستشرقون يطمحون بل يحلمون أن تكون أعمالهم هذه توجهًا وتعليماً للمسلمين، بل مرجعًا يعتمدون عليه، وموئلا يلوذون به، ومصدراً يرتوون منه، ومنبعاً يعبون منه، في دراساتهم، وأبحاثهم وكتبهم، فتقوم صروح الفكر والثقافة على أعمال المستشرقين، فتكون على شفا جرف هار ينهار بنا في وهدة السقوط والضياع، والاستلاب الحضاري.
لم يكن يطمح ولا يحلم المستشرقون بشيء من هذا، ولا دون هذا، فلم تشهد الدنيا قط في تاريخها، رجلاً غريبًا عن الأمة – أية أمة – صار مسموع الكلمة في أدب هذه الأمة، وتاريخها وحياة مجتمعها، بل ودينها.
لم تشهد الدنيا في تاريخها ما شهدته أمتنا (أرأيتم قط رجلاً واحدا من غير الإنجليز أو الألمان مثلا، مهما بلغ من العلم والمعرفة، كان مسموع الكلمة في آداب اللغة الإنجليزية، وخصائص لغتها، وفي تاريخ الأمة الإنجليزية، وفي حياة المجتمع الإنجليزي، يدين له علماء الإنجليز بالطاعة والتسليم؟.
أليس غريباً أن يكون غير الممكن ممكنا، في ثقافتها نحن وحدها، دون سائر ثقافات البشر، قديمها وحديثها؟ غريب عجيب لا محالة)(19).
ولكنه للأسف كان وحدث في ثقافتنا وحدها، وجدنا عالماً جليلاً يقتعد مقعد الأستاذية، في حصن العربية والإسلام، الأزهر، في كلية الشريعة، يفتتح درسه الأول لطلاب قسم الدراسات العليا قائلاً: (إني سأدرس لكم تاريخ التشريع الإسلامي، ولكن على طريقة علمية، لا عهد للأزهر بها، وإني أعترف لكم بأني تعلمت في الأزهر قرابة أربعة عشر عاماً، فلم أفهم الإسلام ولكني فهمت الإسلام حين دراستي في ألمانيا)…(20) ثم ابتدأ درسه عن تاريخ السنة النبوية، ترجمة حرفية عن كتاب ضخم بين يديه، هو كتاب جولد تسيهر (دراسات إسلامية) وينقل عباراته، ويتبناها على أنها حقائق علمية)(21).
أرأيت؟ صار غير الممكن في أمم الأرض كلها، وفي ثقافات الدنيا كلها ممكنًا، واقعاً في أمتنا وحدها، وفي ثقافتنا وحدها!!.
لقد نبغ من أبناء أمتنا نابغون، في اليونانيات، واللاتينيات، والفرنسية والإنجليزية، أترى لو أن أحدهم كتب في آداب هذه اللغات، أو في شؤون مجتمعها أو في تاريخها، أو عقائدها، يصبح مرجعاً، ومصدراً لأهلها؟ أترى لو أن أستاذ الجيل، أو عميد الأدب العربي،(22) كتبا في تاريخ اليونان، وفي آداب فرنسا، يصبح لكتابتهما مكان بين المصادر، والمراجع، وتجد من يقول برأيهما، ويعتقده، ويتبناه؟؟.
(لكنها صروف الدهر، التي ترفع قوما، وتخفض آخرين، قد أنزلت بنا، وبلغتنا وبأدبنا، ما يبيح لمثل هؤلاء المستشرقين أن يتكلموا في شعرنا وأدبنا، وأن يجدوا فينا من يستمع إليهم، وأن يجدوا أيضاً من يختارهم أعضاء في بعض مجامع اللغة العربية)(23).
كان ذلك في صيف 1925م فقد أعطى تيمور باشا عدد يوليه سنة 1925م من مجلة (الجمعية الملكية الآسيوية) إلى الأستاذ محمود شاكر مشيراً إلى مقال (مرجليوث) قائلاً : (اقرأ هذا) فلما لقيه ثانية وسأله عن رأيه فيما قرأ قائلاً: (ماذا رأيت؟) قال شيخنا محمود شاكر، وكان بعد فتى ناشئا، على أبواب الجامعة، قال: (رأيت أعجمياً بارداً شديد البرودة، لا يستحي كعادته) (فابتسم تيمور باشا وتلألأت عيناه).
فقال الفتى: محمود شاكر: (أنا بلا شك أعرف من الإنجليزية فوق ما يعرفه هذا الأعجم من العربية أضعافاً مضاعفة، بل فوق ما يمكن أن يعرفه منها إلى أن يبلغ أرذل العمر، وأستطيع أن أتلعب بنشأة الشعر الإنجليزي، منذ (شوسر) إلى يومنا هذا تلعباً، هو أفضل في العقل، من كل ما يدخل في طاقته أن يكتبه عن الشعر العربي، ولكن ليس عندي من وقاحة التهجم وصفاقة الوجه، ما يسول لي أن أخطط حرفاً واحداً عن نشأة الشعر الإنجليزي، ولكنها صروف الدهر..)(24).
فأس البلاء في قضية الاستشراق والمستشرقين، هو ذلك الوضع المقلوب العجيب الغريب، أعني اعتماد بني جلدتنا على (أبحاثهم) و(علومهم)، التي كتبت في الأصل للمثقف الأوروبي، لا للعلماء العرب.
ولولا أن ذلك الوضع المقلوب كائن عندنا، لما كان للاستشراق قضية، ولما اشتغل بأمر المستشرقين صاحب قلم، والله المستعان على كل بلية.
وأعجب من كل ما تقدم وأغرب، أعني أعجب من اعتماد أبناء أمتنا على كتابات المستشرقين، في دراساتهم، وأبحاثهم، أعجب من هذا اتخاذهم أساتذة، نجلس منهم مجلس التلمذة، ونأخذ عنهم العلم، فيما يختص بتاريخنا، ومجتمعاتها، بل وديننا ولغتنا، ولقد عبر عن هذه المفارقة العجيبة الشاذة، العلامة أبو الأعلى المودودي بقوله: (من تقلبات الدهر وعجائب أمره، أنه قد مر على المسيحيين في أوروبا حين من الدهر كانوا يشدون فيه الرحال إلى الأندلس، ليتعلموا كتابهم المقدس – التوراة – من علماء المسلمين، أما الآن، فقد انقلب الأمر رأساً على عقب حيث أصبح المسلمون – وا أسفاه – يرجعون إلى أهل الغرب (أوروبا وأمريكا) يسألونهم: ما هو الإسلام، وما هو تاريخه، وما هي خصائصه؟ ليس هذا فقط، بل قد أصبحوا يتعلمون اللغة العربية منهم، ويستوردونهم لتدريس التاريخ الإسلامي.. وكل ما يكتبونه عن الإسلام والمسلمين لا يجعلونه مادة للدراسة في كلياتهم وجامعاتهم فقط، ولكن يؤمنون به إيماناً راسخاً مع أنهم – يعني الغرب – قوم لا يسمحون لأحد إذا لم يكن من أتباع دينهم بأن يتدخل فيما يتعلق بدينهم وتاريخهم ولا في أتفه الأمور)(25).

ميارى 23 - 8 - 2010 04:56 AM

المستشرقون والتاريخ :
للتاريخ أهمية عظمى في بناء الأمم، والمحافظة على هويتها وشخصيتها، بل على قوتها، وقدرتها على الشموخ، والاستطالة، والاستمرار، فهو جذور الأمة التي تضرب بها في الأعماق، فلا تعصف بها الأنواء، ولا تزلزلها الأعاصير، ولا يفتنها الأعداء.. وهو ذاكرة الأمة، والذاكرة للأمة كالذاكرة للفرد تماماً، بها تعي الأمة ماضيها، وتفسر حاضرها، وتستشرف مستقبلها.
فالإنسان الذي يفقد ذاكرته، يرتد – على ضخامة جسمه – طفلاً غرًّا لا يعي شيئاً مما حوله، عاجزاً عن أن يتبصر في أمسه، أو يشعر بيومه، أو يتطلع إلى غده، وكذلك الأمة حين يضيع منها تاريخها، ويشوش في عقول أبنائها، ويشوه في عيونهم، عندئذ يضيع منها الطريق، وتسلم مقودها لمن يوجهها، ويعود يملأ ذاكرتها بما يوجه خطواتها حيث يريد.
فالتاريخ ليس علم الماضي، بل هو علم الحاضر والمستقبل في واقع الأمر وحقيقته؛ فالأمة التي تستطيع البقاء، هي الأمة التي لها ضمير تاريخي، ومعرفة بالتاريخ، وعشق له والتاريخ أيضاً (عرض الأمة) كما سماه كاتب العربية الأكبر عباس محمود العقاد، ورحم الله أمير الشعراء حين قال:

مثل القوم أضاعوا تاريخهم كلقيطٍ عيَّ في الحي انتسابا

ولذا لم نعجب حين حدثت أزمة عالمية بين الصين واليابان، أدت إلى حشد الجيوش الصينية على الحدود وقطع العلاقات الدبلوماسية، والتهديد بقطع العلاقات الاقتصادية، وبشن الحرب، كل ذلك بسبب عدة أسطر في كتاب من كتب التاريخ المدرسية، أرادت اليابان أن تغيرها(26).
وأصل قضية تاريخ اليابان هذه، ترجع إلى عام 1945م، يوم انتهت الحرب العالمية الثانية، ودخل الجنرال الأمريكي (مكارثي) قائد القوات المنتصرة طوكيو المستسلمة، يومها لم يشغل (مكارثي) زهو الانتصار عن المستقبل، فأرسل يستدعي من أمريكا بعثة تربوية تضع مناهج تربية جديدة لمدارس اليابان، وكان مما غيرته مناهج التاريخ، لتضمن صياغة أجيال جديدة من اليابانيين غير قادرين على إشعال الحرب مرة ثانية. هذه المناهج المفروضة على اليابان، هي التي حاول اليابانيون تغييرها، فكانت الأزمة المشار إليها.
ونختم هذه اللمحة عن قيمة التاريخ بكلمة المفكر المسلم مالك بن نبي: (إن نظرتنا إلى التاريخ لا تؤدي إلى نتائج نظرية فحسب، بل إلى نتائج تطبيقية تتصل بسلوكنا في الحياة، فهي تحدد مواقفنا أمام الأحداث، وبالتالي أمام المشكلات التي تنجم عنها)(27).

ميارى 23 - 8 - 2010 04:57 AM

أهمية التاريخ الإسلامي :

وإذا كنا قد ألمحنا إلى أهمية التاريخ بصفة عامة، فأهمية التاريخ الإسلامي – لا شك – تفوق كل أهمية، ذلك أن التاريخ الإسلامي في واقع الأمر، هو الإسلام مطبقاً منفذًا، واقعاً، فتشويه التاريخ الإسلامي يؤدي بالضرورة إلى تشويه الإسلام، ودع عنك ما يقوله بعض الذين سقطوا أسرى تشويه التاريخ الإسلامي: (من أن هناك فرقاً بين الإسلام والمسلمين، وأن الإسلام يحكم على المسلمين، ولا يحكم المسلمون على الإسلام) فهذا القول – على وجاهته – غاية ما يصل إليه أصحابه، أن الإسلام منهاج رباني سماوي ولكنه (مثالي) ينوء البشر بتطبيقه، وتقعد بهم نوازعهم، وشهواتهم عن القيام به والسمو إلى ما يدعو له، ويرمي إليه.
هذا غاية ما يمكن أن يصلوا إليه، وهو كما ترى خطر ما حق، ولذلك رأينا فعلاً وواقعاً – من يحاج الدعاة إلى تطبيق الإسلام وتحكيمه بهذا التاريخ المشوه وهم في نفس الوقت يعظمون الإسلام، ويمجدونه، بل يعتقدون أنهم – بوقوفهم في وجه الدعاة، ومقاومتهم تحكيم الإسلام، وتطبيق شرائعه، يدفعون عن الإسلام، ويحمونه من التشويه والتضليل، كتب أحدهم – وهو ليس من أصحاب الأقلام المعروفة بمناوأتها للإسلام، بل معروف بعداوته للأقلام المنحلة، والمنحرفة، والملحدة، كتب مقالا طويلا جاء فيه: (على مدى ألف وأربعمائة عام، والملوك والخلفاء يدّعون أنهم يحكمون بالإسلام، فإذا هم يجعلون الشريعة وسيلتهم إلى كل ما تعرف أنهم صنعوه بعباد الله الأبرياء المسلمين، وغير المسلمين.
أذكر هارون الرشيد وسرفه، أذكر المأمون، وفقهاء الإسلام، وما صنع بهم من أجل قضية كلامية، أيّ إسلام تريدون؟ إسلام بني أمية الذين فعلوا. . . . . .. إسلام العباسيين الذين فعلوا. . . . .إسلام المماليك الذين فعلوا. . . . . إسلام العثمانيين الذين فعلوا. . . . إسلام. . . أم إسلام. . … إن عمر بن الخطاب كان فلتة.. ألا ترى أن دين الله الأقوم ينبغي أن يظل صلة بيننا وبين الله بغير قسر ولا إجبار وإذا كان الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم ، في آيات شريفة كثيرة، عليك البلاغ، وعلينا الحساب، فمن سمح لكم أن تبلغوا ، وما أنتم بمبلغين، أو أن تحاسبوا وما أنتم بآلهة)(28).
ولتتأكد أن تشويه التاريخ الإسلامي، هو تشويه للإسلام نفسه، نسوق لك ما قاله الكتاب المصري - سلامة موسى - الذي يجعلونه أحد (الشوامخ) وأبطال عصر التنوير، قال بعد أن تحدث عن الاستبداد، وطبيعة البداوة العربية، التي ترضاه وتقبله، وتعيش به، قال: (ومن جهة أخرى، نرى أممًا مسلمة كثيرة، بعدت عن الروح العربية، ولكن بقي لها استبداد الخلافة.
وقد يقال: إن القرآن لم ينص على الخلافة، وهذا صحيح، ولكن الإنجيل أيضا لم ينص على البابوية، فكما أنه لا يمكن تخلى المسيحية من تبعات البابوية، فكذلك لا يمكن أن يخلى الإسلام من تبعات الخلافة، والحقيقة أن البابوية والخلافة ترجعان إلى التقاليد المأثورة لا إلى الإنجيل ولا إلى القرآن.
وقد انتفع الإسلام من عدم وجود الكهنة في نظامه ولكن بقاء المسحة الدينية على الخلافة، كاديزيل هذه الميزة التي للإسلام على المسيحية(29)، هكذا تبعات الخلافة وفسادها سببه الإسلام، وهو المسؤول عنها، والخلافة هي البديل الإسلامي، للكهنوت والفساد البابوي) أرأيت؟؟!!.


الساعة الآن 01:22 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. منتديات المُنى والأرب

جميع المشاركات المكتوبة تعبّر عن وجهة نظر كاتبها ... ولا تعبّر عن وجهة نظر إدارة المنتدى